فصل: المعفوّات في الزّكاة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


مَعْفوَّات

التّعريف

1 - المعفوّات لغةً‏:‏ جمع مفرده معفوّة وهي اسم مفعولٍ من فعل عفا يعفو‏,‏ ومن معاني العفو في اللغة‏:‏ التّجاوز عن الذّنب وترك العقاب عليه‏,‏ وأصله المحو والطّمس‏,‏ يقال‏:‏ عفوت عن فلانٍ أو عن ذنبه إذا صفحت عنه وأعرضت عن عقوبته وهو يعدّى بعن إلى الجاني والجناية‏,‏ فإذا اجتمعا عدّي إلى الأوّل باللام فقيل عفوت لفلان عن ذنبه‏.‏

قال الأزهري‏:‏ العفو صفح اللّه عن ذنوب عباده ومحوه إيّاها بتفضله‏.‏

ولا يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللّفظ عن معناه اللغويّ‏.‏

ضبط المعفوّات من الأنجاس

2 - الأصل أنّ كلّ مأمورٍ يشق على العباد فعله سقط الأمر به وكل منهيّ شقّ عليهم اجتنابه سقط النّهي عنه‏.‏

والمشاق ثلاثة أقسامٍ‏:‏

مشقّة في المرتبة العليا فيعفى عنها إجماعاً كما لو كانت طهارة الحدث أو الخبث تذهب النّفس أو الأعضاء‏.‏

ومشقّة في المرتبة الدنيا فلا يعفى عنها إجماعاً‏,‏ كطهارة الحدث والخبث بالماء البارد في الشّتاء‏.‏

ومشقّة متردّدة بين المرتبتين‏,‏ فمختلف في إلحاقها بالمرتبة العليا فتؤثّر في الإسقاط أو بالمرتبة الدنيا فلا تؤثّر‏,‏ وعلى هذا الأصل يتخرّج الخلاف في العفو عن النّجاسات نظراً إلى أنّ هذه النّجاسة هل يشق اجتنابها أم لا‏؟‏‏.‏

وفيما يلي نذكر آراء الفقهاء في ضبط المعفوّات‏:‏

أوّلاً‏:‏ مذهب الحنفيّة‏:‏

3 - بتتبع عبارات الحنفيّة في مسائل المعفوّات يتبيّن أنّ العفو عندهم يدخل على أنواع النّجاسات‏,‏ وفرّقوا بين المخفّفة والمغلّظة ووضعوا لكلّ نوعٍ تقديراتٍ وضوابط‏.‏

فقد قال أبو حنيفة‏:‏ ما توافقت على نجاسته الأدلّة فمغلّظ سواء اختلف فيه العلماء وكان فيه بلوى أم لا وإلا فهو مخفّف‏.‏

وقال أبو يوسف ومحمّد‏:‏ ما اتّفق العلماء على نجاسته ولم يكن فيه بلوى فمغلّظ وإلا مخفّف ولا نظر للأدلّة‏.‏

4 - أمّا النّجاسة المغلّظة فقد عفي عن قدر الدّرهم منها‏,‏ واختلفت الرّوايات فيه‏:‏ والصّحيح أن يعتبر بالوزن في النّجاسة المتجسّدة‏,‏ وهو أن يكون وزنه قدر الدّرهم الكبير المثقال‏,‏ وبالمساحة في غيرها وهو قدر مقعّر الكفّ داخل مفاصل الأصابع‏,‏ وقال منلا مسكين‏:‏ وطريق معرفته أن تغرف باليد ثمّ تبسط فما بقي من الماء فهو مقدار الكفّ‏.‏ والمراد بالعفو عن قدر الدّرهم هو العفو عن فساد الصّلاة به وإلا فكراهة التّحريم باقية بإجماع الحنفيّة إن بلغت النّجاسة المغلّظة الدّرهم‏,‏ وتنزيهاً إن لم تبلغ‏.‏

وفرّعوا على ذلك ما لو علم قليل نجاسةٍ عليه وهو في الصّلاة ففي الدّرهم يجب قطع الصّلاة وغسلها ولو خاف فوت الجماعة لأنّها سنّة وغسل النّجاسة واجب وهو مقدّم‏,‏ وفي الثّاني - أي في أقلّ من الدّرهم - يكون ذلك أفضل فقط ما لم يخف فوت الجماعة بأن لا يدرك جماعةً أخرى وإلا مضى على صلاته لأنّ الجماعة أقوى‏,‏ كما يمضي في المسألتين إذا خاف فوت الوقت لأنّ التّفويت حرام ولا مهرب من الكراهة إلى الحرام‏.‏

قال الحمويّ‏:‏ والمعتبر في ذلك وقت الإصابة فلو كان دهناً نجساً قدر الدّرهم وقت الإصابة فانبسط فصار أكثر منه لا يمنع في اختيار المرغينانيّ وغيره‏,‏ ومختار غيرهم المنع‏,‏ ولو صلّى قبل انبساطه جازت وبعده لا‏,‏ وبه أخذ الأكثرون‏.‏

5 - وصرّح الحنفيّة بأنّه لا يعفى عن النّجاسة المغلّظة إذا زادت على الدّرهم مع القدرة على الإزالة‏,‏ وعفي عن النّجاسة المخفّفة عمّا دون ربع الثّوب‏,‏ لأنّ التّقدير فيها بالكثير الفاحش وللربع حكم الكلّ في الأحكام‏,‏ يروى ذلك عن أبي حنيفة ومحمّدٍ وهو الصّحيح - كما قاله الزّيلعي - ثمّ اختلفوا في كيفيّة اعتبار الربع‏:‏

فقيل ربع جميع ثوبٍ عليه، وعن أبي حنيفة ربع أدنى ثوبٍ تجوز فيه الصّلاة كالمئزر‏,‏ وقيل ربع طرفٍ أصابته النّجاسة كالذّيل والكمّ‏,‏ وعن أبي يوسف شبر في شبرٍ وعنه ذراع في ذراعٍ ومثله عن محمّدٍ‏,‏ وروى هشام عن محمّدٍ أنّ الكثير الفاحش أن يستوعب القدمين وروي عن أبي حنيفة أنّه كره أن يحدّ لذلك حداً وقال‏:‏ إنّ الفاحش يختلف باختلاف طباع النّاس فوقف الأمر فيه على العادة كما هو دأبه‏.‏

وقال الشلبي نقلاً عن زاد الفقير‏:‏ والأوجه اتّكاله إلى رأي المبتلى إن استفحشه منع وإلا فلا‏.‏

وقالوا‏:‏ إنّما قسّمت النّجاسات إلى غليظةٍ وخفيفةٍ باعتبار قلّة المعفوّ عنه من الغليظة وكثرة المعفوّ عنه من الخفيفة ولا فرق بينهما في كيفيّة التّطهير وإصابة الماء والمائعات لأنّه لا يختلف تنجسها بهما‏.‏

قال ابن عابدين‏:‏ إنّ المائع متى أصابته نجاسة خفيفة أو غليظة وإن قلّت تنجّس ولا يعتبر فيه ربع ولا درهم‏,‏ نعم تظهر الخفّة فيما إذا أصاب هذا المائع ثوباً أو بدناً فيعتبر فيه الربع‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ إن اختلطت الغليظة والخفيفة ترجّح الغليظة مطلقاً وإلا فإن تساويا أو زادت الغليظة فكذلك وإلا ترجّح الخفيفة‏.‏

ثانياً‏:‏ مذهب المالكيّة‏:‏

6 - قسّم المالكيّة النّجاسات من حيث حكم إزالتها إلى أربعة أقسامٍ‏:‏

القسم الأوّل‏:‏ يعفى عن قليله وكثيره ولا تجب إزالته إلا أن يتفاحش جداً فيؤمر بها‏.‏

وهذا القسم هو كل نجاسةٍ لا يمكن الاحتراز عنها‏,‏ أو يمكن بمشقّة كثيرةٍ كالجرح يمصل‏,‏ والدمّل يسيل‏,‏ والمرأة ترضع‏,‏ والأحداث تستنكح‏,‏ والغازي يفتقر إلى إمساك فرسه‏.‏

