فصل: تشديد المفتي وتساهله

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


الإفتاء بما سبق للمفتي أن أفتى به

24 - إذا استفتي في مثل ما سبق له أن أفتى فيه، فإن كان مستحضراً لفتياه ولدليلها فلا حاجة إلى إعادة النّظر، لأنّه تحصيل حاصل، ولأنّ الغرض من النّظر أن تكون فتياه عن علم بما يفتي به، ما لم يظنّ أنّه لو أعاد النّظر تغيّر اجتهاده‏.‏

وإن ذكر الفتوى الأولى ولم يذكر دليلها، ولا طرأ ما يجب رجوعه، فقيل‏:‏ له أن يفتي بذلك، والأصحّ‏:‏ وجوب تجديد النّظر‏.‏

التّخيّر في الفتوى عند التّعارض

25 - إذا تعارضت الأدلّة في نظر المفتي المجتهد، أو تعارضت الأقوال المعتبرة في نظر المقلّد، فقد ذهب الأكثرون إلى أنّ المفتي ليس مخيّراً يأخذ بما شاء ويترك ما شاء، بل عليه أن يرجّح بوجه من وجوه التّرجيح بين الأدلّة على ما هو مبيّن في علم أصول الفقه‏.‏ وفي تفصيل ذلك ينظر الملحق الأصوليّ‏.‏

تتبّع المفتي للرّخص

26 - ذهب عامّة العلماء وصرّح به النّوويّ في فتاويه إلى أنّه ليس للمفتي تتبّع رخص المذاهب، بأن يبحث عن الأسهل من القولين أو الوجهين ويفتي به، وخاصّةً إن كان يفتي بذلك من يحبّه من صدّيق أو قريب، ويفتي بغير ذلك من عداهم، وقد خطّأ العلماء من يفعل ذلك، نقله الشّاطبيّ عن الباجيّ والخطّابيّ، ونصّ بعض العلماء منهم أبو إسحاق المروزيّ، وابن القيّم على فسق من يفعل ذلك، لأنّ الرّاجح في نظر المفتي هو في ظنّه حكم اللّه تعالى، فتركه والأخذ بغيره لمجرّد اليسر والسّهولة استهانة بالدّين، شبيه بالانسلاخ منه، ولأنّه شبيه برفع التّكليف بالكلّيّة، إذ الأصل أنّ في التّكليف نوعاً من المشقّة، فإن أخذ في كلّ مسألة بالأخفّ لمجرّد كونه أخفّ، فإنّه ما شاء أن يسقط تكليفاً - من غير ما فيه إجماع - إلاّ أسقطه، فيسقط في الزّكاة مثلاً زكاة مال الصّغير، وزكاة مال التّجارة، وزكاة الفلوس وما شابهها، وزكاة كثير من المعشّرات، ويسقط تحريم المتعة، ويجيز النّبيذ، ونحو ذلك، قال أحمد‏:‏ لو أنّ رجلاً عمل بكلّ رخصة‏:‏ بقول أهل الكوفة في النّبيذ، وأهل المدينة في السّماع، وأهل مكّة في المتعة، كان فاسقاً‏.‏ أ‏.‏ هـ وقال الأوزاعيّ‏:‏ من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام‏.‏

وإن أفتى كلّ أحد بما يشتهي انخرم قانون السّياسة الشّرعيّة، الّذي يقوم على العدالة والتّسوية، وهذا يؤدّي إلى الفوضى والمظالم وتضييع الحقوق بين النّاس‏.‏

قال ابن سريج‏:‏ سمعت إسماعيل القاضي قال‏:‏ دخلت على المعتضد، فدفع إليّ كتاباً نظرت فيه وقد جمع فيه الرّخص من زلل العلماء، وما احتجّ به كلّ منهم، فقلت‏:‏ مؤلّف هذا الكتاب زنديق، فقال‏:‏ لم تصحّ هذه الأحاديث ‏؟‏ قلت‏:‏ الأحاديث على ما رويت، ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة، ومن أباح المتعة لم يبح المسكر، وما من عالم إلاّ وله زلّة، ومن جمع زلل العلماء ثمّ أخذ بها ذهب دينه، فأمر المعتضد بإحراق هذا الكتاب‏.‏

على أنّ الذّاهبين إلى هذا القول لم يمنعوا الإفتاء بما فيه ترخيص إن كان له مستند صحيح‏.‏

قال ابن القيّم بعد أن ذكر تتبّع المفتي الرّخص لمن أراد نفعه‏:‏ فإن حسن قصد المفتي في حيلة جائزة لا شبهة فيها، ولا مفسدة لتخليص المستفتي بها من حرج جاز ذلك، بل استحبّ، وقد أرشد اللّه نبيّه أيّوب عليه السلام إلى التّخلّص من الحنث‏:‏ بأن يأخذ بيده ضغثاً فيضرب به المرأة ضربةً واحدةً، قال‏:‏ فأحسن المخارج ما خلّص من المآثم، وأقبحها ما أوقع في المحارم‏.‏

إحالة المفتي على غيره

27 - للمفتي أن يحيل المستفتي على غيره من المفتين، إمّا بقصد أن يبرأ من عهدة الفتوى، وإمّا لكون الآخر أعلم، وإمّا لظرف يستدعي ذلك، ولا تجوز له الإحالة إلاّ أن يكون المحال عليه أهلاً للفتيا، سواء كان يعلم أنّه يوافقه في الرّأي أو يخالفه، فإن أحال على من ليس أهلاً فإنّه يكون معيناً على الإثم والعدوان، قال أبو داود‏:‏ قلت لأحمد‏:‏ الرّجل يسأل عن مسألة فأدلّه على إنسان ‏؟‏ قال‏:‏ إذا كان متّبعاً ويفتي بالسّنّة، قلت‏:‏ إنّه يريد الاتّباع وليس كلّ قوله يصيب، قال‏:‏ ومن يصيب في كلّ شيء ‏؟‏‏.‏

لكن لا يحلّ أن يدلّ على من يخالفه في القول إلاّ أن تكون المسألة اجتهاديّةً، فيجوز ذلك، لأنّ اجتهاده ليس أولى من اجتهاد غيره‏.‏

أمّا إن كان في المسألة نصّ صحيح أو إجماع، أو كان المحال عليه ممّن يتساهل في الفتوى فلا تجوز الإحالة‏.‏

