فصل: أصناف الّذين لا يجوز إعطاؤهم من الزّكاة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


القسم الخامس‏:‏ مصارف الزّكاة

156 - مصارف الزّكاة محصورة في ثمانية أصنافٍ‏.‏ والأصناف الثّمانية قد نصّ عليها القرآن الكريم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنّما الصّدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلّفة قلوبهم وفي الرّقاب والغارمين وفي سبيل اللّه وابن السّبيل فريضةً من اللّه واللّه عليم حكيم‏}‏‏.‏ و ‏"‏ إنّما ‏"‏ الّتي صدّرت بها الآية أداة حصرٍ، فلا يجوز صرف الزّكاة لأحدٍ أو في وجهٍ غير داخلٍ في هذه الأصناف، وقد أكّد ذلك ما ورد ‏{‏أنّ رسول اللّه أتاه رجل فقال‏:‏ أعطني من الصّدقة، فقال‏:‏ إنّ اللّه تعالى لم يرض بحكم نبيٍّ ولا غيره في الصّدقات حتّى حكم فيها هو فجزّأها ثمانيةً، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقّك‏}‏‏.‏ ومن كان داخلًا في هذه الأصناف فلا يستحقّ من الزّكاة إلاّ بأن تنطبق عليه شروط معيّنة تأتي بعد بيان الأصناف‏.‏ بيان الأصناف الثّمانية‏:‏

الصّنفان الأوّل والثّاني‏:‏ الفقراء والمساكين

157 - الفقراء والمساكين هم أهل الحاجة الّذين لا يجدون ما يكفيهم، وإذا أطلق لفظ ‏(‏الفقراء‏)‏ وانفرد دخل فيهم ‏(‏المساكين‏)‏، وكذلك عكسه، وإذا جمع بينهما في كلامٍ واحدٍ، كما في آية مصارف الزّكاة، تميّز كلّ منهما بمعنًى‏.‏ وقد اختلف الفقهاء في أيّهما أشدّ حاجةً، فذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ الفقير أشدّ حاجةً من المسكين، واحتجّوا بأنّ اللّه تعالى قدّم ذكرهم في الآية، وذلك يدلّ على أنّهم أهمّ وبقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أمّا السّفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر‏}‏‏.‏ فأثبت لهم وصف المسكنة مع كونهم يملكون سفينةً ويحصّلون نولًا، واستأنسوا لذلك أيضًا بالاشتقاق، فالفقير لغةً‏:‏ فعيل بمعنى مفعولٍ، وهو من نزعت بعض فقار صلبه، فانقطع ظهره، والمسكين مفعيل من السّكون، ومن كسر صلبه أشدّ حالًا من السّاكن‏.‏ وذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّ المسكين أشدّ حاجةً من الفقير، واحتجّوا بأنّ اللّه تعالى قال‏:‏ ‏{‏أو مسكينًا ذا متربةٍ‏}‏‏.‏ وهو المطروح على التّراب لشدّة جوعه، وبأنّ أئمّة اللّغة قالوا ذلك، منهم الفرّاء وثعلب وابن قتيبة، وبالاشتقاق أيضًا، فهو من السّكون، كأنّه عجز عن الحركة فلا يبرح‏.‏ ونقل الدّسوقيّ قولًا أنّ الفقير والمسكين صنف واحد، وهو من لا يملك قوت عامه، سواء كان لا يملك شيئًا أو يملك أقلّ من قوت العام‏.‏

158 - واختلف الفقهاء في حدّ كلٍّ من الصّنفين‏:‏ فقال الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ الفقير من لا مال له ولا كسب يقع موقعًا من حاجته، كمن حاجته عشرة فلا يجد شيئًا أصلًا، أو يقدر بماله وكسبه وما يأتيه من غلّةٍ وغيرها على أقلّ من نصف كفايته‏.‏ فإن كان يجد النّصف أو أكثر ولا يجد كلّ العشرة فمسكين‏.‏ وقال الحنفيّة والمالكيّة‏:‏ المسكين من لا يجد شيئًا أصلًا فيحتاج للمسألة وتحلّ له‏.‏ واختلف قولهم في الفقير‏:‏ فقال الحنفيّة‏:‏ الفقير من له أدنى شيءٍ وهو ما دون النّصاب، فإذا ملك نصابًا من أيّ مالٍ زكويٍّ فهو غنيّ لا يستحقّ شيئًا من الزّكاة، فإن ملك أقلّ من نصابٍ فهو غير مستحقٍّ، وكذا لو ملك نصابًا غير نامٍ وهو مستغرق في الحاجة الأصليّة، فإن لم يكن مستغرقًا منع، كمن عنده ثياب تساوي نصابًا لا يحتاجها، فإنّ الزّكاة تكون حرامًا عليه، ولو بلغت قيمة ما يملكه نصبًا فلا يمنع ذلك كونه من المستحقّين للزّكاة إن كانت مستغرقةً بالحاجة الأصليّة كمن عنده كتب يحتاجها للتّدريس، أو آلات حرفةٍ، أو نحو ذلك‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ الفقير من يملك شيئًا لا يكفيه لقوت عامه‏.‏

الغنى المانع من أخذ الزّكاة بوصف الفقر أو المسكنة

159 - الأصل أنّ الغنيّ لا يجوز إعطاؤه من الزّكاة، وهذا اتّفاقيّ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏لا حظّ فيها لغنيٍّ‏}‏‏.‏ ولكن اختلف في الغنى المانع من أخذ الزّكاة‏:‏ فقال الجمهور من المالكيّة والشّافعيّة وهو رواية عن أحمد قدّمها المتأخّرون من أصحابه‏:‏ إنّ الأمر معتبر بالكفاية، فمن وجد من الأثمان أو غيرها ما يكفيه ويكفي من يموّنه فهو غنيّ لا تحلّ له الزّكاة، فإن لم يجد ذلك حلّت له ولو كان ما عنده يبلغ نصبًا زكويّةً، وعلى هذا، فلا يمتنع أن يوجد من تجب عليه الزّكاة وهو مستحقّ للزّكاة‏.‏ وقال الحنفيّة‏:‏ هو الغنى الموجب للزّكاة، فمن تجب عليه الزّكاة لا يحلّ له أن يأخذ الزّكاة، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏إنّ اللّه قد فرض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم فتردّ على فقرائهم‏}‏‏.‏ ومن ملك نصابًا من أيّ مالٍ زكويٍّ كان فهو غنيّ، فلا يجوز أن تدفع إليه الزّكاة ولو كان ما عنده لا يكفيه لعامه، ومن لم يملك نصابًا كاملًا فهو فقير أو مسكين، فيجوز أن تدفع إليه الزّكاة، كما تقدّم‏.‏ وفي روايةٍ أخرى عند الحنابلة عليها ظاهر المذهب‏:‏ إن وجد كفايته، فهو غنيّ، وإن لم يجد وكان لديه خمسون درهمًا، أو قيمتها من الذّهب خاصّةً، فهو غنيّ كذلك ولو كانت لا تكفيه، لحديث ‏{‏من سأل النّاس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش أو خدوش أو كدوح‏.‏ قالوا يا رسول اللّه وما يغنيه ‏؟‏ قال‏:‏ خمسون درهمًا أو قيمتها من الذّهب‏}‏‏.‏ وإنّما فرّقوا بين الأثمان وغيرها اتّباعًا للحديث‏.‏

وفيما يلي تفصيل فروع هذه المسألة‏:‏ إعطاء الزّكاة لمن لا يملك مالًا وله مورد رزقٍ‏:‏

160 - من لم يكن له مال أو له مال لا يكفيه فإنّه يستحقّ من الزّكاة عند الجمهور، إلاّ أنّ من لزمت نفقته مليئًا من نحو والدٍ لا يعطى من الزّكاة، وكذا لا تعطى الزّوجة لاستغنائها بإنفاق زوجها عليها‏.‏ ومن له مرتّب يكفيه لم يجز إعطاؤه من الزّكاة‏.‏ وكذا من كان له صنعة تكفيه وإن كان لا يملك في الحال مالًا‏.‏ فإن كان واحد من هذه الأسباب يأتيه منه أقلّ من كفايته يجوز إعطاؤه تمام الكفاية‏.‏ ونقل النّوويّ أنّ من له ضيعة تغلّ بعض كفايته أنّه لا يلزمه بيعها لتحلّ له الزّكاة، وكذلك آلات المحترفين وكسب العالم‏.‏ وقال الحنفيّة‏:‏ يجوز دفع الزّكاة إلى من عنده دخل سنويّ أو شهريّ أو يوميّ من عقارٍ أو نحو ذلك، إن لم يملك نصابًا زكويًّا، ويجوز دفعها إلى الولد الّذي أبوه غنيّ إن كان الولد كبيرًا فقيرًا، سواء كان ذكرًا أو أنثى‏;‏ لأنّه لا يعدّ غنيًّا بيسار أبيه وإن كانت نفقته عليه، أمّا الولد الصّغير الّذي أبوه غنيّ فلا تدفع إليه الزّكاة لأنّه يعدّ غنيًّا بيسار أبيه، وسواء كان الصّغير في عيال أبيه أم لا‏.‏ وكذا قال أبو حنيفة ومحمّد‏:‏ يجوز دفع الزّكاة إلى رجلٍ فقيرٍ له ابن موسر‏.‏ وقال أبو يوسف‏:‏ إن كان الأب في عيال الابن الموسر لا يجوز، وإن لم يكن جاز‏.‏ قالوا‏:‏ وكذلك المرأة الفقيرة إن كان لها زوج غنيّ يجوز إعطاؤها من الزّكاة، لأنّها لا تعدّ غنيّةً بيسار زوجها، وبقدر النّفقة لا تصير موسرةً، واستيجابها النّفقة بمنزلة الأجرة‏.‏ ومن كان مستغنيًا بأن تبرّع أحد من النّاس بأن ينفق عليه، فالصّحيح عند الحنابلة أنّه يجوز إعطاؤه من الزّكاة، ويجوز للمتبرّع بنفقته أن يدفع إليه من الزّكاة ولو كان في عياله، لدخوله في أصناف الزّكاة، وعدم وجود نصٍّ أو إجماعٍ يخرجه من العموم‏.‏

