فصل: فَصْلٌ (فِيمَا إِذَا كَانَتِ الْمَفْسَدَةُ اللَّاحِقَةُ لَهُ دُنْيَوِيَّةً لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُومَ بِهَا غَيْرُهُ)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموافقات ***


فَصْلٌ ‏[‏فِيمَا إِذَا كَانَتِ الْمَفْسَدَةُ اللَّاحِقَةُ لَهُ دُنْيَوِيَّةً لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُومَ بِهَا غَيْرُهُ‏]‏

هَذَا كُلُّهُ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ إِذَا قَامَ بِهَا لَحِقَهُ ضَرَرٌ، وَمَفْسَدَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ يَصِحُّ أَنْ يَقُومَ بِهَا غَيْرُهُ‏.‏

فَإِنْ كَانَتْ الْمَفْسَدَةُ اللَّاحِقَةُ لَهُ دُنْيَوِيَّةً لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُومَ بِهَا غَيْرُهُ، لُحُوقُ مَفْسَدَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ بِالْمُكَلَّفِ عِنْدَ قِيَامِهِ بِالْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ فَهِيَ مَسْأَلَةُ التُّرْسِ، وَمَا أَشْبَهَهَا فَيَجْرِي فِيهَا خِلَافٌ كَمَا مَرَّ وَلَكِنَّ قَاعِدَةَ مَنْعِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ شَاهِدَةٌ بِأَنَّهُ لَا يُكَلَّفُ بِمِثْلِ هَذَا، وَقَاعِدَةَ تَقْدِيمِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ عَلَى الْخَاصَّةِ شَاهِدَةٌ بِالتَّكْلِيفِ بِهِ فَيَتَوَارَدَانِ عَلَى هَذَا الْمُكَلَّفِ مِنْ جِهَتَيْنِ وَلَا تَنَاقُضَ فِيهِ، فَلِأَجْلِ ذَلِكَ احْتَمَلَ الْمَوْضِعُ الْخِلَافَ‏.‏

وَإِنْ فُرِضَ فِي هَذَا النَّوْعِ إِسْقَاطُ الْحُظُوظِ، فَقَدْ يَتَرَجَّحُ جَانِبُ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَمْرَان‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ قَاعِدَةُ الْإِيثَارِ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهَا، فَمِثْلُ هَذَا دَاخِلٌ تَحْتَ حُكْمِهَا‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ مَا جَاءَ فِي خُصُوصِ الْإِيثَارِ فِي قِصَّةِ أَبِي طَلْحَةَ فِي تَتْرِيسِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَفْسِهِ، وَقَوْلِهِ نَحْرِي دُونَ نَحْرِكَ، وَوِقَايَتِهِ لَهُ حَتَّى شُلَّتْ يَدُهُ وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِيثَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَهُ عَلَى نَفْسِهِ فِي مُبَادَرَتِهِ لِلِقَاءِ الْعَدُوِّ دُونَ النَّاسِ حَتَّى يَكُونَ مُتَّقًى بِهِ، فَهُوَ إِيثَارٌ رَاجِعٌ إِلَى تَحَمُّلِ أَعْظَمِ الْمَشَقَّاتِ عَنِ الْغَيْرِ، وُوَجْهُ عُمُومِ الْمَصْلَحَةِ هُنَا فِي مُبَادَرَتِهِ بِنَفْسِهِ ظَاهِرٌ‏;‏ لِأَنَّهُ كَانَ كَالْجُنَّةِ لِلْمُسْلِمِينَ‏.‏

وَفِي قِصَّةِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ كَانَ وَقَى بِنَفْسِهِ مَنْ يَعُمَّ بَقَاؤُهُ مَصَالِحَ الدِّينِ، وَأَهْلِهِ، وَهُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا عَدَمُهُ فَتَعُمُّ مَفْسَدَتُهُ الدِّينَ، وَأَهْلَهُ، وَإِلَى هَذَا النَّحْوِ مَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ النُّورِيُّ حِينَ تَقَدَّمَ إِلَى السَّيَّافِ، وَقَالَ‏:‏ أُوثِرُ أَصْحَابِي بِحَيَاةِ سَاعَةٍ‏.‏ فِي الْقِصَّةِ الْمَشْهُورَةِ‏.‏

وَإِنْ كَانَتْ أُخْرَوِيَّةً كَالْعِبَادَاتِ اللَّازِمَةِ عَيْنًا وَالنَّوَاهِي اللَّازِمِ اجْتِنَابُهَا عَيْنًا، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ دُخُولُهُ فِي الْقِيَامِ بِهَذِهِ الْمَصْلَحَةِ مُخِلًّا بِهَذِهِ الْوَاجِبَاتِ الدِّينِيَّةِ وَالنَّوَاهِي الدِّينِيَّةِ قَطْعًا، أَوْ لَا‏.‏

فَإِنْ أَخَلَّ بِهَا لَمْ يَسَعِ الدُّخُولُ فِيهَا إِذَا كَانَ الْإِخْلَالُ بِهَا عَنْ غَيْرِ تَقْصِيرٍ‏;‏ لِأَنَّ الْمَصَالِحَ الدِّينِيَّةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْمَصَالِحِ الدُّنْيَوِيَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَلَا أَظُنُّ هَذَا الْقِسْمَ وَاقِعًا‏;‏ لِأَنَّ الْحَرَجَ، وَتَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ مَرْفُوعٌ، وَمِثْلُ هَذَا التَّزَاحُمِ فِي الْعَادَاتِ غَيْرُ وَاقِعٍ‏.‏

وَإِنْ لَمْ يُخِلَّ بِهَا لَكِنَّهُ أَوْرَثَهَا نَقْصًا مَا بِحَيْثُ يُعَدُّ خِلَافُهُ كَمَالًا فَهَذَا مِنْ جِهَةِ الْمَنْدُوبَاتِ وَلَا تُعَارِضُ الْمَنْدُوبَاتُ الْوَاجِبَاتِ، كَالْخَطِرَاتِ فِي ذَلِكَ الشُّغْلِ الْعَامِّ تَخْطُرُ عَلَى قَلْبِهِ، وَتُعَارِضُهُ حَتَّى يَحْكُمَ فِيهَا بِقَلْبِهِ، وَيَنْظُرَ فِيهَا بِحُكْمِ الْغَلَبَةِ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَحْوُ هَذَا مِنْ تَجْهِيزِ الْجَيْشِ، وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، وَمِنْ نَحْوِ هَذَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ‏:‏ «إِنِّي لَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ» الْحَدِيثَ، وَإِنْ لَمْ يُخِلَّ بِهَا وَلَا أَوْرَثَهَا نَقْصًا بَعْدُ وَلَكِنَّ ذَلِكَ مُتَوَقَّعٌ، فَإِنَّهُ يَحُلُّ مَحَلَّ مَفَاسِدَ تَدْخُلُ عَلَيْهِ، وَعَوَارِضَ تَطْرُقُهُ فَهَلْ يُعَدُّ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الْمَفْسَدَةِ الْوَاقِعَةِ فِي الدِّينِ أَمْ لَا، كَالْعَالِمِ يَعْتَزِلُ النَّاسَ خَوْفًا مِنَ الرِّيَاءِ وَالْعُجْبِ، وَحُبِّ الرِّيَاسَةِ، وَكَذَلِكَ السُّلْطَانُ، أَوِ الْوَالِي الْعَدْلُ الَّذِي يَصْلُحُ لِإِقَامَةِ تِلْكَ الْوَظَائِفِ وَالْمُجَاهِدُ إِذَا قَعَدَ عَنِ الْجِهَادِ خَوْفًا مِنْ قَصْدِهِ طَلَبَ الدُّنْيَا بِهِ، أَوِ الْمَحْمَدَةَ، وَكَانَ ذَلِكَ التَّرْكُ مُؤَدِّيًا إِلَى الْإِخْلَالِ بِهَذِهِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ‏؟‏ فَالْقَوْلُ هُنَا بِتَقْدِيمِ الْعُمُومِ أَوْلَى‏;‏ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ لِتَعْطِيلِ مَصَالِحِ الْخَلْقِ أَلْبَتَّةَ، فَإِنَّ إِقَامَةَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِذَلِكَ، وَقَدْ فَرَضْنَا هَذَا الْخَائِفَ مُطَالِبًا بِهَا، فَلَا يُمْكِنُ إِلَّا الْقِيَامُ بِهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يُدْخِلُهُ فِي تَكْلِيفِ مَا لَا يُطِيقُهُ، أَوْ مَا يَشُقُّ عَلَيْهِ، وَالتَّعَرُّضُ لِلْفِتَنِ وَالْمَعَاصِي رَاجِعٌ إِلَى اتِّبَاعِ هَوَى النَّفْسِ خَاصَّةً لَا سِيَّمَا فِي الْمَنْهِيَّاتِ‏;‏ لِأَنَّهَا مُجَرَّدُ تَرْكٍ، وَالتَّرْكُ لَا يُزَاحِمُ الْأَفْعَالَ فِي تَحْصِيلِهِ، وَالْأَفْعَالُ إِنَّمَا يَلْزَمُهُ مِنْهَا الْوَاجِبُ، وَهُوَ يَسِيرٌ، فَلَا يَنْحَلُّ عَنْ عُنُقِهِ رِبَاطُ الِاحْتِيَاطِ لِنَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ بِذَلِكَ إِلَّا مَعَ الْمَعْصِيَةِ فَلَيْسَ بِعُذْرٍ‏;‏ لِأَنَّهُ أَمْرٌ قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ، فَلَا يَرْفَعُهُ عَنْهُ مُجَرَّدُ مُتَابِعَةِ الْهَوَى‏;‏ إِذْ لَيْسَ مِنَ الْمَشَقَّاتِ كَمَا أَنَّهُ إِذَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ، أَوِ الْجِهَادُ عَيْنًا، أَوِ الزَّكَاةُ، فَلَا يَرْفَعُ وُجُوبَهَا عَلَيْهِ خَوْفُ الرِّيَاءِ وَالْعُجْبِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَإِنْ فُرِضَ أَنَّهُ يَقَعُ بِهِ، بَلْ يُؤْمَرُ بِجِهَادِ نَفْسِهِ فِي الْجَمِيعِ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ كَيْفَ هَذَا، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَسْلَمُ مِنْ ذَلِكَ، فَصَارَ كَالْمُتَسَبِّبِ لِنَفْسِهِ فِي الْهَلَكَةِ، فَالْوَجْهُ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى دُخُولِهِ فِيمَا فِيهِ هَلَاكُهُ‏؟‏

فَالْجَوَابُ‏:‏ أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ، وَقَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِذَلِكَ الْعَامِّ لَجَازَ فِي مِثْلِهِ مِمَّا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ مِنَ الْوَاجِبَاتِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقٍ‏.‏

نَعَمْ، قَدْ يُقَالُ‏:‏ إِذَا كَانَ فِي دُخُولِهِ فِيهِ مَعْصِيَةٌ أُخْرَى مِنْ ظُلْمٍ، أَوْ غَصْبٍ، أَوْ تَعَدٍّ فَهَذَا أَمْرٌ خَارِجٌ عَنِ الْمَسْأَلَةِ فَهُوَ سَبَبٌ لِعَزْلِهِ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ عَدَالَتِهِ الطَّارِئَةِ، لَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ قَدْ كَانَ سَاقِطًا عَنْهُ بِسَبَبِ الْخَوْفِ، وَإِنَّمَا حَاصِلُ هَذَا أَنَّهُ وَاقِعٌ فِي مُخَالَفَةٍ أَسْقَطَتْ عَدَالَتَهُ فَلَمْ تَصِحَّ إِقَامَتُهُ، وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ‏.‏

وَأَمَّا إِنْ فُرِضَ أَنَّ عَدَمَ إِقَامَتِهِ لَا يُخِلُّ بِالْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ لِوُجُودِ غَيْرِهِ مَثَلًا مِمَّنْ يَقُومُ بِهَا، فَهُوَ مَوْضِعُ نَظَرٍ قَدْ يُرَجَّحُ جَانِبُ السَّلَامَةِ مِنَ الْعَارِضِ، وَقَدْ يُرَجَّحُ جَانِبُ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، وَقَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَ مَنْ يَكُونُ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ سَوَاءً، فَلَا يَنْحَتِمُ عَلَيْهِ طَلَبٌ، وَبَيْنَ مَنْ لَهُ قُوَّةٌ فِي إِقَامَةِ الْمَصْلَحَةِ، وَغَنَاءٌ لَيْسَ لِغَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهِ غَنَاءٌ أَيْضًا فَيَنْحَتِمُ، أَوْ يَتَرَجَّحُ الطَّلَبُ وَالضَّابِطُ فِي ذَلِكَ التَّوَازُنُ بَيْنَ الْمَصْلَحَةِ وَالْمَفْسَدَةِ، فَمَا رَجَحَ مِنْهَا غَلَبَ، وَإِنِ اسْتَوَيَا كَانَ مَحَلَّ إِشْكَالٍ، وَخِلَافٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ قَائِمٍ مِنْ مَسْأَلَةِ انْخِرَامِ الْمُنَاسَبَةِ بِمَفْسَدَةٍ تَلْزَمُ رَاجِحَةً، أَوْ مُسَاوِيَةً‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏قَدْ تَكُونُ الْمَفْسَدَةُ مِمَّا يُلْغَى مِثْلُهَا فِي جَانِبِ عَظْمِ الْمَصْلَحَةِ‏]‏

وَقَدْ تَكُونُ الْمَفْسَدَةُ مِمَّا يُلْغَى مِثْلُهَا فِي جَانِبِ عِظَمِ الْمَصْلَحَةِ، صِغَرُ الْمَفْسَدَةِ بِجَانِبِ عِظَمِ الْمَصْلَحَةِ وَهُوَ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُتَّفَقَ عَلَى تَرْجِيحِ الْمَصْلَحَةِ عَلَيْهَا وَلِذَلِكَ مِثَالٌ وَاقِعٌ‏.‏

حَكَى عِيَاضٌ فِي الْمَدَارِكِ أَنَّ عَضُدَ الدَّوْلَةِ فَنَاخُسْرُو الدَّيْلَمِيَّ بَعَثَ إِلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ مُجَاهِدٍ وَالْقَاضِي ابْنِ الطَّيِّبِ لِيَحْضُرَا مَجْلِسَهُ لِمُنَاظَرَةِ الْمُعْتَزِلَةِ فَلَمَّا وَصَلَ كِتَابُهُ إِلَيْهِمَا قَالَ‏:‏ الشَّيْخُ ابْنُ مُجَاهِدٍ، وَبَعْضُ أَصْحَابِه‏:‏ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ كَفَرَةٌ فَسَقَةٌ‏;‏ لِأَنَّ الدَّيْلَمَ كَانُوا رَوَافِضَ لَا يَحِلُّ لَنَا أَنْ نَطَأَ بِسَاطَهُمْ، وَلَيْسَ غَرَضُ الْمَلِكِ مِنْ هَذَا إِلَّا أَنْ يُقَالَ‏:‏ إِنَّ مَجْلِسَهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَصْحَابِ الْمَحَابِرِ كُلِّهِمْ، وَلَوْ كَانَ خَالِصًا لِلَّهِ لَنَهَضْتُ‏.‏

قَالَ الْقَاضِي ابْنُ الطَّيِّب‏:‏ فَقُلْتُ لَهُمْ‏:‏ كَذَا قَالَ الْمُحَاسِبِيُّ، وَفُلَانٌ، وَمَنْ فِي عَصْرِهِمْ‏:‏ إِنَّ الْمَأْمُونَ فَاسِقٌ لَا نَحْضُرُ مَجْلِسَهُ، حَتَّى سَاقَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ إِلَى طَرَسُوسَ وَجَرَى عَلَيْهِ مَا عُرِفَ وَلَوْ نَاظَرُوهُ لَكَفُّوهُ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ، وَتَبَيَّنَ لَهُ مَا هُمْ عَلَيْهِ بِالْحُجَّةِ، وَأَنْتَ أَيْضًا أَيُّهَا الشَّيْخُ تَسْلُكُ سَبِيلَهُمْ حَتَّى يَجْرِيَ عَلَى الْفُقَهَاءِ مَا جَرَى عَلَى أَحْمَدَ، وَيَقُولُوا بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَنَفْيِ الرُّؤْيَةِ، وَهَا أَنَا خَارِجٌ إِنْ لَمْ تَخْرُجْ، فَقَالَ الشَّيْخُ‏:‏ إِذْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَكَ لِهَذَا فَاخْرُجْ‏.‏ إِلَى آخِرِ الْحِكَايَةِ‏.‏

فَمِثْلُ هَذَا إِذَا اتَّفَقَ يُلْغِي فِي جَانِبِ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ مَا يَقَعُ مِنْ جُزْئِيَّاتِ الْمَفَاسِدِ، فَلَا يَكُونُ لَهَا اعْتِبَارٌ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْجُزْئِيَّاتِ الَّتِي يَعُودُ اعْتِبَارُهَا عَلَى الْكُلِّيِّ بِالْإِخْلَالِ وَالْفَسَادِ، وَقَدْ مَرَّ بَيَانُهُ فِي أَوَائِلِ هَذَا الْكِتَابِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ‏.‏

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ‏:‏ ‏[‏التَّكَالِيفُ إِذَا عُلِمَ قَصْدُ الْمَصْلَحَةِ فِيهَا فَلِلْمُكَلَّفِ فِي الدُّخُولِ تَحْتَهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ‏]‏

التَّكَالِيفُ إِذَا عُلِمَ قَصْدُ الْمَصْلَحَةِ فِيهَا فَلِلْمُكَلَّفِ فِي الدُّخُولِ تَحْتَهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ‏:‏

أَحَدُهَا‏:‏ أَنْ يَقْصِدَ بِهَا مَا فَهِمَ مِنْ مَقْصِدِ الشَّارِعِ فِي شَرْعِهَا فَهَذَا لَا إِشْكَالَ فِيهِ وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُخَلِّيَهُ مِنْ قَصْدِ التَّعَبُّدِ‏;‏ لِأَنَّ مَصَالِحَ الْعِبَادِ إِنَّمَا جَاءَتْ مِنْ طَرِيقِ التَّعَبُّدِ‏;‏ إِذْ لَيْسَتْ بِعَقْلِيَّةٍ حَسَبَمَا تَقَرَّرَ فِي مَوْضِعِهِ، وَإِنَّمَا هِيَ تَابِعَةٌ لِمَقْصُودِ التَّعَبُّدِ، فَإِذَا اعْتُبِرَ صَارَ أَمْكَنَ فِي التَّحَقُّقِ بِالْعُبُودِيَّةِ، وَأَبْعَدَ عَنْ أَخْذِ الْعَادِيَّاتِ لِلْمُكَلَّفِ فَكَمْ مِمَّنْ فَهِمَ الْمَصْلَحَةَ فَلَمْ يَلْوِ عَلَى غَيْرِهَا فَغَابَ عَنْ أَمْرِ الْآمِرِ بِهَا، وَهِيَ غَفْلَةٌ تُفَوِّتُ خَيْرَاتٍ كَثِيرَةً بِخِلَافِ مَا إِذَا لَمْ يُهْمِلِ التَّعَبُّدَ‏.‏

وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَصَالِحَ لَا يَقُومُ دَلِيلٌ عَلَى انْحِصَارِهَا فِيمَا ظَهَرَ إِلَّا دَلِيلٌ نَاصٌّ عَلَى الْحَصْرِ، وَمَا أَقَلَّهُ إِذَا نُظِرَ فِي مَسْلَكِ الْعِلَّةِ النَّصِّيِّ‏;‏ إِذْ يَقِلُّ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ أَنْ يَقُولَ مَثَلًا‏:‏ لَمْ أَشْرَعْ هَذَا الْحُكْمَ إِلَّا لِهَذِهِ الْحِكَمِ، فَإِذَا لَمْ يَثْبُتِ الْحَصْرُ، أَوْ ثَبَتَ فِي مَوْضِعٍ مَا وَلَمْ يَطَّرِدْ كَانَ قَصْدُ تِلْكَ الْحِكْمَةِ رُبَّمَا أَسْقَطَ مَا هُوَ مَقْصُودٌ أَيْضًا مِنْ شَرْعِ الْحُكْمِ فَنَقَصَ عَنْ كَمَالِ غَيْرِهِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنْ يَقْصِدَ بِهَا مَا عَسَى أَنْ يَقْصِدَهُ الشَّارِعُ مِمَّا اطَّلَعَ عَلَيْهِ، أَوْ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ، وَهَذَا أَكْمَلُ مِنَ الْأَوَّلِ إِلَّا أَنَّهُ رُبَّمَا فَاتَهُ النَّظَرُ إِلَى التَّعَبُّدِ، وَالْقَصْدُ إِلَيْهِ فِي التَّعَبُّدِ، فَإِنَّ الَّذِي يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْعَمَلَ شُرِعَ لِمَصْلَحَةِ كَذَا ثُمَّ عَمِلَ لِذَلِكَ الْقَصْدِ، فَقَدْ يَعْمَلُ الْعَمَلَ قَاصِدًا لِلْمَصْلَحَةِ غَافِلًا عَنِ امْتِثَالِ الْأَمْرِ فِيهَا فَيُشْبِهُ مَنْ عَمِلَهَا مِنْ غَيْرِ وُرُودِ أَمْرٍ، وَالْعَامِلُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عَمَلُهُ عَادِيٌّ فَيَفُوتُ قَصْدُ التَّعَبُّدِ، وَقَدْ يَسْتَفِزُّهُ فِيهِ الشَّيْطَانُ فَيُدْخِلُ عَلَيْهِ قَصْدَ التَّقَرُّبِ إِلَى الْمَخْلُوقِ، أَوِ الْوَجَاهَةِ عِنْدَهُ، أَوْ نَيْلِ شَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَقَاصِدِ الْمُرْدِيَةِ بِالْأَجْرِ، وَقَدْ يَعْمَلُ هُنَالِكَ لِمُجَرَّدِ حَظِّهِ، فَلَا يَكْمُلُ أَجْرُهُ كَمَالَ مَنْ يَقْصِدُ التَّعَبُّدَ‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ أَنْ يَقْصِدَ مُجَرَّدَ امْتِثَالِ الْأَمْرِ فَهِمَ قَصَدَ الْمَصْلَحَةِ، أَوْ لَمْ يَفْهَمْ فَهَذَا أَكْمَلُ وَأَسْلَمُ‏.‏

أَمَّا كَوْنُهُ أَكْمَلَ فَلِأَنَّهُ نَصَبَ نَفْسَهُ عَبْدًا مُؤْتَمِرًا، وَمَمْلُوكًا مُلَبِّيًا‏;‏ إِذْ لَمْ يَعْتَبِرْ إِلَّا مُجَرَّدَ الْأَمْرِ‏.‏

وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَمَّا امْتَثَلَ الْأَمْرَ، فَقَدْ وَكَّلَ الْعِلْمَ بِالْمَصْلَحَةِ إِلَى الْعَالِمِ بِهَا جُمْلَةً، وَتَفْصِيلًا وَلَمْ يَكُنْ لِيَقْصُرَ الْعَمَلَ عَلَى بَعْضِ الْمَصَالِحِ دُونَ بَعْضٍ، وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى كُلَّ مَصْلَحَةٍ تَنْشَأُ عَنْ هَذَا الْعَمَلِ فَصَارَ مُؤْتَمِرًا فِي تَلْبِيَّتِهِ الَّتِي لَمْ يُقَيِّدْهَا بِبَعْضِ الْمَصَالِحِ دُونَ بَعْضٍ‏.‏

وَأَمَّا كَوْنُهُ أَسْلَمَ؛ فَلِأَنَّ الْعَامِلَ بِالِامْتِثَالِ عَامِلٌ بِمُقْتَضَى الْعُبُودِيَّةِ وَاقِفٌ عَلَى مَرْكَزِ الْخِدْمَةِ، فَإِنْ عَرَضَ لَهُ قَصْدُ غَيْرِ اللَّهِ رَدَّهُ قَصْدُ التَّعَبُّدِ، بَلْ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ فِي الْأَكْثَرِ إِذَا عَمِلَ عَلَى أَنَّهُ عَبْدٌ مَمْلُوكٌ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا وَلَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ بِخِلَافِ مَا إِذَا عَمِلَ عَلَى جَلْبِ الْمَصَالِحِ، فَإِنَّهُ قَدْ عَدَّ نَفْسَهُ هُنَالِكَ وَاسِطَةً بَيْنَ الْعِبَادِ، وَمَصَالِحِهِمْ، وَإِنْ كَانَ وَاسِطَةً لِنَفْسِهِ أَيْضًا فَرُبَّمَا دَاخَلَهُ شَيْءٌ مِنَ اعْتِقَادِ الْمُشَارَكَةِ فَتَقُومُ لِذَلِكَ نَفْسُهُ، وَأَيْضًا فَإِنَّ حَظَّهُ هُنَا مَمْحُوٌّ مِنْ جِهَتِهِ بِمُقْتَضَى وُقُوفِهِ تَحْتَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالْعَمَلُ عَلَى الْحُظُوظِ طَرِيقٌ إِلَى دُخُولِ الدَّوَاخِلِ، وَالْعَمَلُ عَلَى إِسْقَاطِهَا طَرِيقٌ إِلَى الْبَرَاءَةِ مِنْهَا وَلِهَذَا بَسْطٌ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ‏.‏

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ‏:‏ ‏[‏كُلُّ مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ فَلَا خِيَرَةَ فِيهِ لِلْمُكَلَّفِ عَلَى حَالٍ، وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ حَقِّ الْعَبْدِ فِي نَفْسِهِ فَلَهُ فِيهِ الْخِيَرَةُ‏]‏

كُلُّ مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ، فَلَا خِيَرَةَ فِيهِ لِلْمُكَلَّفِ عَلَى حَالٍ، وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ حَقِّ الْعَبْدِ فِي نَفْسِهِ فَلَهُ فِيهِ الْخِيَرَةُ‏.‏

أَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى فَالدَّلَائِلُ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ سَاقِطَةٍ وَلَا تَرْجِعُ لِاخْتِيَارِ الْمُكَلَّفِ كَثِيرَةٌ، وَأَعْلَاهَا الِاسْتِقْرَاءُ التَّامُّ فِي مَوَارِدِ الشَّرِيعَةِ، وَمَصَادِرِهَا كَالطَّهَارَةِ عَلَى أَنْوَاعِهَا وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ الَّذِي أَعْلَاهُ الْجِهَادُ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مِنَ الْكَفَّارَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللِّبَاسِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْعَادَاتِ الَّتِي ثَبَتَ فِيهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ حَقُّ الْغَيْرِ مِنَ الْعِبَادِ، وَكَذَلِكَ الْجِنَايَاتُ كُلُّهَا عَلَى هَذَا الْوِزَانِ‏.‏

جَمِيعُهَا لَا يَصِحُّ إِسْقَاطُ حَقِّ اللَّهِ فِيهَا أَلْبَتَّةَ فَلَوْ طَمِعَ أَحَدٌ فِي أَنْ يُسْقِطَ طَهَارَةً لِلصَّلَاةِ أَيَّ طَهَارَةٍ كَانَتْ، أَوْ صَلَاةً مِنَ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ، أَوْ زَكَاةً، أَوْ صَوْمًا، أَوْ حَجًّا، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَبَقِيَ مَطْلُوبًا بِهَا أَبَدًا حَتَّى يَتَقَصَّى عَنْ عُهْدَتِهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ حَاوَلَ اسْتِحْلَالَ مَأْكُولٍ حَيٍّ مَثَلًا مِنْ غَيْرِ ذَكَاةٍ، أَوْ إِبَاحَةَ مَا حَرَّمَ الشَّارِعُ مِنْ ذَلِكَ، أَوِ اسْتِحْلَالَ نِكَاحٍ بِغَيْرِ وَلِيٍّ أَوْ صَدَاقٍ، أَوِ الرِّبَا، أَوْ سَائِرَ الْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ، أَوْ إِسْقَاطَ حَدِّ الزِّنَا، أَوِ الْخَمْرِ، أَوِ الْحِرَابَةِ، أَوِ الْأَخْذَ بِالْغُرْمِ وَالْأَدَاءِ عَلَى الْغَيْرِ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى عَلَيْهِ، وَأَشْبَاهَ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ شَيْءٌ مِنْهُ، وَهُوَ ظَاهِرٌ جِدًّا فِي مَجْمُوعِ الشَّرِيعَةِ حَتَّى إِذَا كَانَ الْحُكْمُ دَائِرًا بَيْنَ حَقِّ اللَّهِ، وَحَقِّ الْعَبْدِ لَمْ يَصِحَّ لِلْعَبْدِ إِسْقَاطُ حَقِّهِ إِذَا أَدَّى إِلَى إِسْقَاطِ حَقِّ اللَّهِ‏.‏

فَلِأَجْلِ ذَلِكَ لَا يُعْتَرَضُ هَذَا بِأَنْ يُقَالَ مَثَلًا‏:‏ إِنَّ حَقَّ الْعَبْدِ ثَابِتٌ لَهُ فِي حَيَاتِهِ وَكَمَالِ جِسْمِهِ وَعَقْلِهِ وَبَقَاءِ مَالِهِ فِي يَدِهِ، فَإِذَا أُسْقِطَ ذَلِكَ بِأَنْ سُلِّطَ يَدُ الْغَيْرِ عَلَيْهِ فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ بِجَوَازِ ذَلِكَ لَهُ أَوْ لَا، فَإِنْ قُلْتَ‏:‏ لَا، وَهُوَ الْفِقْهُ كَانَ نَقْضًا لِمَا أَصَّلْتَ‏;‏ لِأَنَّهُ حَقُّهُ، فَإِذَا أَسْقَطَهُ اقْتَضَى مَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي إِسْقَاطِهِ، وَالْفِقْهُ يَقْتَضِي أَنْ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ قُلْتَ نَعَمْ خَالَفْتَ الشَّرْعَ‏;‏ إِذْ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ وَلَا أَنْ يَفُوتَ عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِهِ وَلَا مَالًا مِنْ مَالِهِ، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا‏}‏ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 29‏]‏ ثُمَّ تَوَعَّدَ عَلَيْهِ، وَقَالَ‏:‏ ‏{‏لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 188‏]‏‏.‏

وَقَدْ جَاءَ الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ فِيمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ، وَحَرَّمَ شُرْبَ الْخَمْرِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ مَصْلَحَةِ الْعَقْلِ بُرْهَةً فَمَا ظَنُّكَ بِتَفْوِيتِهِ جُمْلَةً، وَحَجَرَ عَلَى مُبَذِّرِ الْمَالِ، وَنَهَى- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ، فَهَذَا كُلُّهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا هُوَ حَقٌّ لِلْعَبْدِ لَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ لَهُ فِيهِ الْخِيَرَةُ‏;‏ لِأَنَّا نُجِيبُ بِأَنَّ إِحْيَاءَ النُّفُوسِ، وَكَمَالَ الْعُقُولِ وَالْأَجْسَامِ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْعِبَادِ لَا مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَكَوْنُ ذَلِكَ لَمْ يُجْعَلْ إِلَى اخْتِيَارِهِمْ هُوَ الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ، فَإِذَا أَكْمَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى عَبْدٍ حَيَاتَهُ وَجِسْمَهُ، وَعَقْلَهُ الَّذِي بِهِ يَحْصُلُ لَهُ مَا طُلِبَ بِهِ مِنَ الْقِيَامِ بِمَا كُلِّفَ بِهِ، فَلَا يَصِحُّ لِلْعَبْدِ إِسْقَاطُهُ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُبْتَلَى الْمُكَلَّفُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ كَسْبِهِ وَلَا تَسَبُّبِهِ، وَفَاتَ بِسَبَبِ ذَلِكَ نَفْسُهُ، أَوْ عَقْلُهُ، أَوْ عُضْوٌ مِنْ أَعْضَائِهِ فَهُنَالِكَ يَتَمَحَّضُ حَقُّ الْعَبْدِ‏;‏ إِذْ مَا وَقَعَ لَا يُمْكِنُ رَفْعُهُ فَلَهُ الْخِيَرَةُ فِيمَنْ تَعَدَّى عَلَيْهِ‏;‏ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ حَقًّا مُسْتَوْفًى فِي الْغَيْرِ كَدَيْنٍ مِنَ الدُّيُونِ، فَإِنْ شَاءَ اسْتَوْفَاهُ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ، وَتَرْكُهُ هُوَ الْأَوْلَى إِبْقَاءً عَلَى الْكُلِّيِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ‏}‏ ‏[‏الشُّورَى‏:‏ 43‏]‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏{‏فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الشُّورَى‏:‏ 40‏]‏، وَذَلِكَ أَنَّ الْقِصَاصَ وَالدِّيَةَ إِنَّمَا هِيَ جَبْرٌ لِمَا فَاتَ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ مِنْ مَصَالِحِ نَفْسِهِ، أَوْ جَسَدِهِ، فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ قَدْ فَاتَ وَلَا جَبْرَ لَهُ، وَكَذَلِكَ مَا وَقَعَ مِمَّا يُمْكِنُ رَفْعُهُ كَالْأَمْرَاضِ إِذَا كَانَ التَّطَبُّبُ غَيْرَ وَاجِبٍ، وَدَفْعُ الظَّالِمِ عَنْكَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى تَفْصِيلٍ فِي ذَلِكَ مَذْكُورٍ فِي الْفِقْهِيَّاتِ، وَأَمَّا الْمَالُ فَجَارٍ عَلَى ذَلِكَ الْأُسْلُوبِ، فَإِنَّهُ إِذَا تَعَيَّنَ الْحَقُّ لِلْعَبْدِ فَلَهُ إِسْقَاطُهُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 280‏]‏ بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ فِي يَدِهِ فَأَرَادَ التَّصَرُّفَ فِيهِ، وَإِتْلَافَهُ فِي غَيْرِ مَقْصِدٍ شَرْعِيٍّ يُبِيحُهُ الشَّارِعُ، فَلَا، وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا كَانَ مِنْ هَذَا الْبَابِ‏.‏

وَأَمَّا تَحْرِيمُ الْحَلَالِ، وَتَحْلِيلُ الْحَرَامِ، وَمَا أَشْبَهَهُ فَمِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى‏;‏ لِأَنَّهُ تَشْرِيعٌ مُبْتَدَأٌ، وَإِنْشَاءُ كُلِّيَّةٍ شَرْعِيَّةٍ أَلْزَمَهَا الْعِبَادَ فَلَيْسَ لَهُمْ فِيهَا تَحَكُّمٌ‏;‏ إِذْ لَيْسَ لِلْعُقُولِ تَحْسِينٌ وَلَا تَقْبِيحٌ تُحَلِّلُ بِهِ، أَوْ تُحَرِّمُ فَهُوَ مُجَرَّدُ تَعَدٍّ فِيمَا لَيْسَ لِغَيْرِ اللَّهِ فِيهِ نَصِيبٌ فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ فِيهِ خِيَرَةٌ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ فَقَدْ تَقَدَّمَ أَيْضًا أَنَّ كُلَّ حَقٍّ لِلْعَبْدِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَعَلُّقِ حَقِّ اللَّهِ بِهِ، فَلَا شَيْءَ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ إِلَّا وَفِيهِ لِلَّهِ حَقٌّ فَيَقْتَضِي أَنْ لَيْسَ لِلْعَبْدِ إِسْقَاطُهُ، فَلَا يَبْقَى بَعْدَ هَذَا التَّقْرِيرِ حَقٌّ وَاحِدٌ يَكُونُ الْعَبْدُ فِيهِ مُخَيَّرًا، فَقِسْمُ الْعَبْدِ إِذَا ذَاهِبٌ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا قِسْمٌ وَاحِدٌ‏.‏

فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ الْوَاحِدَ هُوَ الْمُنْقَسِمُ‏;‏ لِأَنَّ مَا هُوَ حَقٌّ لِلْعَبْدِ إِنَّمَا ثَبَتَ كَوْنُهُ حَقًّا لَهُ بِإِثْبَاتِ الشَّرْعِ ذَلِكَ لَهُ لَا بِكَوْنِهِ مُسْتَحِقًّا لِذَلِكَ بِحُكْمِ الْأَصْلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى مَبْسُوطًا فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمِنْ هُنَا ثَبَتَ لِلْعَبْدِ حَقٌّ وَلِلَّهِ حَقٌّ‏.‏

فَأَمَّا مَا هُوَ لِلَّهِ صِرْفًا، فَلَا مَقَالَ فِيهِ لِلْعَبْدِ، وَأَمَّا مَا هُوَ لِلْعَبْدِ فَلِلْعَبْدِ فِيهِ الِاخْتِيَارُ مِنْ حَيْثُ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ لَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مُسْتَقِلٌّ بِالِاخْتِيَارِ، وَقَدْ ظَهَرَ بِمَا تَقَدَّمَ آنِفًا تَخْيِيرُ الْعَبْدِ فِيمَا هُوَ حَقُّهُ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَيَكْفِيكَ مِنْ ذَلِكَ اخْتِيَارُهُ فِي أَنْوَاعِ الْمُتَنَاوَلَاتِ مِنَ الْمَأْكُولَاتِ وَالْمَشْرُوبَاتِ وَالْمَلْبُوسَاتِ، وَغَيْرِهَا مِمَّا هُوَ حَلَالٌ لَهُ، وَفِي أَنْوَاعِ الْبُيُوعِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَالْمُطَالَبَاتِ بِالْحُقُوقِ‏.‏

فَلَهُ إِسْقَاطُهَا وَلَهُ الِاعْتِيَاضُ مِنْهَا وَالتَّصَرُّفُ فِيمَا بِيَدِهِ مِنْ غَيْرِ حَجْرٍ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ تَصَرُّفُهُ عَلَى مَا أَلِفَ مِنْ مَحَاسِنِ الْعَادَاتِ، وَإِنَّمَا الشَّأْنُ كُلُّهُ فِي فَهْمِ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ، وَمَا هُوَ حَقٌّ لِلْعِبَادِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي آخِرِ النَّوْعِ الثَّالِثِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ‏.‏

الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ‏:‏ ‏[‏الْتَّحَيُّلُ هُوَ التَّوَسُّطُ لِإِسْقَاطِ حُكْمٍ أَوْ قَلْبِهِ وَلَا يَنْقَلِبُ وَلَا يَسْقُطُ إِلَّا بِالْوَاسِطَةِ‏]‏

التَّحَيُّلُ بِوَجْهٍ سَائِغٍ مَشْرُوعٍ فِي الظَّاهِرِ، أَوْ غَيْرِ سَائِغٍ عَلَى إِسْقَاطِ حُكْمِ، أَوْ قَلْبِهِ إِلَى حُكْمٍ آخَرَ بِحَيْثُ لَا يَسْقُطُ، أَوْ لَا يَنْقَلِبُ إِلَّا مَعَ تِلْكَ الْوَاسِطَةِ فَتُفْعَلُ لِيُتَوَصَّلَ بِهَا إِلَى ذَلِكَ الْغَرَضِ الْمَقْصُودِ مَعَ الْعِلْمِ بِكَوْنِهَا لَمْ تُشْرَعْ لَهُ فَكَأَنَّ التَّحَيُّلَ مُشْتَمِلٌ عَلَى مُقَدِّمَتَيْن‏:‏

إِحْدَاهُمَا‏:‏ قَلْبُ أَحْكَامِ الْأَفْعَالِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ‏.‏

وَالْأُخْرَى‏:‏ جَعْلُ الْأَفْعَالِ الْمَقْصُودِ بِهَا فِي الشَّرْعِ مَعَانٍ- وَسَائِلَ إِلَى قَلْبِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ هَلْ يَصِحُّ شَرْعًا الْقَصْدُ إِلَيْهِ وَالْعَمَلُ عَلَى وَفْقِهِ أَمْ لَا‏؟‏

وَهُوَ مَحَلٌّ يَجِبُ الِاعْتِنَاءُ بِهِ، وَقَبْلَ النَّظَرِ فِي الصِّحَّةِ، أَوْ عَدَمِهَا لَا بُدَّ مِنْ شَرْحِ هَذَا الِاحْتِيَالِ‏.‏

وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ أَشْيَاءَ، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ إِمَّا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ وَلَا تَرْتِيبٍ عَلَى سَبَبٍ كَمَا أَوْجَبَ الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ وَالْحَجَّ، وَأَشْبَاهَ ذَلِكَ، وَكَمَا حَرَّمَ الزِّنَا وَالرِّبَا وَالْقَتْلَ، وَنَحْوَهَا، وَأَوْجَبَ أَيْضًا أَشْيَاءَ مُرَتَّبَةً عَلَى أَسْبَابٍ، وَحَرَّمَ أُخَرَ كَذَلِكَ كَإِيجَابِ الزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالْوَفَاءِ بِالنُّذُورِ وَالشُّفْعَةِ لِلشَّرِيكِ، وَكَتَحْرِيمِ الْمُطَلَّقَةِ وَالِانْتِفَاعِ بِالْمَغْصُوبِ، أَوِ الْمَسْرُوقِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَإِذَا تَسَبَّبَ الْمُكَلَّفُ فِي إِسْقَاطِ ذَلِكَ الْوُجُوبِ عَنْ نَفْسِهِ، أَوْ فِي إِبَاحَةِ ذَلِكَ الْمُحَرَّمِ عَلَيْهِ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ التَّسَبُّبِ حَتَّى يَصِيرَ ذَلِكَ الْوَاجِبُ غَيْرَ وَاجِبٍ فِي الظَّاهِرِ، أَوِ الْمُحَرَّمُ حَلَالًا فِي الظَّاهِرِ أَيْضًا‏.‏

فَهَذَا التَّسَبُّبُ يُسَمَّى حِيلَةً، وَتَحَيُّلًا كَمَا لَوْ دَخَلَ وَقْتُ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ فِي الْحَضَرِ فَإِنَّهَا تَجِبُ عَلَيْهِ أَرْبَعًا فَأَرَادَ أَنْ يَتَسَبَّبَ فِي إِسْقَاطِهَا كُلِّهَا بِشُرْبِ خَمْرٍ، أَوْ دَوَاءٍ مُسْبِتٍ حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُهَا، وَهُوَ فَاقِدٌ لِعَقْلِهِ كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ، أَوْ قَصْرِهَا فَأَنْشَأَ سَفَرًا لِيَقْصُرَ الصَّلَاةَ، وَكَذَلِكَ مَنْ أَظَلَّهُ شَهْرُ رَمَضَانَ فَسَافَرَ لِيَأْكُلَ، أَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ يَقْدِرُ عَلَى الْحَجِّ بِهِ فَوَهَبَهُ، أَوْ أَتْلَفَهُ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْإِتْلَافِ كَيْ لَا يَجِبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ، وَكَمَا لَوْ أَرَادَ وَطْءَ جَارِيَةِ الْغَيْرِ فَغَصَبَهَا، وَزَعَمَ أَنَّهَا مَاتَتْ فَقُضِيَ عَلَيْهِ بِقِيمَتِهَا فَوَطِئَهَا بِذَلِكَ، أَوْ أَقَامَ شُهُودَ زُورٍ عَلَى تَزْوِيجِ بِكْرٍ بِرِضَاهَا فَقَضَى الْحَاكِمُ بِذَلِكَ ثُمَّ وَطِئَهَا، أَوْ أَرَادَ بَيْعَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ نَقْدًا بِعِشْرِينَ إِلَى أَجَلٍ فَجَعَلَ الْعَشَرَةَ ثَمَنًا لِثَوْبٍ ثُمَّ بَاعَ الثَّوْبَ مِنَ الْبَائِعِ الْأَوَّلِ بِعِشْرِينَ إِلَى أَجَلٍ، أَوْ أَرَادَ قَتْلَ فُلَانٍ فَوَضَعَ لَهُ فِي طَرِيقِهِ سَبَبًا مُجَهَّزًا كَإِشْرَاعِ الرُّمْحِ، وَحَفْرِ الْبِئْرِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَكَالْفِرَارِ مِنْ وُجُوبِ الزَّكَاةِ بِهِبَةِ الْمَالِ، أَوْ إِتْلَافِهِ، أَوْ جَمْعِ مُتَفَرِّقِهِ، أَوْ تَفْرِيقِ مُجْتَمِعِهِ، وَهَكَذَا سَائِرُ الْأَمْثِلَةِ فِي تَحْلِيلِ الْحَرَامِ، وَإِسْقَاطِ الْوَاجِبِ، وَمِثْلُهُ جَارٍ فِي تَحْرِيمِ الْحَلَالِ كَالزَّوْجَةِ تُرْضِعُ جَارِيَةَ الزَّوْجِ، أَوِ الضُّرَّةِ لِتَحْرُمَ عَلَيْهِ، أَوْ إِثْبَاتِ حَقٍّ لَا يَثْبُتُ كَالْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ فِي قَالَبِ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ‏.‏

وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَهُوَ تَحَيُّلٌ عَلَى قَلْبِ الْأَحْكَامِ الثَّابِتَةِ شَرْعًا إِلَى أَحْكَامٍ أُخَرَ بِفِعْلٍ صَحِيحِ الظَّاهِرِ لَغْوٍ فِي الْبَاطِنِ كَانَتِ الْأَحْكَامُ مِنْ خِطَابِ التَّكْلِيفِ، أَوْ مِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ‏.‏

الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ‏:‏ ‏[‏الْحِيَلُ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ فِي الْجُمْلَةِ‏]‏

الْحِيَلُ فِي الدِّينِ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ فِي الْجُمْلَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا لَا يَنْحَصِرُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، لَكِنْ فِي خُصُوصِيَّاتٍ يُفْهَمُ مِنْ مَجْمُوعِهَا مَنْعُهَا وَالنَّهْيُ عَنْهَا عَلَى الْقَطْعِ‏.‏

فَمِنَ الْكِتَابِ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ الْمُنَافِقِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 8‏]‏ إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ‏.‏

فَذَمَّهُمْ، وَتَوَعَّدَهُمْ، وَشَنَّعَ عَلَيْهِمْ، وَحَقِيقَةُ أَمْرِهِمْ أَنَّهُمْ أَظْهَرُوا كَلِمَةَ الْإِسْلَامِ إِحْرَازًا لِدِمَائِهِمْ، وَأَمْوَالِهِمْ لَا لِمَا قُصِدَ لَهُ فِي الشَّرْعِ مِنَ الدُّخُولِ تَحْتَ طَاعَةِ اللَّهِ عَلَى اخْتِيَارٍ، وَتَصْدِيقٍ قَلْبِيٍّ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى كَانُوا فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ، وَقِيلَ فِيهِمْ‏:‏ إِنَّهُمْ ‏{‏يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 9‏]‏‏.‏

وَقَالُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 14‏]‏ لِأَنَّهُمْ تَحَيَّلُوا بِمُلَابَسَةِ الدِّينِ، وَأَهْلِهِ إِلَى أَغْرَاضِهِمُ الْفَاسِدَةِ‏.‏

وَقَالَ تَعَالَى فِي الْمُرَائِينَ بِأَعْمَالِهِمْ‏:‏ ‏{‏كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 264‏]‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ‏}‏ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 38‏]‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏{‏يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا‏}‏ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 142‏]‏ فَذَمَّ، وَتَوَعَّدَ‏;‏ لِأَنَّهُ إِظْهَارٌ لِلطَّاعَةِ لِقَصْدٍ دُنْيَوِيٍّ يَتَوَصَّلُ بِهَا إِلَيْهِ، وَقَالَ تَعَالَى فِي أَصْحَابِ الْجَنَّة‏:‏ ‏{‏إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ‏}‏ الْآيَةَ إِلَى قَوْلِه‏:‏ ‏{‏فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ‏}‏ ‏[‏الْقَلَم‏:‏ 17- 20‏]‏ لَمَّا احْتَالُوا عَلَى إِمْسَاكِ حَقِّ الْمَسَاكِينِ بِأَنْ قَصَدُوا الصِّرَامَ فِي غَيْرِ وَقْتِ إِتْيَانِهِمْ عَذَّبَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِإِهْلَاكِ مَالِهِمْ‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 65‏]‏، وَأَشْبَاهَهَا لِأَنَّهُمُ احْتَالُوا لِلِاصْطِيَادِ فِي السَّبْتِ بِصُورَةِ الِاصْطِيَادِ فِي غَيْرِهِ‏.‏

وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا‏}‏ إِلَى قَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 231‏]‏‏.‏

وَفُسِّرَتْ بِأَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَرْتَجِعَ الْمَرْأَةَ يَقْصِدُ بِذَلِكَ مُضَارَّتَهَا بِأَنْ يُطَلِّقَهَا ثُمَّ يُمْهِلَهَا حَتَّى تُشَارِفَ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ، ثُمَّ يَرْتَجِعَهَا، ثُمَّ يُطَلِّقُهَا حَتَّى تُشَارِفَ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ، وَهَكَذَا لَا يَرْتَجِعُهَا لِغَرَضٍ لَهُ فِيهَا سِوَى الْإِضْرَارِ بِهَا‏.‏

وَقَدْ جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 228‏]‏ إِلَى قَوْلِه‏:‏ ‏{‏الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 229‏]‏ أَنَّ الطَّلَاقَ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ إِلَى غَيْرِ عَدَدٍ فَكَانَ الرَّجُلُ يَرْتَجِعُ الْمَرْأَةَ قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، ثُمَّ يُطَلِّقُهَا، ثُمَّ يَرْتَجِعُهَا كَذَلِكَ قَصْدًا‏.‏

فَنَزَلَتِ ‏{‏الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 229‏]‏، وَنَزَلَ مَعَ ذَلِكَ ‏{‏وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 229‏]‏ فِيمَنْ كَانَ يُضَارُّ الْمَرْأَةَ حَتَّى تَفْتَدِيَ مِنْهُ‏.‏

وَهَذِهِ كُلُّهَا حِيَلٌ عَلَى بُلُوغِ غَرَضٍ لَمْ يُشْرَعْ ذَلِكَ الْحُكْمُ لِأَجْلِهِ، وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ‏}‏ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 12‏]‏ يَعْنِي بِالْوَرَثَةِ بِأَنْ يُوصِيَ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ، أَوْ يُوصِيَ لِوَارِثٍ احْتِيَالًا عَلَى حِرْمَانِ بَعْضِ الْوَرَثَةِ‏.‏

وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا‏}‏ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 6‏]‏، وَقَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 19‏]‏ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ فِي هَذَا الْمَعْنَى‏.‏

وَمِنَ الْأَحَادِيثِ قَوْلُهُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام-‏:‏ «لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ» فَهَذَا نَهْيٌ عَنِ الِاحْتِيَالِ لِإِسْقَاطِ الْوَاجِبِ، أَوْ تَقْلِيلِهِ‏.‏

وَقَالَ‏:‏ «لَا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى يَسْتَحِلُّونَ مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ»‏.‏

وَقَالَ‏:‏ «مَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ، وَقَدْ أَمِنَ أَنْ تَسْبِقَ فَهُوَ قِمَارٌ»‏.‏

وَقَالَ‏:‏ «قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَجَمَلُوهَا وَبَاعُوهَا، وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا»‏.‏

وَقَالَ‏:‏ «لَيَشْرَبَنَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا يُعْزَفُ عَلَى رُؤُوسِهِمْ بِالْمَعَازِفِ وَالْمُغَنِّيَاتِ يَخْسِفُ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ، وَيَجْعَلُ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ»‏.‏

وَيُرْوَى مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمَرْفُوعًا‏:‏ يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يُسْتَحَلُّ فِيهِ خَمْسَةُ أَشْيَاءَ بِخَمْسَةِ أَشْيَاءَ‏:‏ يَسْتَحِلُّونَ الْخَمْرَ بِأَسْمَاءٍ يُسَمُّونَهَا بِهَا، وَالسُّحْتَ بِالْهَدِيَّةِ، وَالْقَتْلَ بِالرَّهْبَةِ، وَالزِّنَى بِالنِّكَاحِ، وَالرِّبَا بِالْبَيْعِ‏.‏

وَقَالَ‏:‏ «إِذَا ضَنَّ النَّاسُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، وَتَبَايَعُوا بِالْعِينَةِ وَاتَّبَعُوا أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَتَرَكُوا الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَنْزَلَ اللَّهُ بِهِمْ بَلَاءً، فَلَا يَرْفَعُهُ حَتَّى يُرَاجِعُوا دِينَهُمْ»‏.‏

وَقَالَ‏:‏ «لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ»‏.‏

وَقَالَ‏:‏ «لَعَنَ اللَّهُ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ»‏.‏

وَنَهَى عَنْ هَدِيَّةِ الْمِدْيَانِ فَقَالَ‏:‏ «إِذَا أَقْرَضَ أَحَدُكُمْ قَرْضًا فَأُهْدِيَ إِلَيْهِ، أَوْ حَمَلَهُ عَلَى الدَّابَّةِ، فَلَا يَرْكَبْهَا وَلَا يَقْبَلْهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ جَرَى بَيْنَهُ، وَبَيْنَهُ قَبْلَ ذَلِكَ»‏.‏

وَقَالَ‏:‏ «الْقَاتِلُ لَا يَرِثُ»‏.‏

وَجَعَلَ هَدَايَا الْأُمَرَاءِ غُلُولًا، وَنَهَى عَنِ الْبَيْعِ وَالسَّلَفِ‏.‏

وَقَالَتْ عَائِشَةُ‏:‏ أَبْلِغِي زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ لَمْ يَتُبْ‏.‏

وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ كُلُّهَا دَائِرَةٌ عَلَى أَنَّ التَّحَيُّلَ فِي قَلْبِ الْأَحْكَامِ ظَاهِرًا غَيْرُ جَائِزٍ، وَعَلَيْهِ عَامَّةُ الْأُمَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ‏.‏

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ‏:‏ ‏[‏الْحِيَلُ‏]‏

لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْأَحْكَامَ شُرِعَتْ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ كَانَتِ الْأَعْمَالُ مُعْتَبَرَةً بِذَلِكَ‏;‏ لِأَنَّهُ مَقْصُودُ الشَّارِعِ فِيهَا كَمَا تَبَيَّنَ، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ فِي ظَاهِرِهِ، وَبَاطِنِهِ عَلَى أَصْلِ الْمَشْرُوعِيَّةِ، فَلَا إِشْكَالَ، وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ مُوَافِقًا وَالْمَصْلَحَةُ مُخَالِفَةً فَالْفِعْلُ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَغَيْرُ مَشْرُوعٍ‏;‏ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ الشَّرْعِيَّةَ لَيْسَتْ مَقْصُودَةً لِأَنْفُسِهَا، وَإِنَّمَا قُصِدَ بِهَا أُمُورٌ أُخَرُ هِيَ مَعَانِيهَا، وَهِيَ الْمَصَالِحُ الَّتِي شُرِعَتْ لِأَجْلِهَا فَالَّذِي عَمِلَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَضْعِ فَلَيْسَ عَلَى وَضْعِ الْمَشْرُوعَاتِ‏.‏

فَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ النُّطْقَ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَالصَّلَاةَ، وَغَيْرَهُمَا مِنَ الْعِبَادَاتِ إِنَّمَا شُرِعَتْ لِلتَّقَرُّبِ بِهَا إِلَى اللَّهِ وَالرُّجُوعِ إِلَيْهِ، وَإِفْرَادِهِ بِالتَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ، وَمُطَابَقَةِ الْقَلْبِ لِلْجَوَارِحِ فِي الطَّاعَةِ وَالِانْقِيَادِ، فَإِذَا عُمِلَ بِذَلِكَ عَلَى قَصْدِ نَيْلِ حَظٍّ مِنْ حُظُوظِ الدُّنْيَا مِنْ دَفْعٍ، أَوْ نَفْعٍ كَالنَّاطِقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ قَاصِدًا لِإِحْرَازِ دَمِهِ، وَمَالِهِ لَا لِغَيْرِ ذَلِكَ، أَوِ الْمُصَلِّي رِئَاءَ النَّاسِ لِيُحْمَدَ عَلَى ذَلِكَ، أَوْ يَنَالَ بِهِ رُتْبَةً فِي الدُّنْيَا فَهَذَا الْعَمَلُ لَيْسَ مِنَ الْمَشْرُوعِ فِي شَيْءٍ‏;‏ لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ الَّتِي شُرِعَ لِأَجْلِهَا لَمْ تَحْصُلْ، بَلِ الْمَقْصُودُ بِهِ ضِدُّ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ، وَعَلَى هَذَا نَقُولُ فِي الزَّكَاةِ مَثَلًا‏:‏ إِنَّ الْمَقْصُودَ بِمَشْرُوعِيَّتِهَا رَفْعُ رَذِيلَةِ الشُّحِّ، وَمَصْلَحَةُ إِرْفَاقِ الْمَسَاكِينِ، وَإِحْيَاءُ النُّفُوسِ الْمُعَرَّضَةِ لِلتَّلَفِ، فَمَنْ وَهَبَ فِي آخِرِ الْحَوْلِ مَالَهُ هُرُوبًا مِنْ وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ، ثُمَّ إِذَا كَانَ فِي حَوْلٍ آخَرَ، أَوْ قَبْلَ ذَلِكَ اسْتَوْهَبَهُ فَهَذَا الْعَمَلُ تَقْوِيَةٌ لِوَصْفِ الشُّحِّ، وَإِمْدَادٌ لَهُ وَرَفْعٌ لِمَصْلَحَةِ إِرْفَاقِ الْمَسَاكِينِ فَمَعْلُومٌ أَنَّ صُورَةَ هَذِهِ الْهِبَةِ لَيْسَتْ هِيَ الْهِبَةَ الَّتِي نَدَبَ الشَّرْعُ إِلَيْهَا‏;‏ لِأَنَّ الْهِبَةَ إِرْفَاقٌ، وَإِحْسَانٌ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ، وَتَوْسِيعٌ عَلَيْهِ غَنِيًّا كَانَ، أَوْ فَقِيرًا وَجَلْبٌ لِمَوَدَّتِهِ، وَمُؤَالَفَتِهِ، وَهَذِهِ الْهِبَةُ عَلَى الضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَتْ عَلَى الْمَشْرُوعِ مِنَ التَّمْلِيكِ الْحَقِيقِيِّ لَكَانَ ذَلِكَ مُوَافِقًا لِمَصْلَحَةِ الْإِرْفَاقِ وَالتَّوْسِعَةِ وَرَفْعًا لِرَذِيلَةِ الشُّحِّ، فَلَمْ يَكُنْ هُرُوبًا عَنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ‏.‏

فَتَأَمَّلْ كَيْفَ كَانَ الْقَصْدُ الْمَشْرُوعُ فِي الْعَمَلِ لَا يَهْدِمُ قَصْدًا شَرْعِيًّا، وَالْقَصْدُ غَيْرُ الشَّرْعِيِّ هَادِمٌ لِلْقَصْدِ الشَّرْعِيِّ، وَمِثْلُهُ أَنَّ الْفِدْيَةَ شُرِعَتْ لِلزَّوْجَةِ هَرَبًا مِنْ أَنْ لَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فِي زَوْجِيَّتِهِمَا، فَأُبِيحَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَشْتَرِيَ عِصْمَتَهَا مِنَ الزَّوْجِ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهَا خَوْفًا مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْمَحْظُورِ، فَهَذِهِ بَذَلَتْ مَالَهَا طَلَبًا لِصَلَاحِ الْحَالِ بَيْنَهَا، وَبَيْنَ زَوْجِهَا، وَهُوَ التَّسْرِيحُ بِإِحْسَانٍ، وَهُوَ مَقْصِدٌ شَرْعِيٌّ مُطَابِقٌ لِلْمَصْلَحَةِ لَا فَسَادَ فِيهِ حَالًا وَلَا مَآلًا، فَإِذَا أَضَرَّ بِهَا لِتَفْتَدِيَ مِنْهُ، فَقَدْ عَمِلَ هُوَ بِغَيْرِ الْمَشْرُوعِ حِينَ أَضَرَّ بِهَا لِغَيْرِ مُوجِبٍ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْوُصُولِ إِلَى الْفِرَاقِ مِنْ غَيْرِ إِضْرَارٍ، فَلَمْ يَكُنِ التَّسْرِيحُ إِذَا طَلَبْتَهُ بِالْفِدَاءِ تَسْرِيحًا بِإِحْسَانٍ وَلَا خَوْفًا مِنْ أَنْ لَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ‏;‏ لِأَنَّهُ فِدَاءُ مُضْطَرٍّ، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا لَهَا مِنْ جِهَةِ الِاضْطِرَارِ وَالْخُرُوجِ مِنَ الْإِضْرَارِ وَصَارَ غَيْرَ جَائِزٍ لَهُ إِذْ وُضِعَ عَلَى غَيْرِ الْمَشْرُوعِ‏.‏

وَكَذَلِكَ نَقُولُ‏:‏ إِنَّ أَحْكَامَ الشَّرِيعَةِ تَشْتَمِلُ عَلَى مَصْلَحَةٍ كُلِّيَّةٍ فِي الْجُمْلَةِ، وَعَلَى مَصْلَحَةٍ جُزْئِيَّةٍ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ عَلَى الْخُصُوصِ‏.‏

