فصل: رمل

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


رمضان

التّعريف

1 - رمضان اسم للشّهر المعروف، قيل في تسميته‏:‏ إنّهم لمّا نقلوا أسماء الشّهور من اللّغة القديمة سمّوها بالأزمنة الّتي وقعت فيها، فوافق هذا الشّهر أيّام رمض الحرّ، فسمّي بذلك‏.‏ ثبوت شهر رمضان‏:‏

2 - يثبت شهر رمضان برؤية هلاله، فإن تعذّرت يثبت بإكمال عدّة شعبان ثلاثين يومًا‏.‏ واختلف الفقهاء في أقلّ من تثبت الرّؤية بشهادتهم‏.‏ فذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة، إلى ثبوت شهر رمضان برؤية عدلٍ واحدٍ‏.‏ وقيّد الحنفيّة اعتبار رؤية عدلٍ واحدٍ بكون السّماء غير مصحيةٍ، بأن يكون فيها علّة من غيمٍ أو غبارٍ، أمّا إذا لم يكن في السّماء علّة فلا تثبت الرّؤية إلاّ بشهادة جمعٍ يقع العلم بخبرهم‏.‏ واستدلّ القائلون بثبوت الشّهر برؤية العدل، بحديث عبد اللّه بن عمر - رضي الله عنهما - قال‏:‏ ‏{‏تراءى النّاس الهلال، فأخبرت النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّي رأيته فصامه، وأمر النّاس بصيامه‏}‏‏.‏ واستدلّوا كذلك بحديث ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما قال‏:‏ ‏{‏جاء أعرابيّ إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إنّي رأيت الهلال - يعني رمضان - قال‏:‏ أتشهد أن لا إله إلاّ اللّه ‏؟‏ أتشهد أنّ محمّدًا رسول اللّه ‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ يا بلال، أذّن في النّاس أن يصوموا غدًا‏}‏‏.‏ وذهب المالكيّة وهو قول عند الشّافعيّة‏:‏ إلى أنّه لا يثبت شهر رمضان إلاّ برؤية عدلين واستدلّوا بحديث الحسين بن الحارث الجدليّ قال‏:‏ ‏{‏إنّ أمير مكّة - الحارث بن حاطبٍ - قال‏:‏ عهد إلينا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن ننسك للرّؤية، فإن لم نره وشهد شاهدا عدلٍ نسكنا بشهادتهما‏}‏‏.‏ والإخبار برؤية هلال رمضان متردّد بين كونه روايةً أو شهادةً، فمن اعتبره روايةً وهم الحنفيّة والحنابلة وهو قول عند الشّافعيّة قبل فيه قول المرأة‏.‏ ومن اعتبره شهادةً وهم المالكيّة وهو الأصحّ عند الشّافعيّة لم يقبل فيه قول المرأة‏.‏ فإن لم تمكن رؤية الهلال وجب استكمال عدّة شعبان ثلاثين يومًا، وهو قول الجمهور - الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ورواية في مذهب الحنابلة - واستدلّوا بحديث ابن عبّاسٍ - رضي الله عنهما - أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏{‏صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن حال بينكم وبينه سحابة، فأكملوا العدّة ولا تستقبلوا الشّهر استقبالًا‏}‏‏.‏ وفي روايةٍ‏:‏ ‏{‏لا تصوموا قبل رمضان، صوموا للرّؤية وأفطروا للرّؤية، فإن حالت دونه غياية فأكملوا ثلاثين‏}‏‏.‏ وفي روايةٍ أخرى هي المذهب عند الحنابلة أنّه إذا كانت السّماء مصحيةً ولم ير الهلال ليلة الثّلاثين أكملت عدّة شعبان ثلاثين يومًا، فإذا كان في السّماء قتر أو غيم ولم ير الهلال، قدّر شعبان تسعةً وعشرين يومًا، وصيم يوم الثّلاثين ‏(‏يوم الشّكّ‏)‏ احتياطًا بنيّة رمضان، واستدلّوا بحديث ابن عمر - رضي الله عنهما - قال‏:‏ سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏{‏إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غمّ عليكم فاقدروا له‏}‏ وفسّروا قوله‏:‏ ‏{‏فاقدروا له‏}‏ أي ضيّقوا له، وهو أن يجعل شعبان تسعةً وعشرين يومًا‏.‏ وجمهور الفقهاء على عدم اعتبار الحساب في إثبات شهر رمضان، بناءً على أنّنا لم نتعبّد إلاّ بالرّؤية‏.‏ وخالف في هذا بعض الشّافعيّة‏.‏ وانظر التّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏رؤية الهلال، وتنجيم‏)‏‏.‏

اختلاف مطالع هلال رمضان

3 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة وهو قول عند الشّافعيّة‏:‏ إلى عدم اعتبار اختلاف المطالع في إثبات شهر رمضان، فإذا ثبت رؤية هلال رمضان في بلدٍ لزم الصّوم جميع المسلمين في جميع البلاد، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏صوموا لرؤيته‏}‏ وهو خطاب للأمّة كافّةً‏.‏ والأصحّ عند الشّافعيّة اعتبار اختلاف المطالع، وتفصيل ذلك في مصطلحي‏:‏ ‏(‏رؤية الهلال، ومطالع‏)‏‏.‏

4 - واتّفق الفقهاء على اعتبار شهادة عدلين في رؤية هلال شوّالٍ، وبه ينتهي رمضان، ولم يخالف في هذا إلاّ أبو ثورٍ، فقال‏:‏ يقبل قول الواحد‏.‏ ودليل اعتبار شهادة العدلين حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم ‏{‏أنّه أجاز شهادة رجلٍ واحدٍ على رؤية الهلال - هلال رمضان - وكان لا يجيز على شهادة الإفطار إلاّ بشهادة رجلين‏}‏‏.‏ وقياسًا على باقي الشّهادات الّتي ليست مالًا، ولا يقصد منها المال، كالقصاص والّتي يطّلع عليها الرّجال غالبًا، ولأنّها شهادة على هلالٍ لا يدخل بها في العبادة، فلم تقبل فيها إلاّ شهادة اثنين كسائر الشّهود‏.‏

خصائص شهر رمضان

يختصّ شهر رمضان عن غيره من الشّهور بجملةٍ من الأحكام والفضائل‏:‏

الأولى‏:‏ نزول القرآن فيه

5 - نزل القرآن جملةً واحدةً من اللّوح المحفوظ إلى بيت العزّة في السّماء الدّنيا، وذلك في شهر رمضان، وفي ليلة القدر منه على التّعيين‏.‏ ثمّ نزل مفصّلًا بحسب الوقائع في ثلاثٍ وعشرين سنةً‏.‏ كما ورد في القرآن الكريم‏:‏ ‏{‏شهر رمضان الّذي أنزل فيه القرآن هدًى للنّاس وبيّناتٍ من الهدى والفرقان‏}‏ وقوله سبحانه تعالى‏:‏ ‏{‏إنّا أنزلناه في ليلة القدر‏}‏‏.‏ وقد جاء في التّفسير عن مجاهدٍ - رضي الله عنه - قوله‏:‏ ‏{‏ليلة القدر خير من ألف شهرٍ‏}‏، ليس في تلك الشّهور ليلة القدر »‏.‏ وورد مثله عن قتادة والشّافعيّ وغيرهما، وهو اختيار ابن جريرٍ وابن كثيرٍ‏.‏

الثّانية‏:‏ وجوب صومه

6 - صوم رمضان أحد أركان الإسلام الخمسة كما جاء في حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏{‏بني الإسلام على خمسٍ‏:‏ شهادة أن لا إله إلاّ اللّه، وأنّ محمّدًا رسول اللّه، وإقام الصّلاة، وإيتاء الزّكاة، وحجّ البيت، وصوم رمضان‏}‏‏.‏ ودلّ الكتاب الكريم على وجوب صومه، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم الصّيام كما كتب على الّذين من قبلكم لعلّكم تتّقون‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏شهر رمضان الّذي أنزل فيه القرآن هدًى للنّاس وبيّناتٍ من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشّهر فليصمه‏}‏‏.‏ الآية‏.‏ وفرضيّة صومه ممّا أجمعت عليه الأمّة‏.‏ وينظر التّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏صوم‏)‏‏.‏

