فصل: التّطيّب في الحجّ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


تطيّب

التّعريف

1 - التّطيّب في اللّغة‏:‏ مصدر تطيّب، وهو التّعطّر‏.‏ والطّيب هو‏:‏ العطر، وهو ما له رائحة مستلذّة، كالمسك والكافور والورد والياسمين والورس والزّعفران‏.‏

ولا يخرج معناه في الاصطلاح عن هذا المعنى اللّغويّ‏.‏

2 - والطّيب ينقسم إلى قسمين‏:‏ مذكّر، مؤنّث‏.‏ فالمذكّر‏:‏ ما يخفى أثره، أي تعلّقه بما مسّه من ثوب أو جسد، ويظهر ريحه‏.‏ والمراد به أنواع الرّياحين، والورد، والياسمين‏.‏ وأمّا المياه الّتي تعصر ممّا ذكر فليس من قبيل المؤنّث‏.‏ والمؤنّث‏:‏ هو ما يظهر لونه وأثره، أي تعلّقه بما مسّه تعلّقا شديدا كالمسك، والكافور، والزّعفران‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

التّزيّن‏:‏

3 - التّزيّن‏:‏ هو اتّخاذ الزّينة، وهي اسم جامع لكلّ شيء يتزيّن به، فالتّزيّن ما يحسن به منظر الإنسان‏.‏

الحكم التّكليفيّ

4 - الأصل سنّيّة التّطيّب، ويختلف الحكم بحسب الأحوال، على ما سيأتي‏.‏

تطيّب الرّجل والمرأة

5 - يسنّ التّطيّب، لخبر أبي أيّوب رضي الله عنه مرفوعاً «أربع من سنن المرسلين‏:‏ الحنّاء، والتّعطّر، والسّواك، والنّكاح» ولقول الرّسول صلى الله عليه وسلم «حبّب إليّ من دنياكم‏:‏ النّساء والطّيب، وجعلت قرّة عيني في الصّلاة»‏.‏

والطّيب يستحبّ للرّجل داخل بيته وخارجه، بما يظهر ريحه ويخفى لونه، كبخور العنبر والعود‏.‏ ويسنّ للمرأة في غير بيتها بما يظهر لونه ويخفى ريحه، لخبر رواه التّرمذيّ والنّسائيّ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه «طيب الرّجال ما ظهر ريحه وخفي لونه، وطيب النّساء ما خفي ريحه وظهر لونه» ولأنّها ممنوعة في غير بيتها ممّا ينمّ عليها، لحديث‏:‏ «أيّما امرأة استعطرت، فمرّت بقوم ليجدوا ريحها فهي زانية» وفي بيتها تتطيّب بما شاءت، ممّا يخفى أو يظهر، لعدم المانع‏.‏

التّطيّب لصلاة الجمعة

6 - يندب التّطيّب لصلاة الجمعة بلا خلاف‏.‏ لحديث ابن عبّاس رضي الله عنهما قال‏:‏

«قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إنّ هذا يوم عيد جعله اللّه للمسلمين، فمن جاء منكم إلى الجمعة فليغتسل، وإن كان طيب فليمسّ منه، وعليكم بالسّواك»‏.‏

وعن سلمان الفارسيّ رضي الله عنه قال‏:‏ «قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لا يغتسل رجل يوم الجمعة، ويتطهّر ما استطاع من طهر، ويدهن من دهنه أو يمسّ من طيب بيته، ثمّ يخرج لا يفرّق بين اثنين، ثمّ يصلّي ما كتب له، ثمّ ينصت إذا تكلّم الإمام، إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى»‏.‏

التّطيّب لصلاة العيد

7 - يندب للرّجل قبل خروجه لصلاة العيد أن يتطيّب بما له ريح لا لون له، وبهذا قال الجمهور‏.‏ أمّا النّساء فلا بأس بخروجهنّ غير متطيّبات ولا لابسات ثياب زينة أو شهرة، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا تمنعوا إماء اللّه مساجدَ اللّه، وليخرجن تَفِلات» والمراد بالتّفلات‏:‏ غير المتطيّبات‏.‏

تطيّب الصّائم

8 - يباح للصّائم أن يتطيّب عند الحنفيّة‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ يجوز التّطيّب للصّائم المعتكف، ويكره للصّائم غير المعتكف‏.‏ قال الدّردير‏:‏ لأنّ المعتكف معه مانع يمنعه ممّا يفسد اعتكافه، وهو لزومه المسجد وبعده عن النّساء‏.‏ وقال الشّافعيّة‏:‏ يسنّ للصّائم ترك شمّ الرّياحين ولمسها‏.‏ والمراد أنواع الطّيب، كالمسك والورد والنّرجس، إذا استعمله نهارا لما فيها من التّرفّه، ويجوز له ذلك ليلا، ولو دامت رائحته في النّهار، كما في المحرم‏.‏ وأمّا الحنابلة، فقالوا‏:‏ يكره للصّائم شمّ ما لا يأمن أن يجذبه نفسه إلى حلقه كسحيق مسك، وكافور، ودهن ونحوها، كبخور عود وعنبر‏.‏

تطيّب المعتكف

9 - يجوز للمعتكف أن يتطيّب نهاراً أو ليلاً بأنواع الطّيب عند جمهور الفقهاء، إلا في رواية عن الإمام أحمد أنّه قال‏:‏ إنّه لا يعجبني أن يتطيّب‏.‏

وذلك لأنّ الاعتكاف عبادة تختصّ مكانا، فكان ترك الطّيب فيه مشروعا كالحجّ‏.‏

واستدلّ القائلون بجواز التّطيّب بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا بَني آدَمَ خُذُوا زِيْنَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ‏}‏‏.‏

التّطيّب في الحجّ

10 - اتّفق الفقهاء على أنّ التّطيّب أثناء الإحرام في البدن أو الثّوب محظور‏.‏ أمّا التّطيّب للإحرام قبل الدّخول فيه فهو مسنون استعدادا للإحرام عند الجمهور، وكرهه مالك لما روي من كراهته عن عمر، وعثمان، وابن عمر رضي الله عنهم، وجماعة من التّابعين‏.‏

ودليل سنّيّة التّطيّب في البدن للإحرام ما روت عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ «كنت أطيّب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم، ولحلّه قبل أن يطوف بالبيت» وعنها رضي الله عنها قالت‏:‏ «كأنّي أنظر إلى وبيص الطّيب في مفارق رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو محرم»‏.‏

والصّحيح عندهم جواز التّطيّب بما يبقى جرمه بعد الإحرام، لصريح حديث عائشة الثّاني‏.‏ وأمّا المالكيّة‏:‏ فحظروا بقاء جرم الطّيب وإن ذهبت رائحته‏.‏

11 - أمّا التّطيّب في الثّوب للإحرام‏:‏ فمنعه الجمهور، وأجازه الشّافعيّة في القول المعتمد‏.‏ فلا يضرّ بقاء الرّائحة الطّيّبة في الثّوب اتّفاقا قياسا للثّوب على البدن‏.‏

لكن نصّوا على أنّه لو نزع ثوب الإحرام أو سقط عنه، فلا يجوز له أن يعود إلى لبسه ما دامت الرّائحة فيه، بل يزيل منه الرّائحة ثمّ يلبسه، وهذا قول سعد بن أبي وقّاص، وابن الزّبير، وعائشة، وأمّ حبيبة رضي الله عنهم، والثّوريّ وغيرهم‏.‏

واحتجّ الشّافعيّة بحديثي عائشة رضي الله عنها السّابقين، وهما صحيحان رواهما البخاريّ ومسلم، وقالوا‏:‏ إنّ الطّيب معنى يراد للاستدامة فلم يمنع الإحرام من استدامته كالنّكاح وسواء فيما ذكر الطّيب الّذي يبقى له جرم بعد الإحرام والّذي لا يبقى، وسواء الرّجل والمرأة الشّابّة والعجوز‏.‏ وذهب الحنفيّة - في الأصحّ - إلى عدم جواز التّطيّب للإحرام في الثّوب، ولا يجوز أن يلبس ثوب إحرام مطيّبا، لأنّه بذلك يكون مستعملا للطّيب في إحرامه باستعمال الثّوب، وهو محظور على المحرم، والفرق‏:‏ أنّ الطّيب في الثّوب منفصل، أمّا في البدن فهو تابع له، وسنّيّة التّطيّب تحصل بتطييب البدن، فأغنى عن تجويزه في الثّوب‏.‏ وذهب المالكيّة‏:‏ إلى أنّه إن تطيّب قبل الإحرام يجب عليه إزالته عند الإحرام، سواء كان ذلك في بدنه أو ثوبه، فإن بقي في البدن أو الثّوب بعد الإحرام شيء من جرم الطّيب - الّذي تطيّب به قبل الإحرام - وجبت عليه الفدية، وأمّا إذا كان في الثّوب رائحته، فلا يجب نزع الثّوب لكن يكره استدامته ولا فدية‏.‏

وأمّا اللّون‏:‏ ففيه قولان عند المالكيّة، وهذا كلّه في اليسير، وأمّا الأثر الكثير ففيه الفدية، واستدلّ المالكيّة بحديث يعلى بن أميّة رضي الله عنه قال‏:‏ «أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم رجل متضمّخ بطيب وعليه جبّة فقال‏:‏ يا رسول اللّه، كيف ترى في رجل أحرم بعمرة في جبّة، بعدما تضمّخ بطيب‏؟‏ فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ أمّا الطّيب الّذي بك فاغسله ثلاث مرّات، وأمّا الجبّة فانزعها، ثمّ اصنع في عمرتك ما تصنع في حجّك»‏.‏ فاستدلّوا بهذا الحديث على حظر الطّيب على المحرم في البدن والثّوب‏.‏

ويقول ابن قدامة‏:‏ إن طيّب ثوبه فله استدامة لبسه ما لم ينزعه، فإن نزعه لم يكن له أن يلبسه، فإن لبسه افتدى، لأنّ الإحرام يمنع ابتداء الطّيب ولبس المطيّب دون الاستدامة‏.‏ وكذلك إن نقل الطّيب من موضع بدنه إلى موضع آخر افتدى، لأنّه تطيّب في إحرامه، وكذا إن تعمّد مسّه أو نحّاه من موضعه ثمّ ردّه إليه، فأمّا إن عرق الطّيب أو ذاب بالشّمس فسال من موضعه إلى موضع آخر، فلا شيء عليه، لأنّه ليس من فعله‏.‏

قالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ «كنّا نخرج مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى مكّة فنضمّد جباهنا بالمسك المطيّب عند الإحرام، فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها، فيراها النّبيّ صلى الله عليه وسلم فلا ينهانا»‏.‏

12 - وأمّا التّطيّب بعد الإحرام، فإنّه يحظر على المحرم استعماله في ثيابه وبدنه، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال ولا تلبسوا من الثّياب ما مسّه وَرْس أو زعفران» ولما ورد أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم «قال في شأن المحرم الّذي وَقَصَتْه راحلته لا تمسّوه بطيب»، وفي لفظ «لا تحنّطوه» ووجهه‏:‏ أنّه لمّا منع الميّت من الطّيب لإحرامه، فالحيّ أولى‏.‏ ومتى تطيّب وجبت عليه الفدية، لأنّه استعمل ما حرّمه الإحرام ولو للتّداوي، ولقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «المحرم‏:‏ الأشعث الأغبر»‏.‏ والطّيب ينافي الشّعث‏.‏ ويجب الفداء عند المالكيّة، والشّافعيّة، والحنابلة، لأيّ تطيّب ممّا هو محظور، دون تقييد بأن يطيّب عضواً كاملاً أو مقداراً من الثّوب معيّناً‏.‏

وإنّما وجبت الفدية قياساً على الحلق، لأنّه منصوص عليه في القرآن في قوله تعالى‏:‏

‏{‏وَلا تَحْلِقُوا رُءوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الهَديُ مَحِلَّه، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضَاً أَو بِه أَذَىً مِنْ رَأْسِه فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أو صَدَقَةٍ أَو نُسُكٍ‏}‏‏.‏ ولما ورد عن كعب بن عجرة رضي الله عنه «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال له، حين رأى هوامّ رأسه‏:‏ أيؤذيك هوامّ رأسك‏؟‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ نعم قال‏:‏ فاحلق، وصم ثلاثة أيّام، أو أطعم ستّة مساكين، أو انسك نسيكة»‏.‏

وفرّق الحنفيّة بين تطيّب وتطيّب، فقالوا‏:‏ تجب شاة إن طيّب المحرم عضوا كاملا، مثل الرّأس واليد والسّاق، أو ما بلغ عضوا كاملا لو جمع‏.‏ والبدن كلّه كعضو واحد إن اتّحد المجلس، وإن تفرّق المجلس فلكلّ طيب كفّارة إن شمل عضوا واحدا أو أكثر، سواء كفّر للأوّل أم لا، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف‏.‏ وقال محمّد‏:‏ عليه كفّارة واحدة، ولو فدى ولم يزل الطّيب لزمه فدية أخرى، لأنّ ابتداءه كان محظوراً، فيكون لبقائه حكم ابتدائه‏.‏ ووجه وجوب الشّاة‏:‏ أنّ الجناية تتكامل بتكامل الارتفاق، وذلك في العضو الكامل فيترتّب كمال الموجب‏.‏ وإن طيّب أقلّ من عضو‏:‏ فعليه أن يتصدّق بنصف صاع من برّ، لقصور الجناية إلا أن يكون الطّيب كثيرا، فعليه دم‏.‏ وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف‏.‏

وقال محمّد‏:‏ يُقَوَّم ما يجب فيه الدّم فيتصدّق بذلك القدر، حتّى لو طيّب ربع عضو فعليه من الصّدقة قدر ربع شاة، وهكذا، لأنّ تطييب عضو كامل ارتفاق كامل، فكان جناية كاملة، فيوجب كفّارة كاملة، وتطييب ما دون العضو الكامل ارتفاق قاصر، فيوجب كفّارة قاصرة، إذ الحكم يثبت على قدر السّبب، إلّا أن يكون الطّيب كثيرا فعليه دم، ولم يشترط الحنفيّة استمرار الطّيب لوجوب الجزاء، بل يجب بمجرّد التّطيّب‏.‏

وأمّا تطييب الثّوب فتجب فيه الفدية عند الحنفيّة بشرطين‏:‏

أوّلهما‏:‏ أن يكون كثيرا، وهو ما يصلح أن يغطّي مساحة تزيد على شبر في شبر‏.‏

والثّاني‏:‏ أن يستمرّ نهارا، أو ليلة‏.‏ فإن اختلّ أحد هذين الشّرطين وجبت الصّدقة، وإن اختلّ الشّرطان وجب التّصدّق بقبضة من قمح‏.‏

والأصل في حظر تطييب الثّوب ولبسه بعد الإحرام قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا تلبسوا شيئا من الثّياب مسّه الزّعفران ولا الورس»‏.‏