إعطاء الفقير والمسكين القادرين على الكسب

161 - من كان من الفقراء والمساكين قادرًا على كسب كفايته وكفاية من يموّنه، أو تمام الكفاية، لم يحلّ له الأخذ من الزّكاة، ولا يحلّ للمزكّي إعطاؤه منها، ولا تجزئه لو أعطاه وهو يعلم بحاله، لقول النّبيّ في الصّدقة‏:‏ ‏{‏لا حظّ فيها لغنيٍّ ولا لقويٍّ مكتسبٍ‏}‏‏.‏ وفي لفظٍ ‏{‏لا تحلّ الصّدقة لغنيٍّ ولا لذي مرّةٍ سويٍّ‏}‏‏.‏ وهذا مذهب الشّافعيّة والحنابلة‏.‏ وقال الحنفيّة‏:‏ يجوز دفع الزّكاة إلى من يملك أقلّ من نصابٍ، وإن كان صحيحًا مكتسبًا، لأنّه فقير أو مسكين، وهما من مصارف الزّكاة‏;‏ ولأنّ حقيقة الحاجة لا يوقف عليها، فأدير الحكم على دليلها، وهو فقد النّصاب‏.‏ واحتجّوا بما في قصّة الحديث المذكور سابقًا، وهي ‏{‏أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقسم الصّدقات فقام إليه رجلان يسألانه، فنظر إليهما فرآهما جلدين فقال‏:‏ إنّه لا حقّ لكما فيه وإن شئتما أعطيتكما‏}‏‏.‏ لأنّه أجاز إعطاءهما، وقوله‏:‏ ‏{‏لا حقّ لكما فيه‏}‏ معناه لا حقّ لكما في السّؤال‏.‏ ومثله قول المالكيّة المعتمد عندهم، إلاّ أنّ الحدّ الأدنى الّذي يمنع الاستحقاق عندهم هو ملك الكفاية لا ملك النّصاب، كما عند الحنفيّة‏.‏

إعطاء الزّكاة لمن له مال أو كسب وامتنع عنه ماله أو كسبه

162 - من كان عنده مال يكفيه فلا يستحقّ من الزّكاة، لكن إن كان ماله غائبًا أو كان دينًا مؤجّلًا، فقد صرّح الشّافعيّة بأنّه لا يمنع ذلك من إعطائه ما يكفيه إلى أن يصل إلى ماله أو يحلّ الأجل‏.‏ والقادر على الكسب إن شغله عن الكسب طلب العلم الشّرعيّ لم يمنع ذلك من إعطائه من الزّكاة‏;‏ لأنّ طلب العلم فرض كفايةٍ بخلاف التّفرّغ للعبادة‏.‏ واشترط بعض الشّافعيّة في طالب العلم أن يكون نجيبًا يرجى نفع المسلمين بتفقّهه‏.‏ ومن كان قادرًا على كسبٍ لكنّ ذلك الكسب لا يليق به، أو يليق به لكن لم يجد من يستأجره، لم يمنع ذلك استحقاقه من الزّكاة‏.‏

جنس الكفاية المعتبرة في استحقاق الزّكاة

163 - الكفاية المعتبرة عند الجمهور هي للمطعم والمشرب والمسكن وسائر ما لا بدّ منه على ما يليق بالحال من غير إسرافٍ ولا تقتيرٍ، للشّخص نفسه ولمن هو في نفقته‏.‏ وصرّح المالكيّة وغيرهم بأنّ مال الزّكاة إن كان فيه سعة يجوز الإعانة به لمن أراد الزّواج‏.‏

القدر الّذي يعطاه الفقير والمسكين من الزّكاة

164 - ذهب الجمهور ‏(‏المالكيّة وهو قول عند الشّافعيّة وهو المذهب عند الحنابلة‏)‏ إلى أنّ الواحد من أهل الحاجة المستحقّ للزّكاة بالفقر أو المسكنة يعطى من الزّكاة الكفاية أو تمامها له ولمن يعوله عامًا كاملًا، ولا يزاد عليه، إنّما حدّدوا العام لأنّ الزّكاة تتكرّر كلّ عامٍ غالبًا، ولأنّ ‏{‏النّبيّ صلى الله عليه وسلم ادّخر لأهله قوت سنةٍ‏}‏‏.‏ وسواء كان ما يكفيه يساوي نصابًا أو نصبًا‏.‏ وإن كان يملك أو يحصل له بعض الكفاية أعطي تمام الكفاية لعامٍ‏.‏ وذهب الشّافعيّة في قولٍ منصوصٍ والحنابلة في روايةٍ إلى أنّ الفقير والمسكين يعطيان ما يخرجهما من الفاقة إلى الغنى وهو ما تحصل به الكفاية على الدّوام، لحديث قبيصة مرفوعًا ‏{‏إنّ المسألة لا تحلّ إلاّ لثلاثةٍ‏:‏ رجلٍ أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلّت له المسألة حتّى يصيب قوامًا من عيشٍ، أو قال‏:‏ سدادًا من عيشٍ‏.‏‏.‏‏}‏ الحديث‏.‏ قالوا‏:‏ فإن كان من عادته الاحتراف أعطي ما يشتري به أدوات حرفته قلّت قيمتها أو كثرت بحيث يحصل له من ربحه ما يفي بكفايته غالبًا تقريبًا، وإن كان تاجرًا أعطي بنسبة ذلك، وإن كان من أهل الضّياع يشترى له ضيعة تكفيه غلّتها على الدّوام‏.‏ قال بعضهم‏:‏ يشتريها له الإمام ويلزمه بعدم إخراجها عن ملكه‏.‏ وذهب الحنفيّة إلى أنّ من لا يملك نصابًا زكويًّا كاملًا يجوز أن يدفع إليه أقلّ من مائتي درهمٍ أو تمامها‏.‏ ويكره أكثر من ذلك، وقال زفر لا يجوز تمام المائتين أو أكثر‏.‏ وهذا عند الحنفيّة لمن لم يكن له عيال ولا دين عليه، فإن كان له عيال فلكلٍّ منهم مائتا درهمٍ، والمدين يعطى لدينه ولو فوق المائتين كما يأتي في الغارمين‏.‏

إثبات الفقر

165 - إذا ادّعى رجل صحيح قويّ أنّه لا يجد مكسبًا يجوز أن يعطى من الزّكاة إن كان مستور الحال، ويقبل قوله بغير يمينٍ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم كما في الحديث المتقدّم‏:‏ ‏{‏إن شئتما أعطيتكما‏}‏ لكن من علم كذبه بيقينٍ لم يصدّق ولم يجز إعطاؤه من الزّكاة‏.‏ وإن ادّعى أنّ له عيالًا وطلب من الزّكاة لأجلهم، فعند الشّافعيّة والحنابلة لا يقبل قوله إلاّ ببيّنةٍ، لأنّ الأصل عدم العيال، ولا تتعذّر إقامة البيّنة على ذلك‏.‏ وكذا من كان معروفًا باليسار لا يعطى من الزّكاة، لكن إن ادّعى أنّ ماله تلف أو فقد كلّف البيّنة على ذلك‏.‏ واختلف قول الحنابلة في عدد البيّنة، فقيل‏:‏ لا بدّ من ثلاثةٍ، لما ورد في حديث قبيصة أنّ النّبيّ قال له‏:‏ ‏{‏أقم حتّى تأتينا الصّدقة فنأمر لك بها‏.‏ ثمّ قال‏:‏ يا قبيصة‏:‏ إنّ المسألة لا تحلّ إلاّ لأحد ثلاثةٍ‏.‏‏.‏‏.‏ وذكر منهم‏:‏ رجلٍ أصابته فاقة حتّى يقوم له ثلاثة من ذوي الحجا من قومه، لقد أصابت فلانًا فاقة، فحلّت له المسألة حتّى يصيب قوامًا من عيشٍ أو قال‏:‏ سدادًا من عيشٍ‏}‏‏.‏ وقيل عندهم‏:‏ يقبل قول اثنين فقط كسائر الحقوق، والحديث وارد في المسألة، لا في الإعطاء دون مسألةٍ‏.‏