الثّالثة‏:‏ فضل الصّدقة فيه

7 - دلّت السّنّة على أنّ الصّدقة في رمضان أفضل من غيره من الشّهور، من ذلك حديث ابن عبّاسٍ قال‏:‏ ‏{‏كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم أجود النّاس بالخير وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل عليه السلام يلقاه كلّ ليلةٍ في رمضان حتّى ينسلخ، يعرض عليه النّبيّ صلى الله عليه وسلم القرآن، فإذا لقيه جبريل عليه السلام كان أجود بالخير من الرّيح المرسلة‏}‏‏.‏ قال ابن حجرٍ والجود في الشّرع إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي، وهو أعمّ من الصّدقة، وأيضًا رمضان موسم الخيرات، لأنّ نعم اللّه على عباده فيه زائدة على غيره، فكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يؤثر متابعة سنّة اللّه في عباده‏.‏

الرّابعة‏:‏ أنّ ليلة القدر في رمضان

8 - فضّل اللّه تعالى رمضان بليلة القدر، وفي بيان منزلة هذه اللّيلة المباركة نزلت سورة القدر ووردت أحاديث كثيرة منها‏:‏ حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏أتاكم رمضان شهر مبارك فرض اللّه عزّ وجلّ عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السّماء، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغلّ فيه مردة الشّياطين، للّه فيه ليلة خير من ألف شهرٍ، من حرم خيرها فقد حرم‏}‏‏.‏ وحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدّم من ذنبه‏}‏ »‏.‏ وينظر التّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏ليلة القدر‏)‏‏.‏

الخامسة‏:‏ صلاة التّراويح

9 - أجمع المسلمون على سنّيّة قيام ليالي رمضان، وقد ذكر النّوويّ أنّ المراد بقيام رمضان صلاة التّراويح يعني أنّه يحصل المقصود من القيام بصلاة التّراويح‏.‏ وقد جاء في فضل قيام ليالي رمضان قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدّم من ذنبه‏}‏‏.‏ وينظر التّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏إحياء اللّيل‏)‏ ومصطلح‏:‏ ‏(‏صلاة التّراويح‏)‏‏.‏

السّادسة‏:‏ الاعتكاف فيه

10 - ذهب الفقهاء إلى أنّ الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان سنّة مؤكّدة، لمواظبة النّبيّ صلى الله عليه وسلم عليه، كما جاء في حديث عائشة - رضي الله عنها - ‏{‏أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتّى توفّاه اللّه تعالى، ثمّ اعتكف أزواجه من بعده‏}‏‏.‏ وفي حديث أبي سعيدٍ الخدريّ رضي الله عنه ‏{‏أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في العشر الأوسط من رمضان، فاعتكف عامًا حتّى إذا كان ليلة إحدى وعشرين وهي اللّيلة الّتي يخرج من صبيحتها من اعتكافه قال‏:‏ من كان اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر‏}‏‏.‏ الحديث‏.‏ ويراجع التّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏اعتكاف 5 207‏)‏‏.‏

السّابعة‏:‏ قراءة القرآن الكريم في رمضان والذّكر

11 - يستحبّ في رمضان استحبابًا مؤكّدًا مدارسة القرآن وكثرة تلاوته، وتكون مدارسة القرآن بأن يقرأ على غيره ويقرأ غيره عليه، ودليل الاستحباب ‏{‏أنّ جبريل كان يلقى النّبيّ صلى الله عليه وسلم في كلّ ليلةٍ من رمضان فيدارسه القرآن‏}‏‏.‏ وقراءة القرآن مستحبّة مطلقًا، ولكنّها في رمضان آكد‏.‏

الثّامنة‏:‏ مضاعفة ثواب الأعمال الصّالحة في رمضان

12 - تتأكّد الصّدقة في شهر رمضان، لحديث ابن عبّاسٍ المتقدّم‏;‏ لأنّه أفضل الشّهور‏;‏ ولأنّ النّاس فيه مشغولون بالطّاعة فلا يتفرّغون لمكاسبهم، فتكون الحاجة فيه أشدّ، ولتضاعف الحسنات به‏.‏ قال إبراهيم‏:‏ تسبيحة في رمضان خير من ألف تسبيحةٍ فيما سواه‏.‏

التّاسعة‏:‏ تفطير الصّائم

13 - لحديث زيد بن خالدٍ الجهنيّ رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏من فطّر صائمًا كان له مثل أجره، غير أنّه لا ينقص من أجر الصّائم شيئًا‏}‏‏.‏

العاشرة‏:‏ فضل العمرة في رمضان

14 - العمرة في رمضان أفضل من غيره من الشّهور لحديث ابن عبّاسٍ قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏عمرة في رمضان تعدل حجّةً‏}‏‏.‏

ترك التّكسّب في رمضان للتّفرّغ للعبادة

15 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ الاكتساب فرض للمحتاج إليه بقدر ما لا بدّ منه‏.‏ واختلف الفقهاء أيّهما أفضل‏:‏ الاشتغال بالكسب أفضل، أم التّفرّغ للعبادة ‏؟‏‏.‏ فذهب البعض إلى أنّ الاشتغال بالكسب أفضل‏;‏ لأنّ منفعة الاكتساب أعمّ، فمن اشتغل بالزّراعة - مثلًا - عمّ نفع عمله جماعة المسلمين، ومن اشتغل بالعبادة نفع نفسه فقط‏.‏ وبالكسب يتمكّن من أداء أنواع الطّاعات كالجهاد والحجّ والصّدقة وبرّ الوالدين وصلة الأرحام والإحسان إلى الأقارب والأجانب، وفي التّفرّغ للعبادة لا يتمكّن إلاّ من أداء بعض الأنواع كالصّوم والصّلاة‏.‏ ومن ذهب إلى أنّ الاشتغال بالعبادة أفضل احتجّ بأنّ الأنبياء والرّسل عليهم الصلاة والسلام ما اشتغلوا بالكسب في عامّة الأوقات، وكان اشتغالهم بالعبادة أكثر، فيدلّ هذا على أفضليّة الاشتغال بالعبادة‏;‏ لأنّهم عليهم الصلاة والسلام كانوا يختارون لأنفسهم أعلى الدّرجات‏.‏ وعليه فمن ملك ما يكفي حاجته في رمضان كان الأفضل في حقّه التّفرّغ للعبادة طلبًا للفضل في هذا الشّهر، وإلاّ كان الأفضل في حقّه التّكسّب حتّى لا يترك ما افترض عليه من تحصيل ما لا بدّ منه‏.‏ وقد أخرج أحمد في مسنده عن وهب بن جابرٍ الخيوانيّ قال‏:‏ شهدت عبد اللّه بن عمرٍو في بيت المقدس وأتاه مولًى له فقال‏:‏ إنّي أريد أن أقيم هذا الشّهر هاهنا - يعني رمضان - قال له عبد اللّه‏:‏ هل تركت لأهلك ما يقوتهم ‏؟‏ قال‏:‏ لا، قال‏:‏ أما لا، فارجع فدع لهم ما يقوتهم، فإنّي سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏{‏كفى بالمرء إثمًا أن يضيّع من يقوت‏}‏ وقد ترجم الخطيب في كتابه الجامع لأخلاق الرّاوي وآداب السّامع لهذا الحديث بقوله‏:‏ ذكر ما يجب على طالب الحديث من الاحتراف للعيال واكتساب الحلال‏.‏ وانظر مصطلح‏:‏ ‏(‏اكتساب‏)‏‏.‏

رمق

التّعريف

1 - الرّمق‏:‏ لغةً بقيّة الرّوح، وقال بعضهم‏:‏ إنّه القوّة، وقيل‏:‏ هو آخر النّفس، وفي الحديث عن عبد اللّه بن مسعودٍ‏:‏ أتيت أبا جهلٍ وبه رمق‏.‏ ورمقه يرمقه رمقًا‏:‏ أي أطال النّظر إليه، والرّمقة القليل من العيش الّذي يمسك الرّمق، وعيش مرمق أي قليل، وأرمق العيش أي ضعف، ومن كلامهم‏:‏ موت لا يجرّ إلى عارٍ خير من عيشٍ في رماقٍ، ويطلق الرّمق على القوّة ومنه قولهم‏:‏ يأكل المضطرّ من لحم الميتة ما يسدّ به رمقه أي ما يمسك به قوّته ويحفظها، والمرامق‏:‏ الّذي لم يبق فيه إلاّ الرّمق‏.‏ ولا يختلف معناه الاصطلاحيّ عن معناه اللّغويّ‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالرّمق

