فصل: أثر الفسق في الفتوى

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


فِسْق

التّعريف

1 - الفسق في اللّغة‏:‏ الخروج عن الطّاعة، وعن الدّين، وعن الاستقامة‏.‏

والفسق في الأصل خروج الشّيء من الشّيء على وجه الفساد، ومنه قولهم‏:‏ فسق الرّطب‏:‏ إذا خرج عن قشره‏.‏

وفي الاصطلاح قال الشّوكانيّ‏:‏ هو الخروج عن الطّاعة وتجاوز الحدّ بالمعصية‏.‏

والفسق يقع بالقليل من الذّنوب إذا كانت كبائر، وبالكثير، لكن تعورف فيما كان كثيراً، وقد يكون الفسق شركاً، وقد يكون إثماً، وأكثر ما يقال الفاسق لمن التزم حكم الشّرع وأقرّ به ثمّ أخلّ بجميع أحكامه أو ببعضه‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الكفر‏:‏

2 - الكفر في اللّغة‏:‏ ستر الشّيء، ومنه وصف اللّيل بالكافر لستره الأشخاص، والزّرّاع لسترهم البذر في الأرض، وكفر النّعمة وكفرانها‏:‏ سترها بالجحود واستعمال الكفر في جحود الدّين أكثر، واستعمال الكفران في جحود النّعمة أكثر‏.‏

قال الرّاغب الأصفهانيّ‏:‏ والكافر على الإطلاق متعارف فيمن يجحد الوحدانيّة أو النّبوّة أو الشّريعة أو ثلاثتها، وقد يقال‏:‏ كفر، لمن أخلّ بالشّريعة وترك ما لزمه من شكر اللّه عليه‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ، والعلاقة بين الفسق والكفر العموم والخصوص‏.‏

ب - الظّلم‏:‏

3 - الظّلم في اللّغة‏:‏ وضع الشّيء في غير موضعه، وذلك إمّا بنقصان أو بزيادة، وإمّا بعدول عن وقته أو عن مكانه، والظّلم مجاوزة الحدّ‏.‏

ولا يخرج معناه الاصطلاحيّ عن معناه اللّغويّ‏.‏

والعلاقة بينهما أنّ الظّلم يؤدّي إلى الفسق‏.‏

ج - العدالة‏:‏

4 - العدالة في اللّغة‏:‏ التّوسّط والاعتدال والاستقامة، وهي صفة توجب مراعاتها الاحتراز عمّا يخلّ بالمروءة عادةً ظاهراً، والعدالة‏:‏ العدل، وهو الحكم بالحقّ‏.‏

والعدالة في الاصطلاح‏:‏ اجتناب الكبائر واجتناب الإصرار على الصّغائر، وقيل‏:‏ اجتناب الكبائر وأداء الفرائض، وأن تغلب حسناته سيّئاته، وقال البهوتيّ‏:‏ العدالة هي استواء أحوال الشّخص في دينه، واعتدال أقواله وأفعاله‏.‏

والعلاقة بين الفسق والعدالة الضّدية‏.‏

الحكم التّكليفيّ

5 - الفسق حرام ومنهيّ عنه بإجماع المسلمين، لأنّه خروج عن أحكام اللّه، ومخالفة لأوامره ونواهيه، ويعاقب صاحبه بالحدّ أو التّعزير‏.‏

أنواع الفسق

6 - قال ابن تيميّة‏:‏ إنّ الفسق تارةً يكون بترك الفرائض، وتارةً بفعل المحرّمات‏.‏

وجاء في الزّواجر عن اقتراف الكبائر لابن حجر‏:‏ قال بعض الأئمّة‏:‏ كبائر القلوب أعظم من كبائر الجوارح، لأنّها كلّها توجب الفسق‏.‏

وقال الشّوكانيّ ناقلاً عن الإمام القرطبيّ‏:‏ والفسق في عرف الاستعمال الشّرعيّ‏:‏ الخروج عن طاعة اللّه عزّ وجلّ، فقد يقع على من خرج بكفر، على من خرج بعصيان، وفي حديث الصّحيحين، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر»‏.‏ الفسق أنواع كثيرة يذكرها الفقهاء في كتبهم، كالفسق الملّيّ أو فسق أهل الملّة الّذين لهم حسنات ولهم سيّئات، فهم غير مخلّدين في النّار‏.‏

ومن ذلك الفاسق بتأويل، كالّذي يشرب الخمر متأوّلاً فقه العراقيّين، فإذا كان تأويله لمقطوع بحرمته فلا يعذر بتأويله، أو كان غير متأوّل فلا يعذر بذلك‏.‏

ومنه الفاسق بالجارحة كمن يشرب الخمر أو يزني‏.‏

ومنه الفاسق بالاعتقاد كالقدريّ والجبريّ‏.‏

إمامة الفاسق في الصّلاة

7 - اختلف الفقهاء في الصّلاة خلف الفاسق‏:‏

فيرى الحنفيّة أنّه يصلح للإمامة في الجملة كلّ عاقل مسلم، حتّى تجوز إمامة العبد والأعرابيّ والأعمى وولد الزّنا والفاسق، وإن كانت مكروهةً‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ تصحّ الصّلاة - على المعتمد - مع الكراهة خلف الفاسق بجارحة، كزان وشارب خمر، فإن تعلّق فسقه بالصّلاة، كقصده الكبر بإمامته، فلا تصحّ‏.‏

ومقابل المعتمد أنّها لا تصحّ خلف الفاسق بجارحة‏.‏

والمعتمد أنّها تصحّ خلف المبتدع المختلف في تكفيره ببدعته، كالحروريّ والقدريّ‏.‏

وأمّا الشّافعيّة فإنّهم يجيزون الصّلاة وراء الإمام الفاسق، وإنّما يكره ذلك خلفه، ومحلّ كراهة إمامة الفاسق لغير الفاسق، أمّا لمثله فلا تكره ما لم يكن فسق الإمام أفحش‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ لا تصحّ إمامة فاسق مطلقاً، أي سواء كان فسقه بالاعتقاد أو بأفعال محرّمة، وسواء أعلن فسقه أو أخفاه، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً ََلا يَسْتَوُونَ ‏}‏‏.‏

وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا تؤمّنّ امرأة رجلاً، ولا يؤمّ أعرابيّ مهاجراً، ولا يؤمّ فاجر مؤمناً، إلاّ أن يقهره بسلطان يخاف سيفه وسوطه»، ويعيد من صلّى خلف فاسق مطلقاً‏.‏

الفسق والإمامة الكبرى

8 - من الشّروط الّتي تشترط فيمن يتولّى الإمامة الكبرى أن يكون عدلاً‏.‏

وعند جمهور الفقهاء لا يجوز أن تعقد الإمامة لفاسق، لأنّ الإمام يقام لإقامة الحدود، واستيفاء الحقوق، وحفظ أموال الأيتام والمجانين، والنّظر في أمورهم، إلى غير ذلك، وما فيه من الفسق يقعده عن القيام بهذه الأمور والنّهوض فيها‏.‏

والتّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏الإمامة الكبرى ف 6‏)‏‏.‏

أثر الفسق في رواية الحديث

9 - ذهب جماهير أئمّة الحديث والفقه إلى أنّه يشترط فيمن يحتجّ بروايته السّلامة من الفسق‏.‏

وذكر الزّين العراقيّ أنّ الفاسق المبتدع الّذي لم يكفّر ببدعته إذا كان داعيةً إلى بدعته لم تقبل روايته، وإن لم يكن داعيةً قبل، وإليه ذهب أحمد كما قال الخطيب، وقال ابن الصّلاح‏:‏ وهذا مذهب الكثير والأكثر، وهو أعدلها وأولاها‏.‏

أثر الفسق في الشّهادة

10 - اتّفق الفقهاء على اشتراط العدالة في الشّاهد، وأنّه لا تقبل شهادة الفاسق، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ ‏}‏، ولقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا ‏}‏، فلا يجوز الحكم بها، لأنّ في الحكم بها تعديلاً له، ولأنّ اعتبار العدالة في الشّاهد حقّ للّه تعالى‏.‏

أثر الفسق في الفتوى

11 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ الفسق مانع من قبول الفتوى، لأنّ الإفتاء يتضمّن الإخبار عن الحكم الشّرعيّ، وخبر الفاسق لا يقبل‏.‏

وذهب بعض الحنفيّة إلى أنّ الفاسق تقبل فتواه‏.‏

والتّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏فتوى ف 12‏)‏‏.‏

أثر الفسق في الحضانة

12 - اتّفق الفقهاء على أنّه لا حضانة لفاسق، لأنّ الفاسق لا يلي ولا يؤتمن، ولأنّ المحضون لا حظّ له في حضانته، لأنّه ينشأ على طريقته‏.‏