الصّنف الثّالث‏:‏ العاملون على الزّكاة

166 - يجوز إعطاء العاملين على الزّكاة منها‏.‏ ويشترط في العامل الّذي يعطى من الزّكاة شروط تقدّم بيانها‏.‏ ولا يشترط فيمن يأخذ من العاملين من الزّكاة الفقر‏;‏ لأنّه يأخذ بعمله لا لفقره‏.‏ وقد قال النّبيّ‏:‏ ‏{‏لا تحلّ الصّدقة لغنيٍّ إلاّ لخمسةٍ‏.‏‏.‏ فذكر منهم العامل عليها‏}‏‏.‏ قال الحنفيّة‏:‏ يدفع إلى العامل بقدر عمله فيعطيه ما يسعه ويسع أعوانه غير مقدّرٍ بالثّمن، ولا يزاد على نصف الزّكاة الّتي يجمعها وإن كان عمله أكثر‏.‏ وقال الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ للإمام أن يستأجر العامل إجارةً صحيحةً بأجرٍ معلومٍ، إمّا على مدّةٍ معلومةٍ، أو عملٍ معلومٍ‏.‏ ثمّ قال الشّافعيّة‏:‏ لا يعطى العامل من الزّكاة أكثر من ثمن الزّكاة، فإن زاد أجره على الثّمن أتمّ له من بيت المال‏.‏ وقيل من باقي السّهام‏.‏ ويجوز للإمام أن يعطيه أجره من بيت المال‏.‏ وله أن يبعثه بغير إجارةٍ ثمّ يعطيه أجر المثل‏.‏ وإن تولّى الإمام، أو والي الإقليم أو القاضي من قبل الإمام أو نحوهم أخذ الزّكاة وقسمتها لم يجز أن يأخذ من الزّكاة شيئًا‏;‏ لأنّه يأخذ رزقه من بيت المال وعمله عامّ‏.‏

الصّنف الرّابع‏:‏ المؤلّفة قلوبهم

167 - اختلف الفقهاء في صنف المؤلّفة قلوبهم‏:‏ فالمعتمد عند كلٍّ من المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّ سهم المؤلّفة قلوبهم باقٍ لم يسقط‏.‏ وفي قولٍ عند كلٍّ من المالكيّة والشّافعيّة وروايةٍ عند الحنابلة‏:‏ أنّ سهمهم انقطع لعزّ الإسلام، فلا يعطون الآن، لكن إن احتيج لاستئلافهم في بعض الأوقات أعطوا‏.‏ قال ابن قدامة‏:‏ لعلّ معنى قول أحمد‏:‏ انقطع سهمهم، أي لا يحتاج إليهم في الغالب، أو أراد أنّ الأئمّة لا يعطونهم اليوم شيئًا، فأمّا إن احتيج إلى إعطائهم جاز الدّفع إليهم، فلا يجوز الدّفع إليهم إلاّ مع الحاجة‏.‏ وقال الحنفيّة‏:‏ انعقد الإجماع على سقوط سهمهم من الزّكاة لما ورد أنّ الأقرع بن حابسٍ وعيينة بن حصنٍ جاءا يطلبان من أبي بكرٍ أرضًا، فكتب لهما بذلك، فمرّا على عمر، فرأى الكتاب فمزّقه، وقال‏:‏ هذا شيء كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يعطيكموه ليتألّفكم، والآن قد أعزّ اللّه الإسلام وأغنى عنكم، فإن ثبتّم على الإسلام، وإلاّ فبيننا وبينكم السّيف، فرجعا إلى أبي بكرٍ، فقالا، ما ندري‏:‏ الخليفة أنت أم عمر ‏؟‏ فقال‏:‏ هو إن شاء، ووافقه‏.‏ ولم ينكر أحد من الصّحابة ذلك‏.‏

168 - ثمّ اختلفوا‏:‏ ففي قولٍ للمالكيّة‏:‏ المؤلّفة قلوبهم كفّار يعطون ترغيبًا لهم في الإسلام لأجل أن يعينوا المسلمين، فعليه لا تعطى الزّكاة لمن أسلم فعلًا‏.‏ وقال الشّافعيّة‏:‏ لا يعطى من هذا السّهم لكافرٍ أصلًا، لأنّ الزّكاة لا تعطى لكافرٍ، للحديث‏:‏ ‏{‏تؤخذ من أغنيائهم وتردّ على فقرائهم‏}‏ بل تعطى لمن أسلم فعلًا، وهناك أقوال أخرى للشّافعيّة‏.‏ وقال الحنابلة‏:‏ يجوز الإعطاء من الزّكاة للمؤلّف مسلمًا كان أو كافرًا‏.‏ وعند كلٍّ من الشّافعيّة والمالكيّة أقوال بمثل هذا‏.‏ قال ابن قدامة‏:‏ المؤلّفة قلوبهم ضربان‏:‏ كفّار ومسلمون، وهم جميعًا السّادة المطاعون في قومهم وعشائرهم‏.‏ ثمّ ذكر المسلمين منهم فجعلهم أربعة أضربٍ‏:‏

1 - سادة مطاعون في قومهم أسلموا ونيّتهم ضعيفة فيعطون تثبيتًا لهم‏.‏

2 - قوم لهم شرف ورياسة أسلموا ويعطون لترغيب نظرائهم من الكفّار ليسلموا‏.‏

3 - صنف يراد بتألّفهم أن يجاهدوا من يليهم من الكفّار، ويحموا من يليهم من المسلمين‏.‏

4 - صنف يراد بإعطائهم من الزّكاة أن يجبوا الزّكاة ممّن لا يعطيها‏.‏ ثمّ ذكر ابن قدامة الكفّار فجعلهم ضربين‏:‏

1 - من يرجى إسلامه فيعطى لتميل نفسه إلى الإسلام‏.‏

2 - من يخشى شرّه ويرجى بعطيّته كفّ شرّه وكفّ غيره معه‏.‏

الصّنف الخامس‏:‏ في الرّقاب

169 - وهم ثلاثة أضربٍ‏:‏ الأوّل‏:‏ المكاتبون المسلمون‏:‏ فيجوز عند الجمهور الصّرف من الزّكاة إليهم، إعانةً لهم على فكّ رقابهم ولم يجز ذلك مالك، كما لم يجز صرف شيءٍ من الزّكاة في إعتاق من انعقد له سبب حرّيّةٍ بغير الكتابة، كالتّدبير والاستيلاد والتّبعيض‏.‏ فعلى قول الجمهور‏:‏ إنّما يعان المكاتب إن لم يكن قادرًا على الأداء لبعض ما وجب عليه، فإن كان لا يجد شيئًا أصلًا دفع إليه جميع ما يحتاج إليه للوفاء‏.‏ الثّاني‏:‏ إعتاق الرّقيق المسلم، وقد ذهب إلى جواز الصّرف من الزّكاة في ذلك المالكيّة وأحمد في روايةٍ، وعليه فإن كانت الزّكاة بيد الإمام أو السّاعي جاز له أن يشتري رقبةً أو رقابًا فيعتقهم، وولاؤهم للمسلمين‏.‏ وكذا إن كانت الزّكاة بيد ربّ المال فأراد أن يعتق رقبةً تامّةً منها، فيجوز ذلك لعموم الآية ‏{‏وفي الرّقاب‏}‏ ويكون ولاؤها عند المالكيّة للمسلمين أيضًا، وعند الحنابلة‏:‏ ما رجع من الولاء ردّ في مثله، بمعنى أنّه يشترى بما تركه المعتق ولا وارث له رقاب تعتق‏.‏ وعند أبي عبيدٍ‏:‏ الولاء للمعتق‏.‏ وذهب الحنفيّة والشّافعيّة وأحمد في روايةٍ أخرى إلى أنّه لا يعتق من الزّكاة، لأنّ ذلك كدفع الزّكاة إلى القنّ، والقنّ لا تدفع إليه الزّكاة‏;‏ ولأنّه دفع إلى السّيّد في الحقيقة، وقال الحنفيّة‏:‏ لأنّ العتق إسقاط ملكٍ، وليس بتمليكٍ، لكن إن أعان من زكاته في إعتاق رقبةٍ جاز عند أصحاب هذا القول من الحنابلة‏.‏ الثّالث‏:‏ أن يفتدي بالزّكاة أسيرًا مسلمًا من أيدي المشركين، وقد صرّح الحنابلة وابن حبيبٍ وابن عبد الحكم من المالكيّة بجواز هذا النّوع‏;‏ لأنّه فكّ رقبةٍ من الأسر، فيدخل في الآية بل هو أولى من فكّ رقبة من بأيدينا‏.‏ وصرّح المالكيّة بمنعه‏.‏

الصّنف السّادس‏:‏ الغارمون

والغارمون المستحقّون للزّكاة ثلاثة أضربٍ‏:‏ الضّرب الأوّل‏:‏ من كان عليه دين لمصلحة نفسه‏.‏ وهذا متّفق عليه من حيث الجملة، ويشترط لإعطائه من الزّكاة ما يلي‏:‏

