فصل: الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: (الْكَلَامُ عَلَى التَّكْلِيفِ الشَّاقِّ وَبِمَا لَا يُطَاقُ)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموافقات ***


الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ‏:‏ ‏[‏الْكَلَامُ عَلَى التَّكْلِيفِ الشَّاقِّ وَبِمَا لَا يُطَاقُ‏]‏

تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ مَقْدُورِ الْمُكَلَّفِ، وَبَقِيَ النَّظَرُ فِيمَا يَدْخُلُ تَحْتَ مَقْدُورِهِ، لَكِنَّهُ شَاقٌّ، فَهَذَا مَوْضِعُهُ‏;‏ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ إِذَا عَلِمْنَا مَنْ قَصْدِ الشَّارِعِ نَفْيَ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ، أَنْ نَعْلَمَ مِنْهُ نَفْيَ التَّكْلِيفِ بِأَنْوَاعِ الْمَشَاقِّ، وَلِذَلِكَ ثَبَتَ فِي الشَّرَائِعِ الْأُوَّلِ التَّكْلِيفُ بِالْمَشَاقِّ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِيهَا التَّكْلِيفُ بِمَا لَا يُطَاقُ‏.‏

وَأَيْضًا‏;‏ فَإِنَّ التَّكْلِيفَ بِمَا لَا يُطَاقُ قَدْ مَنَعَهُ جَمَاعَةٌ عُقَلَاءُ، بَلْ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ‏.‏

وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ‏;‏ فَذَلِكَ أَصْلُهُمْ، بِخِلَافِ التَّكْلِيفِ بِمَا يَشُقُّ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ‏;‏ فَلَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِي ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْفَاضِلَةِ‏.‏

وَلَا بُدَّ قَبْلَ الْخَوْضِ فِي الْمَطْلُوبِ مِنَ النَّظَرِ فِي مَعْنَى الْمَشَقَّةِ، وَهِيَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ مِنْ قَوْلِكَ‏:‏ شَقَّ عَلَيَّ الشَّيْءُ يَشُقُّ شَقًّا وَمَشَقَّةً إِذَا أَتْعَبَكَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ‏}‏ ‏[‏النَّحْل‏:‏ 7‏]‏‏.‏

وَالشِّقُّ هُوَ الِاسْمُ مِنَ الْمَشَقَّةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى إِذَا أُخِذَ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى الْوَضْعِ الْعَرَبِيِّ‏;‏ اقْتَضَى أَرْبَعَةَ أَوْجُهٍ أَوْجُهُ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ اصْطِلَاحِيَّةٍ‏:‏

أَحَدُهَا‏:‏ أَنْ يَكُونَ عَامًّا فِي الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ وَغَيْرِهِ، فَتَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ يُسَمَّى مَشَقَّةً، مِنْ حَيْثُ كَانَ تَطَلُّبُ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ بِحَمْلِهِ مُوقِعًا فِي عَنَاءٍ وَتَعَبٍ لَا يُجْدِي‏;‏ كَالْمُقْعَدِ إِذَا تَكَلَّفَ الْقِيَامَ، وَالْإِنْسَانِ إِذَا تَكَلَّفَ الطَّيَرَانَ فِي الْهَوَاءِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَحِينَ اجْتَمَعَ مَعَ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ الشَّاقِّ الْحِمْلِ إِذَا تَحَمَّلَ فِي نَفْسِ الْمَشَقَّةِ‏;‏ سُمِّيَ الْعَمَلُ شَاقًّا وَالتَّعَبُ فِي تَكَلُّفِ حَمْلِهِ مَشَقَّةً‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنْ يَكُونَ خَاصًّا بِالْمَقْدُورِ عَلَيْهِ‏;‏ إِلَّا أَنَّهُ خَارِجٌ عَنِ الْمُعْتَادِ فِي الْأَعْمَالِ الْعَادِيَّةِ، بِحَيْثُ يُشَوِّشُ عَلَى النُّفُوسِ فِي تَصَرُّفِهَا، وَيُقْلِقُهَا فِي الْقِيَامِ بِمَا فِيهِ تِلْكَ الْمَشَقَّةُ‏.‏

إِلَّا أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ عَلَى ضَرْبَيْن‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنْ تَكُونَ الْمَشَقَّةُ مُخْتَصَّةً بِأَعْيَانِ الْأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِ بِهَا، بِحَيْثُ لَوْ وَقَعَتْ مَرَّةً وَاحِدَةً لَوُجِدَتْ فِيهَا، وَهَذَا هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي وُضِعَتْ لَهُ الرُّخَصُ الْمَشْهُورَةُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ‏;‏ كَالصَّوْمِ فِي الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ، وَالْإِتْمَامِ فِي السَّفَرِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَلَّا تَكُونَ مُخْتَصَّةً وَلَكِنْ إِذَا نُظِرَ إِلَى كُلِّيَّاتِ الْأَعْمَالِ وَالدَّوَامِ عَلَيْهَا، صَارَتْ شَاقَّةً، وَلَحِقَتِ الْمَشَقَّةُ الْعَامِلَ بِهَا، وَيُوجَدُ هَذَا فِي النَّوَافِلِ وَحْدَهَا إِذَا تَحَمَّلَ الْإِنْسَانُ مِنْهَا فَوْقَ مَا يَحْتَمِلُهُ عَلَى وَجْهٍ مَا، إِلَّا أَنَّهُ فِي الدَّوَامِ يُتْعِبُهُ، حَتَّى يَحْصُلَ لِلنَّفْسِ بِسَبَبِهِ مَا يَحْصُلُ لَهَا بِالْعَمَلِ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي الضَّرْبِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي شُرِعَ لَهُ الرِّفْقُ وَالْأَخْذُ مِنَ الْعَمَلِ بِمَا لَا يُحَصِّلُ مَلَلًا، حَسَبَ مَا نَبَّهَ عَلَيْهِ نَهْيُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنِ الْوِصَالِ، وَعَنِ التَّنَطُّعِ وَالتَّكَلُّفِ، وَقَالَ‏:‏ «خُذُوا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يَمَلَّ حَتَّى تَمَلُّوا»‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ «الْقَصْدَ، الْقَصْدَ تَبْلُغُوا»‏.‏

وَالْأَخْبَارُ هُنَا كَثِيرَةٌ، وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَيْهَا مَوْضِعٌ آخَرُ‏;‏ فَهَذِهِ مَشَقَّةٌ نَاشِئَةٌ مَنْ أَمْرٍ كُلِّيٍّ وَفِي الضَّرْبِ الْأَوَّلِ نَاشِئَةٌ مَنْ أَمْرٍ جُزْئِيٍّ‏.‏

وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ‏:‏ أَنْ يَكُونَ خَاصًّا بِالْمَقْدُورِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ فِيهِ مِنَ التَّأْثِيرِ فِي تَعَبِ النَّفْسِ خُرُوجٌ عَنِ الْمُعْتَادِ فِي الْأَعْمَالِ الْعَادِيَّةِ، وَلَكِنَّ نَفْسَ التَّكْلِيفِ بِهِ زِيَادَةٌ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَاتُ قَبْلَ التَّكْلِيفِ شَاقٌّ عَلَى النَّفْسِ، وَلِذَلِكَ أُطْلِقَ عَلَيْهِ لَفْظُ التَّكْلِيفِ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ يَقْتَضِي مَعْنَى الْمَشَقَّةِ‏;‏ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ‏:‏ كَلَّفْتُهُ تَكْلِيفًا إِذَا حَمَّلْتَهُ أَمْرًا يَشُقُّ عَلَيْهِ وَأَمَرْتَهُ بِهِ، وَتَكَلَّفْتُ الشَّيْءَ إِذَا تَحَمَّلْتَهُ عَلَى مَشَقَّةٍ، وَحُمِّلْتُ الشَّيْءَ تَكَلَّفْتَهُ إِذَا لَمْ تُطِقْهُ إِلَّا تَكَلُّفًا، فَمِثْلُ هَذَا يُسَمَّى مَشَقَّةً بِهَذَا الِاعْتِبَارِ لِأَنَّهُ إِلْقَاءٌ بِالْمَقَالِيدِ، وَدُخُولٌ فِي أَعْمَالٍ زَائِدَةٍ عَلَى مَا اقْتَضَتْهُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا‏.‏

وَالرَّابِعُ‏:‏ أَنْ يَكُونَ خَاصًّا بِمَا يَلْزَمُ عَمَّا قَبْلَهُ‏;‏ فَإِنَّ التَّكْلِيفَ إِخْرَاجٌ لِلْمُكَلَّفِ عَنْ هَوَى نَفْسِهِ، وَمُخَالَفَةُ الْهَوَى شَاقَّةٌ عَلَى صَاحِبِ الْهَوَى مُطْلَقًا، وَيَلْحَقُ الْإِنْسَانَ بِسَبَبِهَا تَعَبٌ وَعَنَاءٌ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ فِي الْعَادَاتِ الْجَارِيَةِ فِي الْخَلْقِ‏.‏

فَهَذِهِ خَمْسَةُ أَوْجَهٍ مِنْ حَيْثُ النَّظَرِ إِلَى الْمَشَقَّةِ فِي نَفْسِهَا، انْتَظَمَتْ فِي أَرْبَعَةٍ‏:‏

فَأَمَّا الْأَوَّلُ‏;‏ فَقَدْ تَخَلَّصَ فِي الْأُصُولِ، وَتَقَدَّمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ‏.‏

وَأَمَّا الثَّانِي‏:‏ وَهِيَ‏:‏

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ‏:‏ ‏[‏الشَّارِعُ لَمْ يَقْصِدْ إِلَى التَّكَالِيفِ بِالشَّاقِّ الْإِعْنَاتَ فِيهِ‏]‏

فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَقْصِدْ إِلَى التَّكَالِيفِ بِالشَّاقِّ الْإِعْنَاتَ فِيهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ‏:‏

أَحَدُهَا‏:‏ النُّصُوصُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ‏;‏ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ‏}‏ ‏[‏الْأَعْرَاف‏:‏ 157‏]‏‏.‏

وَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 286‏]‏‏.‏

وَفِي الْحَدِيث‏:‏ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ قَدْ فَعَلْتُ‏.‏

وَجَاءَ‏:‏ ‏{‏لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 286‏]‏‏.‏

‏{‏يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 185‏]‏‏.‏

‏{‏وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ‏}‏ ‏[‏الْحَجّ‏:‏ 78‏]‏‏.‏

‏{‏يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا‏}‏ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 28‏]‏‏.‏

‏{‏مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْمَائِدَة‏:‏ 6‏]‏‏.‏

وَفِي الْحَدِيث‏:‏ «بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ»‏.‏

«وَمَا خُيِّرَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ‏;‏ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا»‏.‏

وَإِنَّمَا قَالَ‏:‏ مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْإِثْمِ لَا مَشَقَّةَ فِيهِ، مِنْ حَيْثُ كَانَ مُجَرَّدَ تَرْكٍ، إِلَى أَشْبَاهِ ذَلِكَ مِمَّا فِي هَذَا الْمَعْنَى وَلَوْ كَانَ قَاصِدًا لِلْمَشَقَّةِ لَمَا كَانَ مُرِيدًا لِلْيُسْرِ وَلَا لِلتَّخْفِيفِ، وَلَكَانَ مُرِيدًا لِلْحَرَجِ وَالْعُسْرِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ مَا ثَبَتَ أَيْضًا مِنْ مَشْرُوعِيَّةِ الرُّخَصِ، وَهُوَ أَمْرٌ مَقْطُوعٌ بِهِ، وَمِمَّا عُلِمَ مِنْ دِينِ الْأُمَّةِ ضَرُورَةٌ‏;‏ كَرُخَصِ الْقَصْرِ، وَالْفِطْرِ، وَالْجَمْعِ، وَتَنَاوُلِ الْمُحَرَّمَاتِ فِي الِاضْطِرَارِ، فَإِنَّ هَذَا النَّمَطَ يَدُلُّ قَطْعًا عَلَى مُطْلَقِ رَفْعِ الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ، وَكَذَلِكَ مَا جَاءَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ التَّعَمُّقِ وَالتَّكَلُّفِ وَالتَّسَبُّبِ فِي الِانْقِطَاعِ عَنْ دَوَامِ الْأَعْمَالِ، وَلَوْ كَانَ الشَّارِعُ قَاصِدًا لِلْمَشَقَّةِ فِي التَّكْلِيفِ، لَمَا كَانَ ثَمَّ تَرْخِيصٌ وَلَا تَخْفِيفٌ‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ الْإِجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِهِ وُجُودًا فِي التَّكْلِيفِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ قَصْدِ الشَّارِعِ إِلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ وَاقِعًا لَحَصَلَ فِي الشَّرِيعَةِ التَّنَاقُضُ وَالِاخْتِلَافُ، وَذَلِكَ مَنْفِيٌّ عَنْهَا‏;‏ فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ وَضْعُ الشَّرِيعَةِ عَلَى قَصْدِ الْإِعْنَاتِ وَالْمَشَقَّةِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ عَلَى قَصْدِ الرِّفْقِ وَالتَّيْسِيرِ‏;‏ كَانَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا تَنَاقُضًا وَاخْتِلَافًا، وَهِيَ مُنَزَّهَةٌ عَنْ ذَلِكَ‏.‏

وَأَمَّا الثَّالِثُ‏:‏ وَهِيَ‏:‏

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ‏:‏ ‏[‏قَصْدُ الشَّارِعِ لِلتَّكْلِيفِ بِمَا فِيهِ كُلْفَةٌ وَمَشَقَّةٌ‏]‏

فَإِنَّهُ لَا يُنَازَعُ فِي أَنَّ الشَّارِعَ قَاصِدٌ لِلتَّكْلِيفِ بِمَا يَلْزَمُ فِيهِ كُلْفَةٌ وَمَشَقَّةٌ مَا، وَلَكِنْ لَا تُسَمَّى فِي الْعَادَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ مَشَقَّةً، كَمَا لَا يُسَمَّى فِي الْعَادَةِ مَشَقَّةً طَلَبُ الْمَعَاشِ بِالتَّحَرُّفِ وَسَائِرِ الصَّنَائِعِ‏;‏ لِأَنَّهُ مُمْكِنٌ مُعْتَادٌ لَا يُقْطَعُ مَا فِيهِ مِنَ الْكُلْفَةِ عَنِ الْعَمَلِ فِي الْغَالِبِ الْمُعْتَادِ، بَلْ أَهْلُ الْعُقُولِ وَأَرْبَابُ الْعَادَاتِ يَعُدُّونَ الْمُنْقَطِعَ عَنْهُ كَسْلَانَ، وَيَذُمُّونَهُ بِذَلِكَ‏;‏ فَكَذَلِكَ الْمُعْتَادُ فِي التَّكَالِيفِ‏.‏

وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى يَرْجِعُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَشَقَّةِ الَّتِي لَا تُعَدُّ مَشَقَّةً عَادَةً، وَالَّتِي تُعَدُّ مَشَقَّةً، وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْعَمَلُ يُؤَدِّي الدَّوَامُ عَلَيْهِ إِلَى الِانْقِطَاعِ عَنْهُ، أَوْ عَنْ بَعْضِهِ، أَوْ إِلَى وُقُوعِ خَلَلٍ فِي صَاحِبِهِ، فِي نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ، أَوْ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِ، فَالْمَشَقَّةُ هُنَا خَارِجَةٌ عَنِ الْمُعْتَادِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الْغَالِبِ‏;‏ فَلَا يُعَدُّ فِي الْعَادَةِ مَشَقَّةً، وَإِنَّ سُمِّيَتْ كُلْفَةً، فَأَحْوَالُ الْإِنْسَانِ كُلُّهَا كُلْفَةٌ فِي هَذِهِ الدَّارِ، فِي أَكْلِهِ وَشُرْبِهِ وَسَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِ، وَلَكِنْ جُعِلَ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَيْهَا، بِحَيْثُ تَكُونُ تِلْكَ التَّصَرُّفَاتُ تَحْتَ قَهْرِهِ، لَا أَنْ يَكُونَ هُوَ تَحْتَ قَهْرِ التَّصَرُّفَاتِ، فَكَذَلِكَ التَّكَالِيفُ‏;‏ فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُفْهَمَ التَّكْلِيفُ وَمَا تَضَمَّنَ مِنَ الْمَشَقَّةِ‏.‏

وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا‏;‏ فَمَا تَضَمَّنَ التَّكْلِيفُ الثَّابِتُ عَلَى الْعِبَادِ مِنَ الْمَشَقَّةِ الْمُعْتَادَةِ أَيْضًا لَيْسَ بِمَقْصُودِ الطَّلَبِ لِلشَّارِعِ مِنْ جِهَةِ نَفْسِ الْمَشَقَّةِ، بَلْ مِنْ جِهَةِ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَائِدَةِ عَلَى الْمُكَلَّفِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ فِي الْمَسَالَةِ قَبْلَ هَذَا‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ مَا تَقَدَّمَ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْقَصْدِ إِلَى الْمَشَقَّةِ فِي التَّكْلِيفِ‏;‏ لِأَوْجُهٍ‏:‏

أَحَدُهَا‏:‏ أَنَّ نَفْسَ تَسْمِيَتِهِ تَكْلِيفًا يُشْعِرُ بِذَلِكَ‏;‏ إِذْ حَقِيقَتُهُ فِي اللُّغَةِ طَلَبُ مَا فِيهِ كُلْفَةٌ، وَهِيَ الْمَشَقَّةُ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 286‏]‏؛ مَعْنَاهُ لَا يَطْلُبُهُ بِمَا يَشُقُّ عَلَيْهِ مَشَقَّةً لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا يَطْلُبُهُ بِمَا تَتَّسِعُ لَهُ قُدْرَتُهُ عَادَةً‏;‏ فَقَدْ ثَبَتَ التَّكْلِيفُ بِمَا هُوَ مَشَقَّةٌ فَقَصْدُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ يَسْتَلْزِمُ بِلَا بُدٍّ طَلَبَ الْمَشَقَّةِ، وَالطَّلَبُ إِنَّمَا تَعَلَّقَ بِالْفِعْلِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَشَقَّةٌ، لِتَسْمِيَةِ الشَّرْعِ لَهُ تَكْلِيفًا‏;‏ فَهِيَ إِذًا مَقْصُودَةٌ لَهُ، وَعَلَى هَذَا النَّحْوِ يَتَنَزَّلُ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ‏}‏ ‏[‏الْحَجّ‏:‏ 78‏]‏ وَأَشْبَاهُهُ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنَّ الشَّارِعَ عَالِمٌ بِمَا كَلَّفَ بِهِ وَبِمَا يَلْزَمُ عَنْهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مُجَرَّدَ التَّكْلِيفِ يَسْتَلْزِمُ الْمَشَقَّةَ‏;‏ فَالشَّارِعُ عَالِمٌ بِلُزُومِ الْمَشَقَّةِ مِنْ غَيْرِ انْفِكَاكٍ، فَإِذًا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الشَّارِعُ طَالِبًا لِلْمَشَقَّةِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَاصِدَ إِلَى السَّبَبِ عَالِمًا بِمَا يَتَسَبَّبُ عَنْهُ قَاصِدٌ لِلْمُسَبِّبِ، وَقَدْ مَرَّ تَقْرِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ‏;‏ فَاقْتَضَى أَنَّ الشَّارِعَ قَاصِدٌ لِلْمَشَقَّةِ هُنَا‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ أَنَّ الْمَشَقَّةَ فِي الْجُمْلَةِ مُثَابٌ عَلَيْهَا إِذَا لَحِقَتْ فِي أَثْنَاءِ التَّكْلِيفِ، مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ ثَوَابِ التَّكْلِيفِ‏;‏ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏التَّوْبَة‏:‏ 120‏]‏ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ‏.‏

وَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا‏}‏ ‏[‏الْعَنْكَبُوت‏:‏ 69‏]‏‏.‏

وَمَا جَاءَ فِي كَثْرَةِ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ وَأَنَّ أَعْظَمَهُمْ أَجْرًا أَبْعَدُهُمْ دَارًا

وَمَا جَاءَ فِي إِسْبَاغِ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ‏.‏

وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 216‏]‏، وَذَلِكَ لِمَا فِي الْقِتَالِ مِنْ أَعْظَمِ الْمَشَقَّاتِ‏;‏ حَتَّى قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ‏}‏ ‏[‏التَّوْبَة‏:‏ 111‏]‏، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ‏.‏