أَمَّا الْجُزْئِيَّةُ فَمَا يُعْرِبُ عَنْهَا كُلُّ دَلِيلٍ لِحُكْمٍ فِي خَاصِيَّتِهِ، وَأَمَّا الْكُلِّيَّةُ فَهِيَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مُكَلَّفٍ تَحْتَ قَانُونٍ مُعَيَّنٍ مِنْ تَكَالِيفِ الشَّرْعِ فِي جَمِيعِ حَرَكَاتِهِ، وَأَقْوَالِهِ وَاعْتِقَادَاتِهِ، فَلَا يَكُونُ كَالْبَهِيمَةِ الْمُسَيَّبَةِ تَعْمَلُ بِهَوَاهَا حَتَّى يَرْتَاضَ بِلِجَامِ الشَّرْعِ، وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ هَذَا فِيمَا تَقَدَّمَ، فَإِذَا صَارَ الْمُكَلَّفُ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ عَنَّتْ لَهُ يَتَّبِعُ رُخَصَ الْمَذَاهِبِ وَكُلَّ قَوْلٍ وَافَقَ فِيهَا هَوَاهُ، فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ التَّقْوَى، وَتَمَادَى فِي مُتَابَعَةِ الْهَوَى، وَنَقَضَ مَا أَبْرَمَهُ الشَّارِعُ، وَأَخَّرَ مَا قَدَّمَهُ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏عَوْدَةٌ إِلَى الْحِيَلِ‏]‏

فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالْحِيَلُ الَّتِي تَقَدَّمَ إِبْطَالُهَا، وَذَمُّهَا وَالنَّهْيُ عَنْهَا مَا هَدَمَ أَصْلًا شَرْعِيًّا، وَنَاقَضَ مَصْلَحَةً شَرْعِيَّةً‏.‏

فَإِنْ فَرَضْنَا أَنَّ الْحِيلَةَ لَا تَهْدِمُ أَصْلًا شَرْعِيًّا وَلَا تُنَاقِضُ مَصْلَحَةً شَهِدَ الشَّرْعُ بِاعْتِبَارِهَا فَغَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي النَّهْيِ وَلَا هِيَ بَاطِلَةٌ، وَمَرْجِعُ الْأَمْرِ فِيهَا إِلَى أَنَّهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ‏:‏

أَحَدُهَا‏:‏ لَا خِلَافَ فِي بُطْلَانِهِ كَحِيَلِ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُرَائِينَ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ لَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ كَالنُّطْقِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ إِكْرَاهًا عَلَيْهَا، فَإِنَّ نِسْبَةَ التَّحَيُّلِ بِهَا فِي إِحْرَازِ الدَّمِ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادٍ لِمُقْتَضَاهَا كَنِسْبَةِ التَّحَيُّلِ بِكَلِمَةِ الْإِسْلَامِ فِي إِحْرَازِ الدَّمِ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّ هَذَا مَأْذُونٌ فِيهِ لِكَوْنِهِ مَصْلَحَةً دُنْيَوِيَّةً لَا مَفْسَدَةَ فِيهَا بِإِطْلَاقٍ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ لِكَوْنِهِ مَفْسَدَةً أُخْرَوِيَّةً بِإِطْلَاقٍ، وَالْمَصَالِحُ وَالْمَفَاسِدُ الْأُخْرَوِيَّةُ مُقَدَّمَةٌ فِي الِاعْتِبَارِ عَلَى الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ الدُّنْيَوِيَّةِ بِاتِّفَاقٍ‏;‏ إِذْ لَا يَصِحُّ اعْتِبَارُ مَصْلَحَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ تُخِلُّ بِمَصَالِحِ الْآخِرَةِ فَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا يُخِلُّ بِمَصَالِحِ الْآخِرَةِ غَيْرُ مُوَافِقٍ لِمَقْصُودِ الشَّارِعِ، فَكَانَ بَاطِلًا، وَمِنْ هُنَا جَاءَ فِي ذَمِّ النِّفَاقِ، وَأَهْلِهِ مَا جَاءَ‏.‏

وَهَكَذَا سَائِرُ مَا يَجْرِي مَجْرَاهُ، وَكِلَا الْقِسْمَيْنِ بَالِغٌ مَبْلَغَ الْقَطْعِ‏.‏

وَأَمَّا الثَّالِثُ فَهُوَ مَحَلُّ الْإِشْكَالِ وَالْغُمُوضِ، وَفِيهِ اضْطَرَبَتْ أَنْظَارُ النُّظَّارِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَمْ يَتَبَيَّنْ فِيهِ بِدَلِيلٍ وَاضِحٍ قَطْعِيٍّ لِحَاقُهُ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ، أَوِ الثَّانِي وَلَا تَبَيَّنَ فِيهِ لِلشَّارِعِ مَقْصِدٌ يُتَّفَقُ عَلَى أَنَّهُ مَقْصُودٌ لَهُ وَلَا ظَهَرَ أَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي وُضِعَتْ لَهَا الشَّرِيعَةُ بِحَسَبِ الْمَسْأَلَةِ الْمَفْرُوضَةِ فِيهِ‏.‏

فَصَارَ هَذَا الْقِسْمُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مُتَنَازَعًا فِيهِ، شَهَادَةٌ مِنَ الْمُتَنَازِعِينَ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِلْمَصْلَحَةِ فَالتَّحَيُّلُ جَائِزٌ، أَوْ مُخَالِفٌ فَالتَّحَيُّلُ مَمْنُوعٌ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ‏:‏ إِنَّ مَنْ أَجَازَ التَّحَيُّلَ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ مُقِرٌّ بِأَنَّهُ خَالَفَ فِي ذَلِكَ قَصْدَ الشَّارِعِ، بَلْ إِنَّمَا أَجَازَهُ بِنَاءً عَلَى تَحَرِّي قَصْدِهِ، وَأَنَّ مَسْأَلَتَهُ لَاحِقَةٌ بِقِسْمِ التَّحَيُّلِ الْجَائِزِ الَّذِي عُلِمَ قَصْدُ الشَّارِعِ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ مُصَادَمَةَ الشَّارِعِ صُرَاحًا عِلْمًا أَوْ ظَنًّا لَا تَصْدُرُ مِنْ عَوَامِّ الْمُسْلِمِينَ فَضْلًا عَنْ أَئِمَّةِ الْهُدَى، وَعُلَمَاءِ الدِّينِ نَفَعَنَا اللَّهُ بِهِمْ‏.‏

كَمَا أَنَّ الْمَانِعَ إِنَّمَا مَنَعَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِقَصْدِ الشَّارِعِ وَلِمَا وُضِعَ فِي الْأَحْكَامِ مِنَ الْمَصَالِحِ وَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِبَعْضِ الْأَمْثِلَةِ لِتَظْهَرَ صِحَّتُهَا، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ‏.‏

فَمِنْ ذَلِكَ نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ، فَإِنَّهُ تَحَيُّلٌ إِلَى رُجُوعِ الزَّوْجَةِ إِلَى مُطَلِّقِهَا الْأَوَّلِ بِحِيلَةٍ تُوَافِقُ فِي الظَّاهِرِ قَوْلَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 230‏]‏، فَقَدْ نَكَحَتِ الْمَرْأَةُ هَذَا الْمُحَلِّلَ، فَكَانَ رُجُوعُهَا إِلَى الْأَوَّلِ بَعْدَ تَطْلِيقِ الثَّانِي مُوَافِقًا، وَنُصُوصُ الشَّارِعِ مُفْهِمَةٌ لِمَقَاصِدِهِ، بَلْ هِيَ أَوَّلُ مَا يُتَلَقَّى مِنْهُ فَهْمُ الْمَقَاصِدِ الشَّرْعِيَّةِ‏.‏

وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ‏:‏ «لَا، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ، وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ» ظَاهِرٌ أَنَّ الْمَقْصُودَ فِي النِّكَاحِ الثَّانِي‏:‏ ذَوْقُ الْعُسَيْلَةِ، وَقَدْ حَصَلَ فِي الْمُحَلِّلِ وَلَوْ كَانَ قَصْدُ التَّحْلِيلِ مُعْتَبَرًا فِي فَسَادِ هَذَا النِّكَاحِ لَبَيَّنَهُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- وَلِأَنَّ كَوْنَهُ حِيلَةً لَا يَمْنَعُهَا، وَإِلَّا لَزِمَ ذَلِكَ فِي كُلِّ حِيلَةٍ كَالنُّطْقِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ لِلْإِكْرَاهِ، وَسَائِرِ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْقِسْمِ الْجَائِزِ بِاتِّفَاقٍ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، وَكَانَ مُوَافِقًا لِلْمَنْقُولِ دَلَّ عَلَى صِحَّةِ مُوَافَقَتِهِ لِقَصْدِ الشَّارِعِ‏.‏

وَكَذَلِكَ إِذَا اعْتُبِرَتْ جِهَةُ الْمَصْلَحَةِ فَمَصْلَحَةُ هَذَا النِّكَاحِ ظَاهِرَةٌ‏;‏ لِأَنَّهُ قَدْ قُصِدَ فِيهِ الْإِصْلَاحُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ‏;‏ إِذْ كَانَ تَسَبُّبًا فِي التَّآلُفِ بَيْنَهُمَا عَلَى وَجْهٍ صَحِيحٍ وَلِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَلْزَمُ فِيهِ الْقَصْدُ إِلَى الْبَقَاءِ الْمُؤَبَّدِ؛ لِأَنَّ هَذَا هُوَ التَّضْيِيقُ الَّذِي تَأْبَاهُ الشَّرِيعَةُ وَلِأَجْلِهِ شُرِعَ الطَّلَاقُ، وَهُوَ كَنِكَاحِ النَّصَارَى، وَقَدْ أَجَازَ الْعُلَمَاءُ النِّكَاحَ بِقَصْدِ حَلِّ الْيَمِينِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إِلَى الرَّغْبَةِ فِي بَقَاءِ عِصْمَةِ الْمَنْكُوحَةِ، وَأَجَازُوا نِكَاحَ الْمُسَافِرِ فِي بَلْدَةٍ لَا قَصْدَ لَهُ إِلَّا قَضَاءُ الْوَطَرِ زَمَانَ الْإِقَامَةِ بِهَا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ‏.‏

وَأَيْضًا لَا يَلْزَمُ إِذَا شُرِعَتِ الْقَاعِدَةُ الْكُلِّيَّةُ لِمَصْلَحَةٍ أَنْ تُوجَدَ الْمُصْلِحَةُ فِي كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهَا عَيْنًا حَسَبَمَا تَقَدَّمَ كَمَا فِي نِكَاحِ حَلِّ الْيَمِينِ وَالْقَائِلِ إِنْ تَزَوَّجْتُ فُلَانَةً، فَهِيَ طَالِقٌ عَلَى رَأْيِ مَالِكٍ فِيهِمَا، وَفِي نِكَاحِ الْمُسَافِرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ‏.‏

هَذَا تَقْرِيرُ بَعْضِ مَا يَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ قَالَ‏:‏ بِجَوَازِ الِاحْتِيَالِ هُنَا، وَأَمَّا تَقْرِيرُ الدَّلِيلِ عَلَى الْمَنْعِ فَأَظْهَرُ، فَلَا نُطَوِّلُ بِذِكْرِهِ، وَأَقْرَبُ تَقْرِيرٍ فِيهِ مَا ذَكَرَهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ، فَإِلَيْكَ النَّظَرُ فِيهِ‏.‏

وَمِنْ ذَلِكَ مَسَائِلُ بُيُوعِ الْآجَالِ، فَإِنَّ فِيهَا التَّحَيُّلَ إِلَى بَيْعِ دِرْهَمٍ نَقْدًا بِدِرْهَمَيْنِ إِلَى أَجَلٍ، لَكِنْ بِعَقْدَيْنِ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْصُودٌ فِي نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ ذَرِيعَةً فَالثَّانِي غَيْرُ مَانِعٍ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ إِذَا كَانَ قَدْ أَبَاحَ لَنَا الِانْتِفَاعَ بِجَلْبِ الْمَصَالِحِ، وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ عَلَى وُجُوهٍ مَخْصُوصَةٍ، فَتَحَرِّي الْمُكَلَّفِ تِلْكَ الْوُجُوهَ غَيْرُ قَادِحٍ، وَإِلَّا كَانَ قَادِحًا فِي جَمِيعِ الْوُجُوهِ الْمَشْرُوعَةِ، وَإِذَا فُرِضَ أَنَّ الْعَقْدَ الْأَوَّلَ لَيْسَ بِمَقْصُودِ الْعَاقِدِ، وَإِنَّمَا مَقْصُودُهُ الثَّانِي، فَالْأَوَّلُ إِذًا مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ الْوَسَائِلِ وَالْوَسَائِلُ مَقْصُودَةٌ شَرْعًا مِنْ حَيْثُ هِيَ وَسَائِلُ، وَهَذَا مِنْهَا، فَإِنْ جَازَتِ الْوَسَائِلُ مِنْ حَيْثُ هِيَ وَسَائِلُ فَلْيَجُزْ مَا نَحْنُ فِيهِ، وَإِنْ مُنِعَ مَا نَحْنُ فِيهِ فَلْتُمْنَعِ الْوَسَائِلُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، لَكِنَّهَا لَيْسَتْ عَلَى الْإِطْلَاقِ مَمْنُوعَةً إِلَّا بِدَلِيلٍ، فَكَذَلِكَ هُنَا لَا يُمْنَعُ إِلَّا بِدَلِيلٍ، بَلْ هُنَا مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ التَّوَسُّلِ فِي مَسْأَلَتِنَا وَصِحَّةِ قَصْدِ الشَّارِعِ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ‏:‏ «بِعِ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا» فَالْقَصْدُ بِبَيْعِ الْجَمْعِ بِالدَّرَاهِمِ التَّوَسُّلُ إِلَى حُصُولِ الْجَنِيبِ بِالْجَمْعِ، لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ مُبَاحٍ وَلَا فَرْقَ فِي الْقَصْدِ بَيْنَ حُصُولِ ذَلِكَ مَعَ عَاقِدٍ وَاحِدٍ، وَعَاقِدَيْنَ‏;‏ إِذْ لَمْ يُفَصِّلُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ‏.‏

وَقَوْلُ الْقَائِل‏:‏ إِنَّ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى قَاعِدَةِ الْقَوْلِ بِالذَّرَائِعِ غَيْرُ مُفِيدٍ هُنَا، فَإِنَّ الذَّرَائِعَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ‏:‏

مِنْهَا مَا يُسَدُّ بِاتِّفَاقٍ، كَسَبِّ الْأَصْنَامِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ مُؤَدٍّ إِلَى سَبِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَسَبِّ أَبَوَيِ الرَّجُلِ إِذَا كَانَ مُؤَدِّيًا إِلَى سَبٍّ أَبَوَيِ السَّابِّ، فَإِنَّهُ عُدَّ فِي الْحَدِيثِ سَبًّا مِنَ السَّابِّ لِأَبَوَيْ نَفْسِهِ، وَحَفْرِ الْآبَارِ فِي طُرُقِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ الْعِلْمِ بِوُقُوعِهِمْ فِيهَا، وَإِلْقَاءِ السُّمِّ فِي الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ الَّتِي يُعْلَمُ تَنَاوُلُ الْمُسْلِمِينَ لَهَا‏.‏

وَمِنْهَا مَا لَا يُسَدُّ بِاتِّفَاقٍ كَمَا إِذَا أَحَبَّ الْإِنْسَانُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِطَعَامِهِ أَفْضَلَ مِنْهُ، أَوْ أَدْنَى مِنْ جِنْسِهِ فَيَتَحَيَّلُ بِبَيْعِ مَتَاعِهِ لِيَتَوَصَّلَ بِالثَّمَنِ إِلَى مَقْصُودِهِ، بَلْ كَسَائِرِ التِّجَارَاتِ، فَإِنَّ مَقْصُودَهَا الَّذِي أُبِيحَتْ لَهُ إِنَّمَا يَرْجِعُ إِلَى التَّحَيُّلِ فِي بَذْلِ دَرَاهِمَ فِي السِّلْعَةِ لِيَأْخُذَ أَكْثَرَ مِنْهَا‏.‏

وَمِنْهَا مَا هُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَمَسْأَلَتُنَا مِنْ هَذَا الْقِسْمِ فَلَمْ نَخْرُجْ عَنْ حُكْمِهِ بَعْدُ وَالْمُنَازَعَةُ بَاقِيَةٌ فِيهِ‏.‏

وَهَذِهِ جُمْلَةٌ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى جَوَازِ التَّحَيُّلِ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَأَدِلَّةُ الْجِهَةِ الْأُخْرَى مُقَرَّرَةٌ وَاضِحَةٌ شَهِيرَةٌ فَطَالِعْهَا فِي مَوَاضِعِهَا، وَإِنَّمَا قُصِدَ هُنَا هَذَا التَّقْرِيرُ الْغَرِيبُ لِقِلَّةِ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ مِنْ كُتُبِ أَهْلِهِ‏;‏ إِذْ كُتُبُ الْحَنَفِيَّةِ كَالْمَعْدُومَةِ الْوُجُودِ فِي بِلَادِ الْمَغْرِبِ، وَكَذَلِكَ كُتُبُ الشَّافِعِيَّةِ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْمَذَاهِبِ، وَمَعَ أَنَّ اعْتِيَادَ الِاسْتِدْلَالِ لِمَذْهَبٍ وَاحِدٍ رُبَّمَا يُكْسِبُ الطَّالِبَ نُفُورًا، وَإِنْكَارًا لِمَذْهَبٍ غَيْرِ مَذْهَبِهِ مِنْ غَيْرِ إِطْلَاعٍ عَلَى مَأْخَذِهِ فَيُورِثُ ذَلِكَ حَزَازَةً فِي الِاعْتِقَادِ فِي الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى فَضْلِهِمْ، وَتَقَدُّمِهِمْ فِي الدِّينِ وَاضْطِلَاعِهِمْ بِمَقَاصِدِ الشَّارِعِ، وَفَهْمِ أَغْرَاضِهِ، وَقَدْ وُجِدَ هَذَا كَثِيرًا وَلْنَكْتَفِ بِهَذَيْنَ الْمِثَالَيْنِ فَهُمَا مِنْ أَشْهَرِ الْمَسَائِلِ فِي بَابِ الْحِيَلِ، وَيُقَاسُ عَلَى النَّظَرِ فِيهِمَا النَّظَرُ فِيمَا سِوَاهُمَا‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏في خَاتِمَةٍ لِكِتَابِ الْمَقَاصِدِ تَكُونُ بَيَانًا لَهُ‏]‏

هَذَا الْقِسْمُ يَشْتَمِلُ عَلَى مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ جِدًّا، وَقَدْ مَرَّ مِنْهَا فِيمَا تَقَدَّمَ تَفْرِيعًا عَلَى الْمَسَائِلِ الْمُقَرَّرَةِ كَثِيرٌ، وَسَيَأْتِي مِنْهُ مَسَائِلُ أُخَرُ تَفْرِيعًا أَيْضًا وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ خَاتِمَةٍ تَكُرُّ عَلَى كِتَابِ الْمَقَاصِدِ بِالْبَيَانِ، وَتُعَرِّفُ بِتَمَامِ الْمَقْصُودِ فِيهِ بِحَوْلِ اللَّهِ، فَإِنَّ لِلْقَائِلِ أَنْ يَقُولَ‏:‏ إِنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْمَسَائِلِ فِي هَذَا الْكِتَابِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمَعْرِفَةِ بِمَقْصُودِ الشَّارِعِ، فَبِمَاذَا يُعْرَفُ مَا هُوَ مَقْصُودٌ لَهُ مِمَّا لَيْسَ بِمَقْصُودٍ لَهُ‏؟‏

وَالْجَوَابُ‏:‏ أَنَّ النَّظَرَ هَا هُنَا يَنْقَسِمُ بِحَسَبِ التَّقْسِيمِ الْعَقْلِيِّ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ‏:‏