1 - أن يكون مسلمًا‏.‏

2 - أن لا يكون من آل البيت، وعند الحنابلة قول‏:‏ بجواز إعطاء مدين آل البيت منها‏.‏

3 - واشترط المالكيّة أن لا يكون قد استدان ليأخذ من الزّكاة، كأن يكون عنده ما يكفيه وتوسّع في الإنفاق بالدّين لأجل أن يأخذ منها، بخلاف فقيرٍ استدان للضّرورة ناويًا الأخذ منها‏.‏

4 - وصرّح المالكيّة بأنّه يشترط أن يكون الدّين ممّا يحبس فيه، فيدخل فيه دين الولد على والده، والدّين على المعسر، وخرج دين الكفّارات والزّكاة‏.‏

5- أن لا يكون دينه في معصيةٍ، وهذا عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة، كأن يكون بسبب خمرٍ، أو قمارٍ، أو زنًا، لكن إن تاب يجوز الدّفع إليه، وقيل‏:‏ لا‏.‏ ورجّح المالكيّة الأوّل، وعدّ الشّافعيّة الإسراف في النّفقة من باب المعصية الّتي تمنع الإعطاء من الزّكاة‏.‏

6- أن يكون الدّين حالًّا، صرّح بهذا الشّرط الشّافعيّة، قالوا‏:‏ إن كان الدّين مؤجّلًا ففي المسألة ثلاثة أقوالٍ ثالثها‏:‏ إن كان الأجل تلك السّنة أعطي، وإلاّ فلا يعطى من صدقات تلك السّنة‏.‏

7- أن لا يكون قادرًا على السّداد من مالٍ عنده زكويٍّ أو غير زكويٍّ زائدٍ عن كفايته، فلو كان له دار يسكنها تساوي مائةً وعليه مائة، وتكفيه دار بخمسين فلا يعطى حتّى تباع، ويدفع الزّائد في دينه على ما صرّح به المالكيّة، ولو وجد ما يقضي به بعض الدّين أعطي البقيّة فقط، وإن كان قادرًا على وفاء الدّين بعد زمنٍ بالاكتساب، فعند الشّافعيّة قولان في جواز إعطائه منها‏.‏ الضّرب الثّاني‏:‏ الغارم لإصلاح ذات البين‏:‏

171 - الأصل فيه حديث قبيصة المرفوع‏:‏ ‏{‏إنّ المسألة لا تحلّ إلاّ لثلاثةٍ‏.‏ فذكر منهم ورجلٍ تحمّل حمالةً فحلّت له المسألة حتّى يصيبها ثمّ يمسك‏}‏ فذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ هذا النّوع من الغارمين يعطى من الزّكاة سواء كان غنيًّا أو فقيرًا‏;‏ لأنّه لو اشترط الفقر فيه لقلّت الرّغبة في هذه المكرمة، وصورتها أن يكون بين قبيلتين أو حيّين فتنة، يكون فيها قتل نفسٍ أو إتلاف مالٍ، فيتحمّله لأجل الإصلاح بينهم، فيعطى من الزّكاة لتسديد حمالته، وقيّد الحنابلة الإعطاء بما قبل الأداء الفعليّ، ما لم يكن أدّى الحمالة من دينٍ استدانه‏;‏ لأنّ الغرم يبقى‏.‏ وقال الحنفيّة‏:‏ لا يعطى المتحمّل من الزّكاة إلاّ إن كان لا يملك نصابًا فاضلًا عن دينه كغيره من المدينين‏.‏ ولم يصرّح المالكيّة بحكم هذا الضّرب فيما اطّلعنا عليه‏.‏ الضّرب الثّالث‏:‏ الغارم بسبب دين ضمانٍ وهذا الضّرب ذكره الشّافعيّة، والمعتبر في ذلك أن يكون كلّ من الضّامن والمضمون عنه معسرين، فإن كان أحدهما موسرًا ففي إعطاء الضّامن من الزّكاة خلاف عندهم وتفصيل‏.‏

الدّين على الميّت

171 م - إن مات المدين ولا وفاء في تركته لم يجز عند الجمهور سداد دينه من الزّكاة‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ يوفّى دينه منها ولو مات، قال بعضهم‏:‏ هو أحقّ بالقضاء لليأس من إمكان القضاء عنه، وهو أحد قولين عند الشّافعيّة‏.‏ ويأتي بيان ما يتعلّق بالميّت تفصيلًا‏.‏

الصّنف السّابع‏:‏ في سبيل اللّه

وهذا الصّنف ثلاثة أضربٍ‏.‏

172 - الضّرب الأوّل‏:‏ الغزاة في سبيل اللّه تعالى، والّذين ليس لهم نصيب في الدّيوان، بل هم متطوّعون للجهاد‏.‏ وهذا الضّرب متّفق عليه عند الفقهاء من حيث الجملة، فيجوز إعطاؤهم من الزّكاة قدر ما يتجهّزون به للغزو من مركبٍ وسلاحٍ ونفقةٍ وسائر ما يحتاج إليه الغازي لغزوه مدّة الغزو وإن طالت‏.‏ ولا يشترط عند الجمهور في الغازي أن يكون فقيرًا، بل يجوز إعطاء الغنيّ لذلك، لأنّه لا يأخذ لمصلحة نفسه، بل لحاجة عامّة المسلمين، فلم يشترط فيه الفقر‏.‏ وقال الحنفيّة‏:‏ إن كان الغازي غنيًّا، وهو من يملك خمسين درهمًا أو قيمتها من الذّهب كما تقدّم في صنف الفقراء فلا يعطى من الزّكاة، وإلاّ فيعطى، وإن كان كاسبًا‏;‏ لأنّ الكسب يقعده عن الجهاد‏.‏ وعند محمّدٍ الغازي منقطع الحاجّ لا منقطع الغزاة‏.‏ وصرّح المالكيّة بأنّه يشترط في الغازي أن يكون ممّن يجب عليه الجهاد، لكونه مسلمًا ذكرًا بالغًا قادرًا، وأنّه يشترط أن يكون من غير آل البيت‏.‏ وأمّا جنود الجيش الّذين لهم نصيب في الدّيوان فلا يعطون من الزّكاة، وفي أحد قولين عند الشّافعيّة‏:‏ إن امتنع إعطاؤهم من بيت المال لضعفه، يجوز إعطاؤهم من الزّكاة‏.‏

الضّرب الثّاني‏:‏ مصالح الحرب

173 - وهذا الضّرب ذكره المالكيّة، فالصّحيح عندهم أنّه يجوز الصّرف من الزّكاة في مصالح الجهاد الأخرى غير إعطاء الغزاة، نحو بناء أسوارٍ للبلد لحفظها من غزو العدوّ، ونحو بناء المراكب الحربيّة، وإعطاء جاسوسٍ يتجسّس لنا على العدوّ، مسلمًا كان أو كافرًا‏.‏ وأجاز بعض الشّافعيّة أن يشترى من الزّكاة السّلاح وآلات الحرب وتجعل وقفًا يستعملها الغزاة ثمّ يردّونها، ولم يجزه الحنابلة‏.‏ وظاهر صنيع سائر الفقهاء - إذ قصروا سهم سبيل اللّه على الغزاة، أو الغزاة والحجّاج، أنّه لا يجوز الصّرف منه في هذا الضّرب، ووجهه أنّه لا تمليك فيه، أو فيه تمليك لغير أهل الزّكاة، أو كما قال أحمد‏:‏ لأنّه لم يؤت الزّكاة لأحدٍ، وهو مأمور بإيتائها‏.‏

الضّرب الثّالث‏:‏ الحجّاج

174 - ذهب جمهور العلماء ‏(‏الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والثّوريّ وأبو ثورٍ وابن المنذر وهو رواية عن أحمد، وقال ابن قدامة‏:‏ إنّه الصّحيح‏)‏ إلى أنّه لا يجوز الصّرف في الحجّ من الزّكاة‏;‏ لأنّ سبيل اللّه في آية مصارف الزّكاة مطلق، وهو عند الإطلاق ينصرف إلى الجهاد في سبيل اللّه تعالى، لأنّ الأكثر ممّا ورد من ذكره في كتاب اللّه تعالى قصد به الجهاد، فتحمل الآية عليه‏.‏ وذهب أحمد في روايةٍ، إلى أنّ الحجّ في سبيل اللّه فيصرف فيه من الزّكاة، لما روي ‏{‏أنّ رجلًا جعل ناقته في سبيل اللّه، فأرادت امرأته أن تحجّ، فقال لها النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ فهلاّ خرجت عليه فإنّ الحجّ من سبيل اللّه‏}‏ فعلى هذا القول لا يعطى من الزّكاة من كان له مال يحجّ به سواها، ولا يعطى إلاّ لحجّ الفريضة خاصّةً، وفي قولٍ عند الحنابلة‏:‏ يجوز حتّى في حجّ التّطوّع‏.‏ وينقل عن بعض فقهاء الحنفيّة أنّ مصرف في سبيل اللّه هو لمنقطع الحجّاج‏.‏ إلاّ أنّ مريد الحجّ يعطى من الزّكاة عند الشّافعيّة على أنّه ابن سبيلٍ كما يأتي‏.‏