تشديد المفتي وتساهله

28 - الشّريعة الإسلاميّة شريعة تتميّز بالوسطيّة واليسر، ولذا فالّذي ينبغي للمفتي - وهو المخبر عن حكم اللّه تعالى - أن يكون كما قال الشّاطبيّ‏:‏ المفتي البالغ ذروة الدّرجة هو الّذي يحمل النّاس على الوسط المعهود فيما يليق بالجمهور، فلا يذهب بهم مذهب الشّدّة، ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال، وهذا هو الصّراط المستقيم الّذي جاءت به الشّريعة، فلا إفراط ولا تفريط، وما خرج عن الوسط مذموم عند العلماء الرّاسخين، وقد ردّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون رضي الله عنه التّبتّل، وقال لمعاذ رضي الله عنه لمّا أطال بالنّاس الصّلاة‏:‏ «يا معاذ أفتّان أنت ‏؟‏»، ونهاهم عن الوصال، ولأنّه إذا ذهب بالمستفتي مذهب العنت والحرج بغّض إليه الدّين، وإذا ذهب به مذهب الانحلال كان مظنّةً للمشي مع الهوى والشّهوة‏.‏

وجاء في المنتهى وشرحه من كتب الحنابلة‏:‏ يحرم تساهل مفت في الإفتاء، لئلاّ يقول على اللّه ما لا علم له به، ويحرم تقليد متساهل في الإفتاء لعدم الوثوق به، وقال مثل ذلك النّوويّ‏.‏

وبيّن السّمعانيّ والنّوويّ أنّ التّساهل نوعان‏:‏

الأوّل‏:‏ تتبّع الرّخص والشّبه والحيل المكروهة والمحرّمة كما تقدّم‏.‏

والثّاني‏:‏ أن يتساهل في طلب الأدلّة وطرق الأحكام ويأخذ بمبادئ النّظر وأوائل الفكر، فهذا مقصّر في حقّ الاجتهاد، فلا يحلّ له أن يفتي كذلك ما لم تتقدّم معرفته بالمسئول عنه‏.‏

لكن أجاز بعضهم للمفتي أن يتشدّد في الفتوى على سبيل السّياسة لمن هو مقدم على المعاصي متساهل فيها، وأن يبحث عن التّيسير والتّسهيل على ما تقتضيه الأدلّة لمن هو مشدّد على نفسه أو غيره، ليكون مآل الفتوى أن يعود المستفتي إلى الطّريق الوسط‏.‏

آداب المفتي

29 - أ - ينبغي للمفتي أن يحسن زيّه، مع التّقيّد بالأحكام الشّرعيّة في ذلك، فيراعي الطّهارة والنّظافة، واجتناب الحرير والذّهب والثّياب الّتي فيها شيء من شعارات الكفّار، ولو لبس من الثّياب العالية لكان أدعى لقبول قوله، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ‏}‏‏.‏

ولأنّ تأثير المظهر في عامّة النّاس لا ينكر، وهو في هذا الحكم كالقاضي‏.‏

ب - وينبغي له أن يحسن سيرته، بتحرّي موافقة الشّريعة في أفعاله وأقواله، لأنّه قدوة للنّاس في ما يقول ويفعل، فيحصل بفعله قدر عظيم من البيان، لأنّ الأنظار إليه مصروفة، والنّفوس على الاقتداء بهديه موقوفة‏.‏

ج - وينبغي له أن يصلح سريرته ويستحضر عند الإفتاء النّيّة الصّالحة من قصد الخلافة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في بيان الشّرع، وإحياء العمل بالكتاب والسّنّة، وإصلاح أحوال النّاس بذلك، ويستعين باللّه على ذلك، ويسأله التّوفيق والتّسديد، وعليه مدافعة النّيّات الخبيثة من قصد العلوّ في الأرض والإعجاب بما يقول، وخاصّةً حيث يخطئ غيره ويصيب هو، وقد ورد عن سحنون‏:‏ فتنة الجواب بالصّواب أعظم من فتنة المال‏.‏

د - وعليه أن يكون عاملاً بما يفتي به من الخير، منتهياً عمّا ينهى عنه من المحرّمات والمكروهات، ليتطابق قوله وفعله، فيكون فعله مصدّقاً لقوله مؤيّداً له، فإن كان بضدّ ذلك كان فعله مكذّباً لقوله، وصادّاً للمستفتي عن قبوله والامتثال له، لما في الطّبائع البشريّة من التّأثّر بالأفعال، ولا يعني ذلك أنّه ليس له الإفتاء في تلك الحال، إذ ما من أحد إلاّ وله زلّة، كما هو مقرّر عند العلماء أنّه لا يلزم في الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر أن يكون صاحبه مؤتمراً منتهياً، وهذا ما لم تكن مخالفته مسقطةً لعدالته، فلا تصحّ فتياه حينئذ‏.‏

هـ - أن لا يفتي حال انشغال قلبه بشدّة غضب أو فرح أو جوع أو عطش أو إرهاق أو تغيّر خلق، أو كان في حال نعاس، أو مرض شديد، أو حرّ مزعج، أو برد مؤلم، أو مدافعة الأخبثين ونحو ذلك من الحاجات الّتي تمنع صحّة الفكر واستقامة الحكم‏.‏

لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا يقضينّ حكم بين اثنين وهو غضبان» فإن حصل له شيء من ذلك وجب عليه أن يتوقّف عن الإفتاء حتّى يزول ما به ويرجع إلى حال الاعتدال‏.‏ فإن أفتى في حال انشغال القلب بشيء من ذلك في بعض الأحوال وهو يرى أنّه لم يخرج عن الصّواب صحّت فتياه وإن كان مخاطراً لكن قيّده المالكيّة بكون ذلك لم يخرجه عن أصل الفكر‏.‏

فإن أخرجه الدّهش عن أصل الفكر لم تصحّ فتياه قطعاً وإن وافقت الصّواب‏.‏

و - إن كان عنده من يثق بعلمه ودينه فينبغي له أن يشاوره، ولا يستقلّ بالجواب تسامياً بنفسه عن المشاورة، لقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ‏}‏ وعلى هذا كان الخلفاء الرّاشدون، وخاصّةً عمر رضي الله عنه، فالمنقول من مشاورته لسائر الصّحابة أكثر من أن يحصر، ويرجى بالمشاورة أن يظهر له ما قد يخفى عليه، وهذا ما لم تكن المشاورة من قبيل إفشاء السّرّ‏.‏

ز - المفتي كالطّبيب يطّلع من أسرار النّاس وعوراتهم على ما لا يطّلع عليه غيره، وقد يضرّ بهم إفشاؤها أو يعرّضهم للأذى فعليه كتمان أسرار المستفتين، ولئلاّ يحول إفشاؤه لها بين المستفتي وبين البوح بصوره الواقعة إذا عرف أنّ سرّه ليس في مأمن‏.‏