أَحَدُهَا‏:‏ أَنْ يُقَالَ‏:‏ إِنَّ مَقْصِدَ الشَّارِعِ غَائِبٌ عَنَّا حَتَّى يَأْتِيَنَا مَا يُعَرِّفُنَا بِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا بِالتَّصْرِيحِ الْكَلَامِيِّ مُجَرَّدًا عَنْ تَتَبُّعِ الْمَعَانِي الَّتِي يَقْتَضِيهَا الِاسْتِقْرَاءُ وَلَا تَقْتَضِيهَا الْأَلْفَاظُ بِوَضْعِهَا اللُّغَوِيِّ، إِمَّا مَعَ الْقَوْلِ بِأَنَّ التَّكَالِيفَ لَمْ يُرَاعَ فِيهَا مَصَالِحُ الْعِبَادِ عَلَى حَالٍ، وَإِمَّا مَعَ الْقَوْلِ بِمَنْعِ وُجُوبِ مُرَاعَاةِ الْمَصَالِحِ، وَإِنْ وَقَعَتْ فِي بَعْضٍ فَوَجْهُهَا غَيْرُ مَعْرُوفٍ لَنَا عَلَى التَّمَامِ، أَوْ غَيْرُ مَعْرُوفٍ أَلْبَتَّةَ، وَيُبَالَغُ فِي هَذَا حَتَّى يُمْنَعَ الْقَوْلُ بِالْقِيَاسِ، وَيُؤَكِّدُهُ مَا جَاءَ فِي ذَمِّ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ، وَحَاصِلُ هَذَا الْوَجْهِ الْحَمْلُ عَلَى الظَّاهِرِ مُطْلَقًا، وَهُوَ رَأْيُ الظَّاهِرِيَّةِ الَّذِينَ يَحْصُرُونَ مَظَانَّ الْعِلْمِ بِمَقَاصِدِ الشَّارِعِ فِي الظَّوَاهِرِ وَالنُّصُوصِ وَلَعَلَّهُ يُشَارُ إِلَيْهِ فِي كِتَابِ الْقِيَاسِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَإِنَّ الْقَوْلَ بِهِ بِإِطْلَاقٍ أَخْذٌ فِي طَرَفٍ تَشْهَدُ الشَّرِيعَةُ بِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ كَمَا قَالُوا‏.‏

وَالثَّانِي فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ مِنْ هَذَا إِلَّا أَنَّهُ ضَرْبَان‏:‏

الْأَوَّلُ‏:‏ دَعْوَى أَنَّ مَقْصِدَ الشَّارِعِ لَيْسَ فِي هَذِهِ الظَّوَاهِرِ وَلَا مَا يُفْهَمُ مِنْهَا، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَمْرٌ آخَرُ وَرَاءَهُ، وَيَطَّرِدُ هَذَا فِي جَمِيعِ الشَّرِيعَةِ حَتَّى لَا يَبْقَى فِي ظَاهِرِهَا مُتَمَسَّكٌ يُمْكِنُ أَنْ يُلْتَمَسَ مِنْهُ مَعْرِفَةُ مَقَاصِدِ الشَّارِعِ، وَهَذَا رَأْيُ كُلِّ قَاصِدٍ لِإِبْطَالِ الشَّرِيعَةِ، وَهُمُ الْبَاطِنِيَّةُ فَإِنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا بِالْإِمَامِ الْمَعْصُومِ لَمْ يُمْكِنْهُمْ ذَلِكَ إِلَّا بِالْقَدْحِ فِي النُّصُوصِ وَالظَّوَاهِرِ الشَّرْعِيَّةِ لِكَيْ يُفْتَقَرَ إِلَيْهِ عَلَى زَعْمِهِمْ، وَمَآلُ هَذَا الرَّأْيِ إِلَى الْكُفْرِ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يُلْتَفَتَ إِلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ‏.‏

فَلْنَنْزِلْ عَنْهُ إِلَى قِسْمٍ آخَرَ يُقَرِّبُ مِنْ مُوَازَنَةِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ الضَّرْبُ الثَّانِي، بِأَنْ يُقَالَ‏:‏ إِنَّ مَقْصُودَ الشَّارِعِ الِالْتِفَاتُ إِلَى مَعَانِي الْأَلْفَاظِ بِحَيْثُ لَا تُعْتَبَرُ الظَّوَاهِرُ وَالنُّصُوصُ إِلَّا بِهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَإِنْ خَالَفَ النَّصُّ الْمَعْنَى النَّظَرِيَّ اطُّرِحْ، وَقُدِّمَ الْمَعْنَى النَّظَرِيُّ، وَهُوَ إِمَّا بِنَاءً عَلَى وُجُوبِ مُرَاعَاةِ الْمَصَالِحِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، أَوْ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ، لَكِنْ مَعَ تَحْكِيمِ الْمَعْنَى جِدًّا حَتَّى تَكُونَ الْأَلْفَاظُ الشَّرْعِيَّةُ تَابِعَةً لِلْمَعَانِي النَّظَرِيَّةِ، وَهُوَ رَأْيُ الْمُتَعَمِّقِينَ فِي الْقِيَاسِ الْمُقَدِّمِينَ لَهُ عَلَى النُّصُوصِ، وَهَذَا فِي طَرَفٍ آخَرَ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ أَنْ يُقَالَ بِاعْتِبَارِ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا عَلَى وَجْهٍ لَا يُخِلُّ فِيهِ الْمَعْنَى بِالنَّصِّ وَلَا بِالْعَكْسِ لِتَجْرِيَ الشَّرِيعَةُ عَلَى نِظَامٍ وَاحِدٍ، لَا اخْتِلَافَ فِيهِ وَلَا تَنَاقُضَ، وَهُوَ الَّذِي أَمَّهُ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ فَعَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ فِي الضَّابِطِ الَّذِي بِهِ يُعَرِّفُ مَقْصِدَ الشَّارِعِ‏.‏

فَنَقُولُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ‏:‏ إِنَّهُ يُعْرَفُ مِنْ جِهَاتٍ‏:‏ إِحْدَاهَا‏:‏

مُجَرَّدُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الِابْتِدَائِيِّ التَّصْرِيحِيِّ، فَإِنَّ الْأَمْرَ مَعْلُومٌ أَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ أَمْرًا لِاقْتِضَائِهِ الْفِعْلَ، فَوُقُوعُ الْفِعْلِ عِنْدَ وُجُودِ الْأَمْرِ بِهِ مَقْصُودٌ لِلشَّارِعِ، وَكَذَلِكَ النَّهْيُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ مُقْتَضٍ لِنَفْيِ الْفِعْلِ، أَوِ الْكَفِّ عَنْهُ فَعَدَمُ وُقُوعِهِ مَقْصُودٌ لَهُ، وَإِيقَاعُهُ مُخَالِفٌ لِمَقْصُودِهِ كَمَا أَنَّ عَدَمَ إِيقَاعِ الْمَأْمُورِ بِهِ مُخَالِفٌ لِمَقْصُودِهِ، فَهَذَا وَجْهٌ ظَاهِرٌ عَامٌّ لِمَنِ اعْتَبَرَ مُجَرَّدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى عِلَّةٍ وَلِمَنِ اعْتَبَرَ الْعِلَلَ وَالْمَصَالِحَ، وَهُوَ الْأَصْلُ الشَّرْعِيُّ‏.‏

وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِالِابْتِدَائِيِّ تَحَرُّزًا مِنَ الْأَمْرِ، أَوِ النَّهْيِ الَّذِي قُصِدَ بِهِ غَيْرُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ‏}‏ ‏[‏الْجُمْعَة‏:‏ 9‏]‏، فَإِنَّ النَّهْيَ عَنِ الْبَيْعِ لَيْسَ نَهْيًا مُبْتَدَأً، بَلْ هُوَ تَأْكِيدٌ لِلْأَمْرِ بِالسَّعْيِ فَهُوَ مِنَ النَّهْيِ الْمَقْصُودِ بِالْقَصْدِ الثَّانِي‏.‏

فَالْبَيْعُ لَيْسَ مَنْهِيًّا عَنْهُ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ كَمَا نُهِيَ عَنِ الرِّبَا وَالزِّنَا مَثَلًا، بَلْ لِأَجْلِ تَعْطِيلِ السَّعْيِ عِنْدَ الِاشْتِغَالِ بِهِ، وَمَا شَأْنُهُ هَذَا فَفِي فَهْمِ قَصْدِ الشَّارِعِ مِنْ مُجَرَّدِهِ نَظَرٌ وَاخْتِلَافٌ مَنْشَؤُهُ مِنْ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ الْمُتَرْجَمَةِ بِالصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ‏.‏

وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِالتَّصْرِيحِيِّ تَحَرُّزًا مِنَ الْأَمْرِ، أَوِ النَّهْيِ الضِّمْنِىِّ الَّذِي لَيْسَ بِمُصَرَّحٍ بِهِ كَالنَّهْيِ عَنْ أَضْدَادِ الْمَأْمُورِ بِهِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ الْأَمْرُ وَالْأَمْرُ الَّذِي تَضَمَّنَهُ النَّهْيُ عَنِ الشَّيْءِ، فَإِنَّ النَّهْيَ وَالْأَمْرَ هَا هُنَا إِنْ قِيلَ بِهِمَا فَهُمَا بِالْقَصْدِ الثَّانِي، لَا بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ‏;‏ إِذْ مَجْرَاهُمَا عِنْدَ الْقَائِلِ بِهِمَا مَجْرَى التَّأْكِيدِ لِلْأَمْرِ، أَوِ النَّهْيِ الْمُصَرَّحِ بِهِ‏.‏

فَأَمَّا إِنْ قِيلَ بِالنَّفْيِ فَالْأَمْرُ أَوْضَحُ فِي عَدَمِ الْقَصْدِ، وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ بِمَا لَا يَتِمُّ الْمَأْمُورُ إِلَّا بِهِ، الْمَذْكُورُ فِي مَسْأَلَةِ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ‏.‏

فَدَلَالَةُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِي هَذَا عَلَى مَقْصُودِ الشَّارِعِ مُتَنَازَعٌ فِيهِ فَلَيْسَ دَاخِلًا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ وَلِذَلِكَ قُيِّدَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ بِالتَّصْرِيحِيِّ‏.‏

وَالثَّانِيَةُ‏:‏ اعْتِبَارُ عِلَلِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَلِمَاذَا أُمِرَ بِهَذَا الْفِعْلِ‏؟‏ وَلِمَاذَا نُهِيَ عَنْ هَذَا الْآخَرِ‏؟‏

وَالْعِلَّةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَتْ مَعْلُومَةً اتُّبِعَتْ فَحَيْثُ وُجِدَتْ وُجِدَ مُقْتَضَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مِنَ الْقَصْدِ، أَوْ عَدَمِهِ كَالنِّكَاحِ لِمَصْلَحَةِ التَّنَاسُلِ وَالْبَيْعِ لِمَصْلَحَةِ الِانْتِفَاعِ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَالْحُدُودِ لِمَصْلَحَةِ الِازْدِجَارِ، وَتُعْرَفُ الْعِلَّةُ هُنَا بِمَسَالِكِهَا الْمَعْلُومَةِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، فَإِذَا تَعَيَّنَتْ عُلِمَ أَنَّ مَقْصُودَ الشَّارِعِ مَا اقْتَضَتْهُ تِلْكَ الْعِلَلُ مِنَ الْفِعْلِ، أَوْ عَدَمِهِ، وَمِنَ التَّسَبُّبِ، أَوْ عَدَمِهِ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَعْلُومَةٍ، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّوَقُّفِ عَنِ الْقَطْعِ عَلَى الشَّارِعِ أَنَّهُ قَصَدَ كَذَا، وَكَذَا إِلَّا أَنَّ التَّوَقُّفَ هُنَا لَهُ وَجْهَانِ مِنَ النَّظَرِ‏.‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنْ لَا يَتَعَدَّى الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ الْمُعَيَّنِ، أَوِ السَّبَبِ الْمُعَيَّنِ‏;‏ لِأَنَّ التَّعَدِّيَ مَعَ الْجَهْلِ بِالْعِلَّةِ تَحَكُّمٌ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَضَلَالٌ عَلَى غَيْرِ سَبِيلٍ وَلَا يَصِحُّ الْحُكْمُ عَلَى زَيْدٍ بِمَا وُضِعَ حُكْمًا عَلَى عَمْرٍو، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ أَنَّ الشَّارِعَ قَصَدَ الْحُكْمَ بِهِ عَلَى زَيْدٍ أَوْ لَا‏;‏ لِأَنَّا إِذَا لَمْ نَعْلَمْ ذَلِكَ أَمْكَنَ أَنْ لَا يَكُونَ حُكْمًا عَلَيْهِ فَنَكُونَ قَدْ أَقْدَمْنَا عَلَى مُخَالَفَةِ الشَّارِعِ فَالتَّوَقُّفُ هُنَا لِعَدَمِ الدَّلِيلِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَحْكَامِ الْمَوْضُوعَةِ شَرْعًا أَنْ لَا يُتَعَدَّى بِهَا مَحَالُّهَا حَتَّى يُعْرَفَ قَصْدُ الشَّارِعِ لِذَلِكَ التَّعَدِّي‏;‏ لِأَنَّ عَدَمَ نَصْبِهِ دَلِيلًا عَلَى التَّعَدِّي دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ التَّعَدِّي‏;‏ إِذْ لَوْ كَانَ عِنْدَ الشَّارِعِ مُتَعَدِّيًا لَنَصَبَ عَلَيْهِ دَلِيلًا، وَوَضَعَ لَهُ مَسْلَكًا، وَمَسَالِكُ الْعِلَّةِ مَعْرُوفَةٌ، وَقَدْ خُبِرَ بِهَا مَحَلُّ الْحُكْمِ، فَلَمْ تُوجَدْ لَهُ عِلَّةٌ يَشْهَدُ لَهَا مَسْلَكٌ مِنَ الْمَسَالِكِ فَصَحَّ أَنَّ التَّعَدِّيَ لِغَيْرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِلشَّارِعِ‏.‏

فَهَذَانَ مَسْلَكَانِ كِلَاهُمَا مُتَّجِهٌ فِي الْمَوْضِعِ إِلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ يَقْتَضِي التَّوَقُّفَ مِنْ غَيْرِ جَزْمٍ بِأَنَّ التَّعَدِّيَ الْمَفْرُوضَ غَيْرُ مُرَادٍ، وَيَقْتَضِي هَذَا إِمْكَانَ أَنَّهُ مُرَادٌ فَيَبْقَى النَّاظِرُ بَاحِثًا حَتَّى يَجِدَ مَخْلَصًا‏;‏ إِذْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودَ الشَّارِعِ، وَيُمْكِنُ أَنْ لَا يَكُونَ مَقْصُودًا لَهُ، وَالثَّانِي يَقْتَضِي جَزْمَ الْقَضِيَّةِ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ فَيَنْبَنِي عَلَيْهِ نَفْيُ التَّعَدِّي مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ، وَيُحْكَمُ بِهِ عِلْمًا، أَوْ ظَنًّا بِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ لَهُ‏;‏ إِذْ لَوْ كَانَ مَقْصُودًا لَنَصَبَ عَلَيْهِ دَلِيلًا وَلَمَّا لَمْ نَجِدْ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ، فَإِنْ أَتَى مَا يُوَضِّحُ خِلَافَ الْمُعْتَقَدِ رُجِعَ إِلَيْهِ كَالْمُجْتَهِدِ يَجْزِمُ الْقَضِيَّةَ فِي الْحُكْمِ، ثُمَّ يَطَّلِعُ بَعْدُ عَلَى دَلِيلٍ يَنْسَخُ جَزْمَهُ إِلَى خِلَافِهِ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ فَهُمَا مَسْلَكَانِ مُتَعَارِضَانِ‏;‏ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَقْتَضِي التَّوَقُّفَ وَالْآخَرَ لَا يَقْتَضِيهِ، وَهُمَا فِي النَّظَرِ سَوَاءٌ، فَإِذَا اجْتَمَعَا تَدَافَعَا أَحْكَامَهُمَا، فَلَا يَبْقَى إِلَّا التَّوَقُّفُ، وَحْدَهُ فَكَيْفَ يَتَّجِهَانِ مَعًا‏؟‏

فَالْجَوَابُ أَنَّهُمَا قَدْ يَتَعَارَضَانِ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ، فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ لِأَنَّهُمَا كَدَلِيلَيْنِ لَمْ يَتَرَجَّحْ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ فَيَتَفَرَّعَ الْحُكْمُ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ عَلَى مَسْأَلَةِ تَعَارُضِ الدَّلِيلَيْنِ، وَقَدْ لَا يَتَعَارَضَانِ بِحَسَبِ مُجْتَهِدَيْنَ، أَوْ مُجْتَهِدٍ وَاحِدٍ فِي وَقْتَيْنِ، أَوْ مَسْأَلَتَيْنِ فَيَقْوَى عِنْدَهُ مَسْلَكُ التَّوَقُّفِ فِي مَسْأَلَةٍ، وَمَسْلَكُ النَّفْيِ فِي مَسْأَلَةٍ أُخْرَى، فَلَا تَعَارُضَ عَلَى الْإِطْلَاقِ‏.‏

وَأَيْضًا فَقَدْ عَلِمْنَا مِنْ مَقْصِدِ الشَّارِعِ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ الْعِبَادَاتِ وَالْعَادَاتِ، وَأَنَّهُ غَلَّبَ فِي بَابِ الْعِبَادَاتِ جِهَةَ التَّعَبُّدِ، وَفِي بَابِ الْعَادَاتِ جِهَةَ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْمَعَانِي وَالْعَكْسُ فِي الْبَابَيْنِ قَلِيلٌ وَلِذَلِكَ لَمْ يَلْتَفِتْ مَالِكٌ فِي إِزَالَةِ الْأَنْجَاسِ وَرَفْعِ الْأَحْدَاثِ إِلَى مُجَرَّدِ النَّظَافَةِ حَتَّى اشْتَرَطَ الْمَاءَ الْمُطْلَقَ، وَفِي رَفْعِ الْأَحْدَاثِ النِّيَّةَ، وَإِنْ حَصَلَتِ النَّظَافَةُ دُونَ ذَلِكَ وَامْتَنَعَ مِنْ إِقَامَةِ غَيْرِ التَّكْبِيرِ وَالتَّسْلِيمِ مَقَامَهُمَا، وَمَنَعَ مِنْ إِخْرَاجِ الْقِيَمِ فِي الزَّكَاةِ وَاقْتَصَرَ عَلَى مُجَرَّدِ الْعَدَدِ فِي الْكَفَّارَاتِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي تَقْتَضِي الِاقْتِصَارَ عَلَى عَيْنِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، أَوْ مَا مَاثَلَهُ‏.‏

وَغَلَّبَ فِي بَابِ الْعَادَاتِ الْمَعْنَى فَقَالَ فِيهَا بِقَاعِدَةِ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ وَالِاسْتِحْسَانِ الَّذِي قَالَ فِيه‏:‏ إِنَّهُ تِسْعَةُ أَعْشَارِ الْعِلْمِ إِلَى مَا يَتْبَعُ ذَلِكَ، وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ فِي هَذَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَمَسْلَكُ النَّفْيِ مُتَمَكِّنٌ فِي الْعِبَادَاتِ، وَمَسْلَكُ التَّوَقُّفِ مُتَمَكِّنٌ فِي الْعَادَاتِ‏.‏

وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ تُرَاعَى الْمَعَانِي فِي بَابِ الْعِبَادَاتِ، وَقَدْ ظَهَرَ مِنْهُ شَيْءٌ فَيَجْرِي الْبَاقِي عَلَيْهِ، وَهِيَ طَرِيقَةُ الْحَنَفِيَّةِ، وَالتَّعَبُّدَاتُ فِي بَابِ الْعَادَاتِ، وَقَدْ ظَهَرَ مِنْهُ شَيْءٌ فَيَجْرِي الْبَاقِي عَلَيْهِ، وَهِيَ طَرِيقَةُ الظَّاهِرِيَّةِ وَلَكِنَّ الْعُمْدَةَ مَا تَقَدَّمَ، وَقَاعِدَةُ النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ وَالِاسْتِصْحَابِ رَاجِعَةٌ إِلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ‏.‏

وَالْجِهَةُ الثَّالِثَةُ أَنَّ لِلشَّارِعِ فِي شَرْعِ الْأَحْكَامِ الْعَادِيَّةِ وَالْعِبَادِيَّةِ مَقَاصِدَ أَصْلِيَّةً، وَمَقَاصِدَ تَابِعَةً‏.‏