أ - التّوبة في الرّمق الأخير‏:‏

2 - بحث الفقهاء حكم توبة من كان في الرّمق الأخير من حياته‏.‏ فذهب جمهورهم إلى أنّه لا تقبل توبة من حضره الموت، وشاهد الأحوال الّتي لا يمكن معها الرّجوع إلى الدّنيا، وعاين ملك الموت وانقطع حبل الرّجاء منه‏;‏ لأنّ تلك الحالة أشبه شيءٍ بالآخرة‏.‏ ولأنّ من شروط التّوبة عزمه على ألاّ يعود، وذلك إنّما يتحقّق مع تمكّن التّائب من الذّنب وبقاء أوان الاختيار‏.‏ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وليست التّوبة للّذين يعملون السّيّئات حتّى إذا حضر أحدهم الموت قال إنّي تبت الآن ولا الّذين يموتون وهم كفّار‏}‏‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏إنّ اللّه عزّ وجلّ يقبل توبة العبد ما لم يغرغر‏}‏‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ تصلح توبته في هذا الوقت لأنّ الرّجاء باقٍ ويصحّ منه النّدم والعزم على ترك الفعل لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو الّذي يقبل التّوبة عن عباده‏}‏ الآية والتّفاصيل في مصطلح ‏(‏توبة، إياس‏)‏

ب - القود على من قتل شخصًا في الرّمق الأخير‏:‏

3 - اتّفق الفقهاء على أنّه لو وجدت جناية من شخصٍ، فأوصل إنسانًا إلى حركة مذبوحٍ بأن لم يبق له إبصار ونطق وحركة اختياريّة، ثمّ جنى عليه آخر بفعلٍ مزهقٍ، فالقاتل هو الأوّل، ويعزّر الثّاني لأنّه اعتدى على حرمة الميّت، وإن جنى الثّاني قبل وصول المجنيّ عليه إلى حركة المذبوح بفعلٍ مزهقٍ كحزّ رقبةٍ، فالقاتل هو الثّاني، وعلى الأوّل قصاص العضو أو ديته‏.‏ وأنّه لو كان جرح الأوّل يفضي إلى الموت لا محالة إلاّ أنّه لم يصل إلى الرّمق الأخير، ولم يخرج من الحياة المستقرّة، فضرب الثّاني عنقه، فالقاتل هو الثّاني أيضًا لأنّه فوّت حياةً مستقرّةً، بدليل‏:‏ أنّ عمر رضي الله عنه لمّا جرح دخل عليه الطّبيب فسقاه لبنًا فخرج صلدًا أبيض ‏(‏أي ينصبّ‏)‏ فعلم الطّبيب أنّه ميّت فقال‏:‏ اعهد إلى النّاس، فعهد إليهم وأوصى وجعل الخلافة إلى أهل الشّورى، فقبل الصّحابة رضي الله عنهم عهده وأجمعوا على قبول وصاياه‏.‏ أمّا لو كان وصول المجنيّ عليه إلى الرّمق الأخير بسبب مرضٍ لا بسبب جنايةٍ، بأن كان في حالة النّزع وعيشه عيش مذبوحٍ، أو بدت عليه مخايل الموت، أو قتل مريضًا لا يرجى برؤه، وجب القصاص على القاتل لأنّ هذه الأمور غير مقطوعٍ بها، وقد يظنّ ذلك ثمّ يشفى‏.‏ ولأنّ المريض لم يسبق فيه فعل يحال القتل وأحكامه عليه حتّى يهدر الفعل الثّاني‏.‏ والتّفاصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏قصاص، دية، وقتل‏)‏

ج - سدّ الرّمق بأكل ما هو محرّم‏:‏

4 - أجمع الفقهاء على أنّ للمضطرّ أن يأكل من لحم الميتة والخنزير وغيرهما من المحرّمات ما يسدّ به رمقه، ويحفظ به قوّته وصحّته وحياته لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنّما حرّم عليكم الميتة والدّم ولحم الخنزير وما أهلّ به لغير اللّه فمن اضطرّ غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه إنّ اللّه غفور رحيم‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حرّمت عليكم الميتة والدّم ولحم الخنزير وما أهلّ لغير اللّه به والمنخنقة والموقوذة والمتردّية والنّطيحة وما أكل السّبع إلاّ ما ذكّيتم‏}‏ - إلى أن قال - ‏{‏فمن اضطرّ في مخمصة غير متجانفٍ لإثمٍ فإنّ اللّه غفور رحيم‏}‏ واختلفوا في وجوب أكل هذه المحرّمات على من خاف على نفسه موتًا أو ضررًا كبيرًا من عدم الأكل، كما اختلفوا في القدر الّذي يأكل منه هل يكتفي بسدّ الرّمق أم يشبع منه، وهل هناك فرق بين المسافر والمقيم أم لا ‏؟‏ وتفاصيل ذلك في مصطلح‏:‏ ‏(‏ضرورة‏)‏‏.‏

د - ذبح الحيوان الّذي وصل إلى الرّمق الأخير‏:‏

5 - الحياة المستقرّة عند الذّبح شرط لحلّ أكل المذبوح سواء كانت هذه الحياة حقيقيّةً أو مظنونةً بعلاماتٍ وقرائن‏.‏ فإن مرض الحيوان أو جاع فذبح وقد صار في آخر رمقٍ من الحياة حلّ أكله لأنّه لم يوجد سبب يحال عليه الهلاك، ولو مرض بأكل نباتٍ مضرٍّ حتّى صار في آخر رمقٍ فذبحه لم يحلّ أكله لكون هذا سببًا يحال عليه الهلاك‏.‏ وتفاصيل ذلك في مصطلح‏:‏ ‏(‏ذبائح‏)‏‏.‏

رمل

التّعريف

1 - الرّمل - بتحريك الميم -‏:‏ الهرولة‏.‏ رمل يرمل رملًا ورملانًا‏.‏ كما في القاموس وغيره‏.‏ وأحسن بيانٍ لمعنى الرّمل قول صاحب النّهاية‏:‏ رمل يرمل رملًا ورملانًا‏:‏ إذا أسرع في المشي وهزّ كتفيه »‏.‏

الحكم التّكليفي

2 - الرّمل سنّة من سنن الطّواف، يسنّ في الأشواط الثّلاثة الأولى من كلّ طوافٍ بعده سعي، وعليه جمهور الفقهاء، وسنّيّة الرّمل هذه خاصّة بالرّجال فقط دون النّساء‏.‏ انظر مصطلح‏:‏ ‏(‏طواف‏)‏‏.‏

رمي

التّعريف

1 - الرّمي لغةً‏:‏ يطلق بمعنى القذف، وبمعنى الإلقاء، يقال‏:‏ رميت الشّيء وبالشّيء، إذا قذفته، ورميت الشّيء من يدي أي‏:‏ ألقيته فارتمى، ورمى بالشّيء أيضًا ألقاه، كأرمى، يقال‏:‏ أرمى الفرس براكبه إذا ألقاه‏.‏ ورمى السّهم عن القوس وعليها، لا بها، رميًا ورمايةً‏.‏ ولا يقال‏:‏ رميت بالقوس إلاّ إذا ألقيتها من يدك، ومنهم من يجعله بمعنى رميت عنها‏.‏ ورمى فلان فلانًا، أي قذفه بالفاحشة كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والّذين يرمون المحصنات‏}‏‏.‏ الرّمي اصطلاحًا‏:‏

2 - استعمل الفقهاء الرّمي في المعاني اللّغويّة السّابقة ومنها رمي الجمار الّذي هو منسك واجب من مناسك الحجّ‏.‏ والرّمي بالسّهام ونحوها، والرّمي بمعنى القذف‏.‏

أوّلًا‏:‏ رمي الجمار

3 - رمي الجمار، هو رمي الحصيات المعيّنة العدد في الأماكن الخاصّة بالرّمي في منًى ‏(‏الجمرات‏)‏‏.‏ وليست الجمرة هي الشّاخص ‏(‏العمود‏)‏ الّذي يوجد في منتصف المرمى، بل الجمرة هي المرمى المحيط بذلك الشّاخص، فليتنبّه لذلك‏.‏

4 - والجمرات الّتي ترمى ثلاثة، هي‏:‏

أ - الجمرة الأولى‏:‏ وتسمّى الصّغرى، أو الدّنيا، وهي أوّل جمرةٍ بعد مسجد الخيف بمنًى، سمّيت ‏"‏ دنيا ‏"‏ من الدّنوّ‏;‏ لأنّها أقرب الجمرات إلى مسجد الخيف‏.‏