الصّنف الثّامن‏:‏ ابن السّبيل

سمّي بذلك لملازمته الطّريق، إذ ليس هو في وطنه ليأوي إلى سكنٍ‏.‏ وهذا الصّنف ضربان‏:‏

175 - الضّرب الأوّل‏:‏ المتغرّب عن وطنه الّذي ليس بيده ما يرجع به إلى بلده‏:‏ وهذا الضّرب متّفق على أنّه من أصحاب الزّكاة، فيعطى ما يوصله إلى بلده، إلاّ في قولٍ ضعيفٍ عند الشّافعيّة‏:‏ أنّه لا يعطى‏;‏ لأنّ ذلك يكون من باب نقل الزّكاة من بلدها‏.‏ ولا يعطى من الزّكاة إلاّ بشروطٍ‏:‏ الشّرط الأوّل‏:‏ أن يكون مسلمًا، من غير آل البيت‏.‏ الشّرط الثّاني‏:‏ أن لا يكون بيده في الحال مال يتمكّن به من الوصول إلى بلده وإن كان غنيًّا في بلده، فلو كان له مال مؤجّل أو على غائبٍ، أو معسرٍ، أو جاحدٍ، لم يمنع ذلك الأخذ من الزّكاة على ما صرّح به الحنفيّة‏.‏ الشّرط الثّالث‏:‏ أن لا يكون سفره لمعصيةٍ، صرّح بهذا الشّرط المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة، فيجوز إعطاؤه إن كان سفره لطاعةٍ واجبةٍ كحجّ الفرض، وبرّ الوالدين، أو مستحبّةٍ كزيارة العلماء والصّالحين، أو كان سفره لمباحٍ كالمعاشات والتّجارات، فإن كان سفره لمعصيةٍ لم يجز إعطاؤه منها لأنّه إعانة عليها، ما لم يتب، وإن كان للنّزهة فقط ففيه وجهان عند الحنابلة‏:‏ أقواهما‏:‏ أنّه لا يجوز‏;‏ لعدم حاجته إلى هذا السّفر‏.‏ الشّرط الرّابع‏:‏ وهو للمالكيّة خاصّةً‏:‏ أن لا يجد من يقرضه إن كان ببلده غنيًّا‏.‏ ولا يعطى أهل هذا الضّرب من الزّكاة أكثر ممّا يكفيه للرّجوع إلى وطنه، وفي قولٍ للحنابلة‏:‏ إن كان قاصدًا بلدًا آخر يعطى ما يوصله إليه ثمّ يردّه إلى بلده‏.‏ قال المالكيّة‏:‏ فإن جلس ببلد الغربة بعد أخذه من الزّكاة نزعت منه ما لم يكن فقيرًا ببلده، وإن فضل معه فضل بعد رجوعه إلى بلده نزع منه على قولٍ عند الحنابلة‏.‏ ثمّ قد قال الحنفيّة‏:‏ من كان قادرًا على السّداد فالأولى له أن يستقرض ولا يأخذ من الزّكاة‏.‏

الضّرب الثّاني‏:‏ من كان في بلده ويريد أن ينشئ سفرًا‏:‏

176 - فهذا الضّرب منع الجمهور إعطاءه، وأجاز الشّافعيّة إعطاءه لذلك بشرط أن لا يكون معه ما يحتاج إليه في سفره، وأن لا يكون في معصيةٍ، فعلى هذا يجوز إعطاء من يريد الحجّ من الزّكاة إن كان لا يجد في البلد الّذي ينشئ منه سفر الحجّ ما لا يحجّ به‏.‏ والحنفيّة لا يرون جواز الإعطاء في هذا الضّرب، إلاّ أنّ من كان ببلده، وليس له بيده مال ينفق منه وله مال في غير بلده، لا يصل إليه، رأوا أنّه ملحق بابن السّبيل‏.‏

أصناف الّذين لا يجوز إعطاؤهم من الزّكاة

177 - 1 - آل النّبيّ محمّدٍ صلى الله عليه وسلم لأنّ الزّكاة والصّدقة محرّمتان على النّبيّ صلى الله عليه وسلم وعلى آله، وقد تقدّم بيان حكمهم في ‏(‏آل‏)‏‏.‏

2 - الأغنياء، وقد تقدّم بيان من هم في صنف الفقراء والمساكين‏.‏ قال ابن قدامة‏:‏ خمسة لا يعطون إلاّ مع الحاجة‏:‏ الفقير، والمسكين، والمكاتب، والغارم لمصلحة نفسه، وابن السّبيل، وخمسة يأخذون مع الغنى‏:‏ العامل، والمؤلّف قلبه، والغازي، والغارم لإصلاح ذات البين، وابن السّبيل الّذي له اليسار في بلده‏.‏ وخالف الحنفيّة في الغازي والغارم لإصلاح ذات البين، فرأوا أنّهم لا يأخذون إلاّ مع الحاجة‏.‏

3 - الكفّار ولو كانوا أهل ذمّةٍ‏:‏ لا يجوز إعطاؤهم من الزّكاة‏.‏ نقل ابن المنذر الإجماع على ذلك لحديث‏:‏ ‏{‏إنّ اللّه افترض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم وتردّ على فقرائهم‏}‏ وأجاز الحنابلة في قولٍ إعطاءهم مع العاملين إن عملوا على الزّكاة‏.‏ ويستثنى المؤلّف قلبه أيضًا على التّفصيل والخلاف المتقدّم في موضعه‏.‏ ويشمل الكافر هنا الكافر الأصليّ والمرتدّ، ومن كان متسمّيًا بالإسلام وأتى بمكفّرٍ نحو الاستخفاف بالقرآن، أو سبّ اللّه أو رسوله، أو دين الإسلام، فهو كافر لا يجوز إعطاؤه من الزّكاة اتّفاقًا، وانظر مصطلح‏:‏ ‏(‏ردّة‏)‏‏.‏

كلّ من انتسب إليه المزكّي أو انتسب إلى المزكّي بالولادة‏.‏ ويشمل ذلك أصوله وهم أبواه وأجداده، وجدّاته، وارثين كانوا أو لا، وكذا أولاده وأولاد أولاده، وإن نزلوا، قال الحنفيّة‏:‏ لأنّ منافع الأملاك بينهم متّصلة، وهذا مذهب الحنفيّة والحنابلة‏.‏ أمّا سائر الأقارب، وهم الحواشي كالإخوة والأخوات والأعمام والعمّات والأخوال والخالات، وأولادهم، فلا يمتنع إعطاؤهم زكاته ولو كان بعضهم في عياله، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏الصّدقة على المسكين صدقة، وهي على ذي الرّحم اثنتان‏:‏ صدقة وصلة‏}‏ وهذا مذهب الحنفيّة وهو القول المقدّم عند الحنابلة‏.‏ وأمّا عند المالكيّة والشّافعيّة فإنّ الأقارب الّذين تلزم نفقتهم المزكّي لا يجوز أن يعطيهم من الزّكاة، والّذين تلزم نفقتهم عند المالكيّة الأب والأمّ دون الجدّ والجدّة، والابن والبنت دون أولادهما، واللّازم نفقة الابن ما دام في حدّ الصّغر، والبنت إلى أن تتزوّج ويدخل بها زوجها‏.‏ والّذين تلزم نفقتهم عند الشّافعيّة الأصول والفروع‏.‏ وفي روايةٍ عند الحنابلة وهو قول الثّوريّ‏:‏ يفرّق في غير الأصول والفروع بين الموروث منهم وغير الموروث، فغير الموروث يجزئ إعطاؤه من الزّكاة، والموروث لا يجزئ، وعلى الوارث نفقته إن كان الموروث فقيرًا فيستغني بها عن الزّكاة، إذ لو أعطاه من الزّكاة لعاد نفع زكاته إلى نفسه، ويشترط هنا شروط الإرث ومنها‏:‏ أن لا يكون الوارث محجوبًا عن الميراث وقت إعطاء الزّكاة واستثنى الحنفيّة في ظاهر الرّواية من فرض له القاضي النّفقة على المزكّي، فلا يجزئ إعطاؤه الزّكاة، لأنّه أداء واجبٍ في واجبٍ آخر، على أنّهم نصّوا على أن يجوز أن يدفعها إلى زوجة أبيه وزوجة ابنه وزوج ابنته‏.‏ وقيّد المالكيّة والشّافعيّة وابن تيميّة من الحنابلة الإعطاء الممنوع بسهم الفقراء والمساكين، أمّا لو أعطى والده أو ولده من سهم العاملين أو المكاتبين أو الغارمين أو الغزاة فلا بأس‏.‏ وقالوا أيضًا‏:‏ إن كان لا يلزمه نفقته جاز إعطاؤه‏.‏

