فصل: جزاف

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


جدع

التّعريف‏:‏

1 - الجدع في اللّغة القطع، وقيل هو القطع البائن في الأذن، أو الأنف، أو اليد، أو الشّفة، أو نحوها، يقال‏:‏ جدعه يجدعه فهو مجدوع، ويقال أيضا جدع الرّجل أي قطع أنفه، فهو أجدع بيّن الجدع، وهي جدعاء وقيل‏:‏ لا يقال‏:‏ جدع ‏"‏ بالبناء للفاعل ‏"‏، ولكن جدع ‏"‏ بالبناء للمفعول ‏"‏‏.‏ «وكانت ناقة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم تلقّب ‏"‏ الجدعاء ‏"‏ وليس بها من جدع»‏.‏ ولا يخرج استعمال الفقهاء لكلمة الجدع عن هذا المعنى‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - المثلة‏:‏

2 - المثلة بضمّ الميم اسم مصدر، يقال‏:‏ مثل به مثلا ومثلة ومثّل به تمثيلا وذلك بأن يقطع بعض أعضائه، أو يسوّد وجهه‏.‏

ومثلة الشّعر‏:‏ حلقه من الخدود، وقيل نتفه أو تغييره بالسّواد، وفي الحديث‏:‏ «من مثل بالشّعر فليس له عند اللّه خلاق يوم القيامة»‏.‏ فالمثلة أعمّ من الجدع في المعنى‏.‏

الحكم الإجماليّ ومواطن البحث

3 - ذهب الفقهاء إلى أنّ الجدعاء لا تجزئ في الأضحيّة‏.‏

وفي الجنايات اتّفق الفقهاء على أنّ قطع الأنف، والأذن، واليد، والشّفة، إن كان عمدا ففيه القصاص، وإن كان خطأ ففيه الدّية‏.‏ وهي تختلف‏:‏ ففي اليدين والأذنين، والشّفتين دية كاملة، وفي الواحد منها نصف الدّية، وفي الأنف دية كاملة‏.‏

وينظر تفصيل ذلك كلّه في مصطلحات‏:‏ ‏(‏أضحيّة، وقصاص، ودية، ومثلة‏)‏‏.‏

التّمثيل بالأسرى والمحاربين

4 - ذهب جمهور الفقهاء إلى تحريم التّمثيل بالأسرى، بل يكتفى بقتله المعتاد بضربه بالسّيف، أو طعنه بخنجر، أو قذيفة أو نحو ذلك، ولا يزاد على ذلك بقطع بعض أطرافه وجدع أنفه وما أشبه ذلك، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن النّهبى والمثلة، وقال‏:‏ «إنّ اللّه كتب الإحسان على كلّ شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذّبح»‏.‏ ولأنّ ذلك تعذيب من غير فائدة‏.‏ وقال الزّمخشريّ‏:‏ ولا خلاف في تحريم المثلة‏.‏

وأمّا المثلة المرويّة في حديث العرنيّين فهي منسوخة فضلاً عن أنّها كانت قصاصاً ومعاملة بالمثل‏.‏ وهذا بعد الظّفر والنّصر، وأمّا قبله أي في أثناء المعركة فلا بأس بقطع الأطراف أو الأعضاء، إذا وقع قتالا كمبارز ضربه فقطع أذنه، ثمّ ضربه ففقأ عينه، ثمّ ضربه فقطع يده وأنفه، ونحو ذلك‏.‏ قال اللّه تعالى ‏{‏فَاضْرِبُوا فَوقَ الأعْنَاقِ واضْرِبُوا منهم كُلَّ بَنَانٍ‏}‏‏.‏ وذهب الحنابلة إلى جواز المثلة لمصلحة على سبيل المعاملة بالمثل أو لكبت العدوّ‏.‏

جدعاء

انظر‏:‏ جدع‏.‏

جدك

انظر‏:‏ كدك‏.‏

جدل

التّعريف

1 - الجدل لغة‏:‏ مقابلة الحجّة بالحجّة، والمجادلة‏:‏ المناظرة والمخاصمة‏.‏

ولا يخرج الجدل اصطلاحاً عن المعنى اللّغويّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

المناظرة‏:‏

2 - المناظرة هي ترداد الكلام بين شخصين يقصد كلّ واحد منهما تصحيح قوله وإبطال قول صاحبه مع رغبة كلّ منهما في ظهور الحقّ‏.‏

المناقشة‏:‏

3 - المناقشة هي مراجعة الكلام بقصد الوصول إلى الحقّ غالباً‏.‏

وكلّها ألفاظ متقاربة إلاّ أنّ المناقشة أخصّ غالباً‏.‏

المراء‏:‏

4 - المراء والمماراة‏:‏ الجدال، وهو مصدر مارى يماري، أي جادل، ويقال أيضاً ماريته إذا طعنت في قوله تزييفاً للقول، وتصغيراً للقائل قال الفيّوميّ‏:‏ ولا يكون المراء إلاّ اعتراضاً بخلاف الجدال فإنّه يكون ابتداء واعتراضاً‏.‏

الحكم التّكليفيّ للجدل

الجدل قسمان‏:‏ ممدوح ومذموم‏.‏

أ - الجدل الممدوح‏:‏

5 - يكون الجدل ممدوحاً شرعاً إذا قصد به تأييد الحقّ، أو إبطال الباطل، أو أفضى إلى ذلك بطريق صحيح‏.‏ وقد يكون فرض عين إذا تعيّن على شخص ما الدّفاع عن الحقّ‏.‏

وقد يكون فرض كفاية بأن يكون في الأمّة من يدافع عن الحقّ بالأسلوب السّليم، والأصل في ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الخَيرِ ويَأمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَونَ عن المُنْكَرِ‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ادعُ إلى سَبيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ والمَوعِظَةِ الحَسَنةِ وجَادِلهمْ بالَّتي هي أحْسَنُ‏}‏‏.‏ والمجادلة بالسحقّ من سنن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع الأمم عند الدّعوة، لأنّه لو قابلهم الأنبياء بغلظة لنفرت طباعهم وانصرفت عقولهم عن التّدبّر لما قالوا، والتّدبّر لما جاءوا به من البيّنات، فلم تتّضح لهم المحجّة ولم يقم عليهم الحجّة‏.‏

ب - الجدل المذموم‏:‏

6 - الجدل المذموم هو كلّ جدل بالباطل، أو يستهدف الباطل، أو يفضي إليه، أو كان القصد منه التّعالي على الخصم والغلبة عليه، فهذا ممنوع شرعاً، ويتأكّد تحريمه إذا قلب الباطل حقّاً، أو الحقّ باطلاً‏.‏

وقد يكون الجدل مكروها إذا كان القصد منه مجرّد الظّهور والغلبة في الخصومة‏.‏

وعلى ذلك فالنّصوص الشّرعيّة الآمرة بالجدل محمولة على النّوع الأوّل كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجَادِلهمْ بالَّتي هي أَحْسَنُ‏}‏‏.‏ وأمّا النّصوص الشّرعيّة الّتي ذمّت الجدل فمحمولة على النّوع الثّاني كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيُجَادِلُ الَّذينَ كَفَرُوا بالبَاطِلِ لِيدحِضُوا به الحَقَّ‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما يُجَادِلُ في آيَاتِ اللَّهِ إلاّ الَّذينَ كَفَرُوا فلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهم في البلادِ‏}‏‏.‏

فلا تعارض بين النّصوص الواردة في النّهي عن الجدل، والنّصوص الواردة في الأمر به، لأنّنا نعلم يقينا أنّ الجدل الّذي أمر اللّه به غير الجدل الّذي نهى اللّه عنه، فتحمل نصوص النّهي على الجدال بالباطل ونصوص الأمر به على الجدال بالحقّ‏.‏

أهمّيّة الجدال بالحقّ

7 - الجدال بالحقّ لإقامة الحجّة على أهل الإلحاد والبدع من الجهاد في سبيل اللّه كما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم» وإنّما يكون الجهاد باللّسان بتبيان الحقّ بالحجّة والبرهان لا بالشّغب والهذيان والسّبّ والشّتم، والقرآن أبلغ في حججه وبراهينه، ولهذا أمر الرّسول صلى الله عليه وسلم أن يجاهد الكفّار بالقرآن، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وجَاهِدْهُمْ به جِهَادَاً كَبيرَاً‏}‏‏.‏

والجدال بالحقّ من النّصيحة في الدّين، وفي قصّة نوح عليه السلام قولهم له‏:‏ ‏{‏يا نُوحُ قد جَادلتنا فَأكثرتَ جِدَالنا‏}‏ فكان جوابه لهم قوله‏:‏ ‏{‏ولا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إنْ أَرَدتُ أنْ أَنْصَحَ لكم إنْ كَانَ اللَّهُ يُريدُ أنْ يُغْويَكمْ‏}‏‏.‏

وقال ابن القيّم في قصّة وفد نصارى نجران وما اشتملت عليه من فوائد ما نصّه‏:‏

ومنها‏:‏ جواز مجادلة أهل الكتاب ومناظرتهم، بل استحباب ذلك، بل وجوبه إذا ظهرت مصلحته من إسلام من يرجى إسلامه منهم وإقامة الحجّة عليهم، ولا يهرب من مجادلتهم إلاّ عاجز عن إقامة الحجّة، فليؤدّ ذلك إلى أهله ‏"‏ أي القادرين عليه ‏"‏‏.‏

وقال الشّوكانيّ عند تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما يُجَادِلُ في آياتِ اللَّهِ إلاّ الَّذينَ كَفَرُوا‏}‏، أي ما يخاصم في دفع آيات اللّه وتكذيبها إلاّ الّذين كفروا، والمراد‏:‏ الجدال بالباطل، والقصد إلى دحض الحقّ، فأمّا الجدال لاستيضاح الحقّ، ورفع اللّبس، وتمييز الرّاجح من المرجوح، ودفع ما يتعلّق به المبطلون، فهو من أعظم ما يتقرّب به المتقرّبون، وبذلك أخذ اللّه الميثاق على الّذين أوتوا الكتاب فقال‏:‏ ‏{‏وإذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذينَ أُوتُوا الكتَابَ لَتُبَيِّنُنَّه للنَّاسِ ولا تَكْتُمُونَهُ‏}‏‏.‏

جذام

التّعريف

1 - الجذام‏:‏ علّة تتآكل منها الأعضاء وتتساقط‏.‏ ولا يخرج الاستعمال الفقهيّ عن هذا المعنى ونقل ابن عابدين عن القهستانيّ أنّه داء يتشقّق به الجلد وينتن ويقطع اللّحم‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

البرص‏:‏

2 - البرص‏:‏ بياض في ظاهر الجلد لعلّة، يبقّع الجلد‏.‏

البهق‏:‏

3 - البهق‏:‏ في اللّغة بياض دون البرص يعتري الجسد بخلاف لونه‏.‏

واصطلاحاً تغيّر في لون الجلد، والشّعر النّابت عليه أسود، بخلاف النّابت على البرص فإنّه أبيض‏.‏ فالجذام والبرص والبهاق علل في الجلد‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالجذام

التّفريق بين الزّوجين بسبب الجذام

4 - يرى المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ثبوت خيار الفسخ لكلّ واحد من الزّوجين إذا وجد بصاحبه الجذام، لأنّه يثير نفرة في النّفس تمنع قربانه ويخشى تعدّيه إلى النّفس والنّسل فيمنع الاستمتاع‏.‏

ويشترط المالكيّة لثبوت الخيار للزّوجين بعيب الجذام كونه محقّقا ولو قلّ، أمّا الجذام المشكوك فيه فلا يثبت به الخيار عندهم‏.‏

وحكى إمام الحرمين - من الشّافعيّة - عن شيخه أنّ أوائل الجذام لا تثبت الخيار، وإنّما يثبت إذا استحكم، وأنّ استحكام الجذام إنّما يحصل بالتّقطّع‏.‏ وتردّد إمام الحرمين في هذا وقال‏:‏ يجوز أن يكتفى باسوداد العضو، وحكم أهل المعرفة باستحكام العلّة‏.‏

وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى أنّه ليس لواحد من الزّوجين خيار فسخ النّكاح بجذام الآخر، وبهذا قال عطاء والنّخعيّ وعمر بن عبد العزيز وأبو زياد وأبو قلابة وابن أبي ليلى والأوزاعيّ والثّوريّ والخطّابيّ‏.‏

وفي المبسوط أنّه مذهب عليّ وابن مسعود رضي الله عنهما‏.‏

وقال محمّد بن الحسن‏:‏ لا خيار للزّوج بعيب الجذام في المرأة، ولها هي الخيار بعيب الجذام في الزّوج دفعا للضّرر عنها، كما في الجبّ والعنّة، بخلاف جانب الزّوج لأنّه متمكّن من دفع الضّرر بالطّلاق‏.‏ وللتّفصيل‏:‏ ‏(‏ر‏:‏ طلاق، عيب، فسخ، نكاح‏)‏‏.‏

اختلاط المجذوم بالنّاس

5 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى منع مجذوم يتأذّى به من مخالطة الأصحّاء والاجتماع بالنّاس لحديث «فرّ من المجذوم فرارك من الأسد»‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ لا يحلّ لمجذوم مخالطة صحيح إلاّ بإذنه‏.‏ فإذا أذن الصّحيح لمجذوم بمخالطته جاز له ذلك‏.‏ لحديث «لا عدوى ولا طيرة»‏.‏ ولم نر للحنفيّة نصّا في المسألة‏.‏ وإذا كثر عدد الجذمى فقال الأكثرون‏:‏ يؤمرون أن ينفردوا في مواضع عن النّاس‏:‏ ولا يمنعون من التّصرّف في حوائجهم‏.‏ وقيل‏:‏ لا يلزم الانفراد‏.‏