ب - الجمرة الثّانية‏:‏ وتسمّى الوسطى، بعد الجمرة الأولى، وقبل جمرة العقبة‏.‏

ج - جمرة العقبة‏:‏ وهي الثّالثة، وتسمّى أيضًا ‏"‏ الجمرة الكبرى ‏"‏ وتقع في آخر منًى تجاه مكّة، وليست من منًى‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ منًى‏)‏‏.‏ وترمى هذه الجمرات كلّها من جميع الجهات‏.‏

الحكم التّكليفيّ لرمي الجمار

5 - اتّفق الفقهاء على أنّ رمي الجمار واجب من واجبات الحجّ‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ حجّ ف 153 - 165‏)‏‏.‏ واستدلّوا على ذلك بالسّنّة والإجماع‏.‏ أمّا السّنّة فالأحاديث كثيرة منها‏:‏ حديث عبد اللّه بن عمرو بن العاص ‏{‏أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقف في حجّة الوداع بمنًى للنّاس يسألونه، فجاءه رجل فقال‏:‏ لم أشعر، فحلقت قبل أن أذبح ‏؟‏ قال‏:‏ اذبح ولا حرج فجاء آخر فقال‏:‏ لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي ‏؟‏ قال‏:‏ ارم ولا حرج‏}‏ الحديث، فقد أمر بالرّمي، والأمر للوجوب‏.‏ وكذلك فعله صلى الله عليه وسلم وقد ثبت عنه في الأحاديث الكثيرة الصّحيحة، وقد قال‏:‏ ‏{‏خذوا عنّي مناسككم‏}‏‏.‏ وأمّا الإجماع‏:‏ فقول الكاسانيّ‏:‏ إنّ الأمّة أجمعت على وجوبه، فيكون واجبًا‏.‏ وما روي عن الزّهريّ من أنّه ركن من أركان الحجّ فهو قول شاذّ مخالف لإجماع من قبله، وقد بيّن العلماء بطلانه‏.‏

شروط صحّة رمي الجمار

6 - يشترط لصحّة رمي الجمار شروط هي‏:‏

أ - سبق الإحرام بالحجّ‏:‏ لأنّه شرط لصحّة كلّ أعمال الحجّ‏.‏

ب - سبق الوقوف بعرفة‏:‏ لأنّه ركن إذا فات فات الحجّ، والرّمي مرتّب عليه‏.‏

ج - أن يكون المرميّ حجرًا‏:‏ فلا يصحّ الرّمي بالطّين، والمعادن، والتّراب عند الجمهور ‏(‏المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة‏)‏ ويصحّ بالمرمر، وحجر النّورة أي الجصّ قبل طبخه، ويجزئ حجر الحديد على الصّحيح عند الشّافعيّة لأنّه حجر في هذه الحال، إلاّ أنّ فيه حديدًا كامنًا يستخرج بالعلاج، وفيما يتّخذ منه الفصوص كالفيروزج، والياقوت، والعقيق، والزّمرّد، والبلّور، والزّبرجد وجهان عند الشّافعيّة أصحّهما الإجزاء لأنّها أحجار‏.‏ وذهب الحنفيّة إلى أنّ الشّرط في المرميّ أن يكون من جنس الأرض، فيصحّ عندهم الرّمي بالتّراب، والطّين، والجصّ، والكحل، والكبريت، والزّبرجد، والزّمرّد، والبلّور، والعقيق، ولا يصحّ بالمعادن، والذّهب، والفضّة، واختلفوا في جواز الرّمي بالفيروزج والياقوت‏:‏ منعه الشّارحون وغيرهم، بناءً على أنّه يشترط كون الرّمي بالرّمي به استهانةً‏.‏ وأجازه غيرهم بناءً على نفي ذلك الاشتراط‏.‏ استدلّ الجمهور بما ثبت من فعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم كما في حديث جابرٍ ‏{‏يصف رمي جمرة العقبة‏:‏ فرماها بسبع حصياتٍ - يكبّر مع كلّ حصاةٍ منها - مثل حصى الخذف‏}‏‏.‏ وبقوله صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرةٍ‏:‏ ‏{‏ارموا الجمار بمثل حصى الخذف‏}‏ وفي عددٍ منها أنّه قال ذلك ‏{‏وهو واضع أصبعيه إحداهما على الأخرى‏}‏‏.‏ قال النّوويّ‏:‏ فأمر صلى الله عليه وسلم بالحصى، فلا يجوز العدول عنه، والأحاديث المطلقة محمولة على هذا المعنى »‏.‏ واستدلّ الحنفيّة بالأحاديث الواردة في الأمر بالرّمي مطلقةً عن صفةٍ مقيّدةٍ، كقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏ارم ولا حرج‏}‏ متّفق عليه‏.‏ قال الكاسانيّ‏:‏ والرّمي بالحصى من النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم محمول على الأفضليّة، توفيقًا بين الدّلائل، لما صحّ من مذهب أصحابنا أنّ المطلق لا يحمل على المقيّد، بل يجري المطلق على إطلاقه، والمقيّد على تقييده ما أمكن، وهاهنا أمكن بأن يحمل المطلق على الجواز، والمقيّد على الأفضليّة‏.‏ وقال الحنفيّة أيضًا‏:‏ إنّ المقصود فعل الرّمي، وذلك يحصل بالطّين، كما يحصل بالحجر، بخلاف ما إذا رمى بالذّهب أو الفضّة‏;‏ لأنّه يسمّى نثرًا لا رميًا‏.‏ ولا يخفى أنّ الأحوط في ذلك مذهب الجمهور، قال الكمال بن الهمام‏:‏ إنّ أكثر المحقّقين على أنّها أمور تعبّديّة، لا يشتغل بالمعنى فيها - أي بالعلّة - والحاصل أنّه إمّا أن يلاحظ مجرّد الرّمي، أو مع الاستهانة، أو خصوص ما وقع منه عليه الصلاة والسلام، والأوّل يستلزم الجواز بالجواهر، والثّاني بالبعرة والخشبة الّتي لا قيمة لها، والثّالث بالحجر خصوصًا، فليكن هذا أولى، لكونه أسلم، ولكونه الأصل في أعمال هذه المواطن، إلاّ ما قام دليل على عدم تعيينه‏.‏ أمّا صفة المرميّ به، فقد ورد في الأحاديث أنّه ‏{‏مثل حصى الخذف‏}‏ وحصى الخذف هي الّتي يخذف بها، أي ترمى بها الطّيور والعصافير، بوضع الحصاة بين أصبعي السّبّابة والإبهام وقذفها‏.‏ وقد اتّفقوا على أنّ السّنّة في الرّمي أن يكون بمثل حصى الخذف، فوق الحمّصة، ودون البندقة، وكرهوا الرّمي بالحجر الكبير، وأجاز الشّافعيّة - وهو رواية عن أحمد - الرّمي بالحجر الصّغير الّذي كالحمّصة، مع مخالفته السّنّة‏;‏ لأنّه رمي بالحجر فيجزئه‏.‏ ولم يجز ذلك المالكيّة، بل لا بدّ عندهم أن يكون أكبر من ذلك‏.‏ وقيل‏:‏ لا يجزئ الرّمي إلاّ بحصًى كحصى الخذف، لا أصغر ولا أكبر‏.‏ وهو مرويّ عن أحمد، ووجهه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بهذا القدر، ونهى عن تجاوزه، والأمر يقتضي الوجوب، والنّهي يقتضي الفساد‏.‏

د - أن يرمي الجمرة بالحصيات السّبع متفرّقاتٍ‏:‏ واحدةً فواحدةً، فلو رمى حصاتين معًا أو السّبع جملةً، فهي حصاة واحدة، ويلزمه أن يرمي بستٍّ سواها وهو المعتمد في المذاهب‏.‏ والدّليل عليه‏:‏ أنّ المنصوص عليه تفريق الأفعال فيتقيّد بالتّفريق الوارد في السّنّة‏.‏