مِثَالُ ذَلِكَ‏:‏ النِّكَاحُ، فَإِنَّهُ مَشْرُوعٌ لِلتَّنَاسُلِ عَلَى الْقَصْدِ الْأَوَّلِ، وَيَلِيهِ طَلَبُ السَّكَنِ وَالِازْدِوَاجِ، وَالتَّعَاوُنُ عَلَى الْمَصَالِحِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِالْحَلَالِ وَالنَّظَرِ إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنَ الْمَحَاسِنِ فِي النِّسَاءِ وَالتَّجَمُّلِ بِمَالِ الْمَرْأَةِ أَوْ قِيَامِهَا عَلَيْهِ، وَعَلَى أَوْلَادِهِ مِنْهَا، أَوْ مِنْ غَيْرِهَا، أَوْ إِخْوَتِهِ، وَالتَّحَفُّظُ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْمَحْظُورِ مِنْ شَهْوَةِ الْفَرْجِ وَنَظَرِ الْعَيْنِ، وَالِازْدِيَادُ مِنَ الشُّكْرِ بِمَزِيدِ النِّعَمِ مِنَ اللَّهِ عَلَى الْعَبْدِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَجَمِيعُ هَذَا مَقْصُودٌ لِلشَّارِعِ مِنْ شَرْعِ النِّكَاحِ، فَمِنْهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ، أَوْ مُشَارٌ إِلَيْهِ، وَمِنْهُ مَا عُلِمَ بِدَلِيلٍ آخَرَ، وَمَسْلَكٍ اسْتُقْرِئَ مِنْ ذَلِكَ الْمَنْصُوصِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَا نَصَّ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْمَقَاصِدِ التَّوَابِعِ هُوَ مُثْبِتٌ لِلْمَقْصِدِ الْأَصْلِيِّ، وَمُقَوٍّ لِحِكْمَتِهِ، وَمُسْتَدْعٍ لِطَلَبِهِ، وَإِدَامَتِهِ، وَمُسْتَجْلِبٌ لِتَوَالِي التَّرَاحُمِ وَالتَّوَاصُلِ وَالتَّعَاطُفِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ مَقْصِدُ الشَّارِعِ الْأَصْلِيُّ مِنَ التَّنَاسُلِ، فَاسْتَدْلَلْنَا بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ مِمَّا شَأْنُهُ ذَلِكَ مَقْصُودٌ لِلشَّارِعِ أَيْضًا كَمَا رُوِيَ مِنْ فِعْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي نِكَاحِ أُمِّ كُلْثُومِ بِنْتِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ طَلَبًا لِشَرَفِ النَّسَبِ، وَمُوَاصَلَةِ أَرْفَعِ الْبُيُوتَاتِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَلَا شَكَّ أَنَّ النِّكَاحَ لِمِثْلِ هَذِهِ الْمَقَاصِدِ سَائِغٌ، وَأَنَّ قَصْدَ التَّسَبُّبِ لَهُ حَسَنٌ‏.‏

وَعِنْدَ ذَلِكَ يَتَبَيَّنُ أَنَّ نَوَاقِضَ هَذِهِ الْأُمُورِ مُضَادَّةٌ لِمَقَاصِدِ الشَّارِعِ بِإِطْلَاقٍ مِنْ حَيْثُ كَانَ مَآلُهَا إِلَى ضِدِّ الْمُوَاصَلَةِ وَالسَّكَنِ وَالْمُوَافَقَةِ كَمَا إِذَا نَكَحَهَا لِيُحِلَّهَا لِمَنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، فَإِنَّهُ عِنْدَ الْقَائِلِ بِمَنْعِهِ مُضَادٌّ لِقَصْدِ الْمُوَاصَلَةِ الَّتِي جَعَلَهَا الشَّارِعُ مُسْتَدَامَةً إِلَى انْقِطَاعِ الْحَيَاةِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ‏;‏ إِذْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمُقَاطَعَةَ بِالطَّلَاقِ، وَكَذَلِكَ نِكَاحُ الْمُتْعَةِ وَكُلُّ نِكَاحٍ عَلَى هَذَا السَّبِيلِ، وَهُوَ أَشَدُّ فِي ظُهُورِ مُحَافَظَةِ الشَّارِعِ عَلَى دَوَامِ الْمُوَاصَلَةِ حَيْثُ نَهَى عَمَّا لَمْ يَكُنْ فِيهِ ذَلِكَ‏.‏

وَهَكَذَا الْعِبَادَاتُ، فَإِنَّ الْمَقْصِدَ الْأَصْلِيَّ فِيهَا التَّوَجُّهُ إِلَى الْوَاحِدِ الْمَعْبُودِ، وَإِفْرَادُهُ بِالْقَصْدِ إِلَيْهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَيَتْبَعُ ذَلِكَ قَصْدُ التَّعَبُّدِ لِنَيْلِ الدَّرَجَاتِ فِي الْآخِرَةِ، أَوْ لِيَكُونَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذِهِ التَّوَابِعَ مُؤَكِّدَةٌ لِلْمَقْصُودِ الْأَوَّلِ، وَبَاعِثَةٌ عَلَيْهِ، وَمُقْتَضِيَةٌ لِلدَّوَامِ فِيهِ سِرًّا وَجَهْرًا بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ الْقَصْدُ إِلَى التَّابِعِ لَا يَقْتَضِي دَوَامَ الْمَتْبُوعِ وَلَا تَأْكِيدَهُ كَالتَّعَبُّدِ بِقَصْدِ حِفْظِ الْمَالِ وَالدَّمِ، أَوْ لِيَنَالَ مِنْ أَوْسَاخِ النَّاسِ، أَوْ مِنْ تَعْظِيمِهِمْ كَفِعْلِ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُرَائِينَ، فَإِنَّ الْقَصْدَ إِلَى هَذِهِ الْأُمُورِ لَيْسَ بِمُؤَكَّدٍ وَلَا بَاعِثٍ عَلَى الدَّوَامِ، بَلْ هُوَ مُقَوٍّ لِلتَّرْكِ، وَمُكَسِّلٌ عَنِ الْفِعْلِ وَلِذَلِكَ لَا يَدُومُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ إِلَّا رَيْثَمَا يَتَرَصَّدُ بِهِ مَطْلُوبَهُ، فَإِنْ بَعُدَ عَلَيْهِ تَرَكَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْحَجّ‏:‏ 11‏]‏‏.‏

فَمِثْلُ هَذَا الْمَقْصِدِ مُضَادٌّ لِقَصْدِ الشَّارِعِ إِذَا قُصِدَ الْعَمَلُ لِأَجْلِهِ، وَإِنْ كَانَ مُقْتَضَاهُ حَاصِلًا بِالتَّبَعِيَّةِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، فَإِنَّ النَّاكِحَ عَلَى الْمَقْصِدِ الْمُؤَكِّدِ لِبَقَاءِ النِّكَاحِ قَدْ يَحْصُلُ لَهُ الْفِرَاقُ فَيَسْتَوِي مَعَ النَّاكِحِ لِلْمُتْعَةِ وَالتَّحْلِيلِ وَالْمُتَعَبِّدِ لِلَّهِ عَلَى الْقَصْدِ الْمُؤَكِّدِ، يَحْصُلُ لَهُ حِفْظُ الدَّمِ وَالْمَالِ، وَنَيْلُ الْمَرَاتِبِ وَالتَّعْظِيمُ فَيَسْتَوِي مَعَ الْمُتَعَبِّدِ لِلرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ وَلَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ قَاصِدَ التَّابِعِ الْمُؤَكِّدِ حَرٍ بِالدَّوَامِ، وَقَاصِدُ التَّابِعِ غَيْرُ الْمُؤَكِّدِ حَرٍ بِالِانْقِطَاعِ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ هَذِهِ الْمُضَادَّةُ هَلْ تَعْتَبَرُ مِنْ حَيْثُ تَقْتَضِي عَيْنًا أَمْ يُكْتَفَى فِيهَا بِكَوْنِهَا لَا تَقْتَضِي الْمُوَافَقَةَ‏؟‏

وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ نِكَاحَ الْمُتْعَةِ يَقْتَضِي الْمُقَاطَعَةَ عَيْنًا، فَلَا يَصِحُّ‏;‏ لِأَنَّ مُخَالَفَتَهُ لِقَصْدِ الشَّارِعِ عَيْنِيَّةٌ، وَنِكَاحُ الْقَاصِدِ لِمُضَارَّةِ الزَّوْجَةِ، أَوْ لِأَخْذِ مَالِهَا، أَوْ لِيُوقِعَ بِهَا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مَا لَا يَقْتَضِي مُوَاصَلَةً وَلَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي عَيْنَ الْمُقَاطَعَةِ- مُخَالِفٌ لِقَصْدِ الشَّارِعِ فِي شَرْعِ النِّكَاحِ وَلَكِنَّهُ لَا يَقْتَضِي الْمُخَالَفَةَ عَيْنًا‏;‏ إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ قَصْدِ مُضَارَّةِ الزَّوْجَةِ وُقُوعُهَا وَلَا مِنْ وُقُوعِ الْمُضَارَّةِ وُقُوعُ الطَّلَاقِ ضَرْبَةَ لَازِبٍ لِجَوَازِ الصُّلْحِ، أَوِ الْحُكْمِ عَلَى الزَّوْجِ، أَوْ زَوَالِ ذَلِكَ الْخَاطِرِ السَّبَبِيِّ، وَإِنْ كَانَ الْقَصْدُ الْأَوَّلُ مُقْتَضِيًا فَلَيْسَ اقْتِضَاؤُهُ عَيْنِيًّا‏.‏

فَالْجَوَابُ أَنَّ اقْتِضَاءَ الْمُخَالَفَةِ الْعَيْنِيَّةِ لَا شَكَّ فِي امْتِنَاعِهَا، وَبُطْلَانِ مُقْتَضَاهَا مُطْلَقًا فِي الْعِبَادَاتِ وَالْعَادَاتِ مَعًا، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُتَعَبَّدَ لِلَّهِ بِمَا يَظْهَرُ أَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فِي الْمَقَاصِدِ، وَإِنْ أَمْكَنَ كَوْنُهُ مَشْرُوعًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَكَذَلِكَ لَا يَصِحُّ لَهُ أَنْ يُتَزَوَّجَ بِذَلِكَ الْقَصْدِ، وَأَمَّا مَا لَا يَقْتَضِي الْمُخَالَفَةَ عَيْنًا كَالنِّكَاحِ بِقَصْدِ الْمُضَارَّةِ، وَكَنِكَاحِ التَّحْلِيلِ عِنْدَ مَنْ يُصَحِّحُهُ، فَإِنَّ هُنَا وَجْهَيْنِ مِنَ النَّظَرِ، فَإِنَّ الْقَصْدَ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُوَافِقٍ لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ عَيْنُ الْمُخَالَفَةِ، فَمَنْ تَرَجَّحَ عِنْدَهُ جَانِبُ عَدَمِ الْمُوَافَقَةِ مَنَعَ، وَمَنْ تَرَجَّحَ عِنْدَهُ جَانِبُ عَدَمِ تَعَيُّنِ الْمُخَالَفَةِ لَمْ يَمْنَعْ، وَيَظْهَرُ هَذَا فِي مِثَالِ نِكَاحِ الْمُضَارَّةِ، فَإِنَّهُ مِنْ بَابِ التَّعَاوُنِ بِالنِّكَاحِ الْجَائِزِ فِي نَفْسِهِ عَلَى الْإِثْمِ وَالْمَمْنُوعِ‏.‏

فَالنِّكَاحُ مُنْفَرِدٌ بِالْحُكْمِ فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ فِي الْبَقَاءِ، أَوِ الْفُرْقَةِ مُمْكِنٌ إِلَّا أَنَّ الْمُضَارَّةَ مَظِنَّةٌ لِلتَّفَرُّقِ فَمَنِ اعْتَبَرَ هَذَا الْمِقْدَارَ مَنَعَ، وَمَنْ لَمْ يَعْتَبِرْهُ أَجَازَ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏في إِثْبَاتِ الْمَقَاصِدِ التَّابِعَةِ فِي الْعِبَادَاتِ‏]‏

وَهَذَا الْبَحْثُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ لِلشَّارِعِ مَقَاصِدَ تَابِعَةً فِي الْعِبَادَاتِ وَالْعَادَاتِ مَعًا‏.‏

أَمَّا فِي الْعَادَاتِ فَهُوَ ظَاهِرٌ، وَقَدْ مَرَّ مِنْهُ أَمْثِلَةٌ، وَأَمَّا فِي الْعِبَادَاتِ، فَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ فِيهَا‏.‏

فَالصَّلَاةُ مَثَلًا أَصْلُ مَشْرُوعِيَّتِهَا الْخُضُوعُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ بِإِخْلَاصِ التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ، وَالِانْتِصَابُ عَلَى قَدَمِ الذِّلَّةِ وَالصَّغَارِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَتَذْكِيرُ النَّفْسِ بِالذِّكْرِ لَهُ، قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 14‏]‏، وَقَالَ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ‏}‏ ‏[‏الْعَنْكَبُوت‏:‏ 45‏]‏‏.‏

وَفِي الْحَدِيث‏:‏ «إِنَّ الْمُصَلِّيَ يُنَاجِي رَبَّهُ»‏.‏

ثُمَّ إِنَّ لَهَا مَقَاصِدَ تَابِعَةً كَالنَّهْيِ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالِاسْتِرَاحَةِ إِلَيْهَا مِنْ أَنْكَادِ الدُّنْيَا، فِي الْخَبَرِ أَرِحْنَا بِهَا يَا بِلَالُ»، وَفِي الصَّحِيحِ «وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ»، وَطَلَبِ الرِّزْقِ بِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 132‏]‏‏.‏

وَفِي الْحَدِيثِ تَفْسِيرُ هَذَا الْمَعْنَى، وَإِنْجَاحِ الْحَاجَاتِ كَصَلَاةِ الِاسْتِخَارَةِ وَصَلَاةِ الْحَاجَةِ، وَطَلَبِ الْفَوْزِ بِالْجَنَّةِ وَالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ، وَهِيَ الْفَائِدَةُ الْعَامَّةُ الْخَاصَّةُ، وَكَوْنِ الْمُصَلِّي فِي خِفَارَةِ اللَّهِ‏.‏

فِي الْحَدِيث‏:‏ «مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ لَمْ يَزَلْ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ»، وَنَيْلِ أَشْرَفِ الْمَنَازِلِ قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا‏}‏ ‏[‏الْإِسْرَاء‏:‏ 79‏]‏ فَأُعْطِيَ بِقِيَامِ اللَّيْلِ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ‏.‏

وَفِي الصِّيَامِ سَدُّ مَسَالِكِ الشَّيْطَانِ وَالدُّخُولُ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ وَالِاسْتِعَانَةُ عَلَى التَّحَصُّنِ فِي الْعُزْبَةِ، فِي الْحَدِيث‏:‏ «مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ»‏.‏

ثُمَّ قَالَ‏:‏ «وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ» وَقَالَ‏:‏ «الصِّيَامُ جُنَّةٌ»، وَقَالَ‏:‏ «وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ»‏.‏

وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْعِبَادَاتِ فِيهَا فَوَائِدُ أُخْرَوِيَّةٌ، وَهِيَ الْعَامَّةُ، وَفَوَائِدُ دُنْيَوِيَّةٌ، وَهِيَ كُلُّهَا تَابِعَةٌ لِلْفَائِدَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَهِيَ الِانْقِيَادُ وَالْخُضُوعُ لِلَّهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَبَعْدَ هَذَا يَتْبَعُ الْقَصْدُ الْأَصْلِيُّ جَمِيعَ مَا ذُكِرَ مِنْ فَوَائِدِهَا، وَسِوَاهَا، وَهِيَ تَابِعَةٌ فَيُنْظَرُ فِيهَا بِحَسَبِ التَّقْسِيمِ الْمُتَقَدِّمِ‏.‏

فَالْأَوَّلُ وَهُوَ الْمُؤَكِّدُ كَطَلَبِ الْأَجْرِ

الْعَامِّ، أَوِ الْخَاصِّ، وَضِدُّهُ كَطَلَبِ الْمَالِ وَالْجَاهِ، فَإِنَّ هَذَا الْقِسْمَ لَا يَتَأَكَّدُ بِهِ الْمَقْصِدُ الْأَصْلِيُّ، بَلْ هُوَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ‏.‏

وَالثَّالِثُ كَطَلَبِ قَطْعِ الشَّهْوَةِ بِالصِّيَامِ، وَسَائِرُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْمَقَاصِدِ التَّابِعَةِ فِي مَسْأَلَةِ الْحُظُوظِ، وَيَنْبَغِي تَحْقِيقُ النَّظَرِ فِيهَا، وَفِي الثَّانِي‏:‏ الْمُقْتَضِي لِعَدَمِ التَّأَكُّدِ، وَمَا يَقْتَضِي مِنْ ذَلِكَ ضِدَّ التَّأَكُّدِ عَيْنًا، وَمَا لَا يَقْتَضِيهِ عَيْنًا‏.‏

وَأَيْضًا فَهُنَا نَظَرٌ آخَرُ يَتَعَلَّقُ بِالْعِبَادَاتِ مِنْ حَيْثُ يُطْلَبُ بِهَا الْمَوَاهِبُ الَّتِي هِيَ نَتَائِجُ مَوْهُوبَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلْعَبْدِ الْمُطِيعِ، وَحِلًى يُحَلِّيهِ بِهَا، وَأَوَّلُ ذَلِكَ الثَّوَابُ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْفَوْزِ بِالْجَنَّةِ وَالدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْمَعْنَى إِذَا قُصِدَ بَاعِثًا عَلَى الْعَمَلِ الَّذِي أَصْلُ الْقَصْدِ بِهِ الْخُضُوعُ لِلَّهِ وَالتَّوَاضُعُ لِعَظَمَتِهِ‏;‏ كَانَ التَّعَبُّدُ لِلَّهِ مِنْ جِهَتِهِ صَحِيحًا لَا دَخَلَ فِيهِ وَلَا شَوْبَ‏;‏ لِأَنَّ الْقَصْدَ الرُّجُوعُ إِلَى مَنْ بِيَدِهِ ذَلِكَ وَالْإِخْلَاصُ لَهُ، وَمَا جَاءَ فِي ذَلِكَ مِمَّا عَدَّهُ بَعْضُهُمْ طَلَبًا لِلْإِجَارَةِ وَصَاحِبُهُ عَبْدُ سُوءٍ، فَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ عَلَيْهِ، وَمِنْ ذَلِكَ الطَّرَفُ الْآخَرُ الْعَامِلُ لِأَجْلِ أَنْ يُحْمَدَ، أَوْ يُعَظَّمَ، أَوْ يُعْطَى فَهَذَا عَامِلٌ عَلَى الرِّيَاءِ وَلَا يَثْبُتُ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ‏.‏

وَأَيْضًا فَإِنَّ عَمَلَهُ عَلَى غَيْرِ أَصَالَةٍ‏;‏ إِذْ لَا إِخْلَاصَ فِيهِ فَهُوَ عَبَثٌ، وَإِنْ فُرِضَ خَالِصًا لِلَّهِ، لَكِنْ قُصِدَ بِهِ حُصُولُ هَذِهِ النَّتِيجَةِ فَلَيْسَ هَذَا الْقَصْدُ بِمُقَوٍّ لِلْإِخْلَاصِ لِلَّهِ، بَلْ هُوَ مُقَوٍّ لِتَرْكِ الْإِخْلَاصِ‏.‏

اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُضْطَرًّا إِلَى الْعَطَاءِ فَيَسْأَلُ مِنَ اللَّهِ الْعَطَاءَ، وَيَسْأَلُ لَهُ لِأَجْلِ مَا أَصَابَهُ مِنَ الضَّرَّاءِ بِسَبَبِ الْمَنْعِ وَفَقْدِ الْأَسْبَابِ، وَيَكُونُ عَمَلُهُ بِمُقْتَضَى مَحْضِ الْإِخْلَاصِ لَا لِيَرَاهُ النَّاسُ، فَلَا إِشْكَالَ فِي صِحَّةِ هَذَا، فَإِنَّهُ عَمَلٌ مُقْتَضٍ لِمَا شُرِعَ لَهُ التَّعَبُّدُ، وَمُقَوٍّ لَهُ، وَأَصْلُهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 132‏]‏‏.‏

وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا اضْطَرَّ أَهْلُهُ إِلَى فَضْلِ اللَّهِ وَرِزْقِهِ أَمَرَهُمْ بِالصَّلَاةِ لِأَجْلِ هَذِهِ الْآيَةِ‏.‏