وقيّد الحنفيّة الفسق المسقط للحضانة بأنّه المضيّع للولد‏.‏

والتّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏حضانة ف 3‏)‏‏.‏

الفسق والمعاملات

13 - نصّ الجصّاص في كتابه أحكام القرآن على أنّ أهل العلم اتّفقوا على جواز قبول خبر الفاسق في أشياء، منها‏:‏ أمور المعاملات، فيقبل فيها خبر الفاسق، وذلك نحو الهديّة إذا قال لك‏:‏ إنّ فلاناً أهدى إليك هذا، فيجوز قبوله وقبضه، ونحو قوله‏:‏ وكّلني فلان ببيع كذا، فيجوز قبوله وشراؤه منه، وكذلك جميع أخبار المعاملات‏.‏

ونصّ القرطبيّ على ذلك بقوله‏:‏ لا خلاف في أنّه يصحّ أن يكون رسولاً عن غيره في قول يبلّغه، أو شيء يوصله، أو إذن يعلمه، إذا لم يخرج عن حقّ المرسل والمبلّغ، فإن تعلّق به حقّ لغيرهما لم يقبل قوله، وهذا جائز للضّرورة الدّاعية إليه، فإنّه لو لم يتصرّف بين الخلق في هذه المعاني إلاّ العدول، لم يحصل منها شيء، لعدمهم في ذلك والمراد ندرتهم‏.‏

الفاسق وولاية النّكاح

14 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّ الفاسق يكون وليّاً في النّكاح على مولّيته، لأنّه يلي مالها فيلي بضعها كالعدل، فهو وإن كان فاسقاً في دينه إلاّ أنّ غيرته متوفّرة، وبها يحمي الحريم، وقد يبذل المال ويصون الحرمة، وإذا ولي المال فالنّكاح أولى‏.‏

إلاّ أنّ المالكيّة كرهوا للوليّ الفاسق أن يلي زواج من يلي عليها، وقدّموا عليه الوليّ العدل المساوي له في الدّرجة‏.‏

وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ النّكاح لا ينعقد بوليّ فاسق على المذهب، غير الإمام الأعظم، مجبراً كان أم لا، أعلن بفسقه أم لا، فلا يزوّج الوليّ الفاسق وإن كان بحيث لو سلب الولاية لانتقلت إلى حاكم فاسق، والوليّ الخاصّ تشترط فيه العدالة مطلقاً بخلاف الحاكم، فلا تشترط فيه العدالة، لأنّه يزوّج للضّرورة، والضّرورة يغتفر فيها ما لا يغتفر في غيرها‏.‏

الخطبة على خطبة الفاسق

15 - يحرم على المسلم أن يتقدّم إلى خطبة امرأة سبق من أخيه المسلم خطبتها، كما ورد في الحديث الشّريف‏:‏ «لا يخطب الرّجل على خطبة أخيه»‏.‏

لكن إذا كان هذا الخاطب السّابق فاسقاً، فقد ذهب المالكيّة إلى جواز الخطبة على خطبته، وذهب الشّافعيّة إلى أنّه تحرم الخطبة على خطبة من صرّح بإجابته إلاّ بإذنه، وعند الحنابلة تحرم خطبة المسلم على المسلم، أمّا خطبته على الكافر فتجوز‏.‏

أثر الفسق في عزل الوالي

16 - اختلف الفقهاء في أثر الفسق في عزل الوالي بعد انعقاد ولايته‏:‏

فذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّه لا ينعزل بالفسق، ولكنّه يستحقّ العزل به‏.‏

وفصّل الشّافعيّة والحنابلة في الفسق الّذي يعزل به والفسق الّذي لا يعزل به‏.‏

والتّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏الإمامة الكبرى ف 12‏)‏‏.‏

حكم التّودّد للفاسق

17 - اتّفق الفقهاء على أنّه لا يجوز التّودّد للفاسق لأجل فسقه، ولا الجلوس معه وهو يمارس شيئاً من المعاصي إيناساً ومجاراةً له، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ‏}‏، ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا تصاحب إلاّ مؤمناً ولا يأكل طعامك إلاّ تقيّ» وقوله‏:‏ «الرّجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل»‏.‏

كما أنّه ورد النّهي عن مخاطبة الفاسق والمبتدع ونحوهما بسيّد ونحوه من الألقاب الّتي تدلّ على تعظيمه، لأنّ في ذلك تعظيم من أهانه اللّه تعالى‏.‏

وقد نصّ المالكيّة والشّافعيّة على أنّ الجلوس مع الفاسق إيناساً له يعدّ من صغائر الذّنوب الّتي تغفر بالحسنات‏.‏

حكم غيبة الفاسق

18 - الأصل في الغيبة الحرمة، لنهي اللّه تعالى عنها في قوله‏:‏ ‏{‏ وَََلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً ‏}‏، لكنّه تجوز غيبة الفاسق المجاهر بفسقه فيما جاهر به من الفسق، دون غيره‏.‏

توبة الفاسق

19 - تقبل توبة الفاسق إذا استجمعت شروطها، إلاّ ثلاثةً اختلف الفقهاء في قبول توبتهم، هم‏:‏ الزّنديق والسّاحر ومن تكرّرت ردّته‏.‏

والتّفصيل في مصطلح ‏(‏توبة ف 12‏)‏‏.‏

فِصال

انظر‏:‏ رضاع، فطام‏.‏

فَصد

التّعريف

1 - الفصد لغةً‏:‏ شقّ العرق، يقال‏:‏ فصده يفصده فصداً وفصاداً، فهو مفصود وفصيد‏.‏ واصطلاحاً الفصد‏:‏ هو قطع العرق لاستخراج الدّم الّذي يؤذي الجسد‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

الحجامة‏:‏

2 - الحجامة في اللّغة‏:‏ مأخوذة من الحجم، أي المصّ، يقال‏:‏ حجم الصّبيّ ثدي أمّه إذا مصّه‏.‏

والحجامة في كلام الفقهاء قيّدت عند البعض بإخراج الدّم من القفا بواسطة المصّ بعد الشّرط بالحجم لا بالفصد‏.‏

وذكر الزّرقانيّ أنّ الحجامة لا تختصّ بالقفا، بل تكون من سائر البدن، وإلى هذا ذهب الخطّابيّ‏.‏

والحجامة والفصد يجتمعان في أنّ كلاً منهما إخراج للدّم، ويفترقان في أنّ الفصد شقّ العرق، والحجامة مصّ الدّم بعد الشّرط‏.‏

الحكم التّكليفيّ

3 - يجوز الفصد بشرط مهارة القائم به، لأنّ الفصادة - كما قال الأطبّاء - مخطرة فلا يؤمن بها إلاّ من ماهر، وقد قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «الشّفاء في ثلاث‏:‏ شربة عسل، وشرطة محجم، وكيّة نار، وأنهى أمّتي عن الكيّ»‏.‏

قيل‏:‏ المراد بشرطة محجم‏:‏ الفصد‏.‏

وقال ابن حجر في تعليقه على الحديث‏:‏ إنّما خصّ الحجم بالذّكر لكثرة استعمال العرب وإلفهم له، بخلاف الفصد، فإنّه وإن كان في معنى الحجم لكنّه لم يكن معهوداً لها غالباً، على أنّ في التّعبير بقوله‏:‏ «شرطة محجم» ما قد يتناول الفصد، وأيضاً فالحجم في البلاد الحارّة أنجح من الفصد، والفصد في البلاد الّتي ليست بحارّة أنجح من الحجم‏.‏

وكره بعض أهل العلم التّداوي بذلك، ورأوا أنّ تركه والاتّكال على اللّه أفضل منه‏.‏

أثر الفصد على الوضوء

4 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة إلى عدم انتقاض الوضوء بالفصد، لما روي من‏:‏ «أنّ رجلين من أصحاب النّبيّ حرسا المسلمين في غزوة ذات الرّقاع، فقام أحدهما يصلّي، فرماه رجل من الكفّار بسهم، فنزعه وصلّى ودمه يجري، وعلم به صلى الله عليه وسلم ولم ينكره»‏.‏

قال الرّمليّ‏:‏ وأمّا صلاته مع الدّم فلقلّة ما أصابه منه‏.‏

ويرى الحنفيّة أنّ الفصد ناقض للوضوء‏.‏

ويقول الحنابلة إنّ خروج الكثير من الدّم ينقض الوضوء، ويحتجّون بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث فاطمة بنت أبي حبيش‏:‏ «إنّما ذلك عرق وليس بحيض، فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصّلاة وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدّم ثمّ صلّي، ثمّ توضّئي لكلّ صلاة حتّى يجيء ذلك الوقت»، ولأنّه نجاسة خارجة من البدن، فأشبهت الخارج من السّبيل‏.‏

أثر الفصد على الصّوم

5 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ الفصد مكروه للصّائم إذا كان يضعفه عن الصّوم، أمّا إذا كان لا يخافه فلا بأس‏.‏

ومذهب المالكيّة قريب من الحنفيّة، إذ قالوا‏:‏ تكره الفصادة للصّائم إذا كان يجهل نفسه، وأمّا من يعلم من نفسه السّلامة فهي جائزة، وعكسه عكسه‏.‏