هـ - وقوع الحصى في الجمرة الّتي يجتمع فيها الحصى‏:‏ وذلك عند الجمهور ‏(‏المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة‏)‏ قال الشّافعيّ‏:‏ الجمرة مجتمع الحصى، لا ما سال من الحصى، فمن أصاب مجتمعه أجزأه، ومن أصاب سائله لم يجزه‏.‏ وتوسّع الحنفيّة فقالوا‏:‏ لو رماها فوقعت قريبًا من الجمرة يكفيه‏;‏ لأنّ هذا القدر ممّا لا يمكن الاحتراز عنه، ولو وقعت بعيدًا منها لا يجزيه‏;‏ لأنّه لم يعرف قربه إلاّ في مكان مخصوصٍ‏.‏ قال الكاسانيّ‏:‏ لأنّ ما يقرب من ذلك المكان كان في حكمه، لكونه تبعًا له‏.‏ وأمّا مقدار المسافة القريبة، فقيل‏:‏ ثلاثة أذرعٍ فما دون، وقيل‏:‏ ذراع فأقلّ، وهو الّذي فسّره به المحقّق كمال الدّين بن الهمام، وهو أحوط‏.‏

و - أن يقصد المرمى ويقع الحصى فيه بفعله اتّفاقًا في ذلك‏:‏ فلو ضرب شخص يده فطارت الحصاة إلى المرمى وأصابته لم يصحّ‏.‏ كذلك لو رمى في الهواء فوقع الحجر في المرمى لم يصحّ‏.‏ ونصّوا على أنّه لو رمى الحصاة فانصدمت بالأرض خارج الجمرة، أو بمحملٍ في الطّريق أو ثوب إنسانٍ مثلًا ثمّ ارتدّت فوقعت في المرمى اعتدّ بها لوقوعها في المرمى بفعله من غير معاونةٍ‏.‏ ولو حرّك صاحب المحمل أو الثّوب فنفضها فوقعت في المرمى لم يعتدّ بها‏.‏ وما قاله بعض المتأخّرين من الشّافعيّة‏:‏ ليس لها إلاّ وجه واحد، ورمي كثيرين من أعلاها باطل، هو خلاف كلام الشّافعيّ نفسه، ونصّه في الأمّ‏:‏ ويرمي جمرة العقبة من بطن الوادي، ومن حيث رماها أجزأه‏.‏ والدّليل على ذلك أنّه ثبت رمي خلقٍ كثيرٍ في زمن الصّحابة من أعلاها، ولم يأمروهم بالإعادة، ولا أعلنوا بالنّداء بذلك في النّاس، وكأنّ وجه اختياره عليه الصلاة والسلام للرّمي من الوادي أنّه يتوقّع الأذى لمن في أسفلها إذا رموا من أعلاها، فإنّه لا يخلو من النّاس، فيصيبهم الحصى‏.‏ ز - ترتيب الجمرات في رمي أيّام التّشريق‏:‏ وهو أن يبدأ بالجمرة الصّغرى الّتي تلي مسجد الخيف، ثمّ الوسطى، ثمّ جمرة العقبة‏.‏ وهو مذهب الجمهور ‏(‏المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة‏)‏ فهذا التّرتيب شرط لصحّة الرّمي‏.‏ فلو عكس التّرتيب فبدأ من العقبة ثمّ الوسطى ثمّ الصّغرى وجب عليه إعادة رمي الوسطى والعقبة عندهم ليتحقّق التّرتيب‏.‏ ومذهب الحنفيّة أنّ هذا التّرتيب سنّة، إذا أخلّ به يسنّ له الإعادة‏.‏ وهو قول الحسن وعطاءٍ‏.‏ استدلّوا بأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم رتّبها كذلك، كما ثبت عن ‏{‏ابن عمر رضي الله عنهما أنّه كان يرمي الجمرة الدّنيا بسبع حصياتٍ يكبّر على إثر كلّ حصاةٍ، ثمّ يتقدّم حتّى يسهل، فيقوم مستقبل القبلة، فيقوم طويلًا ويدعو ويرفع يديه، ثمّ يرمي الوسطى، ثمّ يأخذ ذات الشّمال فيستهلّ ويقوم مستقبل القبلة، فيقوم طويلًا، ويدعو، ويرفع يديه ويقوم طويلًا، ثمّ يرمي جمرة ذات العقبة من بطن الوادي ولا يقف عندها، ثمّ ينصرف فيقول‏:‏ هكذا رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم يفعله‏}‏‏.‏ فاستدلّ به الجمهور على وجوب ترتيب الجمرات، كما فعله النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏.‏ وفسّره الحنفيّة بأنّه على سبيل السّنّيّة، لا الوجوب، واستدلّ لهم بحديث ابن عبّاسٍ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏{‏من قدّم من نسكه شيئًا أو أخّره فلا شيء عليه‏}‏‏.‏

ح - ‏(‏الوقت‏)‏‏:‏ فللرّمي أوقات يشترط مراعاتها، في رمي العدد الواجب في كلٍّ منها‏.‏ تفصيله فيما يلي‏:‏ وقت الرّمي وعدده‏:‏

7 - وقت رمي الجمار أربعة أيّامٍ لمن لم يتعجّل هي‏:‏ يوم النّحر ‏"‏ وثلاثة أيّامٍ بعده، وتسمّى ‏"‏ أيّام التّشريق »‏.‏ سمّيت بذلك لأنّ لحوم الهدايا تشرّق فيها، أي تعرّض للشّمس لتجفيفها‏.‏

أ - الرّمي يوم النّحر‏:‏

8 - يجب في يوم النّحر رمي جمرة العقبة وحدها فقط، يرميها بسبع حصياتٍ‏.‏ وأوّل وقت الرّمي ليوم النّحر يبدأ من طلوع فجر يوم النّحر عند الحنفيّة والمالكيّة وفي روايةٍ عن أحمد‏.‏ وهذا الوقت عندهم أقسام‏:‏ ما بعد طلوع الفجر من يوم النّحر إلى طلوع الشّمس وقت الجواز مع الإساءة، وما بعد طلوع الشّمس إلى الزّوال وقت مسنون، وما بعد الزّوال إلى الغروب وقت الجواز بلا إساءةٍ، واللّيل وقت الجواز مع الإساءة عند الحنفيّة فقط ولا جزاء فيه‏.‏ أمّا عند المالكيّة فينتهي الوقت بغروب الشّمس، وما بعده قضاء يلزم فيه الدّم‏.‏ وتحديد الوقت المسنون مأخوذ من فعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم فإنّه رمى في ذلك الوقت‏.‏ وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ أوّل وقت جواز الرّمي يوم النّحر إذا انتصفت ليلة يوم النّحر لمن وقف بعرفة قبله‏.‏ وهذا الوقت ثلاثة أقسامٍ‏:‏ وقت فضيلةٍ إلى الزّوال، ووقت اختيارٍ إلى الغروب، ووقت جوازٍ إلى آخر أيّام التّشريق‏.‏ استدلّ الحنفيّة بحديث ابن عبّاسٍ ‏{‏أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعثه في الثّقل وقال‏:‏ لا ترموا الجمرة حتّى تصبحوا‏}‏‏.‏ فأثبتوا جواز الرّمي ابتداءً من الفجر بهذا الحديث‏.‏ وعن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما قال‏:‏ ‏{‏كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقدّم ضعفاء أهله بغلسٍ، ويأمرهم يعني لا يرمون الجمرة حتّى تطلع الشّمس‏}‏‏.‏ فأثبتوا بهذا الحديث الوقت المسنون‏.‏ واستدلّ الشّافعيّة والحنابلة بحديث عائشة رضي الله عنها ‏{‏أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أرسل بأمّ سلمة ليلة النّحر، فرمت قبل الفجر، ثمّ مضت فأفاضت‏}‏‏.‏ وجه الاستدلال أنّه علّق الرّمي بما قبل الفجر، وهو تعبير صالح لجميع اللّيل، فجعل النّصف ضابطًا له‏;‏ لأنّه أقرب إلى الحقيقة ممّا قبل النّصف‏.‏ أمّا آخر وقت الرّمي يوم النّحر فهو عند الحنفيّة إلى فجر اليوم التّالي، فإذا أخّره عنه بلا عذرٍ لزمه القضاء في اليوم التّالي، وعليه دم للتّأخير، ويمتدّ وقت القضاء إلى آخر أيّام التّشريق‏.‏ وعند المالكيّة‏:‏ آخر وقت الرّمي إلى المغرب، وما بعده قضاء، ويجب الدّم إن أخّره إلى المغرب على المشهور عندهم‏.‏ وآخر وقت الرّمي أداءً عند الشّافعيّة والحنابلة يمتدّ إلى آخر أيّام التّشريق‏;‏ لأنّها كلّها أيّام رميٍ‏.‏ واستدلّ أبو حنيفة بحديث ابن عبّاسٍ‏:‏ ‏{‏أنّه صلى الله عليه وسلم سأله رجل قال‏:‏ رميت بعدما أمسيت ‏؟‏ فقال‏:‏ لا حرج‏}‏‏.‏ وحديث ابن عبّاسٍ أيضًا ‏{‏أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم رخّص للرّعاة أن يرموا ليلًا‏}‏‏.‏ وهو يدلّ على أنّ وقت الرّمي في اللّيل جائز، وفائدة الرّخصة زوال الإساءة عنهم تيسيرًا عليهم، ولو كان الرّمي واجبًا قبل المغرب لألزمهم به‏;‏ لأنّهم يستطيعون إنابة بعضهم على الرّعي‏.‏

