فصل: الشّروط المقترنة بالعقود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


عَقِب

انظر‏:‏ كراء القصب‏.‏

عَقْد

التّعريف

1 - العقد في اللّغة‏:‏ الرّبط والشّدّ والضّمان والعهد، قال في القاموس‏:‏ عقد الحبل والبيع والعهد‏:‏ شدّه‏.‏

ويطلق أيضاً على الجمع بين أطراف الشّيء، يقال‏:‏ عقد الحبل إذا جمع أحد طرفيه على الآخر وربط بينهما‏.‏

وفي المصباح‏:‏ قيل‏:‏ عقدت البيع ونحوه، وعقدت اليمين وعقّدتها بالتّشديد توكيد، وعاقدته على كذا، وعقدته عليه بمعنى‏:‏ عاهدته، ومعقد الشّيء مثل مجلس‏:‏ موضع عقده، وعقدة النّكاح وغيره‏:‏ إحكامه وإبرامه، والجمع عقود ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ‏}‏‏.‏

وقولـه تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ ‏}‏ أي‏:‏ إحكامه، والمعنى‏:‏ لا تعزموا على عقدة النّكاح في زمان العدّة‏.‏

وفي الاصطلاح يطلق العقد على معنيين‏:‏

أ - المعنى العامّ، وهو كلّ ما يعقده - يعزمه - الشّخص أن يفعله هو، أو يعقد على غيره فعله على وجه إلزامه إيّاه، كما يقول الجصّاص، وعلى ذلك فيسمّى البيع والنّكاح وسائر عقود المعاوضات عقوداً ؛ لأنّ كلّ واحد من طرفي العقد ألزم نفسه الوفاء به، وسمّي اليمين على المستقبل عقداً ؛ لأنّ الحالف ألزم نفسه الوفاء بما حلف عليه من الفعل أو التّرك، وكذلك العهد والأمان ؛ لأنّ معطيها قد ألزم نفسه الوفاء بها، وكذا كلّ ما شرط الإنسان على نفسه في شيء يفعله في المستقبل فهو عقد، وكذلك النّذور وما جرى مجرى ذلك‏.‏

ومن هذا الإطلاق العامّ قول الألوسيّ في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ‏}‏ حيث قال‏:‏ المراد بها يعمّ جميع ما ألزم اللّه عباده وعقد عليهم من التّكاليف والأحكام الدّينيّة وما يعقدونه فيما بينهم من عقود الأمانات والمعاملات ونحوهما ممّا يجب الوفاء به‏.‏

ب - المعنى الخاصّ، وبهذا المعنى يطلق العقد على ما ينشأ عن إرادتين لظهور أثره الشّرعيّ في المحلّ، قال الجرجانيّ‏:‏ العقد ربط أجزاء التّصرّف بالإيجاب والقبول‏.‏

وبهذا المعنى عرّفه الزّركشيّ بقوله‏:‏ ارتباط الإيجاب بالقبول الالتزاميّ كعقد البيع والنّكاح وغيرهما‏.‏

وموضوع البحث هنا العقد بالمعنى الخاصّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الالتزام‏:‏

2 - أصل الالتزام في اللّغة‏:‏ من لزم يلزم لزوماً أي ثبت ودام، يقال‏:‏ لزمه المال‏:‏ وجب عليه، ولزمه الطّلاق‏:‏ وجب عليه حكمه، وألزمته المال والعمل فالتزم، والالتزام الاعتناق‏.‏

والالتزام في الاصطلاح‏:‏ إلزام الشّخص نفسه ما لم يكن لازماً عليه من قبل، وقال الحطّاب‏:‏ إنّه إلزام الشّخص نفسه شيئاً من المعروف مطلقاً أو معلّقاً على شيء‏.‏‏.‏‏.‏ وقد يطلق في العرف على ما هو أخصّ من ذلك، وهو التزام المعروف بلفظ الالتزام‏.‏

والالتزام أعمّ من العقد بالمعنى الخاصّ‏.‏

ب - التّصرّف‏:‏

3 - التّصرّف في اللّغة‏:‏ التّقلّب في الأمور، والسّعي في طلب الكسب‏.‏

ويفهم من كلام الفقهاء، أنّ التّصرّف عندهم هو‏:‏ ما يصدر عن الشّخص بإرادته، ويرتّب الشّرع عليه أحكاماً مختلفةً، ويشمل التّصرّف الأفعال والأقوال وبناءً على ذلك فالتّصرّف أعمّ من العقد‏.‏

ج - العهد والوعد‏:‏

4 - العهد في اللّغة‏:‏ الوصيّة، يقال‏:‏ عهد إليه يعهد إذا أوصاه، والعهد‏:‏ الأمان والموثق والذّمّة، ويطلق على كلّ ما عوهد اللّه عليه، وكلّ ما بين العباد من المواثيق‏.‏

فهو بهذا المعنى قريب من معنى العقد بالإطلاق العامّ وأعمّ منه بالإطلاق الخاصّ‏.‏

وأمّا الوعد فيدلّ على ترجية بقول، ويستعمل في الخير حقيقةً وفي الشّرّ مجازاً‏.‏

والوعد في الاصطلاح‏:‏ إخبار عن إنشاء المخبر معروفاً في المستقبل‏.‏

أركان العقد

5 - أركان الشّيء‏:‏ أجزاء ماهيّته وجوانبه الّتي يستند إليها ويقوم بها‏.‏

وفي الاصطلاح‏:‏ الرّكن هو الجزء الذّاتيّ الّذي تتركّب الماهيّة منه ومن غيره بحيث يتوقّف تقوّمها عليه‏.‏

واتّفق الفقهاء على أنّ العقد لا يوجد إلاّ إذا وجد عاقد وصيغة - الإيجاب والقبول - ومحلّ يرد عليه الإيجاب والقبول - المعقود عليه -‏.‏

وذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ هذه الثّلاثة كلّها أركان العقد‏.‏

وذهب الحنفيّة إلى أنّ ركن العقد هو الصّيغة فقط، أمّا العاقدان والمحلّ فممّا يستلزمه وجود الصّيغة، لا من الأركان، وذلك لأنّ ما عدا الصّيغة ليس جزءاً من حقيقة العقد وإن كان يتوقّف وجوده عليه‏.‏

ولكلّ واحد من الصّيغة والعاقدين والمحلّ شروط، لا بدّ لوجود العقد الشّرعيّ من توافرها نبحثها فيما يلي‏:‏

أوّلاً‏:‏ صيغة العقد

6 - صيغة العقد‏:‏ كلام أو فعل يصدر من العاقد ويدلّ على رضاه، ويعبّر عنها الفقهاء بـ ‏"‏ الإيجاب والقبول ‏"‏‏.‏

وتختلف الصّيغة في العقد حسب اختلاف العقود‏.‏

ففي عقد البيع مثلاً يصلح للصّيغة كلّ لفظ أو فعل يدلّ على الرّضا والتّمليك بعوض، مثل قول البائع‏:‏ بعتك أو أعطيتك أو ملّكتك بكذا، وقول المشتري‏:‏ اشتريت أو تملّكت أو ابتعت أو قبلت أو نحو ذلك‏.‏

وفي عقد الحوالة يكفي كلّ ما يدلّ على الرّضا بالنّقل والتّحويل، مثل قول المحيل‏:‏ أحلتك وأتبعتك، وقول المحال عليه‏:‏ رضيت وقبلت ونحوها‏.‏

وعقد الرّهن ينعقد بقول الرّاهن‏:‏ رهنتك هذه الدّار، أو أعطيتها لك رهناً، وقول المرتهن‏:‏ قبلت أو رضيت‏.‏

فالأصل أنّ كلّ ما يدلّ على الإيجاب والقبول لغةً أو عرفاً ينعقد به العقد، فلا يشترط في انعقاد العقد في الأصل لفظ خاصّ، ولا صيغة خاصّة‏.‏

7- واستثنى بعض الفقهاء من هذا الأصل عقد النّكاح، فلا يصحّ إلاّ بلفظ النّكاح والزّواج ومشتقّاتهما، كما ذهب إليه الشّافعيّة والحنابلة، قال الشّربينيّ‏:‏ ولا يصحّ إلاّ بلفظ اشتقّ من لفظ التّزويج أو الإنكاح، دون لفظ الهبة والتّمليك ونحوهما كالإحلال والإباحة ؛ لأنّه لم يذكر في القرآن سواهما فوجب الوقوف معهما تعبّداً واحتياطاً ؛ لأنّ النّكاح ينزع إلى العبادات لورود النّدب فيه، والأذكار في العبادات تتلقّى من الشّرع‏.‏

وقال الحجّاويّ من الحنابلة‏:‏ ولا يصحّ إيجاب إلاّ بلفظ أنكحت أو زوّجت‏.‏‏.‏ ولا يصحّ قبول لمن يحسنها إلاّ بقبلت تزويجها أو نكاحها، أو هذا التّزويج أو هذا النّكاح، أو تزوّجتها، أو رضيت هذا النّكاح، أو قبلت فقط أو تزوّجت‏.‏

أمّا الحنفيّة والمالكيّة فلا يشترطون في عقد النّكاح هذين اللّفظين، فيصحّ عندهما بكلّ لفظ يدلّ على التّأبيد مدّة الحياة، كأنكحت وزوّجت وملّكت وبعت ووهبت ونحوها، إذا قرن بالمهر ودلّ اللّفظ على الزّواج‏.‏

وللتّفصيل ر‏:‏ ‏(‏نكاح وصيغة‏)‏‏.‏

المراد بالإيجاب والقبول‏:‏

8- المراد بالإيجاب في العقود عند الحنفيّة هو‏:‏ ما صدر أوّلاً من كلام أحد المتعاقدين، أو ما يقوم مقام الكلام، سواء أكان من المملّك أم من المتملّك، والقبول‏:‏ ما صدر ثانياً عن أحد المتعاقدين داَلاً على موافقته بما أوجبه الأوّل، فالمعتبر عندهم أوّليّة الصّدور في الإيجاب وثانويّته في القبول، سواء أكان من المملّك أم من المتملّك‏.‏

ويرى غير الحنفيّة أنّ الإيجاب‏:‏ ما صدر ممّن يكون منه التّمليك كالبائع والمؤجّر والزّوجة أو وليّها، سواء صدر أوّلاً أو آخراً، والقبول‏:‏ هو ما صدر ممّن يصير له الملك وإن صدر أوّلاً، فالمعتبر عندهم هو أنّ المملّك هو الموجب والمتملّك هو القابل، ولا اعتبار لما صدر أوّلاً أو آخراً‏.‏

وسائل الإيجاب والقبول‏:‏

9- اتّفق الفقهاء في الجملة على أنّ الإيجاب والقبول كما يحصلان بالألفاظ، كذلك يحصلان بالكتابة والإشارة والرّسالة والمعاطاة، لكنّهم اختلفوا في حكم بعض هذه الوسائل في بعض العقود، وبيان ذلك فيما يلي‏:‏

أ - العقد بالإيجاب والقبول اللّفظيّين‏:‏

10 - الإيجاب والقبول بالألفاظ هو الأصل في انعقاد العقود عند جميع الفقهاء، ولا خلاف بين الفقهاء في أنّ الإيجاب والقبول إذا كانا بصيغة الماضي ينعقد بهما العقد كما إذا قال البائع‏:‏ بعت، وقال المشتري‏:‏ اشتريت، ولا حاجة في هذه الحالة إلى النّيّة ؛ لأنّ هذه الصّيغة وإن كانت للماضي وضعاً لكنّها جعلت إيجاباً للحال في عرف أهل اللّغة والشّرع، والعرف قاض على الوضع كما علّله الكاسانيّ ؛ ولأنّ هذه الألفاظ صريحة في عقد البيع فيلزمهما، كما قال الحطّاب‏.‏

ولا ينعقد بما يدلّ على الاستقبال كصيغة الاستفهام، والمضارع المراد به الاستقبال‏.‏ واختلفوا فيما يدلّ على الحال كصيغة الأمر مثلاً، كقوله‏:‏ بعني، فإذا أجابه الآخر بقوله‏:‏ بعتك، قال الحنفيّة‏:‏ كان هذا اللّفظ الثّاني إيجاباً واحتاج إلى قبول من الأوّل، وهذا رواية عند الحنابلة ومقابل الأظهر عند الشّافعيّة أيضاً‏.‏

وقال المالكيّة - وهو الأظهر عند الشّافعيّة ورواية عند الحنابلة - ينعقد بهما البيع، ولا يحتاج إلى قبول من الأوّل‏.‏

أمّا صيغة المضارع فإذا أراد بها الحال ينعقد العقد وإلاّ فلا، ففي الفتاوى الهنديّة‏:‏ إذا قال البائع‏:‏ أبيع منك هذا بألف أو أبذله أو أعطيكه، وقال المشتري‏:‏ أشتريه منك أو آخذه، ونويا الإيجاب للحال، أو كان أحدهما بلفظ الماضي والآخر بالمستقبل مع نيّة الإيجاب للحال فإنّه ينعقد، وإن لم ينو لم ينعقد‏.‏

ومثله ما نقله الحطّاب عن ابن عبد السّلام حيث قال‏:‏ إن أتى بصيغة الماضي لم يقبل منه رجوع، وإن أتى بصيغة المضارع فكلامه محتمل، فيحلف على ما أراده‏.‏

وينظر التّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏صيغة ف 7‏)‏‏.‏

اعتبار اللّفظ أو المعنى في العقد‏:‏

11 - من القواعد الفقهيّة عند بعض الفقهاء‏:‏ العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني، معنى هذه القاعدة - كما يقول في الدّرر - أنّه عند حصول العقد لا ينظر للألفاظ الّتي يستعملها العاقدان حين العقد، بل إنّما ينظر إلى مقاصدهم الحقيقيّة من الكلام الّذي يلفظ به حين العقد، لأنّ المقصود الحقيقيّ هو المعنى وليس اللّفظ، ولا الصّيغة المستعملة، وما الألفاظ إلاّ قوالب للمعاني‏.‏

وقد اختلف الفقهاء في تطبيق هذه القاعدة في مختلف العقود، فطبّقوها في بعضها ولم يطبّقوها في بعض، وذلك حسب اختلاف طبيعة هذه العقود‏.‏

والظّاهر‏:‏ أنّ هذه القاعدة مطبّقة عند الحنفيّة في أكثر من عقد، ولها فروع كثيرة، قال ابن نجيم‏:‏ الاعتبار للمعنى لا للألفاظ، صرّحوا بذلك في مواضع‏:‏ منها الكفالة، فهي بشرط براءة الأصيل حوالة، وهي بشرط عدم براءته كفالة‏.‏‏.‏ ولو وهب الدّين لمن عليه كان إبراءً للمعنى، فلا يتوقّف على القبول على الصّحيح‏.‏‏.‏ ولو راجعها بلفظ النّكاح صحّت الرّجعة للمعنى، وينعقد البيع بقوله‏:‏ خذ هذا بكذا، فقال‏:‏ أخذت، وينعقد بلفظ الهبة مع ذكر البدل، وبلفظ الإعطاء والاشتراء‏.‏

وتنعقد الإجارة بلفظ الهبة والتّمليك، وبلفظ الصّلح عن المنافع، وبلفظ العاريّة، وينعقد النّكاح بما يدلّ على ملك العين للحال كالبيع والشّراء والهبة والتّمليك، وينعقد السّلم بلفظ البيع كعكسه، ولو شرط ربّ المال للمضارب كلّ الرّبح كان المال قرضاً، ولو شرط لربّ المال كان إبضاعاً‏.‏