مراعاة حال المستفتي

30 - ينبغي للمفتي مراعاة أحوال المستفتي، ولذلك وجوه، منها‏:‏

أ - إذا كان المستفتي بطيء الفهم، فعلى المفتي التّرفّق به والصّبر على تفهّم سؤاله وتفهيم جوابه‏.‏

ب - إذا كان بحاجة إلى تفهيمه أموراً شرعيّةً لم يتطرّق إليها في سؤاله، فينبغي للمفتي بيانها له زيادةً على جواب سؤاله، نصحاً وإرشاداً، وقد أخذ العلماء ذلك من حديث أنّ بعض الصّحابة رضي الله عنهم سألوا النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن الوضوء بماء البحر، فقال‏:‏ «هو الطّهور ماؤه الحلّ ميتته» وللمفتي أن يعدل عن جواب السّؤال إلى ما هو أنفع، ومن ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ ‏}‏ فقد سأل النّاس النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن المنفق فأجابهم بذكر المصرف إذ هو أهمّ ممّا سألوا عنه‏.‏

ج - أن يسأله المستفتي عمّا هو بحاجة إليه فيفتيه بالمنع، فينبغي أن يدلّه على ما هو عوض منه، كالطّبيب الحاذق إذا منع المريض من أغذية تضرّه يدلّه على أغذية تنفعه‏.‏

د - أن يسأل عمّا لم يقع، وتكون المسألة اجتهاديّةً، فيترك الجواب إشعاراً للمستفتي بأنّه ينبغي له السّؤال عمّا يعنيه ممّا له فيه نفع ووراءه عمل، لحديث‏:‏ «إنّ اللّه كره لكم ثلاثاً‏:‏ قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السّؤال»‏.‏

وقال ابن عبّاس رضي الله عنهما‏:‏ ما كانوا يسألون إلاّ عمّا ينفعهم‏.‏

وقال ابن عبّاس لعكرمة‏:‏ من سألك عمّا لا يعنيه فلا تفته‏.‏

هـ - أن يكون عقل السّائل لا يحتمل الجواب، فيترك إجابته وجوباً، لقول عليّ رضي الله عنه‏:‏ حدّثوا النّاس بما يعرفون، أتريدون أن يكذّب اللّه ورسوله ‏؟‏‏.‏

وقال ابن مسعود‏:‏ ما أنت بمحدّث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلاّ كان لبعضهم فتنةً‏.‏

و - ترك الجواب إذا خاف المفتي غائلة الفتيا أي هلاكاً أو فساداً أو فتنةً يدبّرها المستفتي أو غيره‏.‏

والأصل وجوب البيان وتحريم الكتمان إن كان الحكم جليّاً فلا يترك المفتي بيانه لرغبة ولا رهبة لقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ‏}‏‏.‏

لكن إن خاف الغائلة فله ترك الجواب وكذا له أن يترك الفتيا إن خاف أن يستغلّها الظّلمة أو أهل الفجور لمآربهم‏.‏

صيغة الفتوى

31 - ينبغي لسلامة الفتيا وصدقها وصحّة الانتفاع بها أن يراعي المفتي أموراً منها‏:‏

أ - تحرير ألفاظ الفتيا، لئلاّ تفهم على وجه باطل، قال ابن عقيل‏:‏ يحرم إطلاق الفتيا في اسم مشترك إجماعاً، فمن سئل‏:‏ أيؤكل أو يشرب في رمضان بعد الفجر ‏؟‏ لا بدّ أن يقول‏:‏ الفجر الأوّل أو الثّاني، ومثله من سئل عن بيع رطل تمر برطل تمر هل يصحّ ‏؟‏ فينبغي أن لا يطلق الجواب بالإجازة أو المنع، بل يقول‏:‏ إن تساويا كيلاً جاز وإلاّ فلا، لكن لا يلزم التّنبيه على احتمال بعيد، كمن سئل عن ميراث بنت وعمّ ‏؟‏ فله أن يقول‏:‏ لها النّصف، وله الباقي، ولا يلزم التّنبيه على أنّها إن كانت قاتلةً لأبيها فلا شيء لها، وكذا سائر موانع الإرث‏.‏

على أنّ الّذي ينبغي للمفتي إن كان في المسألة تفصيل‏:‏ أن يستفصل السّائل ليصل إلى تحديد الواقعة تحديداً تامّاً، فيكون جوابه عن أمر محدّد، وهذا أولى وأسلم، وإن علم أي الأقسام هو الواقع فله أن يقتصر على جواب ذلك القسم، ثمّ يقول‏:‏ هذا إن كان الأمر كذا، ولـه أن يفصّل الأقسام في جوابه ويذكر حكم كلّ قسم، ولكن لا يحسن هذا إلاّ إن كان المستفتي غائباً ولم يمكن معرفة صفة الواقع فيجتهد في بيان الأقسام وحكم كلّ قسم، لئلاّ يفهم جوابه على غير ما يريد‏.‏

ب - أن لا تكون الفتوى بألفاظ مجملة، لئلاّ يقع السّائل في حيرة، كمن سئل عن مسألة في المواريث ‏؟‏ فقال‏:‏ تقسم على فرائض اللّه عزّ وجلّ، أو سئل عن شراء العرايا بالتّمر ‏؟‏ فقال‏:‏ يجوز بشروطه، فإنّ الغالب أنّ المستفتي لا يدري ما شروطه، لكن إن كان السّائل من أهل العلم الّذين لا يخفى عليهم مثل هذا، بل يريد أن يعرف قول المفتي جاز ذلك‏.‏

ج - يحسن ذكر دليل الحكم في الفتيا سواء كان آيةً أو حديثاً حيث أمكنه ذلك، ويذكر علّته أو حكمته، ولا يلقيه إلى المستفتي مجرّداً، فإنّ الأوّل أدعى للقبول بانشراح صدر وفهم لمبنى الحكم، وذلك أدعى إلى الطّاعة والامتثال، وفي كثير من فتاوى النّبيّ صلى الله عليه وسلم ذكر الحِكَم، كحديث ابن عبّاس رضي الله عنهما قال‏:‏ «نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن تزوّج المرأة على العمّة والخالة وقال‏:‏ إنّكنّ إذا فعلتنّ ذلك قطعتنّ أرحامكنّ»‏.‏