ولو استضرّ أهل قرية فيهم جذمى بمخالطتهم في الماء فإن قدروا على استنباط ماء بلا ضرر أمروا به وإلاّ استنبطه لهم الآخرون، أو أقاموا من يستقي لهم وإلاّ فلا يمنعون‏.‏

وقد اختلفت الآثار عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في مخالطة المجذوم الأصحّاء، فجاء في صحيح البخاريّ «فرّ من المجذوم كما تفرّ من الأسد»‏.‏

وأخرج مسلم من حديث عمرو بن الشّريد الثّقفيّ عن أبيه قال‏:‏ «كان في وفد ثقيف رجل مجذوم فأرسل إليه النّبيّ صلى الله عليه وسلم إنّا قد بايعناك فارجع»‏.‏

وروى أبو نعيم من حديث ابن أبي أوفى أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «كلّم المجذوم وبينك وبينه قيد رمح أو رمحين»‏.‏

وروى أبو داود عن جابر «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أخذ بيد مجذوم فأدخله معه في القصعة ثمّ قال‏:‏ كل باسم اللّه ثقة باللّه وتوكّلاً على اللّه»‏.‏

6- وقد أجاب العلماء عن الاختلاف في تلك الآثار بطرق منها‏:‏

التّرجيح، وقد سلكه فريقان‏:‏ أحدهما‏:‏ سلك ترجيح الأخبار الدّالّة على نفي العدوى وتضعيف الأخبار الدّالّة على عكس ذلك‏.‏

والفريق الثّاني‏:‏ سلكوا في التّرجيح عكس هذا المسلك، وقالوا‏:‏ إنّ الأخبار الدّالّة على الاجتناب أكثر مخارج وأكثر طرقا فالمصير إليها أولى‏.‏

وقال ابن حجر‏:‏ إنّ طريق التّرجيح لا يصار إليها إلاّ مع تعذّر الجمع‏.‏وهو ممكن فهو أولى‏.‏

7- وفي طريق الجمع مسالك أهمّها‏:‏

1 - نفي العدوى جملة وحمل الأمر بالفرار من المجذوم على رعاية خاطر المجذوم ‏;‏ لأنّه إذا رأى الصّحيح البدن السّليم من الآفة، تعظم مصيبته وتزداد حسرته‏.‏

2 - إثبات العدوى في الجذام ونحوه مخصوص من عموم نفي العدوى، فيكون معنى قوله‏:‏ «لا عدوى» أي إلاّ من الجذام مثلاً‏.‏

بهذا قال القاضي أبو بكر الباقلانيّ وقد حكى ذلك ابن بطّال أيضاً‏.‏

3 - إنّ الأمر بالفرار من المجذوم ليس من باب العدوى في شيء، بل هو لأمر طبيعيّ وهو انتقال الدّاء من جسد لجسد بواسطة الملامسة والمخالطة وشمّ الرّائحة، ولذلك يقع في كثير من الأمراض في العادة انتقال الدّاء من المريض إلى الصّحيح بكثرة المخالطة‏.‏

4 - إنّ المراد بنفي العدوى أنّ شيئا لا يعدي بطبعه، نفياً لما كانت الجاهليّة تعتقده أنّ الأمراض تعدي بطبعها من غير إضافة إلى اللّه تعالى، فأبطل النّبيّ صلى الله عليه وسلم اعتقادهم ذلك، وأكل مع المجذوم ليبيّن لهم أنّ اللّه هو الّذي يمرض ويشفي، ونهاهم عن الدّنوّ منه ليبيّن لهم أنّ هذا من الأسباب الّتي أجرى اللّه العادة بأنّها تفضي إلى مسبّباتها، ففي نهيه إثبات الأسباب، وفي فعله إشارة إلى أنّها لا تستقلّ، بل اللّه هو الّذي إن شاء سلبها قواها فلا تؤثّر شيئاً، وإن شاء أبقاها فأثّرت‏.‏ وعلى هذا جرى أكثر الشّافعيّة‏.‏ ويحتمل أيضاً أن يكون أكله مع المجذوم أنّه كان به أمر يسير لا يعدي مثله في العادة، إذ ليس الجذمى كلّهم سواء ولا تحصل العدوى من جميعهم‏.‏

5- العمل بنفي العدوى أصلا ورأسا وحمل الأمر بالمجانبة على حسم المادّة، وسدّ الذّريعة لئلاّ يحدث للمخالط شيء من ذلك فيظنّ أنّه بسبب المخالطة فيثبت العدوى الّتي نفاها الشّارع

إمامة المجذوم

8 - ذهب الحنفيّة إلى كراهة الصّلاة خلف المجذوم‏.‏

وأجاز المالكيّة إمامة من قام به داء الجذام، إلاّ أن يشتدّ جذامه بحيث يضرّ بالنّاس فينحّى وجوباً عن الإمامة وكذا عن الجماعة، فإن أبى أجبر على التّنحّي‏.‏

هذا ولم نجد في المسألة نصّا صريحا عند الشّافعيّة والحنابلة إلاّ أنّهم يقولون بمنع مجذوم يتأذّى به من حضور مسجد وجماعة‏.‏

مصافحة المجذوم

9 - تكره مصافحة وتقبيل ومعانقة من به داء الجذام‏.‏ بهذا قال الشّافعيّة‏.‏

جذع

التّعريف‏:‏

1 - الجذع بفتحتين‏:‏ هو من بهيمة الأنعام ما قبل الثّنيّ‏.‏ قال في القاموس‏:‏ الجذع اسم له في زمن وليس بسنّ تنبت أو تسقط، والجمع جذعان وجذاع، والأنثى جذعة، والجمع جذعات‏.‏ وأجذع ولد الشّاة أي صار في السّنة الثّانية، وأجذع ولد البقرة وذي الحافر صار في السّنة الثّالثة، وأجذع ولد النّاقة أي صار في السّنة الخامسة‏.‏

والجذعمة‏:‏ بمعنى الصّغير، ومنه قول عليّ رضي الله عنه‏:‏ ‏"‏ أسلم واللّه أبو بكر وأنا جذعمة ‏"‏ وأصله جذعة، والميم زائدة‏.‏

وأمّا في الشّرع فاختلفت أقوال الفقهاء في الجذع على النّحو التّالي‏:‏

أ - الجذع من الإبل‏:‏

2 - الجذع من الإبل عند الحنفيّة والشّافعيّة، والحنابلة هو ما أكمل أربع سنين، ودخل في الخامسة، وعند المالكيّة هو ما كان ابن خمس سنين وطعن في السّادسة‏.‏

ب - الجذع من البقر‏:‏

3 - يرى الحنفيّة، والشّافعيّة في المشهور من المذهب وهو قول عند المالكيّة والحنابلة‏:‏ أنّ الجذع من البقر هو ما استكمل سنة وطعن في الثّانية‏.‏

وفي قول للمالكيّة‏:‏ الجذع ما كان له سنتان‏.‏

وللشّافعيّة قول آخر‏:‏ وهو أنّ الجذع من البقر ما له ستّة أشهر‏.‏

ج - الجذع من الضّأن والمعز‏:‏

4 - اختلفت أقوال الفقهاء في المراد بالجذع من الضّأن، فصاحب الهداية من الحنفيّة فسّره بأنّ الجذع من الضّأن ما له ستّة أشهر، وفي شرح المنتقى وهو قول أكثر الحنفيّة‏:‏ الجذع ما أتى عليه أكثر الحول، ثمّ اختلفوا في تفسير الأكثر‏:‏

ففي المحيط‏:‏ ما دخل في الشّهر الثّامن‏.‏ وفي الخزانة‏:‏ ما أتى عليه ستّة أشهر وشيء‏.‏ وذكر الزّعفرانيّ‏:‏ أنّه ابن سبعة أشهر، وروي عنه ثمانية، أو تسعة، وما دونه حمل‏.‏ وعند المالكيّة أنّ الجذع من الضّأن والمعز هو ابن ستّة أشهر، وقيل ثمانية، وقيل عشرة‏.‏ والأصحّ عند الشّافعيّة وهو وجه للمالكيّة أنّ الجذع ما دخل في السّنة الثّانية‏.‏

وعند الشّافعيّة وجهان آخران‏:‏ الوجه الأوّل‏:‏ الجذعة ما لها ستّة أشهر‏.‏

والوجه الثّاني‏:‏ إذا بلغ الضّأن ستّة أشهر وهو من شابّين فهو جذع، وإن كان من هرمين فلا يسمّى جذعاً حتّى يبلغ ثمانية أشهر‏.‏

ويرى الحنابلة أنّ الجذع من الضّأن ما له ستّة أشهر، ودخل في السّابعة، وقال وكيع‏:‏ الجذع من الضّأن يكون ابن سبعة أو ستّة أشهر‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الثّنيّ‏:‏

5 - الثّنيّ في اللّغة الّذي يلقي ثنيّته ويكون ذلك في الظّلف ‏(‏الغنم والبقر‏)‏ والحافر ‏(‏الخيل والبغال والحمير‏)‏ في السّنة الثّالثة، وفي الخفّ ‏(‏الإبل‏)‏ في السّنة السّادسة‏.‏

وأمّا في الاصطلاح فاختلف الفقهاء في المراد به تبعا لاختلاف أنواع الأنعام‏.‏

وتفصيله في مصطلح‏:‏ ‏(‏ثنيّ‏)‏‏.‏

الحكم الإجماليّ ومواطن البحث

6 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه لا يجزئ في الأضحيّة والهدي إلاّ الجذع من الضّأن والثّنيّ من غيره، وإليه ذهب اللّيث وأبو عبيد، وأبو ثور وإسحاق‏.‏

وقال ابن عمر والزّهريّ‏:‏ لا يجزئ الجذع من الضّأن، لأنّه لا يجزئ من غير الضّأن، فلا يجزئ منه كالحمل‏.‏ وقال عطاء والأوزاعيّ‏:‏ يجزئ الجذع من جميع الأجناس إلاّ المعز‏.‏ وفي وجه عند الشّافعيّة يجزئ الجذع من المعز وهو شاذّ‏.‏

7- وأمّا في الزّكاة فاتّفقوا على أنّه يؤخذ من الإبل الجذعة في إحدى وستّين إلى خمس وسبعين، ومن البقر الجذع أو الجذعة في ثلاثين إلى تسع وثلاثين‏.‏

واختلفوا في الغنم‏.‏ فيرى الشّافعيّة والحنابلة، وهو رواية عن أبي حنيفة أنّه يجزئ الجذع من الضّأن ولا يجزئ من المعز إلاّ الثّنيّ‏.‏

وذهب الحنفيّة في الصّحيح إلى أنّه لا يجزئ الجذع في زكاة الشّياه‏.‏

وعند المالكيّة يجزئ، سواء أكان من الضّأن أم من المعز‏.‏

وتفصيل ذلك في أبواب‏:‏ ‏(‏الزّكاة، والأضحيّة، والهدي‏)‏‏.‏

جراح

التّعريف

1 - الجراح لغة، جمع جرح وهو من الجَرح - بفتح الجيم - وفعله من باب نفع‏.‏ يقال‏:‏ جرحه يجرحه جرحا إذا أثّر فيه بالسّلاح‏.‏ والجُرح - بضمّ الجيم - الاسم، والجمع جروح، وجراح، وجاء جمعه على أجراح، والجراحة اسم الضّربة أو الطّعنة‏.‏ ويقال امرأة جريح ورجل جريح، والاستجراح‏:‏ النّقصان والعيب والفساد‏.‏ يقال استجرحت الأحاديث أي فسدت وجرّح رواتها، ويقال جرحه بلسان جرحا عابه وتنقّصه، ومنه جرح الشّاهد إذا طعن فيه وردّ قوله وأظهر فيه ما تردّ به شهادته‏.‏

ولا يخرج استعمال الفقهاء للجراح عن معناها اللّغويّ‏.‏

ويطلق بعض الفقهاء لفظ الجراح على أبواب الجنايات تغليباً لأنّها أكثر طرق الزّهوق، واستعمل بعضهم لفظ ‏"‏ الجنايات ‏"‏ لأنّها أعمّ من الجراح، فهي تشمل القتل بالسّمّ، أو بالمثقّل، أو بالخنق أو بغير ذلك من مسائل القتل غير الجراح‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الشّجاج‏:‏

2 - الشّجاج جمع شجّة، وهي الجرح يكون في الوجه والرّأس في الأصل، ولا يكون في غيرهما من الجسم، ثمّ استعمل في غيرها من الأعضاء‏.‏

واصطلاحاً‏:‏ يستعمل بعض الفقهاء لفظ ‏"‏ الشّجاج ‏"‏ في جراح الوجه والرّأس، وأطلق لفظ ‏"‏ جراح ‏"‏ على ما كان في غير الوجه والرّأس‏.‏

ومنهم من استعمل الشّجاج والجراح استعمالا واحدا، في الجراح في جميع الجسم‏.‏

ومن فرّق في استعمال اللّفظ اعتمد على اللّغة لما ثبت من مغايرة العرب في الاستعمال بينهما، كما اعتمد على المعنى، فإنّ الأثر المترتّب على شجاج الوجه والرّأس يختلف عن أثر الجراح في سائر البدن‏.‏ وذلك لبقاء أثر الشّجاج غالبا فيلحق المشجوج الشّين بخلاف سائر البدن، لأنّ الشّين لا يلحق غالباً إلاّ فيما يظهر كالوجه والرّأس، أمّا سائر البدن فالغالب فيه أن يغطّى فلا يظهر فيه الشّين‏.‏ وقال ابن عرفة - من المالكيّة - في بيان متعلّق الجناية في غير النّفس‏:‏ ‏"‏ إن أفاتت بعض الجسم فقطع، وإلاّ فإن أزالت اتّصال عظم لم يبن فكسر، وإلاّ فإن أثّرت في الجسم فجرح، وإلاّ فإتلاف منفعة ‏"‏‏.‏