ثمّ قال‏:‏ وخرجت عن هذا الأصل مسائل‏:‏

منها‏:‏ لا تنعقد الهبة بالبيع بلا ثمن، ولا العاريّة بالإجارة بلا أجرة ولا البيع بلفظ النّكاح والتّزويج، ولا يقع العتق بألفاظ الطّلاق وإن نوى، والطّلاق والعتاق تراعى فيهما الألفاظ لا المعنى فقط‏.‏

ومن أهمّ المسائل الّتي طبّق الحنفيّة هذا القاعدة فيها عقد بيع الوفاء‏.‏ فإذا قال البائع‏:‏ بعت هذه الدّار بيع الوفاء بكذا وقبل الآخر لا يفيد تمليك عين الدّار، على الرّغم من أنّ لفظ البيع يفيد تمليك المبيع للمشتري، وذلك لأنّ التّمليك لم يكن مقصوداً من الفريقين، بل المقصود به إنّما هو تأمين دين المشتري المترتّب في ذمّة البائع، وإبقاء المبيع تحت يد المشتري لحين وفاء الدّين، ولهذا يجري عليه حكم الرّهن دون البيع اعتباراً للمقاصد والمعاني دون الألفاظ والمباني‏.‏

وبناءً على ذلك للبائع في بيع الوفاء أن يعيد الثّمن ويستردّ المبيع، كما أنّه يحقّ للمشتري أن يعيد المبيع ويستردّ الثّمن‏.‏

ولا يجوز للمشتري أن يبيع المبيع وفاءً من غير البائع، لأنّه كالرّهن‏.‏ كما لا يحقّ للمشتري في بيع الوفاء حقّ الشّفعة، وتبقى الشّفعة للبائع‏.‏

وللتّفصيل ينظر مصطلح‏:‏ ‏(‏بيع الوفاء ف 7‏)‏‏.‏

أمّا المالكيّة‏:‏ فالمعتمد عندهم أنّ العقود كلّها إنّما هي بالنّيّة والقصد مع اللّفظ المشعر بذلك، أو ما يقوم مقامه من إشارة وشبهها، وقد توسّعوا بالأخذ بالمعنى في بعض العقود حتّى أجازوا البيع بالمعاطاة وقالوا‏:‏ كلّ ما عدّه النّاس بيعاً فهو بيع، وشدّدوا في عقد النّكاح واشترطوا فيه اللّفظ الدّالّ عليه ولكن لم يشترطوا فيه لفظ النّكاح أو الزّواج، وقالوا‏:‏ ينعقد بكلّ لفظ يقتضي التّمليك على التّأبيد كالنّكاح والتّزويج والتّمليك والبيع والهبة ونحوها، وقالوا‏:‏ إن قصد باللّفظ النّكاح صحّ‏.‏

أمّا الشّافعيّة فلم يأخذوا بترجيح المعاني على الألفاظ في العقود كأصل متّفق عليه، بل ذكروا في الأخذ به خلافاً، قال السّيوطيّ‏:‏ هل العبرة بصيغ العقود أو بمعانيها ‏؟‏ خلاف، والتّرجيح مختلف في الفروع، فمنها‏:‏ إذا قال‏:‏ اشتريت منك ثوباً صفته كذا بهذه الدّراهم، فقال‏:‏ بعتك فرجّح الشّيخان أنّه ينعقد بيعاً اعتباراً باللّفظ، والثّاني - ورجّحه السّبكيّ - أنّه ينعقد سلماً اعتباراً بالمعنى‏.‏

ومنها‏:‏ إذا وهب بشرط الثّواب فهل يكون بيعاً اعتباراً بالمعنى أو هبةً باعتبار اللّفظ ‏؟‏ الأصحّ‏:‏ الأوّل‏.‏

ومنها‏:‏ إذا قال‏:‏ بعتك ولم يذكر ثمناً، فإن راعينا المعنى انعقد هبةً، أو اللّفظ فهو بيع فاسد‏.‏

ومنها‏:‏ لو قال‏:‏ أسلمت إليك هذا الثّوب في هذا العبد فليس بسلم قطعاً، ولا ينعقد بيعاً على الأظهر، لاختلاف اللّفظ، والثّاني‏:‏ نعم‏.‏ نظراً إلى المعنى‏.‏

ومنها‏:‏ إذا قال لمن عليه الدّين‏:‏ وهبته منك، ففي اشتراط القبول وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يشترط اعتباراً بلفظ الهبة، والثّاني‏:‏ لا، اعتباراً بمعنى الإبراء‏.‏

ومنها‏:‏ الخلاف في الرّجعة بلفظ النّكاح، والإجارة بلفظ المساقاة، والسّلم بلفظ الإجارة، والإجارة بلفظ البيع، والبيع بلفظ الإقالة، والحوالة بلفظ الضّمان ونحوها من المسائل‏.‏ ومثله ما ذكره الزّركشيّ في قواعده، ثمّ بيّن ضابطاً لهذه القاعدة فقال‏:‏ والضّابط لهذه القاعدة أنّه إن تهافت اللّفظ حكم بالفساد على المشهور، كبعتك بلا ثمن، وإن لم يتهافت فإمّا أن تكون الصّيغة أشهر في مدلولها أو المعنى، فإن كانت الصّيغة أشهر كأسلمت إليك هذا الثّوب في هذا العبد فالأصحّ اعتبار الصّيغة ؛ لاشتهار الصّيغة في بيع الذّمم، وقيل‏:‏ ينعقد بيعاً‏.‏‏.‏ وإن لم يشتهر، بل كان المعنى هو المقصود كوهبتك بكذا فالأصحّ انعقاده بيعاً، وإن استوى الأمران فوجهان، والأصحّ اعتبار الصّيغة ؛ لأنّها الأصل والمعنى تابع لها‏.‏

وأمّا الحنابلة فقد أخذوا بهذه القاعدة ورجّحوا المقاصد والمعاني على الألفاظ والمباني في أكثر العقود مع بعض الاستثناءات والخلاف في بعض المسائل‏.‏

يقول ابن القيّم‏:‏ من تدبّر مصادر الشّرع وموارده تبيّن له أنّ الشّارع ألغى الألفاظ الّتي لم يقصد المتكلّم بها معانيها بل جرت على غير قصد منه، كالنّائم والنّاسي والسّكران والجاهل والمكره والمخطئ من شدّة الفرح أو الغضب أو المرض، ونحوهم، ولم يكفر من قال من شدّة فرحه براحلته بعد يأسه منها‏:‏ » اللّهمّ أنت عبدي وأنا ربّك « فكيف يعتبر الألفاظ الّتي يقطع بأنّ مراد قائلها خلافها ‏؟‏

ويقول في موضع آخر‏:‏ المقصود أنّ المتعاقدين وإن أظهرا خلاف ما اتّفقا عليه في الباطن فالعبرة لما أضمراه واتّفقا عليه وقصداه بالعقد‏.‏

ويقول‏:‏ إنّ القصد روح العقد ومصحّحه ومبطله، فاعتبار المقصود في العقود أولى من اعتبار الألفاظ، فإنّ الألفاظ مقصودة لغيرها، ومقاصد العقود هي الّتي تراد لأجلها، فعلم أنّ الاعتبار في العقود والأفعال بحقائقها ومقاصدها دون ظواهر ألفاظها وأفعالها‏.‏

وعلى الرّغم من هذا النّصّ الصّريح في اعتبار المقاصد في العقود دون الألفاظ فإنّ الحنابلة ذكروا بعض المسائل الّتي يختلفون في اعتبار المقاصد أو الألفاظ فيها‏.‏

قال ابن رجب‏:‏ إذا وصل بألفاظ العقود ما يخرجها عن موضوعها فهل يفسد العقد بذلك، أو يجعل كنايةً عمّا يمكن صحّته على ذلك الوجه ‏؟‏ فيه خلاف يلتفت إلى أنّ المغلّب هل هو اللّفظ أو المعنى ‏؟‏ ويتخرّج على ذلك مسائل‏:‏

منها‏:‏ لو أعاره شيئاً وشرط عليه العوض فهل يصحّ أم لا ‏؟‏ على وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ يصحّ ويكون كنايةً عن القرض فيملكه بالقبض إذا كان مكيلاً أو موزوناً، والثّاني‏:‏ أنّها تفسد بذلك ؛ لأنّ العوض يخرجها عن موضعها‏.‏

ومنها‏:‏ لو قال‏:‏ خذ هذا المال مضاربةً والرّبح كلّه لك، أو لي، فقال القاضي وابن عقيل‏:‏ إنّها مضاربة فاسدة يستحقّ فيها أجرة المثل وكذلك قال في المغني، ونقل ابن رجب عن المغني أنّه قال في موضع آخر‏:‏ إنّه إبضاع صحيح، فراعى الحكم دون اللّفظ‏.‏

ومنها‏:‏ لو أسلم في شيء حاَلاً فهل يصحّ، ويكون بيعاً ‏؟‏ أو لا يصحّ ‏؟‏ فيه وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ وهو ظاهر كلام أحمد‏:‏ لا يصحّ البيع بلفظ السّلم، والثّاني‏:‏ يصحّ، قاله القاضي في موضع من خلافه‏.‏

وهكذا نجد الفقهاء يختلفون في تطبيق قاعدة ترجيح المقاصد والمعاني على الألفاظ والمباني في بعض الفروع مع أخذهم بها كأصل‏.‏

الصّريح والكناية في الصّيغة

12 - من الصّيغ ما هو صريح في الدّلالة على المراد فلا يحتاج إلى نيّة أو قرينة ؛ لأنّ المعنى مكشوف عند السّامع كما يقول الكاسانيّ، ومنها ما هو كناية، فلا يدلّ على المراد إلاّ بالنّيّة أو القرينة ؛ لأنّه كما يقول الشبراملسي يحتمل المراد وغيره، فيحتاج في الاعتداد به لنيّة المراد لخفائه‏.‏

ويتّفق الفقهاء على أنّ الطّلاق والعتق والأيمان والنّذور تنعقد بالكناية كما تنعقد بالصّريح‏.‏ ولكنّهم يختلفون في انعقاد ما عدا ذلك من التّصرّفات بالكنايات‏.‏

وأكثر الفقهاء تفصيلاً في بيان استعمال صيغ الصّريح والكناية في العقود هم الشّافعيّة، ففي المجموع للنّوويّ‏:‏ قال أصحابنا‏:‏ كلّ تصرّف يستقلّ به الشّخص كالطّلاق والعتاق والإبراء ينعقد بالكناية مع النّيّة بلا خلاف كما ينعقد بالصّريح، وأمّا ما لا يستقلّ به بل يفتقر إلى إيجاب وقبول فضربان‏:‏

أحدهما‏:‏ ما يشترط فيه الإشهاد كالنّكاح وبيع الوكيل إذا شرط الموكّل الإشهاد، فهذا لا ينعقد بالكناية مع النّيّة بلا خلاف ؛ لأنّ الشّاهد لا يعلم النّيّة‏.‏

والثّاني‏:‏ ما لا يشترط فيه الإشهاد وهو نوعان‏:‏

أحدهما‏:‏ ما يقبل مقصوده التّعليق بالغرر كالكتابة والخلع فينعقد بالكناية مع النّيّة بلا خلاف‏.‏

والثّاني‏:‏ ما لا يقبله كالبيع والإجارة والمساقاة وغيرها، وفي انعقاد هذه العقود بالكناية مع النّيّة وجهان مشهوران، أصحّهما الانعقاد كالخلع لحصول التّراضي مع جريان اللّفظ وإرادة المعنى، ويدلّ على ذلك حديث جابر رضي الله عنه وفيه‏:‏ قال لي النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ » بعني جملك، فقلت‏:‏ إنّ لرجل عليّ أوقيّة ذهب فهو لك بها، قال‏:‏ قد أخذته «‏.‏ قال إمام الحرمين‏:‏ والخلاف في انعقاد البيع ونحوه بالكناية مع النّيّة هو فيما إذا عدمت قرائن الأحوال، فإن توفّرت وأفادت التّفاهم وجب القطع بالصّحّة، لكنّ النّكاح لا يصحّ بالكناية وإن توافرت القرائن‏.‏

واختلف فقهاء الحنابلة في دخول الكناية في العقود، ففي القواعد لابن رجب‏:‏ يختلف الأصحاب في انعقاد العقود بالكنايات، فقال القاضي في مواضع‏:‏ لا كناية إلاّ في الطّلاق والعتاق، وسائر العقود لا كنايات فيها‏.‏

وأمّا المالكيّة فقد ذكر ابن رشد في بداية المجتهد‏:‏ أنّ البيع عند الشّافعيّ يقع بالألفاظ الصّريحة وبالكناية، ثمّ قال‏:‏ ولا أذكر لمالك في ذلك قولاً، إلاّ أنّ القرطبيّ في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ‏}‏ قال‏:‏ البيع قبول وإيجاب يقع باللّفظ المستقبل والماضي، فالماضي فيه حقيقة، والمستقبل كناية، ثمّ قال‏:‏ والبيع يقع بالصّريح والكناية المفهوم منها نقل الملك، ونقل الحطّاب عن ابن يونس وغيره التّفرقة بين أن تكون صيغة البيع بلفظ الماضي فتلزم، أو بلفظ المضارع فيحلف، ثمّ نقل قول القرطبيّ‏:‏ البيع يقع بالصّريح والكناية المفهوم منها نقل الملك، وفي الحطّاب أيضاً‏:‏ إن أتى بصيغة المضارع في البيع فكلامه محتمل فيحلف على ما أراده‏.‏

والّذي يفهم من كلام الحنفيّة أنّ الكناية تدخل في العقود كذلك، قال الكاسانيّ في باب الهبة‏:‏ لو قال‏:‏ حملتك على هذه الدّابّة فإنّه يحتمل الهبة، ويحتمل العاريّة، فإنّه ورد أنّ عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ » حملت على فرس في سبيل اللّه فأضاعه الّذي كان عنده، فأردت أن أشتريه وظننت أنّه يبيعه برخص، فسألت النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ فقال‏:‏ لا تعد في صدقتك «‏.‏

فاحتمل تمليك العين واحتمل تمليك المنافع، فلا بدّ من النّيّة للتّعيين، وقال الكاسانيّ‏:‏ لو قال البائع‏:‏ أبيعه منك بكذا، وقال المشتري‏:‏ أشتريه، ونويا الإيجاب فإنّ الرّكن يتمّ وينعقد العقد، وإنّما اعتبرنا النّيّة هنا - وإن كانت صيغة أفعل للحال هو الصّحيح - لأنّه غلب استعمالها للاستقبال إمّا حقيقةً أو مجازاً، فوقعت الحاجة إلى التّعيين بالنّيّة‏.‏

ب - العقد بالكتابة أو الرّسالة‏:‏

13 - اتّفق الفقهاء في الجملة على صحّة العقود وانعقادها بالكتابة وإرسال رسول إذا تمّ الإيجاب والقبول بهما، وهذا في غير عقد النّكاح‏.‏

ثمّ اختلفوا في بعض العقود وفصّلوا في بعض الشّروط‏:‏

قال المرغينانيّ‏:‏ الكتاب كالخطاب، وكذا الإرسال حتّى اعتبر مجلس بلوغ الكتاب وأداء الرّسالة‏.‏

وقال الدّسوقيّ في باب البيع‏:‏ يصحّ بقول من الجانبين أو كتابة منهما، أو قول من أحدهما وكتابة من الآخر‏.‏

أمّا عقد النّكاح فلا ينعقد بالكتابة عند جمهور الفقهاء‏:‏ المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة، سواء أكان العاقدان حاضرين، أم غائبين، قال الدّردير‏:‏ ولا تكفي في النّكاح الإشارة ولا الكتابة إلاّ لضرورة خرس‏.‏