قال ابن شاسٍ‏:‏ وخصّ مالك هذا ببلد الحرب‏,‏ وترجّح في بلد الإسلام‏.‏

القسم الثّاني‏:‏ يعفى عن اليسير منه إذا رآه في الصّلاة ويؤمر بغسله قبل الدخول فيها‏,‏ وقيل‏:‏ لا يؤمر بذلك‏,‏ وهو الدّم‏,‏ وهل يلحق به في العفو قليل القيح وقليل الصّديد‏؟‏ أو يلحقان بقليل البول‏؟‏ في ذلك قولان‏.‏

وأمّا حد اليسير عند المالكيّة فقد قال عنه أبو بكر بن سابقٍ‏:‏ لا خلاف عندنا أنّ فوق الدّرهم كثير‏,‏ وأنّ ما دون الدّرهم قليل‏,‏ وفي قدر الدّرهم روايتان لعليّ بن زيادٍ وابن حبيبٍ بالقلّة والكثرة‏.‏

وحكى الشّيخ أبو الطّاهر أنّ اليسير هو مقدار الخنصر وأنّ الخلاف فيما بين الدّرهم إلى الخنصر‏.‏

القسم الثّالث‏:‏ يعفى عن أثره دون عينه، وهو الأحداث على المخرجين‏,‏ والدّم على السّيف الصّقيل‏,‏ وفي معنى ذلك الخف يمشي به على أرواث الدّوابّ وأبوالها، وفيه قول‏:‏ إنّه يغسل كما لو مشى به على الدّم والعذرة‏.‏

القسم الرّابع‏:‏ ما عدا ما ذكر‏,‏ وهذا القسم يزال كثيره وقليله‏,‏ وعينه وأثره‏.‏

ثالثاً‏:‏ مذهب الشّافعيّة‏:‏

7 - قسّم الشّافعيّة النّجاسات المعفوّ عنها باعتبار القلّة والكثرة إلى عدّة أقسامٍ‏:‏

أحدها‏:‏ ما يعفى عن قليله وكثيره وهو دم البراغيث على الأصحّ في الثّوب والبدن وكذا دم القمّل والبعوض ونحوه على ما رجّحه النّووي ونقله عن الأكثرين‏,‏ لكن له شرطان‏:‏

أ - أن لا يكون بفعله فلو كان بفعله كما لو قتل فتلوّث به أو لم يلبس الثّوب بل حمله وكان كثيراً لم تصحّ صلاته لعدم الضّرورة إليه ويلتحق بالبراغيث في ذلك كلّه دم البثرات وقيحها وصديدها حتّى لو عصره وكان الخارج كثيراً لم يعف عنه، وكذلك دم الدّماميل والقروح وموضع الفصد والحجامة منه‏.‏

ب - أن لا يتفاحش بالإهمال‏,‏ فإنّ للنّاس عادةً في غسل الثّياب كلّ حينٍ فلو ترك غسل الثّوب سنةً مثلاً وهو يتراكم عليه لم يكن في محلّ العفو‏,‏ قاله الإمام‏.‏

ومن المعفوّ عنه البلغم إذا كثر والماء الّذي يسيل من فم النّائم إذا ابتلي به ونحوه وكذلك الحدث الدّائم كالمستحاضة وسلس البول‏,‏ وكذا أواني الفخّار المعمولة بالزّبل لا تطهر‏,‏ وقد سئل الشّافعي بمصر‏,‏ فقال‏:‏ إذا ضاق الأمر اتّسع‏.‏

الثّاني‏:‏ ما يعفى عن قليله دون كثيره‏,‏ وهو دم الأجنبيّ إذا انفصل عنه ثمّ أصابه من آدميٍّ أو بهيمةٍ سوى الكلب والخنزير يعفى عن قليله في الأصحّ دون كثيره قطعاً‏,‏ وكذلك طين الشّوارع المتيقّن بنجاستها يعفى عن قليله دون كثيره‏.‏

والقليل ما يتعذّر الاحتراز منه‏,‏ وكذلك المتغيّر بالميتة الّتي لا نفس لها سائلةً لا يعفى عن التّغير الكثير في الأصحّ‏.‏

الثّالث‏:‏ ما يعفى عن أثره دون عينه وهو أثر المخرجين في الاستنجاء بالحجر وكذلك بقاء ريح النّجاسة أو لونها إذا عسر زواله‏.‏

الرّابع‏:‏ ما لا يعفى عن أثره ولا عينه ولا قليله ولا كثيره وهو ما عدا ذلك‏.‏

8 - وقسّم الشّافعيّة النّجاسات باعتبار العفو عنها إذا حلّت في الماء أو الثّوب إلى أربعة أقسامٍ‏:‏

القسم الأوّل‏:‏ يعفى عنه في الماء والثّوب وذلك في عشرين صورةً‏:‏ ما لا يدركه الطّرف‏,‏ والميتة الّتي لا دم لها كالدود والخنفساء أصلاً أو لها دم ولكنّه لا يسيل كالوزغ‏,‏ وغبار النّجاسة اليابسة‏,‏ وقليل دخان النّجاسة حتّى لو أوقد نجاسةً تحت الماء‏,‏ واتّصل به قليل دخانٍ لم ينجس‏,‏ وقليل الشّعر‏,‏ وقليل الرّيش النّجس له حكم الشّعر على ما يقتضيه كلامهم إلا أنّ أجزاء الشّعرة الواحدة ينبغي أن يكون لكلّ واحدةٍ منها حكم الشّعرة الواحدة‏,‏ والهرّة إذا ولغت بعد أكلها فأرةً‏,‏ وألحق المتولّي السّبع بالهرّة وخالفه الغزالي لانتفاء المشقّة لعدم الاختلاط‏,‏ وما اتّصل به شيء من أفواه الصّبيان مع تحقق نجاستها‏,‏ خرّجه ابن الصّلاح‏,‏ وأفواه المجانين كالصّبيان‏,‏ وإذا وقع في الماء طير على منفذه نجاسة يتعذّر صون الماء عنه ولا يصح التّعليل بانكماشه فإنّه صرّح في الرّوضة بأنّا لو تحقّقنا وصول الماء إلى منفذ الطّير وعليه ذرق عفي عنه‏,‏ وإذا نزل الطّائر في الماء وغاص وذرق فيه عفي عنه لا سيّما إذا كان طرف الماء الّذي لا ينفك عنه‏,‏ ويدل له ما ذكر في السّمك عن القاضي حسينٍ أنّه لو جعل سمكاً في حبٍّ ما ثمّ معلوم أنّه يبول فيه أنّه يعفى عنه للضّرورة‏,‏ وفي تعليق البندنيجي عن الشّيخ أبي حامدٍ نجس معفو عنه لأنّ الاحتراز عنه لا يمكن‏,‏ وحكى العجلي عن القاضي حسينٍ أنّ وقوع الحيوان النّجس المنفذ في الماء ينجّسه‏,‏ وحكي عن غيره عدم التّنجيس مستدلاً بأنّه صلى الله عليه وسلم أمر بمقل الذباب‏.‏

وإذا شرب من الماء طائر على فيه نجاسة ولم تتخلّل غيبته فينبغي إلحاقه بالمنفذ لتعذر صونه عنه‏,‏ وونيم الذباب إذا وقع في الماء لا ينجّسه لعسر صونه‏,‏ ومثله بول الخفّاش إذا وقع في الماء القليل أو المائع‏,‏ وغسالة النّجاسة إذا انفصلت غير متغيّرةٍ ولا زائدة الوزن فإنّها تكون طاهرةً مع أنّها لاقت نجساً‏.‏

القسم الثّاني‏:‏ ما يعفى عنه في الماء دون الثّوب كالميتة الّتي لا دم لها سائل وخرء السّمك ومنفذ الطّائر‏.‏

القسم الثّالث‏:‏ ما يعفى عنه في الثّوب دون الماء وهو الدّم اليسير من سائر الدّماء إلا دم الكلب والخنزير وينبغي أن يلحق به طين الشّارع المتيقّن نجاسته‏,‏ فلو وقع شيء من ذلك في ماءٍ قليلٍ أو غمس يده في الماء وعليها قليل دم برغوثٍ أو قملٍ أو غمس فيه ثوباً فيه دم برغوثٍ تنجّس‏.‏