ب - الفصد‏:‏

3 - الفصد شقّ العرق وقطعه، يقال فصده يفصده فصداً وفصاداً فهو مفصود وفصيد‏.‏ وفصد النّاقة عند العرب في الجاهليّة شقّ عرقها ليستخرج دم العرق فيشربه، وسمّي ‏"‏ الفصيد ‏"‏ والفصد أخصّ من الجراح، لأنّ الفصد يكون في العرق فقط، أمّا الجراح فتكون في العرق وغيره‏.‏

الحكم التّكليفيّ

4 - يحرم إحداث جرح في معصوم الدّم أو ماله، وصيد الحرم وصيد البرّ عموما بالنّسبة للمحرم بغير حقّ كالدّفاع عن النّفس ويترتّب على الجراح أحكام تختلف باختلاف مواضعها‏.‏

تطهّر الجرح

5 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّ الواجب في حقّ الجريح الّذي يتضرّر من غسل جراحته، أن يمسح على عين الجراحة إذا كان المسح عليها لا يضرّه، وإلاّ وجب عليه أن يمسح على الجبيرة‏.‏

وخوف الضّرر المجيز للمسح هو الخوف المجيز للتّيمّم‏.‏ على تفصيل ينظر في‏:‏ ‏(‏جبيرة‏)‏‏.‏

وفي الطّهارة من الجنابة عند الحنفيّة لو كان أكثر البدن أو نصفه جريحا فالواجب في حقّه التّيمّم، والكثرة تعتبر بعدد الأعضاء، وإن كان أكثره صحيحاً غسل الصّحيح ومسح الجريح، وإن ضرّه المسح تركه‏.‏

ولا يجمع بين الغسل والتّيمّم إذ لا نظير له في الشّرع لأنّه جمع بين البدل والمبدل‏.‏

وفصّل المالكيّة في حال الجرح، فله عندهم حالتان‏:‏

الأولى‏:‏ أن لا يتضرّر من غسل الجزء الصّحيح المحيط بالجرح، فالواجب في حقّه مسح الجرح وجوبا إذا خاف الهلاك أو شدّة الضّرر، وجوازا إن خاف شدّة الألم‏.‏

والثّانية‏:‏ أن يتضرّر من غسل الصّحيح المحيط بالجرح، ففرضه التّيمّم سواء أكان الصّحيح هو الأكثر أو الأقلّ‏.‏ كما لو عمّت الجراحة جميع جسده وتعذّر الغسل ففرضه التّيمّم‏.‏

وإن تكلّف الجريح وغسل الجرح أو غسله مع الصّحيح الضّارّ غسله أجزأ، لإتيانه بالأصل، وإن تعذّر وشقّ مسّ الجرح بالماء، والجراحة واقعة في أعضاء تيمّمه تركها بلا غسل ولا مسح ‏;‏ لتعذّر مسّها وتوضّأ وضوءا ناقصاً، بأن يغسل أو يمسح ما عداها من أعضاء الوضوء، وإن كانت الجراح في غير أعضاء التّيمّم ففي المسألة أربعة أقوال‏:‏

أوّلها‏:‏ يتيمّم ليأتي بطهارة ترابيّة كاملة‏.‏

بخلاف ما لو توضّأ كانت طهارته ناقصة لعدم إمكانه غسل الجرح‏.‏

ثانيها‏:‏ يغسل ما صحّ ويسقط محلّ الجراح لأنّ التّيمّم إنّما يكون عند عدم الماء أو عدم القدرة على استعماله‏.‏

ثالثها‏:‏ يتيمّم إن كانت الجراحة أكثر من الصّحيح لأنّ الأقلّ تابع للأكثر‏.‏

رابعها‏:‏ يجمع بين الغسل والتّيمّم فيغسل الصّحيح ويتيمّم للجريح، ويقدّم الغسل‏.‏

وذهب الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ إلى أنّ الجريح المحدث إذا أراد الوضوء أو الغسل، وخاف من استعمال الماء الخوف المجوّز للتّيمّم، بأن كان يتضرّر من غسل الجراحة أو مسحها، لزمه غسل الصّحيح والتّيمّم عن الجريح‏.‏ وهو مخيّر في غسل الجنابة، فإن شاء غسل الصّحيح ثمّ تيمّم عن الجريح، وإن شاء تيمّم ثمّ غسل إذ لا ترتيب في طهارته‏.‏

أمّا في الوضوء فالتّرتيب واجب، فلا ينتقل من عضو إلى آخر حتّى يكمل طهارته، فإذا كانت الجراحة في الوجه مثلا، وجب تكميل طهارة الوجه أوّلا، فإن شاء غسل صحيحه ثمّ تيمّم عن جريحه، وإن شاء تيمّم ثمّ غسل، فيخيّر بلا أولويّة عند الحنابلة لأنّه عضو واحد لا يراعى فيه التّرتيب‏.‏ والأولى عند الشّافعيّة تقديم التّيمّم‏.‏

أمّا لو غسل صحيح وجهه ثمّ تيمّم لجريحه وجريح يديه تيمّما واحدا لم يجزئه ‏;‏ لأنّه يؤدّي إلى سقوط الفرض عن جزء من الوجه واليدين في حالة واحدة فيفوت التّرتيب‏.‏

ونصّ الحنابلة على أنّه إذا أمكنه المسح بالماء على الجرح وجب مسحه لأنّ الغسل مأمور به والمسح بعضه، فوجب كمن عجز عن الرّكوع والسّجود وقدر على الإيماء‏.‏

فإن كان الجرح نجسا تيمّم ولم يمسح، فإن كانت النّجاسة معفوّاً عنها ألغيت وكفت نيّة رفع الحدث، وإلاّ نوى رفع الحدث والنّجاسة‏.‏

وللتّفصيل ينظر مصطلح‏:‏ ‏(‏طهارة، وتيمّم، وجبيرة، ووضوء‏)‏‏.‏

غسل الميّت الجريح

6 - ذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّ الميّت المجروح، والمجدور، وذا القروح، ومن تهشّم تحت الهدم وشبههم، إن أمكن تغسيله غسّل، وإلاّ صبّ عليه الماء من غير ذلك‏.‏

فإن زاد أمره على ذلك أو خشي من صبّ الماء تزلّعه أو تقطّعه فإنّه ييمّم‏.‏

وذهب الشّافعيّة إلى أنّه ينتقل إلى التّيمّم عند تعذّر الغسل لخوف تهرّيه، لأنّ التّطهير لا يتعلّق بإزالة نجاسة فوجب الانتقال فيه عند العجز عن الماء إلى التّيمّم كغسل الجنابة‏.‏

أمّا لو كان به قروح وخيف من غسله إسراع البلى إليه بعد الدّفن وجب غسله لأنّ الجميع صائرون إلى البلى‏.‏ ولم يوقف على قول للحنفيّة في هذه المسألة‏.‏

وللتّفصيل ينظر مصطلح‏:‏ ‏(‏غسل، وموت‏)‏‏.‏

حكم جريح المعركة

7 - الأصل أنّ الشّهيد - وهو من مات في المعركة بقتال الكفّار - لا يغسّل، أمّا إذا جرح في المعركة ورفع من المعترك حيّا، فأكل أو شرب أو نام أو تكلّم أو طال بقاؤه عرفا أو تداوى، أو ارتفق بمرافق الحياة، ثمّ مات بعد ذلك، فذهب الجمهور - الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة وهو مقابل الأظهر عند الشّافعيّة - إلى أنّه يغسّل ويصلّى عليه، ولا تسقط عنه الشّهادة بل هو شهيد عند اللّه تعالى‏.‏ ودليلهم على ذلك «تغسيله صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ» ولأنّ الارتفاق لا يكون إلاّ من ذي حياة مستقرّة، والأصل وجوب الغسل والصّلاة، ولأنّ بالارتفاق خفّ أثر الظّلم فلم يكن في معنى شهيد المعركة الّذي يموت في أرضها‏.‏ وذهب الشّافعيّة إلى أنّ من مات بعد انقضاء القتال بجراحة يقطع بموته منها، وفيه حياة مستقرّة فغير شهيد في الأظهر ولهم في غيره تفصيل ينظر في مصطلح شهيد‏.‏

وللتّفصيل ينظر مصطلح‏:‏ ‏(‏شهيد، جنائز، غسل، ارتثاث‏)‏‏.‏

حكم الجروح الواقعة على الرّأس والوجه وسائر البدن

8 - اتّفق الفقهاء على وجوب القصاص في الجراح الواقعة على الرّأس والوجه من حيث الجملة وعلى خلاف في التّفصيل‏.‏ والأصل فيه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَتَبْنَا عَليهمْ فيها أنَّ النَّفْسَ بالنَّفْسِ والعَينَ بالعَينِ والأَنْفَ بالأَنْفِ والأُذُنَ بالأُذُنِ والسِّنَّ بالسِّنِّ والجُروحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ به فهو كَفَّارَةٌ له وَمَنْ لم يَحْكُمْ بما أَنْزَلَ اللَّهُ فأولئكَ هم الظَّالِمُونَ‏}‏ وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث «أنس في قصّة عمّته الرّبيّع لمّا كسرت ثنيّة جارية وطلبوا العفو فأبوا، وعرضوا الأرش فأبوا، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ كتاب اللّه القصاص»‏.‏

وقسّم الفقهاء أنواع الجروح حسب موقعها ودرجتها وأثرها إلى أقسام، فالّذي يقع في الرّأس والوجه فيسمّى شجاجاً، وينظر تفصيله في مصطلح ‏(‏شجاج‏)‏‏.‏

9- وأمّا الجراح في سائر البدن، فالمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة على أنّه يقتصّ منها إذا أمكن استيفاؤها، بأن تنتهي إلى حدّ كأن تنتهي إلى عظم بشرط ألا تكسره، أو تنتهي إلى مفصل كالكوع والمرفق والكعب‏.‏

والقاعدة عند الشّافعيّة أنّ ما لا قصاص فيه من الجراح إذا كان على الرّأس والوجه لا قصاص فيه إذا كان في سائر البدن‏.‏

وذهب الحنفيّة إلى أنّه لا قصاص في جراح سائر البدن لأنّه لا يمكن استيفاء القصاص فيها على وجه المماثلة‏.‏ بل تجب فيها حكومة عدل بشرط أن تبرأ ويبقى لها أثر، أمّا إذا لم يبق لها أثر فلا شيء فيها في قول أبي حنيفة رضي الله عنه‏.‏

10 - فإذا صار الأمر إلى الدّية لعدم وجوب القصاص، أو للعفو إلى الدّية، وكانت الجروح ممّا فيه أرش، مقدّر شرعا، فدية الموضحة خمسة أبعرة، والهاشمة عشرة، والمنقّلة خمسة عشر، وفي المأمومة ثلث الدّية، وفي الجائفة ثلث الدّية‏.‏

جرح حيوان تعذّر ذبحه

11 - إذا جرح الصّائد حيوانا مأكولا، تعذّر ذبحه بآلة محدّدة، أو بإرسال جارحة، كالكلب، ونحوه، فمات في الحال، قبل التّمكّن من ذبحه حلّ أكله، لخبر‏:‏ «ما أنهر الدّم وذكر اسم اللّه عليه فكل، ليس الظّفر، والسّنّ» وهذا محلّ اتّفاق بين الفقهاء‏.‏

والتّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏صيد‏)‏ أو مصطلح‏:‏ ‏(‏جارحة‏)‏‏.‏

جرح الصّيد

12 - لا يجوز التّعرّض لصيد الحرم البرّيّ لمحرم، ولا حلال، لقوله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكّة‏:‏ «إنّ هذا البلد حرّمه اللّه لا يعضد شوكه ولا ينفّر صيده» كما لا يجوز لمحرم أن يتعرّض لصيد برّيّ وحشيّ مطلقا لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أَيُّها الَّذينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيدَ وأنْتُم حُرمٌ‏}‏ فإذا جرح صيد الحرم، أو جرح محرم صيداً برّيّاً، فإن أزمنه لزمه جميع قيمته، لأنّ الإزمان كالإتلاف‏.‏ وإلاّ لزمه قيمة ما نقص من قيمة مثله‏.‏

والتّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏صيد، وإحرام‏)‏‏.‏

تملّك الصّيد بالجرح

13 - يملك الصّيد بالجرح إذا أبطل به عدوه وطيرانه إن كان الصّيد ممّا يمتنع بهما، ويكفي في الجرح إبطال شدّة عدوه بحيث يسهل لحاقه‏.‏ وإن جرحه اثنان فإن تعاقب جرحهما فهو لمن أزمنه أو ذفّفه ‏(‏أجهز عليه‏)‏ وإن أثخنه الأوّل، وقتله الثّاني فهو للأوّل، ويضمن الثّاني للأوّل قيمته، لأنّه بالرّمي أتلف صيداً مملوكاً‏.‏

وإن جرحا معاً فقتلاه كان الصّيد حلالا، وملكاه‏.‏ والتّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏صيد‏)‏‏.‏

جراد

انظر‏:‏ أطعمة‏.‏

جرب

التّعريف‏:‏

1 - الجرب في اللّغة بثر يعلو أبدان النّاس والحيوانات يتآكل منه الجلد، وربّما حصل معه هزال إذا كثر ومن إطلاقاته أيضا‏:‏ العيب والنّقيصة، يقال به جرب، أي‏:‏ عيب ونقيصة‏.‏ ولا يخرج استعمال الفقهاء لكلمة الجرب عن معناه اللّغويّ‏.‏