والمحرم - ذكرا كان أو غيره - ممنوع من استعمال الطّيب في إزاره أو ردائه وجميع ثيابه، وفراشه ونعله، حتّى لو علق بنعله طيب وجب عليه أن يبادر لنزعه، ولا يضع عليه ثوبا مسّه الورس أو الزّعفران أو نحوهما من صبغ له طيب‏.‏

واستعمال الطّيب هو‏:‏ أن يلصق الطّيب ببدنه أو ملبوسه على الوجه المعتاد في ذلك الطّيب، ممّا يقصد منه ريحه غالبا ولو مع غيره، كمسك أو عود، وكافور، وورس، وزعفران، وريحان، وورد، وياسمين، ونرجس، وآس، وسوسن، ومنثور، ونمّام، وغير ما ذكر، ممّا يتطيّب به، ويتّخذ منه الطّيب، أو يظهر فيه هذا الغرض‏.‏

13 - ويكره للمحرم شمّ الطّيب، وهذا عند الحنفيّة والشّافعيّة، وقال المالكيّة‏:‏ يكره شمّ الطّيب مذكّره ومؤنّثه دون مسّ‏.‏ وأمّا الحنابلة‏:‏ فقالوا‏:‏ يحرم تعمّد شمّ الطّيب كالمسك والكافور ونحوهما، ممّا يتطيّب بشمّه كالورد والياسمين‏.‏ فإن فعل المحرم ذلك وجب الفداء عليه، لأنّ الفدية تجب فيما يتّخذ منه، فكذلك في أصله، وعن الإمام أحمد رواية أخرى في الورد‏:‏ لا فدية عليه في شمّه، لأنّه زهر شمّه على جهته، أشبه زهر سائر الشّجر، والأولى تحريمه، لأنّه ينبت للطّيب ويتّخذ منه، أشبه الزّعفران، والعنبر‏.‏

ما يباح من الطّيب وما لا يباح بالنّسبة للمحرم

14 - قال ابن قدامة‏:‏ النّبات الّذي تستطاب رائحته على ثلاثة أضرب‏:‏

أحدها‏:‏ ما لا ينبت للطّيب ولا يتّخذ منه كنبات الصّحراء من الشّيح والقيصوم، والخزامى، والفواكه كلّها، من الأترجّ، والتّفّاح والسّفرجل، وغيره، وما ينبته الآدميّون لغير قصد الطّيب، كالحنّاء، والعصفر، وهذان يباح شمّهما ولا فدية فيهما بلا خلاف، غير أنّه روي عن ابن عمر رضي الله عنهما‏:‏ أنّه كان يكره للمحرم أن يشمّ شيئا من نبات الأرض، من الشّيح والقيصوم وغيرهما، وقد «روي أنّ أزواج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كنّ يحرمن في المعصفرات»‏.‏

الثّاني‏:‏ ما ينبته الآدميّون للطّيب ولا يتّخذ منه طيب، كالرّيحان الفارسيّ والنّرجس، والبرم، وفيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يباح بغير فدية، قاله عثمان بن عفّان، وابن عبّاس رضي الله عنهم، والحسن، ومجاهد، وإسحاق‏.‏ والآخر‏:‏ يحرم شمّه، فإن فعل فعليه الفدية، وهو قول جابر، وابن عمر، والشّافعيّ وأبي ثور، لأنّه يتّخذ للطّيب، فأشبه الورد‏.‏

الثّالث‏:‏ ما ينبت للطّيب، ويتّخذ منه طيب، كالورد، والبنفسج، والخيريّ وهذا إذا استعمله المحرم وشمّه ففيه الفدية، لأنّ الفدية تجب فيما يتّخذ منه، فكذلك في أصله‏.‏

وإن مسّ المحرم من الطّيب ما يعلق ببدنه، كالغالية وماء الورد، والمسك المسحوق الّذي يعلق بأصابعه، فعليه الفدية، لأنّه مستعمل للطّيب‏.‏ وإن مسّ ما لا يعلق بيده، كالمسك غير المسحوق، وقطع الكافور، والعنبر، فلا فدية، لأنّه غير مستعمل للطّيب‏.‏

فإن شمّه فعليه الفدية لأنّه يستعمل هكذا، وإن شمّ العود - أي خشب العود - فلا فدية عليه، لأنّه لا يتطيّب به

تطيّب المحرم ناسياً أو جاهلاً

15 - إن تطيّب المحرم ناسياً فلا فدية عليه عند الشّافعيّة والحنابلة، في المشهور عندهم، وهو مذهب عطاء، والثّوريّ، وإسحاق، وابن المنذر، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم «إنّ اللّه وضع عن أمّتي الخطأ والنّسيان وما استكرهوا عليه»‏.‏

وإن أخّر ذلك عن زمن الإمكان فعليه الفدية عند الحنابلة، واستدلّ القائلون بعدم وجوب الفدية على النّاسي أيضاً‏:‏ بخبر يعلى بن أميّة رضي الله عنه «أنّ رجلا أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة، وعليه جبّة، وعليه أثر خلوق، أو قال‏:‏ أثر صفرة‏.‏ فقال‏:‏ يا رسول اللّه كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي‏؟‏ قال‏:‏ اخلع عنك الجبّة، واغسل أثر الخلوق عنك‏.‏ أو قال‏:‏ الصّفرة، واصنع في عمرتك كما تصنع في حجّك» فدلّ ذلك على أنّه عذره لجهله، والنّاسي في معناه، وله غسل الطّيب بيده بلا حائل، لعموم أمره صلى الله عليه وسلم بغسله‏.‏ وأمّا الحنفيّة والمالكيّة، وهو الرّواية الثّانية عن أحمد فقالوا‏:‏ يجب دم على المحرم البالغ ولو ناسياً إن طيّب عضواً كاملاً، أو ما يبلغ عضواً لو جمع‏.‏

تطيّب المبتوتة

16 - يحرم على المطلّقة ثلاثاً التّطيّب لوجوب الإحداد عليها، لأنّها معتدّة بائن من نكاح صحيح، وهي كالمتوفّى عنها زوجها، وهذا عند الحنفيّة، وهو قول للشّافعيّة، والحنابلة‏.‏ أمّا المالكيّة فقالوا‏:‏ إنّ التّطيّب لا يحرم إلا على المتوفّى عنها زوجها، ومن في حكمها وهي‏:‏ زوجة المفقود المحكوم بفقده‏.‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالّذِينَ يُتَوَفَّونَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجَاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرَاً‏}‏

والقول الآخر للشّافعيّة والحنابلة‏:‏ لا يحرم التّطيّب، لأنّ الإحداد لا يجب على المطلّقة ثلاثاً، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لا يحلّ لامرأة تؤمن باللّه واليوم الآخر أن تحدّ على ميّت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً» وهذه عدّة الوفاة، فدلّ على أنّ الإحداد يجب فيها فقط‏.‏ والمطلّقة بائناً معتدّة عن غير وفاة، فلم يجب عليها الإحداد كالرّجعيّة، ولأنّ المطلّقة بائناً فارقها زوجها باختيار نفسه وقطع نكاحها، فلا معنى لتكليفها الحزن عليه، فيجوز لها أن تتطيّب‏.‏

وزاد الحنفيّة المطلّقة طلقة واحدة بائنة، وقالوا‏:‏ يلزمها ترك التّطيّب، لأنّه يلزمها الحداد، ولو أمرها المطلّق بتركه، لأنّه حقّ الشّرع‏.‏

تطيّر

التّعريف

1 - التّطيّر في اللّغة‏:‏ التّشاؤم‏.‏ يقال‏:‏ تطيّر بالشّيء، ومن الشّيء‏:‏ تشاءم به‏.‏

والاسم الطِيَرة‏.‏ جاء في فتح الباري‏:‏ التّطيّر، والتّشاؤم شيء واحد‏.‏

والمعنى الاصطلاحيّ لا يختلف عن اللّغويّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الفأل‏:‏

2 - الفَأْل ضدّ الطّيرة، يقال‏:‏ تفاءل الرّجل‏:‏ إذا تيمّن بسماع كلمة طيّبة‏.‏

والفرق بينه وبين الطّيرة‏:‏ أنّ الفأل يستعمل فيما يستحبّ، والتّطيّر فيما يكره غالباً‏.‏

ب - الكهانة‏:‏

3 - الكهانة‏:‏ ادّعاء علم الغيب، والإخبار بما سيحدث في المستقبل مع الإسناد إلى سبب‏.‏

أصل التّطيّر

4 - أصل التّطيّر‏:‏ أنّ العرب كانوا في الجاهليّة إذا خرج أحدهم لأمر قصد إلى عشّ طائر، فيهيّجه، فإذا طار الطّير يمنة تيمّن به، ومضى في الأمر، ويسمّونه ‏"‏ السّانح ‏"‏‏.‏

أمّا إذا طار يسرة تشاءم به، ورجع عمّا عزم عليه، وكانوا يسمّونه ‏"‏ البارح ‏"‏‏.‏ فأبطل الإسلام ذلك ونهى عنه، وأرجع الأمر إلى سنن اللّه الثّابتة، وإلى قدره المحيط، ومشيئته المطلقة، جاء في الأثر الصّحيح‏:‏ «من ردّته الطّيرة من حاجة فقد أشرك» ونحوه كثير‏.‏

حكمه التّكليفيّ

5 - إن اعتقد المكلّف أنّ الّذي شاهده من حال الطّير موجب لما ظنّه، مؤثّر فيه، فقد كفر‏.‏ لما في ذلك من التّشريك في تدبير الأمور‏.‏

أمّا إذا علم أنّ اللّه سبحانه وتعالى هو المتصرّف والمدبّر وحده، ولكنّه في نفسه يجد شيئاً من الخوف من الشّرّ، لأنّ التّجارب عنده قضت أنّ صوتاً من أصوات الطّير، أو حالاً من حالاته يرادفه مكروه، فإن وطّن نفسه على ذلك فقد أساء، وإن استعاذ باللّه من الشّرّ، وسأله الخير ومضى متوكّلا على اللّه، فلا يضرّه ما وجد في نفسه من ذلك، وإلا فيؤاخذ‏.‏ لحديث «معاوية بن حكيم‏.‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول اللّه‏:‏ منّا رجال يتطيّرون‏.‏ قال‏:‏ ذلك شيء يجدونه في صدورهم فلا يصدّنّهم»‏.‏

هذا وقد اتّفق أهل التّوحيد على تحريم التّطيّر، ونفي تأثيره في حدوث الخير أو الشّرّ، لما في ذلك من الإشراك باللّه في تدبير الأمور‏.‏ والنّصوص في النّهي عن ذلك كثيرة، منها‏:‏ حديث‏:‏ «لا عدوى، ولا طيرة ولا هامّة، ولا صفر»‏.‏

أمّا الفأل الحسن فهو جائز، وجاء في الأثر‏:‏ «كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يتفاءل ولا يتطيّر، وكان يحبّ أن يسمع يا راشد يا رجيح»‏.‏

وروي عنه‏:‏ «لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل الصّالح‏:‏ الكلمة الحسنة»‏.‏

والفأل أمل ورجاء للخير من اللّه تعالى عند كلّ سبب ضعيف أو قويّ، بخلاف الطّيرة، فهي سوء ظنّ باللّه، والمؤمن مأمور بحسن الظّنّ باللّه، لخبر قال اللّه تعالى في الحديث القدسيّ‏:‏ «أنا عند ظنّ عبدي بي، إن ظنّ بي خيراً فله، وإن ظنّ شرّاً فله»‏.‏

والتّفصيل في مصطلح ‏(‏شؤم‏)‏‏.‏

تعارض

التّعريف

1 - التّعارض في اللّغة‏:‏ التّقابل‏.‏ أصله من العرض وهو المنع‏.‏ يقال‏:‏ لا تعترض له، أي‏:‏ لا تمنعه باعتراضك أن يبلغ مراده‏.‏ ومنه‏:‏ الاعتراضات عند الأصوليّين والفقهاء الواردة على القياس وغيره من الأدلّة، سمّيت بذلك لأنّها تمنع من التّمسّك بالدّليل ومنه‏:‏ تعارض البيّنات، لأنّ كلّ واحدة تعترض الأخرى وتمنع نفوذها‏.‏

ومنه‏:‏ تعارض الأدلّة عند الأصوليّين، وموطنه في الملحق الأصوليّ‏.‏

والتّعارض اصطلاحاً‏:‏ التّمانع بين الدّليلين مطلقا، بحيث يقتضي أحدهما غير ما يقتضي الآخر‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - التّناقض‏:‏

2 - التّناقض‏:‏ هو التّدافع يقال‏:‏ تناقض الكلامان، أي‏:‏ تدافعا، كأنّ كلّ واحد منهما ينقض الآخر ويدفعه، والمتناقضان لا يجتمعان أبدا ولا يرتفعان‏.‏

أمّا المتعارضان فقد يمكن ارتفاعهما‏.‏

ب - التّنازع‏:‏

3 - التّنازع الاختلاف‏.‏ يقال‏:‏ تنازع القوم، أي‏:‏ اختلفوا ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ‏}‏‏.‏ فالتّنازع أعمّ، لأنّه يشمل الاختلاف في الرّأي وغيره‏.‏

حكم التّعارض

4 - إذا تعارضت البيّنتان، وأمكن الجمع بينهما جمع، وإذا لم يمكن الجمع يصار إلى التّرجيح‏.‏ والتّرجيح‏:‏ تقديم دليل على دليل آخر يعارضه، لاقتران الأوّل بما يقوّيه والتّعارض والتّرجيح يرد عند الأصوليّين والفقهاء‏.‏

فأمّا ما يتعلّق بالأصول فينظر في الملحق الأصوليّ‏.‏

وأمّا استعماله عند الفقهاء فمعظمه في شأن البيّنات، وفيما يلي تفصيل ذلك‏:‏

وجوه التّرجيح في تعارض البيّنات

5 - في كلّ مذهب من المذاهب الفقهيّة وجوه للتّرجيح‏.‏

ذكر الحنفيّة - في باب دعوى الرّجلين - وجوها لترجيح إحدى البيّنتين على الأخرى إذا تعارضتا وتساوتا في القوّة، فقالوا‏:‏ إن كانت العين في يد المدّعى عليه تقدّم بيّنة الخارج على بيّنة ذي اليد في دعوى الملك المطلق - الّذي لم يذكر سببه - إن وقّت أحدهما فقط

- أي ذكر تاريخا - وقال أبو يوسف‏:‏ من وقّت أحقّ بالعين، فإن أرّخا واتّحد المملّك، فالأسبق تاريخا أحقّ بالعين لقوّة بيّنته، ولو اختلف المملّك استويا‏.‏

وإن كانت العين في يد ثالث، وأقام خارجان كلّ بيّنة، وتساوتا، قضي لهما بها مناصفة، وذلك عند أبي حنيفة وصاحبيه‏.‏