وقال في موضع آخر‏:‏ وفسخ مطلقاً قبل الدّخول وبعده وإن طال، كما لو اختلّ شرط من شروط الوليّ أو الزّوجين أو أحدهما، أو اختلّ ركن، كما لو زوّجت المرأة نفسها بلا وليّ أو لم تقع الصّيغة بقول، بل بكتابة أو إشارة أو بقول غير معتبر شرعاً‏.‏

وقال الشّربينيّ الخطيب‏:‏ ولا ينعقد بكتابة في غيبة أو حضور ؛ لأنّها كناية، فلو قال لغائب‏:‏ زوّجتك ابنتي أو قال‏:‏ زوّجتها من فلان، ثمّ كتب فبلغه الكتاب فقال‏:‏ قبلت لم يصحّ‏.‏

وقال البهوتيّ من الحنابلة‏:‏ لا يصحّ النّكاح من القادر على النّطق بإشارة ولا كتابة للاستغناء عنها‏.‏

وفصّل الحنفيّة في جواز عقد النّكاح بالكتابة فقالوا‏:‏ لا ينعقد بكتابة حاضر، فلو كتب‏:‏ تزوّجتك، فكتبت‏:‏ قبلت لم ينعقد، وكذلك إذا قالت‏:‏ قبلت، أمّا كتابة غائب عن المجلس فينعقد بها النّكاح بشروط وكيفيّة خاصّة، نقلها ابن عابدين عن الفتح فقال‏:‏ ينعقد النّكاح بالكتابة كما ينعقد بالخطاب، وصورته‏:‏ أن يكتب إليها يخطبها، فإذا بلغها الكتاب أحضرت الشّهود وقرأته عليهم، وقالت‏:‏ زوّجت نفسي منه، أو تقول‏:‏ إنّ فلاناً كتب إليّ يخطبني فاشهدوا أنّي زوّجت نفسي منه، أمّا لو لم تقل بحضرتهم سوى‏:‏ زوّجت نفسي من فلان لا ينعقد ؛ لأنّ سماع الشّطرين شرط صحّة النّكاح، وبإسماعهم الكتاب أو التّعبير عنه منها يكونون قد سمعوا الشّطرين، بخلاف ما إذا انتفيا، ونقل ابن عابدين عن الكامل‏:‏ هذا الخلاف إذا كان الكتاب بلفظ التّزوّج، أمّا إذا كان بلفظ الأمر، كقوله‏:‏ زوّجي نفسك منّي لا يشترط إعلامها الشّهود بما في الكتاب ؛ لأنّها تتولّى طرفي العقد بحكم الوكالة‏.‏

14 – ويشترط في انعقاد العقد بالكتابة – عموماً – أن تكون مستبينةً، أي تبقى صورتها بعد الانتهاء منها، كالكتابة على الصّحيفة أو الورق، وأن تكون مرسومةً بالطّريقة المعتادة بحسب العرف فتقرأ وتفهم، أمّا إذا كانت غير مستبينة كالكتابة على الماء أو الهواء، أو غير مرسومة بالطّريقة المعتادة فلا ينعقد بها أي عقد‏.‏

ووجه انعقاد العقود بالكتابة هو أنّ القلم أحد اللّسانين كما قال الفقهاء، بل ربّما تكون هي أقوى من الألفاظ، ولذلك حثّ اللّه تعالى المؤمنين على توثيق ديونهم بالكتابة حيث قال‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ‏}‏ إلى قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا ‏}‏‏.‏

ج - العقد بالإشارة‏:‏

15 - اتّفق الفقهاء على أنّ إشارة الأخرس المعهودة والمفهومة معتبرة شرعاً، فينعقد بها جميع العقود، كالبيع، والإجارة، والرّهن والنّكاح ونحوها‏.‏

قال ابن نجيم‏:‏ الإشارة من الأخرس معتبرة وقائمة مقام العبارة في كلّ شيء‏.‏

وقال النّفراويّ‏:‏ ينعقد البيع بالكلام وبغيره من كلّ ما يدلّ على الرّضا‏.‏

وقال الخطيب‏:‏ إشارة الأخرس وكتابته بالعقد كالنّطق للضّرورة‏.‏ ومثله ما قاله الحنابلة‏.‏ واختلفوا في إشارة غير الأخرس، فقال جمهور الفقهاء‏:‏ إذا كان الشّخص قادراً على النّطق لا تعتبر إشارته، خلافاً للمالكيّة حيث صرّحوا باعتبار الإشارة في العقود ولو مع القدرة على النّطق‏.‏

وهل عدم القدرة على الكتابة شرط للعمل بالإشارة أم لا ‏؟‏ اختلفوا في ذلك أيضاً‏.‏

وتفصيل الموضوع في مصطلح‏:‏ ‏(‏إشارة‏)‏‏.‏

د - العقد بالتّعاطي ‏"‏ المعاطاة ‏"‏‏:‏

16 - التّعاطي مصدر تعاطى، من العطو بمعنى التّناول، وصورته في البيع‏:‏ أن يأخذ المشتري المبيع ويدفع للبائع الثّمن، أو يدفع البائع المبيع فيدفع الآخر الثّمن من غير تكلّم ولا إشارة، وكما يكون التّعاطي في البيع يكون في غيره من المعاوضات‏.‏

وعقد الزّواج لا ينعقد بالتّعاطي‏.‏

أمّا سائر العقود فالأصل فيها أن تنعقد بالأقوال ؛ لأنّ الأفعال ليس لها دلالة بأصل وضعها على الالتزام بالعقد، لكن إذا كان التّعاطي ينطوي على دلالة تشبه الدّلالة اللّفظيّة حسب العرف والعادة فذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه ينعقد به العقد إذا وجدت قرائن تدلّ على أنّه يفيد الرّضا، وهذا في عقود المعاوضات كالبيع والإجارة والاستصناع ونحوها، وهذا هو مذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة‏.‏

والمذهب عند الشّافعيّة‏:‏ عدم جواز العقود بالتّعاطي، وبعضهم أجاز العقد بالتّعاطي في المحقّرات دون غيرها، واختار النّوويّ وجماعة منهم المتولّي والبغويّ الانعقاد بها في كلّ ما يعدّه النّاس بيعاً‏.‏

موافقة القبول للإيجاب

17 - اتّفق الفقهاء على أنّه لا بدّ لانعقاد العقد من توافق الإيجاب والقبول، ففي عقد البيع مثلاً يشترط أن يقبل المشتري ما أوجبه البائع بما أوجبه، فإن خالفه بأن قبل غير ما أوجبه أو بعض ما أوجبه، أو بغير ما أوجبه أو ببعض ما أوجبه لا ينعقد العقد من غير إيجاب مبتدأ موافق‏.‏

قال في البدائع‏:‏ إذا أوجب البيع في الثّوب فقبل في ثوب آخر لا ينعقد، وكذا إذا أوجب في الثّوبين فقبل في أحدهما ؛ لأنّ القبول في أحدهما تفريق الصّفقة على البائع ؛ ولأنّ القبول في أحدهما يكون إعراضاً عن الجواب بمنزلة القيام عن المجلس‏.‏

وكذا لو أوجب البيع في كلّ الثّوب فقبل المشتري في نصفه لا ينعقد، لأنّ البائع يتضرّر بالتّفريق‏.‏ وكذا إذا أوجب البيع في شيء بألف فقبل فيه بخمسمائة لا ينعقد، أو أوجب بجنس ثمن فقبل بجنس آخر‏.‏

وقال البهوتيّ‏:‏ ويشترط لانعقاد البيع أن يكون القبول على وفق الإيجاب في القدر، فلو خالف كأن يقول‏:‏ بعتك بعشرة فقال‏:‏ اشتريته بثمانية لم ينعقد وأن يكون على وفقه في النّقد وصفته والحلول والأجل، فلو قال‏:‏ بعتك بألف درهم فقال‏:‏ اشتريته بمائة دينار، أو قال‏:‏ بعتك بألف صحيحة فقال‏:‏ اشتريت بألف مكسّرة ونحوه لم يصحّ البيع في ذلك كلّه ؛ لأنّه ردّ للإيجاب لا قبول له‏.‏

ومثله في كتب سائر المذاهب‏.‏

ويشترط الفقهاء لانعقاد العقد توافق الإيجاب والقبول في المعنى، ولهذا ذكروا أنّه لو قال‏:‏ بعتكه بألف فقال‏:‏ اشتريت بألفين جاز ؛ لأنّ القابل بالأكثر قابل بالأقلّ، وفي هذه الحالة إن قبل البائع الزّيادة تمّ العقد بألفين، وإلاّ صحّ بألف فقط، إذ ليس للقابل ولاية إدخال الزّيادة في ملك البائع بلا رضاه كما علّله ابن الهمام وغيره‏.‏

اتّصال القبول بالإيجاب

18 - يشترط لانعقاد العقد أن يكون القبول متّصلاً بالإيجاب، ويحصل هذا الاتّصال باتّحاد مجلس العقد، بأن يقع الإيجاب والقبول معاً في مجلس واحد، فإذا كان العاقدان حاضرين يشترط أن يحصل القبول في المجلس الّذي صدر فيه الإيجاب، وإذا كان من وجّه إليه الإيجاب غائباً يشترط أن يحصل القبول في مجلس العلم بالإيجاب، وهذا في الجملة مع استثناء بعض العقود من هذا الشّرط، كعقد الوكالة والوصيّة‏.‏

ومقتضى هذا الشّرط‏:‏ أن يكون الموجب باقياً على إيجابه إلى أن يتّصل به القبول في المجلس، ولا يرجع عن الإيجاب قبل اتّصال القبول به، ولا يصدر عنه أو ممّن وجّه إليه الإيجاب ما يدلّ على الإعراض ولا ينفضّ مجلس العقد قبل تمام العقد ولا يعني هذا بالضّرورة أن يحصل القبول فور صدور الإيجاب، فالجمهور من الفقهاء لا يشترطون الفوريّة في القبول، وهذا في الجملة، وتفصيله فيما يلي‏:‏

أ - رجوع الموجب عن الإيجاب‏:‏

19 - ذهب جمهور الفقهاء - الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة - إلى أنّ الإيجاب غير ملزم، وللموجب أن يرجع عن إيجابه قبل قبول الطّرف الآخر، سواء ذلك في عقود المعاوضات كالبيع والإجارة ونحوهما، أم في عقود التّبرّعات، كالهبة والعاريّة ومثلهما، قال في الفتاوى الهنديّة‏:‏ وللموجب أيّاً كان أن يرجع قبل قبول الآخر، وفي البدائع‏:‏ لو خاطب ثمّ رجع قبل قبول الآخر صحّ رجوعه، وكذلك لو كتب شطر العقد ثمّ رجع، ويستدلّون على صحّة الرّجوع بأنّ الموجب هو الّذي أثبت للمخاطب ولاية القبول، فله أن يرفعها كعزل الوكيل ؛ ولأنّه لو لم يجز الرّجوع لزم تعطيل حقّ الملك بحقّ التّملّك، فالبائع مثلاً مالك للسّلعة، والمشتري يتملّكها بالعقد، ولا يعارض حقّ التّملّك حقيقة الملك‏.‏

وعلى ذلك إذا رجع الموجب قبل القبول ثمّ قبل المخاطب لا ينعقد العقد ؛ لبطلان الإيجاب بالرّجوع وعدم اتّصال القبول بالإيجاب‏.‏

قال الشّربينيّ الخطيب في شروط الانعقاد‏:‏ وأن يصرّ البادي على ما أتى به من الإيجاب إلى القبول‏.‏

أمّا المالكيّة فقد نقل الحطّاب عن ابن رشد الجدّ‏:‏ أنّه لو رجع أحد المتبايعين عمّا أوجبه لصاحبه قبل أن يجيبه الآخر لم يفده رجوعه إذا أجابه صاحبه بعد بالقبول، وهذا يدلّ على أنّ رجوع الموجب عن الإيجاب لا يبطل الإيجاب، بل يبقى إلى أن يقبله الطّرف الآخر فيتّصل به القبول، وينعقد العقد، أو يردّه فلا ينعقد، ويرى الدّسوقيّ أنّ قول ابن رشد هذا إنّما هو فيما تكون فيه الصّيغة ملزمةً كصيغة الماضي‏.‏

وهل للقابل أن يرجع عن قبوله في مجلس العقد ‏؟‏ فيه خلاف وتفصيل يأتي بيانه‏.‏

ب – صدور ما يدلّ على الإعراض من قبل العاقدين أو أحدهما‏:‏

20 - يشترط لتحقّق الاتّصال بين الإيجاب والقبول أن لا يصدر من الموجب أو الطّرف الآخر أو كليهما ما يدلّ على الإعراض عن انعقاد العقد، وذلك بأن يكون الكلام في موضوع العقد، ولا يتخلّله فصل يعدّ قرينةً على الانصراف عن العقد‏.‏

قال ابن عابدين نقلاً عن البحر‏:‏ الإيجاب يبطل بما يدلّ على الإعراض‏.‏

وقال الحطّاب‏:‏ لو حصل فاصل يقتضي الإعراض عمّا كانا فيه حتّى لا يكون كلامه جواباً للكلام السّابق في العرف لم ينعقد البيع، ومثّل للإعراض بقوله‏:‏ إذا أمسك البائع السّلعة الّتي نادى عليها وباع بعدها أخرى لم يلزم المشتري البيع‏.‏

وشدّد الشّافعيّة فقالوا‏:‏ ويشترط أن لا يتخلّل الإيجاب والقبول لفظ لا تعلّق له بالعقد ولو يسيراً‏.‏

وقال الحنابلة في معرض شروط الانعقاد‏:‏ أن لا يتشاغلا بما يقطعه عرفاً، وإلاّ فلا ينعقد العقد ؛ لأنّ ذلك إعراض عن العقد فأشبه ما لو صرّحا بالرّدّ‏.‏

وأساس التّفرقة بين ما يعتبر إقبالاً على العقد أو إعراضاً عنه هو العرف، كما هو منصوص في كلام الفقهاء‏.‏

ج - وفاة أحد العاقدين بين الإيجاب والقبول‏:‏

21 - ذهب جمهور الفقهاء - الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة - إلى أنّ وفاة أحد العاقدين بعد الإيجاب وقبل القبول يبطل الإيجاب، فلا ينعقد العقد بعد الوفاة بقبول من وجّه إليه الإيجاب بعد موت الموجب، ولا بقبول ورثة المخاطب بعد وفاته‏.‏

ودليل عدم انعقاد العقد في هذه الحالة هو‏:‏ أنّ القبول بعد وفاة الموجب لا يجد ما يلتقي معه من الإيجاب لبطلانه بالوفاة ؛ ولأنّ مجلس العقد انفضّ بالوفاة فلم يوجد شرط الانعقاد، وهو اتّصال القبول بالإيجاب‏.‏

أمّا المالكيّة فالظّاهر من نصوصهم أنّ الإيجاب لا يبطل عندهم بموت المخاطب، وأنّ حقّ القبول يورث بعد وفاة من وجّه إليه الإيجاب، يقول القرافيّ‏:‏ إذا أوجب لزيد فلوارثه القبول والرّدّ، وهذا يعني أنّ المجلس لا ينفضّ بوفاة أحد العاقدين عند المالكيّة كما سيأتي، وقدّمنا أنّ الموجب ليس له الرّجوع عندهم قبل قبول أو ردّ المخاطب، أمّا بقاء الإيجاب بعد وفاة الموجب أو بطلانه بوفاته فلم نعثر لهم على نصّ في الموضوع‏.‏