دفع الزّوج زكاة ماله إلى زوجته وعكسه

178 - لا يجزئ الرّجل إعطاء زكاة ماله إلى زوجته‏.‏ قال ابن قدامة‏:‏ هو إجماع، قال الحنفيّة‏:‏ لأنّ المنافع بين الزّوجين مشتركة، وقال الجمهور‏:‏ لأنّ نفقتها واجبة على الزّوج، فيكون كالدّافع إلى نفسه، ومحلّ المنع إعطاؤها الزّكاة لتنفقها على نفسها، فأمّا لو أعطاها ما تدفعه في دينها، أو لتنفقه على غيرها من المستحقّين، فلا بأس، على ما صرّح به المالكيّة وقريب منه ما قال الشّافعيّة‏:‏ إنّ الممنوع إعطاؤها من سهم الفقراء أو المساكين، أمّا من سهمٍ آخر هي مستحقّة له فلا بأس، وهو ما يفهم أيضًا من كلام ابن تيميّة‏.‏ وأمّا إعطاء المرأة زوجها زكاة مالها فقد اختلف فيه‏:‏ فذهب الشّافعيّ وصاحبا أبي حنيفة وهو رواية عن أحمد واختيار ابن المنذر، إلى جواز ذلك لحديث ‏{‏زينب زوجة عبد اللّه بن مسعودٍ رضي الله عنهما، وفيه أنّها هي وامرأة أخرى سألتا النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ هل تجزئ الصّدقة عنهما على أزواجهما، وعلى أيتامٍ في حجرهما ‏؟‏ فقال‏:‏ لهما أجران أجر القرابة وأجر الصّدقة‏}‏‏.‏ وقال ابن قدامة‏:‏ ولأنّه لا تجب عليها نفقة الزّوج، ولعموم آية مصارف الزّكاة، إذ ليس في الزّوج إذا كان فقيرًا نصّ أو إجماع يمنع إعطاءه‏.‏ وقال أبو حنيفة، وهو رواية أخرى عن أحمد‏:‏ لا يجزئ المرأة أن تعطي زوجها زكاتها ولو كانت في عدّتها من طلاقه البائن ولو بثلاث طلقاتٍ‏;‏ لأنّ المنافع بين الرّجل وبين امرأته مشتركة، فهي تنتفع بتلك الزّكاة الّتي تعطيها لزوجها‏;‏ ولأنّ الزّوج لا يقطع بسرقة مال امرأته، ولا تصحّ شهادته لها‏.‏ وقال مالك‏:‏ لا تعطي المرأة زوجها زكاة مالها‏.‏ واختلف أصحابه في معنى كلامه، فقال بعضهم‏:‏ بأنّ مراده عدم الإجزاء، وقال آخرون‏:‏ بإجزائه مع الكراهة‏.‏

6 - ‏(‏الفاسق والمبتدع‏)‏‏:‏

179 - ذكر الحافظ ابن حجرٍ في شرحه لحديث‏:‏ ‏{‏تصدّق اللّيلة على كافرٍ‏}‏ أنّ في إعطاء الزّكاة للعاصي خلافًا، وقد صرّح المالكيّة بأنّ الزّكاة لا تعطى لأهل المعاصي إن غلب على ظنّ المعطي أنّهم يصرفونها في المعصية، فإن أعطاهم على ذلك لم تجزئه عن الزّكاة، وفي غير تلك الحال تجوز، وتجزئ‏.‏ وعند الحنابلة قال ابن تيميّة‏:‏ ينبغي للإنسان أن يتحرّى بزكاته المستحقّين من أهل الدّين المتّبعين للشّريعة، فمن أظهر بدعةً أو فجورًا فإنّه يستحقّ العقوبة بالهجر وغيره والاستتابة فكيف يعان على ذلك ‏؟‏، وقال‏:‏ من كان لا يصلّي يؤمر بالصّلاة، فإن قال‏:‏ أنا أصلّي، أعطي، وإلاّ لم يعط، ومراده أنّه يعطى ما لم يكن معلومًا بالنّفاق‏.‏ وعند الحنفيّة يجوز إعطاء الزّكاة للمنتسبين إلى الإسلام من أهل البدع إن كانوا من الأصناف الثّمانية، ما لم تكن بدعتهم مكفّرةً مخرجةً لهم عن الإسلام‏.‏ على أنّ الأولى تقديم أهل الدّين المستقيمين عليه في الاعتقاد، والعمل على من عداهم عند الإعطاء من الزّكاة، لحديث‏:‏ ‏{‏لا تصاحب إلاّ مؤمنًا ولا يأكل طعامك إلاّ تقيّ‏}‏‏.‏

7 - ‏(‏الميّت‏)‏‏:‏

180 - ذهب الحنفيّة وهو قول للشّافعيّة والحنابلة ‏(‏على المذهب‏)‏ والنّخعيّ‏:‏ إلى أنّه لا تعطى الزّكاة في تجهيز ميّتٍ عند من قال بأنّ ركن الزّكاة تمليكها لمصرفها، فإنّ الميّت لا يملك، ومن شرط صحّة الزّكاة التّمليك، قالوا‏:‏ ولا يجوز أن يقضى بها دين الميّت الّذي لم يترك وفاءً‏;‏ لأنّ قضاء دين الغير بها لا يقتضي تمليكه إيّاها، قال أحمد‏:‏ لا يقضى من الزّكاة دين الميّت، ويقضى منها دين الحيّ‏.‏ وقال المالكيّة وهو قول للشّافعيّة ونقله في الفروع عن أبي ثورٍ، وعن اختيار ابن تيميّة، وأنّ في ذلك روايةً عن أحمد‏:‏ أنّه لا بأس أن يقضى من الزّكاة دين الميّت الّذي لم يترك وفاءً إن تمّت فيه شروط الغارم، قال بعض المالكيّة‏:‏ بل هو أولى من دين الحيّ في أخذه من الزّكاة، لأنّه لا يرجى قضاؤه بخلاف الحيّ، واحتجّ النّوويّ لهذا القول بعموم الغارمين في آية مصارف الزّكاة، وبأنّه يصحّ التّبرّع بقضاء دين الميّت كدين الحيّ‏.‏

8 - جهات الخير من غير الأصناف الثّمانية‏:‏

181 - ذهب الفقهاء إلى أنّه لا يجوز صرف الزّكاة في جهات الخير غير ما تقدّم بيانه، فلا تنشأ بها طريق، ولا يبنى بها مسجد ولا قنطرة، ولا تشقّ بها ترعة، ولا يعمل بها سقاية، ولا يوسّع بها على الأصناف، ولم يصحّ فيه نقل خلافٍ عن معيّنٍ يعتدّ به، وظاهر كلام الرّمليّ أنّه إجماع، واحتجّوا لذلك بأمرين‏:‏ الأوّل‏:‏ أنّه لا تمليك فيها‏;‏ لأنّ المسجد ونحوه لا يملك، وهذا عند من يشترط في الزّكاة التّمليك‏.‏ والثّاني‏:‏ الحصر الّذي في الآية، فإنّ المساجد ونحوها ليست من الأصناف الثّمانية، وفي الحديث المتقدّم الّذي فيه‏:‏ ‏{‏إنّ اللّه جعل الزّكاة ثمانية أجزاءٍ‏}‏‏.‏ ولا يثبت ممّا نقل عن أنسٍ وابن سيرين خلاف ذلك‏.‏

ما يراعى في قسمة الزّكاة بين الأصناف الثّمانية‏:‏

أ - ‏(‏تعميم الزّكاة على الأصناف‏)‏‏:‏

182 - ذهب جمهور العلماء ‏(‏الحنفيّة والمالكيّة وهو المذهب عند الحنابلة وهو قول الثّوريّ وأبي عبيدٍ‏)‏ إلى أنّه لا يجب تعميم الزّكاة على الأصناف، سواء كان الّذي يؤدّيها إليها ربّ المال أو السّاعي أو الإمام، وسواء كان المال كثيرًا أو قليلًا، بل يجوز أن تعطى لصنفٍ واحدٍ أو أكثر، ويجوز أن تعطى لشخصٍ واحدٍ إن لم تزد عن كفايته، وهو مرويّ عن عمر وابن عبّاسٍ، قال ابن عبّاسٍ‏:‏ في أيّ صنفٍ وضعته أجزأك‏.‏