وفرّق العمرانيّ بين الثّياب والماء بوجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنّ الثّياب لا يمكن صونها عن النّجاسة بخلاف الأواني فإنّ صونها ممكن بالتّغطية‏.‏

والثّاني‏:‏ أنّ غسل الثّياب كلّ وقتٍ يقطعها فعفي عن يسير النّجاسة الّتي يمكن وقوعها فيها بخلاف الماء ومن ذلك الثّوب الّذي فيه دم برغوثٍ يصلّي فيه ولو وضعه في ماءٍ قليلٍ ينجّسه فيحتاج الّذي يغسله أن يطهّره بعد الغسل في ذلك الماء‏,‏ وكذلك ما على محلّ الاستنجاء يعفى عنه في البدن والثّوب حتّى لو سال بعرق ونحوه ووقع في الثّوب عفي عنه في الأصحّ‏,‏ ولو اتّصل بالماء نجّسه‏.‏

القسم الرّابع‏:‏ ما لا يعفى عنه فيهما وهو ما عدا ذلك ممّا أدركه الطّرف من سائر الأبوال والأرواث وغيرها من النّجاسات‏.‏

رابعاً‏:‏ مذهب الحنابلة‏:‏

9 - الأصل عند الحنابلة أنّه لا يعفى عن يسير شيءٍ من النّجاسات سواء كان ممّا يدركه الطّرف أو لا يدركه كالّذي يعلق بأرجل الذباب والبقّ وما أشبهه‏,‏ لعموم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ‏}‏‏,‏ وقول ابن عمر رضي الله عنهما‏:‏ ‏"‏ أمرنا أن نغسل الأنجاس سبعاً ‏"‏‏,‏ وغير ذلك من الأدلّة‏.‏

إلا أنّهم استثنوا عن هذا الأصل بعض النّجاسات وصرّحوا بالعفو عن يسيرها، منها‏:‏

10 - الدّم‏,‏ والصّحيح من المذهب أنّه يعفى عن يسيره في الصّلاة دون المائعات والمطعومات فإنّ الإنسان غالباً لا يسلم منه وهو قول جماعةٍ من الصّحابة والتّابعين فمن بعدهم‏,‏ ولقول عائشة رضي الله عنهما‏:‏ «ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه فإذا أصابه شيء من دمٍ قالت بريقها فقصعته بظفرها»‏,‏ وهذا يدل على العفو عنه لأنّ الرّيق لا يطهّر ويتنجّس به ظفرها وهو إخبار عن دوام الفعل‏,‏ ومثله لا يخفى عنه عليه الصّلاة والسّلام فلا يصدر إلا عن أمره‏,‏ ولأنّه يشق التّحرز منه فعفي عنه كأثر الاستجمار ويعفى عنه ولو كان من غير مصلٍّ بأن أصابت المصلّي من غيره كما لو كانت منه‏.‏

وقيل‏:‏ لا يعفى عن يسيره إلا إذا كان من دم نفسه‏,‏ واليسير‏:‏ الّذي لم ينقض الوضوء‏,‏ والكثير‏:‏ ما نقض الوضوء‏.‏

والدّم المعفو عنه ما كان من آدميٍّ أو حيوانٍ طاهرٍ لا الكلب ولا الخنزير‏.‏

11 - ما تولّد من الدّم من القيح والصّديد‏,‏ فإنّ العفو عنهما أولى لاختلاف العلماء في نجاستهما‏,‏ ولذلك قال أحمد‏:‏ هو أسهل من الدّم فعلى هذا يعفى منه عن أكثر ممّا يعفى عن مثله في الدّم‏,‏ لأنّ هذا لا نصّ فيه‏,‏ وإنّما ثبتت نجاسته لاستحالته من الدّم‏,‏ ولأحمد قول بطهارة قيحٍ ومدّةٍ وصديدٍ‏.‏

وصرّح الحنابلة بأنّه لا يعفى عن يسير دمٍ أو قيحٍ أو صديدٍ خرج من قبلٍ أو دبرٍ لأنّ حكمه حكم البول والغائط‏,‏ وفي وجهٍ يعفى عن ذلك‏.‏

12 - ويعفى أثر الاستجمار بمحلّه‏,‏ بعد الإنقاء واستيفاء العدد بلا خلافٍ‏,‏ فعلى هذا لو تعدّى محلّه إلى الثّوب أو البدن لم يعف عنه‏.‏

13 - ويعفى عن يسير سلس بولٍ بعد كمال التّحفظ لمشقّة التّحرز عنه‏.‏

14 - ويعفى عن يسير دخان نجاسةٍ وبخارها وغبارها ما لم تظهر له صفة في الشّيء الطّاهر‏,‏ لأنّه يشق التّحرز منه‏,‏ وقال جماعة‏:‏ ما لم يتكاثف‏.‏

15 - ويعفى عن يسير ماءٍ تنجّس بشيء معفوٍّ عن يسيره كدم وقيحٍ فإنّه يعفى عنه‏,‏ قاله ابن حمدان في رعايتيه وعبارته‏:‏ وعن يسير الماء النّجس بما عفي عن يسيره من دمٍ ونحوه‏,‏ وأطلق المنقّح في التّنقيح القول عن ابن حمدان بالعفو عن يسير الماء النّجس ولم يقيّده بما عفي عن يسير النّجاسة‏.‏

16 - ويعفى عن ما في العين من نجاسةٍ فلا يجب غسلها للتّضرر به وكذا يعفى عن نجاسةٍ داخل أذنٍ لما في ذلك من التّضرر أيضاً وهو متّجه كما قال الرّحيبانيّ‏.‏

17 - ويعفى عن حمل كثير النّجاسة في صلاة الخوف للضّرورة‏.‏

18 - ويعفى عن يسير طين شارعٍ تحقّقت نجاسته لعسر التّحرز منه ومثله تراب‏,‏ قال في الفروع‏:‏ وإن هبّت ريح فأصاب شيئاً رطباً غبار نجس من طريقٍ أو غيره فهو داخل في المسألة‏,‏ وصرّح الحنابلة بأنّ ما عفي عن يسيره كالدّم ونحوه عفي عن أثر كثيره على جسمٍ صقيلٍ بعد مسحٍ‏,‏ لأنّ الباقي بعد المسح يسير وإن كثر محله فعفي عنه كيسير غيره‏.‏ وقالوا‏:‏ يضم نجس يعفى عن يسيره متفرّقٍ بثوب واحدٍ‏,‏ بأن كان فيه بقع من دمٍ أو قيحٍ أو صديدٍ فإن صار بالضّمّ كثيراً لم تصحّ الصّلاة فيه وإلا عفي عنه‏,‏ ولا يضم متفرّق في أكثر من ثوبٍ بل يعتبر كل ثوبٍ على حدته‏.‏

والمراد بالعفو في جميع ما تقدّم أنّ الصّلاة تصح معه مع الحكم بنجاسته حتّى لو وقع هذا اليسير في ماءٍ قليلٍ نجّسه‏.‏

أعيان المعفوّات من الأنجاس

19 - اختلف الفقهاء في مسائل العفو عن النّجاسات تبعاً لاختلافهم في ضوابط العفو عن النّجاسات وتبعاً لاختلافهم في التّقديرات الّتي اعتبروها للتّمييز بين الكثير واليسير‏.‏ ولمعرفة أعيان النّجاسات المعفوّ عنها وموقف الفقهاء تجاه كلّ واحدةٍ منها ينظر مصطلح‏:‏ ‏(‏نجاسة‏,‏ عفو ف 7 - 11‏)‏‏.‏

المعفوّات في الصّلاة

20 - ستر العورة شرط من شروط صحّة الصّلاة فلا تصح الصّلاة إلا بسترها‏,‏ وقد اتّفق الفقهاء على بطلان صلاة من كشف عورته فيها قصداً‏,‏ واختلفوا فيما إذا انكشفت بلا قصدٍ وفي المقدار المعفوّ عن انكشافه‏.‏