الحكم الإجماليّ ومواطن البحث

2 - اتّفق الفقهاء على أنّ الجرب إذا كان كثيرا بأن وصل إلى اللّحم فإنّه يمنع الإجزاء في الأضحيّة ‏;‏ لأنّه يفسد اللّحم ويعتبر نقصاً، لأنّ اللّحم هو المقصود في الأضحيّة‏.‏

واختلفوا فيما إذا كان قليلاً بأن كان في الجلد ولم يؤثّر في اللّحم، فذهب الحنفيّة والمالكيّة، والحنابلة، وهو وجه عند الشّافعيّة اختاره إمام الحرمين، والغزاليّ، إلى أنّه لا يمنع الإجزاء في الأضحيّة‏.‏

وذهب الشّافعيّة في الجديد وهو الصّحيح عندهم إلى أنّ الجرب قليله وكثيره يمنع الإجزاء في الأضحيّة‏.‏

وحكم الهدي في السّلامة من الجرب وسائر العيوب حكم الأضحيّة‏.‏

ويرتّب الفقهاء على الجرب أحكاما أخرى منها جواز لبس الحرير للمصاب به، لأنّه صلى الله عليه وسلم «أرخص لعبد الرّحمن بن عوف والزّبير في لبسه لحكّة كانت بهما»‏.‏ متّفق عليه‏.‏ وينظر تفصيل ذلك في مصطلح‏:‏ ‏(‏حرير‏)‏‏.‏

ومنها اعتباره عيباً في الدّوابّ المبيعة لو كان قليلاً‏.‏

وينظر تفصيله في باب الخيار عند الكلام عن خيار العيب‏.‏

ومنها اعتباره عيباً في أيّ من الزّوجين، وينظر في مصطلح‏:‏ ‏(‏عيب‏)‏ ‏(‏ونكاح‏)‏‏.‏

جرباء

انظر‏:‏ جرب‏.‏

جرح

انظر‏:‏ جراح، تزكية، شهادة‏.‏

جرّة

التّعريف

1 - الجرّة بالكسر ما تخرجه الإبل ونحوها من ذوات الخفّ والظّلف من كروشها فتجترّه المعدة‏.‏ ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن ذلك‏.‏

الحكم الإجماليّ ومواطن البحث

2 - اختلف الفقهاء في حكم جرّة الحيوان هل هي طاهرة أم نجسة ‏؟‏

فذهب الحنفيّة ما عدا زفر، والشّافعيّة في المذهب، إلى أنّها نجسة كروثه، لأنّه واراه جوفه، كالماء إذا وصل إلى جوفه، فحكمه حكم بوله، فكذا الجرّة يكون حكمها حكم الرّوث‏.‏

وأمّا المالكيّة والحنابلة، وزفر من الحنفيّة فلا يتأتّى ذلك عندهم لأنّ أرواث مباح الأكل طاهرة عندهم، فتثبت طهارة الجرّة بالأولى‏.‏

والقول بطهارة أرواث ما يؤكل لحمه وجرّته وجه للشّافعيّة أيضاً اختاره الرّويانيّ وأبو سعيد الإصطخريّ في أحد قوليه وبه قال عطاء، والنّخعيّ، والثّوريّ‏.‏

وتفصيل ذلك في مصطلحي‏:‏ ‏(‏نجاسة، وطهارة‏)‏‏.‏

جرموق

التّعريف

1 - الجرموق بضمّ الجيم والميم فارسيّ معرّب وهو شيء يلبس فوق الخفّ لشدّة البرد، أو حفظه من الطّين وغيره، ويكون من الجلد غالباً، ويقال له الموق أيضاً، والجمع جراميق‏.‏ وفي اصطلاح الفقهاء هو خفّ فوق خفّ وإن لم يكن واسعاً‏.‏

وقد فسّره مالك‏:‏ بأنّه جورب مجلّد من تحته ومن فوقه‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الخفّ‏:‏

2 - الخفّ ما يلبس في الرّجل من جلد رقيق وجمعه أخفاف‏.‏

والمراد به في باب الطّهارة‏:‏ هو السّاتر للكعبين فأكثر من جلد ونحوه‏.‏

ب - الجورب، واللّفافة‏:‏

3 - الجورب ما يلبس في الرّجل تحت الحذاء من غير الجلد‏.‏

واللّفافة كذلك ممّا ليس بمخيط‏.‏ فالفرق بين الخفّ والجرموق والجورب‏:‏ أنّ الخفّ لا يكون إلاّ من جلد ونحوه، والجرموق يكون من جلد وغيره، والجورب لا يكون من جلد‏.‏

الحكم الإجماليّ وموطن البحث

4 - لا خلاف بين جمهور الفقهاء في أنّ الجرموقين إذا لبسا وحدهما بدون خفّين يجوز المسح عليهما، واختلفوا فيما إذا لبسا فوق الخفّين‏:‏

فذهب الحنفيّة والحنابلة وهو المذهب لدى المالكيّة ومقابل الأظهر عند الشّافعيّة، إلى أنّه يجوز المسح على الجرموقين‏.‏ لما روي عن بلال «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يخرج يقضي حاجته فآتيه بالماء فيتوضّأ ويمسح على عمامته وموقيه»‏.‏

ولأنّ الجرموق يشارك الخفّ في إمكان قطع السّفر به، فيشاركه في جواز المسح عليه، ولذا شاركه في حالة الانفراد‏.‏ وأيضا الجرموق فوق الخفّ بمنزلة خفّ ذي طاقين وذا يجوز، فكذا ذلك، ولأنّ شدّة البرد قد تحوج إلى لبسه، وفي نزعه عند كلّ وضوء مشقّة‏.‏ وقال مالك في رواية‏:‏ إنّه لا يمسح على الجرموقين أصلاً‏.‏

وهو الأظهر عند الشّافعيّة فيما إذا لبسهما فوق الخفّين‏.‏ وفي شروط جواز المسح على الجرموقين خلاف وتفصيل ينظر في مصطلح‏:‏ ‏(‏مسح‏)‏ ومصطلح‏:‏ ‏(‏المسح على الخفّين‏)‏‏.‏

جريمة

انظر‏:‏ جناية‏.‏

جزاف

انظر‏:‏ بيع الجزاف‏.‏

جزم

التّعريف

1 - الجزم في اللّغة‏:‏ القطع، يقال جزمت الشّيء جزما من باب ضرب‏:‏ قطعته، وجزمت الحرف في الإعراب قطعته عن الحركة وأسكنته، وأفعل ذلك جزما أي حتما لا رخصة فيه، وهو كما يقال قولا واحدا، وحكم جزم، وقضاء حتم أي لا ينقض ولا يردّ، وجزمت النّخل صرمته، وجزم اليمين أمضاها قاطعة لا رجعة فيها‏.‏

وفي الاصطلاح لا يخرج معناه عن المعنى اللّغويّ‏.‏

وعند الأصوليّين هو‏:‏ الاقتضاء الملزم في خطاب اللّه المتعلّق بأفعال المكلّفين، فقد عرّفوا الحكم بأنّه‏:‏ خطاب اللّه تعالى المتعلّق بأفعال المكلّفين بالاقتضاء‏.‏ والاقتضاء الطّلب، فيتناول اقتضاء الوجود، واقتضاء العدم، وقالوا‏:‏ إن كان الطّلب جازما‏:‏ فإن كان طلب الفعل فهو الإيجاب‏.‏ أو طلب التّرك فهو التّحريم‏.‏ وإن كان غير جازم‏.‏ فإن ترجّح جانب الوجود فهو النّدب، وإن ترجّح جانب التّرك فهو الكراهة‏.‏ ويقابله‏:‏ التّخيير‏.‏

وهو التّسوية بين جانبي الفعل والتّرك من غير ترجيح لأحدهما‏.‏ والثّابت به الإباحة‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - العزم والقصد والنّيّة‏:‏

2 - العزم هو القصد المؤكّد يقال‏:‏ عزمت على كذا عَزماً وعُزماً وعزيمة إذا أردت فعله، وصمّمت عليه‏.‏ وفي الاصطلاح قال ابن عابدين‏:‏ العزم اسم للإرادة المتقدّمة على الفعل، فإذا اقترن بالفعل فهو القصد‏.‏ وإن اقترن به مع دخوله تحت المنويّ عليه فهو النّيّة‏.‏

ب - الهمّ‏:‏

3 - الهمّ هو أوّل العزم على الفعل إذا أردته ولم تفعله وهو عقد القلب على فعل شيء خير أو شرّ قبل أن يفعل‏.‏

ج - التّعليق‏:‏

4 - التّعليق مصدر علّق بالتّشديد تعليقاً يقال‏:‏ علّقت الشّيء على غيره أي‏:‏ جعلته معلّقا عليه، يوجد بوجوده، وينعدم بعدمه، وهو مقابل الجزم، لأنّ الجزم قطع في الحال، والتّعليق مؤخّر إلى وجود المعلّق عليه أو عدم وجوده‏.‏

د - التّردّد‏:‏

5 - التّردّد هو‏:‏ مصدر تردّد في الأمر تردّدا أي لم يجزم به ولم يقطع‏.‏

الحكم التّكليفيّ

يختلف حكم الجزم باختلاف مواضعه على التّفصيل الآتي‏:‏

6 - اتّفق الفقهاء على أنّه يجب الجزم بالنّيّة، لأنّها شرط لانعقاد العبادات لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إنّما الأعمال بالنّيّات» والنّيّة هي‏:‏ الإرادة الجازمة القاطعة‏.‏ وليست مطلق إرادة، فيخلّ بها كلّ ما ينافي الجزم، من تردّد أو تعليق، فإذا علّق نيّة العبادة بالمشيئة، فإن قصد التّعليق أو أطلق بطلت لمنافاة ذلك لجزم النّيّة‏.‏ أمّا إذا قصد تبرّكا، فلا تبطل‏.‏ ويضرّ التّعليق بغير المشيئة مطلقا كحصول شيء، وإن لم يكن متوقّعا، وكذا التّردّد في النّيّة، فلو نوى ليلة الثّلاثين من شعبان‏:‏ صوم غد إن كان من رمضان، لم يصحّ صومه وإن كان من رمضان، لتردّد النّيّة‏.‏ والتّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏نيّة‏)‏‏.‏

أمّا إذا حدث التّردّد في نيّة الخروج من العبادة في أثناء العبادة‏:‏ فقد قسّم الشّافعيّة العبادة إلى أقسام أربعة‏:‏

أ - الإسلام، والصّلاة‏:‏

7 - لو نوى في الرّكعة الأولى الخروج من الصّلاة في الرّكعة الثّانية، أو علّق الخروج بشيء يوجد في الصّلاة قطعاً بطلت صلاته في الحال، لأنّه مأمور بجزم النّيّة في جميع صلاته وليس هذا بجازم‏.‏ وكذا لو علّق الخروج عن الإسلام بشيء والعياذ باللّه،فإنّه يكفر‏.‏ والمراد بالتّردّد‏:‏ أن يطرأ شكّ في أثناء العبادة يناقض جزم النّيّة الّتي ابتدأ بها عبادته‏.‏ أمّا ما يجري في الفكر فلا تبطل به الصّلاة، وقد يقع ذلك في الإيمان باللّه، فلا تأثير له، لحديث‏:‏ «إنّ اللّه تجاوز لأمّتي عمّا وسوست أو حدّثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تكلّم»‏.‏

ب - الحجّ والعمرة‏:‏

8 - إن نوى الخروج من الحجّ أو العمرة، أو نوى قطعهما لم ينقطعا بلا خلاف، لأنّه لا يخرج منهما بالإفساد، وهذا متّفق عليه بين الفقهاء‏.‏ والتّفصيل في‏:‏ ‏(‏إحرام ف /128‏)‏‏.‏

ج - الصّوم، والاعتكاف‏:‏

9 - إذا جزم في أثنائهما بنيّة الخروج منهما ففي بطلانهما وجهان للشّافعيّة، والأصحّ منهما وهو الظّاهر من مذهب الحنابلة لا يبطلان، لأنّ الواقع يستحيل رفعه‏.‏

والتّفصيل في الموطن الأصليّ لهما‏.‏

وذهب المالكيّة إلى أنّ الصّلاة والصّوم والاعتكاف إن كان رفض النّيّة في الأثناء بطلت العبادة قطعا، وعليه القضاء والكفّارة في الصّوم‏.‏ وإن كان الرّفض بعد تمام العبادة فأظهر القولين المرجّحين وأقواهما أنّ العبادة لا ترفض لأنّ الواقع يستحيل رفعه‏.‏

د - الوضوء‏:‏

10 - إن نوى قطعه في أثنائه لم يبطل ما مضى منه على أصحّ الوجهين للشّافعيّة‏.‏

أمّا عند الحنابلة فعليه الاستئناف إذ لم يصحّ ما فعله‏.‏ لكنّه يحتاج إلى نيّة لما بقي، وإن نوى قطعه بعد الفراغ منه لم يبطل على المذهب عند الشّافعيّة كما لو نوى قطع الصّلاة، والصّوم، والاعتكاف والحجّ بعد الفراغ منها عند الشّافعيّة والحنابلة، أمّا الحنفيّة فلا يشترطون النّيّة في الوضوء‏.‏

وذهب المالكيّة إلى أنّ رفض نيّة الوضوء والغسل إن كان بعد الفراغ منهما فلا يضرّ الرّفض ولا يعتبر من النّواقض‏.‏ وإن كان رفض النّيّة في أثنائهما فالرّاجح البطلان وتجب الإعادة‏.‏ والتّيمّم يبطل بالرّفض في الأثناء وبعده لأنّه طهارة ضعيفة، واستظهر بعضهم أنّه كالوضوء‏.‏ والتّفصيل في مبحث‏:‏ ‏(‏الوضوء‏)‏‏.‏