وإن كان النّزاع على نكاح امرأة، فأمّا أن تكون المرأة حيّة أو ميّتة، فإن كانت حيّة سقطت البيّنتان لعدم إمكان الجمع بينهما‏.‏

وإن كانت ميّتة ورثاها ميراث زوج واحد، ولو ولدت يثبت نسب الولد منهما‏.‏

وإن كانت العين في أيديهما معا، واستويا في الحجّة والتّاريخ، فالعين بينهما‏.‏

فإن اختلفا في التّاريخ فهي للسّابق‏.‏ ولا عبرة عندهم بكثرة الشّهود ولا بزيادة العدالة - وعند الحنفيّة تفصيلات أخرى تنظر في كتبهم‏.‏

وعند المالكيّة التّرجيح يحصل بوجوه‏:‏

6 - الأوّل‏:‏ بزيادة العدالة في المشهور‏.‏ وروي عن مالك أنّه لا يرجّح بها، وذلك موافق لما قاله الحنفيّة‏.‏ وعلى القول بالتّرجيح بزيادة العدالة فلا بدّ أن يحلف من زادت عدالته، وفي الموّازيّة‏:‏ لا يحلف، ولا يرجّح بكثرة العدد على المشهور كما هو رأي الحنفيّة‏.‏ وروي عن مطرّف وابن الماجشون أنّه يرجّح بكثرة العدد عند تكافؤ البيّنتين في العدالة، إلا أن يكثروا كثرة يكتفى بها فيما يراد من الاستظهار، والآخرون كثيرون جدّاً، فلا تراعى الكثرة حينئذ، وإنّما يقع التّرجيح بمزيّة العدالة دون مزيّة العدد‏.‏ قال ابن عبد السّلام‏:‏ من رجّح بزيادة العدد لم يقل به كيفما اتّفق، وإنّما اعتبره مع قيد العدالة‏.‏

7 - الثّاني‏:‏ يكون التّرجيح أيضاً بقوّة الحجّة فيقدّم الشّاهدان على الشّاهد واليمين‏.‏ وعلى الشّاهد والمرأتين، وذلك إذا استووا في العدالة، قال ذلك أشهب‏.‏ وقال ابن القاسم‏:‏ لا يقدّمان ثمّ رجع لقول أشهب‏.‏ قال ابن القاسم‏:‏ ولو كان الشّاهد أعدل من كلّ واحد منهما حكم به مع اليمين، وقدّم على الشّاهدين‏.‏ وقال ابن الماجشون ومطرّف‏:‏ لا يقدّم ولو كان أعدل أهل زمانه، وهو أقيس، لأنّ بعض أهل المذهب لا يرى اليمين مع الشّاهد‏.‏

8 - الثّالث‏:‏ اشتمال إحدى البيّنتين على زيادة تاريخ متقدّم أو سبب ملك، وهذا يتّفق مع قول الحنفيّة بالأخذ بتاريخ السّابق‏.‏

وذكر القرافيّ أنّه لا يحكم بأعدل البيّنتين عند من رأى ذلك إلّا في الأموال خاصّة‏.‏

وقالوا‏:‏ تقدّم بيّنة الملك على بيّنة الحوز، وإن كان تاريخ الحوز متقدّما، لأنّ الملك أقوى من الحوز‏.‏ وتقدّم البيّنة النّاقلة على البيّنة المستصحبة‏.‏

ومثالها‏:‏ أن تشهد بيّنة أنّ هذه الدّار لزيد بناها منذ مدّة، ولا نعلم أنّها خرجت من ملكه إلى الآن‏.‏ وتشهد البيّنة الأخرى‏:‏ أنّ هذا اشتراها منه بعد ذلك، فالبيّنة النّاقلة علمت، والمستصحبة لم تعلم، فلا تعارض بين الشّهادتين‏.‏

وإذا لم يمكن التّرجيح بين البيّنتين سقطتا، وبقي المتنازع عليه بيد حائزه مع يمينه‏.‏

فإن كان بيد غيرهما، فقيل‏:‏ يبقى بيده‏.‏ وقيل‏:‏ يقسم بين مقيمي البيّنتين، لاتّفاق البيّنتين على سقوط ملك الحائز‏.‏ وإقرار من هو بيده لأحدهما ينزّل منزلة اليد للمقرّ له‏.‏

9 - وعند الشّافعيّة‏:‏ أنّه لو تنازع اثنان عينا، وكانت بيد أحدهما، وأقام كلّ بيّنة، وتساوتا قدّمت بيّنة صاحب اليد‏.‏ ولا تسمع بيّنته إلا بعد بيّنة المدّعي‏.‏

وإن كانت العين في يد ثالث، وأقام كلّ منهما بيّنة سقطت البيّنتان، ويصار إلى التّحليف، فيحلف صاحب اليد لكلّ منهما يميناً‏.‏ وقيل‏:‏ تستعمل البيّنتان وتنزع العين ممّن هي في يده، وتقسم بينهما مناصفة في قول، وفي قول آخر‏:‏ يقرع بينهما فيأخذها من خرجت قرعته، وفي قول‏:‏ يوقف الأمر حتّى يتبيّن أو يصطلحا‏.‏ وسكت في الرّوضة عن ترجيح واحد من الأقوال الثّلاثة‏.‏ وقال القليوبيّ‏:‏ قضيّة كلام جمهور الشّافعيّة ترجيح الثّالث، لأنّه أعدل‏.‏ وإن كانت في أيديهما، وأقاما بيّنتين، بقيت في أيديهما، كما كانت على قول السّقوط‏.‏ وقيل‏:‏ تقسم بينهما على قول القسمة، ولا يجيء الوقف، وفي القرعة قولان‏.‏

ولو أزيلت يده ببيّنة، ثمّ أقام بيّنة بملكه مستندا إلى ما قبل إزالة يده، واعتذر بغيبة شهوده، سمعت وقدّمت، لأنّها إنّما أزيلت لعدم الحجّة، وقد ظهرت، فينقض القضاء‏.‏ وقيل‏:‏ لا، والقضاء على حاله‏.‏ ولو قال الخارج‏:‏ هو ملكي اشتريته منك‏.‏ فقال‏:‏ بل ملكي‏.‏ وأقاما بيّنتين بما قالاه تقدّم بيّنة الخارج، لزيادة علم بيّنته بالانتقال‏.‏

والمذهب أنّ زيادة عدد شهود أحدهما لا ترجّح، لكمال الحجّة في الطّرفين، كما قال الحنفيّة‏.‏ وفي قول من طريق ترجّح، لأنّ القلب إلى الزّائد أميل‏.‏ وكذا لو كان لأحدهما رجلان، للآخر رجل وامرأتان، لا يرجّح الرّجلان‏.‏ وفي قول من طريق يرجّحان، لزيادة الوثوق بقولهما‏.‏ فإن كان للآخر شاهد ويمين يرجّح الشّاهدان في الأظهر، لأنّهما حجّة بالإجماع‏.‏ وفي الشّاهد واليمين خلاف‏.‏ والقول الثّاني‏:‏ يتعادلان، لأنّ كلّا منهما حجّة كافية‏.‏ ولو شهدت بيّنة لأحدهما بملك من سنة، وبيّنة للآخر بملك من أكثر من سنة إلى الآن كسنتين، والعين في يد غيرهما، فالأظهر ترجيح الأكثر، لأنّ الأخرى لا تعارضها فيه‏.‏ والرّأي الثّاني عند الشّافعيّة‏:‏ أنّه لا ترجيح به، لأنّ مناط الشّهادة الملك في الحال، وقد استويا فيه، ولصاحب بيّنة الأكثر - على القول بترجيحها - الأجرة، والزّيادة الحادثة من يوم الحكم‏.‏ وعلى القول الثّاني‏:‏ تقسم بينهما، أو يقرع، أو يوقف حتّى يبيّن أو يصطلحا حسب الأقوال الثّلاثة‏.‏ ولو أطلقت بيّنة، وأرّخت بيّنة، فالمذهب أنّهما سواء، وهو المعتمد، سواء كان المدّعى به بيدهما أو بيد غيرهما، أو لا بيد واحد منهما‏.‏ وقيل - كما في أصل الرّوضة - تقدّم البيّنة المؤرّخة، لأنّها تقتضي الملك قبل الحال، بخلاف المطلقة‏.‏ ولو شهدت بيّنة أحدهما بالحقّ، وبيّنة الآخر بالإبراء قدّمت بيّنة الإبراء‏.‏

هذا ومحلّ الاستواء في هذه المسألة - على ما ذكره القليوبيّ - ما لم يوجد مرجّح‏.‏ فإن وجد المرجّح ككونه بيد أحدهما، أو كانت بيّنته غير شاهد ويمين، أو أسندت بيّنته لسبب‏:‏ كأن شهدت بأنّه نتج في ملكه، أو ثمر فيه، أو حمل فيه، أو ورثه من أبيه فتقدّم بيّنته‏.‏

10 - وعند الحنابلة‏:‏ أنّ من ادّعى شيئا بيد غيره فأنكره، ولكلّ واحد منهما بيّنة، فقد اختلفت الرّواية عن أحمد فيما إذا تعارضتا‏:‏ فالمشهور عنه تقديم بيّنة المدّعي، ولا يلتفت إلى بيّنة المدّعى عليه بحال، وهذا قول إسحاق، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «البيّنة على المدّعي، واليمين على المدّعى عليه» فأمرنا بسماع بيّنة المدّعي ويمين المدّعى عليه، وسواء شهدت بيّنة المدّعى عليه أنّها له، أو قالت‏:‏ ولدت في ملكه عليه‏.‏ وعن أحمد رواية ثانية‏:‏ إن شهدت بيّنة الدّاخل - أي صاحب اليد وهو المدّعى عليه - بسبب الملك، وقالت مثلاً‏:‏ إنّ الدّابّة المتنازع عليها نتجت في ملكه أو اشتراها، أو كانت بيّنته أقدم تاريخا قدّمت بيّنته، وإلا قدّمت بيّنة المدّعي، لأنّ ‏(‏بيّنة الدّاخل‏)‏ أفادت بذكر السّبب ما لا تفيده اليد‏.‏ واستدلّ لتقديم بيّنة الدّاخل‏:‏ بما روى جابر بن عبد اللّه رضي الله عنهما‏:‏ «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم اختصم إليه رجلان في دابّة أو بعير، فأقام كلّ واحد منهما البيّنة بأنّها له نتجها، فقضى بها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم للّذي هي في يده»‏.‏ وذكر أبو الخطّاب رواية ثالثة‏:‏ أنّ بيّنة المدّعى عليه تقدّم بكلّ حال، وهو قول شريح وأهل الشّام والشّعبيّ والحكم وأبي عبيد‏.‏ وقال‏:‏ هو قول أهل المدينة، وروي عن طاوس‏.‏ وأنكر القاضي كون هذا رواية عن أحمد، وقال‏:‏ لا تقبل بيّنة الدّاخل إذا لم تفد إلا ما أفادته يده، رواية واحدة‏.‏ واحتجّ من ذهب إلى هذا القول بأنّ جهة المدّعى عليه أقوى، لأنّ الأصل معه، ويمينه تقدّم على يمين المدّعي‏.‏

فإذا تعارضت البيّنتان‏:‏ وجب إبقاء يده على ما فيها، وتقديمه، كما لو لم تكن بيّنة لواحد منهما‏.‏ وحديث جابر يدلّ على هذا، فإنّه إنّما قدّمت بيّنته ليده‏.‏

11 - واستدلّ لتقديم بيّنة المدّعي بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «البيّنة على المدّعي، واليمين على المدّعى عليه» فجعل جنس البيّنة في جهة المدّعي، فلا يبقى في جهة المدّعى عليه بيّنة‏.‏ ولأنّ بيّنة المدّعي أكثر فائدة فوجب تقديمها كتقديم بيّنة الجرح على بيّنة التّعديل‏.‏ ودليل كثرة فائدتها‏:‏ أنّها تثبت شيئاً لم يكن‏.‏

وبيّنة المنكر إنّما تثبت ظاهرا تدلّ اليد عليه، فلم تكن مفيدة، ولأنّ الشّهادة بالملك يجوز أن يكون مستندها رؤية اليد والتّصرّف، فإنّ ذلك جائز عند كثير من أهل العلم، فصارت البيّنة بمنزل اليد المجرّدة، فتقدّم عليها بيّنة المدّعي، كما تقدّم على اليد، كما أنّ شاهدي الفرع لمّا كانا مبنيّين على شاهدي الأصل، لم تكن لهما مزيّة عليهما‏.‏

وإذا كان في يد رجل شاة، فادّعى رجل أنّها له منذ سنة، وأقام بذلك بيّنة‏.‏ وادّعى الّذي هي في يده أنّها في يده منذ سنين، وأقام لذلك بيّنة، فهي للمدّعي بغير خلاف، لأنّ بيّنته تشهد له بالملك، وبيّنة الدّاخل تشهد له باليد خاصّة، فلا تعارض بينهما، لإمكان الجمع بينهما بأن تكون اليد على غير ملك، فكانت بيّنة الملك أولى‏.‏ فإن شهدت بيّنة بأنّها ملكه منذ سنتين، فقد تعارض ترجيحان‏:‏ فقدّم التّاريخ من جهة بيّنة الدّاخل، وكون الأخرى بيّنة الخارج ففيه روايتان‏:‏ إحداهما تقدّم بيّنة الخارج، وهو قول صاحبي أبي حنيفة، وأبي ثور‏.‏ والثّانية‏:‏ تقدّم بيّنة الدّاخل، وهو قول أبي حنيفة، والشّافعيّ، لأنّها تضمّنت زيادة‏.‏

تعارض الأدلّة في حقوق اللّه تعالى

12 - المقرّر شرعا‏:‏ أنّ الحدود الّتي هي حقّ اللّه تعالى تسقط بالشّبهات، فإذا أقيمت بيّنة تامّة على فعل كالزّنى مثلاً، وعارضتها بيّنة ولو أقلّ منها بعدم الفعل قدّمت، وذلك استناداً إلى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ادرءوا الحدود بالشّبهات ما استطعتم» بل قال الحنفيّة‏:‏ لو أقيمت عليه بيّنة بما يوجب الحدّ، وادّعى شبهة من غير بيّنة، سقط الحدّ‏.‏

وللمالكيّة تفصيل، قالوا‏:‏ إذا شهدت بيّنة بأنّه زنى عاقلاً، وشهدت الأخرى بأنّه كان مجنونا‏:‏ إن كان القيام عليه - أي الادّعاء - وهو عاقل، قدّمت بيّنة العقل‏.‏

وإن كان القيام عليه وهو مجنون، قدّمت بيّنة الجنون، فاعتبروا شهادة الحال في التّرجيح‏.‏