وقولـه في وضع الجوائح‏:‏ «أرأيت إذا منع اللّه الثّمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه ‏؟‏»‏.‏

وقال الصّيمريّ‏:‏ لا يذكر الحجّة إن أفتى عامّيّاً، ويذكرها إن أفتى فقيهاً، وإن تعلّقت الفتوى بقضاء قاض فيومئ فيها إلى طريق الاجتهاد ويلوّح بالنّكتة، وكذا إن أفتى فيما غلط فيه غيره فيبيّن وجه الاستدلال‏.‏

وقال الماورديّ‏:‏ لا يذكر الحجّة لئلاّ يخرج من الفتوى إلى التّصنيف‏.‏

د - لا يقول في الفتيا‏:‏ هذا حكم اللّه ورسوله إلاّ بنصّ قاطع، أمّا الأمور الاجتهاديّة فيتجنّب فيها ذلك لحديث‏:‏ «وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم اللّه فلا تنزلهم على حكم اللّه، فإنّك لا تدري أتصيب حكم اللّه فيهم أم لا ‏؟‏»‏.‏

وهذا على قول من يجعل الصّواب في قول أحد المختلفين، أمّا من يقول‏:‏ كلّ مجتهد مصيب فيجوز أن يقول‏:‏ هذا حكم اللّه، وهو مذهب مرجوح‏.‏

هـ - ينبغي أن تكون الفتيا بكلام موجز واضح مستوف لما يحتاج إليه المستفتي ممّا يتعلّق بسؤاله، ويتجنّب الإطناب فيما لا أثر له، لأنّ المقام مقام تحديد، لا مقام وعظ أو تعليم أو تصنيف‏.‏

قال القرافيّ‏:‏ إلاّ في نازلة عظيمة تتعلّق بولاة الأمور، ولها صلة بالمصالح العامّة، فيحسن الإطناب بالحثّ والإيضاح والاستدلال، وبيان الحكم والعواقب، ليحصل الامتثال التّامّ‏.‏

وإن كان لكلامه قبول ويحرص النّاس على الاطّلاع عليه، فلا بأس بالإطالة واستيفاء جوانب المسألة‏.‏

الإفتاء بالإشارة

32 - تجوز الفتيا بالإشارة إن كانت مفهمةً للمراد وقد ثبت عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه أفتى بالإشارة في مواضع، منها‏:‏

حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما‏:‏ «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سئل يوم النّحر عن التّقديم والتّأخير ‏؟‏ فأومأ بيده أن لا حرج»‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنّ اللّه لا يعذّب بدمع العين ولا بحزن القلب، ولكن يعذّب بهذا - وأشار إلى لسانه - أو يرحم»‏.‏

الإفتاء بالكتابة

33 - تجوز الفتيا كتابةً، ولكن فيها خطورة من حيث إمكان التّبديل والتّغيير فيها ونسبة ذلك إلى المفتي، ولذا ينبغي أن يتحرّز في كتابتها بحيث لا يمكن فيها الإضافة والتّزوير‏.‏

أخذ الرّزق على الفتيا

34 - الأولى للمفتي أن يكون متبرّعاً بعمله ولا يأخذ عليه شيئاً‏.‏

وإن تفرّغ للإفتاء فله أن يأخذ عليه رزقاً من بيت المال على الصّحيح عند الشّافعيّة، وهو مذهب الحنابلة، واشترط الفريقان لجواز ذلك شرطين‏:‏

الأوّل‏:‏ أن لا يكون له كفاية‏.‏

والثّاني‏:‏ أن لا يتعيّن عليه، فإن تعيّن عليه، بأن لم يكن بالبلد عالم يقوم مقامه، أو كان له كفاية لم يجز‏.‏

وقال ابن القيّم‏:‏ إن لم يكن محتاجاً ففيه وجهان، لتردّده بين القياس على عامل الزّكاة أو على العامل في مال اليتيم‏.‏

وألحق الخطيب البغداديّ والصّيمريّ بذلك‏:‏ أن يحتاج أهل بلد إلى من يتفرّغ لفتاويهم، ويجعلوا له رزقاً من أموالهم، فيحوز، ولا يصلح ذلك إن كان له رزق من بيت المال، قال الخطيب‏:‏ وعلى الإمام أن يفرض لمن نصب نفسه للفتوى في الأحكام ما يغنيه عن الاحتراف، ويكون ذلك من بيت المال، ثمّ روى بإسناده أنّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أعطى كلّ رجل ممّن هذه صفته مائة دينار في السّنة‏.‏

وأمّا الأجرة، فلا يجوز أخذها من أعيان المستفتين على الأصحّ عند الشّافعيّة، وهو مذهب الحنفيّة والحنابلة، قال الحنابلة‏:‏ لأنّ الفتيا عمل يختصّ فاعله أن يكون من أهل القربة، ولأنّه منصب تبليغ عن اللّه ورسوله، فلا تجوز المعاوضة عليه، كما لو قال له‏:‏ لا أعلّمك الإسلام أو الوضوء أو الصّلاة إلاّ بأجرة، قالوا‏:‏ فهذا حرام قطعاً، وعليه ردّ العوض، ولا يملكه، قالوا‏:‏ ويلزمه الإجابة مجّاناً للّه بلفظه أو خطّه إن طلب المستفتي الجواب كتابةً، لكن لا يلزمه الورق والحبر‏.‏

وأجاز الحنفيّة وبعض الشّافعيّة أخذ المفتي الأجرة على الكتابة، لأنّه كالنّسخ‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ يجوز للمفتي أخذ الأجرة على الفتوى إن لم تتعيّن عليه‏.‏

أخذ المفتي الهديّة

35 - الأصل أنّه يجوز للمفتي أخذ الهديّة من النّاس بخلاف القاضي، والأولى له أن يأخذها ويكافئ عليها، اقتداءً بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم فإنّه‏:‏ «كان يقبل الهديّة ويثيب عليها» وهذا إن كانت بغير سبب الفتيا، لأنّه إنّما يهدى إليه لعلمه، بخلاف القاضي‏.‏

وإن كانت بسبب الفتيا فالأولى عدم القبول، ليكون إفتاؤه خالصاً للّه، وهذا إن كان إفتاؤه لا يختلف بين من يهديه ومن لا يهديه، وإن كان يهديه لتكون سبباً إلى أن يفتيه بما لا يفتي به غيره من الرّخص قال ابن القيّم‏:‏ لا يجوز له قبولها، وقال ابن عابدين‏:‏ إن كانت سبباً ليرخّص له بوجه صحيح فأخذها مكروه كراهةً شديدةً، وإن كان بوجه باطل فهو رجل فاجر، يبدّل أحكام اللّه، ويشتري بها ثمناً قليلاً‏.‏