صور مستثناة من اشتراط الجزم في النّيّة لانعقاد العبادة

11 - الأصل في العبادة‏:‏ اشتراط جزم النّيّة وعدم التّردّد فيها، أو التّعليق في شيء كما ذكرنا‏.‏ وقد استثنى الفقهاء من هذه القاعدة صورا تنعقد العبادة فيها مع التّردّد في النّيّة، أو تعليقها، وأورد الشّافعيّة من صور التّردّد‏:‏

أ - إذا اشتبه عليه ماء وماء ورد فتوضّأ بكلّ مرّة صحّ وضوءه، ويغتفر التّردّد في النّيّة للضّرورة‏.‏

ب - إذا تيقّن أنّ عليه صلاة من الخمس ولم يذكرها صلّى الخمس وصحّت صلاته‏.‏

12 - ومن صور التّعليق في العبادات‏:‏

في الطّهارة‏:‏ إن شكّ في الحدث فنوى الوضوء إن كان محدثا وإلاّ فتجديد صحّ‏.‏

وفي الصّلاة‏:‏ شكّ في قصر إمامه فقال‏:‏ إن قصر قصرت، وإلاّ أتممت،فبان قاصراً قصر‏.‏ وإذا كانت عليه فائتة، وشكّ في أدائها فقال‏:‏ أصلّي عنها إن كانت وإلاّ فنافلة، فبانت أنّها عليه أجزأته‏.‏ وإذا اختلط مسلمون بكفّار أو شهداء بغيرهم صلّى على كلّ واحد بنيّة الصّلاة عليه إن كان مسلما أو غير شهيد‏.‏

وفي الزّكاة‏:‏ إذا نوى زكاة ماله الغائب إن كان باقيا، وإلاّ ففي الحاضر، فبان باقيا أجزأه عنه‏.‏ أو تالفا أجزأه عن الحاضر‏.‏ والتّفصيل في مواطنها الأصليّة‏.‏

وفي الحجّ، كأن يقول مريد الإحرام‏:‏ إن كان زيد محرما فقد أحرمت، فإن كان زيد محرماً انعقد إحرامه‏.‏ وكذا لو أحرم يوم الثّلاثين من رمضان، وهو شاكّ فقال‏:‏ إن كان من رمضان فإحرامي‏:‏ عمرة، أو من شوّال فحجّ، فكان شوّالا كان إحرامه صحيحاً‏.‏

الجزم بالصّيغة في العقود

13 - يختلف الجزم بالصّيغة في العقود باختلاف العقد،وقد قسّم الفقهاء العقود إلى ما يلي‏:‏

أ - ما كان التّأقيت ركنا فيه كالإجارة، والمساقاة، والهدنة، فلا يكون إلاّ مؤقّتا‏.‏

ب - ما ليس كذلك، ولا ينافيه التّأقيت، كالقراض، يذكر فيه مدّة يمنع بعدها من الشّراء، وكالإذن المقيّد بزمان، كالوكالة، ونحوها فلا يضرّه التّأقيت‏.‏

ج - ما لا يقبل التّأقيت بحال‏:‏ كالنّكاح، والبيع، والوقف، فيجب فيه الجزم بالصّيغة وعدم تأقيتها‏.‏ والتّفصيل في مواطنها‏.‏ وفي تعليق صيغ العقود بشرط تفصيل وخلاف بين الفقهاء يرجع فيه إلى مصطلح‏:‏ ‏(‏تعليق، وعقد‏)‏‏.‏

جزيرة العرب

انظر‏:‏ أرض العرب‏.‏

جزية

التّعريف

1 - قال الجوهريّ‏:‏ الجزية ما يؤخذ من أهل الذّمّة، والجمع الجزى ‏(‏بالكسر‏)‏ مثل لحية ولحى‏.‏ وهي عبارة عن المال الّذي يعقد الذّمّة عليه للكتابيّ‏.‏

وهي فعلة من الجزاء كأنّها جزت عن قتله‏.‏ وقال ابن منظور‏:‏ الجزية أيضاً خراج الأرض‏.‏ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏حتَّى يُعْطُوا الجِزْيةَ عَنْ يَدٍ وهم صَاغِرُون‏}‏‏.‏

وقال النّوويّ‏:‏ الجِزية ‏(‏بكسر الجيم‏)‏ جمعها جِزى ‏(‏بالكسر‏)‏ أيضاً كقربة وقرب ونحوه، وهي مشتقّة من الجزاء كأنّها جزاء إسكاننا إيّاه في دارنا، وعصمتنا دمه وماله وعياله‏.‏ وقيل‏:‏ هي مشتقّة من جزى يجزي إذا قضى‏.‏ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏واتَّقُوا يومَاً لا تَجْزي نَفْسٌ عن نَفْسٍ شَيئاً‏}‏ أي لا تقضي‏.‏

وقال الخوارزميّ‏:‏ جزاء رءوس أهل الذّمّة جمع جزية وهو معرّب‏:‏ كزيت، وهو الخراج بالفارسيّة‏.‏ وقد اختلفت وجهات نظر الفقهاء في تعريف الجزية اصطلاحاً تبعا لاختلافهم في طبيعتها، وفي حكم فرضها على المغلوبين الّذين فتحت أرضهم عنوة ‏"‏ أي قهراً لا صلحاً ‏"‏‏.‏ فعرّفها الحنفيّة والمالكيّة بأنّها‏:‏ ‏"‏ اسم لما يؤخذ من أهل الذّمّة فهو عامّ يشمل كلّ جزية سواء أكان موجبها القهر والغلبة وفتح الأرض عنوة، أو عقد الذّمّة الّذي ينشأ بالتّراضي ‏"‏‏.‏ وعرّفها الحصنيّ من الشّافعيّة بأنّها‏:‏ ‏"‏ المال المأخوذ بالتّراضي لإسكاننا إيّاهم في ديارنا، أو لحقن دمائهم وذراريّهم وأموالهم، أو لكفّنا عن قتالهم ‏"‏‏.‏

وعرّفها الحنابلة بأنّها‏:‏ ‏"‏ مال يؤخذ منهم على وجه الصّغار كلّ عام بدلا عن قتلهم وإقامتهم بدارنا ‏"‏‏.‏ قال القليوبيّ‏:‏ ‏"‏ تطلق - أي الجزية - على المال وعلى العقد وعليهما معا ‏"‏‏.‏

هذا ويطلق العلماء على الجزية عدّة مصطلحات وألفاظ منها‏:‏

أ - خراج الرّأس‏:‏

2 - قال السّرخسيّ‏:‏ «إذا جعل الإمام قوما من الكفّار أهل ذمّة وضع الخراج على رءوس الرّجال، وعلى الأرضين بقدر الاحتمال، أمّا خراج الرّءوس فثابت بالكتاب والسّنّة‏:‏

أمّا الكتاب فقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيةَ عَنْ يَدٍ وهم صَاغِرُون‏}‏

وأمّا السّنّة فما روي «أنّ النّبيّ أخذ الجزية من مجوس هجر»‏.‏ وقال ابن القيّم في أحكام أهل الذّمّة‏:‏ ‏"‏ الجزية هي الخراج المضروب على رءوس الكفّار إذلالاً وصغاراً ‏"‏‏.‏

ب - الجالية‏:‏

3 - الجالية في اللّغة‏:‏ مأخوذة من الجلاء، فيقال‏:‏ جلوت عن البلد جلاء إذا خرجت‏.‏ وتطلق الجالية على الجماعة، ومنه قيل‏:‏ لأهل الذّمّة الّذين أجلاهم عمر بن الخطّاب رضي الله عنه عن جزيرة العرب الجالية، وقد لزمهم هذا الاسم أينما حلّوا، ثمّ لزم كلّ من لزمته الجزية من أهل الكتاب بكلّ بلد، وإن لم يجلوا عن أوطانهم‏.‏ ثمّ أطلقت ‏"‏ الجالية ‏"‏ على الجزية الّتي تؤخذ من أهل الذّمّة، فقيل‏:‏ استعمل فلان على الجالية‏.‏

أي على جزية أهل الذّمّة‏.‏ وجمع الجالية الجوالي‏.‏

وقد عرّفها القلقشنديّ بأنّها‏:‏ ‏"‏ ما يؤخذ من أهل الذّمّة عن الجزية المقرّرة على رقابهم في كلّ سنة ‏"‏‏.‏ وقد استخدم هذا اللّفظ في الكتب القديمة، وفي الإيصالات الّتي كانت تعطى لأهل الذّمّة بعد دفع الجزية منذ عصر المماليك‏.‏

قال المقريزيّ‏:‏ فأمّا الجزية فتعرّف في زمننا بالجوالي، فإنّها تستخرج سلفا وتعجيلا في غرّة السّنة، وكان يتحصّل منها مال كثير فيما مضى‏.‏

قال القاضي الفاضل في متجدّدات الحوادث‏:‏ الّذي انعقد عليه ارتفاع الجوالي لسنة سبع وثمانين وخمسمائة مائة ألف وثلاثون ألف دينار، وأمّا في وقتنا هذا، فإنّ الجوالي قلّت جدّا، لكثرة إظهار النّصارى للإسلام في الحوادث الّتي مرّت بهم‏.‏

وقال ابن عابدين‏:‏ تسمّى - أي الجزية - جالية‏.‏

ج - مال الجماجم‏:‏

4 - الجماجم جمع جمجمة‏:‏ وهي عظم الرّأس المشتمل على الدّماغ، وربّما عبّر بها عن الإنسان، فيقال‏:‏ خذ من كلّ جمجمة درهما، كما يقال‏:‏ خذ من كلّ رأس درهماً‏.‏

وقد أطلق على الجزية مال الجماجم ‏;‏ لأنّها تفرض على الرّءوس‏.‏

قال ابن سعد في ترجمة عمر بن الخطّاب رضي الله عنه‏:‏ ‏"‏ هو أوّل من مسح السّواد وأرض الجبل، ووضع الخراج على الأرضين، والجزية على جماجم أهل الذّمّة فيما فتح من البلدان ‏"‏‏.‏ وقال الخوارزميّ‏:‏ ويسمّى - أيّ خراج الرّأس - في بعض البلدان مال الجماجم، وهي جمع جمجمة، وهي الرّأس‏.‏

وجاء في خطط المقريزيّ عند الحديث عن خراج مصر‏:‏ ‏"‏ أوّل من جبى خراج مصر في الإسلام عمرو بن العاص رضي الله عنه، فكانت جبايته اثني عشر ألف ألف دينار بفريضة دينارين دينارين من كلّ رجل، ثمّ جبى عبد اللّه بن سعد‏.‏‏.‏‏.‏ أربعة عشر ألف ألف دينار‏.‏‏.‏ وهذا الّذي جباه عمرو ثمّ عبد اللّه هو من الجماجم خاصّة دون الخراج ‏"‏‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة بالجزية

أ - الغنيمة‏:‏

5 - الغنيمة‏:‏ اسم للمأخوذ من أهل الحرب على سبيل القهر والغلبة‏.‏

ويدخل فيها الأموال والأسرى من أهل الحرب إذا استرقّوا‏.‏

فالغنيمة مباينة للجزية لأنّ الجزية تؤخذ من غير قتال، والغنيمة لا تكون إلاّ في القتال‏.‏

ب - الفيء‏:‏

6 - الفيء‏:‏ كلّ ما صار للمسلمين من الكفّار من قبل الرّعب والخوف من غير أن يوجف عليه بخيل أو رجل ‏(‏مشاة‏)‏ - أي بغير قتال - ‏"‏ والفيء ضربان‏:‏

أحدهما‏:‏ ما انجلوا عنه‏:‏ أي هربوا عنه خوفا من المسلمين، أو بذلوه للكفّ عنهم‏.‏ والثّاني‏:‏ ما أخذ من غير خوف‏:‏ كالجزية والخراج الصّلحيّ والعشور‏.‏ فبين الفيء والجزية عموم وخصوص، فالفيء أعمّ من الجزية‏.‏

ج - الخراج‏:‏

7 - الخراج هو ما يوضع على الأرض غير العشريّة من حقوق تؤدّى عنها إلى بيت المال، ووجه الصّلة بينه وبين الجزية أنّهما يجبان على أهل الذّمّة، ويصرفان في مصارف الفيء‏.‏ ومن الفروق بينهما‏:‏ أنّ الجزية توضع على الرّءوس، أمّا الخراج فيوضع على الأرض، والجزية تسقط بالإسلام، أمّا الخراج فلا يسقط بالإسلام، ويبقى مع الإسلام والكفر‏.‏

د - العشور‏:‏

8 - العشور في الاصطلاح نوعان‏:‏ أحدهما‏:‏ عشور الزّكاة وهي ما يؤخذ في زكاة الزّروع والثّمار على ما يعرف في بابه، والثّاني‏:‏ ما يفرض على الكفّار في أموالهم المعدّة للتّجارة إذا انتقلوا بها من بلد إلى بلد في دار الإسلام، وسمّيت بذلك لكون المأخوذ عشرا، أو مضافا إلى العشر‏:‏ كنصف العشر‏.‏ ووجه الصّلة بينها وبين الجزية أنّ كلّا منهما يجب على أهل الذّمّة وأهل الحرب المستأمنين، ويصرف في مصارف الفيء‏.‏

والفرق بين العشور والجزية أنّ الجزية على الرّءوس وهي مقدار معلوم لا يتفاوت بحسب الشّخص، والعشر على المال‏.‏