وصرّح الشّافعيّة بأنّه يستحبّ للصّائم أن يحترز عن الفصد، لأنّه يضعفه‏.‏

وذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه لا فطر بالفصد، وفي قول عند الحنابلة يفطر المفصود دون الفاصد‏.‏

أثر الفصد على الإحرام

6 - ذكر الحنفيّة الفصد ضمن مباحات الإحرام‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ جاز فصد لحاجة، وإلاّ كره فيما يظهر إن لم يعصبه، فإن عصبه ولو لضرورة افتدى‏.‏

ويرى الشّافعيّة أنّ للمحرم أن يفتصد ويحتجم ما لم يقطع شعراً‏.‏

وذهب الحنابلة إلى أنّه يجوز للمحرم أن يفتصد ولا يقطع شعراً، ويؤخذ من عبارات الحنابلة أنّ المحرم إذا احتاج في الفصد إلى قطع شعر فله قطعه لما روى عبد اللّه بن بحينة «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم احتجم بلحي جمل من طريق مكّة وهو محرم في وسط رأسه»، ومن ضرورة ذلك قطع الشّعر، ولأنّه يباح حلق الشّعر لإزالة أذى القمّل، فكذلك هاهنا، وعليه الفدية‏.‏

الافتصاد في المسجد

7 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه لا يجوز الفصد في المسجد ولو في إناء، ويرى الشّافعيّة أنّه إذا افتصد في المسجد واحتجم، فإن كان في غير إناء فحرام، وإن قطّر دمه في إناء فمكروه، والأولى تركه، وجزم البندنيجيّ في كتاب تذهيب المذهب بأنّه حرام أيضاً‏.‏

وللتّفصيل ‏(‏ر‏:‏ مسجد‏)‏‏.‏

فصد البهائم

8 - يجوز فصد البهائم وكيّها وكلّ علاج فيه منفعة لها‏.‏

تضمين الفاصد

9 - يشترط لعدم تضمين الفاصد ما تلف بعمله شروط منها‏:‏

أ - أن يكون التّداوي بالفصد من ماهر لئلاّ يكون ضرره أكثر من نفعه، ولذلك قالوا‏:‏ إن عالج العالم بالطّبّ المريض ومات من مرضه لا شيء عليه، بخلاف الجاهل أو المقصّر، فإنّه يضمن ما نشأ من فعله‏.‏

ب - أن يتمّ الفصد بإذن معتبر، بأن يكون من المفصود وهو مستقلّ، أو من وليّ أو إمام، فأفضى ذلك إلى التّلف‏.‏

ج - أن لا يتجاوز الفاصد الموضع المعتاد، أمّا إذا تجاوز الموضع المعتاد، فيجب الضّمان‏.‏

فضائل

التّعريف

1 - الفضائل في اللّغة‏:‏ جمع فضيلة، وهي الدّرجة الرّفيعة في الفضل وحسن الخلق، وفضيلة الشّيء‏:‏ مرتبته أو وظيفته الّتي قصدت منه، والفاضلة‏:‏ النّعمة العظيمة، والفضل والفضيلة‏:‏ الخير والزّيادة، وهو خلاف النّقيصة‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالفضائل

أوّلاً‏:‏ فضائل القرآن

2 - اتّفق الفقهاء على أنّ قراءة القرآن أفضل من الأذكار والأوراد الأخرى الّتي لا تختصّ بزمان أو مكان معيّن، لما ورد في ذلك من الكتاب والسّنّة، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ‏}‏‏.‏

وقولـه‏:‏ ‏{‏ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ‏}‏‏.‏

ومن السّنّة قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الماهر بالقرآن مع السّفرة الكرام البررة، والّذي يقرأ القرآن ويتعتع فيه وهو عليه شاقّ له أجران»‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من قرأ حرفاً من كتاب اللّه فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول‏:‏ الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف»‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يقال لصاحب القرآن‏:‏ اقرأ وارتق، ورتّل كما كنت ترتّل في الدّنيا، فإنّ منزلتك عند آخر آية تقرأ بها»‏.‏

3 - إلاّ أنّ العلماء اختلفوا في المفاضلة بين آيات القرآن الكريم‏:‏

فذهب الجمهور إلى أنّ بعض سور وآيات القرآن أفضل من بعض، للنّصوص الواردة في ذلك، منها قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ألم تر آيات أنزلت اللّيلة لم ير مثلهنّ قطّ ‏؟‏ قل أعوذ بربّ الفلق وقل أعوذ بربّ النّاس»‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنّ سورةً من القرآن ثلاثون آيةً، شفعت لرجل حتّى غفر له، وهي سورة تبارك الّذي بيده الملك»‏.‏

وعن أبيّ بن كعب رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يا أبا المنذر أتدري أيّ آية من كتاب اللّه معك أعظم ‏؟‏ قلت‏:‏ اللّه لا إله إلاّ هو الحيّ القيّوم، فضرب في صدري، وقال‏:‏ واللّه، ليهنك العلم أبا المنذر»‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه»‏.‏ وذهب مالك وأبو الحسن الأشعريّ وابن حبّان ويحيى بن يحيى والقاضي أبو بكر الباقلانيّ إلى أنّه ليس في القرآن شيء أفضل من شيء، لأنّ الجميع كلام اللّه، فكيف يفضل بعضه بعضاً، وكيف يكون بعضه أشرف من بعض ‏؟‏ ولئلاّ يوهم التّفضيل نقص المفضّل عليه، ولذلك كره الإمام مالك أن تعاد قراءة سورة أو تردّد دون غيرها‏.‏

ثمّ اختلف القائلون بالتّفضيل في السّبب الّذي يفضّل به بعض القرآن على بعض، فقال بعضهم‏:‏ الفضل راجع إلى عظم الأجر، ومضاعفة الثّواب بحسب انتقالات النّفس، وخشيتها، وتدبّرها، وتفكّرها عند ورود أوصاف العليّ الحكيم‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ إنّ التّفضيل يرجع إلى أمر تعبّديّ لا يظهر لنا، فتكون سورة أفضل من سورة، لأنّ اللّه سبحانه وتعالى جعل قراءتها كقراءة أضعافها ممّا سواها، وأوجب بها من الثّواب ما لم يوجب بغيرها، كما جعل يوماً أفضل من يوم، وشهراً أفضل من شهر، بمعنى أنّ العبادة فيه تفضل على العبادة في غيره، والذّنب فيه أعظم من الذّنب في غيره، وكما جعل الحرم أفضل من الحلّ، لأنّه يتأدّى فيه من المناسك ما لا يتأدّى في غيره، والصّلاة فيه يضاعف أجرها أكثر من الصّلاة في غيره‏.‏

وقال آخرون‏:‏ إنّ الفضل يرجع لذات اللّفظ، فإنّ ما تضمّنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ وَإِلَـهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ‏}‏، وآية الكرسيّ، وآخر سورة الحشر، وسورة الإخلاص، من الدّلالات على وحدانيّته وصفاته سبحانه وتعالى، ليس موجوداً مثلاً في‏:‏ ‏{‏ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ ‏}‏ وأمثالها، فالتّفضيل إنّما هو بالمعاني العجيبة وكثرتها‏.‏

وقال الحليميّ‏:‏ معنى التّفضيل يرجع إلى أشياء‏:‏

أحدها‏:‏ أن يكون العمل بآية أولى من العمل بأخرى وأعود على النّاس، وعلى هذا يقال‏:‏ آية الأمر والنّهي، والوعد والوعيد، خير من آيات القصص، لأنّها إنّما أريد بها تأكيد الأمر والنّهي والإنذار والتّبشير، ولا غنى للنّاس عن هذه الأمور، وقد يستغنون عن القصص، فكان ما هو أعود عليهم، وأنفع لهم، ممّا يجري مجرى الأصول، خيراً لهم ممّا جعل تبعاً لما لا بدّ منه‏.‏

الثّاني‏:‏ أن يقال‏:‏ الآيات الّتي تشتمل على تعديد أسماء اللّه وبيان صفاته والدّلالة على عظمته أفضل من غيرها‏.‏

الثّالث‏:‏ أن يقال‏:‏ سورة خير من سورة، أو آية خير من آية بمعنى‏:‏ أنّ القارئ يتعجّل له بقراءتها فائدةً سوى الثّواب الآجل، ويتأدّى منه بتلاوتها عبادة، كقراءة آية الكرسيّ، والإخلاص والمعوّذتين، فإنّ القارئ يتعجّل بقراءتها الاحتراز ممّا يخشى، والاعتصام باللّه، ويتأدّى بتلاوتها عبادة اللّه، لما فيها من ذكره سبحانه وتعالى بالصّفات العلى، على سبيل الاعتقاد لها، وسكون النّفس إلى فضل ذلك الذّكر وبركته، فأمّا آيات الحكم، فلا يقع بنفس تلاوتها إقامة حكم، وإنّما يقع بها علم الحكم‏.‏