هذا، وقد ألحق بعض الفقهاء الجنون والإغماء بالوفاة في بطلان الإيجاب بهما‏.‏

د - اتّحاد مجلس العقد‏:‏

22 - يشترط لانعقاد العقد أن يكون الإيجاب والقبول في مجلس واحد، فإن اختلف المجلس لا ينعقد العقد، ويختلف مجلس العقد باختلاف حالة المتعاقدين وطبيعة العقد وكيفيّة التّعاقد، فمجلس العقد في حالة حضور العاقدين غير مجلس العقد في حال غيابهما، كما أنّ مجلس العقد في حالة الإيجاب والقبول بالألفاظ والعبارة يختلف عنهما بالكتابة والرّسالة، وبيان ذلك فيما يلي‏:‏

أ - مجلس العقد في حالة حضور العاقدين‏:‏

23 - تدلّ نصوص الفقهاء على أنّ مجلس العقد في حالة حضور العاقدين يتكوّن من ثلاثة عناصر‏:‏

أحدها‏:‏ المكان، وثانيها‏:‏ الفترة الزّمنيّة، وثالثها‏:‏ حالة المتعاقدين من الاجتماع والانصراف على العقد‏.‏

قال الكاسانيّ‏:‏ وأمّا الّذي يرجع إلى مكان العقد فواحد، وهو اتّحاد المجلس، بأن كان الإيجاب والقبول في مجلس واحد، فإن اختلف المجلس لا ينعقد، حتّى لو أوجب أحدهما البيع، فقام الآخر عن المجلس قبل القبول أو اشتغل بعمل آخر يوجب اختلاف المجلس، ثمّ قبل، لا ينعقد‏.‏

وورد في مجلّة الأحكام العدليّة أنّ مجلس العقد‏:‏ هو الاجتماع الواقع للعقد‏.‏

والدّليل على اعتبار المجلس جامعاً للإيجاب والقبول هو‏:‏ الضّرورة دفعاً للعسر وتحقيقاً لليسر، وإلاّ فالإيجاب يزول بزوال الوقت الّذي وقع فيه فلا يلحقه القبول حقيقةً، قال الكاسانيّ‏:‏ القياس أن لا يتأخّر أحد الشّطرين عن الآخر في مجلس واحد ؛ لأنّه كلّما وجد أحدهما انعدم في الثّاني من زمان وجوده، فوجد الثّاني، والأوّل منعدم فلا ينتظم الرّكن، إلاّ أنّ اعتبار ذلك يؤدّي إلى انسداد باب التّعاقد، فاعتبر المجلس جامعاً للشّطرين حكماً للضّرورة‏.‏

قال البابرتيّ‏:‏ ولأنّ في إبطال الإيجاب قبل انقضاء المجلس عسراً بالمشتري، وفي إبقائه في ما وراء المجلس عسراً بالبائع، وفي التّوقّف بالمجلس يسراً بهما جميعاً، والمجلس جامع للمتفرّقات، فجعلت ساعاته ساعةً واحدةً دفعاً للعسر وتحقيقاً لليسر‏.‏

هذه هي عبارات الحنفيّة، ولا تختلف عنها كثيراً عبارات سائر الفقهاء، إلاّ ما قاله الشّافعيّة من اشتراط الفوريّة في القبول كما سيأتي‏.‏

يقول الحطّاب‏:‏ والّذي تحصّل عندي من كلام أهل المذهب أنّه إذا أجابه في المجلس بما يقتضي الإمضاء والقبول من غير فاصل لزمه البيع اتّفاقاً، وإن تراخى القبول عن الإيجاب حتّى انقضى المجلس لم يلزمه البيع اتّفاقاً، وكذا لو حصل فاصل يقتضي الإعراض عمّا كانا فيه، حتّى لا يكون كلامه جواباً للكلام السّابق في العرف لم ينعقد‏.‏

وقريب منه ما قاله البهوتيّ من الحنابلة حيث صرّح بأنّه‏:‏ إن تراخى القبول عن الإيجاب صحّ ما داما في المجلس ولم يتشاغلا بما يقطعه، وإلاّ فلا ؛ لأنّ حالة المجلس كحالة العقد، بدليل أنّه يكتفى بالقبض فيه لما يشترط قبضه‏.‏

والظّاهر من كلام الشّافعيّة أنّهم لا يخالفون جمهور الفقهاء في اشتراط اتّحاد المجلس وأنّه يحتاج إلى هذه العناصر الثّلاثة، لكنّهم يخالفون الجمهور في اشتراط الفوريّة في القبول‏.‏

التّراخي أو الفوريّة في القبول

24 - ذهب جمهور الفقهاء - الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة - إلى أنّه لا يشترط الفوريّة في القبول، فما دام المتعاقدان في المجلس، وصدر الإيجاب من أحدهما، ولم يصدر القبول إلاّ في آخر المجلس تمّ العقد عندهم، فلا يضرّ التّراخي بين الإيجاب والقبول إذا صدرا في مجلس واحد‏.‏

قال الكاسانيّ‏:‏ إنّ في ترك الفور ضرورةً ؛ لأنّ القابل يحتاج إلى التّأمّل، ولو اقتصر على الفور لا يمكنه التّأمّل‏.‏

وقال الحطّاب‏:‏ ولا يشترط أن لا يحصل بين الإيجاب والقبول فصل بكلام أجنبيّ عن العقد ولو كان يسيراً، فإن أجابه صاحبه في المجلس صحّ‏.‏

وقال البهوتيّ‏:‏ وإن تراخى القبول عن الإيجاب صحّ ما داما في المجلس‏.‏

وهذا معنى قولهم‏:‏ إنّ المجلس جامع للمتفرّقات‏.‏

أمّا الشّافعيّة‏:‏ فقالوا‏:‏ يشترط أن لا يطول الفصل بين الإيجاب والقبول بسكوت ولو سهواً أو جهلاً على المعتمد ؛ لأنّ طول الفصل يخرج الثّاني أن يكون جواباً عن الأوّل كما علّله الشّربينيّ الخطيب، وقالوا‏:‏ يضرّ تخلّل كلام أجنبيّ عن العقد - ولو يسيراً - بين الإيجاب والقبول وإن لم يتفرّقا عن المجلس، والمراد بالأجنبيّ ما ليس من مقتضيات العقد ولا من مصالحه ولا من مستحبّاته‏.‏

علم الموجب بالقبول

25 - صرّح أكثر الحنفيّة بأنّ سماع كلّ من العاقدين كلام الآخر شرط لانعقاد العقد، وهذا يعني اشتراط علم الموجب بقبول القابل في حالة التّعاقد بين الحاضرين‏.‏

وفي الفتاوى الهنديّة‏:‏ سماع المتعاقدين كلامهما شرط انعقاد البيع بالإجماع‏.‏

أمّا الشّافعيّة فيشترطون سماع من يقرب من العاقد لا سماع نفس العاقد، قال الأنصاريّ في شرح المنهج‏:‏ وأن يتلفّظ بحيث يسمعه من بقربه وإن لم يسمعه صاحبه‏.‏

وهذا فيما إذا كان العقد بين حاضرين، بخلاف ما إذا أوجب لغائب ؛ لأنّ الإيجاب للغائب لفظاً كالإيجاب له كتابةً، وسيأتي تفصيل العقد بين الغائبين‏.‏

ب - مجلس العقد في حالة غياب العاقدين‏:‏

26 - لقد تقدّم أنّ العقد كما يصحّ انعقاده بين الحاضرين بالإيجاب والقبول بالعبارة كذلك يصحّ بين الغائبين بالكتابة أو إرسال رسول أو نحوهما، فإذا كتب شخص لآخر مثلاً‏:‏ بعتك داري بكذا، فوصل الكتاب له فقبل انعقد العقد‏.‏

والظّاهر من نصوص الفقهاء‏:‏ أنّ مجلس العقد حالة غياب العاقدين هو مجلس قبول من وجّه له الكتاب، أو أرسل إليه الرّسول‏.‏

قال المرغينانيّ‏:‏ والكتاب كالخطاب، وكذا الإرسال، حتّى اعتبر مجلس بلوغ الكتاب وأداء الرّسالة‏.‏

وقال الرّمليّ من الشّافعيّة‏:‏ لو باع من غائب، كبعت داري من فلان وهو غائب، فلمّا بلغه الخبر قال‏:‏ قبلت انعقد البيع، كما لو كاتبه‏.‏

وقال البهوتيّ‏:‏ وإن كان المشتري غائباً عن المجلس، فكاتبه البائع أو راسله‏:‏ إنّي بعتك داري بكذا، فلمّا بلغه الخبر قبل البيع صحّ العقد‏.‏

وحيث إنّ مجلس العقد في حالة التّعاقد بين الغائبين هو مجلس القبول كما قلنا، فالمعتبر في اتّصال القبول بالإيجاب هو هذا المجلس، فإذا وصل الإيجاب إلى المخاطب، فكأنّ الموجب حضر بنفسه وأوجب العقد، فإذا قبله المخاطب في مجلسه دون إعراض انعقد العقد، وإذا انفضّ المجلس أو صدر ممّن وجّه له الإيجاب ما يدلّ على إعراضه عن القبول عرفاً لا ينعقد، والمعتبر في التّراخي هو ما بين وصول الإيجاب وصدور القبول في هذا المجلس‏.‏

ولا يشترط في حالة انعقاد العقد بين الغائبين علم الموجب بقبول القابل، فعبارات الفقهاء صريحة بأنّ العقد يحصل بمجرّد قبول القابل في المجلس‏.‏

عقود لا يشترط فيها اتّحاد المجلس

27 - طبيعة بعض العقود تقتضي أن لا يشترط فيها اتّحاد المجلس في الإيجاب والقبول، بل إنّ بعض هذه العقود لا يصحّ فيه القبول في المجلس، ومن هذه العقود‏:‏

أ - عقد الوصيّة، فإنّها تمليك مضاف إلى ما بعد الموت، فيصدر الإيجاب فيها حال حياة الموصي، لكن لا يعتبر القبول من الموصى له إلاّ بعد وفاة الموصي، فإذا قبلها الموصى له في مجلس الإيجاب أو بعده في حياة الموصي لا تنعقد به الوصيّة‏.‏

ر‏:‏ ‏(‏وصيّة‏)‏‏.‏

ب - عقد الوصاية ‏"‏ الإيصاء ‏"‏‏:‏ فهي إقامة شخص غيره مقام نفسه بعد وفاته في التّصرّف أو في تدبير شئون أولاده الصّغار، فلا يشترط فيها أن يكون القبول في مجلس الإيجاب، بل يمتدّ زمنه إلى ما بعد الموت، فالوصاية خلافة تظهر آثارها بعد وفاة الموصي‏.‏

ج - عقد الوكالة، فإنّها وإن كانت إقامة الشّخص الغير مقام نفسه في تصرّف من التّصرّفات في الحياة، لكنّها مبنيّة على التّيسير، فإذا قبلها الوكيل في غير مجلس الإيجاب صحّت الوكالة، ولا يتضرّر بذلك الوكيل بسبب غيابه ؛ لأنّ له الرّدّ في أيّ وقت شاء، حيث إنّ الوكالة من العقود غير الَلازمة‏.‏

ر‏:‏ ‏(‏وكالة‏)‏‏.‏

ثانياً‏:‏ العاقدان

28 – المرادُبالعاقدَين‏:‏ كل من يتولى العقدَ، إما أصالةً كأن يبيع أو يشتريَ لنفسه، أو وكالةً كأن يعقد نيابةً عن الغير بتفويضٍ منه في حياته، أووصايةً كمن يتصرف خلافةً عن الغير في شئون حياته بعد وفاته بإذنٍ منه أو من قِبل الحاكمِ‏.‏

وحيث إنّ العقدَ لا يتصور وجودُه من غير عاقدٍ فقد جعله جمهورُ الفقهاء من أركان العقد كما تقدم‏.‏

ولكي ينعقدَ العقد صحيحاً نافذاً يشترط في العاقدَين ما يأتي‏:‏

الأول‏:‏ الأهليةُ

29 – وهو أن يكون العاقد أهلاً للتصرف، وهو‏:‏ البالغ الرشيد فلا يصح من صغيرٍغير مميزٍ ومجنونٍ ومبرسمٍ‏.‏

أما الصبيّ المميزُ فتصح عقودُه وتصرفاته النافعة نفعاً محضاً، كقبولِ الهبة والصدقة والوصية والوقف دون حاجةٍ إلى إذن الولي، ولا تصح عقودُه وتصرفاته الضارة ضرراً محضاً، كالهبة والوصية للغير والطلاق والكفالة بالدَين ونحوها، ولو أجاز هذه التصرفات وليُّه أووصيُّه‏.‏

أما التصرفات الدائرةُ بين النفعِ والضررِ كالبيع والإجارة ونحوهما فتصح من الصبيّ المميز بإجازةِ الولي، ولا تصحّ بدونها عند جمهورِ الفقهاء – الحنفية والمالكية والحنابلة -‏.‏

ويُشترط عند الشافعيةِ لصحة البيع في العاقد‏:‏ الرشدُ‏.‏

ر‏:‏ ‏(‏أهلية ف 18‏)‏‏.‏

الثاني‏:‏ الولايةُ

30 – الولاية‏:‏ مأخوذةٌمن الولي، وهو في اللغة بمعنى القُرب، والولايةُ‏:‏ النُصرةُ‏.‏

وفي الاصطلاحِ‏:‏ تنفيذُ القولِ على الغيرِ شاءَ الغيرُ أو لا‏.‏

ولكي ينعقدَ العقدُ صَحيحاً نافذاً تظهرُ آثارُه شرعاً لابد في العاقد – بجانبِ أهليةِ الأداءِ – أن تكونَ له أهليةَ التصرفِ ليعقدَ العقدَ‏.‏

وتفصيلُ ذلكَ في مصطلحِ‏:‏ ‏(‏ولاية‏)‏‏.‏

الثّالث‏:‏ الرّضا والاختيار

31 - اتّفق الفقهاء على أنّ الرّضا أساس العقود، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ ‏}‏‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ » إنّما البيع عن تراض «‏.‏

والرّضا‏:‏ سرور القلب وطيب النّفس، وهو ضدّ السّخط والكراهة‏.‏

وعرّفه جمهور الفقهاء‏:‏ بأنّه قصد الفعل دون أن يشوبه إكراه‏.‏

وعرّفه الحنفيّة‏:‏ بأنّه امتلاء الاختيار، أي‏:‏ بلوغه نهايته، بحيث يفضي أثره إلى الظّاهر من البشاشة في الوجه، أو إيثار الشّيء واستحسانه‏.‏

ر‏:‏ ‏(‏رضا ف 2‏)‏‏.‏

أمّا الاختيار‏:‏ فهو القصد إلى أمر متردّد بين الوجود والعدم داخل في قدرة الفاعل بترجيح أحد الجانبين على الآخر‏.‏

ر‏:‏ ‏(‏اختيار ف 1‏)‏‏.‏

وبناءً على هذه التّفرقة قال الحنفيّة‏:‏ إنّ الرّضا شرط لصحّة العقود الّتي تقبل الفسخ وهي العقود الماليّة من بيع وإجارة ونحوهما، فهي لا تصحّ إلاّ مع التّراضي، وقد تنعقد العقود الماليّة لكنّها تكون فاسدةً، كما في بيع المكره ونحوه، يقول المرغينانيّ‏:‏‏.‏‏.‏‏.‏ لأنّ من شروط صحّة هذه العقود التّراضي‏.‏