تاريخ تشريع الجزية في الإسلام

9 - بعد أن تمّ فتح مكّة في أواخر السّنة الثّامنة للهجرة، ودخل النّاس في دين اللّه أفواجا واستقرّت الجزيرة العربيّة على دين اللّه تعالى أمر اللّه سبحانه وتعالى رسوله الكريم بمجاهدة أهل الكتاب من اليهود والنّصارى في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَاتِلُوا الَّذينَ لا يُؤمنونَ باللَّهِ وَلا باليومِ الآخِرِ ولا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ ورَسُولُه ولا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ من الَّذينَ أُوتُوا الكِتَابَ حتَّى يُعْطُوا الجِزْيةَ عَنْ يَدٍ وهم صَاغِرُون‏}‏ «ولهذا جهّز رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لقتال الرّوم ودعا المسلمين إلى ذلك، وندب الأعراب الّذين يسكنون حول المدينة المنوّرة إلى قتالهم، فأوعبوا معه واجتمع من المقاتلة نحو ثلاثين ألفاً، وتخلّف بعض النّاس من أهل المدينة ومن حولها من المنافقين وغيرهم‏.‏ وخرج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بمن معه يريد الشّام في السّنة التّاسعة للهجرة، فبلغ تبوك ونزل بها، وأقام فيها نحوا من عشرين يوما، يبايع القبائل العربيّة على الإسلام، ويعقد المعاهدات مع القبائل الأخرى على الجزية إلى أن تمّ خضوع تلك المنطقة لحكم الإسلام»‏.‏

قال الطّبريّ عند تفسير آية الجزية‏:‏ ‏"‏ نزلت على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في أمره بحرب الرّوم، فغزا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بعد نزولها غزوة تبوك ‏"‏‏.‏ ثمّ ذكر أنّ هذا القول مرويّ عن مجاهد بن جبر‏.‏ بهذه الآية تمّ تشريع الجزية، وقد اختلف العلماء في وقت تشريعها تبعا لاختلافهم في وقت نزول الآية‏.‏

فذهب ابن القيّم إلى أنّ الجزية لم تؤخذ من أحد من الكفّار إلاّ بعد نزول آية سورة براءة في السّنة الثّامنة من الهجرة‏.‏

وذهب ابن كثير في تفسيره إلى أنّ آية الجزية نزلت في السّنة التّاسعة للهجرة، حيث قال عند تفسيره للآية‏:‏ هذه الآية الكريمة أوّل الأمر بقتال أهل الكتاب بعدما تمهّدت أمور المشركين ودخل النّاس في دين اللّه أفواجا واستقامت جزيرة العرب، أمر اللّه رسوله بقتال أهل الكتابين، وكان ذلك في سنة تسع‏.‏

هذا ولم يأخذ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم جزية من أحد من الكفّار قبل نزول آية الجزية، فلمّا نزلت أخذها من نصارى نجران، ومجوس هجر، ثمّ أخذها من أهل أيلة، وأذرح، وأهل أذرعات وغيرها من القبائل النّصرانيّة الّتي تعيش في أطراف الجزيرة العربيّة‏.‏

روى أبو عبيد - بسنده - إلى ابن شهاب قال‏:‏ «أوّل من أعطى الجزية أهل نجران وكانوا نصارى»‏.‏ وذكر ابن القيّم في زاد المعاد‏:‏ لمّا نزلت آية الجزية أخذها - أي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم - من المجوس وأخذها من أهل الكتاب وأخذها من النّصارى‏.‏ ويقصد مجوس البحرين أو مجوس هجر‏.‏

روى البخاريّ - بسنده - إلى المسور بن مخرمة قال‏:‏ إنّ عمرو بن عوف الأنصاريّ وهو حليف لبني عامر بن لؤيّ، وكان شهد بدراً أخبره «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة إلى البحرين يأتي بجزيتها، وكان رسول اللّه هو صالح أهل البحرين، وأمّر عليهم العلاء بن الحضرميّ»‏.‏ وبعد أنّ أخذها صلى الله عليه وسلم من نصارى نجران ومجوس هجر أخذها من بعض القبائل اليهوديّة، والنّصرانيّة في تبوك في السّنة التّاسعة للهجرة فأخذها من أهل أيلة حيث «قدم يوحنّا بن رؤبة على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في تبوك، وصالحه على كلّ حالم بالغ بأرضه في السّنة دينار، واشترط عليهم قرى من مرّ بهم من المسلمين، وكتب لهم كتابا بأن يحفظوا ويمنعوا‏.‏ وأخذها من أهل أذرح وأهل الجرباء وأهل تبالة وجرش، وأهل أذرعات وأهل مقنا، وكان أهلها يهوداً، فصالحهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على ربع غزولهم وثمارهم وما يصطادون على العروك»‏.‏ وأخذها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بعد ذلك من أهل اليمن، حيث أرسل معاذ بن جبل إليهم‏.‏ فقال معاذ‏:‏ «بعثني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وأمرني أن آخذ من كلّ حالم ديناراً»‏.‏ وروى أبو عبيد «كتاب الرّسول إلى أهل اليمن حيث جاء فيه‏:‏ من محمّد إلى أهل اليمن‏.‏‏.‏ وأنّه من أسلم من يهوديّ أو نصرانيّ فإنّه من المؤمنين، له ما لهم وعليه ما عليهم، ومن كان على يهوديّته أو نصرانيّته فإنّه لا يفتن عنها وعليه الجزية»‏.‏

الأدلّة على مشروعيّة الجزية‏:‏

10 - ثبتت مشروعيّة الجزية بالكتاب والسّنّة والإجماع‏.‏

أمّا الكتاب فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَاتِلُوا الَّذينَ لا يُؤمنونَ باللَّهِ ولا بِاليومِ الآخِرِ ولا يُحَرِّمونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ ورسُولُه ولا يَدِينونَ دِينَ الحَقِّ من الَّذينَ أُوتُوا الكِتَابَ حتَّى يُعْطُوا الجِزْيةَ عَنْ يَدٍ وهم صَاغِرُون‏}‏‏.‏ فالآية تدلّ على مشروعيّة أخذ الجزية من أهل الكتاب الّذين وصفهم اللّه تعالى بالصّفات المذكورة فيها‏.‏ ولهذا شرع اللّه مجاهدة الكافرين، ومقاتلتهم حتّى يرجعوا عن تلك الصّفات، ويدخلوا الدّين الحقّ، أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون‏.‏

وأمّا السّنّة فقد وردت أحاديث كثيرة سبق بعضها‏.‏ ومنها ما روى مسلم وغيره عن بريدة‏.‏ «كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا أمّر أميراً على جيش أو سريّة أوصاه في خاصّة نفسه بتقوى اللّه ومن معه من المسلمين خيراً‏.‏ ثمّ قال‏:‏ اغزوا باسم اللّه‏.‏ في سبيل اللّه‏.‏ قاتلوا من كفر باللّه‏.‏ اغزوا ولا تغلّوا ولا تغدروا ولا تمثّلوا ولا تقتلوا وليداً‏.‏ وإذا لقيت عدوّك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال‏.‏ فأيّتهنّ ما أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم، ثمّ ادعهم إلى الإسلام‏.‏ فإن أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم، ثمّ ادعهم إلى التّحوّل عن دارهم إلى دار المهاجرين‏.‏ وأخبرهم أنّهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحوّلوا منها فأخبرهم أنّهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم اللّه الّذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء، إلاّ أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم فإن هم أبوا فاستعن باللّه وقاتلهم»‏.‏

فقوله‏:‏ «فإن هم أبوا فسلهم الجزية» يدلّ على مشروعيّة الجزية وإقرارها‏.‏

11 - أمّا ما ورد من أحاديث تدلّ على أنّه لا يقبل من الكفّار إلاّ الإسلام أو السّيف‏:‏ كحديث‏:‏ «أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا لا إله إلاّ اللّه فمن قالها فقد عصم منّي نفسه وماله إلاّ بحقّه وحسابه على اللّه»‏.‏

فقد ذهب الجمهور إلى أنّها كانت في بداية الإسلام قبل نزول آية براءة، وسورة براءة من آخر ما نزل من القرآن، قال أبو عبيد‏:‏ وإنّما توجّه هذه الأحاديث على أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إنّما قال ذلك في بدء الإسلام، وقبل أن تنزل سورة براءة، ويؤمر فيها بقبول الجزية في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وهم صَاغِرُونَ‏}‏، وإنّما نزل هذا في آخر الإسلام، وفيه أحاديث، منها عن ابن عبّاس عن عثمان رضي الله عنهما قال‏:‏

‏"‏ كانت براءة من آخر ما نزل من القرآن ‏"‏‏.‏ ‏"‏ وقال مجاهد في آية الجزية نزلت حين أمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أصحابه بغزوة تبوك وقال‏:‏ سمعت هشيماً يقول‏:‏ كانت تبوك آخر غزاة غزاها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ‏"‏‏.‏

وأمّا الإجماع فقد أجمع العلماء على جواز أخذها في الجملة، وقد أخذها أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وسائر الخلفاء دون إنكار من أحد من المسلمين فكان إجماعاً‏.‏

الحكمة من مشروعيّة الجزية

أ - الجزية علامة خضوع وانقياد لحكم المسلمين‏:‏

12 - قال ابن منظور‏:‏ قوله عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيةَ عَنْ يَدٍ‏}‏ قيل‏:‏ معناه عن ذلّ وعن اعتراف للمسلمين بأنّ أيديهم فوق أيديهم، وقيل عن يد‏:‏ أي عن إنعام عليهم بذلك، لأنّ قبول الجزية وترك أنفسهم عليهم نعمة عليهم ويد من المعروف جزيلة‏.‏ وقيل‏:‏ عن يد أي عن قهر وذلّ واستسلام كما تقول‏:‏ اليد في هذا لفلان أي الأمر النّافذ لفلان‏.‏

وروي عن عثمان البزّيّ‏:‏ عن يد قال‏:‏ نقداً عن ظهر يد ليس بنسيئة

وقال أبو عبيدة‏:‏ كلّ من أطاع لمن قهره فأعطاه عن غير طيبة نفسه، فقد أعطاها عن يد‏.‏‏.‏‏.‏ وقد ذكر المفسّرون هذه المعاني عند تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عن يد‏}‏، فقال النّيسابوريّ‏:‏ ‏{‏عن يد‏}‏ إن أريد بها يد المعطي فالمراد‏:‏ عن يد مؤاتية غير ممتنعة، يقال أعطى بيده إذا انقاد وأصحب، أو المراد حتّى يعطوها عن يد إلى يد نقدا غير نسيئة ولا مبعوثاً على يد أحد‏.‏ وإن أريد بها يد الآخذ فمعناه حتّى يعطوها عن يد قاهرة مستولية أي بسببها، أو المراد عن إنعام عليهم، فإنّ قبول الجزية منهم بدلا عن أرواحهم نعمة عظيمة عليهم‏.‏

وفسّر الشّافعيّ الصّغار بإجراء حكم الإسلام عليهم حيث قال‏:‏ سمعت رجالاً من أهل العلم يقولون‏:‏ الصّغار أن يجري عليهم حكم الإسلام وما أشبه ما قالوا بما قالوا، لامتناعهم من الإسلام‏.‏ فإذا جرى عليهم حكمه فقد أصغروا بما يجري عليهم منه، فعلى هذا المعنى يكون دفع الجزية من الكافرين والخضوع لسلطان المسلمين موجبا للصّغار‏.‏

ب - الجزية وسيلة لهداية أهل الذّمّة‏:‏

13 - قال القرافيّ‏:‏ ‏"‏ إنّ قاعدة الجزية من باب التزام المفسدة الدّنيا لدفع المفسدة العليا وتوقّع المصلحة، وذلك هو شأن القواعد الشّرعيّة، بيانه‏:‏ أنّ الكافر إذا قتل انسدّ عليه باب الإيمان، وباب مقام سعادة الإيمان، وتحتّم عليه الكفر والخلود في النّار، وغضب الدّيّان، فشرع اللّه الجزية رجاء أن يسلم في مستقبل الأزمان، لا سيّما باطّلاعه على محاسن الإسلام ‏"‏‏.‏ وتظهر هذه الحكمة في تشريع الجزية من جانبين‏:‏

الأوّل‏:‏ الصّغار الّذي يلحق أهل الذّمّة عند دفع الجزية‏.‏ وقال إلكيا الهرّاسيّ في أحكام القرآن‏:‏ ‏"‏ فكما يقترن بالزّكاة المدح والإعظام والدّعاء له، فيقترن بالجزية الذّلّ والذّمّ، ومتى أخذت على هذا الوجه كان أقرب إلى أن لا يثبتوا على الكفر لما يتداخلهم من الأنفة والعار، وما كان أقرب إلى الإقلاع عن الكفر فهو أصلح في الحكمة وأولى بوضع الشّرع‏.‏ والثّاني‏:‏ ما يترتّب على دفع الجزية من إقامة في دار الإسلام واطّلاع على محاسنه‏.‏

وقال الحطّاب - في بيان الحكمة -‏:‏ الحكمة في وضع الجزية أنّ الذّلّ الّذي يلحقهم يحملهم على الدّخول في الإسلام مع ما في مخالطة المسلمين من الاطّلاع على محاسن الإسلام‏.‏

ج - الجزية وسيلة للتّخلّص من الاستئصال والاضطهاد‏:‏

14 - الجزية نعمة عظمى تسدى لأهل الذّمّة، فهي تعصم أرواحهم وتمنع عنهم الاضطهاد، وقد أدرك هذه النّعمة أهل الذّمّة الأوائل، فلمّا ردّ أبو عبيدة الجزية على أهل حمص لعدم استطاعته توفير الحماية لهم قالوا لولاته‏:‏ ‏"‏ واللّه لولايتكم وعدلكم، أحبّ إلينا ممّا كنّا فيه من الظّلم والغشم ‏"‏ فقد أقرّ أهل حمص بأنّ حكم المسلمين مع خلافهم لهم في الدّين، أحبّ إليهم من حكم أبناء دينهم، وذلك لما ينطوي عليه ذلك الحكم من ظلم وجور واضطهاد وعدم احترام للنّفس الإنسانيّة‏.‏