183 - واحتجّوا بحديث‏:‏ ‏{‏تؤخذ من أغنيائهم فتردّ على فقرائهم‏}‏ قالوا‏:‏ والفقراء صنف واحد من أصناف أهل الزّكاة الثّمانية، وبوقائع أعطى فيها النّبيّ صلى الله عليه وسلم الزّكاة لفردٍ واحدٍ أو أفرادٍ، منها‏:‏ ‏{‏أنّه أعطى سلمة بن صخرٍ البياضيّ صدقة قومه‏}‏‏.‏ وقال لقبيصة‏:‏ ‏{‏أقم يا قبيصة حتّى تأتينا الصّدقة فنأمر لك بها‏}‏‏.‏ قالوا‏:‏ واللّام في آية الصّدقات بمعنى ‏"‏ أو ‏"‏، أو هي لبيان المصارف، أو هي للاختصاص، ومعنى الاختصاص عدم خروجها عنهم‏.‏ وصرّح المالكيّة بأنّ التّعميم لا يندب إلاّ أن يقصد الخروج من الخلاف، وكذا استحبّ الحنابلة التّعميم للخروج من الخلاف‏.‏ وذهب الشّافعيّة، وهو رواية عن أحمد وقول عكرمة، إلى أنّه يجب تعميم الأصناف، وإعطاء كلّ صنفٍ منهم الثّمن من الزّكاة المتجمّعة، واستدلّوا بآية الصّدقات، فإنّه تعالى أضاف الزّكاة إليهم فاللّام التّمليك، وأشرك بينهم بواو التّشريك، فدلّ على أنّها مملوكة لهم مشتركة بينهم، فإنّه لو قال ربّ المال‏:‏ هذا المال لزيدٍ وعمرٍو وبكرٍ قسمت بينهم ووجبت التّسوية، فكذا هذا، ولو أوصى لهم وجب التّعميم والتّسوية‏.‏ وتفصيل مذهب الشّافعيّة في ذلك أنّه يجب استيعاب الأصناف الثّمانية في القسم إن قسم الإمام وهناك عامل، فإن لم يكن عامل بأن قسم المالك، أو حمل أصحاب الأموال زكاتهم إلى الإمام، فالقسمة على سبعة أصنافٍ، فإن فقد بعضهم فعلى الموجودين منهم، ويستوعب الإمام من الزّكوات المجتمعة عنده آحاد كلّ صنفٍ وجوبًا، إن كان المستحقّون في البلد، ووفى بهم المال‏.‏ وإلاّ فيجب إعطاء ثلاثةٍ من كلّ صنفٍ‏;‏ لأنّ الآية ذكرت الأصناف بصيغة الجمع‏.‏ قالوا‏:‏ وينبغي للإمام أو السّاعي أن يعتني بضبط المستحقّين، ومعرفة أعدادهم، وقدر حاجاتهم، واستحقاقهم، بحيث يقع الفراغ من جمع الزّكوات بعد معرفة ذلك أو معه ليتعجّل وصول حقّهم إليهم‏.‏ قالوا‏:‏ وتجب التّسوية بين الأصناف، وإن كانت حاجة بعضهم أشدّ، ولا تجب التّسوية بين أفراد كلّ صنفٍ إن قسم المالك، بل يجوز تفضيل بعضهم على بعضٍ، أمّا إن قسم الإمام فيحرم عليه التّفضيل مع تساوي الحاجات، فإن فقد بعض الأصناف أعطى سهمه للأصناف الباقية، وكذا إن اكتفى بعض الأصناف وفضل شيء، فإن اكتفى جميع أفراد الأصناف جميعًا بالبلد، جاز النّقل إلى أقرب البلاد إليه على الأظهر، على ما يأتي بيانه‏.‏ وقال النّخعيّ‏:‏ إن كانت الزّكاة قليلةً جاز صرفها إلى صنفٍ واحدٍ، وإلاّ وجب استيعاب الأصناف، وقالا أبو ثورٍ وأبو عبيدٍ‏:‏ إن أخرجها الإمام وجب استيعاب الأصناف، وإن أخرجها المالك جاز أن يجعلها في صنفٍ واحدٍ‏.‏

التّرتيب بين المصارف

184 - صرّح الشّافعيّة والحنابلة بأنّ العامل على الزّكاة يبدأ به قبل غيره في الإعطاء من الزّكاة‏;‏ لأنّه يأخذ على وجه العوض عن عمله، وغيره يأخذ على سبيل المواساة، قال الشّافعيّة وهو قول عند الحنابلة‏:‏ فإن كان سهم العاملين وهو ثمن الزّكاة قدر حقّه أخذه، وإن زاد عن حقّه ردّ الفاضل على سائر السّهام، وإن كان أقلّ من حقّه تمّم له من سهم المصالح، وقيل‏:‏ من باقي السّهام‏.‏ والمذهب عند الحنابلة أنّ العامل يقدّم بأجرته على سائر الأصناف، أي من مجموع الزّكاة‏.‏ أمّا ما بعد ذلك، فقال الشّافعيّة‏:‏ يقسم بين باقي الأصناف كما تقدّم‏.‏ ونظر الحنفيّة والمالكيّة إلى الحاجة، فقال الحنفيّة‏:‏ يقدّم المدين على الفقير لأنّ حاجة المدين أشدّ، وراعى الحنفيّة أمورًا أخرى تأتي في نقل الزّكاة‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ يندب إيثار المضطرّ على غيره بأن يزاد في إعطائه منها‏.‏ ونظر الحنابلة إلى الحاجة مع القرابة فقالوا‏:‏ يقدّم الأحوج فالأحوج استحبابًا، فإن تساووا قدّم الأقرب إليه، ثمّ من كان أقرب في الجوار وأكثر دينًا، وكيف فرّقها جاز، بعد أن يضعها في الأصناف الّذين سمّاهم اللّه تعالى‏.‏

نقل الزّكاة

185 - إذا فاضت الزّكاة في بلدٍ عن حاجة أهلها جاز نقلها اتّفاقًا، بل يجب، وأمّا مع الحاجة فيرى الحنفيّة أنّه يكره تنزيهًا نقل الزّكاة من بلدٍ إلى بلدٍ، وإنّما تفرّق صدقة كلّ أهل بلدٍ فيهم، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏تؤخذ من أغنيائهم فتردّ على فقرائهم‏}‏‏.‏ ولأنّ فيه رعاية حقّ الجوار، والمعتبر بلد المال، لا بلد المزكّي‏.‏ واستثنى الحنفيّة أن ينقلها المزكّي إلى قرابته، لما في إيصال الزّكاة إليهم من صلة الرّحم‏.‏ قالوا‏:‏ ويقدّم الأقرب فالأقرب‏.‏ واستثنوا أيضًا أن ينقلها إلى قومٍ هم أحوج إليها من أهل بلده، وكذا لأصلح، أو أورع، أو أنفع للمسلمين، أو من دار الحرب إلى دار الإسلام، أو إلى طالب علمٍ‏.‏ وذهب المالكيّة والشّافعيّة في الأظهر والحنابلة إلى أنّه لا يجوز نقل الزّكاة إلى ما يزيد عن مسافة القصر، لحديث معاذٍ المتقدّم، ولما ورد أنّ عمر رضي الله عنه بعث معاذًا إلى اليمن، فبعث إليه معاذ من الصّدقة، فأنكر عليه عمر وقال‏:‏ لم أبعثك جابيًا ولا آخذ جزيةٍ، ولكن بعثتك لتأخذ من أغنياء النّاس فتردّ على فقرائهم، فقال معاذ‏:‏ ما بعثت إليك بشيءٍ وأنا أجد من يأخذه منّي‏.‏ وروي أنّ عمر بن عبد العزيز أتي بزكاةٍ من خراسان إلى الشّام فردّها إلى خراسان‏.‏ قالوا‏:‏ والمعتبر بلد المال، إلاّ أنّ المالكيّة قالوا‏:‏ المعتبر في الأموال الظّاهرة البلد الّذي فيه المال، وفي النّقد وعروض التّجارة البلد الّذي فيه المالك‏.‏ واستثنى المالكيّة أن يوجد من هو أحوج ممّن هو في البلد، فيجب حينئذٍ النّقل منها ولو نقل أكثرها‏.‏

186 - ثمّ إن نقلت الزّكاة حيث لا مسوّغ لنقلها ممّا تقدّم، فقد ذهب الحنفيّة والشّافعيّة، والحنابلة على المذهب، إلى أنّها تجزئ عن صاحبها‏;‏ لأنّه لم يخرج عن الأصناف الثّمانية‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ إن نقلها لمثل من في بلده في الحاجة فتجزئه مع الحرمة، وإن نقلها لأدون منهم في الحاجة لم تجزئه على ما ذكره خليل والدّردير، وقال الدّسوقيّ‏:‏ نقل الموّاق أنّ المذهب الإجزاء بكلّ حالٍ‏.‏ وقال الحنابلة في روايةٍ‏:‏ لا تجزئه بكلّ حالٍ‏.‏ وحيث نقلت الزّكاة فأجرة النّقل عند المالكيّة تكون من بيت المال لا من الزّكاة نفسها‏.‏ وقال الحنابلة‏:‏ تكون على المزكّي‏.‏

حكم من أعطي من الزّكاة لوصفٍ فزال الوصف وهي في يده

187 - من أهل الزّكاة من يأخذ أخذًا مستقرًّا فلا يستردّ منه شيء إن كان فيه سبب الاستحقاق بشروطه عند الأخذ، وهم أربعة أصنافٍ‏:‏ المسكين، والفقير، والعامل، والمؤلّف قلبه‏.‏ ومنهم من يأخذ أخذًا مراعًى، فيستردّ منه إن لم ينفقه في وجهه، أو تأدّى الغرض من بابٍ آخر، أو زال الوصف والزّكاة في يده، وهم أيضًا أربعة أصنافٍ، على خلافٍ في بعضها‏:‏