وتفصيل ذلك في‏:‏ ‏(‏مصطلح صلاة ف 120‏)‏‏.‏

المعفوّات في الزّكاة

21 - اختلف الفقهاء في زكاة أوقاص السّائمة وتفصيل ذلك في‏:‏ ‏(‏مصطلح أوقاص ف 7 - 9‏)‏‏.‏

وأمّا سائر الأموال الزّكويّة كالنّقدين فلا يجري العفو فيها عند الجمهور فتجب فيها الزّكاة فيما زاد على النّصاب بحسابه‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ ما زاد على النّصاب عفو إلى أن يبلغ خمس نصابٍ ثمّ كل ما زاد على الخمس عفو إلى أن يبلغ خمساً آخر‏.‏

والتّفصيل في‏:‏ ‏(‏زكاة ف 72‏,‏ وعفو ف 12‏)‏‏.‏

مُعَلَّم

انظر‏:‏ بيع‏,‏ صيد‏,‏ معلّم‏.‏

مُعَلِّم

التّعريف

1 - المعلِّم في اللغة - اسم فاعلٍ من علّم‏,‏ يقال‏:‏ علّم فلاناً الشّيء تعليماً‏:‏ جعله يتعلّمه‏.‏ والمعلّم من يتّخذ مهنة التّعليم‏,‏ ومن له الحق في ممارسة إحدى المهن استقلالاً‏,‏ ولقد كان هذا اللّقب أرفع الدّرجات في نظام الصنّاع كالنّجّارين والحدّادين‏.‏

ولا يخرج استعمال الفقهاء للفظ المعلّم عن المعنى اللغويّ من حيث إطلاقه على من يعلّم النّاس العلم كالحديث والفقه والفرائض وغير ذلك من العلوم‏.‏

كما أطلقوه على من يعلّم غيره صنعةً قد برع فيها‏.‏

ما يتعلّق بالمعلّم من أحكامٍ

يتعلّق بالمعلّم أحكام منها‏:‏

فضل المعلّم

2 - ورد في فضل من يعلّم النّاس العلم النّافع بعض الأحاديث منها‏:‏ «إنّ اللّه وملائكته وأهل السّموات والأرض حتّى النّملة في جحرها وحتّى الحوت ليصلون على معلّم النّاس الخير»‏.‏

قيل‏:‏ أراد بالخير هنا علم الدّين وما به نجاة الرّجل‏,‏ ولم يذكر المعلّم مطلقاً ليعلم أنّ استحقاق الدعاء لأجل تعليم علمٍ موصّلٍ إلى الخير‏,‏ وفيه إشارة إلى وجه الأفضليّة بأنّ نفع العلم متعدٍّ ونفع العبادة قاصر‏.‏

قال الغزالي‏:‏ المعلّم متصرّف في قلوب البشر ونفوسهم‏,‏ وأشرف موجودٍ على الأرض جنس الإنس‏,‏ وأشرف جزءٍ من جواهر الإنسان قلبه‏,‏ والمعلّم مشتغل بتكميله وتجليته وتطهيره وسياقته إلى القرب من اللّه عزّ وجلّ فتعليم العلم من وجهٍ‏:‏ عبادة للّه تعالى‏,‏ ومن وجهٍ‏:‏ خلافة للّه تعالى وهو من أجل خلافة اللّه‏,‏ فإنّ اللّه تعالى قد فتح على قلب العالم العلم الّذي هو أخص صفاته فهو كالخازن لأنفس خزائنه‏,‏ ثمّ هو مأذون له في الإنفاق منه على كلّ محتاجٍ إليه‏,‏ فأي رتبةٍ أجل من كون العبد واسطةً بين ربّه سبحانه وبين خلقه في تقريبهم إلى اللّه زلفى وسياقتهم إلى جنّة المأوى‏.‏

وذكر الغزالي من أحوال المعلّم‏:‏ حال التّبصير قال‏:‏ وهو أشرف الأحوال‏,‏ فمن علم وعمل وعلّم فهو الّذي يدعى عظيماً في ملكوت السّموات فإنّه كالشّمس تضيء لغيرها وهي وضيئة في نفسها‏,‏ وكالمسك الّذي يطيّب غيره وهو طيّب‏.‏

حق المعلّم على المتعلّم

3 - ينبغي للمتعلّم أن يتواضع لمعلّمه وينظر إليه بعين الاحترام ويرى كمال أهليّته ورجحانه على أكثر طبقته إلى غير ذلك من الأمور‏.‏

والتّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏تعلم وتعليم ف 10‏)‏‏.‏

استحقاق المعلّم الأجرة

4 - إنّ المعلّم ينبغي له أن يقتدي بصاحب الشّرع صلوات اللّه وسلامه عليه فلا يطلب على إفادة العلم أجراً‏,‏ ولا يقصد به جزاءً ولا شكوراً‏,‏ بل يعلّم لوجه اللّه تعالى وطلباً للتّقرب إليه ولا يرى لنفسه منّةً عليهم وإن كانت المنّة لازمةً عليهم‏,‏ بل يرى الفضل لهم إذ هذّبوا قلوبهم لأن تتقرّب إلى اللّه تعالى بزراعة العلوم فيها‏,‏ كالّذي يعيرك الأرض لتزرع فيها لنفسك زراعةً فمنفعتك بها تزيد على منفعة صاحب الأرض فكيف تقلّده منّةً وثوابك في التّعليم أكثر من ثواب المتعلّم عند اللّه تعالى‏,‏ ولولا المتعلّم ما نلت هذا الثّواب فلا تطلب الأجر إلا من اللّه تعالى كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ‏}‏‏.‏

ولكنّ الفقهاء فصّلوا التّمول في حكم أخذ المعلّم الأجر وذلك أنّ المعلّم إمّا أن يقوم بالتّعليم حسبةً لوجه اللّه أو باشتراط أجر معيّنٍ‏,‏ فإن كان يقوم بعمله حسبةً فيعطى من بيت المال ما يعينه على عمله‏,‏ ويسمّى ما يعطاه رزقاً ولا يسمى أجراً‏.‏

قال ابن مفلحٍ‏:‏ واجب على الإمام أن يتعاهد المعلّم والمتعلّم ويرزقهما من بيت المال لأنّ في ذلك قواماً للدّين فهو أولى من الجهاد‏.‏

وقد كان عمر بن الخطّاب رضي الله عنهما أوّل من جمع الأولاد في المكتب وأمر عامر بن عبد اللّه الخزاعي أن يلازمهم للتّعليم وجعل رزقه من بيت المال‏.‏

وإن كان المعلّم يقوم بالتّعليم نظير أجرٍ معلومٍ مشترطٍ‏,‏ ففي ذلك تفصيل ينظر في مصطلح‏:‏ ‏(‏تعلمٍ وتعليمٍ ف 15‏,‏ بيت المال ف 12‏,‏ إجارة ف 109 - 110‏)‏‏.‏

أخذ الأجرة على تعليم الحرف والعلوم غير الشّرعيّة

5 - أجاز الفقهاء أخذ الأجر على تعليم الحرفة والصّنعة ولكنّهم يختلفون في التّفصيل بالنّسبة لما يشترط أو يستحق من الأجر‏.‏

قال الحنفيّة‏:‏ إذا استأجر رجلاً ليعلّم ولده حرفةً من الحرف فإن بيّن المدّة بأن استأجر شهراً مثلاً ليعلّمه هذا العمل يصح العقد وينعقد على المدّة حتّى يستحقّ المعلّم الأجر بتسليم النّفس علّم أو لم يعلّم‏,‏ وإن لم يبيّن المدّة ينعقد العقد فاسداً‏,‏ ولو علّمه يستحق أجر المثل وإلا فلا‏,‏ فالحاصل أنّ فيه روايتين والمختار أنّه يجوز‏,‏ هكذا في المضمرات‏.‏