وفي الشّرح الكبير للمالكيّة‏:‏ يجوز للمفتي قبول الهديّة ممّن لا يرجو منه جاهاً ولا عوناً على خصم‏.‏

الخطأ في الفتيا

36 - إذا أخطأ المفتي، فإن كان خطؤه لعدم أهليّته، أو كان أهلاً لكنّه لم يبذل جهده بل تعجّل، يكون آثماً، لحديث‏:‏ «إنّ اللّه لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العلماء، ولكن يقبضه بقبض العلماء، حتّى إذا لم يبق عالماً اتّخذ النّاس رءوساً جهّالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلّوا وأضلّوا»‏.‏

أمّا إن كان أهلاً واجتهد فأخطأ فلا إثم عليه، بل له أجر اجتهاده، قياساً على ما ورد في خطأ القاضي، وهو قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثمّ أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثمّ أخطأ فله أجر واحد»‏.‏

رجوع المفتي عن فتياه

37 - إذا تبيّن للمفتي أنّه أخطأ في الفتيا وجب عليه الرّجوع عن الخطأ إذا أفتى في واقعة أخرى مماثلة، لكتاب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى رضي الله عنه‏:‏ ولا يمنعنّك قضاء قضيت فيه اليوم، فراجعت فيه رأيك، فهديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحقّ فإنّ الحقّ قديم لا يبطله شيء، ومراجعة الحقّ خير من التّمادي في الباطل‏.‏

ثمّ إن كان المستفتي لم يعمل بالفتيا الأولى لزم المفتي إعلامه برجوعه، لأنّ العامّيّ يعمل بها لأنّها قول المفتي، وإذا رجع عنها فليست قولاً له في تلك الحال‏.‏

وإن كان قد عمل بها قال النّوويّ‏:‏ يلزمه إعلامه حيث يجب النّقض، أي إذا خالف قاطعاً من نصّ أو إجماع، لأنّ ما رجع عنه قد اعتقد بطلانه‏.‏

38 - وإن رجع المفتي عن فتياه، أو تبيّن خطؤه، فليس للمستفتي أن يستند في المستقبل إليها في واقعة أخرى مماثلة‏.‏

وأمّا ما فعله ومضى فله أحوال‏:‏

أ - إن تبيّن أنّ المفتي خالف نصّ كتاب أو سنّة صحيحة لا معارض لها أو خالف الإجماع، أو القياس الجليّ، ينقض ما عمل، فإن كان بيعاً فسخاه، وإن كان نكاحاً وجب عليه فراقها، وإن كان استحلّ بها مالاً وجب عليه إعادته إلى أربابه‏.‏

ب - إن كانت فتياه الأولى عن اجتهاد، ثمّ تغيّر اجتهاده، فلا يلزم المستفتي نقض ما عمل، لأنّ الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد، والفتيا في هذا نظير القضاء، لما ورد أنّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أعطى الإخوة لأمّ الثّلث، وحرم الإخوة الأشقّاء، ثمّ وقعت واقعة أخرى فأراد أن يحكم بمثل ذلك، فقال له بعض الأشقّاء‏:‏ هب أنّ أبانا كان حماراً، أليست أمّنا واحدةً ‏؟‏ فشرك بينهم في الثّلث، فقيل له في نقض الأولى فقال‏:‏ تلك على ما قضينا وهذه على ما نقضي‏.‏

واستثنى بعض الفقهاء من الشّافعيّة وبعض الحنابلة النّكاح، فرأوا أنّه لا بدّ أن يفارقها‏.‏

ضمان ما يتلف بناءً على الخطأ في الفتوى

39 - إن أتلف المستفتي بناءً على الفتيا شيئاً، كأن قتل في شيء ظنّه المفتي ردّةً، أو قطع في سرقة لا قطع فيها، أو جلد بشرب لا يجب فيه الحدّ - كمن شرب مكرهاً - فمات، فقد اختلف الفقهاء في وجوب الضّمان على المفتي على أقوال‏:‏

الأوّل‏:‏ قول المالكيّة، على ما نقله الدّسوقيّ عن الحطّاب‏:‏ أنّ من أتلف بفتواه شيئاً وتبيّن خطؤه فيها، فإن كان مجتهداً فلا ضمان عليه، وإن كان مقلّداً ضمن إن انتصب وتولّى بنفسه فعل ما أفتى فيه، وإلاّ كانت فتواه غروراً قوليّاً لا ضمان فيه، ويزجر‏.‏

فأمّا إن كان جاهلاً لم يتقدّم له اشتغال بالعلم أدّب‏.‏

الثّاني‏:‏ وهو المشهور عند الشّافعيّة عكس هذا، قال النّوويّ‏:‏ عن أبي إسحاق الإسفرايينيّ‏:‏ إنّ المفتي يضمن إن كان أهلاً للفتوى فبان خطؤه وأنّه خالف القاطع، ولا يضمن إن لم يكن أهلاً لأنّ المستفتي قصّر - أي بسؤاله من ليس أهلاً - كذا حكاه ابن الصّلاح وسكت عليه، واستشكله النّوويّ، ومال إلى أنّه ينبغي تخريجه على قولي الغرور في بابي الغصب والنّكاح، أو يقطع بعدم الضّمان إذ لا إلجاء في الفتوى ولا إلزام‏.‏

وذهب ابن حمدان من الحنابلة إلى مثل قول أبي إسحاق‏.‏

الثّالث‏:‏ ذهب الحنابلة إلى إنّه إن كان أهلاً لم يجب عليه الضّمان وإلاّ ضمن، وقاسه ابن القيّم على ما ورد في المتطبّب الجاهل، وهو قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من تطبّب ولم يعلم منه طبّ فهو ضامن»، ولكونه غرّ المستفتي بتصدّره للفتوى وهو ليس لها بأهل‏.‏

الإمام وشئون الفتوى

40 - على الإمام نصب المفتين في المناطق المتباعدة إن ظهرت الحاجة ولم يوجد متبرّعون بالفتيا كما تقدّم، ولا ينصب إلاّ من كان لذلك أهلاً وعليه الكفاية من بيت المال لمن يتفرّغ لذلك‏.‏