وقال ابن اللّبّاد‏:‏ يعتبر وقت الرّؤية لا وقت القيام، فلم يعتبر ظاهر الحال‏.‏

ونقل عن ابن القاسم‏:‏ إثبات الزّيادة، فإذا شهدت إحداهما‏:‏ بالقتل أو السّرقة أو الزّنى، وشهدت الأخرى‏:‏ أنّه كان في مكان بعيد أنّه تقدّم بيّنة القتل ونحوه، لأنّها مثبتة زيادة، ولا يدرأ عنه الحدّ‏.‏ قال سحنون‏:‏ إلا أن يشهد الجمع العظيم - كالحجيج ونحوهم - أنّه كان معهم في الوقوف بعرفة، أو صلّى بهم العيد في ذلك اليوم، لأنّ هؤلاء لا يشتبه عليهم أمره، بخلاف الشّاهدين‏.‏

تعارض تعديل الشّهود وتجريحهم

13 - اعتبار العدالة في الشّاهد حقّ للّه تعالى، ولهذا لو رضي الخصم بأن يحكم عليه بقول فاسق لم يجز الحكم به‏.‏ والعدالة أو التّجريح لا يثبت كلّ منهما إلا بشهادة رجلين، خلافا لأبي حنيفة، وأبي يوسف، فيثبت كلّ من التّعديل والتّجريح عندهما بشهادة واحد‏.‏ وسبب الخلاف هل هما شهادة أو إخبار‏؟‏ فعند الجمهور‏:‏ شهادة، وعند أبي حنيفة وأبي يوسف‏:‏ إخبار، فيكفي الواحد في تزكية السّرّ، ونصاب الشّهادة في تزكية العلانية‏.‏

فلو عدّل الشّاهد اثنان، وجرّحه اثنان، فالجرح أولى عند الحنفيّة، والشّافعيّة والحنابلة، وهو قول عند المالكيّة، واستدلّوا‏:‏ بأنّ الجارح معه زيادة علم خفيت على المعدّل، فوجب تقديمه، لأنّ التّعديل يتضمّن ترك الرّيب والمحارم، والجارح مثبت لوجود ذلك، والإثبات مقدّم على النّفي، ولأنّ الجارح يقول‏:‏ رأيته يفعل كذا، والمعدّل مستنده أنّه لم يره يفعل، ويمكن صدقهما، والجمع بين قوليهما‏:‏ بأن يراه الجارح يفعل المعصية، ولا يراه المعدّل، فيكون مجروحا‏.‏ وعند الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ أنّه لا بدّ في الجرح من ذكر السّبب، ولم يشترطوا ذلك في التّعديل‏.‏ وعند الحنفيّة‏:‏ أنّ المزكّي يقول في الشّاهد المجروح ‏"‏ واللّه أعلم ‏"‏ ولا يزيد على هذا، لأنّ في ذكر فسقه هتك عرضه، وقد أمرنا بالسّتر على المسلم‏.‏ وهذا كلّه إذا لم يعلم القاضي حال الشّهود، إذ إنّه إذا كان يعلم حكم بمقتضى علمه‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ لو عدّله شاهدان رجلان وجرّحه آخران، ففي ذلك قولان، قيل‏:‏ يقضى بأعدلهما، لاستحالة الجمع بينهما، وقيل‏:‏ يقضى بشهادة الجرح، لأنّ شهود الجرح زادوا على شهود التّعديل، إذ الجرح يَبْطُن، فلا يطّلع عليه كلّ النّاس، بخلاف العدالة‏.‏

وللّخميّ تفصيل، قال‏:‏ إن كان اختلاف البيّنتين في فعل شيء في مجلس واحد، كدعوى إحدى البيّنتين‏:‏ أنّه فعل كذا، في وقت كذا، وقالت البيّنة الأخرى‏:‏ لم يكن ذلك، فإنّه يقضى بأعدلهما‏.‏

وإن كان ذلك في مجلسين متقاربين قضي بشهادة الجرح، لأنّها زادت علما في الباطن‏.‏

وإن تباعد ما بين المجلسين قضي بآخرهما تاريخا، ويحمل على أنّه كان عدلا ففسق، أو فاسقا فتزكّى، إلا أن يكون في وقت تقييد الجرح ظاهر العدالة، فبيّنة الجرح مقدّمة، لأنّها زادت‏.‏

تعارض احتمال بقاء الإسلام وحدوث الرّدّة

14 - فقهاء المذاهب لم يجمعوا على حكم واحد في هذا الموضوع‏.‏ وأكثر المذاهب توسّعاً فيه مذهب الحنفيّة‏:‏ إذ قالوا‏:‏ لا يخرج الرّجل من الإيمان إلّا جحود ما أدخله فيه، ثمّ ما تيقّن أنّه ردّة يحكم بها، وما يشكّ أنّه ردّة لا يحكم بها، إذ الإسلام الثّابت لا يزول بالشّكّ، والإسلام يعلو‏.‏ وينبغي للعالم إذا رفع إليه هذا ألا يبادر بتكفير أهل الإسلام، مع أنّه يتساهل في إثبات الإسلام، فيقضى بصحّة إسلام المكره‏.‏ ونقل ابن عابدين عن صاحب الفتاوى الصّغرى قوله‏:‏ الكفر شيء عظيم، فلا أجعل المؤمن كافرا متى وجدت رواية أنّه لا يكفر‏.‏ وفي كتب الحنفيّة‏:‏ إذا كان في المسألة وجوه توجب التّكفير، ووجه واحد يمنعه، فعلى المفتي أن يميل إلى الوجه الّذي يمنع التّكفير، تحسينا للظّنّ بالمسلم، إلا إذا صرّح بإرادة موجب الكفر، فلا ينفعه التّأويل‏.‏

ولا يكفر بالمحتمل، لأنّ عقوبة الكفر نهاية في العقوبة، تستدعي نهاية في الجناية، ومع الاحتمال لا نهاية في الجناية، والّذي تقرّر‏:‏ أنّه لا يفتى بكفر مسلم أمكن حمل كلامه على محمل حسن، أو كان في كفره اختلاف، ولو رواية ضعيفة‏.‏

15 - وفقهاء المذاهب الأخرى يقولون أيضاً‏:‏ إذا قام دليل أو قرينة تقتضي عدم القتل قدّمت‏.‏ قالوا‏:‏ ولو أسلم ثمّ ارتدّ عن قرب، وقال‏:‏ أسلمت عن ضيق أو خوف أو غرم، وظهر عذره، ففي قبول عذره قولان عند المالكيّة‏.‏

هذا، وقد أورد الفقهاء قواعد عامّة في التّعارض، وهي إن كانت أقرب إلى الأصول منها إلى الفقه، إلا أنّه رتّبت عليها مسائل فقهيّة يسوّغ ذكرها هنا‏.‏

تعارض الأحكام التّكليفيّة في الفعل الواحد

16 - من القواعد الّتي أوردها الزّركشيّ‏:‏ أنّه لو تعارض الحظر والإباحة في فعل واحد يقدّم الحظر‏.‏ ومن ثمّ لو تولّد الحيوان من مأكول وغيره، حرم أكله، وإذا ذبحه المحرم وجب الجزاء تغليبا للتّحريم‏.‏

ومنها‏:‏ لو تعارض الواجب والمحظور، يقدّم الواجب، كما إذا اختلط موتى المسلمين بموتى الكفّار، وجب غسل الجميع، والصّلاة عليهم‏.‏ وكذلك اختلاط الشّهداء بغيرهم‏.‏ وإن كان الشّهيد لا يغسّل، ولا يصلّى عليه، إلّا أنّه ينوى الصّلاة عليه إن لم يكن شهيداً‏.‏ ولو أسلمت المرأة وجب عليها الهجرة إلى دار الإسلام، ولو سافرت وحدها، وإن كان سفرها وحدها في الأصل حراماً‏.‏

ويعذر المصلّي في التّنحنح إذا تعذّرت عليه القراءة الواجبة‏.‏

17 - ومن القواعد‏:‏ ما لو تعارض واجبان، قدّم آكدهما، فيقدّم فرض العين على فرض الكفاية‏.‏ فالطّائف حول الكعبة لا يقطع الطّواف لصلاة الجنازة‏.‏

ولو اجتمعت جنازة وجمعة وضاق الوقت، قدّمت الجمعة‏.‏ ومن هذا ليس للوالدين منع الولد من حجّة الإسلام على الصّحيح، بخلاف الجهاد، فإنّه لا يجوز إلا برضاهما، لأنّ برّهما فرض عين، والجهاد فرض كفاية، وفرض العين مقدّم‏.‏

18 - ولو تعارضت فضيلتان، يقدّم أفضلهما، فلو تعارض البكور إلى الجمعة بلا غسل وتأخيره مع الغسل، فالظّاهر‏:‏ أنّ تحصيل الغسل أولى للخلاف في وجوبه‏.‏ وهذا كلّه مذهب الشّافعيّة‏.‏

19 - ومن فروع قاعدة تعارض الحظر والإباحة‏:‏ ما إذا تعارض دليلان أحدهما يقتضي التّحريم، والآخر الإباحة، قدّم التّحريم‏.‏

وعلّله الأصوليّون بتقديم النّسخ، لأنّه لو قدّم المبيح للزم تكرار النّسخ، لأنّ الأصل في الأشياء الإباحة، فلو جعل المبيح متأخّرا كان المحرّم ناسخاً للإباحة الأصليّة، ثمّ يصير منسوخا بالمبيح، ولو جعل المحرّم متأخّرا كان ناسخا للمبيح، وهو لم ينسخ شيئاً لكونه على وفق الأصل، ولذلك قال عثمان رضي الله عنه - لمّا سئل عن الجمع بين الأختين بملك اليمين - أحلّتهما آية وحرّمتهما آية، والتّحريم أحبّ إلينا‏.‏ قالوا‏:‏ وإنّما كان التّحريم أحبّ لأنّ فيه ترك مباح، لا اجتناب محرّم، وذلك أولى من عكسه‏.‏

20 - ومن أقسام التّعارض‏:‏ أن يتعارض أصلان، فإذا وقع ذلك يعمل بالأرجح منهما، لاعتضاده بما يرجّحه‏.‏ ومن صوره‏:‏ ما إذا جاء بعض العسكر بمشرك، فادّعى المشرك‏:‏ أنّ المسلم أمّنه، وأنكر، ففيه روايتان‏:‏

إحداهما‏:‏ القول قول المسلم في إنكار الأمان، لأنّ الأصل عدم الأمان‏.‏ والثّانية‏:‏ القول قول المشرك، لأنّ الأصل في الدّماء الحظر إلّا بيقين الإباحة، وقد وقع الشّكّ هنا فيها‏.‏ وفيه رواية ثالثة‏:‏ أنّ القول قول من يدلّ الحال على صدقه منهما، ترجيحا لأحد الأصلين بالظّاهر الموافق له‏.‏ ولو تعارض الحنث والبرّ في يمين، قدّم الحنث على البرّ، فمن حلف على الإقدام على فعل شيء أو وجوده فهو على حنث، حتّى يقع الفعل فيبرّ‏.‏

والحنث يدخل عند المالكيّة بأقلّ الوجوه، والبرّ لا يكون إلا بأكمل الوجوه، فمن حلف أن يأكل رغيفاً لم يبرّ إلا بأكل الرّغيف كلّه، وإن حلف ألا يأكله حنث بأكل بعضه‏.‏

قال الغزاليّ في المستصفى‏:‏ وقد ذهب قوم‏:‏ إلى أنّ الخاصّ والعامّ يتعارضان ويتدافعان، فيجوز أن يكون الخاصّ سابقاً، وقد ورد العامّ بعده لإرادة العموم، فنسخ الخاصّ‏.‏ ويجوز أن يكون العامّ سابقاً وقد أريد به العموم، ثمّ نسخ باللّفظ الخاصّ بعده‏.‏ فعموم الرّقبة مثلاً يقتضي إجزاء الكافرة مهما أريد به العموم، والتّقييد بالمؤمنة يقتضي منع إجزاء الكافرة، فهما متعارضان‏.‏ وإذا أمكن النّسخ والبيان جميعا فَلِمَ يُتحكّم بحمله على البيان دون النّسخ‏؟‏ ولمَ يقطع بالحكم على العامّ بالخاصّ‏؟‏ ولعلّ العامّ هو المتأخّر الّذي أريد به العموم، وينسخ به الخاصّ، وهذا هو الّذي اختاره القاضي، والأصحّ عندنا‏:‏ تقديم الخاصّ وإن كان ما ذكره القاضي ممكنا، ولكنّ تقدير النّسخ محتاج إلى الحكم بدخول الكافرة تحت اللّفظ، ثمّ خروجه عنه، فهو إثبات وضع، ورفع بالتّوهّم، وإرادة الخاصّ باللّفظ العامّ غالب معتاد، بل هو الأكثر، والنّسخ كالنّادر، فلا سبيل إلى تقديره بالتّوهّم، ويكاد يشهد لما ذكرناه من سير الصّحابة والتّابعين كثير، فإنّهم كانوا يسارعون إلى الحكم بالخاصّ على العامّ، وما اشتغلوا بطلب التّاريخ والتّقدّم والتّأخّر‏.‏

وقيل على الشّذوذ‏:‏ إنّه يخصّص من طريق المفهوم، فإنّ الرّجال يقتضي مفهومه قتل غيرهم، فإذا لم يتنافيا، وكان لأحدهما مناسبة تخصّه في متعلّقه - كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حُرِّمَتْ عَلَيكُمْ المَيْتَةُ‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تَقْتُلُوا الصًّيدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ‏}‏ - فيضطرّ المحرم إلى أكل الميتة أو الصّيد، فعند مالك‏:‏ يأكل الميتة ويترك الصّيد، لأنّ كليهما - وإن كان محرّما - إلّا أنّ تحريم الصّيد له مناسبة بالإحرام، ومفسدته الّتي اعتمدها النّهي إنّما هي في الإحرام، وأمّا مفسدة أكل الميتة فذلك أمر عامّ، لا تعلّق له بخصوص الإحرام، والمناسب إذا كان لأمر عامّ - وهو كونها ميتة - لا يكون بينه وبين خصوص الإحرام منافاة ولا تعلّق، والمنافي الأخصّ أولى بالاجتناب‏.‏

ومن هذا القبيل‏:‏ إذا لم يجد المصلّي ثوباً يستره إلا حريراً أو نجساً فإنّه يصلّي في الحرير ويترك النّجس، لأنّ مفسدة النّجاسة خاصّة بالصّلاة، بخلاف مفسدة الحرير لا تعلّق لها بخصوص الصّلاة، ولا منافاة بينهما‏.‏

وهناك فروع كثيرة أخرى تترتّب على هذه القاعدة، يرجع إليها في الأصول وأبواب الفقه‏.‏