فأصل العقود الماليّة تنعقد عندهم بدون الرّضا، لكنّها لا تكون صحيحةً، فينعقد بيع المخطئ نظراً إلى أصل الاختيار ؛ لأنّ الكلام صدر عنه باختياره، أو بإقامة البلوغ مقام القصد، لكن يكون فاسداً لعدم الرّضا حقيقةً، أمّا العقود الّتي لا تقبل الفسخ عند الحنفيّة فالرّضا ليس شرطاً لصحّتها، فيصحّ عندهم النّكاح والطّلاق والعتاق والرّجعة ونحوها حتّى مع الإكراه‏.‏

أمّا جمهور الفقهاء فتدور عباراتهم بين التّصريح بأنّ الرّضا أصل أو أساس أو شرط للعقود كلّها، فلا ينعقد العقد إذا لم يتحقّق الرّضا سواء أكان ماليّاً أو غير ماليّ‏.‏

ر‏:‏ ‏(‏رضاً ف 13‏)‏‏.‏

عيوب الرّضا

32 - ذكر الفقهاء في عيوب الرّضا‏:‏ الإكراه، والجهل، والغلط، والتّدليس، والغبن، والتّغرير، والهزل، والخلابة، ونحوها، فإذا وجد عيب من هذه العيوب في عقد من العقود يكون العقد باطلاً أو فاسداً في بعض الحالات على خلاف بين الجمهور والحنفيّة أو غير لازم يكون لكلا العاقدين أو أحدهما الخيار في فسخه في حالات أخرى‏.‏

وتعريف هذه العيوب وتفصيل أحكامها وأثرها على الرّضا وخلاف الفقهاء في ذلك ينظر في مصطلحاتها من الموسوعة‏.‏

ثالثاً‏:‏ محلّ العقد

33 - المراد بمحلّ العقد‏:‏ ما يقع عليه العقد وتظهر فيه أحكامه وآثاره، ويختلف المحلّ باختلاف العقود، فقد يكون المحلّ عيناً ماليّةً، كالمبيع في عقد البيع، والموهوب في عقد الهبة، والمرهون في عقد الرّهن، وقد يكون عملاً من الأعمال، كعمل الأجير في الإجارة، وعمل الزّارع في المزارعة، وعمل الوكيل في الوكالة، وقد يكون منفعة شيء معيّن، كمنفعة المأجور في عقد الإجارة، ومنفعة المستعار في عقد الإعارة، وقد يكون غير ذلك كما في عقد النّكاح والكفالة ونحوهما‏.‏

ولهذا فقد اشترط الفقهاء في محلّ العقد شروطاً تكلّموا عنها في كلّ عقد وذكروا بعض الشّروط العامّة الّتي يجب توافرها في العقود عامّةً أو في مجموعة من العقود، منها‏:‏

أ - وجود المحلّ‏:‏

34 - يختلف اشتراط هذا الشّرط باختلاف العقود‏:‏ ففي عقد البيع مثلاً اتّفق الفقهاء في الجملة على وجود المحلّ، فلا يجوز بيع ما لم يوجد لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ » لا تبع ما ليس عندك « ولأنّ في بيع ما لم يوجد غرراً وجهالةً فيمنع، لحديث‏:‏ » أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر « وعلى ذلك صرّحوا ببطلان بيع المضامين والملاقيح وحبل الحبلة‏.‏

ومنعوا من بيع الزّروع والثّمار قبل ظهورها، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ » أرأيت إذا منع اللّه الثّمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه ‏؟‏ «‏.‏

واستثنى الفقهاء من بيع المعدوم عقد السّلم، وذلك لحاجة النّاس إليه‏.‏

كما استثنى الحنفيّة من ذلك عقد الاستصناع للدّليل نفسه‏.‏

ر‏:‏ ‏(‏استصناع ف 7‏)‏‏.‏

أمّا بيع الزّرع أو الثّمر قبل ظهورهما فلا يجوز ؛ لأنّه معدوم ولا يجوز العقد على المعدوم، أمّا بعد الظّهور وقبل بدوّ الصّلاح فإن كان الثّمر أو الزّرع بحال ينتفع بهما فيجوز البيع بشرط القطع في الحال اتّفاقاً لعدم الغرر في ذلك، ولا يجوز بغير شرط القطع عند جمهور الفقهاء‏.‏

واختلفوا في بيع الثّمار المتلاحقة الظّهور‏.‏

وتفصيل ذلك في مصطلح‏:‏ ‏(‏ثمار ف 11 - 13‏)‏‏.‏

وفي عقد الإجارة اعتبر جمهور الفقهاء المنافع أموالاً، واعتبرها كذلك الشّافعيّة والحنابلة موجودةً حين العقد تقديراً، فيصحّ التّعاقد عليها بناءً على وجود المنافع حين العقد عندهم، ولهذا يقولون بنقل ملكيّة المنافع للمستأجر والأجرة للمؤجّر بنفس العقد في الإجارة المطلقة‏.‏

وعلّل المالكيّة جواز الإجارة بأنّ المنافع وإن كانت معدومةً في حال العقد لكنّها مستوفاة في الغالب، والشّرع إنّما لحظ من المنافع ما يستوفى في الغالب أو يكون استيفاؤه وعدم استيفائه سواءً‏.‏

أمّا الحنفيّة فقد أجازوا عقد الإجارة استثناءً من القاعدة ؛ لورود النّصوص من الكتاب والسّنّة في جواز الإجارة، قال الكاسانيّ‏:‏ الإجارة بيع المنفعة، والمنافع للحال معدومة، والمعدوم لا يحتمل البيع، فلا تجوز إضافة البيع إلى ما يؤخذ في المستقبل، وهذا هو القياس، لكنّا استحسنّا الجواز بالكتاب العزيز والسّنّة والإجماع‏.‏

وقال ابن القيّم‏:‏ جواز الإجارة موافقة للقياس ؛ لأنّ محلّ العقد إذا أمكن التّعاقد عليه في حال وجوده وعدمه – كالأعيان – فالأصل فيه عدم جواز العقد حال عدمه للغرر، مع ذلك جاز العقد على ما لم يوجد إذا دعت إليه الحاجة‏.‏

أمّا ما لم يكن له إلاّ حال واحدة، والغالب فيه السّلامة - كالمنافع - فليس العقد عليه مخاطرةً ولا قماراً فيجوز، وقياسه على بيع الأعيان قياس مع الفارق‏.‏

35 - وفرّق بعض الفقهاء في هذا الشّرط بين عقود المعاوضة وعقود التّبرّع، فقالوا بعدم جواز النّوع الأوّل من العقود في حال عدم وجود محلّها، وأجازوا النّوع الثّاني في حالة وجود المحلّ وعدمه‏.‏

ومن هذا القبيل ما قال المالكيّة‏:‏ إنّ ما يختصّ بعقود التّبرّعات كالهبة مثلاً يجوز فيه أن يكون موضوع العقد - الموهوب - غير موجود في الخارج، بل ديناً في الذّمّة، أو غير معلوم فعلاً، فالغرر في الهبة لغير الثّواب جائز عندهم، ولهذا صرّحوا بأنّ من وهب لرجل ما يرثه من فلان، وهو لا يدري كم هو ‏؟‏ أسدس أو ربع فذلك جائز‏.‏

وفي الرّهن يجوز عندهم أن يكون موضوع العقد – المرهون – غير موجود حين العقد، كثمرة لم يبد صلاحها، فشيء يوثق به خير من عدمه، كما يقولون‏.‏

وهذا بخلاف عقد البيع وسائر العقود في المعاوضات‏.‏

ب - قابليّة المحلّ لحكم العقد‏:‏

36 - يشترط في محلّ العقد عند الفقهاء أن يكون قابلاً لحكم العقد‏.‏

والمراد بحكم العقد‏:‏ الأثر المترتّب على العقد، ويختلف هذا حسب اختلاف العقود، ففي عقد البيع مثلاً أثر العقد هو انتقال ملكيّة المبيع من البائع إلى المشتري، ويشترط فيه أن يكون مالاً متقوّماً مملوكاً للبائع، فما لم يكن مالاً بالمعنى الشّرعيّ‏:‏ وهو ما يميل إليه الطّبع ويجري فيه البذل والمنع لا يصحّ بيعه، كبيع الميتة مثلاً عند المسلمين‏.‏

وكذا إذا لم يكن متقوّماً، أي‏:‏ منتفعاً به شرعاً، كبيع الخمر والخنزير، فإنّهما وإن كانا مالاً عند غير المسلمين، لكنّهما ليسا متقوّمين عند المسلمين، فحرم بيعهما، كما ورد في حديث جابر رضي الله عنه‏:‏ » إنّ اللّه ورسوله حرّما بيع الخمر والميتة والخنزير «‏.‏

وفي عقود المنفعة كعقد الإجارة والإعارة ونحوهما يشترط أن يكون محلّ العقد - أي‏:‏ المنفعة المعقود عليها - منفعةً مقصودةً مباحةً، فلا تجوز الإجارة على المنافع المحرّمة كالزّنا والنّوح ونحوهما كما هو مفصّل في مصطلح‏:‏ ‏(‏إجارة ف 108‏)‏‏.‏

وكما لا يجوز إجارة المنافع المحرّمة لا يجوز إعارتها كذلك ؛ لأنّ من شروط صحّة العاريّة إمكان الانتفاع بمحلّ العقد – المعار أو المستعار – انتفاعاً مباحاً شرعاً مع بقاء عينه، كالدّار للسّكنى، والدّابّة للرّكوب، مثلاً فلا يجوز إعارة الفروج للاستمتاع، ولا آلات الملاهي للّهو، كما لا تصحّ الإعارة للغناء أو الزّمر أو نحوهما من المحرّمات، فالإعارة لا تبيح ما لا يبيحه الشّرع‏.‏

تفصيله في مصطلح‏:‏ ‏(‏عاريّة‏)‏‏.‏

وفي عقد الوكالة يشترط في المحلّ - الموكّل به - أن يكون قابلاً للانتقال للغير والتّفويض فيه، ولا يكون خاصّاً بشخص الموكّل، كما هو مفصّل في مصطلح‏:‏ ‏(‏وكالة‏)‏‏.‏

ج - معلوميّة المحلّ للعاقدين‏:‏

37 - يشترط في المحلّ أن يكون معيّناً ومعروفاً للعاقدين، بحيث لا يكون فيه جهالة تؤدّي إلى النّزاع والغرر‏.‏

ويحصل العلم بمحلّ العقد بكلّ ما يميّزه عن الغير من رؤيته أو رؤية بعضه عند العقد، أو بوصفه وصفاً يكشف عنه تماماً، أو بالإشارة إليه‏.‏

وهذا الشّرط متّفق عليه عند الفقهاء في عقود المعاوضة في الجملة فلا يجوز بيع شاة من القطيع مثلاً ولا إجارة إحدى هاتين الدّارين، وذلك لأنّ الجهالة في محلّ العقد - المعقود عليه - تسبّب الغرر وتفضي إلى النّزاع‏.‏

وفرّق بعض الفقهاء في هذه المسألة بين الجهالة الفاحشة - وهي‏:‏ الّتي تفضي إلى النّزاع - وبين الجهالة اليسيرة - وهي‏:‏ الّتي لا تفضي إلى النّزاع - فمنعوا الأولى وأجازوا الثّانية‏.‏

وجعل جمهور الفقهاء العرف حكماً في تعيين ما تقع عليه الإجارة من منفعة، وتمييز الجهالة الفاحشة عن الجهالة اليسيرة‏.‏

وتفصيل ذلك في مصطلحي‏:‏ ‏(‏بيع ف 32، والإجارة ف 34‏)‏‏.‏

وفي عقد السّلم يشترط في المحلّ - المسلم فيه - أن يكون معلوم الجنس والنّوع والصّفة والقدر، كيلاً أو وزناً أو عدّاً أو ذرعاً، وذلك لأنّ الجهالة في كلّ منها تفضي إلى المنازعة، وقد ورد في الحديث عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ » من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم «‏.‏

وللتّفصيل ينظر مصطلح‏:‏ ‏(‏سلم‏)‏‏.‏

هذا في عقود المعاوضة‏.‏

38 - أمّا عقود التّبرّع فقد اختلف الفقهاء في جواز كون المحلّ مجهولاً، ومن أمثلة ذلك ما يأتي‏:‏

أ - عقد الهبة‏:‏

39 - يشترط الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة في الموهوب - وهو محلّ عقد الهبة - أن يكون معلوماً ومعيّناً، قال الحصكفيّ‏:‏ شرائط صحّة الهبة في الموهوب‏:‏ أن يكون مقبوضاً، غير مشاع، مميّزاً، غير مشغول، فلا تصحّ هبة لبن في ضرع، وصوف على غنم، ونخل في أرض، وتمر في نخل‏.‏

وقال الشّربينيّ الخطيب‏:‏ كلّ ما يجوز بيعه تجوز هبته، وكلّ ما لا يجوز بيعه لا تجوز هبته، كمجهول ومغصوب لغير قادر على انتزاعه، وضالّ وآبق‏.‏

أمّا المالكيّة فقد توسّعوا فيها، فأجازوا هبة المجهول والمشاع، جاء في الفواكه الدّواني‏:‏ أنّ شرط الشّيء المعطى أن يكون ممّا يقبل النّقل في الجملة، فيشمل الأشياء المجهولة‏.‏ وللتّفصيل ينظر مصطلح‏:‏ ‏(‏هبة‏)‏‏.‏

ب - عقد الوصيّة‏:‏

40 - تصحّ وصيّة الموصي بجزء أو سهم من ماله ولو غير معيّن كما صرّح به الحنفيّة، وفي هذه الصّورة يكون البيان إلى الورثة ؛ لأنّه مجهول يتناول القليل والكثير، والوصيّة لا تمتنع بالجهالة‏.‏

وأجاز الحنابلة الوصيّة بالحمل إن كان مملوكاً للموصي، والغرر والخطر لا يمنع صحّة الوصيّة عندهم‏.‏

كما أجاز الشّافعيّة الوصيّة بالمجهول، كالحمل الموجود في البطن منفرداً عن أمّه أو معها، وكالوصيّة باللّبن في الضّرع، والصّوف على ظهر الغنم‏.‏

وللتّفصيل ينظر مصطلح‏:‏ ‏(‏وصيّة‏)‏‏.‏

41 - هذا، وقد ذكر القرافيّ في فروقه الفرق بين قاعدة ما تؤثّر فيه الجهالات وما لا تؤثّر فيه ذلك من العقود والتّصرّفات فقال‏:‏ وردت الأحاديث الصّحيحة في نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر وعن بيع المجهول، واختلف العلماء بعد ذلك‏:‏

فمنهم من عمّمه في التّصرّفات - وهو الشّافعيّ - فمنع من الجهالة في الهبة والصّدقة والإبراء والخلع والصّلح وغير ذلك، ومنهم من فصل - وهو مالك - بين قاعدة ما يجتنب فيه الغرر والجهالة، وهو باب المماكسات والتّصرّفات الموجبة لتنمية الأموال وما يقصد به تحصيلها، وقاعدة ما لا يجتنب فيه الغرر والجهالة وهو ما لا يقصد لذلك، وانقسمت التّصرّفات عنده ثلاثة أقسام‏:‏

طرفان وواسطة، فالطّرفان أحدهما‏:‏ معاوضة صرفة فيجتنب فيها ذلك إلاّ ما دعت الضّرورة إليه‏.‏‏.‏‏.‏ وثانيهما‏:‏ ما هو إحسان صرف لا يقصد به تنمية المال كالصّدقة والهبة والإبراء‏.‏