وينبغي أن ينظر في أحوال المفتين‏:‏ فيمنع من يتصدّر لذلك وليس بأهل، أو إذا كان ممّن يسيء، قال الحنفيّة‏:‏ يحجر على المفتي الماجن والطّبيب الجاهل والمكاري المفلس، ومرادهم بالماجن‏:‏ من يعلّم الحيل الباطلة، كمن يعلّم الزّوجة أن ترتدّ لتبين من زوجها، أو يعلّم ما تسقط به الزّكاة، وكذا من يفتي عن جهل‏.‏

وقال الخطيب البغداديّ‏:‏ ينبغي للإمام أن يتصفّح أحوال المفتين، فمن صلح للفتيا أقرّه، ومن لا يصلح منعه ونهاه وتواعده بالعقوبة إن عاد، قال‏:‏ وطريق الإمام إلى معرفة من يصلح للفتيا أن يسأل عنه علماء وقته، ويعتمد إخبار الموثوق بهم‏.‏

وقال ابن القيّم‏:‏ من أفتى وليس بأهل فهو آثم عاص، ومن أقرّهم من ولاة الأمور فهو آثم أيضاً، ونقل عن ابن الجوزيّ قوله‏:‏ يلزم وليّ الأمر منعهم، فهو بمنزلة من يدلّ الرّكب ولا يعلم الطّريق، وبمنزلة من يرشد النّاس إلى القبلة وهو أعمى، بل أسوأ حالاً، وإذا تعيّن على وليّ الأمر منع من لم يحسن الطّبّ من مداواة المرضى فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسّنّة ولم يتفقّه في الدّين‏.‏

حكم الاستفتاء

41 - استفتاء العامّيّ الّذي لا يعلم حكم الحادثة واجب عليه، لوجوب العمل حسب حكم الشّرع، ولأنّه إذا أقدم على العمل من غير علم فقد يرتكب الحرام، أو يترك في العبادة ما لا بدّ منه، قال الغزاليّ‏:‏ العامّيّ يجب عليه سؤال العلماء، لأنّ الإجماع منعقد على أنّ العامّيّ مكلّف بالأحكام، وتكليفه طلب رتبة الاجتهاد محال، لأنّه يؤدّي إلى انقطاع الحرث والنّسل، وتعطّل الحرف والصّنائع، وإذا استحال هذا لم يبق إلاّ سؤال العلماء ووجوب اتّباعهم‏.‏

وقال النّوويّ‏:‏ من نزلت به حادثة يجب عليه علم حكمها، أي وجب عليه الاستفتاء عنها، فإن لم يجد ببلده من يستفتيه وجب عليه الرّحيل إلى من يفتيه وإن بعدت داره، وقد رحل خلائق من السّلف في المسألة الواحدة اللّيالي والأيّام‏.‏

من لم يجد من يفتيه في واقعته

42 - إذا لم يجد المكلّف من يفتيه في واقعته يسقط عنه التّكليف بالعمل إذا لم يكن له به علم، لا من اجتهاد معتبر ولا من تقليد، لأنّه يكون من باب التّكليف بما لا يطاق، ولأنّ شرط التّكليف العلم به، وقياساً على المجتهد إذا تعارضت عنده الأدلّة وتكافأت فلم يمكنه التّرجيح، ويكون حكمه حكم ما قبل ورود الشّرع، وكمن لم تبلغه الدّعوة‏.‏

وقال ابن القيّم‏:‏ في المسألة قول آخر، أنّه يخرّج حكمها على الخلاف في مسألة تعارض الأدلّة، وفيها الأقوال‏:‏ أنّه يأخذ بالأشدّ، أو بالأخفّ، أو يتخيّر، ثمّ قال‏:‏ والصّواب أنّ عليه أن يتحرّى الحقّ بجهده ومعرفة مثله ويتّقي اللّه، قال‏:‏ وقد نصب اللّه تعالى على الحقّ أمارات كثيرةً، ولم يسوّ بين ما يحبّه وما يسخطه من كلّ وجه، بحيث لا يتميّز هذا من هذا، والفطر السّليمة تميل إلى الحقّ وتؤثره، فإن قدّر ارتفاع ذلك كلّه يسقط عنه التّكليف في هذه الواقعة وإن كان مكلّفاً بالنّسبة إلى غيرها‏.‏

معرفة المستفتي حال من يستفتيه

43 - يجب على المستفتي إن وقعت له حادثة أن يسأل متّصفاً بالعلم والعدالة‏.‏

قال ابن عابدين نقلاً عن الكمال بن الهمام‏:‏ الاتّفاق على حلّ استفتاء من عرف من أهل العلم بالاجتهاد والعدالة، أو رآه منتصباً والنّاس يستفتونه معظّمين له، وعلى امتناعه من الاستفتاء إن ظنّ عدم أحدهما أي عدم الاجتهاد أو العدالة‏.‏

وقال النّوويّ‏:‏ يسأل المستفتي من عرف علمه وعدالته، فإن لم يعرف العلم بحث عنه بسؤال النّاس، وإن لم يعرف العدالة فقد ذكر الغزاليّ فيه احتمالين، أحدهما‏:‏ أنّ الحكم كذلك، وأشبههما‏:‏ الاكتفاء، لأنّ الغالب من حال العلماء العدالة، بخلاف البحث عن العلم فليس الغالب من النّاس العلم‏.‏

وقال النّوويّ‏:‏ يجب على المستفتي قطعاً البحث الّذي يعرف به أهليّة من يستفتيه للإفتاء إذا لم يكن عارفاً بأهليّته، فلا يجوز له استفتاء من انتسب إلى العلم، وانتصب للتّدريس والإقراء، وغير ذلك من مناصب العلماء بمجرّد انتسابه وانتصابه لذلك، ويجوز استفتاء من استفاض كونه أهلاً للفتوى، وقال بعض أصحابنا المتأخّرين‏:‏ إنّما يعتمد قوله‏:‏ أنا أهل للفتوى، لا شهرته بذلك، ولا يكتفى بالاستفاضة ولا بالتّواتر، والصّحيح هو الأوّل‏.‏

تخيّر المستفتي من يفتيه

44 - إن وجد المستفتي أكثر من عالم، وكلّهم عدل وأهل للفتيا، فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ المستفتي بالخيار بينهم يسأل منهم من يشاء ويعمل بقوله، ولا يجب عليه أن يجتهد في أعيانهم ليعلم أفضلهم علماً فيسأله، بل له أن يسأل الأفضل إن شاء، وإن شاء سأل المفضول مع وجود الفاضل، واحتجّوا لذلك بعموم قول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ‏}‏، وبأنّ الأوّلين كانوا يسألون الصّحابة مع وجود أفاضلهم وأكابرهم وتمكّنهم من سؤالهم‏.‏