تعارض الأصل والظّاهر

21 - المراد بالأصل‏:‏ بقاء ما كان على ما كان، والظّاهر‏:‏ ما يترجّح وقوعه‏.‏

فالأصل براءة الذّمّة، ولذا لم يقبل في شغلها شاهد واحد، ولذا كان القول قول المدّعى عليه لموافقته الأصل، والبيّنة على المدّعي، لدعواه ما خالف الأصل، فإذا اختلفا في قيمة المتلف والمغصوب - فالقول قول الغارم، لأنّ الأصل البراءة عمّا زاد عن قوله، ولو أقرّ بشيء أو حقّ قبل تفسيره بما له قيمة، فالقول للمقرّ مع يمينه‏.‏

وهذه القاعدة مذهب الحنفيّة‏.‏ والحكم كذلك عند المالكيّة‏.‏

والشّافعيّة والحنابلة‏:‏ الحكم عندهم كذلك في تقديم الظّاهر الثّابت بالبيّنة‏.‏

وللشّافعيّة تفصيل في غير الثّابت بالبيّنة، إذ قالوا‏:‏ إنّ الأصل يرجّح جزما‏.‏

وضابطه‏:‏ أن يعارضه احتمال مجرّد‏.‏ وما يرجّح فيه الظّاهر جزما، وضابطه‏:‏ أن يستند إلى سبب منصوب شرعا، كالشّهادة تعارض الأصل، والرّواية، واليد في الدّعوى‏.‏ وإخبار الثّقة بدخول الوقت‏.‏ وما يرجّح فيه الأصل على الظّاهر في الأصحّ، وضابطه‏:‏ أن يستند الاحتمال إلى سبب ضعيف، ومثله الشّيء الّذي لا يتيقّن بنجاسته، ولكنّ الغالب فيه النّجاسة كثياب مدمن الخمر، والقصّابين، والكفّار، وأوانيهم‏.‏

وما يترجّح فيه الظّاهر على الأصل، بأن كان سببا قويّاً منضبطاً، كمن شكّ بعد الصّلاة أو غيرها من العبادات في ترك ركن غير النّيّة فالمشهور لا يؤثّر‏.‏

والحنابلة يقدّمون كغيرهم الظّاهر، الّذي هو حجّة يجب قبولها شرعاً، كالشّهادة على الأصل، وإن لم يكن كذلك، بأن كان مستندا إلى العرف أو العادة الغالبة أو القرائن أو غلبة الظّنّ ونحو ذلك، فتارة يعمل بالأصل ولا يلتفت إلى الظّاهر، وتارة يعمل بالظّاهر ولا يلتفت إلى الأصل، وتارة يخرج في المسألة خلاف، فهذه أربعة أقسام‏:‏

- 1 - ما ترك فيه العمل بالأصل للحجّة الشّرعيّة، وهي قول من يجب العمل بقوله، كشهادة عدلين بشغل ذمّة المدّعى عليه، وهذه محلّ إجماع بين الفقهاء كما تقدّم‏.‏

- 2 - ما عمل فيه بالأصل، ولم يلتفت إلى القرائن الظّاهرة ونحوها‏.‏ وذلك كما إذا ادّعت زوجة بعد طول مقامها مع الزّوج‏:‏ أنّها لم تصلها منه النّفقة الواجبة، فإنّ القول قولها مع يمينها عند الأصحاب، لأنّ الأصل معها، مع أنّ العادة تبعد ذلك جدّاً، واختار الشّيخ تقيّ الدّين بن تيميّة الرّجوع إلى العادة، وخرّجه وجها من المسائل المختلف فيها‏.‏

- 3 - ما عمل فيه بالظّاهر ولم يلتفت إلى الأصل، كما إذا شكّ بعد الفراغ من الصّلاة أو غيرها من العبادات في ترك ركن منها، فإنّه لا يلتفت إلى الشّكّ، وإن كان الأصل عدم الإتيان به وعدم براءة الذّمّة، لكنّ الظّاهر من فعل المكلّفين للعبادات‏:‏ أن تقع على وجه الكمال، فيرجّح هذا الظّاهر على الأصل، ولا فرق في ذلك بين الوضوء وغيره في المنصوص عن الإمام أحمد‏.‏

- 4 - ما خرج فيه خلاف في ترجيح الظّاهر على الأصل وبالعكس، ويكون ذلك غالباً عند تقادم الظّاهر والأصل وتساويهما، ومن صوره‏:‏ طهارة طين الشّوارع، نصّ عليه الإمام أحمد في مواضع، ترجيحا للأصل، وهو الطّهارة في الأعيان كلّها‏.‏

وفي رواية له ثانية‏:‏ أنّه نجس ترجيحاً للظّاهر، وجعله صاحب التّلخيص المذهب‏.‏

تعارض العبارة اللّفظ والإشارة الحسّيّة

22 - قال المالكيّة والحنابلة‏:‏ إنّ العبارة تقدّم على الإشارة، واستدلّوا بما أورده ابن حجر في شرح حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم «أمرت أن أسجد على سبعة أعظم‏:‏ على الجبهة وأشار بيده على أنفه‏.‏‏.‏‏.‏» إلخ‏.‏

وأحال شرح الحديث على ما قاله في الرّواية الأخرى عن ابن عبّاس «ووضع يده على جبهته وأمرّها على أنفه، وقال‏:‏ هذا واحد» فهذه رواية مفسّرة‏.‏

قال القرطبيّ‏:‏ هذا يدلّ على أنّ الجبهة الأصل، والسّجود على الأنف تبع‏.‏

وقال ابن دقيق العيد‏:‏ قيل‏:‏ معناه أنّهما جعلا كعضو واحد، وإلا لكانت الأعضاء ثمانية‏.‏ قال‏:‏ وفيه نظر، لأنّه لا يلزم منه أن يكتفى بالسّجود على الأنف‏.‏ قال‏:‏ والحقّ أنّ مثل هذا لا يعارض التّصريح بذكر الجبهة، وإن أمكن أن يعتقد أنّهما كعضو واحد فذاك في التّسمية والعبارة، لا في الحكم الّذي عليه الأمر بالسّجود‏.‏

وأيضاً فإنّ الإشارة قد لا تعيّن المشار إليه، فإنّها إنّما تتعلّق بالجبهة لأجل العبارة، فإذا تقارب ما في الجبهة أمكن أن لا يعيّن المشار إليه تعيينا‏.‏ وأمّا العبارة‏:‏ فإنّها معيّنة لما وصفت له، فتقديمه أولى‏.‏ وما ذكره من الاقتصار على بعض الجبهة قال به كثير من الشّافعيّة، ثمّ قال‏:‏ ونقل ابن المنذر إجماع الصّحابة‏:‏ على أنّه لا يجزئ السّجود على الأنف وحده‏.‏ وذهب الجمهور إلى أنّه يجزئ على الجبهة وحدها‏.‏ وعن الأوزاعيّ وأحمد وإسحاق وابن حبيب من المالكيّة وغيرهم‏:‏ يجب أن يجمعهما، وهو قول الشّافعيّ أيضاً‏.‏ وقال الحنفيّة‏:‏ إذا اجتمعت الإشارة إلى شيء، والعبارة عنه في المهر - فالأصل أنّ المسمّى إذا كان من جنس المشار إليه يتعلّق العقد بالمشار إليه، لأنّ المسمّى موجود في المشار إليه ذاتاً، والوصف يتبعه، وإن كان من خلاف جنسه يتعلّق العقد بالمسمّى، لأنّ المسمّى مثل المشار إليه، وليس بتابع له‏.‏

والتّسمية أبلغ في التّعريف، من حيث إنّها تعرف الماهيّة، والإشارة تعرف الذّات‏.‏

فمن اشترى فصّا على أنّه ياقوت، فإذا هو زجاج لا ينعقد العقد، لاختلاف الجنس‏.‏

ولو اشترى على أنّه ياقوت أحمر فإذا هو أخضر، انعقد العقد لاتّحاد الجنس‏.‏

وقال الشّارحون‏:‏ إنّ هذا الأصل متّفق عليه في النّكاح، والبيع، والإجارة، وسائر العقود، ولكنّ الإمام أبا حنيفة جعل الخلّ والخمر جنسا، فتعلّق بالمشار إليه، فوجب مهر المثل، فيما لو تزوّجها على هذا الدّنّ من الخلّ، وأشار إلى خمر‏.‏

ولو سمّى حراماً، وأشار إلى حلال فلها الحلال في الأصحّ‏.‏

وأمّا في النّكاح فقال في الخانيّة‏:‏ رجل له بنت واحدة اسمها عائشة‏:‏ فقال الأب وقت العقد‏:‏ زوّجت منك بنتي فاطمة، لا ينعقد النّكاح‏.‏ ولو كانت المرأة حاضرة فقال الأب‏:‏ زوّجتك بنتي فاطمة هذه، وأشار إلى عائشة وغلط في اسمها، فقال الزّوج‏:‏ قبلت، جاز‏.‏

23 - وممّا سبق تبيّن أنّ الحنفيّة وحدهم هم الّذين قالوا بإجزاء السّجود على الأنف وحده، تقديما للإشارة على العبارة، وأنّ الجمهور يجزئ عندهم السّجود على الجبهة دون الأنف، وأنّ العبارة عندهم تقدّم على الإشارة لأنّها تعيّن المراد، والإشارة قد لا تعيّنه‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ إذا اجتمعت الإشارة والعبارة، واختلف موجبهما، غلّبت الإشارة‏.‏

فلو قال‏:‏ أصلّي خلف زيد هذا، أو قال‏:‏ أصلّي على زيد هذا، فبان عمرا فالأصحّ الصّحّة‏.‏ ولو قال‏:‏ زوّجتك فلانة هذه، وسمّاها بغير اسمها صحّ قطعا، وحكي فيه وجه‏.‏

ولو قال‏:‏ زوّجتك هذا الغلام، وأشار إلى بنته، نقل الرّويانيّ عن الأصحاب صحّة النّكاح‏.‏ تعويلا على الإشارة‏.‏ وهذا يتّفق ومذهب الحنفيّة‏.‏ ولو قال‏:‏ زوّجتك هذه العربيّة، فكانت أعجميّة‏.‏ أو‏:‏ هذه العجوز، فكانت شابّة‏.‏ أو‏:‏ هذه البيضاء، فكانت سوداء أو عكسه - وكذا المخالفة في جميع وجوه النّسب والصّفات والعلوّ والنّزول - ففي صحّة النّكاح قولان، والأصحّ‏:‏ الصّحّة‏.‏ ولو قال‏:‏ بعتك داري هذه وحدّدها وغلط في حدودها، صحّ البيع‏.‏ بخلاف ما لو قال‏:‏ بعتك الدّار الّتي في المحلّة الفلانيّة وحدّدها وغلط، لأنّ التّعويل هناك على الإشارة‏.‏ ولو قال‏:‏ بعتك هذا الفرس فكان بغلا أو عكسه، فوجهان، والأصحّ هنا البطلان‏.‏ وإنّما صحّح البطلان هنا تغليبا لاختلاف غرض الماليّة‏.‏ وصحّح الصّحّة في الباقي تغليبا للإشارة‏.‏ وحينئذ يستثنى هذه الصّورة من القاعدة‏.‏

ويضمّ إلى هذه الصّورة صور، منها‏:‏ ما لو حلف لا يكلّم هذا الصّبيّ فكلّمه شيخا، أو لا يأكل هذا الرّطب فأكله تمرا، أو لا يدخل هذه الدّار فدخلها عرصة، فالأصحّ‏:‏ أنّه لا يحنث‏.‏ ولو خالعها على هذا الثّوب الكتّان فبان قطنا، أو عكسه، فالأصحّ فساد الخلع، ويرجع بمهر المثل‏.‏ وهناك صور كثيرة تترتّب على هذه القاعدة‏.‏

هذه جملة قواعد أصوليّة في التّعارض، ذكرت مع ما يترتّب عليها من أحكام‏.‏

وأمّا التّعارض بين الأدلّة فينظر في الملحق الأصوليّ‏.‏

تعاطي

التّعريف

1 - التّعاطي لغة‏:‏ مصدر تعاطى، بمعنى‏:‏ تناول الإنسان الشّيء بيده، من العطو، وهو بمعنى التّناول‏.‏ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر‏}‏ وتفسيرها‏:‏ أنّه تناول آلة العقر، وجاء في تفسيرها أيضا‏:‏ أنّه تناول الفعل بعد أن أعدّ له عدّته، بأن كمن للنّاقة فرماها بسهمه، ثمّ ضربها بسيفه حتّى قتلها‏.‏

واصطلاحاً‏:‏ التّعاطي في البيع، ويقال فيه أيضاً المعاطاة‏:‏ أن يأخذ المشتري المبيع ويدفع للبائع الثّمن، أو يدفع البائع المبيع فيدفع له الآخر الثّمن، من غير تكلّم ولا إشارة‏.‏ ويكون التّعاطي في البيع وغيره من المعاوضات‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

العقد‏:‏

2 - العقد‏:‏ عقود البيع منها ما يتمّ باللّفظ ‏(‏وهو الصّيغة‏)‏ وهو الإيجاب والقبول، ومنها ما يتمّ بالفعل، وهو التّعاطي‏.‏

الحكم الإجماليّ

البيع بالتّعاطي‏:‏

3 - اختلف الفقهاء في انعقاد البيع بالتّعاطي‏.‏ فذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة، وفي قول للشّافعيّة إلى‏:‏ جواز البيع بالتّعاطي‏.‏ والمذهب عند الشّافعيّة اشتراط الصّيغة لصحّة البيع وما في معناه‏.‏ وللشّافعيّة قول ثالث بجواز المعاطاة في المحقَّرات‏.‏

ولبيع المعاطاة صورتان‏:‏ الأولى‏:‏ أن يتمّ التّعاطي من غير تكلّم ولا إشارة من أحد الطّرفين، وهو جائز عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة، ورجّح النّوويّ الجواز بخلاف المذهب‏.‏ الصّورة الثّانية‏:‏ أن يتمّ التّعاطي بتكلّم أحد الطّرفين ويتمّ التّسليم، وهو تعاط عند المالكيّة والحنابلة‏.‏ ولم يعدّه الحنفيّة تعاطياً‏.‏

4 - وقال ابن قدامة في الاستدلال لمشروعيّة بيع التّعاطي‏:‏ إنّ اللّه أحلّ البيع، ولم يبيّن كيفيّته، فوجب الرّجوع فيه إلى العرف، كما رجع إليه في القبض والإحراز والتّفرّق‏.‏ والمسلمون في أسواقهم وبياعاتهم على ذلك‏.‏ ولأنّ البيع كان موجودا بينهم معلوما عندهم، وإنّما علّق الشّرع عليه أحكاما، وأبقاه على ما كان، فلا يجوز تغييره بالرّأي والتّحكّم، ولم ينقل عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه - مع كثرة وقوع البيع بينهم - استعمال الإيجاب والقبول، ولو استعملوا ذلك في بياعاتهم لنقل نقلاً شائعاً‏.‏