ثانياً‏:‏ فضل العلم وأهله وطلبه

4 - اتّفق الفقهاء على فضل العلم وأهله وفضل العالم على العابد، وأنّ الاشتغال بطلبه أفضل من الاشتغال بنوافل الصّلاة والصّيام والتّسبيح وغيرها من نوافل العبادات البدنيّة، لتكاثر الآيات والأخبار والآثار الدّالّة على فضل العلم، والحثّ على تحصيله والاجتهاد في اقتباسه‏.‏

ومن هذه الأدلّة‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ ََلا يَعْلَمُونَ ‏}‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ‏}‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ‏}‏‏.‏

وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من يرد اللّه به خيراً يفقّهه في الدّين»‏.‏

وقولـه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من سلك طريقاً يبتغي فيه علماً سهّل اللّه له طريقاً إلى الجنّة، وإنّ الملائكة لتضع أجنحتها رضاءً لطالب العلم، وإنّ العالم ليستغفر له من في السّموات ومن في الأرض حتّى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإنّ العلماء ورثة الأنبياء، وإنّ الأنبياء لم يورّثوا ديناراً ولا درهماً وإنّما ورّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظّ وافر»‏.‏

قال الشّافعيّ‏:‏ طلب العلم أفضل من صلاة النّافلة‏.‏

وانظر في تفصيل ذلك مصطلح‏:‏ ‏(‏طلب العلم ف 6 وما بعدها‏)‏‏.‏

ثالثاً‏:‏ فضل الفرض على النّفل

5 - اتّفق الفقهاء على أنّ الفرض - سواء كان فرض عين أو فرض كفاية - أفضل من التّطوّع والتّنفّل، لقول اللّه تعالى في الحديث القدسيّ‏:‏ «من عادى لي وليّاً فقد آذنته بالحرب، وما تقرّب إليّ عبدي بشيء أحبّ إليّ ممّا افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنّوافل حتّى أحبّه‏.‏‏.‏‏.‏» الحديث‏.‏

ولأنّ الأمر بالفرض جازم فيتضمّن أمرين، أحدهما‏:‏ الثّواب على فعله، والآخر‏:‏ العقاب على تركه، بخلاف النّفل، فلا عقاب على تركه، ولأنّ الفرض كالأساس، والنّفل كالبناء على ذلك الأساس، ولذلك كان الفرض أكمل وأحبّ إلى اللّه وأشدّ تقرّباً من النّفل، إلاّ في مسائل مستثناة، النّفل فيها أفضل من الفرض، وهي‏:‏

أ - تقديم الوضوء على الوقت لغير المعذور مندوب، وبعد دخول الوقت فرض، المندوب - هنا - أفضل من الفرض، لأنّ تقديم الوضوء فيه انتظار الصّلاة، ومنتظر الصّلاة كمن هو فيها، ولأنّ فيه قطع طمع الشّيطان عن تثبيطه عن الصّلاة‏.‏

ب - إبراء المعسر عن الدّين سنّة، وإنظاره حتّى الميسرة فرض، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ ‏}‏، ولكنّ الإبراء أفضل من الإنظار‏.‏

ج - الابتداء بالسّلام سنّة، وردّ السّلام فرض، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ‏}‏ وابتداء السّلام أفضل من ردّه، لما روى ابن مسعود رضي الله عنه يرفعه‏:‏ «إذا مرّ الرّجل بالقوم فسلّم عليهم فردّوا عليه، كان له عليهم فضل، لأنّه ذكّرهم السّلام»‏.‏

6 - ولكنّ الفقهاء اختلفوا‏:‏ هل الفرض العينيّ أفضل أم الفرض الكفائيّ ‏؟‏

فذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ فرض العين أفضل من فرض الكفاية، لأنّ فرض العين فرض حقّاً للنّفس، فهو أهمّ عندها، وأكثر مشقّةً، بخلاف فرض الكفاية، فإنّه مفروض حقّاً للكافّة، والأمر إذا عمّ خفّ، وإذا خصّ ثقل‏.‏

وذهب بعض العلماء - منهم إمام الحرمين من الشّافعيّة - إلى أنّ فرض الكفاية أفضل من فرض العين، لأنّ فاعله يسدّ مسد الأمّة، ويسقط الحرج عنها بأسرها، وبتركه يأثم المتمكّنون منه كلّهم، ولا شكّ في عظم وقع ما هذه صفته‏.‏

رابعاً‏:‏ فضل بعض الأمكنة على بعض

7 - أجمع الفقهاء على أنّ بعض الأماكن أفضل من البعض الآخر بما أودع اللّه فيها من فضله، وما يقع فيها من إكرامه لعباده، لا بصفات قائمة فيها، لأنّ الأماكن في الأصل متماثلة ومتساوية‏.‏

وقد أجمع الفقهاء على أنّ مكّة المكرّمة والمدينة المنوّرة هما أفضل بقاع الأرض‏.‏

ثمّ اختلفوا في أيّهما أفضل ‏؟‏

فذهب جمهور الفقهاء، منهم الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة، وهو قول عند المالكيّة، إلى أنّ مكّة المكرّمة أفضل من المدينة المنوّرة، لوجوه عدّدها العلماء‏:‏

أحدها‏:‏ وجوب قصدها للحجّ والعمرة، وهذان واجبان لا يقع مثلهما في المدينة‏.‏

الثّاني‏:‏ إن فضلت المدينة بإقامة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فيها بعد النّبوّة، كانت مكّة أفضل منها، لأنّه صلى الله عليه وسلم أقام فيها بعد النّبوّة ثلاث عشرة سنةً وأقام بالمدينة عشراً‏.‏

الثّالث‏:‏ إن فضلت المدينة بكثرة الطّارقين من عباد اللّه الصّالحين، فمكّة أفضل منها بكثرة من طرقها من الأنبياء والمرسلين والصّالحين‏.‏

الرّابع‏:‏ إنّ التّقبيل والاستلام ضرب من التّقديس والاحترام، وهما مختصّان بالرّكنين اليمانيّين، ولم يوجد مثل ذلك في المدينة‏.‏

الخامس‏:‏ أنّ اللّه سبحانه وتعالى أوجب علينا استقبالها في الصّلاة حيثما كنّا من البلاد والفلوات، ولم يوجب علينا مثل ذلك في المدينة‏.‏

السّادس‏:‏ إنّ اللّه حرّم علينا استقبال الكعبة واستدبارها عند قضاء الحاجة‏.‏

السّابع‏:‏ إنّ اللّه حرّم مكّة يوم خلق السّموات والأرض، فلم تحلّ لأحد من الرّسل والأنبياء إلاّ لنبيّنا صلى الله عليه وسلم وعلى جميع الأنبياء، فإنّها أحلّت له ساعةً من نهار‏.‏

الثّامن‏:‏ إنّ اللّه بوّأها لإبراهيم الخليل ولابنه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام، وجعلها مولداً لسيّد المرسلين وخاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام‏.‏

التّاسع‏:‏ إنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اغتسل لدخول مكّة»، وهو مسنون، ولم ينقل عنه مثل ذلك لدخول المدينة‏.‏

العاشر‏:‏ إنّ اللّه سبحانه وتعالى أثنى على البيت في كتابه بما لم يثن به على المدينة، فقال‏:‏ ‏{‏ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ ‏}‏‏.‏

الحادي عشر‏:‏ من شرف مكّة أنّ الصّلاة لا تكره فيها في الأوقات الّتي تكره فيها الصّلاة، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلّى أيّة ساعة شاء، من ليل أو نهار»‏.‏

الثّاني عشر‏:‏ الصّلاة في المسجد الحرام بمكّة تعدل مائة ألف صلاة وليس مثل ذلك في مسجد النّبيّ صلى الله عليه وسلم في المدينة أو غيره من المساجد‏.‏

وذهب المالكيّة في المشهور إلى أنّ المدينة أفضل من مكّة‏.‏ قال الحطّاب‏:‏ وهو - أي كون المدينة أفضل من مكّة - قول أكثر أهل المدينة‏.‏

8- وهذا الخلاف يجري فيما عدا ما ضمّ الأعضاء الشّريفة على صاحبها أفضل الصّلاة وأتمّ التّسليم من أرض المدينة‏.‏

أمّا الموضع الّذي ضمّ أعضاءه الشّريفة من قبره الكريم صلى الله عليه وسلم فقد قال العلماء‏:‏ إنّه أفضل بقاع الأرض حتّى المسجد الحرام، وحتّى الكعبة المشرّفة، وإنّه أفضل من السّموات حتّى العرش والكرسيّ‏.‏

كما أجمعوا على أنّ الكعبة أفضل من المدينة ما عدا الضّريح الشّريف على صاحبه أفضل الصّلاة وأتمّ التّسليم‏.‏

9- وبعد أن اتّفق الفقهاء على أنّ مسجد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم والمسجد الحرام أفضل من مسجد القدس أو بيت المقدس، أجمعوا على أنّ المسجد الأقصى أفضل من بقيّة المساجد، حتّى تلك المنسوبة إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم كمسجد قباء، ومسجد الفتح، ومسجد العيد، ومسجد ذي الحليفة، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا تشدّ الرّحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد، مسجد الحرام، ومسجد الأقصى، ومسجدي هذا»‏.‏