فَهَذِهِ صَلَاةٌ لِلَّهِ يُسْتَمْنَحُ بِهَا مَا عِنْدَ اللَّهِ، وَعَلَى هَذَا الْمَهِيعِ جَرَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَشَيْخُهُ فِيمَنْ أَظْهَرَ عَمَلَهُ لِتَثْبُتَ عَدَالَتُهُ، وَتَصِحَّ إِمَامَتُهُ وَلِيُقْتَدَى بِهِ إِذَا كَانَ مَأْمُورًا شَرْعًا بِذَلِكَ لِتَوَفُّرِ شُرُوطِهِ فِيهِ، وَعَدَمِ مَنْ يَقُومُ ذَلِكَ الْمَقَامَ، فَلَا بَأْسَ بِهِ عِنْدَهُمَا‏;‏ لِأَنَّهُ قَائِمٌ بِمَا أُمِرَ بِهِ، وَتِلْكَ الْعِبَادَةُ الظَّاهِرَةُ لَا تَقْدَحُ فِي أَصْلِ مَشْرُوعِيَّةِ الْعِبَادَةِ بِخِلَافِ مَنْ يَقْصِدُ نَفْسَ ثُبُوتِ الْعَدَالَةِ عِنْدَ النَّاسِ، أَوِ الْإِمَامَةِ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ مَخُوفٌ وَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ الْعَمَلُ الْمُدَاوَمَةَ‏;‏ لِأَنَّ فِيهِ مَا فِي طَلَبِ الْجَاهِ وَالتَّعْظِيمِ مِنَ الْخَلْقِ بِالْعِبَادَةِ‏.‏

وَمِمَّا يُنْظَرُ فِيهِ هُنَا الِانْقِطَاعُ إِلَى الْعَمَلِ لِنَيْلِ دَرَجَةِ الْوِلَايَةِ، أَوِ الْعِلْمِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَيَجْرِي فِيهِ الْأَمْرَانِ، وَدَلِيلُ الْجَوَازِ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا‏}‏ ‏[‏الْفُرْقَان‏:‏ 74‏]‏، وَحَدِيثُ النَّخْلَةِ حِينَ قَالَ عُمَرُ لِابْنِهِ عَبْدِ اللَّه‏:‏ لَأَنْ تَكُونَ قُلْتَهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كَذَا، وَكَذَا‏.‏

وَانْظُرْ فِي مَسْأَلَةِ الْعُتْبِيِّةِ تَرَى أَنَّ اخْتِلَافَ مَالِكٍ، وَشَيْخِهِ فِيهَا إِنَّمَا يَتَنَزَّلُ عَلَى هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ‏.‏

وَمِمَّا يُشْكِلُ مِنْ هَذَا النَّمَطِ التَّعَبُّدُ بِقَصْدِ تَجْرِيدِ النَّفْسِ بِالْعَمَلِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَى عَالَمِ الْأَرْوَاحِ وَرُؤْيَةِ الْمَلَائِكَةِ، وَخَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَنَيْلِ الْكَرَامَاتِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَى غَرَائِبِ الْعُلُومِ وَالْعَوَالِمِ الرُّوحَانِيَّةِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ‏:‏ إِنَّ قَصْدَ مِثْلِ هَذَا بِالتَّعَبُّدِ جَائِزٌ، وَسَائِغٌ‏;‏ لِأَنَّ حَاصِلَهُ رَاجِعٌ إِلَى طَلَبِ نَيْلِ دَرَجَةِ الْوِلَايَةِ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْ خَوَاصِّ اللَّهِ، وَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ مِنَ النَّاسِ، وَهَذَا صَحِيحٌ فِي الطَّلَبِ مَقْصُودٌ فِي الشَّرْعِ التَّرَقِّي إِلَيْهِ، وَدَلِيلُ الْجَوَازِ مَا تَقَدَّمَ فِي الْأَمْثِلَةِ قَبْلَ هَذَا وَلَا فَرْقَ‏.‏

وَقَدْ يُقَالُ‏:‏ إِنَّهُ خَارِجٌ عَنْ نَمَطِ مَا تَقَدَّمَ، فَإِنَّهُ تَخَرُّصٌ عَلَى عِلْمِ الْغَيْبِ، وَيَزِيدُ بِأَنَّهُ جَعَلَ عِبَادَةَ اللَّهِ وَسِيلَةً إِلَى ذَلِكَ، وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى الِانْقِطَاعِ عَنِ الْعِبَادَةِ‏;‏ لِأَنَّ صَاحِبَ هَذَا الْقَصْدِ دَاخِلٌ بِوَجْهٍ مَا تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْحَجّ‏:‏ 11‏]‏‏.‏

كَذَلِكَ هَذَا إِنْ وَصَلَ إِلَى مَا طَلَبَ فَرِحَ بِهِ وَصَارَ هُوَ قَصْدُهُ مِنَ التَّعَبُّدِ فَقَوِيَ فِي نَفْسِهِ مَقْصُودُهُ وَضَعُفَتِ الْعِبَادَةُ، وَإِنْ لَمْ يَصِلْ رَمَى بِالْعِبَادَةِ وَرُبَّمَا كَذَّبَ بِنَتَائِجِ الْأَعْمَالِ الَّتِي يَهَبُهَا اللَّهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ الْمُخْلِصِينَ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ سَمِعَ بِحَدِيث‏:‏ «مَنْ أَخْلَصَ لِلَّهِ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا ظَهَرَتْ يَنَابِيعُ الْحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ» فَتَعَرَّضَ لِذَلِكَ لِيَنَالَ الْحِكْمَةَ فَلَمْ يُفْتَحْ لَهُ بَابُهَا، فَبَلَغَتِ الْقِصَّةُ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ، فَقَالَ‏:‏ هَذَا أَخْلَصَ لِلْحِكْمَةِ وَلَمْ يُخْلِصْ لِلَّهِ، وَهَكَذَا يَجْرِي الْحُكْمُ فِي سَائِرِ الْمَعَانِي الْمَذْكُورَةِ، وَنَحْوِهَا وَلَا أَعْلَمُ دَلِيلًا يَدُلُّ عَلَى طَلَبِ هَذِهِ الْأُمُورِ، بَلْ ثَمَّ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، فَإِنَّ مَا غُيِّبَ عَنِ الْإِنْسَانِ مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّكْلِيفِ لَمْ يُطْلَبْ بِدَرَكِهِ وَلَا حُضَّ عَلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِ‏.‏

وَفِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ‏:‏ «مَا بَالُ الْهِلَالِ يَبْدُو رَقِيقًا كَالْخَيْطِ، ثُمَّ يَنْمُو إِلَى أَنْ يَصِيرَ بَدْرًا، ثُمَّ يَصِيرُ إِلَى حَالَتِهِ الْأُولَى‏؟‏ فَنَزَلَتْ‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 189‏]‏ فَجَعَلَ إِتْيَانَ الْبُيُوتِ مِنْ ظُهُورِهَا مِثَالًا شَامِلًا لِمُقْتَضَى هَذَا السُّؤَالِ‏;‏ لِأَنَّهُ تَطَلُّبٌ لِمَا لَمْ يُؤْمَرُ بِتَطَلُّبِهِ‏.‏

وَلَا يُقَالُ‏:‏ إِنَّ الْمَعْرِفَةَ بِاللَّهِ، وَبِصِفَاتِهِ، وَأَفْعَالِهِ عَلَى مِقْدَارِ الْمَعْرِفَةِ بِمَصْنُوعَاتِهِ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا الْعَوَالِمُ الرُّوحَانِيَّةُ، وَخَوَارِقُ الْعَادَاتِ فِيهَا تَقْوِيَةٌ لِلنَّفْسِ وَاتِّسَاعٌ فِي دَرَجَةِ الْعِلْمِ بِاللَّهِ تَعَالَى‏;‏ لِأَنَّا نَقُولُ‏:‏ إِنَّمَا يُطْلَبُ الْعِلْمُ شَرْعًا لِأَجْلِ الْعَمَلِ حَسَبَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدِّمَاتِ، وَمَا فِي عَالَمِ الشَّهَادَةِ كَافٍ، وَفَوْقَ الْكِفَايَةِ فَالزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ فَضْلٌ، وَأَيْضًا إِنْ كَانَ ذَلِكَ مَطْلُوبًا عَلَى الْجُمْلَةِ كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ‏:‏ ‏{‏رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 260‏]‏، فَإِنَّ الْجَوَابَ عَنْ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ‏:‏

أَحَدُهَا‏:‏ أَنَّ طَلَبَ الْخَوَارِقِ بِالدُّعَاءِ وَطَلَبَ فَتْحِ الْبَصِيرَةِ لِلْعِلْمِ بِهِ لَا نَكِيرَ فِيهِ، وَإِنَّمَا النَّظَرُ فِيمَنْ أَخَذَ يَعْبُدُ اللَّهَ، وَيَقْصِدُ بِذَلِكَ أَنْ يَرَى هَذِهِ الْأَشْيَاءَ، فَالدُّعَاءُ بَابُهُ مَفْتُوحٌ فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ شَرْعًا مَا لَمْ يَدْعُ بِمَعْصِيَةِ، وَالْعِبَادَةُ إِنَّمَا الْقَصْدُ بِهَا التَّوَجُّهُ لِلَّهِ، وَإِخْلَاصُ الْعَمَلِ لَهُ وَالْخُضُوعُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلَا تُحْتَمَلُ الشَّرِكَةُ وَلَوْلَا أَنَّ طَلَبَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ الْأُخْرَوِيِّ مُؤَكِّدٌ لِإِخْلَاصِ الْعَمَلِ لِلَّهِ فِي الْعِبَادَةِ لِمَا سَاغَ الْقَصْدُ إِلَيْهِ بِالْعِبَادَةِ مَعَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَرْبَابِ الْأَحْوَالِ يَعْزُبُ عَنْهُمْ هَذَا الْقَصْدُ، فَكَيْفَ يُجْعَلَانِ مَثَلَيْنِ‏؟‏ أَعْنِي طَلَبَ الْخَوَارِقِ بِالدُّعَاءِ مَعَ الْقَصْدِ إِلَيْهَا بِالْعِبَادَةِ، مَا أَبْعَدَ مَا بَيْنَهُمَا لِمَنْ تَأْمَّلَ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنَّهُ لَوْ لَمْ نَجِدْ مَا نَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ لَكَانَ لَنَا بَعْضُ الْعُذْرِ فِي التَّخَطِّي عَنْ عَالَمِ الشَّهَادَةِ إِلَى عَالَمِ الْغَيْبِ، فَكَيْفَ وَفِي عَالَمِ الشَّهَادَةِ مِنَ الْعَجَائِبِ وَالْغَرَائِبِ الْقَرِيبَةِ الْمَأْخَذِ السَّهْلَةِ الْمُلْتَمَسِ مَا يَفْنَى الدَّهْرُ وَهِيَ بَاقِيَةٌ لَمْ يُبْلَغْ مِنْهَا فِي الِاطِّلَاعِ وَالْمَعْرِفَةِ عُشْرُ الْمِعْشَارِ وَلَوْ نَظَرَ الْعَاقِلُ فِي أَقَلِّ الْآيَاتِ، وَأَذَلِّ الْمَخْلُوقَاتِ، وَمَا أَوْدَعَ بَارِيهَا فِيهَا مِنَ الْحِكَمِ وَالْعَجَائِبِ لَقَضَى الْعَجَبَ وَانْتَهَى إِلَى الْعَجْزِ فِي إِدْرَاكِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ نَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ أَنْ تَنْظُرَ فِيهِ كَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الْأَعْرَاف‏:‏ 185‏]‏ ‏{‏أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ‏}‏ ‏[‏الْغَاشِيَة‏:‏ 17- 18‏]‏ إِلَى آخِرِهَا‏.‏

‏{‏أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 6‏]‏ إِلَى تَمَامِ الْآيَاتِ‏.‏

وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالنَّظَرِ فِيمَا حَجَبَ عَنْهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمُ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ عَادَةً إِلَّا بِخَارِقَةٍ، فَإِنَّهُ إِحَالَةٌ عَلَى مَا يَنْدُرُ التَّوَصُّلُ إِلَيْهِ، وَإِذَا تَأَمَّلْتَ الْآيَاتِ الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا الْمَلَائِكَةُ، وَعَوَالِمُ الْغَيْبِ لَمْ تَجِدْهَا مِمَّا أُحِيلَ عَلَى النَّظَرِ فِيهِ وَلَا مَأْمُورًا بِتَطَلُّبِ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهَا، وَعَلَى ذَوَاتِهَا، وَحَقَائِقِهَا‏.‏

فَهَذِهِ التَّفْرِقَةِ كَافِيَةٌ فِي أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَطْلُوبٍ النَّظَرُ فِيهِ شَرْعًا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَطْلُوبًا لَمْ يَنْبَغِ أَنْ يُطْلَبَ‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ أَنَّ أَصْلَ هَذَا التَّطَلُّبِ الْخَاصِّ فَلْسَفِيٌّ، فَإِنَّ الِاعْتِنَاءَ بِطَلَبِ تَجْرِيدِ النَّفْسِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَى الْعَوَالِمِ الَّتِي وَرَاءَ الْحِسِّ إِنَّمَا نُقِلَ عَنِ الْحُكَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْفَلَاسِفَةِ الْمُتَعَمِّقِينَ فِي فُنُونِ الْبَحْثِ مِنَ الْمُتَأَلِّهِينَ مِنْهُمْ، وَمِنْ غَيْرِهِمْ وَلِذَلِكَ تَجِدُهُمْ يُقَرِّرُونَ لِطَلَبِ هَذَا الْمَعْنَى رِيَاضَةً خَاصَّةً لَمْ تَأْتِ بِهَا الشَّرِيعَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ مِنَ اشْتِرَاطِ التَّغَذِّي بِالنَّبَاتِ دُونَ الْحَيَوَانِ، أَوْ مَا يَخْرُجُ مِنَ الْحَيَوَانِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ شُرُوطِهِمُ الَّتِي لَمْ تُنْقَلْ فِي الشَّرِيعَةِ وَلَا وُجِدَ مِنْهَا فِي السَّلَفِ الصَّالِحِ عَيْنٌ وَلَا أَثَرٌ‏;‏ كَمَا أَنَّ ذِكْرَ التَّجْرِيدِ وَالْعَوَالِمِ الرُّوحَانِيَّةِ، وَمَا يَتَّصِلُ بِذَلِكَ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَكَفَى بِذَلِكَ حُجَّةً فِي أَنَّهُ غَيْرُ مَطْلُوبٍ كَمَا سَيَأْتِي عَلَى أَثَرِ هَذَا بِحَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى‏.‏

وَالرَّابِعُ‏:‏ أَنَّ طَلَبَ الِاطِّلَاعِ عَلَى مَا غُيِّبَ عَنَّا مِنَ الرُّوحَانِيَّاتِ، وَعَجَائِبِ الْمُغَيَّبَاتِ كَطَلَبِ الِاطِّلَاعِ عَلَى مَا غُيِّبَ عَنَّا مِنَ الْمَحْسُوسَاتِ النَّائِيَةِ كَالْأَمْصَارِ الْبَعِيدَةِ وَالْبِلَادِ الْقَاصِيَةِ وَالْمُغَيَّبَاتِ تَحْتَ أَطْبَاقِ الثَّرَى‏;‏ لِأَنَّ الْجَمِيعَ أَصْنَافٌ مِنْ مَصْنُوعَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَمَا لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ بِجَوَازِ التَّعَبُّدِ لِلَّهِ قَصْدَ أَنْ يَطَّلِعَ الْأَنْدَلُسِيُّ عَلَى قُطْرِ بَغْدَادَ، وَخُرَاسَانَ، وَأَقْصَى بِلَادِ الصِّينِ، فَكَذَلِكَ لَا يَنْبَغِي مِثْلُهُ فِي الِاطِّلَاعِ عَلَى مَا لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْمَحْسُوسَاتِ‏.‏

وَالْخَامِسُ‏:‏ أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ كَوْنُ هَذَا سَائِغًا فَهُوَ مَحْفُوفٌ بِعَوَارِضَ كَثِيرَةٍ، وَقَوَاطِعَ مُعْتَرِضَةٍ تَحُولُ بَيْنَ الْإِنْسَانِ، وَمَقْصُودِهِ، وَإِنَّمَا هِيَ ابْتِلَاءَاتٌ يَبْتَلِي اللَّهُ بِهَا عِبَادَهُ‏;‏ لِيَنْظُرَ كَيْفَ يَعْمَلُونَ‏.‏

فَإِذَا وَازَنَ الْإِنْسَانُ بَيْنَ مَصْلَحَةِ حُصُولِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَبَيْنَ مَفْسَدَةِ مَا يَعْتَرِضُ صَاحِبَهَا، كَانَتْ جِهَةُ الْعَوَارِضِ أَرْجَحَ، فَيَصِيرُ طَلَبُهَا مَرْجُوحًا وَلِذَلِكَ لَمْ يَخْلُدْ إِلَى طَلَبِهَا الْمُحَقِّقُونَ مِنَ الصُّوفِيَّةِ وَلَا رَضُوا بِأَنْ تَكُونَ عِبَادَتُهُمْ يُدَاخِلُهَا أَمْرٌ حَتَّى بَالَغَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ فِي طَلَبِ الثَّوَابِ مَا تَقَدَّمَ‏.‏

وَأَشَدُّ الْعَوَارِضِ طَلَبُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِالْعِبَادَةِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالذِّكْرِ، وَنَحْوِهَا مِمَّا يَقْتَضِي وَضْعُهَا الْإِخْلَاصَ التَّامَّ، فَلَا يَلِيقُ بِهِ طَلَبُ الْحُظُوظِ، فَإِنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ بِالرُّوحَانِيَّاتِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِهَا، وَهَذَا لَا يُوجَدُ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَى مَا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ جِنْسِهِ، فَسَارَ كَالْمُسَافِرِ لِيَرَى الْبِلَادَ النَّائِيَةَ وَالْعَجَائِبَ الْمَبْثُوثَةَ فِي الْأَرْضِ لَا لِغَيْرِ ذَلِكَ، وَهَذَا مُجَرَّدُ حَظٍّ لَا عِبَادَةَ فِيهِ، وَمَقْصُودُ الْأَمْرِ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَكُونُ عَاضِدًا لِمَا وُضِعَتْ لَهُ الْعِبَادَةُ فِي الْأَصْلِ مِنَ التَّحَقُّقِ بِمَحْضِ الْعُبُودِيَّةِ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ فَقَدْ سُئِلَ بَعْضُ السَّلَفِ عَنْ دَوَاءِ الْحِفْظِ، فَقَالَ‏:‏ تَرْكُ الْمَعَاصِي، وَمِنْ مَشْهُورِ الْقَوَاعِدِ أَنَّ الطَّاعَةَ تُعِينُ عَلَى الطَّاعَةِ، وَأَنَّ الْخَيْرَ لَا يَأْتِي إِلَّا بِالْخَيْرِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ، كَمَا أَنَّ الشَّرَّ لَا يَأْتِي إِلَّا بِالشَّرِّ فَهَلْ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَفْعَلَ الْخَيْرَ لِيَصِلَ بِهِ إِلَى الْخَيْرِ أَمْ لَا‏؟‏ فَإِنْ قُلْتَ‏:‏ لَا‏;‏ كَانَ عَلَى خِلَافِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ، وَإِنْ قُلْتَ‏:‏ نَعَمْ؛ خَالَفْتَ مَا أَصَّلْتَ‏.‏

فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا نَمَطٌ آخَرُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَعْلَمُ أَنَّ الَّذِي يَصُدُّهُ مَثَلًا عَنِ الْخَيْرِ الْفُلَانِيِّ عَمَلُ شَرٍّ فَيَتْرُكُ الشَّرَّ لِيَصِلَ إِلَى ذَلِكَ الْخَيْرِ الَّذِي يُثَابُ عَلَيْهِ، أَوْ يَكُونُ فِعْلُ الْخَيْرِ يُوَصِّلُهُ إِلَى خَيْرٍ آخَرَ كَذَلِكَ فَهَذَا عَوْنٌ بِالطَّاعَةِ عَلَى الطَّاعَةِ وَلَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 45‏]‏ وَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْمَائِدَة‏:‏ 2‏]‏‏.‏

وَمَسْأَلَةُ الْحِفْظِ مِنْ هَذَا، وَأَمَّا مَا وَقَعَ الْكَلَامُ فِيهِ فَحَاصِلُهُ طَلَبُ حَظٍّ شَهْوَانِيٍّ يَطْلُبُهُ بِالطَّاعَةِ، وَمَا أَقْرَبَ هَذَا أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ فِيهِ غَيْرَ مُخْلَصٍ فَالْحَاصِلُ لِمَنِ اعْتَبَرَ أَنَّ مَا كَانَ مِنَ التَّوَابِعِ مُقَوِّيًا، وَمُعِينًا عَلَى أَصْلِ الْعِبَادَةِ، وَغَيْرَ قَادِحٍ فِي الْإِخْلَاصِ فَهُوَ الْمَقْصُودُ التَّبَعِيُّ السَّائِغُ، وَمَا لَا فَلَا، وَأَنَّ الْمَقَاصِدَ التَّابِعَةَ لِلْمَقَاصِدِ الْأَصْلِيَّةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ‏:‏