وإن دفع ابنه إلى رجلٍ ليعلّمه حرفةً كذا ويعمل له الابن نصف عامٍ لا يجوز‏,‏ وإن علّم يجب أجر المثل‏,‏ كذا في الوجيز للكردريّ‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ يجوز لمن له رقيق أو ولد دفعه لمن يعلّمه صنعةً معيّنةً على أن تكون الأجرة عمل الغلام سنةً في الصّنعة الّتي يتعلّمها لا بعمله للمعلّم في صنعةٍ غير الّتي يتعلّمها‏,‏ لكن نقل عن ابن عرفة منع الإجارة بعمله لأنّه يختلف في الصّبيان باعتبار البلادة والحذاقة فهو الآن مجهول‏.‏

قال الدسوقيّ‏:‏ فكأنّ المجيز رآه من الغرر اليسير فإن عيّنا زمناً للعمل عمل به أي إن عيّنا زمن ابتداء السّنة عمل به وإن مات المتعلّم نصف السّنة فإنّ قيمة عمله توزّع على قيمة التّعليم من صعوبةٍ وسهولةٍ وينظر ما ينوب قيمة تعليمه إلى موته من قيمة العمل‏,‏ فإن حصل للمعلّم من قيمة العمل قدر قيمة تعليمه فلا كلام له‏,‏ وإن زاد له شيء بأن كان قيمة تعليمه أكثر من قيمة عمله قبل موته رجع به‏,‏ فإذا كان قيمة عمله في السّنة يساوي اثني عشر ومات في نصفها والحال أنّ تعليمه في النّصف الأوّل يساوي ثمانيةً لصعوبة تعليمه في الابتداء وعمله في النّصف الأوّل قبل موته يساوي درهمين لكونه لم يتعلّم بخلاف عمله في النّصف الثّاني فإنّه يساوي عشرةً لمقاربته للتّعليم فللمعلّم جهة العبد ثمانية أجرة تعليمه قبل موته وللولد عند المعلّم درهمان أجرة عمله قبل موته فيتخاصمان في درهمين ويرجع المعلّم بستّة فيكون المعلّم قد استوفى ثمانيةً هي ثلثا أجرة التّعليم‏.‏

واعتبر الشّافعيّة أنّ أجرة تعليم الصّبيّ حرفة تكون في ماله إن كان له مال وإلا فعلى من تجب نفقته‏.‏

‏(‏ر‏:‏ إجارة ف 151‏,‏ تعلم وتعليم ف 16‏)‏‏.‏

ما يعطى للمعلّم زيادةً على الأجرة

6 - ذهب المالكيّة إلى أنّ المعلّم كما يستحق الأجرة المسمّاة له فإنّه يستحق الحذاقة وهي المعروفة بالإصرافة - وهو ما يعطى للمعلّم عند حفظ الصّبيّ القرآن أو بعض سورٍ مخصوصةٍ -‏.‏

وإنّما يستحق المعلّم هذه الإصرافة إن اشترطت أو جرى بها عرف‏,‏ ويقضى للمعلّم بها على الأب إلا أن يكون اشترط عدمها‏,‏ وهذا قول سحنون وهو المشهور‏,‏ وقال أبو إبراهيم الأعرج إنّما يقضى بها بالشّرط ولا يقضى بها عند عدمه ولو جرى بها عرف ولا حدّ فيها على المذهب‏,‏ والرجوع فيها إلى حال الأب من يسرٍ وعسرٍ وينظر فيها أيضاً إلى حال الصّبيّ فإن كان حافظاً كثرت الإصرافة بخلاف غيره‏,‏ ومحلها من السور ما تقرّر به العرف نحو‏:‏ والضحى‏,‏ وسبّح‏,‏ وعمّ وتبارك‏,‏ فإن أخرج الأب ولده من عند المعلّم قبل وصولها فإن كان الباقي إليها يسيراً لزمت الأب‏,‏ وإلا لم تلزم إلا بشرط فيلزم منها بحسب ما مضى‏,‏ ولا يقضى بها في مثل الأعياد وإنّما تستحب‏,‏ وإذا مات الأب أو الولد قبل القضاء بها سقطت كما تسقط إذا مات المعلّم ولا طلب لورثته بشيء‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ ما يهدى للمعلّم إن كانت الهديّة لأجل ما يحصل منه من التّعليم فالأولى عدم القبول ليكون عمله خالصاً لوجه اللّه تعالى‏,‏ وإن أهدى إليه تحبباً وتودداً لعلمه وصلاحه فالأولى القبول‏.‏

وذكر ابن عابدين والحصكفيّ من الحنفيّة صورةً تفيد جواز إعطاء المعلّم زيادةً‏,‏ قال في الدرّ المختار‏:‏ معلّم طلب من الصّبيان أثمان الحصر فجمعها فشرى ببعضها وأخذ بعضها كان ذلك له لأنّه تمليك له من الآباء‏,‏ قال ابن عابدين‏:‏ والدّليل على أنّه تمليك أنّهم لا يتأمّلون منه أن يردّ الزّائد على ما يشترى به مع علمهم غالباً بأنّ ما يأخذه يزيد‏,‏ والحاصل أنّ العادة محكّمة‏.‏

وجوب تحرّي الحلال في الأجر

7 - المعلّم الّذي يعلم أنّ الأجر الّذي يأخذه ممّن يعلمه يكتسبه ولي الصّبيّ بسبب حرام من مكسٍ أو ظلمٍ أو غيرهما فلا يأخذ ممّا أتى به الصّبي من تلك الجهة شيئاً‏,‏ اللّهمّ إلا أن يكون يأتيه من غير تلك الجهات المحذّر منها من جانب الشّرع فلا بأس به مثل أن يأتيه بشيء من جهة أمّه أو جدّته أو غيرهما من وجهٍ مستورٍ بالعلم‏,‏ فإن تعذّرت جهة الحلال فلا يأخذ شيئاً ويحذر من هذا جهده فإنّه من باب أكل أموال النّاس بالباطل إذ أنّهم يأخذونه من أربابه بالظلم بالمصادرة والقهر وهو يأخذه على ظاهر أنّه حلال في زعمه‏,‏ وهذا أعظم في التّحريم من الأوّل وإن كان كله حراماً‏.‏

ولا يجوز للمعلّم قبول هديتهم أو يستخدمهم أو يرسلهم إلى نحو جنازةٍ أو مولودٍ ليقولوا شيئاً ويأخذ منهم ما يدفع لهم فإن فعل ذلك كان جرحه في شهادته وإمامته إلا ما فضل من غذائهم ممّا تسمح به النّفوس غالباً وإلا ما كان من الخدمة معتاداً وخفّ بحيث لا يشغل الولد فيجوز‏.‏

ما ينبغي أن يتّصف به المعلّم

8 - ينبغي للمعلّم أن يكون عاملاً بعلمه فلا يكذّب قوله فعله لأنّ العلم يدرك بالبصائر والعمل يدرك بالأبصار‏,‏ وأرباب الأبصار أكثر فإن خالف العمل العلم منع الرشد‏,‏ وكل من تناول شيئاً وقال للنّاس لا تتناولوه فإنّه سم مهلك سخر النّاس به واتّهموه وزاد حرصهم على ما نهوا عنه فيقولون لولا أنّه أطيب الأشياء وألذها لما كان يستأثر به قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ‏}‏‏.‏

ولذلك كان وزر العالم في معاصيه أكثر من وزر الجاهل إذ يزل بزلّته عالم كثير ويقتدون به‏,‏ ومن سنّ سنّةً سيّئةً فعليه وزرها ووزر من عمل بها‏.‏

وينبغي له أن يتخلّق بالمحاسن الّتي ورد الشّرع بها وحثّ عليها والخلال الحميدة والشّيم المرضيّة الّتي أرشد إليها من التّزهد في الدنيا والتّقلل منها وعدم المبالاة بفواتها والسّخاء والجود ومكارم الأخلاق وطلاقة الوجه من غير خروجٍ إلى حدّ الخلاعة‏,‏ والحلم والصّبر والتّنزه عن دنيء الاكتساب وملازمة الورع والخشوع والسّكينة والوقار والتّواضع والخضوع واجتناب الضّحك والإكثار من المزاح وملازمة الآداب الشّرعيّة الظّاهرة والخفيّة كالتّنظيف بإزالة الأوساخ وتنظيف الإبط وإزالة الرّوائح الكريهة واجتناب الرّوائح المكروهة‏.‏