وقد صرّح الفقهاء بأنّ الأفضل بعد المساجد الثّلاثة ما كان أقدم أو أكثر جماعةً فإن استوى المسجدان في الجماعة فالأقرب مسافةً لحرمة الجوار، ثمّ ما انتفت فيه الشّبهة عن مال بانيه وواقفه، ثمّ من سمع نداءه أوّلاً، لأنّ مؤذّنه دعاه أوّلاً، ثمّ يتخيّر‏.‏

خامساً‏:‏ فضل بعض الأزمنة على بعض

10 - أجمع الفقهاء على أنّ بعض الأزمنة أفضل من بعض بما أودع اللّه سبحانه وتعالى فيها من فضله، وما يقع فيها من إكرامه لعباده، لا بصفات قائمة فيها، لأنّ الأزمان في الأصل متساوية ومتماثلة‏.‏

ففضّل اللّه شهر رمضان على سائر الشّهور، وجعل ليلة القدر خيراً من ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، وجعل يوم الجمعة خير يوم طلعت عليه الشّمس كما قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم وسيّد أيّام الأسبوع، قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنّ من أفضل أيّامكم يوم الجمعة، فأكثروا عليّ من الصّلاة فيه، فإنّ صلاتكم معروضة عليّ»، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنّ في الجمعة ساعةً لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلّي يسأل اللّه شيئاً إلاّ أعطاه إيّاه»، وفضّل قيام اللّيل على غيره، والثّلث الأخير منه على سائره، وفضّل العشر الأول من ذي الحجّة على غيرها من الأيّام‏.‏

قال العزّ بن عبد السّلام‏:‏ وتفضيل الأماكن والأزمان ضربان‏:‏

أحدهما‏:‏ دنيويّ، كتفضيل الرّبيع على غيره من الأزمان، وكتفضيل بعض البلدان على بعض بما فيها من الأنهار والثّمار وطيب الهواء، وموافقة الأهواء‏.‏

والضّرب الثّاني‏:‏ تفضيل دينيّ راجع إلى أنّ اللّه يجود على عباده فيها بتفضيل أجر العاملين، كتفضيل صوم رمضان على صوم سائر الشّهور، وكذلك يوم عاشوراء، وعشر ذي الحجّة، ويوم الاثنين والخميس وشعبان وستّة من أيّام شوّال، ففضلها راجع إلى جود اللّه وإحسانه إلى عباده فيها، وكذلك فضل الثّلث الأخير من كلّ ليلة راجع إلى اللّه يعطي فيه من إجابة الدّعوات والمغفرة، وإعطاء السّؤال، ونيل المأمول، ما لا يعطيه في الثّلثين الأوّلين‏.‏

سادساً‏:‏ فضل الأذان على الإمامة أو العكس

11 - اختلف الفقهاء في أنّه هل الأذان أفضل أم الإمامة ‏؟‏

فذهب الحنفيّة في المعتمد وهو المشهور عند المالكيّة، وهو قول عند بعض أصحاب الشّافعيّ، ورواية عند أحمد، إلى أنّ الإمامة أفضل من الأذان، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم تولاها بنفسه، وكذلك خلفاؤه الرّاشدون، ولم يتولّوا الأذان، وهم لا يختارون إلاّ الأفضل، ولأنّ الإمامة يختار لها من هو أكمل حالاً وأفضل‏.‏

وذهب الشّافعيّة والحنابلة في الرّاجح عندهما، وهو قول عند الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّ الأذان أفضل من الإمامة، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً ‏}‏ قالت السّيّدة عائشة رضي الله عنها‏:‏ نزلت في المؤذّنين‏.‏

ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لو يعلم النّاس ما في النّداء والصّفّ الأوّل ثمّ لم يجدوا إلاّ أن يستهموا عليه لاستهموا»‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «المؤذّنون أطول النّاس أعناقاً يوم القيامة»‏.‏

ولقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الإمام ضامن والمؤذّن مؤتمن، اللّهمّ أرشد الأئمّة واغفر للمؤذّنين»‏.‏

والأمانة أعلى وأحسن من الضّمان، والمغفرة أعلى من الإرشاد، قالوا‏:‏ وكون النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يقم بمهمّة الأذان ولا خلفاؤه الرّاشدون يعود السّبب فيه لضيق وقتهم عنه، لانشغالهم بمصالح المسلمين الّتي لا يقوم بها غيرهم، فلم يتفرّغوا للأذان، ومراعاة أوقاته، قال الموّاق‏:‏ إنّما ترك النّبيّ صلى الله عليه وسلم الأذان لأنّه لو قال حيّ على الصّلاة، ولم يعجّلوا لحقتهم العقوبة، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏}‏، وقال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه‏:‏ لولا الخلافة لأذّنت‏.‏

وفي قول عند الحنفيّة والشّافعيّة والمالكيّة أنّهما سواء في الفضل‏.‏

وفي قول آخر عند كلّ من المالكيّة والشّافعيّة أنّه إن علم من نفسه القيام بحقوق الإمامة وجميع خصالها، فهي أفضل، وإلاّ فالأذان أفضل‏.‏

واختلف الفقهاء كذلك هل الأذان أفضل أم الإقامة ‏؟‏

فذهب الحنفيّة وهو قول عند المالكيّة إلى أنّ الإقامة أفضل من الأذان، لأنّ الأذان يسقط في بعض المواضع دون الإقامة، كما في حقّ المسافر، وما بعد أولى الفوائت، وثانية الصّلاتين بعرفة‏.‏

وذهب الحنابلة وهو قول عند المالكيّة إلى أنّ الأذان أفضل من الإقامة، لزيادته عليها‏.‏

سابعاً‏:‏ فضل صلاة الجماعة على غيرها

12 - أجمع الفقهاء على أنّ صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذّ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذّ بسبع وعشرين درجةً»‏.‏

وكونها في المسجد أفضل منها في غير المسجد‏.‏

وتفصيل ذلك في مصطلح‏:‏ ‏(‏صلاة الجماعة ف 2‏)‏‏.‏

ثامناً‏:‏ فضل الصّفّ الأوّل

13 - اتّفق الفقهاء على أنّ الصّفّ الأوّل من صفوف صلاة الجماعة أفضل من غيره من الصّفوف الأخرى، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لو يعلم النّاس ما في النّداء والصّفّ الأوّل ثمّ لم يجدوا إلاّ أن يستهموا عليه لاستهموا»‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أتمّوا الصّفّ المقدّم، ثمّ الّذي يليه، فما كان من نقص فليكن في الصّفّ المؤخّر»‏.‏

كما اتّفقوا على أنّ الصّفّ الثّاني أفضل من الثّالث، وأنّ الثّالث أفضل من الرّابع، وهكذا، إلاّ النّساء فخير صفوفهنّ أواخرها، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «خير صفوف الرّجال أوّلها، وشرّها آخرها، وخير صفوف النّساء آخرها وشرّها أوّلها»‏.‏

والتّفصيل في مصطلح ‏(‏صفّ ف 4‏)‏‏.‏

تاسعاً‏:‏ فضل المجاهد على القاعد

14 - أجمع الفقهاء على أنّ الجهاد في سبيل اللّه من أفضل القربات إلى اللّه، وأنّ المجاهدين أفضل من القاعدين غير المعذورين بدرجات كثيرة، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُـلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيمًا، دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ‏}‏ قال بعض المفسّرين‏:‏ القاعدون الأول - في الآية - هم الأضرّاء، أي هم أولو الضّرر، فإنّ المجاهدين أفضل منهم بدرجة واحدة، لأنّ لهم نيّةً بلا عمل، وللمجاهدين نيّة وعمل، والقاعدون الثّاني‏:‏ هم غير أولي الضّرر، فإنّ بين المجاهدين وبينهم درجات كثيرةً‏.‏

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ «سئل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ أيّ العمل أفضل ‏؟‏ قال‏:‏ إيمان باللّه ورسوله، قيل‏:‏ ثمّ ماذا ‏؟‏ قال الجهاد في سبيل اللّه»، وعنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لغدوة في سبيل اللّه أو روحة خير من الدّنيا وما فيها»، وعنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «رباط يوم في سبيل اللّه خير من الدّنيا وما فيها»‏.‏