فإذا قارنّا بين الجزية بما انطوت عليه من صغار، وبين تلك الأعمال الوحشيّة الّتي يمارسها أهل العقائد مع المخالفين لهم في المعتقد، تكون الجزية نعمة مسداة إلى أهل الذّمّة، ورحمة مهداة إليهم، وهي تستلزم شكر اللّه تعالى، والاعتراف بالجميل للمسلمين‏.‏

د - الجزية مورد ماليّ تستعين به الدّولة الإسلاميّة في الإنفاق على المصالح العامّة والحاجات الأساسيّة للمجتمع‏:‏

15 - تعتبر الجزية موردا ماليّا من موارد الدّولة الإسلاميّة، تنفق منه على المصالح العامّة والحاجات الأساسيّة للمجتمع‏:‏ كالدّفاع عن البلاد، وتوفير الأمن في المجتمع، وتحقيق التّكافل الاجتماعيّ، والمرافق العامّة‏:‏ كبناء المدارس والمساجد والجسور والطّرق وغير ذلك‏.‏ قال ابن العربيّ في بيان الحكمة من مشروعيّة الجزية‏:‏ ‏"‏ في أخذها معونة للمسلمين ورزق حلال ساقه اللّه إليهم ‏"‏‏.‏

وجاء في مغني المحتاج‏:‏ ‏"‏ بل هي نوع إذلال لهم ومعونة لنا ‏"‏‏.‏

وجباية المال ليست هي الهدف الأساسيّ من تشريع الجزية، وإنّما الهدف الأساسيّ هو تحقيق خضوع أهل الذّمّة إلى حكم المسلمين، والعيش بين ظهرانيهم ليطّلعوا على محاسن الإسلام وعدل المسلمين، فتكون هذه المحاسن بمثابة الأدلّة المقنعة لهم على الإقلاع عن الكفر والدّخول في الإسلام، والّذي يؤيّد ذلك أنّ الجزية تسقط عمّن وجبت عليه بمجرّد دخوله في الإسلام، وأنّ الحكومة الإسلاميّة لا تقدم على فرض الجزية على الأفراد إلاّ بعد تخييرهم بين الإسلام والجزية، وهي تفضّل دخول أهل البلاد المفتوحة في الإسلام وإعفاءهم من الجزية على البقاء في الكفر ودفع الجزية ‏;‏ لأنّها دولة هداية لا جباية‏.‏

جاء في تاريخ الطّبريّ عن زياد بن جزء الزّبيديّ قال‏:‏ ‏"‏ كتب عمر إلى عمرو بن العاص‏.‏‏.‏ فاعرض على صاحب الإسكندريّة أن يعطيك الجزية على أن تخيّروا من في أيديكم من سبيهم بين الإسلام وبين دين قومه، فمن اختار منهم الإسلام فهو من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم، ومن اختار دين قومه وضع عليه من الجزية ما يوضع على أهل دينه ‏"‏ ثمّ قال‏:‏ ‏"‏ فجمعنا ما في أيدينا من السّبايا واجتمعت النّصارى، فجعلنا نأتي بالرّجل ممّن في أيدينا، ثمّ نخيّره بين الإسلام وبين النّصرانيّة، فإذا اختار الإسلام كبّرنا تكبيرة هي أشدّ من تكبيرنا حين نفتح القرية، ثمّ نحوزه إلينا‏.‏ وإذا اختار النّصرانيّة نخرت النّصارى - أي أخرجوا أصواتاً من أنوفهم - ثمّ حازوه إليهم ووضعنا عليه الجزية، وجزعنا من ذلك جزعاً شديداً حتّى كأنّه رجل خرج منّا إليهم‏.‏‏.‏ فكان ذلك الدّأب حتّى فرغنا منهم ‏"‏‏.‏

أنواع الجزية

قسّم الفقهاء الجزية - باعتبارات مختلفة - إلى أقسام، فقسّموها - باعتبار رضا المأخوذ منه وعدم رضاه - إلى صلحيّة وعنويّة‏.‏

وقسّموها - باعتبار محلّها‏:‏ هل تكون على الرّءوس أو على الأموال الّتي يكتسبها الذّمّيّ ‏؟‏ إلى جزية رءوس وجزية عشريّة‏.‏

وقسّموها - باعتبار النّظر إلى طبقات النّاس وأوصافهم وعدم النّظر إليها - إلى جزية أشخاص، وجزية طبقات أو أوصاف‏.‏

أوّلاً‏:‏ الجزية الصّلحيّة والعنويّة

16 - صرّح بهذا التّقسيم الحنفيّة والمالكيّة، ولا يرد هذا التّقسيم عند الشّافعيّة والحنابلة، لأنّهم يرون عدم وجوب الجزية على المغلوبين بدون رضاهم‏.‏

فالجزية الصّلحيّة‏:‏ هي الّتي توضع على أهل الذّمّة بالتّراضي والصّلح‏.‏

وعرّفها العدويّ بأنّها‏:‏ ما التزم كافر قبل الاستعلاء عليه أداءه مقابل إبقائه في بلاد الإسلام ويمثّل لهذا النّوع بما وقع من صلح النّبيّ صلى الله عليه وسلم لأهل نجران على ألفي حلّة، وكذا ما وقع من صلح عمر رضي الله عنه لأهل بيت المقدس‏.‏

وأمّا الجزية العنويّة‏:‏ فهي الّتي توضع على أهل البلاد المفتوحة عنوة بدون رضاهم، فيضعها الإمام على المغلوبين الّذين أقرّهم على أرضهم‏.‏

وقد عرّفها ابن عرفة بأنّها‏:‏ ‏"‏ ما لزم الكافر من مال لأمنه باستقراره تحت حكم الإسلام وصونه، ويمثّل لهذا النّوع بما فرضه عمر بن الخطّاب على أهل الذّمّة في سواد العراق ‏"‏‏.‏

الفرق بين الجزية الصّلحيّة والجزية العنويّة

17 - تفترق الجزية الصّلحيّة عن الجزية العنويّة من عدّة وجوه وهي‏:‏

أ - الجزية الصّلحيّة توضع على أهل الصّلح من الكافرين الّذين طلبوا باختيارهم ورضاهم من المسلمين المصالحة على الجزية‏.‏

أمّا الجزية العنويّة فهي الّتي تفرض على المغلوبين بدون رضاهم‏.‏

ب - الجزية العنويّة محدّدة المقدار عند بعض الفقهاء كما سنبيّن في مقدار الجزية‏.‏

أمّا الجزية الصّلحيّة فليس لها حدّ معيّن وإنّما تكون بحسب ما يقع عليه الاتّفاق‏.‏

ت - الجزية العنويّة يشترط لها شروط معيّنة كالعقل والبلوغ والذّكورة‏.‏

أمّا الجزية الصّلحيّة فلا يشترط لها هذه الشّروط، فإذا صالح الإمام أهل بلد على أن يعطوا الجزية عن أولادهم الصّغار، وعن النّساء جاز للإمام أخذها منهم‏.‏

ث - الجزية العنويّة تضرب على الأشخاص ولا تضرب على الأموال‏.‏

أمّا الجزية الصّلحيّة فيجوز أن تضرب على الأموال كما تضرب على الأشخاص، فيجوز ضربها على الماشية وأرباح المهن الحرّة وغير ذلك‏.‏

ج - الجزية العنويّة تضرب على الأشخاص تفصيلاً ولا تضرب عليهم إجمالاً‏.‏

أمّا الجزية الصّلحيّة فيجوز ضربها على أهل الذّمّة إجمالاً وتفصيلاً، فيجوز ضربها على أهل بلد بمقدار معيّن يدفعونه عن أنفسهم كلّ سنة، كالصّلح الّذي وقع بين رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأهل نجران، فقد صالحهم على ألفي حلّة في السّنة‏.‏

ثانياً‏:‏ جزية الرّؤوس، والجزية على الأموال

قسّم الفقهاء الجزية - باعتبار المحلّ الّذي تجب فيه - إلى جزية رؤوس وجزية على الأموال‏.‏

18 - فجزية الرّؤوس توضع على الأشخاص‏:‏ كدينار على كلّ شخص، ومن ذلك جزية أهل اليمن، حيث وضع الرّسول صلى الله عليه وسلم على كلّ حالم ديناراً‏.‏

والجزية العشريّة‏:‏ ما يفرض على أهل الذّمّة في أموالهم‏:‏ كالعشر أو نصف العشر ومن ذلك «ما وقع من صلح رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لأهل ‏"‏ مقنا ‏"‏ على ربع عروكهم وغزولهم وربع ثمارهم»‏.‏ وكذا ما وقع من صلح عمر رضي الله عنه لنصارى بني تغلب على نصف عشر أموالهم، أو ضعف ما يجب على المسلمين في أموالهم من الزّكاة‏.‏

فالجزية العشريّة - بهذا الوصف - تدخل تحت الجزية الصّلحيّة الّتي تتمّ بالاتّفاق بين الإمام أو نائبه وبين أهل الذّمّة، فيجوز الصّلح على جزء من أموالهم كما يجوز على أشخاصهم‏.‏ ويرجع لمعرفة أحكامها إلى مصطلح‏:‏ ‏(‏عشر‏)‏‏.‏

طبيعة الجزية

19 - اختلف الفقهاء في حقيقة الجزية، هل هي عقوبة على الإصرار على الكفر، أم أنّها عوض عن معوّض، أم أنّها صلة ماليّة وليست عوضا عن شيء ‏؟‏

فذهب أبو حنيفة وبعض المالكيّة إلى أنّها وجبت عقوبة على الإصرار على الكفر، ولهذا لا تقبل من الذّمّيّ إذا بعث بها مع شخص آخر، بل يكلّف أن يأتي بها بنفسه، فيعطي قائما والقابض منه قاعد‏.‏

واستدلّوا لذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيةَ عَنْ يَدٍ وهم صَاغِرُون‏}‏‏.‏

قال ابن عبّاس - في تفسير قوله‏:‏ ‏{‏عَنْ يَدٍ‏}‏ - يدفعها بنفسه غير مستنيب فيها أحداً‏.‏

فلا بدّ من أداء الجزية وهو بحالة الذّلّ والصّغار عقوبة له على الإصرار على الكفر‏.‏

ولأنّ الجزية مشتقّة من الجزاء، وهو إمّا أن يطلق على الثّواب بسبب الطّاعة، وإمّا أن يطلق على العقوبة بسبب المعصية‏.‏ ولا شكّ في انتفاء الأوّل، لأنّ الكفر معصية وشرّ، وليس طاعة فيتعيّن الثّاني للجزاء‏:‏ وهو العقوبة بسبب الكفر‏.‏ قال ابن العربيّ‏:‏ واستدلّ علماؤنا على أنّها عقوبة بأنّها وجبت بسبب الكفر وهو جناية، فوجب أن يكون مسبّبها عقوبة، ولذلك وجبت على من يستحقّ العقوبة وهم البالغون العقلاء المقاتلون‏.‏

ولأنّ الواجب في حقّ الكفّار ابتداء هو القتل عقوبة لهم على الكفر، فلمّا دفع عنهم القتل بعقد الذّمّة الّذي يتضمّن الجزية، صارت الجزية عقوبة بدل عقوبة القتل‏.‏

وذهب جمهور الفقهاء‏:‏ إلى أنّ الجزية تجب على أهل الذّمّة عوضا عن معوّض، ثمّ اختلفوا بعد ذلك في المعوّض الّذي تجب الجزية بدلاً عنه‏.‏

فقال بعض فقهاء الحنفيّة‏:‏ الجزية تجب عوضا عن النّصرة‏:‏ ويقصدون بذلك نصرة المقاتلة الّذين يقومون بحماية دار الإسلام والدّفاع عنها‏.‏

واستدلّوا لذلك بأنّ النّصرة تجب على جميع رعايا الدّولة الإسلاميّة ومنهم أهل الذّمّة‏.‏ فالمسلمون يقومون بنصرة المقاتلة‏:‏ إمّا بأنفسهم، وإمّا بأموالهم، فيخرجون معهم للجهاد في سبيل اللّه، وينفقون من أموالهم في سبيل اللّه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏يا أَيُّها الَّذينَ آمَنُوا هل أَدُلُّكُمْ على تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤمنونَ باللَّهِ وَرَسُولِهِ وتُجَاهِدُونَ في سَبيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُم وأنْفُسِكُم ذَلِكُم خَيرٌ لكم إنْ كُنْتُم تَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏

ولمّا فاتت النّصرة من أهل الذّمّة بأنفسهم بسبب إصرارهم على الكفر، تعيّنت عليهم النّصرة بالمال‏:‏ وهي الجزية‏.‏ وقال الشّافعيّة والحنابلة وبعض فقهاء الحنفيّة والمالكيّة‏:‏ الجزية تجب بدلا عن العصمة أو حقن الدّم، كما تجب عوضاً عن سكنى دار الإسلام والإقامة فيها‏.‏ فإذا كانت عوضا عن العصمة وحقن الدّم تكون في معنى بدل الصّلح عن دم العمد‏.‏

وإذا كانت عوضاً ما عن السّكنى في دار الإسلام والإقامة فيها، تكون في معنى بدل الإجارة‏.‏ واستدلّوا على كونها بدلاً عن العصمة أو حقن الدّم بآية الجزية المتقدّمة، فقد أباح اللّه تعالى دماء الكفّار ثمّ حقنها بالجزية، فكانت الجزية عوضا عن حقن الدّم‏.‏

واستدلّوا على كونها عوضاً عن سكنى الدّار بأنّ الكفّار مع الإصرار على الكفر وعدم الخضوع لأحكام الإسلام بعقد الذّمّة لا يقرّون في دارنا، ولا يصيرون من أهل تلك الدّار إلاّ بعقد الذّمّة وأداء الجزية‏.‏ فتكون الجزية بذلك بدلاً عن سكنى دار الإسلام‏.‏