وينبغي الحذر من الحسد والرّياء والإعجاب واحتقار النّاس وإن كانوا دونه بدرجات‏.‏ وطريقه في نفي الحسد أن يعلم أنّ حكمة اللّه تعالى اقتضت جعل هذا الفضل في هذا الإنسان فلا يعترض ولا يكره ما اقتضته الحكمة الإلهيّة‏,‏ وطريقه في نفي الرّياء أن يعلم أنّ الخلق لا ينفعونه ولا يضرونه حقيقةً فلا يتشاغل بمراعاتهم فيتعب نفسه ويضر دينه ويحبط عمله ويرتكب سخط اللّه تعالى ويفوّت رضاه‏.‏

وطريقه في نفي الإعجاب أن يعلم أنّ العلم فضل من اللّه تعالى ومعه عارية فإنّ للّه ما أخذ وله ما أعطى وكل شيءٍ عنده بأجل مسمّىً‏,‏ فينبغي أن لا يعجب بشيء لم يخترعه وليس مالكاً له ولا على يقينٍ من دوامه‏,‏ وطريقه في نفي الاحتقار التّأدب بما أدّبنا اللّه تعالى‏,‏ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏فَََلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى‏}‏‏,‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ‏}‏ فربّما كان هذا الّذي يراه دونه أتقى للّه تعالى وأطهر قلباً وأخلص نيّةً وأزكى عملاً‏,‏ وينبغي أنّه إذا فعل فعلاً صحيحاً جائزاً في نفس الأمر ولكن ظاهره أنّه حرام‏,‏ أو مكروه أو مخل بالمروءة ونحو ذلك فينبغي له أن يخبر أصحابه ومن يراه يفعل ذلك بحقيقة ذلك الفعل لينتفعوا ولئلا يأثموا بظنّهم الباطل ولئلا ينفروا عنه ويمتنع الانتفاع بعلمه ومن هذا قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمن رآه مع زوجته‏:‏ «هي صفيّة أو هذه صفيّة»‏.‏

تصرف المعلّم مع من يعلّمهم

9 - قال النّووي‏:‏ ينبغي للمعلّم أن يؤدّب المتعلّم على التّدريج بالآداب السنّيّة والشّيم المرضيّة ورياضة نفسه بالآداب والدّقائق الخفيّة وتعوده الصّيانة في جميع أموره الكامنة والجليّة‏,‏ وأوّل ذلك أن يحرّضه بأقواله وأحواله المتكرّرات على الإخلاص والصّدق وحسن النّيّات ومراقبة اللّه تعالى في جميع اللّحظات وأن يكون دائماً على ذلك حتّى الممات‏,‏ ويعرّفه أنّ بذلك تتفتّح عليها أبواب المعارف وينشرح صدره وتتفجّر من قلبه ينابيع الحكم واللّطائف ويبارك له في حاله وعلمه ويوفّق للإصابة في قوله وفعله وحكمه‏.‏

وينبغي أن يرغّبه في العلم ويذكّره بفضائله وفضائل العلماء وأنّهم ورثة الأنبياء صلوات اللّه وسلامه عليهم‏.‏

وينبغي أن يحنو عليه ويعتني بمصالحه كاعتنائه بمصالح نفسه وولده‏,‏ وأن يصبر على جفائه وسوء أدبه‏,‏ ويعذره في سوء أدبٍ وجفوةٍ تعرض منه في بعض الأحيان فإنّ الإنسان معرّض للنّقائص‏.‏

وينبغي أن يحبّ له ما يحب لنفسه من الخير ويكره له ما يكرهه لنفسه من الشّرّ‏,‏ ففي الحديث‏:‏ «لا يؤمن أحدكم حتّى يحبّ لأخيه ما يحب لنفسه»‏.‏

وينبغي ألا يدّخر عن الطّلبة من أنواع العلم شيئاً يحتاجون إليه إذا كان الطّالب أهلاً لذلك ولا يلقي إليه شيئاً لم يتأهّل له لئلا يفسد عليه حاله‏,‏ فلو سأله المتعلّم عن ذلك لم يجبه ويعرّفه أنّ ذلك يضره ولا ينفعه وأنّه لم يمنعه ذلك شحاً بل شفقةً ولطفاً‏.‏

وينبغي أن يتفقّدهم ويسأل عمّن غاب منهم‏.‏

10 - وينبغي أن يكون باذلاً وسعه في تفهيمهم وتقريب الفائدة إلى أذهانهم حريصاً على هدايتهم ويفهّم كلّ واحدٍ بحسب فهمه وحفظه فلا يعطيه مالا يحتمل ولا يقصّر به عمّا يحتمله بلا مشقّةٍ‏,‏ ويخاطب كلّ واحدٍ على قدر درجته وبحسب فهمه وهمّته فيكتفي بالإشارة لمن يفهمها فهماً محقّقاً‏,‏ ويوضّح العبارة لغيره ويكرّرها لمن لا يحفظها إلا بتكرار ويذكر الأحكام موضّحةً بالأمثلة من غير دليلٍ لمن لا ينحفظ له الدّليل‏,‏ فإن جهل دليل بعضها ذكره له ويبيّن الدّليل الضّعيف لئلا يغترّ به فيقول‏:‏ استدلوا بكذا وهو ضعيف لكذا‏,‏ ويبيّن الدّليل المعتمد ليعتمد‏.‏

وينبغي أن يطالب الطّلبة بإعادة محفوظاتهم ويسألهم عمّا ذكره لهم‏,‏ فمن وجده حافظاً أكرمه وأثنى عليه وأشاع ذلك ما لم يخف فساد حاله بإعجاب ونحوه‏,‏ ومن وجده مقصّراً عنّفه إلا أن يخاف تنفيره ويعيده له حتّى يحفظه حفظاً راسخاً‏,‏ وينصفهم في البحث فيعترف بفائدة يقولها بعضهم وإن كان صغيراً ولا يحسد أحداً منهم لكثرة تحصيله‏,‏ فالحسد حرام للأجانب وهنا أشد فإنّه بمنزلة الولد‏,‏ وفضيلته يعود إلى معلّمه منها نصيب وافر فإنّه مربّيه ولـه في تعليمه وتخريجه في الآخرة الثّواب الجزيل وفي الدنيا الدعاء المستمر والثّناء الجميل‏,‏ ويتحرّى تفهيم الدروس بأيسر الطرق ويكرّر ما يشكل من معانيه وألفاظه إلا إذا وثق بأنّ جميع الحاضرين يفهمونه بدون ذلك‏.‏

11 - وينبغي للمعلّم أن لا يفعل شيئاً يسكت به الطّلبة‏,‏ لأنّ في إسكات الطّلبة وعدم الاستماع لأسئلتهم إخماداً للعلم لأنّه قد يكون بعض الطّلبة لم تظهر له المسألة ويريد أن يبحث فيها حتّى تتبيّن له‏,‏ أو عنده سؤال وارد يريد أن يلقيه حتّى يزيل ما عنده فيسكت إذ ذاك فيمنعه من المقصود‏.‏

وينبغي أن لا يسكت أحداً إلا إذا خرج عن المقصود أو كان سؤاله وبحثه ممّا لا ينبغي فيسكته العالم برفق ويرشده إلى ما هو أولى في حقّه من السكوت أو الكلام‏,‏ فكيف يقوم على الطّلبة شخص سيّما إذا كان من العوامّ النّافرين عن العلم فيؤذيهم ببذاءة لسانه وزجره بعنف فيكون ذلك سبباً إلى نفور العامّة أكثر سيّما ومن شأنهم النفور في الغالب من العلم‏,‏ لأنّه حاكم عليهم‏,‏ والنّفوس في الغالب تنفر من الحكم عليها‏,‏ فإذا رأى العوام ذلك الفعل المذموم يفعل مع الطّلبة أمسكت العامّة عن السؤال عمّا يضطرون إليه في أمر دينهم فيكون ذلك كتماً للعلم واختصاصاً به وشأن العالم سعة الصّدر وهو أوسع من أن يضيق عن سؤال العامّة وجفاء بعضهم عليه إذ أنّه محلّ الكمال والفضائل وقد علم ما في سعة الخلق من الثّناء في الكتاب والسنّة ومناقب العلماء ما لا يأخذه حصر‏,‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ‏}‏‏.‏