1 - المكاتب، فيستردّ من المعطى ما أخذ على الأصحّ عند الشّافعيّة، وفي روايةٍ عند الحنابلة إن مات قبل أن يعتق، أو عجز عن الوفاء فلم يعتق، وقال الحنفيّة وهو رواية عند الحنابلة‏:‏ يكون ما أخذه لسيّده ويحلّ له، وفي روايةٍ عن أحمد‏:‏ لا يستردّ، ولا يكون لسيّده، بل ينفق في المكاتبين‏.‏ ولا ترد المسألة عند المالكيّة‏;‏ لأنّهم لا يرون صرف الزّكاة للمكاتبين كما تقدّم‏.‏

2 - الغارم‏:‏ فإن استغنى المدين الّذي أخذ الزّكاة قبل دفعها في دينه تنزع منه، وكذا لو أبرئ من الدّين، أو قضاه من غير الزّكاة، أو قضاه عنه غيره‏.‏ وهذا عند المالكيّة، وعلى الأصحّ عند كلٍّ من الشّافعيّة والحنابلة، ما لم يكن فقيرًا‏.‏

3 - الغازي في سبيل اللّه‏:‏ وقد صرّح المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة بأنّه إن أخذ الزّكاة للغزو ثمّ جلس فلم يخرج أخذت منه، وقال الشّافعيّة والحنابلة أيضًا‏:‏ لو خرج للغزو وعاد دون أن يقاتل مع قرب العدوّ تؤخذ منه كذلك‏.‏ وحيث وجب الرّدّ تنزع منه إن كان باقيه في يده، وإن أنفقها أتّبع بها، أي طولب ببدلها إن كان غنيًّا‏;‏ لأنّها تكون دينًا في ذمّته‏.‏

4 - ابن السّبيل‏:‏ ويستردّ منه ما أخذه إن لم يخرج، ما لم يكن فقيرًا ببلده، وهذا عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة، ويعتبر له عند الشّافعيّة ثلاثة أيّامٍ، وفي قولٍ‏:‏ تمام السّنة‏.‏ قالوا‏:‏ ويردّ ما أخذ لو سافر ثمّ عاد ولم يصرف ما أخذه، وقال المالكيّة‏:‏ إنّما تنزع منه إن كانت باقيةً، فإن كان أنفقها لم يطالب ببدلها‏.‏ وظاهر كلام الحنفيّة أنّه لا يلزم بالرّدّ‏;‏ لأنّهم قالوا‏:‏ لا يلزمه التّصدّق بما فضل في يده‏.‏

حكم من أخذ الزّكاة وليس من أهلها

188 - لا يحلّ لمن ليس من أهل الزّكاة أخذها وهو يعلم أنّها زكاة، إجماعًا‏.‏ فإن أخذها فلم تستردّ منه فلا تطيب له، بل يردّها أو يتصدّق بها‏;‏ لأنّها عليه حرام، وعلى دافع الزّكاة أن يجتهد في تعرّف مستحقّي الزّكاة، فإن دفعها بغير اجتهاده، أو كان اجتهاده أنّه من غير أهلها وأعطاه لم تجزئ عنه، إن تبيّن الآخذ من غير أهلها، والمراد بالاجتهاد النّظر في أمارات الاستحقاق، فلو شكّ في كون الآخذ فقيرًا فعليه الاجتهاد كذلك‏.‏

189 - أمّا إن اجتهد فدفع لمن غلب على ظنّه أنّه من أهل الزّكاة فتبيّن عدم كونه من أهلها، فقد اختلف الفقهاء في ذلك، فقال بعضهم‏:‏ تجزئه، وقال آخرون‏:‏ لا تجزئه، على تفصيلٍ يختلف من مذهبٍ إلى مذهبٍ‏.‏ فعند أبي حنيفة ومحمّدٍ‏:‏ إن دفع الزّكاة إلى من يظنّه فقيرًا ثمّ بان أنّه غنيّ أو هاشميّ أو كافر، أو دفع في ظلمةٍ، فبان أنّ الآخذ أبوه، أو ابنه فلا إعادة عليه، لحديث معن بن يزيد قال‏:‏ ‏{‏كان أبي يزيد أخرج دنانير يتصدّق بها فوضعها عند رجلٍ في المسجد، فجئت فأخذتها فأتيته بها، فقال‏:‏ واللّه ما إيّاك أردت، فخاصمته إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ لك ما نويت يا يزيد، ولك ما أخذت يا معن‏}‏‏.‏ ولأنّا لو أمرناه بالإعادة أفضى إلى الحرج‏;‏ لأنّه ربّما تكرّر خطؤه، واستثنوا من هذا أن يتبيّن الآخذ غير أهلٍ للتّمليك أصلًا، نحو أن يتبيّن أنّ الآخذ عبده أو مكاتبه، فلا تجزئ في هذا الحال‏.‏ وقال أبو يوسف‏:‏ لا تجزئه إن تبيّن أنّ الآخذ ليس من المصارف، لظهور خطئه بيقينٍ مع إمكان معرفة ذلك، كما لو تحرّى في ثيابٍ فبان أنّه صلّى في ثوبٍ نجسٍ‏.‏ وفصّل المالكيّة بين حالين‏:‏ الأولى‏:‏ أن يكون الدّافع الإمام أو مقدّم القاضي أو الوصيّ، فيجب استردادها، لكن إن تعذّر ردّها، أجزأت، لأنّ اجتهاد الإمام حكم لا يتعقّب‏.‏ والثّانية‏:‏ أن يكون الدّافع ربّ المال فلا تجزئه، فإن استردّها وأعطاها في وجهها، وإلاّ فعليه الإخراج مرّةً أخرى، وإنّما يستحقّ استردادها إن فوّتها الآخذ بفعله، بأن أكلها، أو باعها، أو وهبها، أو نحو ذلك‏.‏ أمّا إن فاتت بغير فعله بأن تلفت بأمرٍ سماويٍّ، فإن كان غرّ الدّافع بأن أظهر له الفقر، أو نحو ذلك فيجب عليه ردّها أيضًا، أمّا إن لم يكن غرّه فلا يجب عليه الرّدّ‏.‏ وقال الشّافعيّة‏:‏ يجب الاسترداد، وعلى الآخذ الرّدّ، سواء علم أنّها زكاة أم لا، فإن استردّت صرفت إلى المستحقّين، وإن لم يمكن الاسترداد فإن كان الّذي دفعها الإمام لم يضمن، وإن كان الّذي دفعها المالك ضمن، وهذا هو المقدّم عندهم، وفي بعض صور المسألة عندهم أقوال أخرى‏.‏ وقال الحنابلة‏:‏ إن بان الآخذ عبدًا أو كافرًا أو هاشميًّا، أو قرابةً للمعطي ممّن لا يجوز الدّفع إليه، فلا تجزئ الزّكاة عن دافعها روايةً واحدةً‏;‏ لأنّه ليس بمستحقٍّ، ولا تخفى حاله غالبًا، فلم يجزه الدّفع إليه، كديون الآدميّين‏.‏ أمّا إن كان ظنّه فقيرًا فبان غنيًّا فكذلك على روايةٍ، والأخرى يجزئه، لحديث معن بن يزيد المتقدّم، وحديث أبي هريرة أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏{‏قال رجل‏:‏ لأتصدّقنّ بصدقةٍ، فخرج بصدقته فوضعها في يد غنيٍّ، فأصبحوا يتحدّثون‏:‏ تصدّق على غنيٍّ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث وفيه‏:‏ فأتي فقيل له‏:‏ أمّا صدقتك فقد قبلت، لعلّ الغنيّ يعتبر فينفق ممّا آتاه اللّه‏}‏‏.‏ ولأنّ تخفى غالبًا‏.‏

من له حقّ طلب الزّكاة وهو من أهلها

190 - فرّق الحنفيّة بين مستحقّي الزّكاة من الفقراء من حيث جواز طلبهم الزّكاة بالرّغم من استحقاقهم، فقالوا‏:‏ إنّ الّذي يحلّ له طلب الزّكاة هو من لا شيء له ليومه وليلته فيحتاج للسّؤال لقوته، أو ما يواري بدنه، وهو في اصطلاحهم المسمّى مسكينًا، وكذا لا يحلّ السّؤال لمن لا يملك قوت يومه وليلته لكنّه قادر على الكسب، أمّا الفقير وهو في اصطلاحهم من يملك قوته ليومه وليلته، فلا يحلّ له سؤال الصّدقة، وإن كان يحلّ له أخذها إن لم يكن مالكًا لخمسين درهمًا على ما تقدّم‏.‏ وعند الحنابلة على المذهب‏:‏ من أبيح له أخذ الزّكاة أبيح له طلبها، وفي روايةٍ‏:‏ يحرم طلبها على من له قوت يومه وليلته، وقال ابن الجوزيّ‏:‏ إن علم أنّه يجد من يسأله كلّ يومٍ لم يجز أن يسأل أكثر من قوت يومه وليلته، وإن خاف أن لا يجد من يعطيه أبيح له السّؤال أكثر من ذلك‏.‏