فَإِذَا كَانَتِ الْمَشَقَّاتُ- مِنْ حَيْثُ هِيَ مَشَقَّاتٌ- مُثَابًا عَلَيْهَا زِيَادَةً عَلَى مُعْتَادِ التَّكْلِيفِ‏;‏ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا مَقْصُودٌ لَهُ، وَإِلَّا، فَلَوْ لَمْ يَقْصِدْهَا‏;‏ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا ثَوَابٌ كَسَائِرِ الْأُمُورِ الَّتِي لَمْ يُكَلِّفْ بِهَا، فَأَوْقَعَهَا الْمُكَلِّفُ بِاخْتِيَارِهِ حَسَبَ مَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي الْمُبَاحِ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ‏;‏ فَدَلَّ هَذَا كُلُّهُ عَلَى قَصْدِ الشَّارِعِ لِطَلَبِ الْمَشَقَّةِ بِالتَّكْلِيفِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ‏.‏

فَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ التَّكْلِيفَ إِذَا وُجِّهَ عَلَى الْمُكَلَّفِ يُمْكِنُ الْقَصْدُ فِيهِ عَلَى وَجْهَيْن‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنْ يَقْصِدَ إِلَيْهِ مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ مَشَقَّةٌ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنْ يَقْصِدَ إِلَيْهِ مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ مَصْلَحَةٌ وَخَيْرٌ لِلْمُكَلَّفِ عَاجِلًا وَآجِلًا‏.‏

فَأَمَّا الثَّانِي‏;‏ فَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ مَقْصُودُ الشَّارِعِ بِالْعَمَلِ، وَالشَّرِيعَةُ كُلُّهَا نَاطِقَةٌ بِذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ أَوَّلَ هَذَا الْكِتَابِ‏.‏

وَأَمَّا الْأَوَّلُ‏;‏ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ قَصَدَ ذَلِكَ، وَالْقَصْدَانِ لَا يَلْزَمُ اجْتِمَاعُهُمَا‏;‏ فَإِنَّ الطَّبِيبَ يَقْصِدُ بِسَقْيِ الدَّوَاءِ الْمُرِّ الْبَشِعِ، وَالْإِيلَامِ بِفَصْدِ الْعُرُوقِ وَقَطْعِ الْأَعْضَاءِ الْمُتَأَكِّلَةِ‏;‏ نَفْعَ الْمَرِيضِ لَا إِيلَامَهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ حُصُولِ الْإِيلَامِ‏;‏ فَكَذَلِكَ يُتَصَوَّرُ فِي قَصْدِ الشَّارِعِ إِلَى مَصَالِحِ الْخَلْقِ بِالتَّكْلِيفِ فِي الْعَاجِلَةِ وَالْآجِلَةِ، وَالْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الشَّارِعَ يَقْصِدُ بِالتَّكْلِيفِ الْمَصَالِحَ عَلَى الْجُمْلَةِ، فَالنِّزَاعُ فِي قَصْدِهِ لِلْمَشَقَّةِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ تَكْلِيفًا بِاعْتِبَارِ مَا يَلْزَمُهُ، عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِمَا يَلْزَمُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي الِاسْتِعْمَالِ غَيْرَ مَقْصُودٍ حَسَبَ مَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي عِلْمِ الِاشْتِقَاقِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَجَازًا، بَلْ عَلَى حَقِيقَةِ الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ‏.‏

وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي أَنَّ الْعِلْمَ بِوُقُوعِ الْمُسَبَّبُ عَنِ السَّبَبِ- وَإِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ الْقَصْدِ إِلَيْهِ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ-؛ فَإِنَّمَا هُوَ جَارٍ مَجْرَى الْقَصْدِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، أَعْنِي‏:‏ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ بِالتَّسَبُّبِ مُتَعَدٍّ عَلَى الْجُمْلَةِ، لَا مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ قَاصِدٌ لِلْمَفْسَدَةِ الْوَاقِعَةِ، إِذْ قَدْ فَرَضْنَاهُ لَمْ يَقْصِدْ إِلَّا مَنْفَعَةَ نَفْسِهِ، وَإِذَا كَانَ غَيْرَ قَاصِدٍ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ هُنَا فِي حَقِّ الشَّارِعِ‏;‏ إِذْ هُوَ قَاصِدٌ نَفْسَ الْمَصْلَحَةِ لَا مَا يَلْزَمُ فِي طَرِيقِهَا مِنْ بَعْضِ الْمَفَاسِدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لِهَذَا تَقْرِيرٌ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ، وَسَيَأْتِي بَسْطُهُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ بَعْدَ هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ‏.‏

وَأَيْضًا، لَوْ لَزِمَ مِنْ قَصْدِ الشَّارِعِ إِلَى التَّكْلِيفِ بِمَا يَلْزَمُ عَنْهُ مَفْسَدَةٌ فِي طَرِيقِ الْمَصْلَحَةِ قَصْدُهُ إِلَى إِيقَاعِ الْمَفْسَدَةِ شَرْعًا‏;‏ لَزِمَ بُطْلَانُ مَا تَقَدَّمَ الْبُرْهَانُ عَلَى صِحَّتِهِ مِنْ وَضْعِ الشَّرِيعَةِ لِلْمَصَالِحِ لَا لِلْمَفَاسِدِ، وَلَزِمَ فِي خُصُوصِ مَسْأَلَتِنَا أَنْ يَكُونَ قَاصِدًا لِرَفْعِ الْمَشَقَّةِ وَإِيقَاعِهَا مَعًا، وَهُوَ مُحَالٌ بَاطِلٌ عَقْلًا وَسَمْعًا‏.‏

وَأَيْضًا‏;‏ فَلَا يَمْتَنِعُ قَصْدُ الطَّبِيبِ لِسَقْيِ الدَّوَاءِ الْمُرِّ وَقَطْعِ الْأَعْضَاءِ الْمُتَأَكِّلَةِ، وَقَلْعِ الْأَضْرَاسِ الْوَجِعَةِ، وَبَطِّ الْجِرَاحَاتِ الْوَجِعَةِ، وَأَنْ يَحْمِيَ الْمَرِيضَ مَا يَشْتَهِيهِ، وَإِنْ كَانَ يَلْزَمُ مِنْهُ إِذَايَةُ الْمَرِيضِ‏;‏ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِنَّمَا هُوَ الْمَصْلَحَةُ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ وَأَشَدُّ فِي الْمُرَاعَاةِ مِنْ مَفْسَدَةِ الْإِيذَاءِ الَّتِي هِيَ بِطْرِيقِ اللُّزُومِ، وَهَذَا شَأْنُ الشَّرِيعَةِ أَبَدًا، فَإِذَا كَانَ التَّكْلِيفُ عَلَى وَجْهٍ، فَلَا بُدَّ مِنْهُ وَإِنْ أَدَّى إِلَى مَشَقَّةٍ‏;‏ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْمَصْلَحَةُ؛ فَالتَّكْلِيفُ أَبَدًا جَارٍ عَلَى هَذَا الْمَهْيَعِ، فَقَدْ عُلِمَ مِنَ الشَّارِعِ أَنَّ الْمَشَقَّةَ يُنْهَى عَنْهَا، فَإِذَا أَمَرَ بِمَا تَلْزَمُ عَنْهُ، فَلَمْ يَقْصِدْهَا إِذْ لَوْ كَانَ قَاصِدًا لَهَا لَمَا نَهَى عَنْهَا، وَمِنْ هُنَا لَا يُسَمَّى مَا يَلْزَمُ عَنِ الْأَعْمَالِ الْعَادِيَّاتِ مَشَقَّةً عَادَةً‏.‏

وَتَحْصِيلُهُ أَنَّ التَّكْلِيفَ بِالْمُعْتَادَاتِ وَمَا هُوَ مِنْ جِنْسِهَا لَا مَشَقَّةَ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَمَا يَلْزَمُ عَنِ التَّكْلِيفِ لَا يُسَمَّى مَشَقَّةً‏;‏ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ بِوُقُوعِهَا يَسْتَلْزِمُ طَلَبَهَا أَوِ الْقَصْدَ إِلَيْهَا‏.‏

وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّالِثِ أَنَّ الثَّوَابَ حَاصِلٌ مِنْ حَيْثُ كَانَتِ الْمَشَقَّةُ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهَا لُزُومًا عَنْ مُجَرَّدِ التَّكْلِيفِ، وَبِهَا حَصَلَ الْعَمَلُ الْمُكَلَّفُ بِهِ، وَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ كَالْمَقْصُودِ، لَا أَنَّهَا مَقْصُودَةٌ مُطْلَقًا، فَرَتَّبَ الشَّارِعُ فِي مُقَابَلَتِهَا أَجْرًا زَائِدًا عَلَى أَجْرِ إِيقَاعِ الْمُكَلَّفِ بِهِ، وَلَا يَدُلُّ هَذَا عَلَى أَنَّ النَّصَبَ مَطْلُوبٌ أَصْلًا، وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ الثَّوَابَ يَحْصُلُ بِسَبَبِ الْمَشَقَّاتِ، وَإِنْ لَمْ تَتَسَبَّبْ عَنِ الْعَمَلِ الْمَطْلُوبِ، كَمَا يُؤَجَرُ الْإِنْسَانُ وَيُكَفَّرُ عَنْهُ مِنْ سَيِّئَاتِهِ بِسَبَبِ مَا يَلْحَقُهُ مِنَ الْمَصَائِبِ وَالْمَشَقَّاتِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ‏:‏ «مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ وَلَا نَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حَزَنٍ حَتَّى الشَّوْكَةٍ يُشَاكُهَا‏;‏ إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ سَيِّئَاتِهِ» وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ‏.‏

وَأَيْضًا‏;‏ فَالْمُبَاحُ إِذَا عُلِمَ أَنَّهُ يَنْشَأُ عَنْهُ مَمْنُوعٌ لَا يَكُونُ الْعِلْمُ بِذَلِكَ كَالْقَصْدِ إِلَى نَفْسِ الْمَمْنُوعِ، وَكَذَلِكَ يُتَّفَقُ عَلَى مَنْعِ الْقَصْدِ إِلَى نَفْسِ الْمَمْنُوعِ اللَّازِمِ عَنِ الْمُبَاحِ، وَيَخْتَلِفُونَ إِذَا لَمْ يَقْصِدْ إِلَيْهِ وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ، وَسَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏في تَوْضِيحِ قَصْدِ الْمُكَلَّفِ الْمَشَقَّةَ وَهَلِ الْأَجْرُ عَلَى قَدْرِهَا‏؟‏‏]‏

وَيَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا أَصْلٌ آخَرُ‏:‏

وَهُوَ أَنَّ الْمَشَقَّةَ لَيْسَ لِلْمُكَلَّفِ أَنْ يَقْصِدَهَا فِي التَّكْلِيفِ نَظَرًا إِلَى عِظَمِ أَجْرِهَا، وَلَهُ أَنْ يَقْصِدَ الْعَمَلَ الَّذِي يَعْظُمُ أَجْرُهُ لِعِظَمِ مَشَقَّتِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ عَمَلٌ‏.‏

أَمَّا هَذَا الثَّانِي‏;‏ فَلِأَنَّهُ شَأْنُ التَّكْلِيفِ فِي الْعَمَلِ كُلِّهِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَقْصِدُ نَفْسَ الْعَمَلِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ الْأَجْرُ، وَذَلِكَ هُوَ قَصْدُ الشَّارِعِ بِوَضْعِ التَّكْلِيفِ بِهِ، وَمَا جَاءَ عَلَى مُوَافَقَةِ قَصْدِ الشَّارِعِ هُوَ الْمَطْلُوبُ‏.‏

وَأَمَّا الْأَوَّلُ‏;‏ فَإِنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ، وَالْمَقَاصِدُ مُعْتَبَرَةٌ فِي التَّصَرُّفَاتِ كَمَا يُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَا يَصْلُحُ مِنْهَا إِلَّا مَا وَافَقَ قَصْدَ الشَّارِعِ، فَإِذَا كَانَ قَصْدُ الْمُكَلَّفِ إِيقَاعَ الْمَشَقَّةِ، فَقَدْ خَالَفَ قَصْدَ الشَّارِعِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الشَّارِعَ لَا يَقْصِدُ بِالتَّكْلِيفِ نَفْسَ الْمَشَقَّةِ، وَكُلُّ قَصْدٍ يُخَالِفُ قَصْدَ الشَّارِعِ بَاطِلٌ، فَالْقَصْدُ إِلَى الْمَشَقَّةِ بَاطِلٌ، فَهُوَ إِذًا مِنْ قَبِيلِ مَا يُنْهَى عَنْهُ، وَمَا يُنْهَى عَنْهُ لَا ثَوَابَ فِيهِ بَلْ فِيهِ الْإِثْمُ إِنِ ارْتَفَعَ النَّهْيُ عَنْهُ إِلَى دَرَجَةِ التَّحْرِيمِ، فَطَلَبُ الْأَجْرِ بِقَصْدِ الدُّخُولِ فِي الْمَشَقَّةِ قَصْدٌ مُنَاقَضٌ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ هَذَا مُخَالِفٌ لِمَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ‏;‏ قَالَ‏:‏ «خَلَتِ الْبِقَاعُ حَوْلَ الْمَسْجِدِ، فَأَرَادَ بَنُو سَلَمَةَ أَنْ يَنْتَقِلُوا إِلَى قُرْبِ الْمَسْجِدِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُمْ‏:‏ إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَنْتَقِلُوا إِلَى قُرْبِ الْمَسْجِدِ، قَالُوا‏:‏ نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ أَرَدْنَا ذَلِكَ، فَقَالَ بَنِي سَلِمَةَ‏!‏ دِيَارَكُمْ تُكْتَبْ آثَارُكُمْ، دِيَارَكُمْ تُكْتَبْ آثَارُكُمْ‏!‏»‏.‏

وَفِي رِوَايَةٍ‏:‏ فَقَالُوا‏:‏ مَا كَانَ يَسُرُّنَا أَنَّا كُنَّا تَحَوَّلْنَا‏.‏

وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ جَابِرٍ‏;‏ قَالَ‏:‏ «كَانَتْ دِيَارُنَا نَائِيَةً عَنِ الْمَسْجِدِ، فَأَرَدْنَا أَنْ نَبِيعَ بُيُوتَنَا فَنَقْتَرِبَ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَنَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ‏:‏ إِنَّ لَكُمْ بِكُلِّ خُطْوَةٍ دَرَجَةً»‏.‏

وَفِي رَقَائِقِ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ‏;‏ أَنَّهُ كَانَ فِي سَفِينَةٍ فِي الْبَحْرِ مَرْفُوعٍ شِرَاعُهَا، فَإِذَا رَجُلٌ يَقُولُ‏:‏ يَا أَهْلَ السَّفِينَةِ‏!‏ قِفُوا سَبْعَ مِرَارٍ‏.‏ فَقُلْنَا‏:‏ أَلَا تَرَى عَلَى أَيِّ حَالٍ نَحْنُ‏؟‏ ثُمَّ قَالَ فِي السَّابِعَة‏:‏ لَقَضَاءٌ قَضَاهُ اللَّهُ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ مَنْ عَطَّشَ لِلَّهِ نَفْسَهُ فِي يَوْمٍ حَارٍّ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا شَدِيدِ الْحَرِّ‏;‏ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَرْوِيَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏.‏ فَكَانَ أَبُو مُوسَى يَتَتَبَّعُ الْيَوْمَ الْمَعْمَعَانِيَّ الشَّدِيدَ الْحَرِّ فَيَصُومُهُ‏.‏

وَفِي الشَّرِيعَةِ مِنْ هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَصْدَ الْمُكَلَّفِ إِلَى التَّشْدِيدِ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْعِبَادَةِ وَسَائِرِ التَّكَالِيفِ صَحِيحٌ مُثَابٌ عَلَيْهِ، فَإِنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَحَبُّوا الِانْتِقَالَ أَمَرَهُمْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالثُّبُوتِ لِأَجْلِ عِظَمِ الْأَجْرِ بِكَثْرَةِ الْخُطَا، فَكَانُوا كَرَجُلٍ لَهُ طَرِيقَانِ إِلَى الْعَمَل‏:‏ أَحَدُهُمَا سَهْلٌ، وَالْآخَرُ صَعْبٌ‏;‏ فَأُمِرَ بِالصَّعْبِ وَوُعِدَ عَلَى ذَلِكَ بِالْأَجْرِ، بَلْ جَاءَ نَهْيُهُمْ عَنْ ذَلِكَ إِرْشَادًا إِلَى كَثْرَةِ الْأَجْرِ‏.‏

وَتَأَمَّلْ أَحْوَالَ أَصْحَابِ الْأَحْوَالِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ‏;‏ فَإِنَّهُمْ رَكِبُوا فِي التَّعَبُّدِ إِلَى رَبِّهِمْ أَعْلَى مَا بَلَغَتْهُ طَاقَتُهُمْ، حَتَّى كَانَ مِنْ أَصْلِهِمُ الْأَخْذُ بِعَزَائِمِ الْعِلْمِ، وَتَرْكِ الرُّخَصِ جُمْلَةً، فَهَذَا كُلُّهُ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِ مَا تَقَدَّمَ‏.‏

وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ‏;‏ قَالَ‏:‏ كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ بَيْتُهُ أَقْصَى بَيْتٍ فِي الْمَدِينَةِ، فَكَانَ لَا تُخْطِئُهُ الصَّلَاةُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ‏:‏ فَتَوَجَّعْنَا لَهُ‏;‏ فَقُلْنَا لَهُ‏:‏ يَا فُلَانُ‏!‏ لَوْ أَنَّكَ اشْتَرَيْتَ حِمَارًا يَقِيكَ مِنَ الرَّمْضَاءِ وَيَقِيكَ مِنْ هَوَامِّ الْأَرْضِ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ أَمَا وَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنَّ بَيْتِي مُطْنَبٌ بِبَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَحَمَلْتُ بِهِ حَتَّى أَتَيْتُ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ، قَالَ‏:‏ فَدَعَاهُ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَذَكَرَ أَنَّهُ يَرْجُو لَهُ فِي أَثَرِهِ الْأَجْرَ‏.‏ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «إِنَّ لَكَ مَا احْتَسَبْتَ»‏.‏

فَالْجَوَابُ أَنْ نَقُولَ‏:‏

أَوَّلًا‏:‏ إِنَّ هَذِهِ أَخْبَارُ آحَادٍ فِي قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ لَا يَنْتَظِمُ مِنْهَا اسْتِقْرَاءٌ قَطْعِيٌّ، وَالظَّنِّيَّاتُ لَا تُعَارِضُ الْقَطْعِيَّاتِ‏;‏ فَإِنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ قَبِيلِ الْقَطْعِيَّاتِ‏.‏

وَثَانِيًا‏:‏ إِنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ لَا دَلِيلَ فِيهَا عَلَى قَصْدِ نَفْسِ الْمَشَقَّةِ، فَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ قَدْ جَاءَ فِي الْبُخَارِيِّ مَا يُفَسِّرُهُ‏;‏ فَإِنَّهُ زَادَ فِيه‏:‏ وَكَرِهَ أَنْ تُعَرَّى الْمَدِينَةُ قِبَلَ ذَلِكَ‏;‏ لِئَلَّا تَخْلُوَ نَاحِيَتُهُمْ مِنْ حِرَاسَتِهَا‏.‏

وَقَدْ رَوَى عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّهُ كَانَ أَوَّلًا نَازِلًا بِالْعَقِيقِ، ثُمَّ نَزَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَقِيلَ لَهُ عِنْدَ نُزُولِهِ الْعَقِيقَ‏:‏ لِمَ تَنْزِلُ الْعَقِيقَ فَإِنَّهُ يَشُقُّ بُعْدُهُ إِلَى الْمَسْجِدِ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ بَلَغَنِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحِبُّهُ وَيَأْتِيهِ، وَأَنَّ بَعْضَ الْأَنْصَارِ أَرَادُوا النَّقْلَةَ مِنْهُ إِلَى قُرْبِ الْمَسْجِدِ‏;‏ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «أَمَا تَحْتَسِبُونَ خُطَاكُمْ‏؟‏» فَقَدْ فَهِمَ مَالِكٌ أَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ أَلَا تَحْتَسِبُونَ خُطَاكُمْ لَيْسَ مِنْ جِهَةِ إِدْخَالِ الْمَشَقَّةِ‏;‏ وَلَكِنْ مِنْ جِهَةِ فَضِيلَةِ الْمَحِلِّ الْمُنْتَقَلِ عَنْهُ‏.‏

وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ الْمُبَارَكِ‏;‏ فَإِنَّهُ حُجَّةٌ مِنْ عَمَلِ الصَّحَابِيِّ إِذَا صَحَّ سَنَدُهُ عَنْهُ، وَمَعَ ذَلِكَ‏;‏ فَإِنَّمَا فِيهِ الْإِخْبَارُ بِأَنَّ عِظَمَ الْأَجْرِ ثَابِتٌ لِمَنْ عَظُمَتْ مَشَقَّةُ الْعِبَادَةِ عَلَيْهِ‏;‏ كَالْوُضُوءِ عِنْدَ الْكَرِيهَاتِ، وَالظَّمَأِ وَالنَّصَبِ فِي الْجِهَادِ، فَإِذًا اخْتِيَارُ أَبِي مُوسَى رِضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلصَّوْمِ فِي الْيَوْمِ الْحَارِّ كَاخْتِيَارِ مَنِ اخْتَارَ الْجِهَادَ عَلَى نَوَافِلِ الصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، لَا أَنَّ فِيهِ قَصْدَ التَّشْدِيدِ عَلَى النَّفْسِ لِيَحْصُلَ الْأَجْرُ بِهِ، وَإِنَّمَا فِيهِ قَصْدُ الدُّخُولِ فِي عِبَادَةٍ عَظُمَ أَجْرُهَا لِعِظَمِ مَشَقَّتِهَا‏;‏ فَالْمَشَقَّةُ فِي هَذَا الْقَصْدِ تَابِعَةٌ لَا مَتْبُوعَةٌ، وَكَلَامُنَا إِنَّمَا هُوَ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الْمَشَقَّةُ فِي الْقَصْدِ غَيْرَ تَابِعَةٍ، وَكَذَلِكَ حَدِيثُ الْأَنْصَارِيِّ لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى قَصْدِ التَّشْدِيدِ، وَإِنَّمَا فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى قَصْدِ الصَّبْرِ عَلَى مَشَقَّةِ بُعْدِ الْمَسْجِدِ لِيَعْظُمَ أَجْرُهُ، وَهَكَذَا سَائِرُ مَا فِي هَذَا الْمَعْنَى‏.‏

وَأَمَّا شَأْنُ أَرْبَابِ الْأَحْوَالِ‏;‏ فَمَقَاصِدُهُمُ الْقِيَامُ بِحَقِّ مَعْبُودِهِمْ، مَعَ اطِّرَاحِ النَّظَرِ فِي حُظُوظِ نُفُوسِهِمْ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ‏:‏ إِنَّهُمْ قَصَدُوا مُجَرَّدَ التَّشْدِيدِ عَلَى النُّفُوسِ وَاحْتِمَالِ الْمَشَقَّاتِ‏;‏ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ، وَلِمَا سَيَأْتِي بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ‏.‏

وَثَالِثًا‏:‏ إِنَّ مَا اعْتُرِضَ بِهِ مُعَارَضٌ بِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ أَرَادُوا التَّشْدِيدَ بِالتَّبَتُّلِ، حِينَ قَالَ أَحَدُهُمْ‏:‏ أَمَّا أَنَا‏;‏ فَأَصُومُ وَلَا أُفْطِرُ، وَقَالَ الْآخَرُ‏:‏ أَمَّا أَنَا‏;‏ فَأَقُومُ اللَّيْلَ وَلَا أَنَامُ، وَقَالَ الْآخَرُ‏:‏ أَمَّا أَنَا‏;‏ فَلَا آتِي النِّسَاءَ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَأَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَقَالَ‏:‏ «مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي‏;‏ فَلَيْسَ مِنِّي»‏.‏

وَفِي الْحَدِيث‏:‏ وَرَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّبَتُّلَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لَاخْتَصَيْنَا‏.‏

وَرَدَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ قَائِمًا فِي الشَّمْسِ‏;‏ فَأَمَرَهُ بِإِتْمَامِ صِيَامِهِ، وَنَهَاهُ عَنِ الْقِيَامِ فِي الشَّمْسِ‏.‏

وَقَالَ‏:‏ «هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ»‏.‏

وَنَهْيُهُ عَنِ التَّشْدِيدِ شَهِيرٌ فِي الشَّرِيعَةِ، بِحَيْثُ صَارَ أَصْلًا فِيهَا قَطْعِيًّا، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ قَصْدِ الشَّارِعِ التَّشْدِيدُ عَلَى النَّفْسِ، كَانَ قَصْدُ الْمُكَلَّفِ إِلَيْهِ مُضَادًّا لِمَا قَصَدَ الشَّارِعُ مِنَ التَّخْفِيفِ الْمَعْلُومِ الْمَقْطُوعِ بِهِ، فَإِذَا خَالَفَ قَصْدُهُ قَصْدَ الشَّارِعِ‏;‏ بَطَلَ وَلَمْ يَصِحَّ، وَهَذَا وَاضِحٌ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏في الْأَفْعَالِ الْمَأْذُونِ فِيهَا وُجُوبًا أَوْ نَدْبًا أَوْ إِبَاحَةً إِذَا تَسَبَّبَ عَنْهَا مَشَقَّةٌ مُعْتَادَةٌ أَوْ غَيْرُ مُعْتَادَةٍ‏]‏

وَيَنْبَنِي أَيْضًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَصْلٌ آخَرُ‏.‏

وَهُوَ أَنَّ الْأَفْعَالَ الْمَأْذُونَ فِيهَا‏;‏ إِمَّا وُجُوبًا، أَوْ نَدْبًا، أَوْ إِبَاحَةً، إِذَا تَسَبَّبَ عَنْهَا مَشَقَّةٌ‏;‏ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مُعْتَادَةً فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْعَمَلِ، أَوْ لَا تَكُونَ مُعْتَادَةً، فَإِنْ كَانَتْ مُعْتَادَةً‏;‏ فَذَلِكَ الَّذِي تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَتِ الْمَشَقَّةُ فِيهِ مَقْصُودَةً لِلشَّارِعِ مِنْ جِهَةِ مَا هِيَ مَشَقَّةٌ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُعْتَادَةً‏;‏ فَهِيَ أَوْلَى أَلَّا تَكُونَ مَقْصُودَةً لِلشَّارِعِ، وَلَا يَخْلُو عِنْدَ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ حَاصِلَةً بِسَبَبِ الْمُكَلَّفِ وَاخْتِيَارِهِ، مَعَ أَنَّ ذَلِكَ الْعَمَلَ لَا يَقْتَضِيهَا بِأَصْلِهِ، أَوْ لَا‏.‏

فَإِنْ كَانَتْ حَاصِلَةً بِسَبَبِهِ كَانَ ذَلِكَ مَنْهِيًّا عَنْهُ وَغَيْرَ صَحِيحٍ فِي التَّعَبُّدِ بِهِ‏;‏ لِأَنَّ الشَّارِعَ لَا يَقْصِدُ الْحَرَجَ فِيمَا أَذِنَ فِيهِ، وَمِثَالُ هَذَا حَدِيثُ النَّاذِرِ لِلصِّيَامِ قَائِمًا فِي الشَّمْسِ، وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ فِي أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ بِإِتْمَامِ الصَّوْمِ وَأَمْرِهِ لَهُ بِالْقُعُودِ وَالِاسْتِظْلَال‏:‏ أَمَرَهُ أَنْ يُتِمَّ مَا كَانَ لِلَّهِ طَاعَةً، وَنَهَاهُ عَمَّا كَانَ لِلَّهِ مَعْصِيَةً؛ لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ تَعْذِيبَ النُّفُوسِ سَبَبًا لِلتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ وَلَا لِنَيْلِ مَا عِنْدَهُ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، إِلَّا أَنَّ هَذَا النَّهْيَ مَشْرُوطٌ بِأَنْ تَكُونَ الْمَشَقَّةُ أَدْخَلَهَا عَلَى نَفْسِهِ مُبَاشَرَةً، لَا بِسَبَبِ الدُّخُولِ فِي الْعَمَلِ‏;‏ كَمَا فِي الْمِثَالِ‏;‏ فَالْحُكْمُ فِيهِ بَيِّنٌ‏.‏

وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ تَابِعَةً لِلْعَمَلِ كَالْمَرِيضِ الْغَيْرِ الْقَادِرِ عَلَى الصَّوْمِ أَوِ الصَّلَاةِ قَائِمًا، وَالْحَاجِّ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْحَجِّ مَاشِيًا أَوْ رَاكِبًا‏;‏ إِلَّا بِمَشَقَّةٍ خَارِجَةٍ عَنِ الْمُعْتَادِ فِي مِثْلِ الْعَمَلِ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي جَاءَ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 185‏]‏، وَجَاءَ فِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ الرُّخَصِ‏.‏

وَلَكِنَّ صَاحِبَ هَذَا إِنْ عَمِلَ بِالرُّخْصَةِ‏;‏ فَذَاكَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عَامِلًا لِمُجَرَّدِ حَظِّ نَفْسِهِ، وَأَنْ يَكُونَ قَبِلَ الرُّخْصَةَ مِنْ رَبِّهِ تَلْبِيَةً لِإِذْنِهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ بِالرُّخْصَةِ‏;‏ فَعَلَى وَجْهَيْن‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنْ يَعْلَمَ أَوْ يَظُنَّ أَنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ أَوْ جِسْمِهِ أَوْ عَقْلِهِ أَوْ عَادَتِهِ فَسَادٌ يَتَحَرَّجُ بِهِ وَيَعْنَتُ، وَيَكْرَهُ بِسَبَبِهِ الْعَمَلَ‏;‏ فَهَذَا أَمْرٌ لَيْسَ لَهُ، وَكَذَلِكَ إِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ وَلَا ظَنَّ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا دَخَلَ فِي الْعَمَلِ دَخَلَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَحُكْمُهُ الْإِمْسَاكُ عَمَّا أَدْخَلَ عَلَيْهِ الْمُشَوِّشُ‏.‏

وَفِي مِثْلِ هَذَا جَاءَ‏:‏ «لَيْسَ مِنَ الْبَرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ»‏.‏

وَفِي نَحْوِهِ نُهِيَ عَنِ الصَّلَاةِ وَهُوَ بِحَضْرَةِ الطَّعَامِ أَوْ وَهُوَ يُدَافِعُهُ الْأَخْبَثَانِ‏.‏

وَقَالَ‏:‏ «لَا يَقْضِ الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ»‏.‏

وَفِي الْقُرْآن‏:‏ ‏{‏لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى‏}‏ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 43‏]‏‏.‏

إِلَى أَشْبَاهِ ذَلِكَ مِمَّا نَهَى عَنْهُ بِسَبَبِ عَدَمِ اسْتِيفَاءِ الْعَمَلِ الْمَأْذُونِ فِيهِ عَلَى كَمَالِهِ، فَإِنَّ قَصْدَ الشَّارِعِ الْمُحَافَظَةُ عَلَى عَمَلِ الْعَبْدِ لِيَكُونَ خَالِصًا مِنَ الشَّوَائِبِ، وَالْإِبْقَاءُ عَلَيْهِ حَتَّى يَكُونَ فِي تَرَفِهِ وَسَعَةِ حَالِ دُخُولِهِ فِي رِبْقَةِ التَّكْلِيفِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنْ يَعْلَمَ أَوْ يَظُنَّ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْفَسَادُ، وَلَكِنْ فِي الْعَمَلِ مَشَقَّةٌ غَيْرُ مُعْتَادَةٍ‏;‏ فَهَذَا أَيْضًا مَوْضِعٌ لِمَشْرُوعِيَّةِ الرُّخْصَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَيَتَفَصَّلُ الْأَمْرُ فِيهِ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ، وَالْعِلَّةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ زِيَادَةَ الْمَشَقَّةِ مِمَّا يَنْشَأُ عَنْهَا الْعَنَتُ، بَلِ الْمَشَقَّةُ فِي نَفْسِهَا هِيَ الْعَنَتُ وَالْحَرَجُ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَى الصَّبْرِ عَلَيْهَا‏;‏ فَهِيَ مِمَّا لَا يُقْدَرُ عَلَى الصَّبْرِ عَلَيْهِ عَادَةً‏.‏

إِلَّا أَنَّ هُنَا وَجْهًا ثَالِثًا، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْمَشَقَّةُ غَيْرَ مُعْتَادَةٍ، لَكِنَّهَا صَارَتْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَعْضِ النَّاسِ كَالْمُعْتَادَةِ، وَرُبَّ شَيْءٍ هَكَذَا، فَإِنَّ أَرْبَابَ الْأَحْوَالِ مِنَ الْعُبَّادِ وَالْمُنْقَطِعِينَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، الْمُعَانِينَ عَلَى بَذْلِ الْمَجْهُودِ فِي التَّكَالِيفِ قَدْ خُصُّوا بِهَذِهِ الْخَاصِّيَّةِ، وَصَارُوا مُعَانِينَ عَلَى مَا انْقَطَعُوا إِلَيْهِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 45‏]‏؛ فَجَعَلَهَا كَبِيرَةً عَلَى الْمُكَلَّفِ، وَاسْتَثْنَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ كَانَ إِمَامَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهُوَ الَّذِي كَانَتْ قُرَّةُ عَيْنِهِ فِي الصَّلَاةِ، حَتَّى كَانَ يَسْتَرِيحُ إِلَيْهَا مِنْ تَعَبِ الدُّنْيَا، وَقَامَ حَتَّى تَفَطَّرَتْ قَدَمَاهُ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَنْ خُصَّ بِوِرَاثَتِهِ فِي هَذَا النَّحْوِ نَالَ مِنْ بَرَكَةِ هَذِهِ الْخَاصِّيَّةِ‏.‏

وَهَذَا الْقِسْمُ يَسْتَدْعِي كَلَامًا يَكُونُ فِيهِ مَدُّ بَعْضِ نَفَسٍ‏;‏ فَإِنَّهُ مَوْضِعٌ مُغْفَلٌ قَلَّ مَنْ تَكَلَّمَ عَلَيْهِ، مَعَ تَأَكُّدِهِ فِي أُصُولِ الشَّرِيعَةِ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏في أَسْبَابِ رَفْعِ الْحَرَجِ عَنِ الْمُكَلَّفِينَ‏]‏

فَاعْلَمْ أَنَّ الْحَرَجَ مَرْفُوعٌ عَنِ الْمُكَلَّفِ لِوَجْهَيْن‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ الْخَوْفُ مِنَ الِانْقِطَاعِ مِنَ الطَّرِيقِ، وَبُغْضِ الْعِبَادَةِ، وَكَرَاهَةِ التَّكْلِيفِ، وَيَنْتَظِمُ تَحْتَ هَذَا الْمَعْنَى الْخَوْفُ مِنْ إِدْخَالِ الْفَسَادِ عَلَيْهِ فِي جِسْمِهِ أَوْ عَقْلِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ حَالِهِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ خَوْفُ التَّقْصِيرِ عِنْدَ مُزَاحَمَةِ الْوَظَائِفِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْعَبْدِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَنْوَاعِ، مِثْلِ قِيَامِهِ عَلَى أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ إِلَى تَكَالِيفَ أُخَرَ تَأْتِي فِي الطَّرِيقِ، فَرُبَّمَا كَانَ التَّوَغُّلُ فِي بَعْضِ الْأَعْمَالِ شَاغِلًا عَنْهَا، وَقَاطِعًا بِالْمُكَلَّفِ دُونَهَا، وَرُبَّمَا أَرَادَ الْحَمْلَ لِلطَّرَفَيْنِ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الِاسْتِقْصَاءِ‏;‏ فَانْقَطَعَ عَنْهُمَا‏.‏

فَأَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ وَضَعَ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ الْمُبَارَكَةَ حَنِيفِيَّةً سَمْحَةً سَهْلَةً، حَفِظَ فِيهَا عَلَى الْخَلْقِ قُلُوبَهُمْ، وَحَبَّبَهَا لَهُمْ بِذَلِكَ، فَلَوْ عَمِلُوا عَلَى خِلَافِ السَّمَاحِ وَالسُّهُولَةِ‏;‏ لَدَخَلَ عَلَيْهِمْ فِيمَا كُلِّفُوا بِهِ مَا لَا تَخْلُصُ بِهِ أَعْمَالُهُمْ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ‏}‏ ‏[‏الْحُجُرَات‏:‏ 7‏]‏ إِلَى آخِرِهَا‏;‏ فَقَدْ أَخْبَرَتِ الْآيَةُ أَنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْنَا الْإِيمَانَ بِتَيْسِيرِهِ وَتَسْهِيلِهِ، وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِنَا بِذَلِكَ، وَبِالْوَعْدِ الصَّادِقِ بِالْجَزَاءِ عَلَيْهِ‏.‏

وَفِي الْحَدِيث‏:‏ «عَلَيْكُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا»‏.‏

وَفِي حَدِيثِ قِيَامِ رَمَضَانَ‏:‏ «أَمَّا بَعْدُ‏;‏ فَإِنَّهُ لَمْ يَخْفَ عَلَيَّ شَأْنُكُمْ، وَلَكِنْ خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ صَلَاةُ اللَّيْلِ فَتَعْجِزُوا عَنْهَا»‏.‏

وَفِي حَدِيثِ الْحَوْلَاءِ بِنْتِ تُوَيْتٍ حِينَ قَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا‏:‏ «هَذِهِ الْحَوْلَاءُ بِنْتُ تُوَيْتٍ، زَعَمُوا أَنَّهَا لَا تَنَامُ اللَّيْلَ‏.‏ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ‏:‏ لَا تَنَامُ اللَّيْلَ‏؟‏‏!‏ خُذُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ‏;‏ فَوَاللَّهِ لَا يَسْأَمُ اللَّهُ حَتَّى تَسْأَمُوا»‏.‏

وَحَدِيثِ أَنَسٍ‏:‏ «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ وَحَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ سَارِيَتَيْنِ‏;‏

فَقَالَ‏:‏ مَا هَذَا‏؟‏، قَالُوا‏:‏ حَبْلٌ لِزَيْنَبَ، تُصَلِّي فَإِذَا كَسِلَتْ أَوْ فَتَرَتْ أَمْسَكَتْ بِهِ‏.‏ فَقَالَ‏:‏ حُلُّوهُ، لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ، فَإِذَا كَسِلَ أَوْ فَتَرَ‏;‏ قَعَدَ»‏.‏

وَحَدِيثِ مُعَاذٍ حِينَ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ‏:‏ «أَفَتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ‏؟‏ حِينَ أَطَالَ الصَّلَاةَ بِالنَّاسِ، وَقَالَ‏:‏ إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ‏;‏ فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيَتَجَوَّزْ‏;‏ فَإِنَّ فِيهِمُ الضَّعِيفَ، وَالْكَبِيرَ، وَذَا الْحَاجَةِ»‏.‏

وَنَهَى عَنِ الْوِصَالِ رَحْمَةً لَهُمْ‏.‏

وَنَهَى عَنِ النَّذْرِ، وَقَالَ‏:‏ «إِنَّ اللَّهَ يَسْتَخْرِجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ، وَإِنَّهُ لَا يُغْنِي مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئًا»‏.‏

أَوْ كَمَا قَالَ، لَكِنَّ هَذَا كُلَّهُ مُعَلَّلٌ مَعْقُولُ الْمَعْنَى بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ السَّآمَةِ وَالْمَلَلِ، وَالْعَجْزِ، وَبُغْضِ الطَّاعَةِ وَكَرَاهِيَتِهَا‏.‏

وَقَدْ جَاءَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ «إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ‏;‏ فَأَوْغِلُوا فِيهِ بِرِفْقٍ، وَلَا تُبَغِّضُوا إِلَى أَنْفُسِكُمْ عِبَادَةَ اللَّهِ، فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ لَا أَرْضًا قَطَعَ، وَلَا ظَهْرًا أَبْقَى»‏.‏

وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا‏:‏ «نَهَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْوِصَالِ رَحْمَةً لَهُمْ‏.‏ قَالُوا‏:‏ إِنَّكَ تُوَاصِلُ‏.‏ فَقَالَ‏:‏ إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي»‏.‏