ولو كان ذلك شرطا لوجب نقله، ولم يتصوّر منهم إهماله والغفلة عن نقله، ولأنّ البيع ممّا تعمّ به البلوى فلو اشترط له الإيجاب والقبول لَبَيّنه صلى الله عليه وسلم بياناً عامّاً، ولم يخف حكمه، لأنّه يفضي إلى وقوع العقود الفاسدة كثيرا وأكلهم المال بالباطل، ولم ينقل ذلك عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه فيما علمناه‏.‏

ولأنّ النّاس يتبايعون في أسواقهم بالمعاطاة في كلّ عصر‏.‏

ولم ينقل إنكاره قبل مخالفينا، فكان ذلك إجماعاً‏.‏ وكذلك الحكم في الإيجاب والقبول في الهبة والهديّة والصّدقة، ولم ينقل عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه استعمال ذلك فيه، وقد أهدي إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من الحبشة وغيرها، وكان النّاس يتحرّون بهداياهم يوم عائشة رضي الله عنها‏.‏ وروى البخاريّ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ «كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا أتي بطعام سأل عنه‏:‏ أهديّة أم صدقة‏؟‏ فإن قيل‏:‏ صدقة‏.‏ قال لأصحابه‏:‏ كلوا، ولم يأكل‏.‏ وإن قيل‏:‏ هديّة ضرب بيده وأكل معهم» وفي حديث سلمان رضي الله عنه «حين جاء إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم بتمر فقال‏:‏ هذا شيء من الصّدقة، رأيتك أنت وأصحابك أحقّ النّاس به‏.‏ فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه‏:‏ كلوا ولم يأكل ثمّ أتاه ثانية بتمر فقال‏:‏ رأيتك لا تأكل الصّدقة وهذا شيء أهديته لك، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ بسم اللّه، وأكل» ولم ينقل قبول ولا أمر بإيجاب، وإنّما سأل ليعلم‏:‏ هل هو صدقة أو هديّة‏؟‏ وفي أكثر الأخبار لم ينقل إيجاب ولا قبول، وليس إلّا المعاطاة، والتّفرّق عن تراض يدلّ على صحّته، ولو كان الإيجاب والقبول شرطا في هذه العقود لشقّ ذلك، ولكانت أكثر عقود المسلمين فاسدة، وأكثر أموالهم محرّمة، ولأنّ الإيجاب والقبول إنّما يرادان للدّلالة على التّراضي، فإذا وجد ما يدلّ عليه من المساومة والتّعاطي قام مقامهما وأجزأ عنهما، لعدم التّعبّد فيه‏.‏

الإقالة بالتّعاطي‏:‏

5 - جوّز الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة إقالة البيع بالتّعاطي، وقالوا‏:‏ الإقالة تنعقد بالتّعاطي أيضاً من أحد الجانبين على الصّحيح‏.‏

الإجارة بالتّعاطي‏:‏

6 - جوّزها الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة، وقالوا‏:‏ إنّما هي كالبيع، وقد اقتصرت على المنافع دون العين‏.‏

قال ابن قدامة‏:‏ إذا دفع ثوبه إلى خيّاط أو قصّار ليخيطه أو يقصّره من غير عقد ولا شرط ولا تعريض بأجر، مثل أن يقول‏:‏ خذ هذا فاعمله، وكان الخيّاط والقصّار منتصبين لذلك، ففعلا ذلك فلهما الأجر، لأنّ العرف جار بذلك‏.‏ وقال أصحاب الشّافعيّ‏:‏ لا أجر لهما، لأنّهما فعلا ذلك من غير عوض جعل لهما، فأشبه ما لو تبرّعا بعمله‏.‏

وقال ابن عابدين‏:‏ وفي التتارخانية أنّ أبا يوسف سئل عن الرّجل يدخل السّفينة أو يحتجم أو يفتصد أو يدخل الحمّام أو يشرب من ماء السّقاء، ثمّ يدفع الأجرة وثمن الماء‏؟‏ فقال‏:‏ يجوز استحساناً، ولا يحتاج إلى العقد قبل ذلك‏.‏

مواطن البحث

7 - يفصّل الفقهاء أحكام التّعاطي بالنّسبة لكلّ مسألة في موضعها، ومن تلك المواطن‏:‏ البيوع، والإقالة، والإجارة‏.‏

تعاويذ

انظر‏:‏ تعويذة ‏.‏

تعبّديّ

التّعريف

1 - التّعبّديّ لغة‏:‏ المنسوب إلى التّعبّد‏.‏

والتّعبّد مصدر تعبّد، يقال‏:‏ تعبّد الرّجلُ الرّجل‏:‏ إذا اتّخذه عبداً، أو صيّره كالعبد‏.‏

وتعبّد اللّه العبدَ بالطّاعة‏:‏ استعبده، أي طلب منه العبادة‏.‏ ومعنى العبادة في اللّغة‏:‏ الطّاعة والخضوع‏.‏ ومنه طريق معبّد‏:‏ إذا كان مذلّلاً بكثرة المشي فيه‏.‏ ويرد التّعبّد في اللّغة أيضاً بمعنى‏:‏ التّذلّل، يقال‏:‏ تعبّد فلان لفلان‏:‏ إذا خضع له وذلّ‏.‏ وبمعنى التّنسّك، يقال‏:‏ تعبّد فلان للّه تعالى‏:‏ إذا أكثر من عبادته، وظهر فيه الخشوع والإخبات‏.‏ والتّعبّد من اللّه للعباد‏:‏ تكليفهم أمور العبادة وغيرها‏.‏ ويكثر الفقهاء والأصوليّون من استعماله بهذا المعنى، كقولهم‏:‏ نحن متعبّدون بالعمل بخبر الواحد وبالقياس، أي مكلّفون بذلك‏.‏ ويقولون‏:‏ كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم متعبّدا بشرع من قبله، أي مكلّفاً بالعمل به‏.‏

2 - والتّعبّديّات - في اصطلاح الفقهاء والأصوليّين - تطلق على أمرين‏:‏

الأوّل‏:‏ أعمال العبادة والتّنسّك‏.‏ ويرجع لمعرفة أحكامها بهذا المعنى إلى مصطلح ‏(‏عبادة‏)‏‏.‏ الثّاني‏:‏ الأحكام الشّرعيّة الّتي لا يظهر للعباد في تشريعها حكمة غير مجرّد التّعبّد، أي التّكليف بها، لاختبار عبوديّة العبد، فإن أطاع أثيب، وإن عصى عوقب‏.‏

والمراد بالحكمة هنا‏:‏ مصلحة العبد من المحافظة على نفسه أو عرضه أو دينه أو ماله أو عقله‏.‏ أمّا مصلحته الأخرويّة - من دخول جنّة اللّه تعالى والخلاص من عذابه - فهي ملازمة لتلبية كلّ أمر أو نهي، تعبّديّا كان أو غيره‏.‏

3 - هذا هو المشهور في تعريف التّعبّديّات‏.‏ وقد لاحظ الشّاطبيّ في موافقاته أنّ حكمة الحكم قد تكون معلومة على وجه الإجمال، ولا يخرجه ذلك عن كونه تعبّديّا من بعض الوجوه، ما لم يعقل معناه على وجه الخصوص‏.‏ قال‏:‏ ومن ذلك‏:‏ طلب الصّداق في النّكاح، والذّبح في المحلّ المخصوص في الحيوان المأكول، والفروض المقدّرة في المواريث، وعدد الأشهر في عدّة الطّلاق والوفاة، وما أشبه ذلك من الأمور الّتي لا مجال للعقول في فهم مصالحها الجزئيّة، حتّى يقاس عليها غيرها‏.‏ فإنّا نعلم أنّ الشّروط المعتبرة في النّكاح، من الوليّ والصّداق وشبه ذلك، هي لتمييز النّكاح عن السّفاح، وأنّ فروض المواريث ترتّبت على ترتيب القربى من الميّت، وأنّ العدد والاستبراءات، المراد بها استبراء الرّحم خوفا من اختلاط المياه، ولكنّها أمور جمليّة، كما أنّ الخضوع والإجلال علّة شرع العبادات‏.‏ وهذا المقدار لا يقضي بصحّة القياس على الأصل فيها، بحيث يقال‏:‏ إذا حصل الفرق بين النّكاح والسّفاح بأمور أخر مثلا، لم تشترط تلك الشّروط‏.‏

ومتى علم براءة الرّحم لم تشرع العدّة بالأقراء ولا بالأشهر، ولا ما أشبه ذلك‏.‏

4 - هذا وقد اختلفت الفقهاء في أنّ التّعبّديّات شُرِعت لنا لحكمة يعلمها اللّه تعالى وخفيت علينا، أو إنّها شُرِعت لا لحكمة أصلاً غيرَ مجرّد تعبّد اللّه للعباد واستدعائه الامتثال منهم، اختباراً لطاعة العبد لمجرّد الأمر والنّهي من غير أن يعرف وجه المصلحة فيما يعمل، بمنزلة سيّد أراد أن يختبر عبيده أيّهم أطوع له، فأمرهم بالتّسابق إلى لمس حجر، أو الالتفات يميناً أو يساراً ممّا لا مصلحة فيه غير مجرّد الطّاعة‏.‏

5 - قال ابن عابدين نقلاً عن الحلية‏:‏ أكثر العلماء على القول الأوّل، وهو المتّجه، بدلالة استقراء تكاليف اللّه تعالى على كونها جالبة للمصالح دارئة للمفاسد‏.‏

وكذلك الشّاطبيّ في موافقاته اعتمد الاستقراء دليلاً على أنّ كلّ الأحكام الشّرعيّة معلّلة بمصالح العباد في الدّنيا والآخرة، وقال‏:‏ إنّ المعتزلة متّفقون على أنّ أحكامه معلّلة برعاية مصالح العباد، وهو اختيار أكثر الفقهاء المتأخّرين‏.‏ قال‏:‏ ولمّا اضطرّ الرّازيّ إلى إثبات العلل للأحكام الشّرعيّة أثبت ذلك على أنّ العلل بمعنى العلامات المعرّفة للأحكام‏.‏ وذكر الشّاطبيّ من الأدلّة الّتي استقرأها قوله تعالى في شأن الوضوء والغسل ‏{‏مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون‏}‏‏.‏

وفي الصّيام ‏{‏كُتِبَ عَلَيكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ على الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏}‏‏.‏

وفي القصاص ‏{‏وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏}‏ وآيات نحو هذه‏.‏

وممّن ذهب إلى مثل ذلك ابن القيّم، حيث قال‏:‏ قالت طائفة‏:‏ إنّ عدّة الوفاة تعبّد محض، وهذا باطل، فإنّه ليس في الشّريعة حكم واحد إلّا وله معنى وحكمة، يعقله من يعقله، ويخفى على من خفي عليه‏.‏ وقرّر هذا المعنى تقريرا أوسع فقال‏:‏ شرع اللّه العقوبات، ورتّبها على أسبابها، جنسا وقدرا، فهو عالم الغيب والشّهادة وأحكم الحاكمين وأعلم العالمين، ومن أحاط بكلّ شيء علما، وعلم ما كان وما يكون، وأحاط علمه بوجوه المصالح دقيقها وجليلها وخفيّها وظاهرها، ما يمكن اطّلاع البشر عليه وما لا يمكنهم‏.‏ وليست هذه التّخصيصات والتّقديرات خارجة عن وجوه الحكم والغايات المحمودة، كما أنّ التّخصيصات والتّقديرات واقعة في خلقه كذلك، فهذا في خلقه وذاك في أمره، ومصدرهما جميعا عن كمال علمه وحكمته ووضعه كلّ شيء في موضعه الّذي لا يليق به سواه ولا يتقاضى إلّا إيّاه، كما وضع قوّة البصر والنّور الباصر في العين، وقوّة السّمع في الأذن، وقوّة الشّمّ في الأنف، وخصّ كلّ حيوان وغيره بما يليق به ويحسن أن يعطاه من أعضائه وهيئاته وصفاته وقدره، فشمل إتقانه وإحكامه، وإذا كان سبحانه قد أتقن خلقه غاية الإتقان، وأحكمه غاية الإحكام، فلأن يكون أمره في غاية الإتقان أولى وأحرى، ولا يكون الجهل بحكمة اللّه في خلقه وأمره وإتقانه كذلك وصدوره عن محض الحكمة والعلم مسوّغا لإنكاره في نفس الأمر‏.‏ وسار على هذه الطّريقة وليّ اللّه الدّهلويّ في حجّة اللّه البالغة وقال‏:‏ إنّ القول الآخر ‏(‏الآتي‏)‏ تكذّبه السّنّة وإجماع القرون المشهود لها بالخير‏.‏

6 - أمّا القول الثّاني بوجود أحكام ولو على سبيل النّدرة قصد منها التّعبّد والامتثال‏.‏ فيدلّ عليه ما ورد في كتاب اللّه تعالى من قوله تعالى ‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلالَ الَّتي كَانتْ عَلَيهمْ‏}‏ أنّه كان قد جعل على من كان قبلنا آصاراً وأغلالاً لتعنّتهم وشقاقهم، كما ألزم بني إسرائيل بأن تكون البقرة الّتي أمرهم بذبحها لا فارضاً ولا بكراً، وأن تكون صفراء‏.‏ وأيضا فإنّ في بعض الابتلاء واستدعاء الطّاعة والامتثال والتّدريب على ذلك مصلحة كبيرة، لا يزال أولياء الأمور يدرّبون عليها أنصارهم وأتباعهم، ويبذلون في ذلك الأموال الطّائلة، ليكونوا عند الحاجة ملبّين للأوامر دون تردّد أو حاجة إلى التّفهّم، اكتفاء وثقة بأنّ وليّ أمرهم هو أعلم منهم بما يريد‏.‏

بل إنّ مصلحة الطّاعة والامتثال والمسارعة إليهما هي الحكمة الأولى المبتغاة من وضع الشّريعة، بل من الخلق في أساسه، قال اللّه تعالى ‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إلا لِيَعْبُدُونَ‏}‏ وقال ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّهُ بِشَيءٍ مِنَ الصَّيدِ تَنَالُه أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُه بِالغَيْبِ‏}‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ المُجَاهِدِينَ مِنْكُم وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ‏}‏ وقال ‏{‏وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الَّتي كُنْتَ عليها إلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلبُ على عَقِبَيهِ‏}‏ ولكن من فضل اللّه علينا في شريعة الإسلام أنّه جعل غالب أحكامها تراعي مصلحة العباد بالإضافة إلى مصلحة الابتلاء، ولكن لا يمنع ذلك من وجود أحكام لا تراعي ذلك، بل قصد بها الابتلاء خاصّة، وذلك على سبيل النّدرة‏.‏