12 - وينبغي له أن لا يترك الدّرس لعوارض تعرض له من جنازةٍ أو غيرها إن كان يأخذ على الدّرس معلوماً‏,‏ فإنّ الدّرس إذ ذاك واجب عليه‏,‏ وحضور الجنازة مندوب إليه‏,‏ وفعل الواجب يتعيّن فإنّ الذّمّة معمورة به ولا شيء آكد ولا أوجب من تخليص الذّمّة إذ تخليصها هو المقصود ثمّ بعد ذلك ينظر في الواجبات والمندوبات فلو حضر الجنازة وأبطل الدّرس لأجلها تعيّن عليه أن يسقط من المعلوم ما يخص ذلك‏,‏ بل لو كان الدّرس ليس له معلوم لتعيّن على العالم الجلوس إليه‏,‏ إذ أنّه تمحّض للّه تعالى‏,‏ وكذلك لا يترك الدّرس لأجل مريضٍ يعوده أو ما أشبهه من التّعزية والتّهنئة المشروعة لأنّ هذا كلّه مندوب وإلقاء العلم متعيّن إن كان يأخذ عليه معلوماً‏,‏ وقد يتعيّن عليه وإن لم يكن له معلوم‏.‏

13 - ومعلّم الصّبيان ينبغي له أن يتولّى تعليم الجميع بنفسه إن أمكنه ذلك‏,‏ فإن لم يمكنه وتعذّر عليه فليأمر بعضهم أن يقرئ بعضاً وذلك بحضرته وبين يديه ولا يخلّي نظره عنهم لأنّه إذا غفل قد تقع منهم مفاسد جمّة لم تكن له في بالٍ لأنّ عقولهم لم تتمّ‏,‏ ومن ليس له عقل إذا غفلت عنه وقتاً ما فسد أمره وتلف حاله في الغالب‏,‏ وينبغي له إذا وكّل بعضهم ببعض أن لا يجعل صبياناً معلومين لشخص واحدٍ منهم بل يبدّل الصّبيان في كلّ وقتٍ على العرفاء‏,‏ مرّةً يعطي صبيان هذا لهذا وصبيان هذا لهذا لأنّه إذا كان لواحد صبيان معلومون فقد تنشأ بينهم مفاسد بسبب الودّ لا يشعر بها‏,‏ فإذا فعل ما تقدّم ذكره سلم من هذا الأمر‏,‏ ويفعل هو في نفسه مثل ذلك فيأخذ صبيانهم تارةً ويدفع لهم آخرين فإن كان الصّبيان كلهم صغاراً فلا بدّ من مباشرة ذلك كلّه بنفسه‏,‏ فإن عجز عنه فليأخذ من يستنيبه من الحفّاظ المأمونين شرعاً بأجرة أو بغيرها‏.‏

14 - وينبغي أن يعلّمهم آداب الدّين كما يعلّمهم القرآن فمن ذلك أنّه إذا سمع الأذان أمرهم أن يتركوا كلّ ما هم فيه من قراءةٍ وكتابةٍ وغيرهما إذ ذاك‏,‏ فيعلّمهم السنّة في حكاية المؤذّن‏,‏ والدعاء بعد الأذان لأنفسهم وللمسلمين‏,‏ لأنّ دعاءهم مرجو الإجابة سيما في هذا الوقت الشريف‏,‏ ثم يعلمهم حكم الاستبراء شيئاً فشيئاً‏,‏ وكذلك الوضوء والركوع‏,‏ والصلاة وتوابعها‏,‏ ويأخذ لهم في ذلك قليلاً قليلاً ولو مسألة واحدة في كل يوم أو يومين‏,‏ وليحذر أن يتركهم يشتغلون بعد الأذان بغير أسباب الصلاة‏,‏ بل يتركون كل ما هم فيه ويشتغلون بذلك حتى يصلوا في جماعة‏.‏

وينبغي أن يكون وقت القراءة والتعليم معلوما حتى ينضبط الحال ولا يختل النظام‏,‏ ومن تخلف عن ذلك الوقت منهم لغير ضرورة شرعية قابله بما يليق به‏,‏ فرب صبي يكفيه عبوسة وجهه عليه‏,‏ وآخر لا يرتدع إلا بالكلام الغليظ والتهديد‏,‏ وآخر لا ينزجر إلا بالضرب والإهانة كل على قدر حاله‏.‏

15 - وينبغي له أن لا يستقضي أحداً من الصبيان فيما يحتاج إليه إلا أن يستأذن أباه في ذلك‏,‏ ويأذن له عن طيب نفس منه ولا يستقضي اليتيم منهم في حاجة بكل حال وليحذر أن يرسل إلى بيته أحداً من الصبيان البالغين أو المراهقين فإن ذلك ذريعة إلى وقوع ما لا ينبغي أو إلى سوء الظن بأهله‏,‏ ولأن فيه خلوة الأجنبي بالمرأة الأجنبية وهو محرم‏,‏ فإن سلموا من ذلك فلا يخلو من الوقيعة في أعراضهم‏.‏

وينبغي له أن لا يضحك مع الصبيان ولا يباسطهم لئلا يفضي ذلك إلى الوقوع في عرضه وعرضهم وإلى زوال حرمته عندهم إذ أن من شأن المؤدب أن تكون حرمته قائمة على الصبيان‏,‏ بذلك مضت عادة الناس الذين يقتدى بهم فليهتد بهديهم‏.‏

ويجب عليه أن يعدل بينهم في محل التعليم وفي التعليم وفي صفة جلوسهم عنده‏,‏ ولا يجوز له تفضيل بعض على بعض في شيء من ذلك‏.‏

ويجوز له ترك تعليمهم في نحو الجمع والأعياد لئلا تسأم أنفسهم بدوام التعليم‏.‏

وأول من شرع التخفيف عن الأولاد في التعليم عمر بن الخطاب رضي الله عنهما فأمر المعلم بالجلوس بعد صلاة الصبح إلى الضحى العالي ومن صلاة الظهر إلى صلاة العصر ويستريحون بقية النهار، ثم شرع لهم الاستراحة يومي الخميس والجمعة ودعا بالخير لمن فعل ذلك‏.‏

16 - وينبغي أن يكون الصبيان عنده بمنزلة واحدة فلا يفضل بعضهم على بعض‏,‏ فإن الفقير وابن صاحب الدنيا على حد واحد في التربية والتعليم وكذلك من أعطاه ومن منعه إذ بهذا يتبين صدق حاله فيما هو بصدده‏,‏ فإن كان يعلم من أعطاه أكثر ممن لم يعطه فذلك دليل على كذبه في نيته‏,‏ بل يجب أن يكون من لم يعطه أرجى عنده ممن يعطيه‏,‏ لأن من لم يعطه تمحّض تعليمه لله تعالى بخلاف من أعطاه فإنه قد يكون مشوبا بدسيسة لا تعلم السلامة فيه معها‏,‏ والسلامة أولى ما يغتنم المرء فيغتنمها العاقل‏.‏

‏(‏ر‏:‏ تعلم وتعليم ف 9‏,‏ وطلب العلم ف 12 - 14‏)‏‏.‏

ضمان المعلّم

17 - اتّفق الفقهاء على أنّ المعلّم لو ضرب الصّبيّ الّذي يقوم بتعليمه ضرباً غير معتادٍ فمات فإنّه يضمن لمجاوزته الحدّ المشروع‏.‏

أمّا لو كان الضّرب معتاداً فلا يضمن وذلك عند المالكيّة والحنابلة وكذلك عند الحنفيّة إذا كان بإذن وليّه وإلا فيضمن‏,‏ ويضمن عند الشّافعيّة لأنّه قد يستغني عن الضّرب بالقول والزّجر فضمنه‏.‏

وينظر تفصيل ذلك في مصطلح‏:‏ ‏(‏تأديب ف 11‏,‏ وتعلم وتعليم ف 13 - 14‏)‏‏.‏

الاصطياد بالمعلّم من الجوارح

18 - الاصطياد بالمعلّم من الجوارح مشروع لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ‏}‏‏.‏