عاشراً‏:‏ فضل الإمام والقاضي على المفتي وغيره

15 - أجمع المسلمون على أنّ الولايات من أفضل الطّاعات، وأنّ الولاة المقسطين أعظم أجراً وأجلّ قدراً من غيرهم، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنّ المقسطين عند اللّه على منابر من نور عن يمين الرّحمن عزّ وجلّ وكلتا يديه يمين»، ولكثرة ما يجري على أيديهم من إقامة الحقّ، ودرء الباطل، وجلب المصالح، فإنّ أحدهم يقول الكلمة الواحدة فيدفع بها مظالم كثيرةً، أو يجلب بها مصالح كثيرةً، فإذا أمر الإمام بجلب المصالح العامّة، ودرء المفاسد العامّة، كان له أجر بحسب ما دعا إليه من المصالح العامّة، وما زجر عنه من المفاسد، ولو كان ذلك بكلمة واحدة لأجر عليها بعدد متعلّقاتها، وكذلك أجر أعوانه على جلب المصالح، ودرء المفاسد‏.‏

ومن أجل هذا أصبح القاضي أفضل وأعظم أجراً من المفتي، لأنّ القاضي يفتي ويلزم، فله أجران، أحدهما‏:‏ على فتياه، والآخر‏:‏ على إلزامه، وهذا إذا استوت الواقعة الّتي فيها الفتيا والحكم، وإلاّ فتختلف أجورهما باختلاف ما يجلبانه من المصالح، ويدرآنه من المفاسد، ولكنّ تصدّي القاضي للحكم أفضل من تصدّي المفتي للفتيا‏.‏

وفي المقابل فإنّ ولاة السّوء وقضاة الجور من أعظم النّاس وزراً، وأحطّهم درجةً عند اللّه، لعموم ما يجري على أيديهم من جلب المفاسد العظام، ودرء المصالح الجسام، وإنّ أحدهم ليقول الكلمة الواحدة فيأثم بها ألف إثم وأكثر، على حسب عموم تلك المفسدة، وعلى حسب ما يدفعه بتلك الكلمة من مصالح المسلمين، كأن يأمر - مثلاً - بقتال طائفة من المسلمين، أو بأخذ أموالهم، وغير ذلك من المحرّمات‏.‏

حادي عشر‏:‏ العمل بالحديث الضّعيف في فضائل الأعمال

16 - قال العلماء يجوز العمل بالحديث الضّعيف بشروط، منها‏:‏

أ - أن لا يكون شديد الضّعف، فإذا كان شديد الضّعف ككون الرّاوي كذّاباً، أو فاحش الغلط، فلا يجوز العمل به‏.‏

ب - أن لا يتعلّق في صفات اللّه تعالى، ولا بأمر من أمور العقيدة، ولا بحكم من أحكام الشّريعة من الحلال والحرام ونحوها‏.‏

ج - أن يندرج تحت أصل عامّ من أصول الشّريعة‏.‏

د - أن لا يعتقد عند العمل به ثبوته، بل يعتقد الاحتياط‏.‏

والتّفصيل في الملحق الأصوليّ‏.‏

فَضَالة

انظر‏:‏ فضوليّ‏.‏

فِضَّة

التّعريف

1 - الفضّة - كما قال الجوهريّ - معروفة، وجاء في المعجم الوسيط‏:‏ الفضّة عنصر أبيض قابل للسّحب والطّرق والصّقل، من أكثر الموادّ توصيلاً للحرارة والكهرباء، وهو من الجواهر النّفيسة الّتي تستخدم في صكّ النّقود‏.‏

وقال الرّاغب‏:‏ الفضّة اختصّت بأدون المتعامل بها من الجواهر‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

الذّهب‏:‏

2 - الذّهب‏:‏ المعدن المعروف، وصلته بالفضّة أنّهما مشتركان في النّقديّة، وثمنيّة الأشياء في أصل الخلقة‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالفضّة

أ - استعمال الأواني المصنوعة من الفضّة‏:‏

3 - اتّفق الفقهاء على أنّ الشّرب من الأواني المصنوعة من الفضّة حرام، مستدلّين بأدلّة، منها‏:‏ عن أمّ سلمة رضي الله عنها، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «الّذي يشرب في آنية الفضّة إنّما يجرجر في بطنه نار جهنّم»‏.‏

وبما رواه البراء بن عازب قال‏:‏ «نهانا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن الشّرب في الفضّة، فإنّه من شرب فيها في الدّنيا لم يشرب في الآخرة»‏.‏

قال النّوويّ‏:‏ قال أصحابنا‏:‏ أجمعت الأمّة على تحريم الأكل والشّرب وغيرهما من الاستعمال في إناء ذهب أو فضّة إلاّ ما حكي عن داود، وإلاّ قول الشّافعيّ في القديم - وقد رجع عنه - ولأنّه إذا حرم الشّرب فالأكل أولى، لأنّه أطول مدّةً وأبلغ في السّرف‏.‏

وهذا الّذي قاله النّوويّ محلّ اتّفاق بين المذاهب الأربعة في تحريم الأكل والشّرب، وكذا سائر أنواع الاستعمالات، ومنها تزيين الحوانيت والبيوت بها، كما نصّ عليه النّوويّ ومن قبله إمام الحرمين، مع ملاحظة أنّ الحنفيّة عبّروا في هذا المقام بالكراهة التّحريميّة لا الحرام، وأنّ علّة تحريم الأكل والشّرب هي‏:‏ عين الفضّة، أو الخيلاء والسّرف‏.‏

ب - اقتناء الفضّة دون استعمال‏:‏

4 - أجمع العلماء على أنّ اقتناء الفضّة على غير صورة الأواني لا يحرم إذا كان لغرض صحيح، وأمّا ما كان من الفضّة على صورة الأواني ونحوها ممّا يمكن استعماله، فللعلماء فيه آراء‏:‏

الرّأي الأوّل‏:‏ وهو قول الحنفيّة، والرّواية الرّاجحة عند المالكيّة، والأظهر عند الشّافعيّة، والمذهب عند الحنابلة وهؤلاء يرون أنّ اقتناء أواني الفضّة تحرم كما يحرم استعمالها، لأنّ ما لا يجوز استعماله لا يجوز اتّخاذه، ولأنّ اتّخاذه يؤدّي إلى استعمال محرّم، فيحرم، كإمساك الخمر، ولأنّ المنع من الاستعمال لما فيه من الخيلاء والسّرف، وهو موجود في الاتّخاذ، ولأنّ الاتّخاذ والحالة هذه عبث، فيحرم‏.‏

الرّأي الثّاني‏:‏ أنّ اتّخاذ أواني الفضّة لا يحرم إذا لم يستعملها وهو ظاهر المدوّنة، وقول عند الشّافعيّ، ورواية أو وجه عن أحمد، لأنّ الخبر إنّما ورد بالاستعمال فلا يحرم الاتّخاذ، كما لو اتّخذ الرّجل ثياب الحرير واقتناها دون أن يستعملها، فكذا اقتناء أواني الفضّة دون استعمالها‏.‏

وقد نصّ الشّافعيّ على تحريم الاتّخاذ في باب زكاة الحليّ، فقال في المختصر‏:‏ فإن اتّخذ رجل أو امرأة إناء ذهب أو ورق زكّياه في القولين لأنّه ليس لواحد منهما اتّخاذه‏.‏

الرّأي الثّالث‏:‏ أنّ التّحريم إنّما يكون إذا كان الاتّخاذ بقصد الاستعمال، أمّا إذا كان اتّخاذه بقصد العاقبة، أو لزوجته، أو بنته، أو لا لشيء، فلا حرمة، وهو ما رجّحه العدويّ‏.‏ وقال الدّردير‏:‏ وحرم اقتناؤه أي ادّخاره ولو لعاقبة دهر، لأنّه ذريعة للاستعمال، وكذا التّجمّل به على المعتمد، وقولنا‏:‏ ‏"‏ ولو لعاقبة دهر ‏"‏ هو مقتضى النّقل، ويشعر به التّعليل، وهو الّذي ينبغي الجزم به، إذ الإناء لا يجوز لرجل ولا لامرأة، فلا معنى لاتّخاذه للعاقبة، بخلاف الحليّ‏.‏

وقال الدّسوقيّ‏:‏ والحاصل أنّ اقتناءه إن كان بقصد الاستعمال فحرام باتّفاق، وإن كان لقصد العاقبة أو التّجمّل أو لا لقصد شيء، ففي كلّ قولان، والمعتمد المنع‏.‏

ج - الوضوء والغسل من آنية الفضّة‏:‏

5 - إذا توضّأ إنسان - رجلاً كان أو امرأةً - من إناء فضّة فللفقهاء فيه مذهبان‏:‏

الأوّل لجمهور الفقهاء‏:‏ أنّه لا يجوز التّوضّؤ والاغتسال من آنية الفضّة والذّهب، قال الدّسوقيّ‏:‏ فلا يجوز فيه أكل ولا شرب، ولا طبخ ولا طهارة، وإن صحّت الصّلاة، كالصّلاة في الأرض المغصوبة، تصحّ مع الحرمة‏.‏

الثّاني‏:‏ المذهب القديم للشّافعيّ أنّه مكروه تنزيهاً، وهو وجه عند الحنابلة، وأنّه لا تصحّ الطّهارة منه‏.‏

والتّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏آنية ف 3‏)‏‏.‏

د - التّختّم بالفضّة‏:‏

6 - اتّفق الفقهاء على جواز تختّم الرّجل بخاتم الفضّة، لما رواه أبو داود عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال‏:‏ «أراد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يكتب إلى بعض الأعاجم، فقيل له‏:‏ إنّهم لا يقرءون كتاباً إلاّ بخاتم، فاتّخذ خاتماً من فضّة ونقش فيه‏:‏ محمّد رسول اللّه»‏.‏

ويذكر الحافظ المنذريّ زيادةً على هذا في رواية‏:‏ «فكان في يده حتّى قبض، وفي يد أبي بكر حتّى قبض، وفي يد عمر حتّى قبض، وفي يد عثمان، فبينما هو عند بئر إذ سقط في البئر فأمر بها فنزحت فلم يقدر عليه»‏.‏

وللفقهاء في جواز تعدّد خواتم الرّجل ومقدار وزن خاتمه خلاف وتفصيل ينظر في مصطلح‏:‏ ‏(‏تختّم ف 9‏)‏‏.‏

هـ - اتّخاذ السّنّ ونحوها من الفضّة‏:‏

7 - يجوز اتّخاذ السّنّ ونحوها وشدّها من الفضّة، قياساً على الأنف، لما رواه أبو داود عن عبد الرّحمن بن طرفة‏:‏ «أنّ جدّه عرفجة بن أسعد قطع أنفه يوم الكلاب، فاتّخذ أنفاً من ورق، فأنتن عليه، فأمره النّبيّ صلى الله عليه وسلم فاتّخذ أنفاً من ذهب»‏.‏

ومن النّصوص المذهبيّة في هذا ما يلي‏:‏

قال الحنفيّة‏:‏ لو شدّها - يعني السّنّ - بالفضّة، لا يكره بالإجماع، وكذلك نصّ المالكيّة على جواز اتّخاذ الأنف والسّنّ من ذهب أو فضّة، أو ربط سنّ تخلخل بشريط مطلقاً بذهب أو فضّة‏.‏

وقال المحلّيّ من الشّافعيّة‏:‏ وقيس على الأنف الأنملة والسّنّ، وتجويز الثّلاثة من الفضّة أولى‏.‏

ويقول النّوويّ‏:‏ شدّ السّنّ العليلة بذهب أو فضّة جائز، ويباح أيضاً الأنملة منهما، وفي جواز الأصبع واليد منهما وجهان‏.‏

والحنابلة أباحوا اتّخاذ السّنّ وحلية السّيف والكثير من الأشياء من الفضّة، فمن باب أولى يكون حكم اتّخاذ الأنف وغيرها ممّا يحتاج إليه في الجراحات، من الفضّة‏.‏

و - تزيين أدوات الجهاد ونحوها بالفضّة‏:‏

8 - ذهب جمهور الفقهاء إلى جواز تزيين أدوات الجهاد ونحوها بالفضّة، وإلى جواز تزيين المصحف بها‏.‏

واستدلّوا بما قاله أنس رضي الله عنه‏:‏ «كانت قبيعة سيف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فضّةً» والقبيعة ما كان على رأس قائم السّيف وطرف مقبضه، وما رواه هشام بن عروة قال‏:‏ كان سيف زبير رضي الله عنه محلّىً فضّةً‏.‏

وقال الكاسانيّ‏:‏ أمّا السّيف المضبّب والسّكّين فلا بأس به بالإجماع، وكذلك المنطقة المضبّبة، لورود الآثار بالرّخصة بذلك في السّلاح‏.‏

أمّا المالكيّة فقصروا إباحة التّزيين بالفضّة - وكذا بالذّهب - على المصحف والسّيف، وكذلك اتّخاذ الأنف منها، أو ربط السّنّ بها‏.‏

ز - الضّبّة من الفضّة والتّطعيم بها‏:‏

9 - اختلف العلماء في حكم الضّبّة من الفضّة في الإناء‏.‏

والأصل في هذا الخلاف ما رواه الدّارقطنيّ عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «من شرب من إناء ذهب أو فضّة أو إناء فيه شيء من ذلك فإنّما يجرجر في بطنه نار جهنّم»‏.‏

فأبو حنيفة يرى أنّ الإناء المضبّب بالذّهب لا بأس بالأكل والشّرب فيه، وبالأولى يجوز ذلك في المضبّب بالفضّة لأنّها أخفّ حرمةً من الذّهب‏.‏

واشترط المرغينانيّ لذلك شرطاً، وهو أن يتّقي موضع الفم، وألحق بذلك الرّكوب على السّرج المفضّض، واشترط عدم المباشرة للضّبّة من الفضّة‏.‏

وعند المالكيّة في المضبّب قولان‏:‏ الحرمة والجواز، إمّا مطلقاً أو مع الكراهة، ورجّح الدّردير والدّسوقيّ والحطّاب وابن الحاجب الحرمة‏.‏

ومذهب الشّافعيّة - كما ذكره النّوويّ في المنهاج - أنّ المضبّب من الإناء بفضّة ضبّةً كبيرةً لزينة يحرم استعماله، وما ضبّب بفضّة ضبّةً صغيرةً بقدر الحاجة فلا يحرم، وإن ضبّب بفضّة ضبّةً صغيرةً لزينة، أو كبيرةً لحاجة، جاز في الأصحّ مع الكراهة نظراً للصّغر والحاجة، وضبّة موضع الاستعمال نحو الشّرب كغيره فيما ذكر في الأصحّ، والقول الثّاني أنّه يحرم إناؤها مطلقاً لمباشرتها بالاستعمال‏.‏

وفي ضابط القلّة والكثرة عندهم ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنّه الّذي يستوعب جزءاً من أجزاء الإناء بكماله، والآخر‏:‏ العرف، والثّالث‏:‏ أنّ الكثير ما يلمع للنّاظر على بعد، والقليل خلافه‏.‏

واختار الرّافعيّ الثّاني، وإمام الحرمين والغزاليّ الثّالث‏.‏

وجملة ما ذكره الحنابلة أنّ الضّبّة تباح بثلاثة شروط‏:‏

أحدها‏:‏ أن تكون يسيرةً، والثّاني‏:‏ أن تكون من الفضّة، والثّالث‏:‏ أن تكون للحاجة أي لمصلحة وانتفاع، مثل أن تجعل على شقّ أو صدع وإن قام غيرها مقامها، وقال القاضي أبو يعلى ليس هذا بشرط، ويجوز اليسير من غير حاجة إذا لم يباشر الاستعمال‏.‏

وكره أحمد أن يباشر موضع الضّبّة بالاستعمال، فلا يشرب من موضع الضّبّة، لأنّه يصير كالشّارب من إناء فضّة، وكره الحلقة من الفضّة، لأنّ القدح يرفع بها، فيباشرها بالاستعمال، وكذا ما أشبهه‏.‏

ح - الإناء المموّه بفضّة وعكسه‏:‏

10 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ الأواني المموّهة بماء الفضّة إذا كان لا يخلص منه شيء فلا بأس بالانتفاع بها في الأكل والشّرب وغير ذلك، وما يخلص منه شيء لا يحرم عند أبي حنيفة أيضاً، ويكره عند أبي يوسف ومحمّد في الأشهر عنه، كالمضبّب‏.‏

وللمالكيّة قولان في المموّه، كالقولين في المضبّب، وهما التّحريم والكراهة، أو المنع والجواز‏.‏

واستظهر بعضهم الجواز نظراً لقوّة الباطن‏.‏

والشّافعيّة يرون جواز استعمال المموّه بالفضّة في الأصحّ، لقلّة المموّه به، فكأنّه معدوم‏.‏ والقول الثّاني المقابل للأصحّ، أنّه يحرم للخيلاء وكسر قلوب الفقراء‏.‏

فإن كثر المموّه بحيث يحصل منه شيء بالعرض على النّار حرم جزماً، وإن كان لا يحصل منه شيء، فلا يحرم‏.‏

قال الشّافعيّة‏:‏ ولو اتّخذ إناءً من الفضّة - أو الذّهب - وموّهه بنحاس ونحوه، فإن حصل منه شيء بالعرض على النّار حلّ استدامته، وإلاّ فلا‏.‏

ومحلّ ما ذكر بالنّسبة لاستدامته، أمّا الفعل، فحرام مطلقاً، ولو على سقف أو جدار أو على الكعبة‏.‏

ومذهب الحنابلة أنّه يحرم اتّخاذ الإناء ونحوه، إذا كان مموّهاً بذهب أو فضّة، وكذا المطعّم والمطليّ والمكفّت‏.‏

ط - المسح على الخفّ من فضّة‏:‏

11 - المسح على الخفّين المتّخذين من الفضّة - وكذا الذّهب - لا يجوز عند جمهور الفقهاء‏.‏