وفي هذا يقول الغزاليّ‏:‏ عرف من دأب الشّرع اتّباع المعاني المناسبة دون التّحكّمات الجامدة، وهذا غالب عادة الشّرع‏.‏ ويقول‏:‏ حمل تصرّفات الشّارع على التّحكّم أو على المجهول الّذي لا يعرف، نوع ضرورة يرجع إليها عند العجز‏.‏ وقال‏:‏ ما يتعلّق من الأحكام بمصالح الخلق من المناكحات والمعاملات والجنايات والضّمانات وما عدا العبادات فالتّحكّم فيها نادر، وأمّا العبادات والمقدّرات فالتّحكّمات فيها غالبة، واتّباع المعنى نادر‏.‏

وصرّح بذلك الشّيخ عزّ الدّين عبد العزيز بن عبد السّلام في قواعده فقال‏:‏ يجوز أن تتجرّد التّعبّدات عن جلب المصالح ودرء المفاسد، ثمّ يقع الثّواب عليها بناء على الطّاعة والإذعان من غير جلب مصلحة غير مصلحة الثّواب ولا درء مفسدة غير مفسدة العصيان‏.‏

7 - فالتّعبّديّ على القول الأوّل‏:‏ استأثر اللّه تعالى بعلم حكمته، ولم يطلع عليها أحداً من خلقه، ولم يجعل سبيلا للاطّلاع عليه مع ثبوت المصلحة فيه في نفس الأمر، أخفى ذلك عنهم ابتلاء واختباراً‏.‏ هل يمتثلون ويطيعون دون أن يعرفوا وجه المصلحة، أم يعصون اتّباعاً لمصلحة أنفسهم‏؟‏‏.‏

وعلى القول الثّاني‏:‏ ابتلاهم بما لا مصلحة لهم فيه أصلا غير مجرّد الثّواب‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - العبادة‏:‏

8 - أصل العبادة‏:‏ الطّاعة والخضوع‏.‏ والعبادات، أنواع‏:‏ منها الصّلاة والزّكاة والصّوم والحجّ‏.‏ وكثير منها معقول المعنى، بيّنت الشّريعة حكمته، أو استنبطها الفقهاء‏.‏ ومن ذلك قوله تعالى في شأن الصّلاة ‏{‏وَأَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ‏}‏ وقوله في شأن الحجّ ‏{‏لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهمْ‏}‏ وقول الفقهاء في حكمة التّرخيص في الإفطار في السّفر أثناء رمضان‏:‏ إنّها دفع المشقّة‏.‏ فليس شيء من ذلك تعبّديّاً‏.‏

وبعض أحكام العبادات غير معقول المعنى، فيكون تعبّديّا، ككون رمي الجمار سبعاً سبعاً‏.‏ وتكون التّعبّديّات أيضا في غير العبادات، ومن ذلك‏:‏ استبراء الأمة الّتي اشتراها بائعها في مجلس البيع، وعادت إليه بفسخ أو إقالة قبل غيبة المشتري بها‏.‏

ب - حقّ اللّه‏:‏

9 - قد يقال في كثير من الأحكام‏:‏ إنّه لحقّ اللّه، كالصّلاة والصّوم وسائر العبادات وكحدّ السّرقة وحدّ الزّنى‏.‏

ويقال في كثير منها‏:‏ إنّه لحقّ الإنسان، كحقّ القصاص وحدّ القذف والدّين والضّمانات‏.‏ وقد يظنّ أنّ كلّ ما كان منها لحقّ اللّه تعالى أنّه تعبّديّ، إلا أنّ المراد من‏"‏ حقّ اللّه تعالى‏"‏ أنّه لا خيرة فيه للعباد، ولا يجوز لأحد إسقاطه، بل لا بدّ للعباد من تنفيذه إذا وجد سببه، وتمّت شروط وجوبه أو تحريمه‏.‏ وليس كلّ ما كان لحقّ اللّه تعالى تعبّديّا، بل يكون تعبّديّا إذا خفي وجه الحكمة فيه‏.‏ ويكون غير تعبّديّ، وذلك إذا ظهرت حكمته‏.‏

قال الشّاطبيّ‏:‏ الحكم المستخرجة لما لا يعقل معناه على وجه الخصوص في التّعبّدات، كاختصاص الوضوء بالأعضاء المخصوصة، والصّلاة بتلك الهيئة من رفع اليدين والقيام والرّكوع والسّجود، وكونها على بعض الهيئات دون بعض، واختصاص الصّيام بالنّهار دون اللّيل، وتعيين أوقات الصّلوات في تلك الأحيان المعيّنة دون سواها من أحيان النّهار واللّيل، واختصاص الحجّ بتلك الأعمال المعروفة، في الأماكن المعلومة، وإلى مسجد مخصوص، إلى أشباه ذلك ممّا لا تهتدي العقول إليه بوجه، ولا تحوم حوله، يأتي بعض النّاس فيطرق إليه بزعمه حكماً، يزعم أنّها مقصود الشّارع من تلك الأوضاع، وجميعها مبنيّ على ظنّ وتخمين غير مطّرد في بابه، ولا مبنيّ عليه عمل، بل كالتّعليل بعد السّماع للأمور الشّواذّ، لجنايته على الشّريعة في دعوى ما ليس لنا به علم، ولا دليل لنا عليه‏.‏

ج - المعلّل بالعلّة القاصرة‏:‏

10 - ولمّا كان حكم التّعبّديّات أنّه لا يقاس عليها، فقد يشتبه بها المعلّل بالعلّة القاصرة، لأنّه لا يقاس عليه‏.‏ والفرق بينهما‏:‏ أنّ التّعبّديّ ليس له علّة ظاهرة، فيمتنع القياس عليه لأنّ القياس فرع معرفة العلّة، أمّا المعلّل بالعلّة القاصرة فعلّته معلومة لكنّها لا تتعدّى محلّها، إذ لم يعلم وجودها في شيء آخر غير الأصل‏.‏

مثاله «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم جعل شهادة خزيمة بن ثابت بشهادة رجلين»‏.‏ وهذا حكم خاصّ به، وعلّته والمعنى فيه أنّه أوّل من تنبّه وبادر إلى تصديق النّبيّ صلى الله عليه وسلم في تلك الحادثة بعينها والشّهادة له، بموجب التّصديق العامّ له صلى الله عليه وسلم‏.‏ والأوّليّة معنى لا يتكرّر، فاختصّ به، فليس ذلك تعبّديّا، لكون علّته معلومة‏.‏

د - المعدول به عن سنن القياس‏:‏

11 - ما خالف القياس قد يكون غير معقول المعنى كتخصيص النّبيّ صلى الله عليه وسلم بنكاح تسع نسوة «وإجزاء العناق في التّضحية في حقّ أبي بردة هانئ بن دينار»، وكتقدير عدد الرّكعات‏.‏

وقد يكون معقول المعنى كاستثناء بيع العرايا من النّهي عن بيع التّمر بالتّمر خرصاً‏.‏

هـ - المنصوص على علّته‏:‏

12 - أورد الشّاطبيّ أنّ بعض ما عرفت علّته قد يكون تعبّديّا‏.‏ فقال‏:‏ إنّ المصالح في التّكليف ظهر لنا من الشّارع أنّها على ضربين‏:‏

أحدهما‏:‏ ما يمكن الوصول إلى معرفته بمسالكه المعروفة كالإجماع والنّصّ والسّبر والإشارة والمناسبة، وهذا هو القسم الظّاهر الّذي نعلّل به، وتقول‏:‏ إنّ الأحكام شرعت لأجله‏.‏

والثّاني‏:‏ ما لا يمكن الوصول إليه بتلك المسالك المعهودة، ولا يطّلع عليه إلّا بالوحي كالأحكام الّتي أخبر الشّارع فيها أنّها أسباب للخصب والسّعة وقيام أبّهة الإسلام - كقوله تعالى في سياق قصّة نوح‏:‏ ‏{‏فَقُلتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّه كانَ غَفَّارَاً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَليكمْ مِدْرَارَاً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارَاً‏}‏‏.‏

فلا يعلم وجه كون الاستغفار سبباً للمطر وللخصب إلا بالوحي‏.‏

ولذلك لا يقاس عليه، فلا يعلم كون الاستغفار سببا في حصول العلم وقوّة الأبدان مثلاً، فلا يكون إلى اعتبار هذه العلّة في القياس سبيل، فبقيت موقوفة على التّعبّد المحض‏.‏ ولذا يكون أخذ الحكم المعلّل بها متعبّدا به، ومعنى التّعبّد هنا‏:‏ الوقوف عند ما حدّ الشّارع فيه‏.‏

حكمة تشريع التّعبّديّات

13 - حكمة تشريع التّعبّديّات استدعاء الامتثال، واختبار مدى الطّاعة والعبوديّة‏.‏ وقد عبّر عن ذلك الغزاليّ في الإحياء بقوله - في بيان أسرار رمي الجمار - وظّف اللّه تعالى على العباد أعمالا لا تأنس بها النّفوس، ولا تهتدي إلى معانيها العقول، كرمي الجمار بالأحجار، والتّردّد بين الصّفا والمروة على سبيل التّكرار‏.‏

وبمثل هذه الأعمال يظهر كمال الرّقّ والعبوديّة، فإنّ الزّكاة إرفاق، ووجهه مفهوم، وللعقل إليه ميل، والصّوم كسر للشّهوة الّتي هي آلة عدوّ اللّه، وتفرّغ للعبادة، بالكفّ عن الشّواغل‏.‏ والرّكوع والسّجود في الصّلاة تواضع للّه عزّ وجلّ بأفعال هي هيئة التّواضع، وللنّفوس السّعي بتعظيم اللّه عزّ وجلّ‏.‏ فأمّا تردّدات السّعي ورمي الجمار وأمثال هذه الأعمال، فلا حظّ للنّفوس فيها ولا أنس للطّبع بها، ولا اهتداء للعقول إلى معانيها، فلا يكون في الإقدام عليها باعث إلّا الأمر المجرّد، وقصد الامتثال للأمر من حيث إنّه أمر واجب الاتّباع فقط، وفيه عزل للعقل عن تصرّفه وصرف النّفس والطّبع عن محلّ أنسه‏.‏ فإنّ كلّ ما أدرك العقل معناه مال الطّبع إليه ميلا ما، فيكون ذلك الميل معيّنا للأمر وباعثا معه على الفعل، فلا يكاد يظهر به كمال الرّقّ والانقياد‏.‏ ولذلك قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الحجّ على وجه الخصوص‏:‏ «لبّيك بحجّة حقّاً، تعبُّداً ورِقّاً» ولم يقل ذلك في صلاة ولا غيرها‏.‏ وإذا اقتضت حكمة اللّه تعالى ربط نجاة الخلق بأن تكون أعمالهم على خلاف هوى طباعهم، وأن يكون زمامها بيد الشّرع، فيتردّدون في أعمالهم على سنن الانقياد وعلى مقتضى الاستعباد، كان ما لا يهتدى إلى معانيه أبلغ أنواع التّعبّدات في تزكية النّفوس، وصرفها عن مقتضى الطّباع والأخلاق إلى مقتضى الاسترقاق‏.‏

طرق معرفة التّعبّديّ

14 - لم يعرف في تمييز التّعبّديّات عن غيرها من الأحكام المعلّلة وجه معيّن، غير العجز عن التّعليل بطريق من الطّرق المعتبرة، على ما هو معلوم في مباحث القياس من علم الأصول‏.‏ ولذلك يقول ابن عابدين‏:‏ ما شرعه اللّه إن ظهرت لنا حكمته، قلنا‏:‏ إنّه معقول المعنى، وإلّا قلنا‏:‏ إنّه تعبّديّ‏.‏ وإلى هذا يشير كلام الغزاليّ المتقدّم آنفا، من أنّ المصير إلى التّعبّد نوع ضرورة يرجع إليها عند العجز‏.‏

ومن هنا اختلفت أقوال الفقهاء في اعتبار بعض الأحكام تعبّديّا أو معقول المعنى، فما يراه بعض الفقهاء تعبّديّا قد يراه البعض الآخر معلّلا بمصالح غلب على ظنّه رعايتها‏.‏

فمن ذلك أنّ صاحب الدّرّ المختار قال‏:‏ إنّ تكرار السّجود أمر تعبّديّ، أي لم يعقل معناه، تحقيقا للابتلاء‏.‏ وقال ابن عابدين‏:‏ وقيل‏:‏ إنّه ثنّي ترغيما للشّيطان، حيث أمر بالسّجود مرّة فلم يسجد، فنحن نسجد مرّتين‏.‏ وكون طلاق الحائض بدعيّا، قيل‏:‏ هو تعبّديّ‏.‏

قال الدّردير‏:‏ والأصحّ أنّه معلّل بتطويل العدّة، لأنّ أوّلها من الطّهر بعد الحيض‏.‏

والسّعي بين الصّفا والمروة ورمي الجمار يمثّل بها الفقهاء لغير المعقول المعنى، كما تقدّم عن الغزاليّ‏.‏ غير أنّ بعض العلماء يعلّلونه وأمثاله ممّا وضع من المناسك على هيئة أعمال بعض الصّالحين، كالسّعي الّذي جعل على هيئة سعي أمّ إسماعيل عليه السلام بينهما‏.‏ يقول تقيّ الدّين بن دقيق العيد‏:‏ في ذلك من الحكمة تذكّر الوقائع الماضية للسّلف الكرام، وفي طيّ تذكّرها مصالح دينيّة، إذ يتبيّن في أثناء كثير منها ما كانوا عليه من امتثال أمر اللّه، والمبادرة إليه، وبذل الأنفس في ذلك‏.‏ وبذلك يظهر لنا أنّ كثيراً من الأعمال الّتي وقعت في الحجّ، ويقال بأنّها ‏"‏ تعبّد ‏"‏ ليست كما قيل‏.‏ ألا ترى أنّا إذا فعلناها وتذكّرنا أسبابها حصل لنا من ذلك تعظيم الأوّلين، وما كانوا عليه من احتمال المشاقّ في امتثال أمر اللّه، فكان هذا التّذكّر باعثا لنا على مثل ذلك، ومقرّراً في أنفسنا تعظيم الأوّلين، وذلك معنى معقول‏.‏ ثمّ ذكر أنّ السّعي بين الصّفا والمروة اقتداء بفعل هاجر، وأنّ رمي الجمار اقتداء بفعل إبراهيم عليه السلام، إذ رمى إبليس بالجمار في هذا الموضع‏.‏

وابن القيّم في إعلام الموقّعين، سيرا على خطى شيخه شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمهما الله، رأى كما تقدّم أنّه ليس في الشّريعة تعبّد محض، وردّ كلّ ما قيل فيه‏:‏ إنّه مخالف للقياس، كفرض الصّاع في لبن المصرّاة المردودة على بائعها، وما قيل من أنّ الشّريعة فرّقت بين المتساويات، كأمرها بالغسل من بول الجارية وبالنّضح من بول الصّبيّ، وسوّت بين المفترقات، كتسويتها بين الخطأ والعمد في وجوب الضّمان‏.‏ فعلّل كلّ ما قيل فيه ذلك، وبيّن وجه الحكمة فيه، وأنّ علّته معقولة، ويوافق القياس ولا يخالفه، وأطال في ذلك‏.‏