وَحَاصِلُ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ النَّهْيَ لِعِلَّةٍ مَعْقُولَةِ الْمَعْنَى مَقْصُودَةٍ لِلشَّارِعِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ‏;‏ فَالنَّهْيُ دَائِرٌ مَعَ الْعِلَّةِ وُجُودًا وَعَدَمًا، فَإِذَا وُجِدَ مَا عَلَّلَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ النَّهْيُ مُتَوَجِّهًا وَمُتَّجِهًا، وَإِذَا لَمْ تُوجَدْ‏;‏ فَالنَّهْيُ مَفْقُودٌ، إِذِ النَّاسُ فِي هَذَا الْمَيْدَانِ عَلَى ضَرْبَيْن‏:‏

ضَرْبٌ يَحْصُلُ لَهُ بِسَبَبِ إِدْخَالِ نَفْسِهِ فِي الْعَمَلِ تِلْكَ الْمَشَقَّةُ الزَّائِدَةُ عَلَى الْمُعْتَادِ‏;‏ فَتُؤَثِّرُ فِيهِ أَوْ فِي غَيْرِهِ فَسَادًا، أَوْ تُحْدِثُ لَهُ ضَجَرًا وَمَلَلًا، وَقُعُودًا عَنِ النَّشَاطِ إِلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ‏;‏ كَمَا هُوَ الْغَالِبُ فِي الْمُكَلَّفِينَ‏;‏ فَمِثْلُ هَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَرْتَكِبَ مِنَ الْأَعْمَالِ مَا فِيهِ ذَلِكَ، بَلْ يَتَرَخَّصُ فِيهِ بِحَسَبِ مَا شُرِعَ لَهُ فِي التَّرَخُّصِ، إِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ، أَوْ يَتْرُكُهُ إِنْ كَانَ مِمَّا لَهُ تَرْكُهُ، وَهُوَ مُقْتَضَى التَّعْلِيلِ، وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ‏:‏ «لَا يَقْضِ الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ»، وَقَوْلُهُ‏:‏ «إِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا»، وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ حِينَ بَلَغَهُ أَنَّهُ يَسْرُدُ الصَّوْمَ، وَقَدْ قَالَ بَعْدَ الْكِبَر‏:‏ لَيْتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَةَ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

وَالضَّرْبُ الثَّانِي شَأْنُهُ أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْمَلَلُ وَلَا الْكَسَلُ، لِوَازِعٍ هُوَ أَشَدُّ مِنَ الْمَشَقَّةِ، أَوْ حَادٌّ يَسْهُلُ بِهِ الصَّعْبُ، أَوْ لِمَا لَهُ فِي الْعَمَلِ مِنَ الْمَحَبَّةِ، وَلِمَا حَصَلَ لَهُ فِيهِ مِنَ اللَّذَّةِ، حَتَّى خَفَّ عَلَيْهِ مَا ثَقُلَ عَلَى غَيْرِهِ، وَصَارَتْ تِلْكَ الْمَشَقَّةُ فِي حَقِّهِ غَيْرَ مَشَقَّةٍ، بَلْ يَزِيدُهُ كَثْرَةُ الْعَمَلِ وَكَثْرَةُ الْعَنَاءِ فِيهِ نُورًا وَرَاحَةً، أَوْ يُحْفَظُ عَنْ تَأْثِيرِ ذَلِكَ الْمُشَوِّشِ فِي الْعَمَلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ أَوْ إِلَى غَيْرِهِ‏;‏ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيث‏:‏ «أَرِحْنَا بِهَا يَا بِلَالُ»‏.‏

وَفِي الْحَدِيث‏:‏ «حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمْ ثَلَاثٌ، قَالَ‏:‏ وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ»‏.‏

وَقَالَ لَمَّا قَامَ حَتَّى تَوَرَّمَتْ أَوْ تَفَطَّرَتْ قَدَمَاهُ‏:‏ «أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا‏؟‏»

وَقِيلَ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ‏:‏ «أَنَأْخَذُ عَنْكَ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَى‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ»‏.‏

وَهُوَ الْقَائِلُ فِي حَقِّنَا‏:‏ «لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ»، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ خَاصًّا بِهِ‏;‏ فَالدَّلِيلُ صَحِيحٌ‏.‏

وَجَاءَ فِي هَذَا الْمَعْنَى مِنِ احْتِمَالِ الْمَشَقَّةِ فِي الْأَعْمَالِ وَالصَّبْرِ عَلَيْهَا دَائِمًا كَثِيرٌ‏.‏

وَيَكْفِيكَ مِنْ ذَلِكَ مَا جَاءَ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ يَلِيهِمْ رِضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِمَّنِ اشْتَهَرَ بِالْعِلْمِ وَحَمْلِ الْحَدِيثِ وَالِاقْتِدَاءِ بَعْدَ الِاجْتِهَادِ‏;‏ كَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ عَامِرٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ‏;‏ وَمِنَ التَّابِعِينَ، كَعَامِرِ بْنِ عَبْدِ قَيْسٍ، وَأُوَيْسٍ، وَمَسْرُوقٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ، وَالرَّبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ رَاهِبِ قُرَيْشٍ، وَكَمَنْصُورِ بْنِ زَاذَانَ، وَيَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، وَهُشَيْمٍ، وَزِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، وَأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، وَمَنْ سِوَاهُمْ مِمَّنْ يَطُولُ ذِكْرُهُمْ، وَهُمْ مِنِ اتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا مَا هُمْ‏.‏

وَمِمَّا جَاءَ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ إِذَا صَلَّى الْعِشَاءَ أَوْتَرَ بِرَكْعَةٍ يَقْرَأُ فِيهَا الْقُرْآنَ كُلَّهُ‏.‏

وَكَمْ مِنْ رَجُلٍ مِنْهُمْ صَلَّى الصُّبْحَ بِوُضُوءِ الْعِشَاءِ كَذَا وَكَذَا سَنَةٍ، وَسَرَدَ الصِّيَامَ كَذَا وَكَذَا سَنَةٍ‏.‏

وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُمَا كَانَا يُوَاصِلَانِ الصِّيَامَ، وَأَجَازَ مَالِكٌ صِيَامَ الدَّهْرِ‏.‏

وَكَانَ أُوَيْسٌ الْقَرَنِيُّ يَقُومُ لَيْلَةً حَتَّى يُصْبِحَ، وَيَقُولُ‏:‏ بَلَغَنِي أَنَّ لِلَّهِ عِبَادًا سُجُودًا أَبَدًا‏.‏

وَنَحْوُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ‏.‏

وَعَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ كَانَ يُجْهِدُ نَفْسَهُ فِي الصَّوْمِ وَالْعِبَادَةِ، حَتَّى يَخْضَرَّ جَسَدُهُ وَيَصْفَرَّ، فَكَانَ عَلْقَمَةُ يَقُولُ لَهُ‏:‏ وَيْحَكَ‏!‏ لِمَ تُعَذِّبُ هَذَا الْجَسَدَ‏؟‏ فَيَقُولُ‏:‏ إِنَّ الْأَمْرَ جِدٌّ، إِنَّ الْأَمْرَ جِدٌّ‏.‏

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّ امْرَأَةَ مَسْرُوقٍ قَالَتْ‏:‏ كَانَ يُصَلِّي حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ، فَرُبَّمَا جَلَسْتُ أَبْكِي خَلْفَهُ مِمَّا أَرَاهُ يَصْنَعُ بِنَفْسِهِ‏.‏

وَعَنِ الشَّعْبِيِّ؛ قَالَ غُشِيَ عَلَى مَسْرُوقٍ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ وَهُوَ صَائِمٌ، فَقَالَتْ لَهُ ابْنَتُهُ‏:‏ أَفْطِرْ‏!‏ قَالَ‏:‏ مَا أَرَدْتِ بِي‏؟‏ قَالَت‏:‏ الرِّفْقَ‏.‏ قَالَ‏:‏ يَا بُنَيَّةُ‏!‏ إِنَّمَا طَلَبْتُ الرِّفْقَ لِنَفْسِي فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ‏.‏

إِلَى سَائِرِ مَا ذُكِرَ عَنِ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ الَّتِي لَا يُطِيقُهَا إِلَّا الْأَفْرَادُ هَيَّأَهُمُ اللَّهُ لَهَا وَهَيَّأَهَا لَهُمْ وَحَبَّبَهَا إِلَيْهِمْ، وَلَمْ يَكُونُوا بِذَلِكَ مُخَالِفِينَ لِلسُّنَّةِ، بَلْ كَانُوا مَعْدُودِينَ فِي السَّابِقَيْنِ، جَعَلَنَا اللَّهُ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي لِأَجْلِهَا نُهِيَ عَنِ الْعَمَلِ الشَّاقِّ مَفْقُودَةٌ فِي حَقِّهِمْ‏;‏ فَلَمْ يُنْتَهِضِ النَّهْيُ فِي حَقِّهِمْ، كَمَا أَنَّهُ لَمَّا قَالَ‏:‏ «لَا يَقْضِ الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ»، وَكَانَ وَجْهُ النَّهْيِ وَعِلَّتُهُ تَشْوِيشَ الْفِكْرِ عَنِ اسْتِيفَاءِ الْحُجَجِ اطَّرَدَ النَّهْيُ مَعَ كُلِّ مَا يُشَوِّشُ الْفِكْرَ، وَانْتَفَى عِنْدَ انْتِفَائِهِ، حَتَّى إِنَّهُ مُنْتَفٍ مَعَ وُجُودِ الْغَضَبِ الْيَسِيرِ الَّذِي لَا يُشَوِّشُ، وَهَذَا صَحِيحٌ مَلِيحٌ‏.‏

فَالضَّرْبُ الْأَوَّلُ حَالُهُ حَالُ مَنْ يَعْمَلُ بِحُكْمِ عَهْدِ الْإِسْلَامِ وَعَقْدِ الْإِيمَانِ مِنْ غَيْرِ زَائِدٍ، وَالثَّانِي حَالُهُ حَالُ مَنْ يَعْمَلُ بِحُكْمِ غَلَبَةِ الْخَوْفِ أَوِ الرَّجَاءِ أَوِ الْمَحَبَّةِ، فَالْخَوْفُ سَوْطٌ سَائِقٌ، وَالرَّجَاءُ حَادٌّ قَائِدٌ، وَالْمَحَبَّةُ تَيَّارٌ حَامِلٌ، فَالْخَائِفُ يَعْمَلُ مَعَ وُجُودِ الْمَشَقَّةِ، غَيْرَ أَنَّ الْخَوْفَ مِمَّا هُوَ أَشَقُّ يَحْمِلُ عَلَى الصَّبْرِ عَلَى مَا هُوَ أَهْوَنُ وَإِنْ كَانَ شَاقًّا، وَالرَّاجِي يَعْمَلُ مَعَ وُجُودِ الْمَشَقَّةِ أَيْضًا، غَيْرَ أَنَّ الرَّجَاءَ فِي تَمَامِ الرَّاحَةِ يَحْمِلُ عَلَى الصَّبْرِ عَلَى تَمَامِ التَّعَبِ، وَالْمُحِبُّ يَعْمَلُ بِبَذْلِ الْمَجْهُودِ شَوْقًا إِلَى الْمَحْبُوبِ، فَيَسْهُلُ عَلَيْهِ الصَّعْبُ وَيَقْرُبُ عَلَيْهِ الْبَعِيدُ، وَيَفْنَى الْقَوِيُّ، وَلَا يَرَى أَنَّهُ أَوْفَى بِعَهْدِ الْمَحَبَّةِ، وَلَا قَامَ بِشُكْرِ النِّعْمَةِ، وَيُعَمِّرُ الْأَنْفَاسَ وَلَا يَرَى أَنَّهُ قَضَى نَهْمَتَهُ، وَكَذَلِكَ الْخَوْفُ عَلَى النَّفْسِ أَوِ الْعَقْلِ أَوِ الْمَالِ يَمْنَعُ مِنَ الْعَمَلِ الْمُسَبِّبِ لِذَلِكَ إِنْ كَانَ لِخَيْرَةِ الْإِنْسَانِ، وَيُرَخَّصُ لَهُ فِيهِ إِنْ كَانَ لَازِمًا لَهُ، حَتَّى لَا يَحْصُلَ فِي مَشَقَّةِ ذَلِكَ‏;‏ لِأَنَّ فِيهِ تَشْوِيشَ النَّفْسِ كَمَا تَقَدَّمَ‏.‏

وَلَكِنَّ الْعَمَلَ الْحَاصِلَ- وَالْحَالَةُ هَذِهِ- هَلْ يَكُونُ مُجَزِئًا أَمْ لَا إِذَا خَافَ تَلَفَ نَفْسِهِ أَوْ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ أَوْ عَقْلِهِ‏؟‏

هَذَا مِمَّا فِيهِ نَظَرٌ يُطَّلَعُ عَلَى حَقِيقَةِ الْأَمْرِ فِيهِ مِنْ قَاعِدَةِ الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ، وَقَدْ نُقِلَ مَنْعُ الصَّوْمِ إِذَا خَافَ التَّلَفَ بِهِ عَنْ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَأَنَّهُ لَا يُجَزِئُهُ إِنْ فَعَلَ، وَنُقِلَ الْمَنْعُ فِي الطَّهَارَةِ عِنْدَ خَوْفِ التَّلَفِ، وَالِانْتِقَالُ إِلَى التَّيَمُّمِ، وَفِي خَوْفِ الْمَرَضِ أَوْ تَلَفِ الْمَالِ احْتِمَالٌ، وَالشَّاهِدُ لِلْمَنْعِ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ‏}‏ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 29‏]‏، وَإِذَا كَانَ مَنْهِيًّا عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَأَشْبَاهِهَا بِسَبَبِ الْخَوْفِ، لَا مِنْ جِهَةِ إِيقَاعِ نَفْسِ تِلْكَ الْعِبَادَاتِ، فَالْأَمْرَانِ مُفْتَرِقَانِ، فَإِنَّ إِدْخَالَ الْمَشَقَّةِ الْفَادِحَةِ عَلَى النَّفْسِ يُعْقَلُ النَّهْيُ عَنْهَا مُجَرَّدَةً عَنِ الصَّلَاةِ، وَالصَّلَاةُ يُعْقَلُ الْأَمْرُ بِهَا مُجَرَّدَةً عَنِ الْمَشَقَّةِ‏;‏ فَصَارَتْ ذَاتَ قَوْلَيْنِ‏.‏

وَأَيْضًا‏;‏ فَيَدْخُلُ فِيهَا النَّظَرُ مِنْ قَاعِدَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ أَنْ يُقَالَ هَلْ قَصَدَ الشَّارِعُ رَفْعَ الْمَشَقَّةِ لِأَجْلِ أَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ لِلَّهِ، أَمْ لِأَجْلِ أَنَّهَا حَقٌّ لِلْعَبْدِ‏؟‏ فَإِنْ قُلْنَا‏:‏ إِنَّهَا حَقٌّ لِلَّهِ، فَيَتَّجِهُ الْمَنْعُ حَيْثُ وَجَّهَهُ الشَّارِعُ، وَقَدْ رَفَعَ الْحَرَجَ فِي الدِّينِ، فَالدُّخُولُ فِيمَا فِيهِ الْحَرَجُ مُضَادٌّ لِذَلِكَ الرَّفْعِ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ حَقٌّ لِلْعَبْدِ، فَإِذَا سَمَحَ الْعَبْدُ لِرَبِّهِ بِحَظِّهِ كَانَتْ عِبَادَتُهُ صَحِيحَةً وَلَمْ يَتَمَحَّضِ النَّهْيُ عَنْ تِلْكَ الْعِبَادَةِ‏.‏

وَالَّذِي يُرَجِّحُ هَذَا الثَّانِيَ أُمُورٌ‏:‏

مِنْهَا‏:‏ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ‏}‏ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 29‏]‏، وَقَدْ دَلَّ بِإِشَارَتِهِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الرِّفْقِ بِالْعِبَادِ‏;‏ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا‏}‏ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 29‏]‏، يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى رَفْعِ الْحَرَجِ عَنْهُمْ لِأَنَّهُ أَرْفَقُ بِهِمْ، وَأَيْضًا‏;‏ فَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الْأَنْبِيَاء‏:‏ 107‏]‏ وَأَشْبَاهُهَا مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى وَضْعِ الشَّرِيعَةِ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى رَفْعِ الْحَرَجِ وَإِرَادَةِ الْيُسْرِ‏;‏ فَإِنَّمَا يَكُونُ النَّهْيُ مُنْتَهِضًا مَعَ فَرْضِ الْحَرَجِ وَالْعُسْرِ، فَإِذَا فُرِضَ ارْتِفَاعُ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قَوْمٍ ارْتَفَعَ النَّهْيُ، وَمِمَّا يَخُصُّ مَسْأَلَتَنَا قِيَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تَفَطَّرَتْ قَدَمَاهُ، أَوْ تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ، وَالْعِبَادَةُ إِذَا صَارَتْ إِلَى هَذَا الْحَدِّ شَقَّتْ وَلَا بُدَّ، وَلَكِنَّ الْمُرَّ فِي طَاعَةِ اللَّهِ يَحْلُو لِلْمُحِبِّينَ، وَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ إِمَامَهُمْ، وَكَذَلِكَ جَاءَ عَنِ السَّلَفِ تَرْدَادُ الْبُكَاءِ حَتَّى عَمِيَتْ أَعْيُنُهُمْ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَرَفَةَ‏;‏ قَالَ‏:‏ رَأَيْتُ يَزِيدَ بْنَ هَارُونَ بِوَاسِطٍ، وَهُوَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ عَيْنَيْنِ، ثُمَّ رَأَيْتُهُ بِعَيْنٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ رَأَيْتُهُ وَقَدْ ذَهَبَتْ عَيْنَاهُ، فَقُلْتُ لَهُ‏:‏ يَا أَبَا خَالِدٍ مَا فَعَلَتِ الْعَيْنَانِ الْجَمِيلَتَانِ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ ذَهَبَ بِهِمَا بُكَاءُ الْأَسْحَارِ‏.‏

وَمَا تَقَدَّمَ فِي احْتِمَالِ مُطْلَقِ الْمَشَقَّةِ عَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ عَاضِدٌ لِهَذَا الْمَعْنَى، فَإِذًا مَنْ غَلَّبَ جَانِبَ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مَنَعَ بِإِطْلَاقٍ، وَمَنْ غَلَّبَ جَانِبَ حَقِّ الْعَبْدِ لَمْ يَمْنَعْ بِإِطْلَاقٍ، وَلَكِنْ جَعَلَ ذَلِكَ إِلَى خِيَرَتِهِ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏الْمُكَلَّفُ مَطَالِبٌ بِأَعْمَالٍ وَوَظَائِفَ شَرْعِيَّةٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهَا‏]‏

وَأَمَّا الثَّانِي‏;‏ فَإِنَّ الْمُكَلَّفَ مَطْلُوبٌ بِأَعْمَالٍ وَوَظَائِفَ شَرْعِيَّةٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهَا، وَلَا مَحِيصَ لَهُ عَنْهَا، يَقُومُ فِيهَا بِحَقِّ رَبِّهِ تَعَالَى، فَإِذَا أَوْغَلَ فِي عِلْمٍ شَاقٍّ‏;‏ فَرُبَّمَا قَطَعَهُ عَنْ غَيْرِهِ، وَلَا سِيَّمَا حُقُوقُ الْغَيْرِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِهِ، فَيَكُونُ عِبَادَتُهُ أَوْ عَمَلُهُ الدَّاخِلُ فِيهِ قَاطِعًا عَمَّا كَلَّفَهُ اللَّهُ بِهِ‏;‏ فَيُقَصِّرُ فِيهِ، فَيَكُونُ بِذَلِكَ مَلُومًا غَيْرَ مَعْذُورٍ‏;‏ إِذِ الْمُرَادُ مِنْهُ الْقِيَامُ بِجَمِيعِهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يُخِلُّ بِوَاحِدَةٍ مِنْهَا، وَلَا بِحَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِ فِيهَا‏.‏

ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ‏;‏ قَالَ‏:‏ «آخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ- وَهِيَ زَوْجُهُ- مُتَبَذِّلَةً‏;‏ فَقَالَ لَهَا‏:‏ مَا شَأْنُكِ‏؟‏ قَالَتْ‏:‏ أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا‏.‏ فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا، فَقَالَ لَهُ‏:‏ كُلْ فَإِنِّي صَائِمٌ‏.‏ فَقَالَ‏:‏ مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ‏;‏ فَأَكَلَ‏.‏ فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ، فَقَالَ‏:‏ نَمْ، فَنَامَ‏.‏ ثُمَّ ذَهَبَ لِيَقُومَ، فَقَالَ‏:‏ نَمْ‏.‏ فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ قَالَ سَلْمَانُ‏:‏ قُمِ الْآنَ‏.‏ فَصَلَّيْنَا، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ‏:‏ إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقِّهِ‏.‏ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ‏;‏ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ صَدَقَ سَلْمَانُ»‏.‏

وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِمُعَاذٍ‏:‏ «أَفَتَّانٌ أَنْتَ، أَوْ أَفَاتِنٌ أَنْتَ‏؟‏ ‏(‏ثَلَاثَ مَرَّاتٍ‏)‏، فَلَوْلَا صَلَّيْتَ بِـ ‏{‏سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى‏}‏ ‏[‏الْأَعْلَى‏:‏ 1‏]‏، ‏{‏وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا‏}‏ ‏[‏الشَّمْس‏:‏ 1‏]‏، وَ‏{‏وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى‏}‏ ‏[‏اللَّيْل‏:‏ 1‏]‏، فَإِنَّهُ يُصَلِّي وَرَاءَكَ الْكَبِيرُ وَالضَّعِيفُ وَذُو الْحَاجَةِ، وَكَانَ الشَّاكِيَ بِهِ رَجُلٌ أَقْبَلَ بِنَاضِحَيْنِ وَقَدْ جَنَحَ اللَّيْلُ، فَوَافَقَ مُعَاذًا يُصَلِّي، فَتَرَكَ نَاضِحَيْهِ، وَأَقْبَلَ إِلَى مُعَاذٍ، فَقَرَأَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ‏;‏ فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ»‏.‏ انْظُرْهُ فِي الْبُخَارِيِّ‏.‏

وَكَذَلِكَ حَدِيثُ‏:‏ «إِنِّي لَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلَاتِي» الْحَدِيثَ‏.‏

وَيُرْوَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ أَنَّهُ دَخَلَ صَوَامِعَ الْمُنْقَطِعِينَ وَمَوَاضِعَ الْمُتَعَبِّدِينَ، فَرَأَى رَجُلًا يَبْكِي بُكَاءً عَظِيمًا بِسَبَبِ أَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ صَلَاةِ الصُّبْحِ فِي الْجَمَاعَةِ لِإِطَالَتِهِ الصَّلَاةَ مِنَ اللَّيْلِ‏.‏

وَأَيْضًا‏;‏ فَقَدْ يَعْجِزُ الْمُوغِلُ فِي بَعْضِ الْأَعْمَالِ عَنِ الْجِهَادِ أَوْ غَيْرِهِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْغِنَاءِ فِيهِ، وَلِهَذَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ فِي دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ‏:‏ «كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا، وَلَا يَفِرُّ إِذَا لَاقَى»‏.‏

وَقِيلَ لِابْنِ مَسْعُودٍ رِضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏:‏ وَإِنَّكَ لَتُقِلُّ الصَّوْمَ‏.‏ فَقَالَ‏:‏ إِنَّهُ يَشْغَلُنِي عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ‏.‏

وَنَحْوُ هَذَا مَا حَكَى عِيَاضٌ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ أَنَّهُ آلَى أَنْ يَصُومَ يَوْمَ عَرَفَةَ أَبَدًا‏;‏ لِأَنَّهُ كَانَ فِي الْمَوْقِفِ يَوْمًا صَائِمًا، وَكَانَ شَدِيدَ الْحَرِّ فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَكَانَ النَّاسُ يَنْتَظِرُونَ الرَّحْمَةَ وَأَنَا أَنْتَظِرُ الْإِفْطَارَ‏.‏

وَكَرِهَ مَالِكٌ إِحْيَاءَ اللَّيْلِ كُلِّهِ وَقَالَ‏:‏ لَعَلَّهُ يُصْبِحُ مَغْلُوبًا، وَفِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ‏.‏ ثُمَّ قَالَ‏:‏ لَا بَأْسَ بِهِ مَا لَمْ يَضُرَّ ذَلِكَ بِصَلَاةِ الصُّبْحِ، فَإِنْ كَانَ يَأْتِيهِ الصُّبْحُ وَهُوَ نَائِمٌ‏;‏ فَلَا، وَإِنْ كَانَ وَهُوَ بِهِ فُتُورٌ أَوْ كَسَلٌ‏;‏ فَلَا بَأْسَ بِهِ‏.‏

فَإِذَا ظَهَرَتْ عِلَّةُ النَّهْيِ عَنِ الْإِيغَالِ فِي الْعَمَلِ، وَأَنَّهُ يُسَبِّبُ تَعْطِيلَ وَظَائِفَ، كَمَا أَنَّهُ يُسَبِّبُ الْكَسَلَ وَالتَّرْكَ وَيُبَغِّضُ الْعِبَادَةَ، فَإِذَا وُجِدَتِ الْعِلَّةُ أَوْ كَانَتْ مُتَوَقَّعَةً، نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ‏;‏ فَالْإِيغَالُ فِيهِ حَسَنٌ، وَسَبَبُ الْقِيَامِ بِالْوَظَائِفِ مَعَ الْإِيغَالِ مَا تَقَدَّمَ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنْ غَلَبَةِ الْخَوْفِ أَوِ الرَّجَاءِ أَوِ الْمَحَبَّةِ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ دُخُولُ الْإِنْسَانِ فِي الْعَمَلِ وَإِيغَالُهُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ وَازِعُ الْخَوْفِ، أَوْ حَادِي الرَّجَاءِ، أَوْ حَامِلُ الْمَحَبَّةِ، لَا يُمْكِنُ مَعَهُ اسْتِيفَاءُ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ، وَلَا يَتَأَتَّى لَهُ أَنْ يَكُونَ قَائِمًا اللَّيْلَ، صَائِمًا النَّهَارَ، وَاطِئًا أَهْلَهُ، إِلَى أَشْبَاهِ ذَلِكَ مِنْ مُوَاصَلَةِ الصِّيَامِ مَعَ الْقِيَامِ عَلَى الْكَسْبِ لِلْعِيَالِ، أَوِ الْقِيَامِ بِوَظَائِفِ الْجِهَادِ عَلَى كَمَالِهَا، وَكَذَلِكَ إِدَامَةُ الصَّلَاةِ مَعَ إِعَانَةِ الْعِبَادِ، وَإِغَاثَةِ اللَّهْفَانِ، وَقَضَاءِ حَوَائِجِ النَّاسِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ، بَلْ كَثِيرٌ مِنْهَا تُضَادُّ أَعْمَالًا أُخَرَ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ الِاجْتِمَاعُ فِيهَا، وَقَدْ لَا تُضَادُّهَا، وَلَكِنْ تُؤَثِّرُ فِيهَا نَقْصًا، وَتَزَاحُمُ الْحُقُوقِ عَلَى الْمُكَلَّفِ مَعْلُومٌ غَيْرُ مَجْهُولٍ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ الْقِيَامُ بِجَمِيعِ الْحُقُوقِ أَوْ بِأَكْثَرِهَا وَالْحَالَةُ هَذِهِ‏؟‏ وَلِهَذَا جَاءَ‏:‏ «مَنْ يُشَادَّ هَذَا الدِّينَ يَغْلِبْهُ»‏.‏

وَأَيْضًا‏;‏ فَإِنْ سُلِّمَ مِثْلُ هَذَا فِي أَرْبَابِ الْأَحْوَالِ وَمُسْقِطِي الْحُظُوظِ‏;‏ فَكَيْفَ الْحَالُ مَعَ إِثْبَاتِهَا وَالسَّعْيِ فِيهَا وَالطَّلَبِ لَهَا‏؟‏

فَالْجَوَابُ أَنَّ النَّاسَ كَمَا تَقَدَّمَ ضَرْبَان‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَرْبَابُ الْحُظُوظِ، وَهَؤُلَاءِ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنِ اسْتِيفَاءِ حُظُوظِهِمُ الْمَأْذُونِ لَهُمْ فِيهَا شَرْعًا، لَكِنْ بِحَيْثُ لَا يُخِلُّ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِمْ، وَلَا يَضُرُّ بِحُظُوظِهِمْ‏.‏

فَقَدْ وَجَدْنَا عَدَمَ التَّرَخُّصِ فِي مَوَاضِعِ التَّرَخُّصِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ مُوقِعًا فِي مَفْسَدَةٍ أَوْ مَفَاسِدَ يَعْظُمُ مَوْقِعُهَا شَرْعًا، وَقَطْعُ الْعَوَائِدِ الْمُبَاحَةِ قَدْ يُوقِعُ فِي الْمُحَرَّمَاتِ، وَكَذَلِكَ وَجَدْنَا الْمُرُورَ مَعَ الْحُظُوظِ مُطْلَقًا خُرُوجًا عَنْ رِبْقَةِ الْعُبُودِيَّةِ‏;‏ لِأَنَّ الْمُسْتَرْسِلَ فِي ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ تَقْيِيدٍ مُلْقٍ حِكْمَةَ الشَّرْعِ عَنْ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ فَسَادٌ كَبِيرٌ، وَلِرَفْعِ هَذَا الِاسْتِرْسَالِ جَاءَتِ الشَّرَائِعُ، كَمَا أَنَّ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مُسَخَّرٌ لِلْإِنْسَانِ‏.‏

فَالْحَقُّ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ تَحْتَ نَظَرِ الْعَدْلِ، فَيَأْخُذُ فِي الْحُظُوظِ مَا لَمْ يُخِلَّ بِوَاجِبٍ، وَيَتْرُكُ الْحُظُوظَ مَا لَمْ يُؤَدِّ التَّرْكُ إِلَى مَحْظُورٍ، وَيَبْقَى فِي الْمَنْدُوبِ وَالْمَكْرُوهِ عَلَى تَوَازُنٍ، فَيَنْدُبُ إِلَى فِعْلِ الْمَنْدُوبِ الَّذِي فِيهِ حَظُّهُ‏;‏ كَالنِّكَاحِ مَثَلًا، وَيَنْهَى عَنِ الْمَكْرُوهِ الَّذِي لَا حَظَّ فِيهِ عَاجِلًا‏;‏ كَالصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ، وَيَنْظُرُ فِي الْمَنْدُوبِ الَّذِي لَا حَظَّ لَهُ فِيهِ، وَفِي الْمَكْرُوهِ الَّذِي لَهُ فِيهِ حَظٌّ- أَعْنِي‏:‏ الْحَظَّ الْعَاجِلَ-؛ فَإِنْ كَانَ تَرْكُ حَظِّهِ فِي الْمَنْدُوبِ يُؤَدِّي لِمَا يُكْرَهُ شَرْعًا، أَوْ لِتَرْكِ مَنْدُوبٍ هُوَ أَعْظَمُ أَجْرًا‏;‏ كَانَ اسْتِعْمَالُهُ الْحَظَّ وَتَرْكُ الْمَنْدُوبِ أَوْلَى‏;‏ كَتَرْكِ التَّمَتُّعِ بِزَوْجَتِهِ الْمُؤَدِّي إِلَى التَّشَوُّفِ إِلَى الْأَجْنَبِيَّاتِ، حَسَبَ مَا نَبَّهَ عَلَيْهِ حَدِيثُ‏:‏ «إِذَا رَأَى أَحَدُكُمُ امْرَأَةً فَأَعْجَبَتْهُ» إِلَخْ‏.‏

وَكَذَلِكَ تَرْكُ الصَّوْمِ يَوْمَ عَرَفَةَ، أَوْ لِأَجْلِ أَنْ يَقْوَى عَلَى قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ‏.‏

وَفِي الْحَدِيث‏:‏ «إِنَّكُمْ قَدِ اسْتَقْبَلْتُمْ عَدُّوَّكُمْ وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ»‏.‏

وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ تَرْكُ الْمَكْرُوهِ الَّذِي لَهُ فِيهِ حَظٌّ يُؤَدِّي إِلَى مَا هُوَ أَشَدُّ كَرَاهَةً مِنْهُ‏;‏ غُلِّبَ الْجَانِبُ الْأَخَفُّ‏;‏ كَمَا قَالَ الْغَزَالِيُّ‏:‏ إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّمَ طَاعَةُ الْوَالِدَيْنِ فِي تَنَاوُلِ الْمُتَشَابِهَاتِ، عَلَى التَّوَرُّعِ عَنْهَا مَعَ عَدَمِ طَاعَتِهِمَا‏;‏ فَإِنَّ تَنَاوُلَ الْمُتَشَابِهَاتِ لِلنَّفْسِ فِيهَا حَظٌّ، فَإِذَا كَانَ فِيهَا اشْتِبَاهٌ طُلِبَ التَّوَرُّعُ عَنْهَا وَكُرِهَ تَنَاوُلُهَا لِأَجْلِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي تَنَاوُلِهَا رِضَا الْوَالِدَيْنِ‏;‏ رُجِّحَ جَانِبُ الْحَظِّ هُنَا بِسَبَبِ مَا هُوَ أَشَدُّ فِي الْكَرَاهِيَةِ، وَهُوَ مُخَالَفَةُ الْوَالِدَيْنِ، وَمِثْلُهُ مَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ طَلَبَ الرِّزْقِ فِي شُبْهَةٍ أَحْسَنُ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى النَّاسِ‏.‏

فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْحُظُوظَ لِأَصْحَابِ الْحُظُوظِ تُزَاحِمُ الْأَعْمَالَ‏;‏ فَيَقَعُ التَّرْجِيحُ بَيْنَهَا، فَإِذَا تَعَيَّنَ الرَّاجِحُ ارْتُكِبَ وَتُرِكَ مَا عَدَاهُ، وَبَسْطُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ هِيَ عُمْدَةُ كَلَامِ الْفُقَهَاءِ فِي تَفَارِيعِ الْفِقْهِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَهْلُ إِسْقَاطِ الْحُظُوظِ، وَحُكْمُهُمْ حُكْمُ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ فِي التَّرْجِيحِ بَيْنَ الْأَعْمَالِ، غَيْرَ أَنَّ سُقُوطَ حُظُوظِهِمْ لِعُزُوفِ أَنْفُسِهِمْ عَنْهَا مَنَعَ الْخَوْفَ عَلَيْهِمْ مِنَ الِانْقِطَاعِ وَكَرَاهِيَةِ الْأَعْمَالِ، وَوَفَّقَهُمْ فِي التَّرْجِيحِ بَيْنَ الْحُقُوقِ، وَأَنْهَضَهُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ بِمَا لَمْ يَنْهَضْ بِهِ غَيْرُهُمْ‏;‏ فَصَارُوا أَكْثَرَ أَعْمَالًا وَأَوْسَعَ مَجَالًا فِي الْخِدْمَةِ‏;‏ فَيَسَعُهُمْ مِنَ الْوَظَائِفِ الدِّينِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْقُلُوبِ وَالْجَوَارِحِ مَا يَسْتَعْظِمُهُ غَيْرُهُمْ وَيَعُدُّهُ فِي خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَأَمَّا أَنَّهُ يُمْكِنُهُمُ الْقِيَامُ بِجَمِيعِ مَا كُلِّفَهُ الْعَبْدُ وَنُدِبَ إِلَيْهِ عَلَى الْجُمْلَةِ‏;‏ فَمُتَعَذِّرٌ، إِلَّا فِي الْمَنْهِيَّاتِ‏;‏ فَإِنَّهُ تَرْكٌ بِإِطْلَاقٍ، وَنَفْيُ أَعْمَالٍ لَا إِعْمَالٍ، وَالنَّفْيُ الْعَامُّ مُمْكِنُ الْحُصُولِ بِخِلَافِ الْإِثْبَاتِ الْعَامِّ، وَلَمَّا سَقَطَتْ حُظُوظُهُمْ صَارَتْ عِنْدَهُمْ لَا تُزَاحِمُ الْحُقُوقَ إِلَّا مِنْ حَيْثُ الْأَمْرِ؛ كَقَوْلِه‏:‏ إِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَحَقُّهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ حَقٌّ لَهُ ضَعِيفٌ عِنْدَهُ، أَوْ سَاقِطٌ فَصَارَ غَيْرُهُ عِنْدَهُ أَقْوَى مِنْ حَظِّ نَفْسِهِ‏;‏ فَحَظُّهُ إِذًا آخِرُ الْأَشْيَاءِ الْمُسْتَحَقَّةِ، وَإِذَا سَقَطَتِ الْحُظُوظُ لَحِقَ مَا هُوَ بَدَلٌ عَنْهَا‏;‏ لِأَنَّ زَمَانَ طَلَبِ الْحَظِّ لَا يَبْقَى خَالِيًا، فَدَخَلَ فِيهِ مِنَ الْأَعْمَالِ كَثِيرٌ، وَإِذَا عَمِلَ عَلَى حَظِّهِ مِنْ حَيْثُ الْأَمْرِ‏;‏ فَهُوَ عِبَادَةٌ كَمَا سَيَأْتِي‏;‏ فَصَارَ عِبَادَةً بَعْدَ مَا كَانَ عَادَةً، فَهُوَ سَاقِطٌ مِنْ جِهَتِهِ، ثَابِتٌ مِنْ جِهَةِ الْأَمْرِ‏;‏ كَسَائِرِ الطَّاعَاتِ، وَمِنْ هُنَا صَارَ مُسْقِطُ الْحَظِّ أَعْبَدَ النَّاسِ، بَلْ يَصِيرُ أَكْثَرُ عَمَلِهِ فِي الْوَاجِبَاتِ، وَهُنَا مَجَالٌ رَحْبٌ لَهُ مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏الْمَنْهِيُّ عَنْهُ الْمُسَبَّبُ عَنْهُ مَشَقَّةٌ أَوْلَى بِالنَّهْيِ‏]‏

مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا كَانَ مِنَ الْأَعْمَالِ يَتَسَبَّبُ عَنْهُ مَشَقَّةٌ وَهُوَ مِنَ الْمَأْذُونِ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْذُونٍ فِيهِ وَتَسَبَّبَ عَنْهُ مَشَقَّةٌ فَادِحَةٌ‏;‏ فَهُوَ أَظْهَرُ فِي الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ التَّسَبُّبِ‏;‏ لِأَنَّهُ زَادَ عَلَى ارْتِكَابِ النَّهْيِ إِدْخَالَ الْعَنَتِ وَالْحَرَجِ عَلَى نَفْسِهِ‏.‏

إِلَّا أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي الشَّرْعِ سَبَبًا لِأَمْرٍ شَاقٍّ عَلَى الْمُكَلَّفِ، وَلَكِنْ لَا يَكُونُ قَصْدٌ مِنَ الشَّارِعِ لِإِدْخَالِ الْمَشَقَّةِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا قَصْدُ الشَّارِعِ جَلْبُ مَصْلَحَةٍ أَوْ دَرْءُ مَفْسَدَةٍ‏;‏ كَالْقِصَاصِ، وَالْعُقُوبَاتِ النَّاشِئَةِ عَنِ الْأَعْمَالِ الْمَمْنُوعَةِ‏;‏ فَإِنَّهَا زَجْرٌ لِلْفَاعِلِ، وَكَفٌّ لَهُ عَنْ مُوَاقَعَةِ مِثْلِ ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَعِظَةٌ لِغَيْرِهِ أَنْ يَقَعَ فِي مِثْلِهِ أَيْضًا، وَكَوْنُ هَذَا الْجَزَاءِ مُؤْلِمًا وَشَاقًّا مُضَاهٍ لِكَوْنِ قَطْعِ الْيَدِ الْمُتَأَكِّلَةِ، وَشُرْبِ الدَّوَاءِ الْبَشِيعِ مُؤْلِمًا وَشَاقًّا، فَكَمَا لَا يُقَالُ لِلطَّبِيب‏:‏ إِنَّهُ قَاصِدٌ لِلْإِيلَامِ بِتِلْكَ الْأَفْعَالِ، فَكَذَلِكَ هُنَا، فَإِنَّ الشَّارِعَ هُوَ الطَّبِيبُ الْأَعْظَمُ‏.‏