أَحَدُهَا‏:‏ مَا يَقْتَضِي تَأْكِيدَ الْمَقَاصِدِ الْأَصْلِيَّةِ وَرَبْطَهَا وَالْوُثُوقَ بِهَا، وَحُصُولَ الرَّغْبَةِ فِيهَا، فَلَا شَكَّ أَنَّهُ مَقْصُودٌ لِلشَّارِعِ فَالْقَصْدُ إِلَى التَّسَبُّبِ إِلَيْهِ بِالسَّبَبِ الْمَشْرُوعِ مُوَافِقٌ لِقَصْدِ الشَّارِعِ فَيَصِحُّ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ مَا يَقْتَضِي زَوَالُهَا عَيْنًا، فَلَا إِشْكَالَ أَيْضًا فِي أَنَّ الْقَصْدَ إِلَيْهَا مُخَالِفٌ لِمَقْصِدِ الشَّارِعِ عَيْنًا، فَلَا يَصِحُّ التَّسَبُّبُ بِإِطْلَاقٍ‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ مَا لَا يَقْتَضِي تَأْكِيدًا وَلَا رَبْطًا وَلَكِنَّهُ لَا يَقْتَضِي رَفْعَ الْمَقَاصِدِ الْأَصْلِيَّةِ عَيْنًا فَيَصِحُّ فِي الْعَادَاتِ دُونَ الْعِبَادَاتِ‏.‏

أَمَّا عَدَمُ صِحَّتِهِ فِي الْعِبَادَاتِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا صِحَّتُهُ فِي الْعَادَاتِ فَلِجَوَازِ حُصُولِ الرَّبْطِ وَالْوُثُوقِ بَعْدَ التَّسَبُّبِ، وَيُحْتَمَلُ الْخِلَافُ، فَإِنَّهُ قَدْ يُقَالُ‏:‏ إِذَا كَانَ لَا يَقْتَضِي تَأْكِيدَ الْمَقْصِدِ الْأَصْلِيِّ، وَقَصْدُ الشَّارِعِ التَّأْكِيدُ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ التَّسَبُّبُ مُوَافِقًا لِمَقْصِدِ الشَّارِعِ، فَلَا يَصِحُّ، وَقَدْ يُقَالُ‏:‏ هُوَ وَإِنْ صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ غَيْرُ مُوَافِقٍ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّهُ غَيْرُ مُخَالِفٍ؛ إِذْ لَمْ يَقْصِدِ انْحِتَامَ رَفْعِ مَا قَصَدَ الشَّارِعُ وَضْعَهُ، وَإِنَّمَا قَصَدَ فِي التَّسَبُّبِ أَمْرًا يُمْكِنُ أَنْ يَحْصُلَ مَعَهُ مَقْصُودُ الشَّارِعِ، وَيُؤَكِّدُ ذَلِكَ أَنَّ الشَّارِعَ أَيْضًا مِمَّا يَقْصِدُ رَفْعَ التَّسَبُّبِ، فَلِذَلِكَ شَرَعَ فِي النِّكَاحِ الطَّلَاقَ، وَفِي الْبَيْعِ الْإِقَالَةَ، وَفِي الْقِصَاصِ الْعَفْوَ، وَأَبَاحَ الْعَزْلَ، وَإِنْ ظَهَرَ لِبَادِئِ الرَّأْيِ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ مُضَادَّةٌ لِقَصْدِ الشَّارِعِ لَمَّا كَانَ كُلٌّ مِنْهَا غَيْرَ مُخَالِفٍ لَهُ عَيْنًا، وَمِثْلُهُ مَا إِذَا قَصَدَ بِالنِّكَاحِ قَضَاءَ الْوَطَرِ خَاصَّةً وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِقَصْدِ الشَّارِعِ الْأَصْلِيِّ مِنَ التَّنَاسُلِ فَلَيْسَ خِلَافًا لِقَصْدِ الشَّارِعِ كَمَا تَقَدَّمَ فَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِمَّا مَضَى تَمْثِيلُهُ‏.‏

وَلَيْسَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْمُخَالِفَ لِقَصْدِ الشَّارِعِ بِلَا بُدٍّ هُوَ الِاحْتِيَالُ بِالتَّسَبُّبِ عَلَى تَحْصِيلِ أَمْرٍ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ التَّسَبُّبُ فِيهِ عَبَثًا لَا مَحْصُولَ تَحْتَهُ شَرْعًا إِلَّا التَّوَصُّلُ إِلَى مَا وَرَاءَهُ، فَإِذَا حَصَلَ انْحَلَّ التَّسَبُّبُ وَانْخَرَمَ مِنْ أَصْلِهِ وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ إِلَّا وَهُوَ مُنْخَرِمٌ شَرْعًا فِي أَصْلِ التَّسَبُّبِ‏.‏

وَأَمَّا إِذَا أَمْكَنَ أَنْ لَا يَنْخَرِمَ، أَوْ أَمْكَنَ أَنْ لَا يَكُونُ مُنْخَرِمًا مِنْ أَصْلِهِ فَلَيْسَ بِمُخَالِفٍ لِلْمَقْصِدِ الشَّرْعِيِّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَهُوَ مَحَلُّ اجْتِهَادٍ، وَيَبْقَى التَّسَبُّبُ إِنْ صَحِبَهُ نَهْيٌ مَحَلَّ نَظَرٍ أَيْضًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

وَالْجِهَةُ الرَّابِعَةُ مِمَّا يُعْرَفُ بِهِ مَقْصِدُ الشَّارِعِ السُّكُوتُ عَنْ شَرْعِ التَّسَبُّبِ، أَوْ عَنْ شَرْعِيَّةِ الْعَمَلِ مَعَ قِيَامِ الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي لَهُ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ سُكُوتَ الشَّارِعِ عَنِ الْحُكْمِ عَلَى ضَرْبَيْن‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنْ يَسْكُتَ عَنْهُ‏;‏ لِأَنَّهُ لَا دَاعِيَةَ لَهُ تَقْتَضِيهِ وَلَا مُوجِبَ يُقَدَّرُ لِأَجْلِهِ كَالنَّوَازِلِ الَّتِي حَدَثَتْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهَا لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً، ثُمَّ سُكِتَ عَنْهَا مَعَ وُجُودِهَا، وَإِنَّمَا حَدَثَتْ بَعْدَ ذَلِكَ فَاحْتَاجَ أَهْلُ الشَّرِيعَةِ إِلَى النَّظَرِ فِيهَا، وَإِجْرَائِهَا عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي كُلِّيَّاتِهَا، وَمَا أَحْدَثَهُ السَّلَفُ الصَّالِحُ رَاجِعٌ إِلَى هَذَا الْقِسْمِ كَجَمْعِ الْمُصْحَفِ، وَتَدْوِينِ الْعِلْمِ، وَتَضْمِينِ الصُّنَّاعِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ تَكُنْ مِنْ نَوَازِلِ زَمَانِهِ وَلَا عَرَضَ لِلْعَمَلِ بِهَا مُوجِبٌ يَقْتَضِيهَا فَهَذَا الْقِسْمُ جَارِيَةٌ فُرُوعُهُ عَلَى أُصُولِهِ الْمُقَرَّرَةِ شَرْعًا بِلَا إِشْكَالٍ فَالْقَصْدُ الشَّرْعِيُّ فِيهَا مَعْرُوفٌ مِنَ الْجِهَاتِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلُ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنْ يَسْكُتَ عَنْهُ، وَمُوجِبُهُ الْمُقْتَضِي لَهُ قَائِمٌ فَلَمْ يُقَرَّرْ فِيهِ حُكْمٌ عِنْدَ نُزُولِ النَّازِلَةِ زَائِدٌ عَلَى مَا كَانَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ فَهَذَا الضَّرْبُ السُّكُوتُ فِيهِ كَالنَّصِّ عَلَى أَنَّ قَصْدَ الشَّارِعِ أَنْ لَا يُزَادَ فِيهِ وَلَا يُنْقَصَ‏;‏ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ هَذَا الْمَعْنَى الْمُوجِبُ لِشَرْعِ الْحُكْمِ الْعَمَلِيِّ مَوْجُودًا، ثُمَّ لَمْ يُشْرَعِ الْحُكْمُ دَلَالَةً عَلَيْهِ كَانَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي أَنَّ الزَّائِدَ عَلَى مَا كَانَ هُنَالِكَ بِدْعَةٌ زَائِدَةٌ، وَمُخَالَفَةٌ لِمَا قَصَدَهُ الشَّارِعُ‏;‏ إِذْ فُهِمَ مِنْ قَصْدِهِ الْوُقُوفُ عِنْدَ مَا حَدٍّ هُنَالِكَ لَا الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ وَلَا النُّقْصَانُ مِنْهُ‏.‏

وَمِثَالُ هَذَا‏:‏ سُجُودُ الشُّكْرِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَهُوَ الَّذِي قَرَّرَ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ سَمَاعِ أَشْهَبَ وَابْنِ نَافِعٍ قَالَ فِيهَا‏:‏ وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الرَّجُلِ يَأْتِيهِ الْأَمْرُ يُحِبُّهُ فَيَسْجُدُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ شُكْرًا، فَقَالَ‏:‏ لَا يَفْعَلُ، لَيْسَ هَذَا مِمَّا مَضَى مِنْ أَمْرِ النَّاسِ‏.‏ قِيلَ لَهُ‏:‏ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ فِيمَا يَذْكُرُونَ سَجَدَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ شُكْرًا لِلَّهِ أَفَسَمِعْتَ ذَلِكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ مَا سَمِعْتُ ذَلِكَ، وَأَنَا أَرَى أَنْ قَدْ كَذَبُوا عَلَى أَبِي بَكْرٍ، وَهَذَا مِنَ الضَّلَالِ أَنْ يَسْمَعَ الْمَرْءُ الشَّيْءَ، فَيَقُولَ‏:‏ هَذَا شَيْءٌ لَمْ أَسْمَعْ لَهُ خِلَافًا‏.‏ فَقِيلَ لَهُ‏:‏ إِنَّمَا نَسْأَلُكَ لِنَعْلَمَ رَأْيَكَ فَنَرُدَّ ذَلِكَ بِهِ‏.‏ فَقَالَ‏:‏ نَأْتِيكَ بِشَيْءٍ آخَرَ أَيْضًا لَمْ تَسْمَعْهُ مِنِّي‏:‏ قَدْ فُتِحَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ بَعْدَهُ، أَفَسَمِعْتَ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ فَعَلَ مِثْلَ هَذَا‏؟‏ إِذَا جَاءَكَ مِثْلُ هَذَا مِمَّا قَدْ كَانَ فِي النَّاسِ وَجَرَى عَلَى أَيْدِيهِمْ لَا يُسْمَعُ عَنْهُمْ فِيهِ شَيْءٌ فَعَلَيْكَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَذُكِرَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ الَّذِي قَدْ كَانَ فِيهِمْ، فَهَلْ سَمِعْتَ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ سَجَدَ‏؟‏ فَهَذَا إِجْمَاعٌ إِذَا جَاءَكَ أَمْرٌ لَا تَعْرِفُهُ فَدَعْهُ‏.‏ هَذَا تَمَامُ الرِّوَايَةِ، وَقَدِ احْتَوَتْ عَلَى فَرْضِ سُؤَالٍ وَالْجَوَابِ عَنْهُ بِمَا تَقَدَّمَ‏.‏

وَتَقْرِيرُ السُّؤَالِ أَنْ يُقَالَ فِي الْبِدَعِ مَثَلًا‏:‏ إِنَّهَا فِعْلُ مَا سَكَتَ الشَّارِعُ عَنْ فِعْلِهِ، أَوْ تَرْكُ مَا أَذِنَ فِي فِعْلِهِ، أَوْ تَقُولُ فِعْلُ مَا سَكَتَ الشَّارِعُ عَنِ الْإِذْنِ فِيهِ، أَوْ تَرْكُ مَا أَذِنَ فِي فِعْلِهِ، أَوْ أَمْرٌ خَارِجٌ عَنْ ذَلِكَ، فَالْأَوَّلُ كَسُجُودِ الشُّكْرِ عِنْدَ مَالِكٍ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ دَلِيلٌ عَلَى فِعْلِهِ، وَالدُّعَاءُ بِهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ، وَالِاجْتِمَاعُ لِلدُّعَاءِ بَعْدَ الْعَصْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ فِي غَيْرِ عَرَفَاتٍ، وَالثَّانِي‏:‏ كَالصِّيَامِ مَعَ تَرْكِ الْكَلَامِ، وَمُجَاهَدَةِ النَّفْسِ بِتَرْكِ مَأْكُولَاتٍ مُعَيَّنَةٍ، وَالثَّالِثُ‏:‏ كَإِيجَابِ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فِي الظِّهَارِ لِوَاجِدِ الرَّقَبَةِ، وَهَذَا الثَّالِثُ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ الشَّرْعِيِّ، فَلَا يَصِحُّ بِحَالٍ فَكَوْنُهُ بِدْعَةً قَبِيحَةً بَيِّنٌ‏.‏

وَأَمَّا الضَّرْبَانِ الْأَوَّلَانِ، وَهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ فِعْلٌ، أَوْ تَرْكٌ لِمَا سَكَتَ الشَّارِعُ عَنْ فِعْلِهِ، أَوْ تَرْكِهِ، فَمِنْ أَيْنَ يُعْلَمُ مُخَالَفَتُهُمَا لِقَصْدِ الشَّارِعِ، أَوْ أَنَّهُمَا مِمَّا يُخَالِفُ الْمَشْرُوعَ، وَهُمَا لَمْ يَتَوَارَدَا مَعَ الْمَشْرُوعِ عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ، بَلْ هُمَا فِي الْمَعْنَى كَالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ وَالْبِدَعُ إِنَّمَا أُحْدِثَتْ لِمَصَالِحَ يَدَّعِيهَا أَهْلُهَا، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا غَيْرُ مُخَالِفَةٍ لِقَصْدِ الشَّارِعِ وَلَا لِوَضْعِ الْأَعْمَالِ‏.‏

أَمَّا الْقَصْدُ فَمُسَلَّمٌ بِالْفَرْضِ، وَأَمَّا الْفِعْلُ فَلَمْ يَشْرَعِ الشَّارِعُ فِعْلًا نُوقِضَ بِهَذَا الْعَمَلِ الْمُحْدَثِ وَلَا تَرْكًا لِشَيْءٍ فَعَلَهُ هَذَا الْمُحْدِثُ كَتَرْكِ الصَّلَاةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ، بَلْ حَقِيقَتُهُ أَنَّهُ أَمْرٌ مَسْكُوتٌ عَنْهُ عِنْدَ الشَّارِعِ وَالْمَسْكُوتُ مِنَ الشَّارِعِ لَا يَقْتَضِي مُخَالَفَةً وَلَا مُوَافَقَةً وَلَا يُفْهِمُ لِلشَّارِعِ قَصْدًا مُعَيَّنًا دُونَ ضِدِّهِ، وَخِلَافِهِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ رَجَعْنَا إِلَى النَّظَرِ فِي وُجُوهِ الْمَصَالِحِ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مُصْلِحَةً قَبِلْنَاهُ إِعْمَالًا لِلْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ، وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مَفْسَدَةً تَرَكْنَاهُ إِعْمَالًا لِلْمَصَالِحِ أَيْضًا، وَمَا لَمْ نَجِدْ فِيهِ هَذَا وَلَا هَذَا فَهُوَ كَسَائِرِ الْمُبَاحَاتِ إِعْمَالًا لِلْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ أَيْضًا فَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ يُفْرَضُ ذَمُّهَا تُسَاوِي الْمُحْدَثَةَ الْمَحْمُودَةَ فِي الْمَعْنَى‏.‏ فَمَا وَجْهُ ذَمِّ هَذِهِ وَمَدْحِ هَذِهِ وَلَا نَصَّ يَدُلُّ عَلَى مَدْحٍ وَلَا ذَمٍّ عَلَى الْخُصُوصِ‏؟‏

وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ مَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ، وَأَنَّ السُّكُوتَ عَنْ حُكْمِ الْفِعْلِ، أَوِ التَّرْكِ هُنَا إِذَا وُجِدَ الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي لِلْفِعْلِ، أَوِ التَّرْكِ إِجْمَاعٌ مِنْ كُلِّ سَاكِتٍ عَلَى أَنْ لَا زَائِدَ عَلَى مَا كَانَ، وَهُوَ غَايَةٌ فِي تَحْصِيلِ هَذَا الْمَعْنَى‏.‏

قَالَ ابْنُ رُشْدٍ‏:‏ الْوَجْهُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَرَهُ مِمَّا شُرِعَ فِي الدِّينِ يَعْنِي سُجُودَ الشُّكْرِ لَا فَرْضًا وَلَا نَفْلًا‏;‏ إِذْ لَمْ يَأْمُرْ بِذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا فَعَلَهُ، وَلَا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى اخْتِيَارِ فِعْلِهِ وَالشَّرَائِعُ لَا تَثْبُتُ إِلَّا مِنْ أَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَاسْتِدْلَالُهُ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ وَلَا الْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُ بِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ لَنُقِلَ صَحِيحٌ‏;‏ إِذْ لَا يَصِحُّ أَنْ تَتَوَفَّرَ دَوَاعِي الْمُسْلِمِينَ عَلَى تَرْكِ نَقْلِ شَرِيعَةٍ مِنْ شَرَائِعِ الدِّينِ، وَقَدْ أُمِرُوا بِالتَّبْلِيغِ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَهَذَا أَصْلٌ مِنَ الْأُصُولِ، وَعَلَيْهِ يَأْتِي إِسْقَاطُ الزَّكَاةِ مِنَ الْخُضَرِ وَالْبُقُولِ مَعَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهَا بِعُمُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ وَالْبَعْلُ الْعُشْرُ، وَفِيمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ»‏;‏ لِأَنَّا نَزَّلْنَا تَرْكَ نَقْلِ أَخْذِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزَّكَاةَ مِنْهَا كَالسُّنَّةِ الْقَائِمَةِ فِي أَنْ لَا زَكَاةَ فِيهَا، فَكَذَلِكَ نُنَزِّلُ تَرْكَ نَقْلِ السُّجُودِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشُّكْرِ كَالسُّنَّةِ الْقَائِمَةِ فِي أَنْ لَا سُجُودَ فِيهِ، ثُمَّ حَكَى خِلَافَ الشَّافِعِيِّ وَالْكَلَامَ عَلَيْهِ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْمَسْأَلَةِ تَوْجِيهُ مَالِكٍ لَهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا بِدْعَةٌ لَا تَوْجِيهُ أَنَّهَا بِدْعَةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ‏.‏

وَعَلَى هَذَا النَّحْوِ جَرَى بَعْضُهُمْ فِي تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ، وَأَنَّهَا بِدْعَةٌ مُنْكَرَةٌ مِنْ حَيْثُ وُجِدَ فِي زَمَانِهِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي لِلتَّخْفِيفِ وَالتَّرْخِيصِ لِلزَّوْجَيْنِ بِإِجَازَةِ التَّحْلِيلِ لِيُرَاجِعَا كَمَا كَانَا أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَشْرَعْ ذَلِكَ مَعَ حِرْصِ امْرَأَةِ رِفَاعَةَ عَلَى رُجُوعِهَا إِلَيْهِ دَلَّ عَلَى أَنَّ التَّحْلِيلَ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ لَهَا وَلَا لِغَيْرِهَا، وَهُوَ أَصْلٌ صَحِيحٌ، إِذَا اعْتُبِرَ وَضَحَ بِهِ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا هُوَ مِنَ الْبِدَعِ، وَمَا لَيْسَ مِنْهَا، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ وُجُودَ الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي مَعَ عَدَمِ التَّشْرِيعِ دَلِيلٌ عَلَى قَصْدِ الشَّارِعِ إِلَى عَدَمِ الزِّيَادَةِ عَلَى مَا كَانَ مَوْجُودًا قَبْلُ، فَإِذَا زَادَ الزَّائِدُ ظَهَرَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِقَصْدِ الشَّارِعِ فَبَطَلَ‏.‏