ففي القسم الأوّل‏:‏ إذا فات بالغرر والجهالات ضاع المال المبذول في مقابلته فاقتضت حكمة الشّرع منع الجهالة فيه، أمّا القسم الثّاني - أي‏:‏ الإحسان الصّرف - فلا ضرر فيه، فاقتضت حكمة الشّرع وحثّه على الإحسان التّوسعة فيه بكلّ طريق، بالمعلوم والمجهول فإنّ ذلك أيسر لكثرة وقوعه قطعاً، وفي المنع من ذلك وسيلة إلى تقليله فإذا وهب له عبده الآبق جاز أن يجده فيحصل له ما ينتفع به، ولا ضرر عليه ؛ لأنّه لم يبذل شيئاً، وهذا فقه جميل‏.‏

ثمّ قال‏:‏ وأمّا الواسطة بين الطّرفين فهو النّكاح، فهو من جهة أنّ المال فيه ليس مقصوداً، وإنّما مقصده المودّة والألفة والسّكون، يقتضي أن يجوز فيه الجهالة والغرر مطلقاً، ومن جهة أنّ صاحب الشّرع اشترط فيه المال بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم ‏}‏ يقتضي امتناع الجهالة والغرر فيه، فلوجود الشّبهين توسّط مالك فجوّز فيه الغرر القليل دون الكثير، نحو عبد من غير تعيّن، وشورة - أثاث - بيت، ولا يجوز على العبد الآبق، والبعير الشّارد‏.‏

د - القدرة على التّسليم‏:‏

42 - يشترط في محلّ العقد أن يكون مقدور التّسليم، وهذا الشّرط محلّ اتّفاق في عقود المعاوضة في الجملة، فالحيوان الضّالّ الشّارد ونحوه لا يصلح أن يكون موضوعاً لعقد البيع أو الإجارة أو الصّلح أو نحوها، وكذلك الدّار المغصوبة من غير غاصبها، أو الأرض أو أي شيء آخر تحت يد العدوّ‏.‏

قال الكاسانيّ‏:‏ من شروط المبيع أن يكون مقدور التّسليم عند العقد، فإن كان معجوز التّسليم عنده لا ينعقد، وإن كان مملوكاً له كبيع الآبق حتّى لو ظهر يحتاج إلى تجديد الإيجاب والقبول إلاّ إذا تراضيا فيكون بيعاً مبتدأً بالتّعاطي‏.‏

وقال في شروط المستأجر‏:‏ من شروطه أن يكون مقدور الاستيفاء حقيقةً وشرعاً ؛ لأنّ العقد لا يقع وسيلةً إلى المعقود عليه بدونه، فلا يجوز استئجار الآبق، ولا إجارة المغصوب من غير الغاصب‏.‏

وفي المنثور للزّركشيّ‏:‏ من حكم العقود الَلازمة أن يكون المعقود عليه معلوماً مقدوراً على تسليمه في الحال، والجائز قد لا يكون كذلك كالجعالة تعقد على ردّ الآبق‏.‏

وقال النّوويّ في بيان شروط المبيع‏:‏ الثّالث‏:‏ إمكان تسليمه، فلا يصحّ بيع الضّالّ والآبق والمغصوب، وعلّله الشّربينيّ الخطيب بقوله‏:‏ للعجز عن تسليم ذلك حالاً‏.‏

ومثله ما في كتب بقيّة المذاهب‏.‏

أمّا في عقود التّبرّع فأجاز المالكيّة هبة الآبق والحيوان الشّارد، مع أنّهما غير مقدوري التّسليم حين العقد، لأنّه إحسان صرف، فإذا وجده وتسلّمه يستفيد منه، وإلاّ لا يتضرّر كما قال القرافيّ، وأجاز الشّافعيّة الوصيّة فيما يعجز عن تسليمه‏.‏

وقال ابن القيّم في عقود التّبرّع‏:‏ لا غرر في تعلّقها بالموجود والمعدوم وما يقدر على تسليمه وما لا يقدر‏.‏

تقسيمات العقود

43 - قسّم الفقهاء العقود باعتبارات مختلفة، وبيّنوا خواصّها وأحكامها الفقهيّة بحيث تشمل مجموعةً من العقود، وتميّزها عن مجموعة أخرى، وفيما يلي بعض هذه التّقسيمات‏:‏

أوّلاً‏:‏ العقود الماليّة والعقود غير الماليّة

44 - العقد إذا وقع على عين من الأعيان يسمّى عقداً ماليّاً باتّفاق الفقهاء، سواء أكان نقل ملكيّتها بعوض، كالبيع بجميع أنواعه من الصّرف والسّلم والمقايضة ونحوها أم بغير عوض، كالهبة والقرض والوصيّة بالأعيان ونحوها، أو بعمل فيها، كالمزارعة والمساقاة والمضاربة ونحوها‏.‏

أمّا إذا وقع على عمل معيّن دون مقابل كالوكالة والكفالة والوصاية، أو الكفّ عن عمل معيّن كعقد الهدنة بين المسلمين وأهل الحرب، فهو عقد غير ماليّ من الطّرفين‏.‏

وهناك عقود تعتبر ماليّةً من جانب، وغير ماليّة من جانب آخر كعقد النّكاح والخلع والصّلح عن الدّم وعقد الجزية ونحوها‏.‏

واختلفوا في العقود الّتي تقع على المنافع، كالإجارة، والإعارة ونحوهما، فالجمهور يعتبرها من العقود الماليّة ؛ لأنّ المنافع أموال عندهم أو في حكم الأموال خلافاً للحنفيّة، حيث إنّ المنافع لا تعتبر أموالاً عندهم‏.‏

قال الزّركشيّ‏:‏ العقد إمّا ماليّ من الطّرفين حقيقةً كالبيع والسّلم، أو حكماً كالإجارة، فإنّ المنافع تنزّل منزل الأموال، ومثله المضاربة والمساقاة‏.‏

أو غير ماليّ من الجانبين كما في عقد الهدنة، إذ المعقود عليه في الطّرفين كفّ كلّ منهما عن الإغراء بين المسلمين وأهل الحرب، وكعقد القضاء‏.‏

أو ماليّ من أحد الطّرفين كالنّكاح والخلع والصّلح عن الدّم والجزية، وغير الماليّ من الطّرفين أشدّ لزوماً من الماليّ فيهما، إذ يجوز في الماليّ فسخه بعيب في العوض كالثّمن والمثمّن، كما في خيار العيب، وغير الماليّ لا يفسخ أصلاً إلاّ لحدوث ما يمنع الدّوام‏.‏ وينقسم الماليّ إلى محض وغيره، فيقولون‏:‏ معاوضة محضة وغير محضة، فالمحضة‏:‏ يكون المال فيها مقصوداً من الجانبين ‏"‏ كالبيع ‏"‏‏.‏

والمعاوضة غير المحضة‏:‏ لا تقبل التّعليق إلاّ في الخلع من جانب المرأة ‏"‏ نحو‏:‏ إن طلّقتني فلك ألف ‏"‏‏.‏

وقال‏:‏ ينقسم العقد إلى ما يرد على العين قطعاً كالبيع بأنواعه، وإلى ما يرد على المنافع في الأصحّ كالإجارة، ولهذا قالوا‏:‏ إنّها تمليك المنافع بعوض، وقال أبو إسحاق‏:‏ المعقود عليه العين ليستوفى منها المنافع‏.‏

ثانياً‏:‏ العقود الَلازمة والعقود غير الَلازمة

45 - العقد الَلازم هو‏:‏ ما لا يكون لأحد العاقدين فيه حقّ الفسخ دون رضا الآخر، ومقابله‏:‏ العقد الجائز أو غير الَلازم‏:‏ وهو ما يكون لأحد العاقدين فيه حقّ الفسخ‏.‏

وقد قسّم الفقهاء العقد باعتبار اللّزوم والجواز إلى أنواع‏:‏

قال السّيوطيّ‏:‏ العقود الواقعة بين اثنين على أقسام‏:‏

الأوّل‏:‏ لازم من الطّرفين قطعاً، كالبيع والصّرف والسّلم والتّولية والتّشريك وصلح المعاوضة والحوالة والإجارة والمساقاة والهبة للأجنبيّ بعد القبض والصّداق وعوض الخلع‏.‏

الثّاني‏:‏ جائز من الطّرفين قطعاً، كالشّركة والوكالة والقراض والوصيّة والعاريّة والوديعة والقرض والجعالة والقضاء والوصايا وسائر الولايات غير الإمامة‏.‏

والثّالث‏:‏ ما فيه خلاف، والأصحّ أنّه لازم كالمسابقة والمناضلة، بناءً على أنّهما كالإجارة، ومقابله يقول‏:‏ إنّهما كالجعالة، والنّكاح لازم من المرأة قطعاً، ومن الزّوج على الأصحّ، كالبيع، وقيل‏:‏ جائز منه لقدرته على الطّلاق‏.‏

الرّابع‏:‏ ما هو جائز ويئول إلى اللّزوم، وهو الهبة والرّهن قبل القبض، والوصيّة قبل الموت‏.‏

الخامس‏:‏ ما هو لازم من أحد الطّرفين جائز من الآخر، كالرّهن بعد القبض والضّمان والكفالة وعقد الأمان والإمامة العظمى‏.‏

وذكر الزّركشيّ أنّ القسمة في الحقيقة ثلاثيّة‏:‏

لازم من الطّرفين، جائز منهما، لازم من أحدهما، وقال‏:‏ من حكم الَلازم أن يكون المعقود عليه معلوماً مقدوراً على تسليمه في الحال، والجائز قد لا يكون كذلك، كالجعالة تعقد على ردّ الآبق‏.‏

ومن أحكام العقد الَلازم من الطّرفين‏:‏ أنّه لا يثبت فيه خيار مؤبّد، ولا ينفسخ بموت أحد العاقدين أو كليهما، أو بالجنون أو الإغماء، والجائز بخلافه، كما قال الزّركشيّ‏.‏

وهذه القاعدة ليست مطّردةً عند الحنفيّة ؛ لأنّ عقد الإجارة عقد لازم من الطّرفين عندهم لكنّها تنفسخ بالوفاة ؛ لأنّها تنعقد على المنافع، وهي تحدث شيئاً فشيئاً، فالمنافع الّتي تحدث بعد وفاة العاقدين لم تكن موجودةً حين العقد، فتفسخ الإجارة عند الحنفيّة بالوفاة‏.‏ ر‏:‏ ‏(‏إجارة ف 72‏)‏‏.‏

ثالثاً‏:‏ تقسيم العقد باعتبار قبوله الخيار

46 - قسّم ابن قدامة العقد باعتبار قبوله الخيار أو عدم قبوله إلى ستّة أقسام، وبيّن حكم هذه الأقسام كالتّالي‏:‏

أ - عقد لازم يقصد منه العوض، وهو البيع وما في معناه، وهو نوعان‏:‏

أحدهما‏:‏ يثبت فيه الخياران‏:‏ خيار المجلس وخيار الشّرط كالبيع فيما لا يشترط فيه القبض في المجلس، والصّلح بمعنى البيع، والهبة بعوض على إحدى الرّوايتين، والإجارة في الذّمّة، نحو أن يقول‏:‏ استأجرتك على أن تخيط لي هذا الثّوب ونحوه، فهذا يثبت فيه الخيار، فأمّا الإجارة المعيّنة، فإن كانت مدّتها من حين العقد دخلها خيار المجلس دون خيار الشّرط، لأنّ دخوله يفضي إلى فوت بعض المنافع المعقود عليها، أو إلى استيفائها في مدّة الخيار، وكلاهما لا يجوز‏.‏

النّوع الثّاني‏:‏ ما يشترط فيه القبض في المجلس، كالصّرف والسّلم وبيع مال الرّبا بجنسه، فلا يدخله خيار الشّرط‏.‏

ب - عقد لازم لا يقصد به العوض كالنّكاح والخلع، فلا يثبت فيهما خيار، لأنّ الخيار إنّما يثبت لمعرفة الحظّ في كون العوض جائزاً لما يذهب من ماله، والعوض هنا ليس هو المقصود، وكذلك الوقف والهبة ؛ ولأنّ في ثبوت الخيار في النّكاح ضرراً‏.‏

ج – عقد لازم من أحد طرفيه دون الآخر، كالرّهن لازم من جهة الرّاهن جائز في حقّ المرتهن، فلا يثبت فيه الخيار ؛ لأنّ المرتهن يستغني بالجواز في حقّه عن ثبوت خيار آخر، والرّاهن يستغني بثبوت الخيار له إلى أن يقبض، وكذلك الضّامن والكفيل‏.‏

د - عقد جائز من الطّرفين كالشّركة والمضاربة والجعالة والوكالة الوديعة والوصيّة، فهذه لا يثبت فيها خيار استغناءً بجوازها والتّمكّن من فسخها بأصل وضعها‏.‏

هـ - عقد متردّد بين الجواز واللّزوم كالمساقاة والمزارعة، والظّاهر أنّهما جائزان، فلا يدخلهما خيار، وقيل‏:‏ هما لازمان، ففي ثبوت الخيار فيهما وجهان‏.‏

و - عقد لازم يستقلّ به أحد المتعاقدين، كالحوالة، والأخذ بالشّفعة فلا خيار فيهما ؛ لأنّ من لا يعتبر رضاه لا خيار له، وإذا لم يثبت في أحد طرفيه لم يثبت في الآخر كسائر العقود‏.‏

رابعاً‏:‏ العقود الّتي يشترط فيها القبض، والّتي لا يشترط فيها

47 - قسّم الفقهاء العقود - باعتبار اشتراط القبض فيها أو عدمه - إلى نوعين‏:‏

48 - الأوّل‏:‏ عقود لا يشترط فيها قبض المعقود عليه حين العقد في الجملة‏:‏

ومن هذا النّوع عقد البيع المطلق والإجارة والنّكاح والوصيّة والوكالة والحوالة ونحوها، فالبيع مثلاً ينعقد بالإيجاب والقبول، وتترتّب عليه آثاره‏:‏ من انتقال ملكيّة المبيع إلى المشتري، وملكيّة الثّمن إلى البائع، سواء أحصل التّقابض بينهما أم لا، وهذا باتّفاق الفقهاء، إلاّ أنّ الحنفيّة والشّافعيّة صرّحوا بأنّ الملك - وإن كان ينتقل في البيع بمجرّد العقد - لكن لا يستقرّ إلاّ بالقبض، كالصّداق في عقد النّكاح‏.‏

والإجارة تنعقد بمجرّد الإيجاب والقبول، وتترتّب عليها آثارها بالعقد دون الحاجة إلى الاستيفاء عند جمهور الفقهاء، خلافاً للحنفيّة حيث قالوا‏:‏ لا يملك المؤجّر الأجرة بنفس العقد، وإنّما يملكها بالاستيفاء، أو التّمكّن منه أو بالتّعجيل، أو بشرط التّعجيل، كما لا يملك المستأجر المنافع بالعقد ؛ لأنّها تحدث شيئاً فشيئاً، وإنّما يملكها بالاستيفاء أو يوماً فيوماً‏.‏

والنّكاح يترتّب عليه آثاره بمجرّد العقد، ولا يحتاج إلى قبض الصّداق، وكذلك الوصيّة والوكالة والحوالة لا تحتاج في انعقادها إلى قبض المعقود عليه‏.‏

49 - الثّاني‏:‏ عقود يشترط فيها قبض المعقود عليه حين العقد‏:‏

وهذه تنقسم إلى أقسام‏:‏

أ - عقود يشترط فيها القبض لنقل الملكيّة، كالهبة والقرض والعاريّة‏.‏

أمّا الهبة - وهي تمليك في الحياة بغير عوض - فجمهور الفقهاء - الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة - قالوا‏:‏ لا تنتقل الملكيّة فيها بمجرّد الإيجاب والقبول، بل يحتاج ذلك إلى القبض بإذن الواهب‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ لا يشترط لانتقال الملكيّة في عقد الهبة القبض، بل تثبت للموهوب له ملكيّة الموهوب بالعقد، وعلى الواهب إقباضه‏.‏