وَالْأَدِلَّةُ الْمُتَقَدِّمَةُ فِي أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ وَلَا يُرِيدُ جَعْلَهُ فِيهِ، وَيُشْبِهُ هَذَا مَا فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِه‏:‏ «مَا تَرَدَّدْتُ فِي شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي فِي قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنَ الْمَوْتِ»؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ لَمَّا كَانَ حَتْمًا عَلَى الْمُؤْمِنِ، وَطَرِيقًا إِلَى وُصُولِهِ إِلَى رَبِّهِ، وَتَمَتُّعِهِ بِقُرْبِهِ فِي دَارِ الْقَرَارِ، صَارَ فِي الْقَصْدِ إِلَيْهِ مُعْتَبَرًا، وَصَارَ مِنْ جِهَةِ الْمَسَاءَةِ فِيهِ مَكْرُوهًا، وَقَدْ يَكُونُ لَاحِقًا بِهَذَا الْمَعْنَى النُّذُورُ الَّتِي يَشُقُّ عَلَى الْإِنْسَانِ الْوَفَاءُ بِهَا‏;‏ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ لَمَّا أُرِيحَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِهَا كَانَ الْتِزَامُهَا مَكْرُوهًا، فَإِذَا وَقَعَ وَجَبَ الْوَفَاءُ بِهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ عِبَادَاتٌ وَإِنْ شَقَّتْ، كَمَا لَزِمَتِ الْعُقُوبَاتُ بِنَاءً عَلَى التَّسَبُّبِ فِيهَا، حَتَّى إِذَا كَانَتِ النُّذُورُ فِيمَا لَيْسَ بِعِبَادَةٍ، أَوْ كَانَتْ فِي عِبَادَةٍ لَا تُطَاقُ وَشُرِعَتْ لَهَا تَخْفِيفَاتٌ، أَوْ كَانَتْ مُصَادِمَةً لِأَمْرٍ ضَرُورِيٍّ أَوْ حَاجِيٍّ فِي الدِّينِ سَقَطَتْ، كَمَا إِذَا حَلَفَ بِصَدَقَةِ مَالِهِ، فَإِنَّهُ يُجَزِئُهُ الثُّلْثُ، أَوْ نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى مَكَّةَ رَاجِلًا فَلَمْ يَقْدِرْ، فَإِنَّهُ يَرْكَبُ وَيُهْدِي، أَوْ كَمَا إِذَا نَذَرَ أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ، أَوْ لَا يَأْكُلَ الطَّعَامَ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ حُكْمُهُ إِلَى أَشْبَاهِ ذَلِكَ‏;‏ فَانْظُرْ كَيْفَ صَحِبَهُ الرِّفْقُ الشَّرْعِيُّ فِيمَا أَدْخَلَ نَفْسَهُ فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّاتِ‏.‏

فَعَلَى هَذَا كَوْنُ الشَّارِعِ لَا يَقْصِدُ إِدْخَالَ الْمَشَقَّةِ عَلَى الْمُكَلَّفِ عَامٌّ فِي الْمَأْمُورَاتِ وَالْمَنْهِيَّاتِ‏.‏

وَلَا يُقَالُ‏:‏ إِنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآن‏:‏ ‏{‏فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 194‏]‏، فَسُمِّيَ الْجَزَاءُ اعْتِدَاءً، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْقَصْدَ إِلَى الِاعْتِدَاءِ، وَمَدْلُولُهُ الْمَشَقَّةُ الدَّاخِلَةُ عَلَى الْمُعْتَدِي‏.‏

لِأَنَّا نَقُولُ‏:‏ تَسْمِيَةُ الْجَزَاءِ الْمُرَتَّبِ عَلَى الِاعْتِدَاءِ اعْتِدَاءً مَجَازًا مَعْرُوفٌ مِثْلُهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَفِي الشَّرِيعَةِ مِنْ هَذَا كَثِيرٌ‏;‏ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 15‏]‏‏.‏

‏{‏وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 54‏]‏‏.‏

‏{‏إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا‏}‏ ‏[‏الطَّارِق‏:‏ 15- 16‏]‏‏.‏

إِلَى أَشْبَاهِ ذَلِكَ، فَلَا اعْتِرَاضَ بِمِثْلِ ذَلِكَ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏الْمَشَقَّةُ الدَّاخِلَةُ عَلَى الْمُكَلَّفِ مِنْ خَارِجٍ لَا بِسَبَبِهِ وَلَا بِسَبَبِ دُخُولِهِ فِي عَمَلٍ تَنْشَأُ عَنْهُ‏]‏

وَقَدْ تَكُونُ الْمَشَقَّةُ الدَّاخِلَةُ عَلَى الْمُكَلَّفِ مِنْ خَارِجٍ، لَا بِسَبَبِهِ وَلَا بِسَبَبِ دُخُولِهِ فِي عَمَلٍ تَنْشَأُ عَنْهُ‏;‏ فَهَاهُنَا لَيْسَ لِلشَّارِعِ قَصْدٌ فِي بَقَاءِ ذَلِكَ الْأَلَمِ وَتِلْكَ الْمَشَقَّةِ وَالصَّبْرِ عَلَيْهَا، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ قَصْدٌ فِي التَّسَبُّبِ فِي إِدْخَالِهَا عَلَى النَّفْسِ، غَيْرَ أَنَّ الْمُؤْذِيَاتِ وَالْمُؤَلِّمَاتِ خَلْقَهَا اللَّهُ تَعَالَى ابْتِلَاءً لِلْعِبَادِ وَتَمْحِيصًا، وَسَلَّطَهَا عَلَيْهِمْ كَيْفَ شَاءَ وَلِمَا شَاءَ‏:‏ ‏{‏لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ‏}‏ ‏[‏الْأَنْبِيَاء‏:‏ 23‏]‏، وَفُهِمَ مِنْ مَجْمُوعِ الشَّرِيعَةِ الْإِذْنُ فِي دَفْعِهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ، رَفْعًا لِلْمَشَقَّةِ اللَّاحِقَةِ، وَحِفْظًا عَلَى الْحُظُوظِ الَّتِي أَذِنَ لَهُمْ فِيهَا، بَلْ أُذِنَ فِي التَّحَرُّزِ مِنْهَا عِنْدَ تَوَقُّعِهَا وَإِنْ لَمْ تَقَعْ‏;‏ تَكْمِلَةً لِمَقْصُودِ الْعَبْدِ وَتَوْسِعَةً عَلَيْهِ، وَحِفْظًا عَلَى تَكْمِيلِ الْخُلُوصِ فِي التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ، وَالْقِيَامِ بِشُكْرِ النِّعَمِ‏.‏

فَمِنْ ذَلِكَ الْإِذْنُ فِي دَفْعِ أَلَمِ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ، وَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَفِي التَّدَاوِي عِنْدَ وُقُوعِ الْأَمْرَاضِ، وَفِي التَّوَقِّي مِنْ كُلِّ مُؤْذٍ آدَمِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، وَالتَّحَرُّزِ مِنَ الْمُتَوَقِّعَاتِ حَتَّى يُقَدِّمَ الْعُدَّةَ لَهَا، وَهَكَذَا سَائِرُ مَا يَقُومُ بِهِ عَيْشُهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ مِنْ دَرْءِ الْمَفَاسِدِ وَجَلْبِ الْمَصَالِحِ، ثُمَّ رَتَّبَ لَهُ مَعَ ذَلِكَ دَفْعَ الْمُؤْلِمَاتِ الْأُخْرَوِيَّةِ، وَجَلْبَ مَنَافِعِهَا بِالْتِزَامِ الْقَوَانِينِ الشَّرْعِيَّةِ، كَمَا رَتَّبَ لَهُ ذَلِكَ فِيمَا يَتَسَبَّبُ عَنْ أَفْعَالِهِ، وَكَوْنُ هَذَا مَأْذُونًا فِيهِ مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ ضَرُورَةً‏.‏

إِلَّا أَنَّ هَذَا الدَّفْعَ الْمَأْذُونَ فِيهِ إِنْ ثَبَتَ انْحِتَامُهُ‏;‏ فَلَا إِشْكَالَ فِي عِلْمِنَا أَنَّ الشَّارِعَ قَصَدَ رَفْعَ تِلْكَ الْمَشَقَّةِ، كَمَا أَوْجَبَ عَلَيْنَا دَفْعَ الْمُحَارِبِينَ وَالسَّاعِينَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ بِالْفَسَادِ، وَجِهَادَ الْكُفَّارِ الْقَاصِدِينَ لِهَدْمِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَلَا يُعْتَبَرُ هُنَا جِهَةُ التَّسْلِيطِ وَالِابْتِلَاءِ‏;‏ لِأَنَّا قَدْ عَلِمْنَا بِإِيجَابِ الدَّفْعِ أَنَّ ذَلِكَ مُلْغًى فِي التَّكْلِيفِ، وَإِنْ كَانَ مُعْتَبَرًا فِي الْعَقْدِ الْإِيمَانِيِّ، كَمَا لَا تُعْتَبَرُ جِهَةُ التَّكْلِيفِ ابْتِدَاءً، وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ ابْتِلَاءٌ‏;‏ لِأَنَّهُ طَاعَةٌ أَوْ مَعْصِيَةٌ مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ، خَلْقٌ لِلرَّبِّ‏;‏ فَالْفِعْلُ وَالتَّرْكُ فِيهِ بِحَسَبِ مَا يَخْلُقُ اللَّهُ فِي الْعَبْدِ، فَلَيْسَ لَهُ فِي الْأَصْلِ حِيلَةٌ إِلَّا الِاسْتِسْلَامُ لِأَحْكَامِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، فَكَذَلِكَ هُنَا‏.‏

وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَثْبُتِ انْحِتَامُ الدَّفْعِ‏;‏ فَيُمْكِنُ اعْتِبَارُ جِهَةِ التَّسْلِيطِ وَالِابْتِلَاءِ، وَأَنَّ ذَلِكَ الشَّاقَّ مُرْسَلٌ مِنَ الْمُسَلِّطِ الْمُبْلِي، فَيَسْتَسْلِمُ الْعَبْدُ لِلْقَضَاءِ، وَلِذَلِكَ لَمَّا لَمْ يَكُنِ التَّدَاوِي مُحَتَّمًا تَرَكَهُ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَأَذِنَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْبَقَاءِ عَلَى حُكْمِ الْمَرَضِ، كَمَا فِي حَدِيثِ السَّوْدَاءِ الْمَجْنُونَةِ الَّتِي سَأَلَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْعُوَ لَهَا‏;‏ فَخَيَّرَهَا فِي الْأَجْرِ مَعَ الْبَقَاءِ عَلَى حَالَتِهَا أَوْ زَوَالِ ذَلِكَ، وَكَمَا فِي الْحَدِيث‏:‏ «وَلَا يَكْتَوُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ»‏.‏

وَيُمْكِنُ اعْتِبَارُ جِهَةِ الْحَظِّ بِمُقْتَضَى الْإِذْنِ وَيَتَأَيَّدُ بِالنَّدْبِ، كَمَا فِي التَّدَاوِي حَيْثُ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ‏:‏ «تَدَاوَوْا‏;‏ فَإِنَّ الَّذِي أَنْزَلَ الدَّاءَ أَنْزَلَ الدَّوَاءَ» وَأَمَّا إِنْ ثَبَتَ الْإِبَاحَةُ‏;‏ فَالْأَمْرُ أَظْهَرُ‏.‏

وَهُنَا انْقَضَى الْكَلَامُ عَلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ مِنْ أَوْجُهِ الْمَشَقَّاتِ الْمَفْهُومَةِ مِنْ إِطْلَاقِ اللَّفْظِ، وَبَقِيَ الْكَلَامُ عَلَى الْوَجْهِ الرَّابِعِ، وَذَلِكَ مَشَقَّةُ مُخَالَفَةِ الْهَوَى، وَهِيَ‏:‏

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ‏:‏ ‏[‏مُخَالَفَةُ الْهَوَى شَاقٌّ وَقَصْدُ الشَّارِعِ إِخْرَاجُ الْمُكَلَّفِ عَنِ اتِّبَاعِ هَوَاهُ‏]‏

وَذَلِكَ أَنَّ مُخَالِفَةَ مَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ شَاقٌّ عَلَيْهَا، وَصَعْبٌ خُرُوجُهَا عَنْهُ، وَلِذَلِكَ بَلَغَ أَهْلُ الْهَوَى فِي مُسَاعَدَتِهِ مَبَالِغَ لَا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ، وَكَفَى شَاهِدًا عَلَى ذَلِكَ حَالُ الْمُحِبِّينَ، وَحَالُ مَنْ بُعِثَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ صَمَّمَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، حَتَّى رَضُوا بِإِهْلَاكِ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ، وَلَمْ يَرْضَوْا بِمُخَالَفَةِ الْهَوَى، حَتَّى قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ‏}‏ ‏[‏الْجَاثِيَة‏:‏ 23‏]‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏{‏إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ‏}‏ ‏[‏النَّجْم‏:‏ 23‏]‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏{‏أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ‏}‏ ‏[‏مُحَمَّدٍ‏:‏ 14‏]‏‏.‏

وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ‏.‏

وَلَكِنَّ الشَّارِعَ إِنَّمَا قَصَدَ بِوَضْعِ الشَّرِيعَةِ إِخْرَاجَ الْمُكَلَّفِ عَنِ اتِّبَاعِ هَوَاهُ‏;‏ حَتَّى يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ‏;‏ فَإِذًا مُخَالَفَةُ الْهَوَى لَيْسَتْ مِنَ الْمَشَقَّاتِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي التَّكْلِيفِ، وَإِنْ كَانَتْ شَاقَّةً فِي مَجَارِي الْعَادَاتِ، إِذْ لَوْ كَانَتْ مُعْتَبَرَةً حَتَّى يُشْرَعَ التَّخْفِيفُ لِأَجْلِ ذَلِكَ‏;‏ لَكَانَ ذَلِكَ نَقْضًا لِمَا وُضِعَتِ الشَّرِيعَةُ لَهُ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ، فَمَا أَدَّى إِلَيْهِ مِثْلُهُ، وَبَيَانُ هَذَا الْمَعْنَى مَذْكُورٌ بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ‏.‏

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ‏:‏ ‏[‏في انْقِسَامِ الْمَشَقَّاتِ إِلَى دُنْيَوِيَّةٍ وَأُخْرَوِيَّةٍ‏]‏

كَمَا أَنَّ الْمَشَقَّةَ تَكُونُ دُنْيَوِيَّةً، كَذَلِكَ تَكُونُ أُخْرَوِيَّةً، فَإِنَّ الْأَعْمَالَ إِذَا كَانَ الدُّخُولُ فِيهَا يُؤَدِّي إِلَى تَعْطِيلِ وَاجِبٍ، أَوْ فِعْلِ مُحَرَّمٍ فَهُوَ أَشَدُّ مَشَقَّةً بِاعْتِبَارِ الشَّرْعِ مِنَ الْمَشَقَّةِ الدُّنْيَوِيَّةِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مُخِلَّةٍ بِدِينٍ، وَاعْتِبَارُ الدِّينِ مُقَدَّمٌ عَلَى اعْتِبَارِ النَّفْسِ وَغَيْرِهَا فِي نَظَرِ الشَّرْعِ، وَكَذَلِكَ هُنَا، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ‏;‏ فَلَيْسَ لِلشَّارِعِ قَصْدٌ فِي إِدْخَالِ الْمَشَقَّةِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ الَّتِي يُدْخَلُ تَحْتَهَا هَذَا الْمَطْلَبُ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ‏.‏

الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ‏:‏ ‏[‏الْمَشَقَّاتُ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ‏]‏

قَدْ تَكُونُ الْمَشَقَّةُ النَّاشِئَةُ مِنَ التَّكْلِيفِ تَخْتَصُّ بِالْمُكَلَّفِ وَحْدَهُ، كَالْمَسَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَقَدْ تَكُونُ عَامَّةً لَهُ وَلِغَيْرِهِ، وَقَدْ تَكُونُ دَاخِلَةً عَلَى غَيْرِهِ بِسَبَبِهِ‏.‏

وَمِثَالُ الْعَامَّةِ لَهُ وَلِغَيْرِهِ كَالْوَالِي الْمُفْتَقَرِ إِلَيْهِ لِكَوْنِهِ ذَا كِفَايَةٍ فِيمَا أُسْنِدَ إِلَيْهِ‏;‏ إِلَّا أَنَّ الْوِلَايَةَ تَشْغَلُهُ عَنِ الِانْقِطَاعِ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَالْأُنْسِ بِمُنَاجَاتِهِ، فَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يَقُمْ بِذَلِكَ عَمَّ الْفَسَادُ وَالضَّرَرُ، وَلَحِقَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا يَلْحَقُ غَيْرَهُ‏.‏

وَمِثَالُ الدَّاخِلَةِ عَلَى غَيْرِهِ دُونَهُ كَالْقَاضِي وَالْعَالِمِ الْمُفْتَقَرِ إِلَيْهِمَا‏;‏ إِلَّا أَنَّ الدُّخُولَ فِي الْفُتْيَا وَالْقَضَاءِ يَجُرُّهُمَا إِلَى مَا لَا يَجُوزُ، أَوْ يَشْغَلُهُمَا عَنْ مُهِمٍّ دِينِيٍّ أَوْ دُنْيَوِيٍّ، وَهُمَا إِذَا لَمْ يَقُومَا بِذَلِكَ عَمَّ الضَّرَرُ غَيْرَهُمَا مِنَ النَّاسِ، فَقَدْ نَشَأَ هُنَا عَنْ طَلَبِهِمَا لِمَصَالِحِهِمَا الْمَأْذُونِ فِيهَا وَالْمَطْلُوبَةِ مِنْهُمَا فَسَادٌ عَامٌّ‏.‏

وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ‏;‏ فَالْمَشَقَّةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ لِلشَّارِعِ تَكُونُ غَيْرَ مَطْلُوبَةٍ، وَلَا الْعَمَلُ الْمُؤَدِّي إِلَيْهَا مَطْلُوبًا كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ‏;‏ فَقَدْ نَشَأَ هُنَا نَظَرٌ فِي تَعَارُضِ مَشَقَّتَيْنِ، فَإِنَّ الْمُكَلَّفَ إِنْ لَزِمَ مِنِ اشْتِغَالِهِ بِنَفْسِهِ فَسَادٌ وَمَشَقَّةٌ لِغَيْرِهِ، فَيَلْزَمُ أَيْضًا مِنَ الِاشْتِغَالِ بِغَيْرِهِ فَسَادٌ وَمَشَقَّةٌ فِي نَفْسِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ تَصَدَّى النَّظَرُ فِي وَجْهِ اجْتِمَاعِ الْمَصْلَحَتَيْنِ مَعَ انْتِفَاءِ الْمَشَقَّتَيْنِ إِنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يُمَكِنْ، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّرْجِيحِ، فَإِذَا كَانَتِ الْمَشَقَّةُ الْعَامَّةُ أَعْظَمَ اعْتُبِرَ جَانِبُهَا وَأُهْمِلَ جَانِبُ الْخَاصَّةِ، وَإِنْ كَانَ بِالْعَكْسِ، فَالْعَكْسُ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ تَرْجِيحٌ، فَالتَّوَقُّفُ كَمَا سَيَأْتِي ذِكْرُهُ فِي كِتَابِ التَّعَارُضِ وَالتَّرْجِيحِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ‏.‏

الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ‏:‏ ‏[‏الْعُرْفُ وَالْمَشَقَّةُ‏]‏

حَيْثُ تَكُونُ الْمَشَقَّةُ الْوَاقِعَةُ بِالْمُكَلَّفِ فِي التَّكْلِيفِ خَارِجَةً عَنْ مُعْتَادِ الْمَشَقَّاتِ فِي الْأَعْمَالِ الْعَادِيَّةِ، حَتَّى يَحْصُلَ بِهَا فَسَادٌ دِينِيٌّ أَوْ دُنْيَوِيٌّ‏;‏

فَمَقْصُودُ الشَّارِعِ فِيهَا الرَّفْعُ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَعَلَى ذَلِكَ دَلَّتِ الْأَدِلَّةُ الْمُتَقَدِّمَةُ، وَلِذَلِكَ شُرِعَتْ فِيهَا الرُّخَصُ مُطْلَقًا‏.‏

وَأَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنْ خَارِجَةً عَنِ الْمُعْتَادِ، وَإِنَّمَا وَقَعَتْ عَلَى نَحْوِ مَا تَقَعُ الْمَشَقَّةُ فِي مِثْلِهَا مِنَ الْأَعْمَالِ الْعَادِيَّةِ، فَالشَّارِعُ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ وُقُوعَهَا، فَلَيْسَ بِقَاصِدٍ لِرَفْعِهَا أَيْضًا‏.‏

وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَاصِدًا لِرَفْعِهَا لَمْ يَكُنْ بَقَاءُ التَّكْلِيفِ مَعَهَا‏;‏ لِأَنَّ كُلَّ عَمَلٍ عَادِيٍّ أَوْ غَيْرِ عَادِيٍّ يَسْتَلْزِمُ تَعَبًا وَتَكْلِيفًا عَلَى قَدْرِهِ قَلَّ أَوْ جَلَّ، إِمَّا فِي نَفْسِ الْعَمَلِ الْمُكَلَّفِ بِهِ، وَإِمَّا فِي خُرُوجِ الْمُكَلَّفِ عَمَّا كَانَ فِيهِ إِلَى الدُّخُولِ فِي عَمَلِ التَّكْلِيفِ، وَإِمَّا فِيهِمَا مَعًا، فَإِذَا اقْتَضَى الشَّرْعُ رَفْعَ ذَلِكَ التَّعَبِ كَانَ ذَلِكَ اقْتِضَاءً لِرَفْعِ الْعَمَلِ الْمُكَلَّفِ بِهِ مِنْ أَصْلِهِ، وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَكَانَ مِمَّا يَسْتَلْزِمُهُ غَيْرَ صَحِيحٍ‏.‏

إِلَّا أَنَّ هُنَا نَظَرًا، وَهُوَ أَنَّ التَّعَبَ وَالْمَشَقَّةَ فِي الْأَعْمَالِ الْمُعْتَادَةِ مُخْتَلِفَةٌ بِاخْتِلَافِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ‏;‏ فَلَيْسَتِ الْمَشَقَّةُ فِي صَلَاةِ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، كَالْمَشَقَّةِ فِي رَكْعَتَيِ الصُّبْحِ، وَلَا الْمَشَقَّةُ فِي الصَّلَاةِ كَالْمَشَقَّةِ فِي الصِّيَامِ، وَلَا الْمَشَقَّةُ فِي الصِّيَامِ كَالْمَشَقَّةِ فِي الْحَجِّ، وَلَا الْمَشَقَّةُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ كَالْمَشَقَّةِ فِي الْجِهَادِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ التَّكْلِيفِ، وَلَكِنَّ كُلَّ عَمَلٍ فِي نَفْسِهِ لَهُ مَشَقَّةٌ مُعْتَادَةٌ فِيهِ تُوَازِي مَشَقَّةَ مِثْلِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ الْعَادِيَّةِ فَلَمْ تَخْرُجْ عَنِ الْمُعْتَادِ عَلَى الْجُمْلَةِ‏.‏

ثُمَّ إِنَّ الْأَعْمَالَ الْمُعْتَادَةَ لَيْسَتِ الْمَشَقَّةُ فِيهَا تَجْرِي عَلَى وِزَانٍ وَاحِدٍ، فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَفِي كُلِّ مَكَانٍ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ‏;‏ فَلَيْسَ إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ فِي السَّبَرَاتِ يُسَاوِي إِسْبَاغَهُ فِي الزَّمَانِ الْحَارِّ، وَلَا الْوُضُوءُ مَعَ حَضْرَةِ الْمَاءِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ فِي اسْتِقَائِهِ يُسَاوِيهِ مَعَ تَجَشُّمِ طَلَبِهِ أَوْ نَزْعِهِ مِنْ بِئْرٍ بَعِيدَةٍ، وَكَذَلِكَ الْقِيَامُ إِلَى الصَّلَاةِ مِنَ النَّوْمِ فِي قِصَرِ اللَّيْلِ أَوْ فِي شِدَّةِ الْبَرْدِ، مَعَ فِعْلِهِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ‏.‏

وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ الْقُرْآنُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الْعَنْكَبُوت‏:‏ 10‏]‏ بَعْدَ قَوْلِه‏:‏ ‏{‏أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ‏}‏ ‏[‏الْعَنْكَبُوت‏:‏ 2‏]‏ إِلَى آخِرِهَا‏.‏

وَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا‏}‏ ‏[‏الْأَحْزَاب‏:‏ 10- 11‏]‏‏.‏

ثُمَّ مَدَحَ اللَّهُ مَنْ صَبَرَ عَلَى ذَلِكَ وَصَدَقَ فِي وَعْدِهِ بِقَوْلِه‏:‏ ‏{‏رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏الْأَحْزَاب‏:‏ 23‏]‏‏.‏

وَقِصَّةُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَصَاحِبَيْهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي تَخَلُّفِهِمْ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَمَنْعُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مُكَالَمَتِهِمْ، وَإِرْجَاءُ أَمْرِهِمْ‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ‏}‏ ‏[‏التَّوْبَة‏:‏ 118‏]‏‏.‏

وَكَذَلِكَ مَا جَاءَ فِي نِكَاحِ الْإِمَاءِ عِنْدَ خَشْيَةِ الْعَنَتِ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏{‏وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 25‏]‏‏.‏

إِلَى أَشْبَاهِ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَشَقَّةَ قَدْ تَبْلُغُ فِي الْأَعْمَالِ الْمُعْتَادَةِ مَا يُظَنُّ أَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَادٍ، وَلَكِنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ مُعْتَادٌ، وَمَشَقَّتُهُ فِي مِثْلِهَا مِمَّا يُعْتَادُ‏;‏ إِذِ الْمَشَقَّةُ فِي الْعَمَلِ الْوَاحِدِ لَهَا طَرَفَانِ وَوَاسِطَةٌ‏:‏ طَرَفٌ أَعْلَى بِحَيْثُ لَوْ زَادَ شَيْئًا لَخَرَجَ عَنِ الْمُعْتَادِ، وَهَذَا لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ مُعْتَادًا، وَطَرَفٌ أَدْنَى بِحَيْثُ لَوْ نَقَصَ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ ثَمَّ مَشَقَّةٌ تُنْسَبُ إِلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ، وَوَاسِطَةٌ هِيَ الْغَالِبُ وَالْأَكْثَرُ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكَثِيرٌ مِمَّا يَظْهَرُ بِبَادِئِ الرَّأْيِ مِنَ الْمَشَقَّاتِ أَنَّهَا خَارِجَةٌ عَنِ الْمُعْتَادِ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ لِمَنْ كَانَ عَارِفًا بِمَجَارِي الْعَادَاتِ وَإِذَا لَمْ تَخْرُجْ عَنِ الْمُعْتَادِ‏;‏ لَمْ يَكُنْ لِلشَّارِعِ قَصْدٌ فِي رَفْعِهَا كَسَائِرِ الْمَشَقَّاتِ الْمُعْتَادَةِ فِي الْأَعْمَالِ الْجَارِيَةِ عَلَى الْعَادَةِ، فَلَا يَكُونُ فِيهَا رُخْصَةٌ، وَقَدْ يَكُونُ الْمَوْضِعُ مُشْتَبَهًا فَيَكُونُ مَحَلًّا لِلْخِلَافِ‏.‏

فَحَيْثُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا‏}‏ ‏[‏التَّوْبَة‏:‏ 41‏]‏، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏{‏إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا‏}‏ ‏[‏التَّوْبَة‏:‏ 39‏]‏؛ كَانَ هَذَا مَوْضِعَ شِدَّةٍ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا رُخْصَةَ أَصْلًا فِي التَّخَلُّفِ، إِلَّا أَنَّهُ بِمُقْتَضَى الْأَدِلَّةِ عَلَى رَفْعِ الْحَرَجِ مَحْمُولٌ عَلَى أَقْصَى الثِّقَلِ فِي الْأَعْمَالِ الْمُعْتَادَةِ، بِحَيْثُ يَتَأَتَّى النَّفِيرُ وَيُمْكِنُ الْخُرُوجُ، وَقَدْ كَانَ اجْتَمَعَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ أَمْرَان‏:‏ شِدَّةُ الْحَرِّ، وَبُعْدُ الشُّقَّةِ، زَائِدًا عَلَى مُفَارَقَةِ الظِّلَالِ، وَاسْتِدْرَارِ الْفَوَاكِهِ وَالْخَيْرَاتِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ زَائِدٌ فِي مَشَقَّةِ الْغَزْوِ زِيَادَةً ظَاهِرَةً، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُخْرِجٍ لَهَا عَنِ الْمُعْتَادِ‏;‏ فَلِذَلِكَ لَمْ يَقَعْ فِي ذَلِكَ رُخْصَةٌ‏;‏ فَكَذَلِكَ أَشْبَاهُهَا، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ‏}‏ ‏[‏مُحَمَّدٍ‏:‏ 31‏]‏‏.‏

وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ‏}‏ ‏[‏الْحَجّ‏:‏ 78‏]‏، إِنَّمَا ذَلِكَ سَعَةُ الْإِسْلَامِ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنَ التَّوْبَةِ وَالْكَفَّارَاتِ‏.‏

وَقَالَ عِكْرِمَةُ‏:‏ مَا أُحِلَّ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ‏.‏

وَعَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ؛ أَنَّهُ جَاءَ فِي نَاسٍ مِنْ قَوْمِهِ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَسَأَلَهُ عَنِ الْحَرَجِ‏;‏ فَقَالَ‏:‏ أَوَلَسْتُمُ الْعَرَبَ‏؟‏ فَسَأَلُوهُ ثَلَاثًا، كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ‏:‏ أَوَلَسْتُمُ الْعَرَبَ‏؟‏ ثُمَّ قَالَ‏:‏ ادْعُ لِي رَجُلًا مِنْ هُذَيْلٍ‏;‏ فَقَالَ لَهُ‏:‏ مَا الْحَرَجُ فِيكُمْ‏؟‏ قَالَ الْحَرَجَةُ مِنَ الشَّجَرِ مَا لَيْسَ لَهُ مَخْرَجٌ‏.‏ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ ذَلِكَ الْحَرَجُ مَا لَا مَخْرَجَ لَهُ‏.‏

فَانْظُرْ كَيْفَ جَعَلَ الْحَرَجَ مَا لَا مَخْرَجَ لَهُ، وَفَسَّرَ رَفْعَهُ بِشَرْعِ التَّوْبَةِ وَالْكَفَّارَاتِ، وَأَصْلُ الْحَرَجِ الضِّيقُ، فَمَا كَانَ مِنْ مُعْتَادَاتِ الْمَشَقَّاتِ فِي الْأَعْمَالِ الْمُعْتَادِ مِثْلُهَا‏;‏ فَلَيْسَ بِحَرَجٍ لُغَةً وَلَا شَرْعًا، كَيْفَ وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْحَرَجِ وُضِعَ لِحِكْمَةٍ شَرْعِيَّةٍ، وَهِيَ التَّمْحِيصُ وَالِاخْتِبَارُ حَتَّى يَظْهَرَ فِي الشَّاهِدِ مَا عَلِمَهُ اللَّهُ فِي الْغَائِبِ‏;‏ فَقَدْ تَبَيَّنَ إِذًا مَا هُوَ مِنَ الْحَرَجِ مَقْصُودُ الرَّفْعِ، وَمَا لَيْسَ بِمَقْصُودِ الرَّفْعِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏الْحَرَجُ الْعَامُّ وَالْحَرَجُ الْخَاصُّ‏]‏

قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيّ‏:‏ إِذَا كَانَ الْحَرَجُ فِي نَازِلَةٍ عَامَّةٍ فِي النَّاسِ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ، وَإِذَا كَانَ خَاصًّا لَمْ يُعْتَبَرْ عِنْدَنَا وَفِي بَعْضِ أُصُولِ الشَّافِعِيِّ اعْتِبَارُهُ انْتَهَى مَا قَالَ‏.‏

وَهُوَ مِمَّا يُنْظَرُ فِيهِ، فَإِنَّهُ إِنْ عَنَى بِالْخَاصِّ الْحَرَجَ الَّذِي فِي أَعْلَى مَرَاتِبِ الْمُعْتَادِ، فَالْحُكْمُ كَمَا قَالَ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِيهِ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مِنَ الْمُعْتَادِ، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمُعْتَادَ لَا إِسْقَاطَ فِيهِ، وَإِلَّا لَزِمَ فِي أَصْلِ التَّكْلِيفِ، فَإِنْ تُصُوِّرَ وُقُوعُ اخْتِلَافٍ‏;‏ فَإِنَّمَا هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْحَرَجَ مِنْ قَبِيلِ الْمُعْتَادِ، أَوْ مِنْ قَبِيلِ الْخَارِجِ عَنِ الْمُعْتَادِ لَا أَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَحَدِهِمَا‏.‏

وَأَيْضًا‏;‏ فَتَسْمِيَتُهُ خَاصًّا يُشَاحُّ فِيهِ، فَإِنَّهُ بِكُلِّ اعْتِبَارٍ عَامٌّ غَيْرُ خَاصٍّ‏;‏ إِذْ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِبَعْضِ الْمُكَلَّفِينَ عَلَى التَّعْيِينِ دُونَ بَعْضٍ‏.‏

وَإِنْ عَنَى بِالْحَرَجِ مَا هُوَ خَارِجٌ عَنِ الْمُعْتَادِ، وَمِنْ جِنْسِ مَا تَقَعُ فِيهِ الرُّخْصَةُ وَالتَّوْسِعَةُ‏;‏ فَالْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ فِيهِ أَيْضًا مِمَّا يُشْكَلُ فَهْمُهُ، فَإِنَّ السَّفَرَ مَثَلًا سَبَبٌ لِلْحَرَجِ مَعَ تَكْمِيلِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، وَقَدْ شُرِعَ فِيهِ التَّخْفِيفُ، فَهَذَا عَامٌّ، وَالْمَرَضُ قَدْ شُرِعَ فِيهِ التَّخْفِيفُ وَهُوَ لَيْسَ بِعَامٍّ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَسُوغُ التَّخْفِيفُ فِي كُلِّ مَرَضٍ، إِذْ مِنَ الْمَرْضَى مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِكْمَالِ الصَّلَاةِ قَائِمًا أَوْ قَاعِدًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى الصَّوْمِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَقْدِرُ، فَهَذَا يَخُصُّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ فِي نَفْسِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ شُرِعَ فِيهِ التَّخْفِيفُ عَلَى الْجُمْلَةِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ خَاصٌّ، وَلَكِنْ لَا يُخَالِفُ فِيهِ مَالِكٌ الشَّافِعِيَّ‏;‏ إِلَّا أَنْ يَكُونُوا جَعَلُوا هَذَا مِنَ الْحَرَجِ الْعَامِّ عِنْدَ تَقْيِيدِ الْمَرَضِ بِمَا يَحْصُلُ فِيهِ الْحَرَجُ غَيْرُ الْمُعْتَادِ، فَيَرْجِعُ إِذْ ذَاكَ إِلَى قِسْمِ الْعَامِّ، وَلَا يُخَالِفُ فِيهِ مَالِكٌ الشَّافِعِيَّ أَيْضًا، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَصْعُبُ تَمْثِيلُ الْخَاصِّ، وَإِلَّا‏;‏ فَمَا مِنْ حَرَجٍ يُعَدُّ أَنْ يَكُونَ لَهُ تَخْفِيفٌ مَشْرُوعٌ بِاتِّفَاقٍ أَوْ بِاخْتِلَافٍ إِلَّا وَهُوَ عَامٌّ، وَإِنِ اتَّفَقَ أَنْ لَا يَقَعَ مِنْهُ فِي الْوُجُودِ إِلَّا فَرْدٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ قَدَرَ أَنْ يَكُونَ التَّشْرِيعُ لَهُ وَحْدَهُ أَوْ لِقَوْمٍ مَخْصُوصِينَ‏;‏ فَهَذَا غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ فِي الشَّرِيعَةِ إِلَّا مَا اخْتُصَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ خُصَّ بِهِ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ كَتَضْحِيَةِ أَبِي بُرْدَةٍ بِالْعِنَاقِ الْجَذَعَةِ وَشَهَادَةِ خُزَيْمَةَ‏;‏ فَذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِزَمَانِ النُّبُوَّةِ دُونَ مَا بَعْدَ ذَلِكَ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ لَعَلَّهُ يُرِيدُ بِالْخُصُوصِ وَالْعُمُومِ مَا كَانَ عَامًّا لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ، وَمَا كَانَ خَاصًّا بِبَعْضِ الْأَقْطَارِ، أَوْ بَعْضِ الْأَزْمَانِ، أَوْ بَعْضِ النَّاسِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ‏.‏

فَالْجَوَابُ‏:‏ إِنَّ هَذَا أَيْضًا مِمَّا يُنْظُرُ فِيهِ؛ فَإِنَّ الْحَرَجَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّوْعِ أَوِ الصِّنْفِ عَامٌّ فِي ذَلِكَ الْكُلِّيِّ لَا خَاصٌّ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْخَاصِّ مَا كَانَ الْحَرَجُ فِيهِ خَاصًّا بِبَعْضِ الْأَشْخَاصِ الْمُعَيَّنِينَ، أَوْ بَعْضِ الْأَزْمَانِ الْمُعَيَّنَةِ، أَوِ الْأَمْكِنَةِ الْمُعَيَّنَةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ إِنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي زَمَانِ النُّبُوَّةِ، أَوْ عَلَى وَجْهٍ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ؛ كَنَهْيِهِ عَنِ ادِّخَارِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ زَمَنَ الدَّافَّةِ، وَكَتَخْصِيصِ الْكَعْبَةِ بِالِاسْتِقْبَالِ، وَالْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ بِمَا اشْتُهِرَ مِنْ فَضْلِهَا عَلَى سَائِرِ الْمَسَاجِدِ؛ فَتَصَوُّرُ مِثْلِ هَذَا فِي مَسْأَلَةِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ غَيْرُ مُتَأَتٍّ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ فَفِي النَّوْعِ أَوِ الصِّنْفِ خُصُوصٌ مِنْ حَيْثُ هُوَ نَوْعٌ أَوْ صِنْفٌ دَاخِلٌ تَحْتَ جِنْسٍ شَامِلٍ لَهُ وَلِغَيْرِهِ‏.‏

قِيلَ‏:‏ وَفِيهِ أَيْضًا عُمُومٌ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ شَامِلًا لِمُتَعَدِّدٍ لَا يَنْحَصِرُ؛ فَلَيْسَ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ وَهُوَ الْخُصُوصُ أَوْلَى بِهِ مِنَ الطَّرَفِ الْآخَرِ وَهُوَ الْعُمُومُ، بَلْ جِهَةُ الْعُمُومِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْحَرَجَ فِيهَا كُلِّيٌّ بِحَيْثُ لَوْ لَحِقَ نَوْعًا آخَرَ أَوْ صِنْفًا آخَرَ لَلَحِقَ بِهِ فِي الْحُكْمِ؛ فَنِسْبَةُ ذَلِكَ النَّوْعِ أَوِ الصِّنْفِ إِلَى سَائِرِ الْأَنْوَاعِ أَوِ الْأَصْنَافِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ نِسْبَةُ بَعْضِ أَفْرَادِ ذَلِكَ الْجِنْسِ فِي لُحُوقِ الْمَرَضِ أَوِ السَّفَرِ إِلَى جَمِيعِ أَفْرَادِهِ؛ فَإِنْ ثَبَتَ الْحُكْمُ فِي بَعْضِهَا ثَبَتَ فِي الْبَعْضِ، وَإِنْ سَقَطَ، سَقَطَ فِي الْبَعْضِ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْإِمَامَيْنِ، فَمَسْأَلَتُنَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ فِيهَا كَذَلِكَ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ لَعَلَّهُ يُرِيدُ بِذَلِكَ مَا كَانَ مِثْلُ التَّغَيُّرِ اللَّاحِقِ لِلْمَاءِ بِمَا لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ غَالِبًا، وَهُوَ عَامٌ؛ كَالتُّرَابِ وَالطُّحْلُبِ وَشِبْهِ ذَلِكَ، أَوْ خَاصٌّ كَمَا إِذَا كَانَ عَدَمُ الِانْفِكَاكِ خَاصًّا بِبَعْضِ الْمِيَاهِ، فَإِنَّ حُكْمَ الْأَوَّلِ سَاقِطٌ لِعُمُومِهِ، وَالثَّانِي مُخْتَلَفٌ فِيهِ لِخُصُوصِهِ، وَكَذَلِكَ اخْتُلِفَ فِي مَاءِ الْبَحْر‏:‏ هَلْ هُوَ طَهُورٌ أَمْ لَا‏؟‏ لِأَنَّهُ مُتَغَيِّرٌ خَاصٌّ، وَكَالتَّغَيُّرِ بِتَفَتُّتِ الْأَوْرَاقِ فِي الْمِيَاهِ خُصُوصًا فَفِيهِ خِلَافٌ، وَالطَّلَاقُ قَبْلَ النِّكَاحِ إِنْ كَانَ عَامًا سَقَطَ، وَإِنْ كَانَ خَاصًّا فَفِيهِ خِلَافٌ، كَمَا إِذَا قَالَ‏:‏ كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا مِنْ بَنِي فُلَانٍ، أَوْ مِنَ الْبَلَدِ الْفُلَانِيِّ، أَوْ مِنَ السُّودَانِ، أَوْ مِنَ الْبِيضِ، أَوْ كُلُّ بِكْرٍ أَتَزَوَّجُهَا، أَوْ كُلُّ ثَيِّبٍ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَهِيَ طَالِقٌ، وَمِثْلُهُ كُلُّ أَمَةٍ اشْتَرَيْتُهَا، فَهِيَ حُرَّةٌ، هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قَصْدِ الْوَطْءِ مِنَ الْخَاصِّ، كَمَا لَوْ قَالَ‏:‏ كُلُّ حُرَّةٍ أَتَزَوَّجُهَا طَالِقٌ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى قَصْدِ مُطْلَقِ الْمِلْكِ مِنَ الْعَامِ فَيَسْقُطُ، فَإِنْ قَالَ فِيه‏:‏ كُلُّ أَمَةٍ اشْتَرَيْتُهَا مِنَ السُّودَانِ كَانَ خَاصًّا، وَجَرَى فِيهِ الْخِلَافُ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِلِ‏.‏