ولما روى أبو ثعلبة الخشني رضي الله عنهما أنّه سأل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن الصّيد بالقوس والكلب المعلّم‏,‏ والكلب غير المعلّم فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما صدت بقوسك فاذكر اسم اللّه ثمّ كل، وما صدت بكلبك المعلّم فاذكر اسم اللّه ثمّ كل، وما صدت بكلبك الّذي ليس معلّماً فأدركت ذكاته فكل»‏.‏

ولأنّ النّاس كانوا يمارسون الصّيد في عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وعهود أصحابه وتابعيهم من غير نكيرٍ‏.‏

ولأنّ الصّيد نوع اكتسابٍ وانتفاعٍ بما هو مخلوق لذلك‏.‏

وأمّا ما يشترط في الجوارح المعلّمة فينظر تفصيله في‏:‏ ‏(‏مصطلح صيد ف 38 وما بعدها‏)‏‏.‏

مِعْيَار

انظر‏:‏ مقادير‏.‏

مُعِيد

انظر‏:‏ مدرّس‏.‏

مُغَابَنَة

انظر‏:‏ غبن‏.‏

مُغَالاة

التّعريف

1 - المغالاة في اللغة‏:‏ المبالغة في الشّيء‏,‏ ومجاوزة الحدّ فيه‏.‏

يقال‏:‏ غالى بالشّيء‏:‏ اشتراه بثمن غالٍ‏,‏ ويقال‏:‏ غاليت صداق المرأة‏:‏ أي أغليته‏,‏ ومنه قول عمر رضي الله عنه‏:‏ ‏"‏ ألا لا تغالوا في صدقات النّساء ‏"‏‏,‏ وأصل الغلاء‏:‏ الارتفاع ومجاوزة القدر في كلّ شيءٍ‏.‏

ولا يخرج المعنى في الاصطلاح عن المعنى اللغويّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

الرخص‏:‏

2 - الرخص في اللغة‏:‏ ضد الغلاء‏,‏ من رُخص الشّيء رُخْصاً فهو رخيص من باب قرب، يقال‏:‏ أرخص اللّه السّعر‏,‏ ويتعدّى بالهمزة وبالتّضعيف‏.‏

وارتخصت الشّيء‏:‏ اشتريته رخيصاً‏.‏

ولا يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللّفظ عن المعنى اللغويّ‏.‏

والصّلة بين المغالاة والرخص هي التّضاد‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالمغالاة

تتعلّق بالمغالاة أحكام منها‏:‏

المغالاة في المهر

3 - ذهب الفقهاء إلى أنّه ليس للمهر حد أعلى مقدّر‏,‏ فحينما أراد عمر رضي الله عنه تحديد المهور‏,‏ نهى أن يزاد في الصّداق على أربعمائة درهمٍ‏,‏ وخطب النّاس فيه فقال‏:‏ ألا لا تغالوا في صداق النّساء فإنّه لا يبلغني عن أحدٍ ساق أكثر من شيءٍ ساقه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أو سيق له إلا جعلت فضل ذلك في بيت المال ثمّ نزل فعرضت له امرأة من قريشٍ، فقالت‏:‏ يا أمير المؤمنين، أكتاب اللّه أحق أن يتّبع أو قولك‏؟‏ قال بل كتاب اللّه، فما ذاك‏؟‏ قالت‏:‏ نهيت النّاس آنفاً أن يغالوا في صداق النّساء، واللّه تعالى يقول في كتابه‏:‏ ‏{‏وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً‏}‏ فقال عمر رضي الله عنه‏:‏ كل أحدٍ أفقه من عمر، مرّتين أو ثلاثاً، ثمّ رجع إلى المنبر فقال للنّاس‏:‏ إنّي كنت نهيتكم أن تغالوا في صداق النّساء ألا فليفعل رجل في ماله ما بدا له‏.‏

ومع ذلك فقد صرّح المالكيّة بكراهة المغالاة في المهور‏,‏ بمعنى ما خرجت بها عن عادة أمثالها‏.‏

وذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه يسن تخفيف الصّداق وعدم المغالاة في المهور‏,‏ لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنّ من يمن المرأة تيسير خطبتها وتيسير صداقها وتيسير رحمها»‏.‏ ولما روى ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «خيرهنّ أيسرهنّ صداقاً» ففي هذين الحديثين دليل على أفضليّة النّكاح مع قلّة المهر‏,‏ وأنّ الزّواج بمهر قليلٍ مندوب ومرغوب إليه، لأنّ المهر إذا كان قليلاً لم يستصعب النّكاح من يريده‏,‏ فيكثر الزّواج المرغوب فيه‏,‏ ويقدر عليه الفقراء‏,‏ ويكثر النّسل الّذي هو أهم مطالب النّكاح‏,‏ بخلاف ما إذا كان المهر كثيراً‏,‏ فإنّه لا يتمكّن منه إلا أرباب الأموال‏,‏ فيكون الفقراء - الّذين هم الأكثر في الغالب - غير مزوّجين‏,‏ فلا تحصل المكاثرة الّتي أرشد إليها النّبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال الشّافعي رضي الله عنه‏:‏ والاقتصاد في الصّداق أحب إلينا‏.‏

المغالاة في الكفن

4 - اتّفق الفقهاء على أنّه تكره المغالاة في الكفن‏,‏ لما روى علي رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لا تغالوا في الكفن فإنّه يُسلب سلباً سريعاً»‏.‏

قال ابن عابدين‏:‏ المراد بالمغالاة في الكفن الزّيادة على كفن المثل‏.‏

وقال النّووي‏:‏ يستحب تحسين الكفن‏,‏ قال أصحابنا‏:‏ والمراد بتحسينه بياضه ونظافته وسبوغه وكثافته لا كونه ثميناً‏,‏ لحديث النّهي عن المغالاة المتقدّم‏.‏

وقال القاضي حسين والبغوي‏:‏ الثّوب الغسيل أفضل من الجديد‏,‏ ودليله حديث عائشة رضي اللّه عنها قالت‏:‏ نظر أبو بكرٍ رضي الله عنه إلى ثوبٍ كان يمرّض فيه‏,‏ فقال‏:‏ اغسلوا هذا وزيدوا عليه ثوبين وكفّنوني فيها، قلت‏:‏ إنّ هذا خلق، قال‏:‏ الحي أحق بالجديد من الميّت‏.‏

وهذا كله يدل على رخص الكفن‏.‏

المغالاة في العبادة

5 - ينبغي أن يقتصد المسلم في طاعة اللّه‏,‏ وأن يكون وسطاً بين الغلوّ والتّفريط في عبادة اللّه‏,‏ ولا يكلّف نفسه بما لا يطيق‏,‏ لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إيّاكم والغلوّ في الدّين»‏,‏ ولأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا بلغه خبر الثّلاثة الّذين قال أحدهم‏:‏ إنّي لا أتزوّج النّساء‏,‏ وقال الثّاني‏:‏ أصوم ولا أفطر‏,‏ وقال الثّالث‏:‏ أقوم ولا أنام، خطب وقال‏:‏ «ما بال أقوامٍ يقولون كذا وكذا، إنّي أصلّي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوّج النّساء، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي»‏.‏

وعن عائشة رضي اللّه عنها‏:‏ «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها امرأة، فقال‏:‏ من هذه‏؟‏ قالت‏:‏ فلانة تذكر من صلاتها، قال‏:‏ مه عليكم بما تطيقون، فواللّه لا يَمَلُّ اللّه حتّى تملوا، وكان أحب الدّين إليه ما دام صاحبه عليه»، فالأفضل للإنسان أن لا يجهد نفسه بالطّاعة وكثرة العمل‏,‏ وأن لا يغلو في الدّين فإنّه إذا فعل هذا ملّ‏,‏ ثمّ ترك‏,‏ وكونه يبقى على العمل ولو قليلاً مستمراً عليه أفضل‏.‏

مَغْرُور

انظر‏:‏ غرر‏.‏

مغَلْصَمة

انظر‏:‏ ذبائح‏.‏