ب - الرّمي في اليوم الأوّل والثّاني من أيّام التّشريق‏:‏

9 - وهما اليومان الثّاني والثّالث من أيّام النّحر‏:‏ يجب في هذين اليومين رمي الجمار الثّلاث على التّرتيب‏:‏ يرمي أوّلًا الجمرة الصّغرى الّتي تلي مسجد الخيف، ثمّ الوسطى، ثمّ يرمي جمرة العقبة، يرمي كلّ جمرةٍ بسبع حصياتٍ‏.‏

1 - يبدأ وقت الرّمي في اليوم الأوّل والثّاني من أيّام التّشريق بعد الزّوال، ولا يجوز الرّمي فيهما قبل الزّوال عند جمهور العلماء، ومنهم الأئمّة الأربعة على الرّواية المشهورة الظّاهرة عن أبي حنيفة‏.‏ وروي عن أبي حنيفة أنّ الأفضل أن يرمي في اليوم الثّاني والثّالث - أي من أيّام النّحر - بعد الزّوال فإن رمى قبله جاز، وهو قول بعض الحنابلة‏.‏ وروى الحسن عن أبي حنيفة‏:‏ إن كان من قصده أن يتعجّل في النّفر الأوّل فلا بأس بأن يرمي في اليوم الثّالث قبل الزّوال، وإن رمى بعده فهو أفضل، وإن لم يكن ذلك من قصده لا يجوز أن يرمي إلاّ بعد الزّوال، وذلك لدفع الحرج‏;‏ لأنّه إذا نفر بعد الزّوال لا يصل إلى مكّة إلاّ باللّيل فيحرج في تحصيل موضع النّزول‏.‏ وهذا رواية أيضًا عن أحمد، لكنّه قال‏:‏ ينفر بعد الزّوال‏.‏ استدلّ الجمهور بفعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم كما ثبت عنه‏.‏ فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال‏:‏ ‏{‏كنّا نتحيّن، فإذا زالت الشّمس رمينا‏}‏‏.‏ وعن جابرٍ قال‏:‏ ‏{‏رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة يوم النّحر ضحًى، وأمّا بعد ذلك فإذا زالت الشّمس‏}‏‏.‏ وهذا باب لا يعرف بالقياس، بل بالتّوقيت من الشّارع، فلا يجوز العدول عنه‏.‏ واستدلّ للرّواية بجواز الرّمي قبل الزّوال بقياس أيّام التّشريق على يوم النّحر‏;‏ لأنّ الكلّ أيّام نحرٍ، ويكون فعله صلى الله عليه وسلم محمولًا على السّنّيّة‏.‏ واستدلّ لجواز الرّمي ثاني أيّام التّشريق قبل الزّوال لمن كان من قصده النّفر إلى مكّة بما ذكروا أنّه لرفع الحرج عنه‏;‏ لأنّه لا يصل إلاّ باللّيل، وقد قوّى بعض المتأخّرين من الحنفيّة هذه الرّواية توفيقًا بين الرّوايات عن أبي حنيفة‏.‏ والأخذ بهذا مناسب لمن خشي الزّحام ودعته إليه الحاجة، لا سيّما في زمننا‏.‏

2 - وأمّا نهاية وقت الرّمي في اليوم الأوّل والثّاني من أيّام التّشريق‏:‏ فقد ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ آخر الوقت بغروب شمس اليوم الرّابع من أيّام النّحر، وهو آخر أيّام التّشريق الثّلاث، فمن ترك رمي يومٍ أو يومين تداركه فيما يليه من الزّمن، والمتدارك أداء على القول الأصحّ الّذي اختاره النّوويّ واقتضاه نصّ الشّافعيّة وهكذا لو ترك رمي جمرة العقبة يوم العيد فالأصحّ أنّه يتداركه في اللّيل وفي أيّام التّشريق‏.‏ ويشترط فيه التّرتيب فيقدّمه على رمي أيّام التّشريق‏.‏ كذلك أوجب المالكيّة والحنابلة التّرتيب في القضاء‏.‏ وصرّح الحنابلة بوجوب ترتيبه في القضاء بالنّيّة‏.‏ وإن لم يتدارك الرّمي حتّى غربت شمس اليوم الرّابع فقد فاته الرّمي وعليه الفداء‏.‏ ودليلهم‏:‏ أنّ أيّام التّشريق وقت للرّمي، فإذا أخّره من أوّل وقته إلى آخره لم يلزمه شيء‏.‏ وأمّا الحنفيّة والمالكيّة فقيّدوا رمي كلّ يومٍ بيومه، ثمّ فصّلوا‏:‏ فذهب الحنفيّة إلى أنّه ينتهي رمي اليوم الثّاني من أيّام النّحر بطلوع فجر اليوم الثّالث، ورمي اليوم الثّالث بطلوع الفجر من اليوم الرّابع‏.‏ فمن أخّر الرّمي إلى ما بعد وقته فعليه قضاؤه، وعليه دم عندهم‏.‏ والدّليل على جواز الرّمي بعد مغرب نهار الرّمي حديث الإذن للرّعاء بالرّمي ليلًا‏.‏ وذهب المالكيّة إلى أنّه ينتهي الأداء إلى غروب كلّ يومٍ، وما بعده قضاء له، ويفوت الرّمي بغروب الرّابع، ويلزمه دم في ترك حصاةٍ أو في ترك الجميع، وكذا يلزمه دم إذا أخّر شيئًا منها إلى اللّيل‏.‏

ج - الرّمي ثالث أيّام التّشريق‏:‏

10 - يجب هذا الرّمي على من تأخّر ولم ينفر من منًى بعد رمي ثاني أيّام التّشريق على ما نفصّله وهذا الرّمي آخر مناسك منًى‏.‏ واتّفق العلماء على أنّ الرّمي في هذا اليوم بعد الزّوال رمي في الوقت، كما رمى في اليومين قبله، اقتداءً بفعله صلى الله عليه وسلم‏.‏ واختلفوا في جواز تقديمه‏:‏ فذهب الأئمّة الثّلاثة والصّاحبان إلى أنّه لا يصحّ الرّمي قبل الزّوال، استدلالًا بفعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقياسًا لرمي هذا اليوم على اليومين السّابقين، فكما لا يصحّ الرّمي فيهما قبل الزّوال، كذلك لا يصحّ قبل زوال اليوم الأخير‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ الوقت المستحبّ للرّمي في هذا اليوم بعد الزّوال، ويجوز أن يقدّم الرّمي في هذا اليوم قبل الزّوال، بعد طلوع الفجر‏.‏ قال في الهداية‏:‏ ومذهبه مرويّ عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما‏;‏ ولأنّه لمّا ظهر أثر التّخفيف في هذا اليوم في حقّ التّرك، فلأن يظهر في جوازه - أي الرّمي - في الأوقات كلّها أولى‏.‏ واتّفقوا على أنّ آخر وقت الرّمي في هذا اليوم غروب الشّمس، كما اتّفقوا على أنّ وقت الرّمي لهذا اليوم وللأيّام الماضية لو أخّره أو شيئًا منه يخرج بغروب شمس اليوم الرّابع، فلا قضاء له بعد ذلك، ويجب في تركه الفداء‏.‏ وذلك ‏"‏ لخروج وقت المناسك بغروب شمسه‏.‏