وقال القفّال وابن سريج والإسفرايينيّ من الشّافعيّة‏:‏ ليس له إلاّ سؤال الأعلم والأخذ بقوله‏.‏

ما يلزم المستفتي إن اختلفت عليه أجوبة المفتين

45 - إن سأل المستفتي أكثر من مفت، فاتّفقت أجوبتهم، فعليه العمل بذلك إن اطمأنّ إلى فتواهم‏.‏

وإن اختلفوا، فللفقهاء في ذلك طريقان‏:‏

فذهب جمهور الفقهاء - الحنفيّة والمالكيّة وبعض الحنابلة وابن سريج والسّمعانيّ والغزاليّ من الشّافعيّة - إلى أنّ العامّيّ ليس مخيّراً بين أقوالهم يأخذ بما شاء ويترك ما شاء، بل عليه العمل بنوع من التّرجيح، ثمّ ذهب الأكثرون منهم إلى أنّ التّرجيح يكون باعتقاد المستفتي في الّذين أفتوه أيّهم أعلم، فيأخذ بقوله، ويترك قول من عداه‏.‏

قال الغزاليّ‏:‏ التّرجيح بالأعلميّة واجب، لأنّ الخطأ ممكن بالغفلة عن دليل قاطع، وبالحكم قبل تمام الاجتهاد واستفراغ الوسع، والغلط أبعد عن الأعلم لا محالة، كالمريض إذا اختلف عليه طبيبان، فإن خالف أفضلهما عدّ مقصّراً، ويعلم أفضل الطّبيبين أو العالمين بتواتر الأخبار، وبإذعان المفضول له، وبالتّسامع والقرائن دون البحث عن نفس العلم، والعامّيّ أهل لذلك، فلا ينبغي له أن يخالف الأفضل بالتّشهّي‏.‏ ا هـ‏.‏

وقال الشّاطبيّ‏:‏ لا يتخيّر، لأنّ في التّخيير إسقاط التّكليف، ومتى خيّرنا المقلّدين في اتّباع مذاهب العلماء لم يبق لهم مرجع إلاّ اتّباع الشّهوات والهوى في الاختيار، ولأنّ مبنى الشّريعة على قول واحد، هو حكم اللّه في ذلك الأمر‏.‏ ا هـ‏.‏

وقياساً على المفتي‏:‏ فإنّه لا يحلّ له أن يأخذ بأيّ الرّأيين المختلفين دون نظر في التّرجيح إجماعاً كما تقدّم‏.‏

وقال الغزاليّ‏:‏ إن تساوى المفتيان في اعتقاد المستفتي، وعجز عن التّرجيح تخيّر، لأنّ هذا موضع ضرورة، وقال ابن القيّم وصاحب المحصول‏:‏ عليه التّرجيح بالأمارات، فإنّ الحقّ والباطل لا يستويان في الفطر السّليمة‏.‏

وذهب البعض إلى أنّ التّرجيح يكون بالأخذ بالأشدّ احتياطاً، وقال الكعبيّ‏:‏ يأخذ بالأشدّ فيما كان في حقوق العباد، أمّا في حقّ اللّه تعالى فيأخذ بالأيسر‏.‏

والأصحّ والأظهر عند الشّافعيّة وبعض الحنابلة‏:‏ أنّ تخيّر العامّيّ بين الأقوال المختلفة للمفتين جائز، لأنّ فرض العامّيّ التّقليد، وهو حاصل بتقليده لأيّ المفتيين شاء‏.‏

أدب المستفتي مع المفتي

46 - ينبغي للمستفتي حفظ الأدب مع المفتي، وأن يجلّه ويعظّمه لعلمه ولأنّه مرشد له‏.‏ ولا ينبغي أن يسأله عند همّ أو ضجر أو نحو ذلك ممّا يشغل القلب‏.‏

واختلف الفقهاء هل للمستفتي أن يطالب المفتي بالحجّة والدّليل‏:‏

فقال ابن السّمعانيّ‏:‏ له ذلك لأجل احتياطه لنفسه، ويلزم العالم أن يذكر له الدّليل إن كان مقطوعاً به، لإشرافه على العلم بصحّته، ولا يلزمه إن لم يكن مقطوعاً بصحّته، لافتقاره إلى اجتهاد يقصر عنه فهم العامّيّ‏.‏

وقال الشّافعيّة وشارح المنتهى من الحنابلة‏:‏ ينبغي للعامّيّ أن لا يطالب المفتي بالدّليل، قال الخطيب‏:‏ فإن أحبّ أن تسكن نفسه لسماع الحجّة طلبها في مجلس آخر، أو في ذلك المجلس بعد قبول الفتيا مجرّدةً‏.‏

ويكره كثرة السّؤال، والسّؤال عمّا لا ينفع في الدّين، والسّؤال عمّا لم يقع، وأن يسأل عن صعاب المسائل، وعن الحكمة في المسائل التّعبّديّة، ويكره أن يبلغ بالسّؤال حدّ التّعمّق والتّكلّف، وأن يسأل على سبيل التّعنّت والإفحام وطلب الغلبة في الخصام، لما في الحديث‏:‏ «إنّ أبغض الرّجال إلى اللّه الألدّ الخصم»‏.‏

هل يلزم المستفتي العمل بقول المفتي

47 - لا يجب على المستفتي العمل بقول المفتي لمجرّد إفتائه، وهذا هو الأصل، ولكن قد يجب في أحوال، منها‏:‏

أ - أن لا يجد إلاّ مفتياً واحداً، فيلزمه العمل بقوله‏.‏

وكذا إن اتّفق قول من وجده منهم، أو حكم بقول المفتي حاكم‏.‏

ب - أن يفتيه بقول مجمع عليه، لعدم جواز مخالفة الإجماع‏.‏

ج - أن يكون الّذي أفتاه هو الأعلم الأوثق‏.‏

د - إذا استفتى المتنازعان في حقّ فقيهاً، والتزما العمل بفتياه، فيجب عليهما العمل بما أفتاهما‏.‏

فلو ارتفعا إلى قاض بعد ذلك فحكم بينهما بغير ما أفتاهما به الفقيه لزمهما فتيا الفقيه في الباطن، وحكم الحاكم في الظّاهر، قاله السّمعانيّ، وقيل‏:‏ يلزمهما حكم الحاكم في الظّاهر والباطن‏.‏