أمّا عند الحنفيّة والحنابلة، فلعدم إمكان متابعة المشي فيهما‏.‏

وأمّا عند المالكيّة فلعدم كونهما متّخذين من الجلد‏.‏

والأصحّ عند الشّافعيّة أنّه يكفي المسح على الخفّ من الفضّة للرّجل وغيره‏.‏

وقال الجمهور‏:‏ إنّه وإن كان يجوز للمرأة - في الجملة - لبس الخفّين من الفضّة - وكذا الذّهب - ولا سيّما عند المالكيّة لأنّهما من الملبوس، لكنّ جواز اللّبس لا يستلزم جواز المسح عليهما، لتخلّف بعض الشّروط، كالجلديّة عند المالكيّة، ومتابعة المشي عند الحنفيّة والحنابلة‏.‏

ي - بيع الفضّة بالفضّة وبيع الذّهب بالفضّة وعكسه‏:‏

12 - أجمع أهل العلم على جواز بيع الفضّة بالفضّة بشروط ثلاثة هي‏:‏ الحلول، والتّقابض قبل التّفرّق، والتّماثل، سواء في ذلك القليل والكثير، وما نقل عن أبي حنيفة من أنّه رخّص في القليل، فهذا خاصّ بما لا يستطاع كيله ممّا يكال، لأنّ العلّة فيه الكيل ولم توجد، أمّا اليسير من الفضّة والذّهب فهذا موزون يمكن وزنه بمثله على أيّ حال كان، وهذا متّفق عليه، والدّليل عليه مع شروطه ما رواه مسلم بسنده إلى عبادة بن الصّامت قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الذّهب بالذّهب، والفضّة بالفضّة، والبرّ بالبرّ، والشّعير بالشّعير، والتّمر بالتّمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، سواءً بسواء، يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يداً بيد»‏.‏

وإذا اختلّ شرط من الشّروط الثّلاثة، كان بيعاً ربويّاً محرّماً، أمّا بيع الذّهب بالفضّة وعكسه فجائز بشرط التّقابض، يدلّ لهذا ما رواه مسلم بسنده إلى مالك بن أوس بن الحدثان أنّه قال‏:‏ أقبلت أقول‏:‏ من يصطرف الدّراهم ‏؟‏ فقال طلحة بن عبيد اللّه، وهو عند عمر بن الخطّاب‏:‏ أرنا ذهبك ثمّ ائتنا إذا جاء خادمنا نعطك ورقك، فقال عمر بن الخطّاب‏:‏ كلا واللّه لتعطينّه ورقه أو لتردّنّ إليه ذهبه، فإنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «الورق بالذّهب رباً إلاّ هاء وهاء»‏.‏

وللتّفصيل ينظر مصطلح‏:‏ ‏(‏رباً ف 12 وما بعدها‏)‏ ومصطلح‏:‏ ‏(‏صرف ف 20 وما بعدها‏)‏‏.‏

ك - الغشّ في الفضّة وأثره في الأحكام‏:‏

13 - يجوز عند الفقهاء في الجملة التّعامل بالدّراهم والدّنانير المغشوشة إن راجت، نظراً للعرف‏.‏

أمّا إذا بيعت بعضها ببعض مصارفةً، فقد فصّلوا صورها وأحكامها على النّحو المذكور في مصطلح‏:‏ ‏(‏صرف ف 41 وما بعدها‏)‏‏.‏

وهذا في التّعامل بالمغشوش في عقود المعاوضات بجنسه، أمّا التّعامل به في عقود المعاوضات بغير جنسه، أو في غير عقود المعاوضات كالسّلف ونحوه، فتفصيله كما يأتي‏:‏

فالكاسانيّ من الحنفيّة رتّب الكلام في المراد هنا وهو استقراض الدّراهم المغشوشة والشّراء بها على الكلام في الأنواع الثّلاثة من الغشّ‏:‏

أمّا النّوع الأوّل‏:‏ وهو ما كانت فضّته غالبةً على غشّه، فلا يجوز استقراضه ولا الشّراء به إلاّ وزناً، لأنّ الغشّ إذا كان مغلوباً فيه كان بمنزلة الدّراهم الزّائفة، ولا يجوز بيع الدّراهم الزّائفة بعضها ببعض عدداً، لأنّها وزنيّة، فلم يعتبر العدد فيها، فكان بيع بعضها ببعض مجازفةً، فلم يجز، فلا يجوز استقراضها ولا التّعامل بها إلاّ وزناً، صيانةً لها عن الرّبا، وعن شبهة الرّبا‏.‏

وأمّا النّوع الثّاني‏:‏ وهو ما استوى فيه الفضّة والغشّ، فكذلك، لأنّ الفضّة إذا كانت تبقى بعد السّبك ويذهب الغشّ كانت ملحقةً بالدّراهم الزّيوف، ولا تجوز عدداً، وإنّما تجوز وزناً لإبعادها عن شبهة الرّبا، وإن بقي كلّ منهما على حاله بعد السّبك فكلّ منهما جنس قائم بنفسه، والفضّة لا تجوز عدداً لأنّها وزنيّة، والصّفر يجوّزه، وإذا اجتمع المانع والمجيز فالحكم بالفساد عند تعارض جهتي الجواز والفساد أحوط‏.‏

أمّا النّوع الثّالث‏:‏ وهو ما كان الغشّ فيه غالباً، فينظر فيه إلى عادة النّاس، فإن تعاملوا به وزناً وجب التّعامل فيه وزناً، لأنّ الوزن صفة أصليّة، وإن تعاملوا فيه عدداً جاز التّعامل به عدداً، ومثل الاستقراض الشّراء بها كما سلف‏.‏

هذا إذا اشترى بالأنواع الثّلاثة ولم يعيّنها، فأمّا إذا عيّنها واشترى بها عرضاً، بأن قال‏:‏ اشتريت هذا العرض بهذه الدّراهم وأشار إليها، فلا شكّ في جواز الشّراء بها، ولا تتعيّن بالإشارة إليها، ولا يتعلّق العقد بعينها، حتّى لو هلكت قبل أن ينقدها المشتري لا يبطل البيع، ويعطى مكانها مثلها من جنسها ونوعها وقدرها وصفتها‏.‏

والمالكيّة نظروا في التّعامل بها إلى منع الغشّ بين المسلمين، فقالوا بجواز التّعامل بها وبيعها لمن يكسرها ولا يغشّ بها، فإن أمن ذلك جاز البيع، وقد حكى ابن رشد الاتّفاق على جواز البيع حينئذ‏.‏

فإن لم يؤمن غشّ المسلمين به كره البيع، وإن علم أنّه يغشّ به المسلمين وجب على البائع أن يستردّه ويفسخ بيعه إن كان قائماً، فإن لم يقدر على ردّه لذهاب عينه أو نحوه، فهل يملك الثّمن ويندب له أن يتصدّق به، أو يتصدّق به وجوباً، أو يتصدّق بالزّائد على فرض بيعه ممّن لا يغشّ ‏؟‏ أقوال ثلاثة، ورجّح الأخير الشّيخ العدويّ‏.‏

أمّا الشّافعيّة فالأصل عندهم منع التّعامل في هذه الدّراهم المغشوشة إذا بيعت بمثلها أو بخالص جنسها، أمّا شراء سلعة أخرى بها فقال أصحاب الشّافعيّ‏:‏ إن كان الغشّ ممّا لا قيمة له جاز الشّراء بها، وإن كان ممّا له قيمة، ففي جواز إنفاقها وجهان‏.‏

وعن أحمد في ذلك روايتان، أظهرهما الجواز، والثّانية التّحريم، قال ابن قدامة‏:‏ والأولى أن يحمل كلام أحمد في الجواز على الخصوص فيما ظهر غشّه واصطلح عليه، فإنّ المعاملة به جائزة، إذ ليس فيه أكثر من اشتماله على جنسين لا غرر فيهما، فلا يمنع من بيعهما كما لو كانا متميّزين، ولأنّ هذا مستفيض في الأعصار جار بينهم من غير نكير، وفي تحريمه مشقّة وضرر، وليس شراؤها بها غشّاً للمسلمين ولا تغريراً لهم، والمقصود منها ظاهر مرئيّ معلوم‏.‏

ل - نصاب الزّكاة من الفضّة‏:‏

14 - نصاب الفضّة مائتا درهم، لا خلاف في ذلك بين علماء الإسلام، وقد بيّنته السّنّة فيما رواه أبو سعيد الخدريّ، قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة، ولا فيما دون خمس ذود صدقة، ولا فيما دون خمس أواق صدقة»‏.‏ وفي رواية أحمد وأبي داود والتّرمذيّ عن عليّ قال‏:‏ «‏.‏‏.‏‏.‏ فإذا بلغت مائتين ففيها خمسة دراهم»‏.‏

والتّفصيل ينظر في مصطلح‏:‏ ‏(‏زكاة ف 67 وما بعدها‏)‏‏.‏

م - الدّية ومقدارها من الفضّة‏:‏

15 - عند الجمهور دية الرّجل المسلم اثنا عشر ألف درهم‏.‏

ويرى الحنفيّة أنّ دية الرّجل المسلم عشرة آلاف درهم من الفضّة‏.‏

والتّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏ديات ف 28 وما بعدها‏)‏‏.‏