شروط الرّمي

10 م - يشترط لصحّة رمي الجمار ما يلي‏:‏

أ - أن يكون هناك قذف للحصاة ولو خفيفًا‏.‏ فكيفما حصل أجزأه، حتّى قال النّوويّ‏:‏ ولا يشترط وقوف الرّامي خارج المرمى، فلو وقف في طرف المرمى ورمى إلى طرفه الآخر أجزأه »‏.‏ ولو طرح الحصيات طرحًا أجزأه عند الحنفيّة والحنابلة‏;‏ لأنّ الرّمي قد وجد بهذا الطّرح، إلاّ أنّه رمي خفيف، فيجزئ مع الإساءة‏.‏ وذهب المالكيّة والشّافعيّة إلى أنّه لا يجزئه الطّرح بتاتًا‏.‏ أمّا لو وضعها وضعًا فلا يصحّ اتّفاقًا‏;‏ لأنّه ليس برميٍ‏.‏

ب - العدد المخصوص‏:‏ وهو سبع حصياتٍ لكلّ جمرةٍ، حتّى لو ترك رمي حصاةٍ واحدةٍ كان كمن ترك السّبع عند المالكيّة، وعند الجمهور تيسير بقبول صدقةٍ في ترك القليل من الحصيات، اختلفت فيه اجتهاداتهم ‏(‏ر‏:‏ حجّ ف 273‏)‏

واجب الرّمي

11 - يجب ترتيب رمي يوم النّحر بحسب ترتيب أعمال يوم النّحر، وهي هكذا‏:‏ رمي جمرة العقبة، فالذّبح، فالحلق، فطواف الإفاضة، وذلك عند الجمهور، خلافًا للشّافعيّة فإنّ ترتيبها سنّة عندهم، وعند الجمهور تفصيل واختلاف في كيفيّة هذا التّرتيب ‏(‏انظر مصطلح‏:‏ حجّ ف 195 - 196‏)‏ وسبق الحكم في ترتيب رمي الجمرات الثّلاث ‏(‏ف 6‏)‏

سنن الرّمي

12 - يسنّ في الرّمي ما يلي‏:‏

أ - أن يكون بين الرّامي وبين الجمرة خمسة أذرعٍ فأكثر، كما نصّ الحنفيّة‏;‏ لأنّ ما دون ذلك يكون طرحًا، ولو طرحها طرحًا أجزأه إلاّ أنّه مخالف للسّنّة‏.‏

ب - الموالاة بين الرّميات السّبع، بحيث لا يزيد الفصل بينها عن الذّكر الوارد‏.‏

ج - لقط الحصيات دون كسرها، وله أخذها من منزله بمنًى‏.‏

د - طهارة الحصيات، فيكره الرّمي بحصًى نجسٍ، ويندب إعادته بطاهرٍ، وفي وجهٍ اختاره بعض الحنابلة‏:‏ لا يجزئ الرّمي بنجسٍ، ويجب إعادته بطاهرٍ، لكنّ الصّحيح في مذهبهم الإجزاء مع الكراهة‏.‏

هـ - ألاّ يكون الحصى ممّا رمي به، فلو خالف ورمى بها كره، سواء كان ممّا رمى به هو أو غيره، وهو مذهب الجمهور‏.‏ وقال بعض المالكيّة‏:‏ لا يجزئ، ومذهب الحنابلة‏:‏ إن رمى بحجرٍ أخذه من المرمى لم يجزه‏.‏ استدلّ الجمهور بعموم لفظ الحصى الوارد في الأحاديث الواردة في تعليم النّبيّ صلى الله عليه وسلم الرّمي، وذلك يفيد صحّة الرّمي بما رمي به ولو أخذ من المرمى‏.‏ واستدلّ الحنابلة بأنّ ‏{‏النّبيّ صلى الله عليه وسلم أخذ من غير المرمى، وقال‏:‏ خذوا عنّي مناسككم‏}‏ ولأنّه لو جاز الرّمي بما رمي به، لما احتاج أحد إلى أخذ الحصى من غير مكانه ولا تكسيره، والإجماع على خلافه‏.‏

و - التّكبير مع كلّ حصاةٍ، ويقطع التّلبية مع أوّل حصاةٍ يرمي بها جمرة العقبة يوم النّحر عند الجمهور‏.‏ وينظر الخلاف والتّفصيل في بحث‏:‏ ‏(‏تلبية‏)‏‏.‏

ز - الوقوف للدّعاء‏:‏ وذلك إثر كلّ رميٍ بعده رمي آخر، فيقف بين الرّميّين مدّةً ويطيل الوقوف يدعو، وقدّر ذلك بمدّة ثلاثة أرباع الجزء من القرآن، وأدناه قدر عشرين آيةً‏.‏ فيسنّ أن يقف بعد رمي الجمرة الصّغرى وبعد الوسطى، لأنّه في وسط العبادة، فيأتي بالدّعاء فيه، وكلّ رميٍ ليس بعده رمي لا يقف فيه للدّعاء‏;‏ لأنّ العبادة قد انتهت، فلا يقف بعد رمي جمرة العقبة يوم النّحر، ولا بعد رميها أيّام التّشريق أيضًا‏.‏ ودليل هذه السّنّة فعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم كما ثبت عنه في حديث ابن عمر السّابق‏.‏

مكروهات الرّمي

13 - يكره في الرّمي ما يلي‏:‏

أ - الرّمي بعد المغرب في يوم النّحر عند الحنفيّة، وبعد زواله عند المالكيّة، قال السّرخسيّ‏:‏ ففي ظاهر المذهب وقته إلى غروب الشّمس، ولكنّه لو رمى باللّيل لا يلزمه شيء »‏.‏

ب - الرّمي بالحجر الكبير، سواء رمى به كبيرًا، أو رمى به مكسورًا‏.‏

ج - الرّمي بحصى المسجد، فلا يأخذه من مسجد الخيف‏;‏ لأنّ الحصى تابع للمسجد، فلا يخرج منه‏.‏

د - الرّمي بالحصى النّجس عند الجمهور، وقيل‏:‏ لا يجزئ الرّمي بالحصى النّجس‏.‏

هـ - الزّيادة على العدد، أي السّبع، في رمي كلّ جمرةٍ من الجمرات‏.‏

صفة الرّمي المستحبّة

14 - يستعدّ الحاجّ لرمي الجمرات فيرفع الحصى قبل الوصول إلى الجمرة، ويستحبّ أن يرفع من المزدلفة سبع حصياتٍ مثل حصى الخذف، فوق الحمّصة ودون البندقة ليرمي بها جمرة العقبة في اليوم الأوّل من أيّام الرّمي، وهو يوم عيد النّحر، وإن رفع سبعين حصاةً من المزدلفة أو من طريق مزدلفة فهو جائز، وقيل‏:‏ مستحبّ، وهذا هو عدد الحصى الّذي يرمى في كلّ أيّام الرّمي، ويجوز أخذ الحصيات من كلّ موضعٍ بلا كراهةٍ‏.‏ إلاّ من عند الجمرة، فإنّه مكروه، ويكره أخذها من مسجد الخيف، لأنّ حصى المسجد تابع له فيصير محترمًا، ويندب غسل الحصى مطلقًا، ولو لم تكن نجسةً عند الحنفيّة، ورواية عند الحنابلة‏.‏ ثمّ يأتي الحاجّ منًى يوم العاشر من ذي الحجّة وهو يوم النّحر، وعليه في هذا اليوم أربعة أعمالٍ على هذا التّرتيب‏:‏ رمي جمرة العقبة، ثمّ ذبح الهدي وهو واجب على المتمتّع والقارن، ثمّ يحلق أو يقصّر، ثمّ يطوف طواف الإفاضة، وإن لم يكن قدّم السّعي عند طواف القدوم فإنّه يسعى بعد طواف الإفاضة، ويتوجّه الحاجّ فور وصوله منًى إلى جمرة العقبة، وتقع آخر منًى تجاه مكّة، من غير أن يشتغل بشيءٍ آخر قبل رميها، فيرميها بعد دخول وقتها بسبع حصياتٍ من أيّ جهةٍ يرميها واحدةً فواحدةً يكبّر مع كلّ حصاةٍ ويدعو، وكيفما أمسك الحصاة ورماها صحّ، دون تقييدٍ بهيئةٍ، لكن لا يجوز وضع الحصاة في المرمى وضعًا، ويسنّ أن يرمي بعد طلوع الشّمس، ويمتدّ وقت السّنّة إلى الزّوال، ويباح بعده إلى المغرب‏.‏