وكذلك القرض‏:‏ فالجمهور من الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة على أنّه يشترط لنقل ملكيّته إلى المقترض القبض‏.‏

وذهب المالكيّة إلى أنّ المقترض يملك القرض بالعقد، ولا يحتاج ذلك إلى قبض العين المقرضة‏.‏

وعلى ذلك فإذا هلكت العين بعد العقد وقبل القبض فإنّ ضمانها على المقرض عند جمهور الفقهاء، بناءً على بقاء الملكيّة لديه‏.‏

وفي عقد العاريّة صرّح الحنفيّة بأنّ ملك المنافع من الأموال المعارة لا تنتقل بمجرّد العقد، بل يحتاج ذلك إلى قبض المعار‏.‏

وقال الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ إنّ العاريّة إباحة الانتفاع، فلا تنتقل فيها المنافع أصلاً ؛ لأنّها ليست تمليك المنافع‏.‏

وعند المالكيّة تملّك منفعة المعار بالعقد وإن لم يقبص المعار‏.‏

ر‏:‏ ‏(‏عاريّة‏)‏‏.‏

ب - عقود يشترط فيها القبض لصحّتها، كالصّرف، وبيع الأموال الرّبويّة، والسّلم، والمضاربة، والمساقاة، والمزارعة‏.‏

أمّا عقد الصّرف - وهو بيع النّقد بالنّقد - فاتّفق الفقهاء على أنّه يشترط في صحّته التّقابض، في البدلين قبل التّفرّق عن مجلس العقد، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ » لا تبيعوا الذّهب بالذّهب إلاّ مثلاً بمثل، ولا تشفّوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلاّ مثلاً بمثل، ولا تشفّوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائباً بناجز «‏.‏ وكذلك بيع الأموال الرّبويّة كالبرّ والشّعير ونحوهما فيشترط في بيعها بمثلها التّقابض، لما ورد في الأحاديث من النّهي عن بيع النّسيئة في ذلك، منها قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ » الذّهب بالذّهب رباً إلاّ هاء وهاء، والبرّ بالبرّ رباً إلاّ هاء وهاء، والشّعير بالشّعير رباً إلاّ هاء وهاء، والتّمر بالتّمر رباً إلاّ هاء وهاء «‏.‏

وأمّا عقد السّلم - وهو‏:‏ بيع الآجل بالعاجل - فذهب جمهور الفقهاء الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يشترط في صحّته قبض رأس المال قبل الافتراق، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ » من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم «، والتّسليف هو الإعطاء ؛ ولأنّ الافتراق قبل قبض رأس المال يؤدّي إلى بيع دين بدين، وهو ممنوع، لما ورد من النّهي عن ذلك في الحديث الصّحيح‏.‏

والمشهور عند المالكيّة‏:‏ عدم اشتراط قبض رأس المال في السّلم في مجلس العقد، وقالوا بجواز تأخيره اليومين والثّلاثة ؛ لأنّ ما قارب الشّيء يعطى حكمه‏.‏

وأمّا المضاربة – وهي‏:‏ إعطاء مال للتّجارة على جزء معلوم من الرّبح – فقد ذهب جمهور الفقهاء – الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة وبعض الحنابلة – إلى أنّه يشترط في صحّة هذا العقد تسليم رأس المال إلى العامل، بحيث يمكنه التّصرّف فيه‏.‏

وذهب الحنابلة في رواية أخرى‏:‏ إلى عدم اشتراط قبض رأس المال في صحّة المضاربة‏.‏ ر‏:‏ ‏(‏مضاربة‏)‏‏.‏

وفي عقد المساقاة - وهو‏:‏ عقد على دفع الشّجر والكروم إلى من يصلحها بجزء معلوم من ثمرها - اشترط الحنفيّة والشّافعيّة أنّ على مالك الأشجار تسليمها إلى العامل ليتعهّدها، فيقسم ما يحصل من الثّمر بينهما، فلو شرط كونها في يد المالك أو مشاركته في اليد لم يصحّ العقد لعدم حصول التّسليم‏.‏

ر‏:‏ ‏(‏مساقاة‏)‏‏.‏

وكذلك اشترط من قال بجواز المزارعة تسليم الأرض إلى العامل، حتّى لو اشترط في العقد العمل على ربّ الأرض أو شرط عملهما معاً لا تصحّ المزارعة لانعدام التّخلية، علماً بأنّ بعض الفقهاء لا يقولون بجواز هذا العقد أصلاً‏.‏

ولتفصيل المسألة ينظر مصطلح‏:‏ ‏(‏مزارعة‏)‏‏.‏

ج - عقود يشترط للزومها القبض‏:‏ كالهبة والرّهن، فقد صرّح جمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة‏:‏ بأنّ عقد الهبة لا يلزم بمجرّد الإيجاب والقبول قبل القبض، فيكون للواهب حقّ الرّجوع ما دام الموهوب له لم يقبض، حتّى إنّ بعض الفقهاء قالوا بعدم لزوم الهبة بعد القبض أيضاً، فللواهب الرّجوع فيها إلاّ في حالات خاصّة‏.‏

وذهب المالكيّة إلى أنّ الهبة تلزم بالقبض إلاّ في حالات خاصّة‏.‏

وللتّفصيل ينظر مصطلح‏:‏ ‏(‏هبة‏)‏‏.‏

وأمّا الرّهن‏:‏ فقد اشترط جمهور الفقهاء في لزومه القبض، فيبطل عقد الرّهن برجوع الرّاهن عن الرّهن بالقول أو بتصرّف يزيل الملك‏.‏

وللتّفصيل انظر مصطلح‏:‏ ‏(‏رهن ف 21‏)‏‏.‏

خامساً‏:‏ عقود المعاوضة وعقود التّبرّع

50 - قسّم بعض الفقهاء العقد من حيث وجود العوض وعدم العوض فيه إلى نوعين‏:‏ عقود المعاوضة، وعقود التّبرّع‏.‏

فمن النّوع الأوّل‏:‏ عقد البيع بأنواعه من المقايضة والسّلم والصّرف، وعقد الإجارة والاستصناع، والصّلح، والنّكاح، والخلع، والمضاربة، والمزارعة، والمساقاة، والشّركة ونحوها‏.‏

ومن النّوع الثّاني‏:‏ عقد الهبة، والعاريّة، الوديعة، والوكالة، والكفالة بغير أمر المدين، والرّهن، والوصيّة ونحوها‏.‏

ومن آثار هذا التّقسيم ما قاله الزّركشيّ من أنّه حيث اعتبر العوض في عقد من الطّرفين - أو من أحدهما - فشرطه أن يكون معلوماً، كثمن المبيع، وعوض الأجرة ونحوهما، إلاّ في الصّداق وعوض الخلع، فإنّ الجهالة فيه لا تبطله ؛ لأنّ له مردّاً معلوماً، وهو مهر المثل، وقد يكون العوض في حكم المجهول، كالعوض في المضاربة والمساقاة، وهناك عقود يكتفى فيها بالعلم الطّارئ بالعوض، كالشّركة مثلاً فإنّه يشترط فيها العلم بقدر النّسبتين في المال المختلط، من كونه مناصفةً أو مثالثةً في الأصحّ إذا أمكن معرفته من بعد، وعقود أخرى لا يكتفى فيها بالعلم، كالقراض، والقرض، وهل تكفي معاينة الحاضر عن معرفة قدره ‏؟‏ تختلف العقود حسب طبيعتها، ففي بعض العقود تكفي معاينة البعض كالبيع، وفي بعضها لا تكفي كما في القراض‏.‏

وأمّا عقود التّبرّع‏:‏ فلأنّه لا عوض فيها يغتفر فيها الغرر والجهالة اليسيرة ؛ لأنّها مبنيّة على اليسر والتّوسعة‏.‏

وهناك عقود تعتبر تبرّعاً في الابتداء لكنّها معاوضة في الانتهاء كعقد القرض، فإنّ المقرض متبرّع عند الإقراض لكنّه عند رجوعه على المقترض بمثل ما أخذ يئول إلى المعاوضة‏.‏

وكذلك عقد الكفالة بأمر المدين، فإنّها تبرّع في الابتداء، حينما يلتزم الكفيل بالدّين الّذي على المدين، لكنّه إذا دفع الدّين للدّائن ورجع على المدين بمثل ما دفعه تصير عقد معاوضة‏.‏

ويختلف حكم عقود المعاوضة عن عقود التّبرّع في أنّ الوفاء بما يتعهّده العاقدان في عقود المعاوضة كالبيع والإجارة ونحوهما واجب، إذا تمّت صحيحةً بشروطها، عملاً بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ‏}‏ لأنّ في عدم الوفاء بها ضرراً للعاقد الآخر، لضياع ما بذله من العوض في مقابلته، بخلاف عقود التّبرّع، كالهبة والعاريّة والقرض والوصيّة، ونحوها، فلا يجب الوفاء فيها بما تعهّد المتبرّع ؛ لأنّه محسن، وما على المحسنين من سبيل، مع تفصيل في مختلف العقود‏.‏

ومع ذلك فإنّ الفقهاء صرّحوا باستحباب الوفاء في عقود التّبرّع ؛ لأنّها من البرّ والإحسان، وقد حثّ الشّارع عليهما في أكثر من موضع، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى ‏}‏‏.‏

وهذا عند جمهور الفقهاء‏.‏

أمّا المالكيّة فيجب الوفاء عندهم في بعض عقود التّبرّع أيضاً، فالعاريّة المؤجّلة لازمة عندهم إلى انقضاء الأجل، كما تلزم عندهم الهبة بالقبول، فإن امتنع الواهب من تسليمها يجبر عليه‏.‏

سادساً‏:‏ العقد الصّحيح، والباطل، والفاسد

51 - ذهب الفقهاء إلى أنّ العقد باعتبار إقرار الشّرع له وترتيب آثاره عليه وعدم ذلك ينقسم إلى قسمين‏:‏ العقد الصّحيح، والعقد غير الصّحيح‏.‏

فالعقد الصّحيح‏:‏ هو ما كان مشروعاً بأصله ووصفه معاً، بحيث يكون مستجمعاً لأركانه وأوصافه، فيترتّب عليه أثره المقصود منه، كبيع العاقل البالغ المال المتقوّم الموجود القابل للتّسليم بإيجاب وقبول معتبرين شرعاً، فإنّه يترتّب عليه أثره من نقل ملكيّة المبيع للمشتري ونقل ملكيّة الثّمن للبائع، وكالإجارة للانتفاع بعين موجودة انتفاعاً مشروعاً، فيترتّب عليها أثرها المقصود منها من نقل الانتفاع إلى المستأجر والأجرة إلى المؤجّر، وهكذا في سائر العقود إذا لم يقع خلل في أركانها أو شروطها‏.‏

والعقد غير الصّحيح‏:‏ هو ما لا يعتبره الشّرع، ولا يترتّب عليه مقصوده‏.‏ أو هو‏:‏ ما لا يكون مشروعاً أصلاً ووصفاً، أو يكون مشروعاً أصلاً لكن لا يكون مشروعاً وصفاً، مثال الأوّل‏:‏ عقد المجنون والصّبيّ غير المميّز، أو العقد على الميتة والدّم وكلّ ما لا يعتبر مالاً، ومثال الثّاني‏:‏ العقد في حالة الإكراه، والعقد على محلّ مجهول في عقود المعاوضة‏.‏ وقد قسّم الحنفيّة العقد غير الصّحيح إلى‏:‏ عقد باطل وعقد فاسد‏.‏

وينظر تفصيل ذلك في مصطلحي‏:‏ ‏(‏بطلان، فساد‏)‏‏.‏

سابعاً‏:‏ العقد النّافذ، والعقد الموقوف

52 - قسّم أكثر الفقهاء العقد باعتبار ظهور آثاره وعدم ظهورها إلى قسمين‏:‏

أ - العقد النّافذ، وهو العقد الصّحيح الّذي لا يتعلّق به حقّ الغير، ويفيد الحكم في الحال، أو هو العقد الّذي يصدر ممّن له أهليّة التّصرّف وولايته، سواء أكانت الولاية أصليّةً كمن يعقد العقد لنفسه، أم نيابيّةً كعقد الوصيّ أو الوليّ لمن تحت ولايتهما أو عقد الوكيل لموكّله‏.‏

وحكم العقد النّافذ أنّه لا يحتاج في ظهور آثاره إلى إجازة الغير‏.‏

ب - العقد الموقوف‏:‏ وهو العقد الّذي يصدر ممّن له أهليّة التّصرّف دون الولاية، كمن يبيع مال غيره بغير إذنه، أو هو عقد يتعلّق به حقّ الغير‏.‏

وحكم العقد الموقوف - عند من يجيزه - هو أنّه عقد صحيح ؛ لأنّه مشروع بأصله ووصفه، فيفيد الحكم لكن على وجه التّوقّف أي‏:‏ تتوقّف آثاره وإفادته الحكم على إجازة من يملكها شرعاً كعقد الفضوليّ والصّبيّ المميّز غير المأذون ونحوهما‏.‏

واختلف الفقهاء في مشروعيّة العقد الموقوف وصحّته‏:‏

فقال جمهور الفقهاء - الحنفيّة والمالكيّة وهو قول عند الشّافعيّة في القديم ورواية عند الحنابلة - إنّ العقد الموقوف عقد صحيح يفيد الحكم على وجه التّوقّف، فإن أجازه المالك أو من له الإجازة والتّصرّف نفذ وإلاّ بطل‏.‏

وتفصيل ذلك في‏:‏ ‏(‏العقد الموقوف‏)‏‏.‏

ثامناً‏:‏ العقود المؤقّتة والعقود المطلقة

53 - قسّم بعض الفقهاء العقد باعتبار قبوله التّأقيت وعدم قبوله ذلك إلى نوعين‏:‏ العقود المؤقّتة، والعقود غير المؤقّتة‏.‏

قال السّيوطيّ‏:‏ كلّ عقد كانت المدّة ركناً فيه لا يكون إلاّ مؤقّتاً، كالإجارة والمساقاة والهدنة، وكلّ عقد لا يكون كذلك لا يكون إلاّ مطلقاً، وقد يعرض له التّأقيت حيث لا ينافيه، كالقراض يذكر فيه مدّة، ويمنع من الشّراء بعدها فقط، وممّا لا يقبل التّأقيت‏:‏ الجزية في الأصحّ، وعقد البيع، والنّكاح، والوقف، وممّا يقبله وهو شرط في صحّته‏:‏ الإجارة وكذا المساقاة، والهدنة في الأصحّ، وممّا يقبل التّأقيت وليس شرطاً في صحّته‏:‏ الوكالة، والوصاية‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ والحاصل أنّ ما لا يقبل التّأقيت - ومتى أقّت بطل - البيع بأنواعه والنّكاح، والوقف‏.‏

وذكر سائر الفقهاء كذلك أنّ عقد الإجارة من العقود المؤقّتة‏.‏

كما قالوا في عقد الوكالة‏:‏ إنّها تقبل التّوقيت، وكذلك عقد المساقاة، فإن لم يبيّن فيها الوقت وقع على أوّل ثمر عند جمهور الفقهاء - الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة -‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ يصحّ تأقيت المساقاة، ولا يشترط أن تكون مؤقّتةً ؛ لأنّه لا ضرر في تقدير مدّتها‏.‏