وقد ردّ ابن القيّم هذا القول من وجوه كثيرة‏.‏

وذهب بعض فقهاء الحنفيّة إلى أنّ الجزية صلة ماليّة تجب على أهل الذّمّة، وليست بدلاً عن شيء، فهي ليست بدلا عن حقن الدّم، لأنّ قتل الكافر جزاء مستحقّ لحقّ اللّه تعالى، فلا يجوز إسقاطه بعوض ماليّ أصلاً كالحدود، ولذا لا تجب على الفقير العاجز وتسقط بالموت قبل الأداء‏.‏ وهي ليست بدلاً عن سكنى الدّار، لأنّ الذّمّيّ يسكن ملك نفسه‏.‏

عقد الذّمّة

20 - يترتّب على عقد الذّمّة لزوم الجزية لأهل الذّمّة‏.‏

فعقد الذّمّة هو‏:‏ التزام تقرير الكفّار في دارنا وحمايتنا لهم، والذّبّ عنهم بشرط بذل الجزية‏.‏

إجابة الكافر إلى عقد الذّمّة بالجزية

21 - قال النّوويّ‏:‏ إذا طلبت طائفة عقد الذّمّة وكانت ممّن يجوز إقرارهم بدار الإسلام بالجزية وجبت إجابتهم ما لم تخف غائلتهم، أي غدرهم بتمكينهم من الإقامة في دار الإسلام، فلا يجوز عقدها لما فيه من الضّرر علينا، وهو مذهب الحنابلة واحتجّوا بقوله تعالى‏:‏

‏{‏قَاتِلُوا الَّذينَ لا يُؤمنونَ باللَّهِ ولا باليومِ الآخرِ‏}‏‏.‏ ‏{‏حتَّى يُعْطُوا الجِزيةَ عَنْ يَدٍ وهم صَاغِرُون‏}‏ فجعل إعطاء الجزية غاية لقتالهم فمتى بذلوها لم يجز قتالهم‏.‏ وبقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «فادعهم إلى أداء الجزية فإن أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم»‏.‏

وفي كتاب ‏(‏البيان‏)‏ وغيره للشّافعيّة وجه أنّها لا تجب إلاّ إذا رأى الإمام فيها مصلحة كما في الهدنة‏.‏

ركنا عقد الذّمّة

22 - وركنا عقد الذّمّة‏:‏ إيجاب وقبول‏:‏ إيجاب من أهل الذّمّة، وصيغته إمّا لفظ صريح يدلّ عليه مثل لفظ العهد والعقد على أسس معيّنة، وإمّا فعل يدلّ على قبول الجزية، كأن يدخل حربيّ دار الإسلام بأمان ويمكث فيها سنة، فيطلب منه إمّا أن يخرج أو يصبح ذمّيّاً‏.‏ وأمّا القبول فيكون من إمام المسلمين، أو من ينوب عنه، ولذا لو قبل عقد الذّمّة مسلم بغير إذن الإمام لم يصحّ العقد، ويكون ذلك بمثابة عقد الأمان لا عقد الذّمّة، فيمنع ذلك المستأمن من القتل والأسر‏.‏

23 - ويشترط في عقد الذّمّة التّأبيد‏:‏ فإنّ وقّت الصّلح لم يصحّ العقد لأنّ عقد الذّمّة بالنّسبة لعصمة الإنسان في ماله ونفسه بديل عن الإسلام، والإسلام مؤبّد، فكذا بديله، وهو عقد الذّمّة‏.‏ وهذا شرط متّفق عليه‏.‏ وعقد الذّمّة عقد مؤبّد لا يملك المسلمون نقضه ما دام الطّرف الآخر ملتزما به، وينتقض من قبل أهل الذّمّة بأمور اختلف فيها، ولا ينتقض العهد بغير ذلك، لأنّ التزام الجزية باق، ويستطيع الحاكم أن يجبره على أدائها، وأمّا بقيّة المخالفات فهي معاص ارتكبوها، وهي دون الكفر، وقد أقررناهم عليه، فما دونه أولى‏.‏ فيرى المالكيّة والحنابلة أنّ العقد ينتقض بالامتناع عن أداء الجزية، أو بالاجتماع على قتال المسلمين، أو بالامتناع عن جريان أحكام الإسلام عليهم، أو سبّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أو قتل مسلم أو الزّنا بمسلمة، أو بإلحاق الضّرر بالمسلمين، وإطلاع أهل الحرب على عورات المسلمين وغير ذلك، وذلك لأنّ ارتكاب هذه الأمور يخالف مقتضى عقد الذّمّة‏.‏ ويرى الشّافعيّة أنّ العقد ينتقض بقتالهم لنا أو امتناعهم من إعطاء الجزية، أو من جريان حكم الإسلام عليهم‏.‏ أمّا لو زنى الذّمّيّ بمسلمة أو دلّ أهل الحرب على عورة للمسلمين، أو فتن مسلما عن دينه، أو طعن في الإسلام أو القرآن، أو ذكر الرّسول صلى الله عليه وسلم بسوء فالأصحّ عند الشّافعيّة أنّه إن شرط انتقاض العهد بها انتقض وإلاّ فلا ينتقض‏.‏ وينتقض عند الحنفيّة بأحد أمور ثلاثة‏:‏ وهي أن يسلم الذّمّيّ، أو يلحق بدار الحرب، أو يغلب الذّمّيّون على موضع فيحاربوننا‏.‏

محلّ الجزية

24 - الجزية تفرض على رءوس الكفّار الّذين يقيمون في دار الإسلام، ولا تؤخذ من المستأمن الّذي يدخل دار الإسلام بعقد أمان مؤقّت لقضاء غرض ثمّ يرجع، قال أبو يوسف‏:‏ إذا أطال المستأمن المقام في دار الإسلام فيؤمر بالخروج، فإن أقام بعد ذلك حولا وضعت عليه الجزية‏.‏ فمحلّ الجزية إذاً هم الذّمّيّون الّذين يقيمون في دار الإسلام إقامة دائمة أو طويلة، وكذلك المستأمنون الّذين يقيمون في دار الإسلام أكثر من سنة فتضرب عليهم الجزية، ويشترط في الذّمّيّ الّذي يجوز له الإقامة بالجزية في دار الإسلام أن يكون من الطّوائف الّتي يسمح لها بالإقامة في دار الإسلام، والّتي تقبل منها الجزية‏.‏

الطّوائف الّتي تقبل منها الجزية

25 - اتّفق الفقهاء على أنّ الجزية تقبل من أهل الكتاب والمجوس، واختلفوا في المشركين وعبدة الأوثان، كما اختلفوا في أوصاف أهل الكتاب والمجوس الّذين تقبل منهم الجزية‏.‏

أهل الكتاب

26 - اختلف العلماء في المراد بأهل الكتاب‏:‏ فذهب الحنفيّة إلى أنّ المراد بهم‏:‏ كلّ من يؤمن بنبيّ ويقرّ بكتاب، ويدخل في ذلك اليهود والنّصارى، ومن آمن بزبور داود عليه السلام وصحف إبراهيم عليه السلام، وذلك لأنّهم يعتقدون ديناً سماويّاً منزّلاً بكتاب‏.‏

وذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ المراد بهم‏:‏ اليهود والنّصارى بجميع فرقهم المختلفة دون غيرهم ممّن لا يؤمن إلاّ بصحف إبراهيم وزبور داود‏.‏

واستدلّوا لذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أنْ تَقُولُوا إنَّمَا أُنْزِلَ الكِتَابُ على طَائِفتينِ مِنْ قَبْلِنَا وإنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهمْ لَغَافِلِينَ‏}‏ فالطّائفتان اللّتان أنزل عليهما الكتاب من قبلنا هما اليهود والنّصارى، كما قال ابن عبّاس، ومجاهد، وقتادة وغيرهم من المفسّرين‏.‏ وأمّا صحف إبراهيم وداود فقد كانت مواعظ وأمثالاً لا أحكام فيها، فلم يثبت لها حكم الكتب المشتملة على أحكام‏.‏

قال الشّهرستانيّ‏:‏ أهل الكتاب‏:‏ الخارجون عن الملّة الحنيفيّة، والشّريعة الإسلاميّة، ممّن يقول بشريعة وأحكام وحدود وأعلام‏.‏‏.‏‏.‏ وما كان ينزل على إبراهيم وغيره من الأنبياء عليهم السلام ما كان يسمّى كتاباً، بل صحفاً‏.‏ وتفصيله في‏:‏ ‏(‏يهود، ونصارى‏)‏‏.‏

أخذ الجزية من أهل الكتاب العرب

27 - اتّفق الفقهاء على قبول الجزية من أهل الكتاب العجم، واختلفوا في قبولها من أهل الكتاب العرب‏.‏ فذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى قبول الجزية من أهل الكتاب العرب‏.‏ واستدلّوا لذلك بإطلاق قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَاتِلُوا الَّذينَ لا يُؤمنونَ باللَّهِ ولا باليومِ الآخرِ ولا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ ورَسُولُه ولا يَدينونَ دينَ الحَقِّ من الَّذينَ أُوتوا الكِتابَ حتَّى يُعطُوا الجِزْيةَ عَنْ يَدٍ وهم صَاغِرون‏}‏‏.‏

ولأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قبلها من أهل الكتاب العرب، فقد «أخذها من نصارى نجران، ويهود اليمن، وأكيدر دومة الجندل»‏.‏ فقد روى أبو عبيد - بسنده - عن ابن شهاب قال‏:‏ «أوّل من أعطى الجزية أهل نجران وكانوا نصارى» وأهل نجران عرب من بني الحارث بن كعب‏.‏ «وقد كتب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى معاذ - وهو باليمن - أن يأخذ من كلّ حالم ديناراً، أو عدله من المعافر، ولا يفتن يهوديّ عن يهوديّته‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ فقد ‏"‏ قبل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الجزية من أهل اليمن وهم عرب إذ كانوا أهل كتاب ‏"‏‏.‏ كما استدلّوا بالإجماع قال ابن قدامة‏:‏ ‏"‏ إنّ أبا بكر وعمر رضي الله عنهما قبلا الجزية من نصارى العرب وما أنكر عليهما أحد‏.‏ فكان ذلك إجماعاً‏.‏

وقد ثبت بالقطع واليقين أنّ كثيراً من نصارى العرب ويهوّدهم كانوا في عصر الصّحابة في بلاد الإسلام، ولا يجوز إقرارهم فيها بغير جزية، فثبت يقينا أنّهم أخذوا الجزية منهم‏.‏ وذهب بعض العلماء إلى أنّ الجزية لا تقبل من أهل الكتاب العرب‏.‏

وقد نسب الطّبريّ هذا المذهب إلى الحسن البصريّ‏.‏

المجوس

28 - والمجوس هم عبدة النّار القائلون أنّ للعالم أصلين اثنين مدبّرين، يقتسمان الخير والشّرّ، والنّفع والضّرّ، والصّلاح والفساد، أحدهما النّور، والآخر الظّلمة‏.‏ وفي الفارسيّة ‏"‏ يزدان ‏"‏ ‏"‏ وأهرمن ‏"‏‏.‏ وقد اختلف الفقهاء في حكم أخذ الجزية من المجوس‏.‏

فذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة، والمالكيّة، والشّافعيّة، والحنابلة، إلى أنّ الجزية تقبل من المجوس سواء أكانوا عرباً أم عجماً‏.‏

29 - واستدلّوا لذلك بأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قبلها من مجوس هجر أو البحرين‏.‏ روى ابن زنجويه - بسنده - إلى الحسن بن محمّد قال‏:‏ «كتب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى مجوس هجر يدعوهم إلى الإسلام‏.‏ فمن أسلم قبل منه، ومن أبى ضربت عليه الجزية، وأن لا يؤكل لهم ذبيحة، ولا تنكح لهم امرأة»‏.‏

وروى مالك في الموطّأ «أنّ عمر بن الخطّاب ذكر المجوس فقال‏:‏ ما أدري كيف أصنع في أمرهم ‏؟‏ فقال عبد الرّحمن بن عوف‏:‏ أشهد أنّي لسمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب»‏.‏

قال ابن عبد البرّ‏:‏ هذا من الكلام العامّ الّذي أريد به الخاصّ، لأنّ المراد سنّة أهل الكتاب في أخذ الجزية فقط، أي تؤخذ منهم الجزية، كما تؤخذ من أهل الكتاب، ولا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم‏.‏ وروى مالك في الموطّأ عن ابن شهاب ‏"‏ أنّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أخذها من مجوس فارس، وأنّ عثمان بن عفّان أخذها من مجوس البربر‏.‏

وقد أجمع العلماء على أخذ الجزية من المجوس، وعمل به الخلفاء الرّاشدون رضي الله عنهم ومن بعدهم من غير نكير ولا مخالف‏.‏

وقد نقل هذا الإجماع أكثر من واحد‏:‏ منهم ابن المنذر وابن قدامة‏.‏

وذهب ابن الماجشون المالكيّ إلى أنّ الجزية لا تؤخذ إلاّ من أهل الكتاب‏:‏ من اليهود والنّصارى، ولا تقبل من المجوس، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَاتِلُوا الَّذينَ لا يُؤمنونَ باللَّهِ‏}‏ الآية‏.‏ فإنّ مفهومها أنّ غير أهل الكتاب من المجوس وغيرهم لا يشاركونهم في حكم الآية‏.‏

وذهب ابن وهب المالكيّ إلى أنّ الجزية لا تقبل من المجوس العرب، لأنّه ليس في العرب مجوس إلاّ وجميعهم أسلم، فمن وجد منهم بخلاف الإسلام فهو مرتدّ‏.‏

وقد نسب هذا المذهب أيضاً إلى الحسن البصريّ‏.‏وينظر التّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏مجوس‏)‏‏.‏