هـ - إذا استفتى فقيهاً فأفتاه فعمل بفتواه لزمه ذلك، فلو استفتى آخر فأفتاه بغير فتوى الأوّل لم يجز الرّجوع إليه في ذلك الحكم، نقل الإجماع على ذلك الهنديّ وابن الحاجب‏.‏

حكم المستفتي إن لم يطمئنّ قلبه إلى الفتيا

48 - قال ابن القيّم‏:‏ المستفتي لا تخلّصه فتوى المفتي من اللّه إذا كان يعلم أنّ الأمر في الباطن بخلاف ما أفتاه، كما لا ينفعه قضاء القاضي بذلك، لحديث‏:‏ «من قضيت له بحقّ أخيه شيئاً بقوله، فإنّما أقطع له قطعةً من النّار فلا يأخذها»، والمفتي والقاضي في هذا سواء، ولا يظنّ المستفتي أنّ مجرّد فتوى الفقيه تبيح له ما سأل عنه، سواء تردّد أو حاك في صدره، لعلمه بالحال في الباطن، أو لشكّه فيه، أو لجهله به، أو لعلمه بجهل المفتي، أو بمحاباته له في فتواه، أو لأنّه معروف بالفتوى بالحيل والرّخص المخالفة للسّنّة، أو غير ذلك من الأسباب المانعة من الثّقة بفتواه وسكون النّفس إليها، فإن كان عدم الثّقة والطّمأنينة لأجل المفتي يسأل ثانياً وثالثاً حتّى تحصل له الطّمأنينة، فإن لم يجد فلا يكلّف اللّه نفساً إلاّ وسعها، والواجب تقوى اللّه بحسب الاستطاعة‏.‏ ا هـ‏.‏

فُتُوَّة

التّعريف

1 - من معاني الفتوّة في اللّغة‏:‏ الحرّيّة والكرم، قال الجوهريّ‏:‏ الفتيّ السّخيّ الكريم، يقال هو فتىً بيّن الفتوّة‏.‏

وجاء في المعجم الوسيط‏:‏ الفتوّة‏:‏ الشّباب بين طوري المراهقة والرّجولة والنّجدة، ومسلك أو نظام ينمّي خلق الشّجاعة والنّجدة في الفتى‏.‏

وفي الاصطلاح عرّفها ابن قيّم الجوزيّة بأنّها استعمال الأخلاق الكريمة مع الخَلْق‏.‏

وقيل‏:‏ الفتوّة اجتناب المحارم واستعجال المكارم، قال القرطبيّ‏:‏ وهذا القول حسن جدّاً، لأنّه يعمّ بالمعنى جميع ما قيل في الفتوّة‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - المروءة‏:‏

2 - المروءة هي‏:‏ استعمال ما يجمّل العبد ويزيّنه وترك ما يدنّسه ويشينه‏.‏

قال ابن القيّم‏:‏ والفرق بين الفتوّة والمروءة أنّ المروءة أعمّ منها‏.‏

فالفتوّة نوع من أنواع المروءة‏.‏

ب - الشّجاعة‏:‏

3 - حقيقة الشّجاعة‏:‏ ثبات الجأش وذهاب الرّعب وزوال هيبة الخصم أو استصغاره عند لقائه، ولا بدّ أن يتقدّم هذا رأي ثاقب، ونظر صائب، وحيلة في التّدبير، وخداع في الممارسة، فقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الحرب خدعة»‏.‏

والفتوّة مسلك يؤدّي إلى الشّجاعة‏.‏

الحكم الإجماليّ

4 - الفُتُوّة - كما قال ابن القيّم - استعمال الأخلاق الكريمة مع الخَلْق، والخُلُق الحسن صفة المرسلين، وأفضل أعمال الصّدّيقين وهو على التّحقيق شطر الدّين، وثمرة مجاهدة المتّقين، ورياضة المتعبّدين، فقد قال اللّه تعالى لنبيّه وحبيبه مثنياً عليه ومظهراً نعمته لديه‏:‏ ‏{‏ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ‏}‏‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنّما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق»‏.‏

وقد أتمّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم مكارم الأخلاق وحثّ على الرّسوخ فيها‏.‏

وقال‏:‏ «اتّق اللّه حيثما كنت وأتبع السّيّئة الحسنة تمحها وخالق النّاس بخلق حسن»‏.‏

درجات الفُتُوّة

5 - من درجات الفُتُوّة‏:‏ ترك الخصومة، والتّغافل عن الزّلّة ونسيان الأذيّة‏.‏

أمّا ترك الخصومة فهو‏:‏ ألا يخاصم بلسانه، ولا ينوي الخصومة بقلبه، ولا يخطرها على باله، هذا في حقّ نفسه، وأمّا في حقّ ربّه‏:‏ فالفُتُوّة أن يخاصم باللّه وفي اللّه، ويحاكم إلى اللّه، وأمّا التّغافل عن الزّلّة فهو أنّه إذا رأى من أحد زلّةً أظهر أنّه لم يرها، لئلاّ يعرّض صاحبها للوحشة، ويريحه من تحمّل العذر‏.‏

وأمّا نسيان الأذيّة فهو بأن تنسى أذيّة من نالك بأذًى ليصفو قلبك له ولا تستوحش منه‏.‏ قال ابن قيّم الجوزيّة‏:‏ وهنا نسيان آخر أيضاً وهو من الفُتُوّة، وهو نسيان إحسانك إلى من أحسنت إليه حتّى كأنّه لم يصدر منك، وهذا النّسيان أكمل من الأوّل‏.‏

ومن درجاتها كذلك‏:‏ أن تقرّب من يقصيك، وتكرم من يؤذيك، وتعتذر إلى من يجني عليك، سماحةً لا كظماً، ومودّةً لا مصابرةً‏.‏

وهذه الدّرجة أعلى ممّا قبلها وأصعب، فإنّ الأولى تتضمّن ترك المقابلة والتّغافل، وهذه تتضمّن الإحسان إلى من أساء إليك، ومعاملته بضدّ ما عاملك به، فيكون الإحسان والإساءة بينك وبينه خطّتين‏:‏ فخطّتك الإحسان، وخطّته الإساءة‏.‏

ومعنى الاعتذار إلى من يجني عليك أنّك تنزّل نفسك منزلة الجاني لا المجنيّ عليه والجاني خليق بالعذر‏.‏

وللتّفصيل ‏(‏ر‏:‏ مروءة‏)‏‏.‏

فُتْيا

انظر‏:‏ فتوى‏.‏

فجر

انظر‏:‏ الصّلوات الخمس المفروضة‏.‏

فجور

انظر‏:‏ فسق‏.‏