ومن العقود الّتي لا تقبل التّأقيت عقد الرّهن‏.‏

وكذلك عقد الهبة ؛ لأنّها تمليك العين بغير عوض في الحال، وتمليك الأعيان لا يصحّ مؤقّتاً كالبيع‏.‏

واختلفوا في عقد الكفالة، هل تقبل التّأقيت أو لا ‏؟‏ فيرى الحنفيّة والشّافعيّة – في قول عندهم – والحنابلة أنّه يجوز توقيتها، وكذلك المالكيّة مع بعض الشّروط، والأصحّ عند الشّافعيّة أنّه لا يجوز ذلك‏.‏

وينظر ذلك في مصطلح‏:‏ ‏(‏أجل ف 48 - 59‏)‏‏.‏

الشّروط المقترنة بالعقود

54 - المراد بالشّروط المقترنة بالعقود‏:‏ ما يذكر بين العاقدين، فيقيّد أثر العقد أو يعلّقه بأمر زائد على أصل العقد في المستقبل‏.‏

وقد قسّم جمهور الفقهاء الشّرط المقترن بالعقد إلى نوعين‏:‏ شرط صحيح، وشرط غير صحيح‏.‏

وقسّمه الحنفيّة إلى ثلاثة أنواع‏:‏ الشّرط الصّحيح، والشّرط الفاسد، والشّرط الباطل‏.‏ وضابط الشّرط الصّحيح‏:‏ هو أن يكون صفة القائم بمحلّ العقد وقت صدوره، أو ما يقتضيه العقد أو يلائمه - وهذا القدر متّفق عليه بين الفقهاء - أو ما ورد في الشّرع دليل بجوازه، أو ما يجري عليه التّعامل - كما أضاف فقهاء الحنفيّة - أو ما يحقّق مصلحةً مشروعةً للعاقد، كما قال الشّافعيّة والحنابلة‏.‏

ومن أمثلة الشّرط الصّحيح‏:‏ اشتراط القبض في عقد البيع، أو اشتراط الرّهن أو الكفالة بالثّمن المؤجّل مثلاً‏.‏ فهذا النّوع وأمثاله من الشّروط الصّحيحة يمكن اشتراطه في العقد، ولا يضرّ في انعقاده ولا في صحّته‏.‏

أمّا الشّرط الباطل أو الفاسد فهو‏:‏ ما لا يقتضيه العقد، ولا يلائم مقتضاها أو ما يؤدّي إلى غرر، أو اشتراط أمر لم يرد في الشّرع أو نحوه‏.‏

ومن هذا النّوع ما يبطل العقد، كبيع حيوان على أنّه حامل ؛ لما فيه من غرر، وكالعقد المتضمّن على الرّبا ؛ لنهي الشّارع عنه‏.‏

ومن هذا النّوع أيضاً‏:‏ ما يصحّ معه العقد ويلغو الشّرط نفسه، كما لو شرط أحد العاقدين في المزارعة‏:‏ أن لا يبيع الآخر نصيبه، أو يهبه لفلان، ففي هذه الحالة عقد المزارعة صحيح، والشّرط باطل، فيلغو الشّرط فقط، كما قال الحنفيّة‏.‏

وتفصيل ذلك في مصطلح‏:‏ ‏(‏شرط ف 19 - 27‏)‏‏.‏

آثار العقد

55 - آثار العقد هي‏:‏ ما يترتّب على العقد وما يهدف إليه العاقدان، وهي المقصود الأصليّ للعاقدين من انعقاد العقد بينهما‏.‏

وتختلف هذه الآثار حسب اختلاف العقود‏.‏

ففي عقود الملكيّة الّتي ترد على الأعيان - كالبيع والهبة والقرض - أثر العقد نقل الملكيّة من عاقد إلى آخر إذا استوفت أركانها وشروطها، سواء أكان بعوض - كما في عقد البيع فإنّه ينقل ملكيّة المبيع إلى المشتري، وملكيّة الثّمن إلى البائع - أو بغير عوض كما في عقد الهبة، وكما في عقد الوصيّة بعد وفاة الموصي بقبول الموصى له أو بمجرّد الوفاة، على تفصيل وخلاف عند الفقهاء‏.‏

وفي عقود المنفعة أثر العقد‏:‏ نقل المنفعة أو إباحة الانتفاع من المعقود عليه بعوض كما في عقد الإجارة، أو بغير عوض كما في عقدي الإعارة والوصيّة‏.‏

وفي عقود التّوثيق كعقد الكفالة والرّهن أثر العقد توثيق الدّين باشتراك ذمّة جديدة مع ذمّة المدين، أو حبس الرّهن حتّى يؤدّى الدّين‏.‏

وفي عقد الحوالة‏:‏ بنقل الدّين من ذمّة المدين إلى شخص ثالث‏.‏

وفي عقود العمل‏:‏ حقّ التّصرّف في المعقود عليه بالعمل فيه، كما في عقد المضاربة وعقود الشّركة، وكما في عقدي المزارعة والمساقاة ونحوهما‏.‏

وفي عقد الإيداع‏:‏ حفظ الوديعة بيد الوديع‏.‏

وفي عقد النّكاح‏:‏ حلّ استمتاع كلّ من الزّوجين بالآخر‏.‏

وهكذا في كلّ عقد يعقد لغرض من الأغراض المشروعة

انتهاء العقد وأسبابه

56 - انتهاء العقد إمّا أن يكون اختياريّاً أو يكون ضروريّاً‏.‏

والأوّل‏:‏ إمّا أن يكون بإرادة عاقد واحد أو بإرادة كليهما، فإذا كان بإرادة أحد العاقدين يسمّى في اصطلاح الفقهاء فسخاً، وإذا كان برضا كلا العاقدين يسمّى إقالةً‏.‏

والثّاني، أي الانتهاء الضّروريّ‏:‏ إمّا أن يكون في العقود المؤقّتة، كالإجارة والإعارة والوكالة ونحوها، أو يكون في العقود المطلقة، كالرّهن والنّكاح والبيع ونحوها، ويسمّى الانتهاء في هذه الصّورة انفساخاً‏.‏

ولكلّ هذه الصّور أسباب وأحكام نجملها فيما يلي‏:‏

أوّلاً‏:‏ الأسباب الاختياريّة لانتهاء العقد

أ - الفسخ‏:‏

57 - الفسخ حلّ ارتباط العقد ورفع حكمه بالإرادة، ويكون في العقود غير الَلازمة بطبيعتها، كعقد الوكالة الوديعة والشّركة ونحوها اتّفاقاً، وكذا عقد الإعارة المطلقة عند جمهور الفقهاء، أو بشرط أن لا تكون مقيّدةً بعمل أو أجل عند المالكيّة، فهذه العقود يمكن إنهاؤها بالفسخ بإرادة كلّ من العاقدين مع مراعاة عدم الضّرر، وكذا العقود الَلازمة كعقد البيع والإجارة وغيرهما إذا كان فيها خيار لكلّ من الطّرفين أو أحدهما، فتفسخ بإرادة من له الخيار‏.‏

وينظر تفصيل ذلك كلّه في مصطلح‏:‏ ‏(‏فسخ‏)‏‏.‏

ب - الإقالة‏:‏

58 - الإقالة رفع العقد وإلغاء حكمه وآثاره بتراضي الطّرفين، ومحلّ الإقالة العقود الَلازمة من الطّرفين ممّا يقبل الفسخ بالخيار ؛ لأنّ هذه العقود لا يمكن فسخها إلاّ بإرادة الطّرفين واتّفاق المتعاقدين، وعلى ذلك فإنّ الإقالة تصحّ في عقود البيع والمضاربة، والإجارة والرّهن – بالنّسبة للرّاهن – والسّلم والصّلح وهي عقود لازمة‏.‏

ولا تصحّ الإقالة في العقود غير الَلازمة كالإعارة والوصيّة، والجعالة أو العقود الَلازمة الّتي لا تقبل الفسخ بالخيار كالوقف والنّكاح‏.‏

ولشروط الإقالة وأثرها في إنهاء العقود ينظر مصطلح‏:‏ ‏(‏إقالة ف 7، 12‏)‏‏.‏

ج - انتهاء المدّة المعيّنة أو العمل المعيّن‏:‏

59 - تنتهي بعض العقود بانتهاء مدّتها المقرّرة لها باتّفاق الطّرفين، أو بانتهاء العمل الّذي عقد العقد لأجله‏.‏

فعقد الإجارة المقيّد بمدّة ينتهي بانتهاء المدّة باتّفاق الفقهاء كالدّار للسّكنى أو الأرض للزّراعة، إلاّ إذا وجد عذر يقتضي امتداد المدّة، كأن يكون في الأرض زرع لم يحصد، أو كانت سفينةً في البحر وانقضت المدّة قبل وصولها إلى السّاحل‏.‏

ر‏:‏ ‏(‏إجارة ف 60‏)‏‏.‏

كما تنقضي الإجارة لعمل معيّن بانتهاء العمل المعقود عليه في إجارة الأشخاص، كالحمّال والقصّار والخيّاط إذا أنهوا العمل‏.‏

وكذلك عقد الوكالة المقيّدة لإجراء عمل معيّن، فإنّها تنتهي بانتهاء العمل المفوّض للوكيل‏.‏ ر‏:‏ ‏(‏وكالة‏)‏‏.‏

ثانياً‏:‏ أسباب العقد الضّروريّة

أ - هلاك المعقود عليه‏:‏

60 - اتّفق الفقهاء على أنّ تلف المعقود عليه سبب لانتهاء بعض العقود، وذلك لتعذّر دوام العقد، فإذا تلفت الدّابّة المستأجرة، أو انهدمت الدّار المستأجرة للسّكنى انفسخت الإجارة‏.‏

وكذلك إذا تلفت العين المعارة أو المودعة في عقدي العاريّة والإيداع، أو تلف رأس المال في عقدي الشّركة - شركة الأموال أو المضاربة - كما هو مفصّل في المصطلحات الخاصّة بكلّ عقد من هذه العقود‏.‏

وهذا السّبب يؤثّر في العقود المستمرّة الّتي تدوم آثارها بدوام المحلّ، أمّا ما يظهر أثره فوراً - كعقد البيع مثلاً - فلا يؤثّر فيه هلاك المعقود عليه - المبيع - بعد قبض البدلين‏.‏ أمّا قبل قبض المبيع، فقد اختلف الفقهاء في أثر هلاك المبيع في انفساخ البيع‏:‏

فقال الحنفيّة والشّافعيّة بانفساخه، مع تفصيل عندهم‏:‏

قال الكاسانيّ في هلاك المبيع قبل القبض‏:‏ إن هلك كلّه قبل القبض بآفة سماويّة انفسخ البيع ؛ لأنّه لو بقي أوجب مطالبة المشتري بالثّمن، وإذا طالبه بالثّمن فهو يطالبه بتسليم المبيع، وإنّه عاجز عن التّسليم، فتمتنع المطالبة أصلاً، فلم يكن في بقاء البيع فائدة، فينفسخ، وكذلك إذا هلك بفعل المبيع، بأن كان حيواناً فقتل نفسه، وكذا إذا هلك بفعل البائع، ويسقط الثّمن عن المشتري عندنا، وإن هلك بفعل المشتري لا ينفسخ البيع وعليه الثّمن ؛ لأنّه بالإتلاف صار قابضاً‏.‏

وقال النّوويّ‏:‏ المبيع قبل قبضه من ضمان البائع، فإن تلف بآفة سماويّة انفسخ البيع وسقط الثّمن عن المشتري‏.‏

أمّا المالكيّة فقالوا‏:‏ إذا كان المبيع ممّا فيه حقّ توفية لمشتريه - وهو المال المثليّ من مكيل أو موزون أو معدود - ينفسخ العقد بالتّلف والضّمان على البائع، أمّا إذا كان المبيع معيّناً وعقاراً أو من الأموال القيميّة فلا ينفسخ العقد بالتّلف، وينتقل الضّمان إلى المشتري بالعقد الصّحيح الَلازم ومثله عند الحنابلة‏.‏

ب - وفاة أحد العاقدين أو كليهما‏:‏

61 - وفاة أحد العاقدين أو كليهما لا تؤثّر في العقود الَلازمة في الجملة، ما عدا عقد الإجارة عند الحنفيّة، فإنّهم يقولون‏:‏ تنفسخ الإجارة بوفاة المؤجّر أو المستأجر ؛ لأنّ المنافع ليست أموالاً موجودةً حين العقد وتحدث شيئاً فشيئاً، فإذا أبقينا عقد الإجارة بعد الوفاة فالمستأجر أو ورثته ينتفعان من العين المنتقلة ملكيّتها بوفاة المؤجّر إلى الورثة، والمنافع المستحدثة لم تكن موجودةً حين الوفاة حتّى تنتقل إلى ورثة المستأجر‏.‏

وذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ الموت لا يؤثّر في انتهاء عقد الإجارة إذا كانت مدّتها باقيةً ؛ لأنّ المنافع أموال يقدّر وجودها حين العقد، فانتقلت إلى المستأجر بالعقد‏.‏

أمّا العقود غير الَلازمة - كالوكالة والإعارة الوديعة ونحوها - فتنفسخ في الجملة وتنتهي بوفاة أحد العاقدين أو كليهما ؛ لأنّها عقود تنفسخ بإرادة أحد الطّرفين في حياتهما وتستمرّ بإرادتهما، فإذا توفّي العاقد فقد بطلت إرادته وانتهت رغبته، فبطلت آثار هذه العقود الّتي كانت تستمرّ باستمرار إرادة العاقدين‏.‏

ج - غصب المعقود عليه‏:‏

62 - غصب محلّ بعض العقود يوجب انفساخها، ففي عقد الإجارة قال الشّافعيّة، والحنابلة‏:‏ إن غصبت العين المستأجرة فللمستأجر الفسخ ؛ لأنّ فيه تأخير حقّه، فإن فسخ فالحكم فيه كما لو انفسخ العقد بتلف العين، وإن لم يفسخ حتّى انقضت مدّة الإجارة فله الخيار بين الفسخ والرّجوع بالمسمّى، وبين البقاء على العقد ومطالبة الغاصب بأجر المثل‏.‏

وقال الحنفيّة‏:‏ لو غصبت العين المستأجرة من يد المستأجر سقط الأجر كلّه فيما إذا غصبت في جميع المدّة، وإن غصبت في بعضها سقط بحسابها، وذلك لزوال التّمكّن من الانتفاع بالعين المستأجرة، وتنفسخ الإجارة بالغصب في المشهور عند الحنفيّة، خلافاً لبعضهم‏.‏ وألحق المالكيّة الغصب بتعذّر الاستيفاء من المعقود عليه، فحكموا بانفساخ العقد به، وصرّحوا بأنّ الإجارة تنفسخ بتعذّر ما يستوفى منه المنفعة، والتّعذّر أعمّ من التّلف، فيشمل الضّياع والمرض والغصب وغلق الحوانيت قهراً وغير ذلك‏.‏

د - أسباب أخرى يفسخ بها العقد أو ينتهي‏:‏

63 - ذكر بعض الفقهاء من أسباب فسخ العقد أو انتهائه الاستحقاق، فقد ذكر المالكيّة، والشّافعيّة والحنابلة أنّ المبيع إذا استحقّ للغير بالبيّنة أو بإقرار المشتري فإنّ البيع ينفسخ وينتهي حكمه، وقال الحنفيّة‏:‏ أنّ الحكم بالاستحقاق لا يوجب فسخ العقد، بل يوجب توقّفه على إجازة المستحقّ، فإن أجاز وإلاّ ينفسخ ويستردّ المشتري الثّمن من البائع‏.‏

كما فصّل في مصطلح‏:‏ ‏(‏استحقاق ف 9 وما بعدها‏)‏‏.‏