فَالْجَوَابُ‏:‏ أَنَّ هَذَا مُمْكِنٌ، وَهُوَ أَقْرَبُ مَا يُؤْخَذُ عَلَيْهِ كَلَامُهُ؛ إِلَّا أَنَّ نَصَّ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَأَشْبَاهِهَا عَنْ مَالِكٍ بِعَدَمِ الِاعْتِبَارِ، وَعَنِ الشَّافِعِيِّ بِالِاعْتِبَارِ يَجِبُ أَنَّ يُحَقَّقَ فِي هَذِهِ الْأَمْثِلَةِ، وَفِي غَيْرِهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْمِ الْفِقْهِ، لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى نَظَرِ الْأُصُولِ، إِلَّا أَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ الْخِلَافُ، فَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا وَالنَّظَرُ الْأُصُولِيُّ يَقْتَضِي مَا قَالَ؛ فَإِنَّ الْحَرَجَ الْعَامَّ هُوَ الَّذِي لَا قُدْرَةَ لِلْإِنْسَانِ فِي الِانْفِكَاكِ عَنْهُ، كَالْأَمْثِلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَأَمَّا إِذَا أَمْكَنَ الِانْفِكَاكُ عَنْهُ؛ فَلَيْسَ بِحَرَجٍ عَامٍ بِإِطْلَاقٍ، إِلَّا أَنَّ الِانْفِكَاكَ عَنْهُ قَدْ يَكُونُ فِيهِ حَرَجٌ آخَرُ، وَإِنْ كَانَ أَخَفُّ إِذْ لَا يَطَّرِدُ الِانْفِكَاكُ عَنْهُ دُونَ مَشَقَّةٍ، لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ‏.‏

وَأَيْضًا؛ فَكَمَا لَا يَطَّرِدُ الِانْفِكَاكُ عَنْهُ دُونَ مَشَقَّةٍ كَذَلِكَ لَا يَطَّرِدُ مَعَ وُجُودِهَا؛ فَكَانَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ ذَا نَظَرَيْنِ، فَصَارَتِ الْمَسْأَلَةُ ذَاتَ طَرَفَيْنِ وَوَاسِطَةٍ‏:‏ الطَّرَفُ الْعَامُّ الَّذِي لَا انْفِكَاكَ عَنْهُ فِي الْعَادَةِ الْجَارِيَةِ، وَيُقَابِلُهُ طَرَفٌ خَاصٌّ يَطَّرِدُ الِانْفِكَاكُ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ كَتَغَيُّرِ هَذَا الْمَاءِ بِالْخَلِّ وَالزَّعْفَرَانِ وَنَحْوِهُ، وَوَاسِطَةٌ دَائِرَةٌ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ هِيَ مَحَلُّ نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ‏:‏ ‏[‏الشَّرِيعَةُ جَارِيَةٌ فِي التَّكْلِيفِ بِمُقْتَضَاهَا عَلَى الطَّرِيقِ الْوَسَطِ وَتَقْتَضِي فِي جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ غَايَةَ الِاعْتِدَالِ‏]‏

الشَّرِيعَةُ جَارِيَةٌ فِي التَّكْلِيفِ بِمُقْتَضَاهَا عَلَى الطَّرِيقِ الْوَسَطِ الْأَعْدَلِ، الْآخِذِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ بِقِسْطٍ لَا مَيْلَ فِيهِ، الدَّاخِلِ تَحْتَ كَسْبِ الْعَبْدِ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ عَلَيْهِ وَلَا انْحِلَالٍ، بَلْ هُوَ تَكْلِيفٌ جَارٍ عَلَى مُوَازَنَةٍ تَقْتَضِي فِي جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ غَايَةَ الِاعْتِدَالِ؛ كَتَكَالِيفِ الصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالْحَجِّ، وَالْجِهَادِ، وَالزَّكَاةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا شُرِعَ ابْتِدَاءً عَلَى غَيْرِ سَبَبٍ ظَاهِرٍ اقْتَضَى ذَلِكَ، أَوْ لِسَبَبٍ يَرْجِعُ إِلَى عَدَمِ الْعِلْمِ بِطَرِيقِ الْعَمَلِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 215‏]‏‏.‏

‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 219‏]‏‏.‏

وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ‏.‏

فَإِنْ كَانَ التَّشْرِيعُ لِأَجْلِ انْحِرَافِ الْمُكَلَّفِ، أَوْ وُجُودِ مَظِنَّةِ انْحِرَافِهِ عَنِ الْوَسَطِ إِلَى أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ؛ كَانَ التَّشْرِيعُ رَادًّا إِلَى الْوَسَطِ الْأَعْدَلِ، لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ يَمِيلُ فِيهِ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ لِيَحْصُلَ الِاعْتِدَالُ فِيهِ، فَعَلَى الطَّبِيبِ الرَّفِيقِ ‏[‏أَنْ‏]‏ يَحْمِلَ الْمَرِيضَ عَلَى مَا فِيهِ صَلَاحُهُ بِحَسَبِ حَالِهِ وَعَادَتِهِ، وَقُوَّةِ مَرَضِهِ وَضَعْفِهِ، حَتَّى إِذَا اسْتَقَلَّتْ صِحَّتُهُ هَيَّأَ لَهُ طَرِيقًا فِي التَّدْبِيرِ وَسَطًا لَائِقًا بِهِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ‏.‏

أَوَ لَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَاطَبَ النَّاسَ فِي ابْتِدَاءِ التَّكْلِيفِ خِطَابَ التَّعْرِيفِ بِمَا أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَالْمَصَالِحِ الَّتِي بَثَّهَا فِي هَذَا الْوُجُودِ لِأَجْلِهِمْ، وَلِحُصُولِ مَنَافِعِهِمْ وَمَرَافِقِهِمْ الَّتِي يَقُومُ بِهَا عَيْشُهُمْ، وَتَكْمُلُ بِهَا تَصَرُّفَاتُهُمْ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 22‏]‏‏.‏

وَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ‏}‏ إِلَى قَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا‏}‏ ‏[‏إِبْرَاهِيمَ‏:‏ 32- 34‏]‏‏.‏

وَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ‏}‏ ‏[‏النَّحْل‏:‏ 10‏]‏‏.‏

إِلَى آخِرِ مَا عَدَّ لَهُمْ مِنَ النِّعَمِ، ثُمَّ وُعِدُوا عَلَى ذَلِكَ بِالنَّعِيمِ إِنْ آمَنُوا، وَبِالْعَذَابِ إِنْ تَمَادَوْا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ، فَلَمَّا عَانَدُوا وَقَابَلُوا النِّعَمَ بِالْكُفْرَانِ، وَشَكُّوا فِي صِدْقِ مَا قِيلَ لَهُمْ؛ أُقِيمَتْ عَلَيْهِمْ الْبَرَاهِينُ الْقَاطِعَةُ بِصِدْقِ مَا قِيلَ لَهُمْ وَصِحَّتِهِ، فَلَمَّا لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهَا لِرَغْبَتِهِمْ فِي الْعَاجِلَةِ؛ أُخْبِرُوا بِحَقِيقَتِهَا، وَأَنَّهَا فِي الْحَقِيقَةِ كَلَا شَيْءٍ؛ لِأَنَّهَا زَائِلَةٌ فَانِيَةٌ‏.‏

وَضُرِبَتْ لَهُمُ الْأَمْثَالُ فِي ذَلِكَ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏يُونُسَ‏:‏ 24‏]‏‏.‏

وَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ‏}‏ ‏[‏الْحَدِيد‏:‏ 20‏]‏ ‏[‏إِلَى آخِرِ الْآيَةِ‏]‏

وَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ‏}‏ ‏[‏الْحَدِيد‏:‏ 20‏]‏ وَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الْعَنْكَبُوت‏:‏ 64‏]‏‏.‏

بَلْ لَمَّا آمَنَ النَّاسُ وَظَهَرَ مِنْ بَعْضِهِمْ مَا يَقْتَضِي الرَّغْبَةَ رُبَّمَا أَمَالَتْهُ عَنِ الِاعْتِدَالِ فِي طَلَبِهَا أَوْ نَظَرًا إِلَى هَذَا الْمَعْنَى؛ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ‏:‏ «إِنَّ مِمَّا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا يُفْتَحُ لَكُمْ مِنْ زَهَرَاتِ الدُّنْيَا»‏.‏

وَلَمَّا لَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ وَلَا مَظِنَّتِهِ؛ قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏}‏ ‏[‏الْأَعْرَاف‏:‏ 32‏]‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا‏}‏ ‏[‏الْمُؤْمِنُونَ‏:‏ 51‏]‏‏.‏

وَوَقْعَ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ النَّهْيُ عَنِ الظُّلْمِ، وَالْوَعِيدُ فِيهِ وَالتَّشْدِيدُ، وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ‏}‏ ‏[‏فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَقَالُوا‏:‏ أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ‏؟‏ فَنَزَلَ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ‏}‏ ‏[‏لُقْمَانَ‏:‏ 13‏]‏؛ فَخَفَّفَ عَنْهُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ، مَعَ أَنَّ قَلِيلَ الظُّلْمِ وَكَثِيرَهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، لَكِنَّهُمْ فَهِمُوا أَنَّ مُطْلَقَ الظُّلْمِ لَا يَحْصُلُ مَعَهُ الْأَمْنُ فِي الْآخِرَةِ وَالْهِدَايَةُ لِقَوْلِه‏:‏ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ‏]‏ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ‏[‏الْأَنْعَام‏:‏ 82‏]‏‏.‏

وَلَمَّا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ‏:‏ «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ‏:‏ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ»؛ شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، إِذْ لَا يَسْلَمُ أَحَدٌ مِنْ شَيْءٍ مِنْهُ، فَفَسَّرَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَهُمْ حِينَ أَخْبَرُوهُ بِكَذِبٍ وَإِخْلَافٍ وَخِيَانَةٍ مُخْتَصَّةٍ بِأَهْلِ الْكُفْرِ‏.‏

وَكَذَلِكَ لَمَّا نَزَلَ‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 284‏]‏؛ شَقَّ عَلَيْهِمْ؛ فَنَزَلَ‏:‏ ‏{‏لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 286‏]‏‏.‏

وَقَارَفَ بَعْضُهُمْ بِارْتِدَادٍ أَوْ غَيْرِهِ وَخَافَ أَنْ لَا يُغْفَرَ لَهُ، فَسُئِلَ فِي ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الزُّمَر‏:‏ 53‏]‏‏.‏

وَلَمَّا ذَمَّ الدُّنْيَا وَمَتَاعَهَا؛ هَمَّ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَبَتَّلُوا وَيَتْرُكُوا النِّسَاءَ وَاللَّذَّةَ وَالدُّنْيَا، وَيَنْقَطِعُوا إِلَى الْعِبَادَةِ، فَرَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ‏:‏ «مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي؛ فَلَيْسَ مِنِّي»‏.‏

وَدَعَا لِأُنَاسٍ بِكَثْرَةِ الْمَالِ وَالْوَلَدِ بَعْدَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ‏}‏ ‏[‏التَّغَابُن‏:‏ 15‏]‏ وَالْمَالُ وَالْوَلَدُ هِيَ الدُّنْيَا، وَأَقَرَّ الصَّحَابَةَ عَلَى جَمْعِ الدُّنْيَا وَالتَّمَتُّعِ بِالْحَلَالِ مِنْهَا، وَلَمْ يُزَهِّدْهُمْ وَلَا أَمَرَهُمْ بِتَرْكِهَا؛ إِلَّا عِنْدَ ظُهُورِ حِرْصٍ أَوْ وُجُودِ مَنْعٍ مِنْ حَقِّهِ، وَحَيْثُ تَظْهَرُ مَظِنَّةُ مُخَالَفَةِ التَّوَسُّطِ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَمَا سِوَاهُ؛ فَلَا‏.‏

وَمِنْ غَامِضِ هَذَا الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ عَمَّا يُجَازِي بِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْآخِرَةِ، وَأَنَّهُ جَزَاءٌ لِأَعْمَالِهِمْ؛ فَنَسَبَ إِلَيْهِمْ أَعْمَالًا وَأَضَافَهَا إِلَيْهِمْ بِقَوْلِه‏:‏ ‏{‏جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏السَّجْدَة‏:‏ 17‏]‏‏.‏

وَنَفَى الْمِنَّةَ بِهِ عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ‏}‏ ‏[‏التِّين‏:‏ 6‏]‏‏.‏

فَلَمَّا مَنُّوا بِأَعْمَالِهِمْ قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ ‏[‏الْحُجُرَات‏:‏ 17‏]‏‏.‏

فَأَثْبَتَ الْمِنَّةَ عَلَيْهِمْ عَلَى مَا هُوَ الْأَمْرُ فِي نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ مَقْطَعُ حَقٍّ، وَسَلَبَ عَنْهُمْ مَا أَضَافَ إِلَى الْآخَرِينَ، بِقَوْلِه‏:‏ ‏{‏أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ‏}‏ ‏[‏الْحُجُرَات‏:‏ 17‏]‏، كَذَلِكَ أَيْضًا، أَيْ فَلَوْلَا الْهِدَايَةُ لَمْ يَكُنْ مَا مَنَنْتُمْ بِهِ، وَهَذَا يُشْبِهُ فِي الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ حَدِيثَ شِرَاجِ الْحَرَّةِ حِينَ تَنَازَعِ فِيهِ الزُّبَيْرُ وَرَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ؛ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ‏:‏ «اسْقِ يَا زُبَيْرُ»- فَأْمَرَهُ بِالْمَعْرُوفِ- «وَأَرْسِلَ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ»‏.‏ فَقَالَ الرَّجُلُ‏:‏ إِنْ كَانَ ابْنُ عَمَّتِكَ‏؟‏ فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ «اسْقِ يَا زُبَيْرُ حَتَّى يَرْجِعَ الْمَاءُ إِلَى الْجَدْرِ»، وَاسْتَوْفَى لَهُ حَقَّهُ؛ فَقَالَ الزُّبَيْرُ‏:‏ إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ‏:‏ ‏{‏فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 65‏]‏‏.‏

وَهَكَذَا تَجِدُ الشَّرِيعَةَ أَبَدًا فِي مَوَارِدِهَا وَمَصَادِرِهَا‏.‏

وَعَلَى نَحْوٍ مَنْ هَذَا التَّرْتِيبِ يَجْرِي الطَّبِيبُ الْمَاهِرُ، يُعْطِي الْغِذَاءَ ابْتِدَاءً عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الِاعْتِدَالُ فِي تَوَافُقِ مِزَاجِ الْمُغْتَذِي مَعَ مِزَاجِ الْغِذَاءِ، وَيُخْبِرُ مَنْ سَأَلَهُ عَنْ بَعْضِ الْمَأْكُولَاتِ الَّتِي يَجْهَلُهَا الْمُغْتَذِي‏:‏ أَهْوَ غِذَاءٌ، أَمْ سُمٌّ، أَمْ غَيْرُ ذَلِكَ‏؟‏ فَإِذَا أَصَابَتْهُ عِلَّةٌ بِانْحِرَافِ بَعْضِ الْأَخْلَاطِ؛ قَابَلَهُ فِي مُعَالَجَتِهِ عَلَى مُقْتَضَى انْحِرَافِهِ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ، لِيَرْجِعَ إِلَى الِاعْتِدَالِ وَهُوَ الْمِزَاجُ الْأَصْلِيُّ، وَالصِّحَّةُ الْمَطْلُوبَةُ، وَهَذَا غَايَةُ الرِّفْقِ، وَغَايَةُ الْإِحْسَانِ وَالْإِنْعَامِ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏الشَّرِيعَةُ حَامِلَةٌ عَلَى التَّوَسُّطِ وَالْمَيْلِ عَنِ التَّوَسُّطِ لِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ إِنَّمَا هُوَ لِمَعْنًى مَقْصُودٍ‏]‏

فَإِذَا نَظَرْتَ فِي كُلِّيَّةٍ شَرْعِيَّةٍ فَتَأَمَّلْهَا تَجِدْهَا حَامِلَةً عَلَى التَّوَسُّطِ، فَإِنْ رَأَيْتَ مَيْلًا إِلَى جِهَةِ طَرَفٍ مِنَ الْأَطْرَافِ، فَذَلِكَ فِي مُقَابَلَةِ وَاقِعٍ أَوْ مُتَوَقَّعٍ فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ‏.‏

فَطَرَفُ التَّشْدِيدِ- وَعَامَّةُ مَا يَكُونُ فِي التَّخْوِيفِ وَالتَّرْهِيبِ وَالزَّجْرِ- يُؤْتَى بِهِ فِي مُقَابَلَةِ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الِانْحِلَالُ فِي الدِّينِ‏.‏

وَطَرَفُ التَّخْفِيفِ- وَعَامَّةُ مَا يَكُونُ فِي التَّرْجِيَةِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْخِيصِ- يُؤْتَى بِهِ فِي مُقَابَلَةِ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْحَرَجُ فِي التَّشْدِيدِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا وَلَا ذَاكَ رَأَيْتَ التَّوَسُّطَ لَائِحًا، وَمَسْلَكَ الِاعْتِدَالِ وَاضِحًا، وَهُوَ الْأَصْلُ الَّذِي يُرْجَعُ إِلَيْهِ وَالْمَعْقِلُ الَّذِي يُلْجَأُ إِلَيْهِ‏.‏

وَعَلَى هَذَا إِذَا رَأَيْتَ فِي النَّقْلِ مِنَ الْمُعْتَبِرِينَ فِي الدِّينِ مَنْ مَالَ عَنِ التَّوَسُّطِ؛ فَاعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ مُرَاعَاةً مِنْهُ لِطَرَفٍ وَاقِعٍ أَوْ مُتَوَقَّعٍ فِي الْجِهَةِ الْأُخْرَى، وَعَلَيْهِ يَجْرِي النَّظَرُ فِي الْوَرَعِ وَالزُّهْدِ وَأَشْبَاهِهِمَا، وَمَا قَابَلَهَا‏.‏ وَالتَّوَسُّطُ يُعْرَفُ بِالشَّرْعِ، وَقَدْ يُعْرَفُ بِالْعَوَائِدِ وَمَا يَشْهَدُ بِهِ مُعْظَمُ الْعُقَلَاءِ؛ كَمَا فِي الْإِسْرَافِ وَالْإِقْتَارِ فِي النَّفَقَاتِ‏.‏