ما تكون فيه التّعبّديّات، وأمثلة منها

15 - يذكر بعض الأصوليّين أنّ التّعبّديّات أكثر ما تكون في أصول العبادات، كاشتراع أصل الصّلاة أو الصّوم أو الاعتكاف‏.‏ وفي نصب أسبابها، كزوال الشّمس لصلاة الظّهر، وغروبها لصلاة المغرب‏.‏ وفي الحدود والكفّارات‏.‏ وفي التّقديرات العدديّة بوجه عامّ، كتقدير أعداد الرّكعات، وتقدير عدد الجلدات في الحدود، وتقدير أعداد الشّهود‏.‏

وذكر الشّاطبيّ من أمثلة وقوعها في العادات‏:‏ طلب الصّداق في النّكاح، وتخصيص الذّبح بمحلّ مخصوص، والفروض المقدّرة في المواريث، وعدد الأشهر في عدّة الطّلاق وعدّة الوفاة‏.‏ ومن أمثلتها عند الحنابلة حديث‏:‏ «نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يتوضّأ الرّجل بفضل طهور المرأة»‏.‏

قال صاحب المغني‏:‏ منع الرّجل من استعمال فضلة طهور المرأة تعبّديّ غير معقول المعنى، نصّ عليه أحمد، ولذلك يباح لامرأة سواها التّطهّر به في طهارة الحدث وغسل النّجاسة وغيرها، لأنّ النّهي اختصّ بالرّجل، ولم يعقل معناه، فيجب قصره على محلّ النّهي‏.‏ وهل يجوز للرّجل غسل النّجاسة به‏؟‏ فيه وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ لا يجوز وهو قول القاضي‏.‏ والثّاني‏:‏ يجوز وهو الصّحيح، لأنّه ماء يطهّر المرأة من الحدث والنّجاسة، فيزيل النّجاسة إذا فعله الرّجل كسائر المياه‏.‏

والحديث لا تعقل علّته، فيقتصر على ما ورد به لفظه - أي التّطهّر من الحدث لا غير‏.‏

الأصل في الأحكام من حيث التّعليل أو التّعبّد

16 - اختلف الأصوليّون هل الأصل في الأحكام التّعليل أو عدمه‏؟‏ فذهب البعض إلى الأوّل، فلا تعلّل الأحكام إلّا بدليل‏.‏ قالوا‏:‏ لأنّ النّصّ موجب بصيغته لا بالعلّة‏.‏ ونسب إلى الشّافعيّ رضي الله عنه‏:‏ أنّ الأصل التّعليل بوصف، لكن لا بدّ من دليل يميّزه من غيره‏.‏ قال في التّلويح‏:‏ والمشهور بين أصحاب الشّافعيّ‏:‏ أنّ الأصل في الأحكام التّعبّد دون التّعليل‏.‏ قال‏:‏ والمختار‏:‏ أنّ الأصل في النّصوص التّعليل، وأنّه لا بدّ – أي لصحّة القياس – من دليل يميّز الوصف الّذي هو علّة، ومع ذلك لا بدّ قبل التّعليل والتّمييز من دليل يدلّ على أنّ هذا الوصف الّذي يريد استخراج علّته معلّل في الجملة‏.‏

وذهب الشّاطبيّ إلى أنّ الأمر في ذلك يختلف بين العبادات والمعاملات، قال‏:‏ الأصل في العبادات بالنّسبة للمكلّف التّعبّد، دون الالتفات إلى المعاني، والأصل في العادات الالتفات إلى المعاني‏.‏

17 - فأمّا أنّ الأصل في العبادات التّعبّد، فيدلّ له أمور منها‏:‏

الاستقراء‏.‏ فالصّلوات خصّت بأفعال مخصوصة على هيئات مخصوصة إن خرجت عنها لم تكن عبادات، ووجدنا الذّكر في هيئة ما مطلوباً، وفي هيئة أخرى غير مطلوب، وأنّ طهارة الحدث مخصوصة بالماء الطّهور، وإن أمكنت النّظافة بغيره، وأنّ التّيمّم - وليست فيه نظافة حسّيّة - يقوم مقام الطّهارة بالماء المطهّر‏.‏

وهكذا سائر العبادات كالصّوم والحجّ وغيرهما، وإنّما فهمنا من حكمة التّعبّد العامّة الانقياد لأوامر اللّه تعالى، وهذا المقدار لا يعطي علّة خاصّة يفهم منها حكم خاصّ، فعلمنا أنّ المقصود الشّرعيّ الأوّل التّعبّد للّه بذلك المحدود، وأنّ غيره غير مقصود شرعاً‏.‏

ومنها‏:‏ أنّه لو كان المقصود التّوسعة في التّعبّد بما حدّ وما لم يحدّ، لنصب الشّارع عليه دليلا واضحا، ولمّا لم نجد ذلك كذلك - بل على خلافه - دلّ على أنّ المقصود الوقوف عند ذلك المحدود، إلا أن يتبيّن بنصّ أو إجماع معنى مراد في بعض الصّور، فلا لوم على من اتّبعه‏.‏ لكنّ ذلك قليل، فليس بأصل، وإنّما الأصل ما عمّ في الباب وغلب على الموضع‏.‏

18 - ثمّ قال الشّاطبيّ‏:‏ وأمّا إنّ الأصل في العادات الالتفات إلى المعاني فلأمور‏:‏

الأوّل‏:‏ الاستقراء، فنرى الشّيء الواحد يمنع في حال لا تكون فيه مصلحة، فإذا كان فيه مصلحة جاز كالدّرهم بالدّرهم إلى أجل‏:‏ تمتنع في المبايعة، ويجوز في القرض‏.‏ وكبيع الرّطب من جنس بيابسه‏.‏ يمتنع حيث يكون مجرّد غرر وربا من غير مصلحة، ويجوز إذا كان فيه مصلحة راجحة ‏"‏ كما في تمر العرايا أبيح بيعه بالتّمر توسعة على النّاس ‏"‏، ولتعليل النّصوص أحكام العادات بالمصلحة كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَكُمْ في القِصَاصِ حَيَاةٌ‏}‏ وفي آية تحريم الخمر ‏{‏إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ العَدَاوَةَ والبَغْضَاءَ في الخَمْرِ والمَيْسِرِ ويَصُدَّكُمْ عنْ ذِكْرِ اللَّهِ وِعنِ الصَّلاةِ فَهلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ‏}‏ وفي حديث‏:‏ «لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان» ونحو ذلك‏.‏

والثّاني‏:‏ أنّ أكثر ما علّل اللّه تعالى في العادات بالمناسب الّذي إذا عرض على العقول تلقّته بالقبول، ففهمنا من ذلك أنّ قصد الشّارع فيها اتّباع المعاني، لا الوقوف مع النّصوص‏.‏ بخلاف العبادات، فإنّ المعلوم فيها خلاف ذلك، ولهذا توسّع مالك حتّى قال بقاعدة المصالح المرسلة، والاستحسان‏.‏

والثّالث‏:‏ أنّ الالتفات إلى المعاني في أمور العادات كان معلوما في الفترات، واعتمد عليه العقلاء، حتّى جرت بذلك مصالحهم، سواء أهل الحكمة الفلسفيّة وغيرهم‏.‏ إلا أنّهم قصّروا في جملة من التّفاصيل، فجاءت الشّريعة لتتمّم مكارم الأخلاق‏.‏ ومن هنا أقرّت الشّريعة جملة من الأحكام الّتي كانت في الجاهليّة، كالدّية، والقسامة، والقراض، وكسوة الكعبة، وأشباه ذلك ممّا كان من محاسن العوائد ومكارم الأخلاق الّتي تقبلها العقول‏.‏

المفاضلة بين التّعبّديّ ومعقول المعنى

19 - نقل ابن عابدين عن صاحب الفتاوى التمرتاشية أنّه قال‏:‏ لم أقف على شيء من ذلك لعلمائنا في هذا، سوى قولهم‏:‏ الأصل في النّصوص التّعليل، فإنّه يشير إلى أفضليّة المعقول معناه‏.‏ قال‏:‏ ووقفت على ذلك في فتاوى ابن حجر، قال‏:‏ قضيّة كلام ابن عبد السّلام أنّ التّعبّديّ أفضل، لأنّه بمحض الانقياد، بخلاف ما ظهرت علّته، فإنّ ملابسه قد يفعل لتحصيل فائدته، وخالفه البلقينيّ فقال‏:‏ لا شكّ أنّ معقول المعنى من حيث الجملة أفضل، لأنّ أكثر الشّريعة كذلك‏.‏

وظاهر كلام الشّاطبيّ الأخذ بقول من يقول‏:‏ إنّ التّعبّديّ أفضل، وذلك حيث قال‏:‏ إنّ التّكاليف إذا علم قصد المصلحة فيها فللمكلّف في الدّخول تحتها ثلاثة أحوال‏:‏

الأوّل‏:‏ أن يقصد بها ما فهم من مقصد الشّارع في شرعها‏.‏ وهذا لا إشكال فيه، ولكن لا ينبغي أن يخلّيه من قصد التّعبّد، فكم ممّن فهم المصلحة فلم يلو على غيرها، فغاب عن أمر الآمر بها‏.‏ وهي غفلة تفوّت خيرات كثيرة، بخلاف ما إذا لم يهمل التّعبّد‏.‏

ثمّ إنّ المصالح لا يقوم دليل على انحصارها فيما علم إلا نادراً، فإذا لم يثبت الحصر كان قصد تلك الحكمة المعيّنة ربّما أسقط ما هو مقصود أيضا من شرع الحكم‏.‏

الثّاني‏:‏ أن يقصد بها ما عسى أن يقصده الشّارع، ممّا اطّلع عليه أو لم يطّلع عليه‏.‏

وهذا أكمل من القصد الأوّل، إلا أنّه ربّما فاته النّظر إلى التّعبّد‏.‏

الثّالث‏:‏ أن يقصد مجرّد امتثال الأمر، فهم قصد المصلحة أو لم يفهم‏.‏ قال‏:‏ فهذا أكمل وأسلم‏.‏ أمّا كونه أكمل فلأنّه نصب نفسه عبدا مؤتمرا ومملوكا ملبّيا، إذ لم يعتبر إلّا مجرّد الأمر‏.‏ وقد وكّل العلم بالمصلحة إلى العالم بها جملة وتفصيلا وهو اللّه تعالى‏.‏

وأمّا كونه أسلم، فلأنّ العامل بالامتثال عامل بمقتضى العبوديّة، فإن عرض له قصد غير اللّه ردّه قصد التّعبّد‏.‏ فهذا الّذي قاله يتجلّى في التّعبّديّات أكثر ممّا يظهر فيما كان معقول المعنى من الأحكام‏.‏ ومذهب الغزاليّ في ذلك أيضا أنّ التّعبّديّ أفضل، كما هو واضح فيما تقدّم النّقل عنه من قوله‏:‏ إنّ ما لا يهتدى لمعانيه أبلغ أنواع التّعبّدات في تزكية النّفوس‏.‏ وفي حاشية ابن عابدين‏:‏ أنّ هذين القولين في الأفضليّة هما على سبيل الإجمال، أمّا بالنّظر إلى الجزيئات، فقد يكون التّعبّديّ أفضل كالوضوء وغسل الجنابة، فإنّ الوضوء أفضل‏.‏ وقد يكون المعقول أفضل كالطّواف والرّمي، فإنّ الطّواف أفضل‏.‏

خصائص التّعبّديّات

20 - من أحكام التّعبّديّات‏:‏

أ - أنّه لا يقاس عليها، لأنّ القياس فرع معرفة العلّة، والفرض‏:‏ أنّ التّعبّديّ لم تعرف علّته، فيمتنع القياس عليه، ولا يتعدّى حكمه موضعه، سواء أكان مستثنى من قاعدة عامّة ولا يعقل معنى الاستثناء، كتخصيص النّبيّ صلى الله عليه وسلم بنكاح تسع نسوة، وتخصيص أبي بردة بالتّضحية بعناق، أم لم يكن كذلك، بل كان حكما مبتدأ، كتقدير أعداد الرّكعات، ووجوب شهر رمضان، ومقادير الحدود والكفّارات وأجناسها، وجميع التّحكّمات المبتدأة الّتي لا ينقدح فيها معنى، فلا يقاس عليها غيرها‏.‏

21 - وبناء على هذا الأصل وقع الخلاف بين الفقهاء في فروع فقهيّة، منها‏:‏ رجم اللّوطيّ، رفضه الحنفيّة، وأثبته مالك وأحمد في رواية عنه والشّافعيّ في أحد قوليه‏.‏

قال الحنفيّة‏:‏ لا يجري القياس في الحدود والكفّارات، لأنّ الحدود مشتملة على تقديرات لا تعرف، كعدد المائة في حدّ الزّنى، والثّمانين في القذف، فإنّ العقل لا يدرك الحكمة في اعتبار خصوص هذا العدد، قالوا‏:‏ وما كان يعقل منها - أي من أحكام الحدود - فإنّ الشّبهة في القياس لاحتماله الخطأ توجب عدم إثباته بالقياس، وهذا كقطع يد السّارق لكونها جنت بالسّرقة فقطعت‏.‏

وهكذا اختلاف تقديرات الكفّارات، فإنّه لا يعقل كما لا تعقل أعداد الرّكعات‏.‏

وأجاز غير الحنفيّة القياس في الحدود والكفّارات، لكن فيما يعقل معناه من أحكامها لا فيما لا يعقل منها، كما في غير الحدود والكفّارات‏.‏

ب - قال الشّاطبيّ‏:‏ إنّ التّعبّديّات ما كان منها من العبادات فلا بدّ فيه من نيّة كالطّهارة، والصّلاة، والصّوم‏.‏ ومن لم يشترط النّيّة في بعضها فإنّه يبني على كون ذلك البعض معقول المعنى، فحكمه كما لو كان من أمور العادات‏.‏

أمّا صوم رمضان والنّذر المعيّن، فلم يشترط الحنفيّة لهما تبييت النّيّة ولا التّعيين، ووجه ذلك عندهم‏:‏ أنّه لو نوى غيرهما في وقتهما انصرف إليهما، بناء على أنّ الكفّ عن المفطرات قد استحقّه الوقت، فلا ينصرف لغيره، ولا يصرفه عنه قصد سواه‏.‏ ومن هذا ما قال الحنابلة في غسل القائم من نوم اللّيل يده قبل إدخالها الإناء‏:‏ إنّه تعبّديّ، فتعتبر له النّيّة الخاصّة، ولا يجزئ عن غسلهما نيّة الوضوء أو الغسل، لأنّهما عبادة مفردة‏.‏