15 - أمّا كيفيّة الرّمي فهي أن يبعد عن الجمرة الّتي يجتمع فيها الحصى قدر خمسة أذرعٍ فأكثر على ما اختاره الحنفيّة، ويمسك بالحصاة بطرفي إبهام ومسبّحة يده اليمنى، ويرفع يده حتّى يرى بياض إبطيه، ويقذفها ويكبّر‏.‏ وقيل‏:‏ يضع الحصاة على ظهر إبهامه اليمنى ويستعين بالمسبّحة، وقيل‏:‏ يستحبّ أن يضع الحصاة بين سبّابتي يديه اليمنى واليسرى ويرمي بها‏.‏

16 - أمّا صيغة التّكبير فقد جاءت في الحديث مطلقةً ‏"‏ يكبّر مع كلّ حصاةٍ »‏.‏ فيجوز بأيّ صيغةٍ من صيغ التّكبير‏.‏ واختار العلماء نحو هذه الصّيغة‏:‏ ‏{‏بسم اللّه واللّه أكبر، رغمًا للشّيطان ورضًا للرّحمن، اللّهمّ اجعله حجًّا مبرورًا وسعيًا مشكورًا، وذنبًا مغفورًا‏}‏ والمستند في ذلك ما ورد من الآثار الكثيرة عن الصّحابة‏.‏ ولو رمى وترك الذّكر فلم يكبّر ولم يأت بأيّ ذكرٍ جاز، وقد أساء لتركه السّنّة‏.‏ ويقطع التّلبية مع أوّل حصاةٍ يرميها ويشتغل بالتّكبير‏.‏ وينصرف من الرّمي وهو يقول‏:‏ ‏{‏اللّهمّ اجعله حجًّا مبرورًا، وسعيًا مشكورًا وذنبًا مغفورًا‏}‏‏.‏ ووقت الرّمي في هذه الأيّام بعد الزّوال، ويندب تقديم الرّمي قبل صلاة الظّهر في المذاهب الثّلاثة، وعند الحنفيّة يقدّم صلاة الظّهر على الرّمي‏.‏

17 - وقد بحثوا في أفضليّة الرّكوب أو المشي في رمي الجمار، واختلفوا في ذلك وكانوا يركبون الدّوابّ فكان الرّمي للرّاكب ممكنًا‏.‏ فذهب أبو يوسف وهو المختار عند الحنفيّة إلى أنّه يرمي جمرة العقبة راكبًا وغيرها ماشيًا في جميع أيّام الرّمي، وقال أبو حنيفة ومحمّد‏:‏ الرّمي كلّه راكبًا أفضل‏.‏ وعند المالكيّة يرمي جمرة العقبة يوم النّحر كيفما كان وغيرها ماشيًا‏.‏ وقال الشّافعيّ‏:‏ يرمي جمرة العقبة يوم النّحر راكبًا، وكذلك يرميها يوم النّفر راكبًا، ويمشي في اليومين الآخرين أحبّ إليّ ‏"‏، واختار صاحب الفتاوى الظّهيريّة الحنفيّ استحباب المشي إلى الجمار مطلقًا، وهو الأكثر عند الحنابلة‏.‏ عن ‏{‏ابن عمر رضي الله عنهما أنّه كان يأتي الجمار في الأيّام الثّلاثة بعد يوم النّحر ماشيًا ذاهبًا وراجعًا، ويخبر أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك‏}‏‏.‏ ثمّ إذا فرغ من الرّمي ثاني أيّام العيد وهو أوّل أيّام التّشريق رجع إلى منزله في منًى، ويبيت تلك اللّيلة فيها، فإذا كان من الغد وهو ثاني عشر ذي الحجّة، وثالث أيّام النّحر، وثاني أيّام التّشريق رمى الجمار الثّلاثة بعد الزّوال على كيفيّة رمي اليوم السّابق‏.‏ ثمّ إذا رمى في هذا اليوم فله أن ينفر أي يرحل، بلا كراهةٍ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن تعجّل في يومين فلا إثم عليه‏}‏‏.‏ ويسقط عنه رمي اليوم الرّابع، لذلك يسمّى هذا اليوم يوم النّفر الأوّل‏.‏

18 - وإن لم ينفر لزمه رمي اليوم الرّابع، وهو الثّالث عشر من ذي الحجّة، ثالث أيّام التّشريق، يرمي فيه الجمرات الثّلاث على الكيفيّة السّابقة في ثاني يومٍ أيضًا، لكن عند أبي حنيفة يصحّ الرّمي في هذا اليوم من الفجر مع الكراهة لمخالفته السّنّة، وينتهي وقت الرّمي في هذا اليوم بغروب الشّمس أداءً وقضاءً، فإن لم يرم حتّى غربت شمس اليوم فات الرّمي وتعيّن الدّم فداءً عن الواجب الّذي تركه، ويرحل بعد الرّمي، ولا يسنّ المكث في منًى بعده، ويسمّى هذا النّفر الثّاني، وهذا اليوم يوم النّفر الثّاني‏.‏ والأفضل أن يتأخّر بمنًى ويرمي اليوم الرّابع، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن تأخّر فلا إثم عليه لمن اتّقى‏}‏ واتّباعًا للنّبيّ صلى الله عليه وسلم تكميلًا للعبادة‏.‏ أمّا ما ورد من ركوب النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الرّمي فأجيب عنه بأنّه ‏"‏ محمول على رميٍ لا رمي بعده، أو على التّعليم ليراه النّاس فيتعلّموا منه مناسك الحجّ ‏"‏ والجواب الثّاني أولى وأقوى، يدلّ عليه قوله في اليوم الأوّل وهو راكب‏:‏ ‏{‏لتأخذوا عنّي مناسككم‏}‏‏.‏

آثار الرّمي

يترتّب على رمي الجمار أحكام هامة في الحجّ، سوى براءة الذّمّة من وجوبه، وهذه الآثار هي‏:‏

أ - أثر رمي جمرة العقبة‏:‏

19 - يترتّب على رمي جمرة العقبة يوم النّحر التّحلّل الأوّل من إحرام الحجّ عند المالكيّة، وهو قول عند الحنابلة، خلافًا للحنفيّة الّذين قالوا‏:‏ إنّ التّحلّل الأوّل يكون بالحلق، وعلى تفصيلٍ عند الشّافعيّة والحنابلة ‏(‏ر‏:‏ مصطلح إحرام ف 122 - 125‏)‏‏.‏

ب - أثر رمي الجمار يومي التّشريق‏:‏ النّفر الأوّل‏:‏

20 - إذا رمى الحاجّ الجمار أوّل وثاني أيّام التّشريق يجوز له أن ينفر، أي يرحل إن أحبّ التّعجّل في الانصراف من منًى، هذا هو النّفر الأوّل، وبهذا النّفر يسقط رمي اليوم الأخير، وهو قول عامّة العلماء، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن تعجّل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخّر فلا إثم عليه لمن اتّقى‏}‏‏.‏ وفي حديث عبد الرّحمن بن يعمر الدّيليّ الصّحيح‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏أيّام منًى ثلاثة‏:‏ فمن تعجّل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخّر فلا إثم عليه‏}‏‏.‏

ج - أثر الرّمي ثالث أيّام التّشريق‏:‏ النّفر الثّاني‏:‏

21 - إذا رمى الحاجّ الجمار في اليوم الثّالث من أيّام التّشريق انصرف من منًى إلى مكّة، ولا يقيم بمنًى بعد رميه هذا اليوم، ويسمّى هذا النّفر النّفر الثّاني، واليوم يوم النّفر الثّاني، وهو آخر أيّام التّشريق، وبه ينتهي وقت رمي الجمار، ويفوت على من لا يتداركه قبل غروب شمس هذا اليوم، وبه تنتهي مناسك منًى‏.‏

حكم ترك الرّمي

22 - يلزم من ترك الرّمي بغير عذرٍ الإثم ووجوب الدّم، وإن تركه بعذرٍ لا يأثم، لكن لا يسقط الدّم عنه، ولو ترك حصاةً واحدةً عند المالكيّة، ويجزئه شاة عن ترك الرّمي كلّه، أو عن ترك رمي يومٍ‏.‏ وتسامح الشّافعيّة والحنابلة في حصاةٍ وحصاتين فجعلوا في ذلك صدقةً، وأنزل الحنفيّة الأكثر منزلة الكلّ مع وجوب جزاءٍ عن النّاقص‏.‏ ‏(‏انظر تفصيل أحوال ترك الرّمي في مصطلح‏:‏ حجّ ف‏)‏‏.‏

النّيابة في الرّمي

23 - وهي رخصة خاصّة بالمعذور، تفصيل حكمها فيما يلي‏:‏

أ - المعذور الّذي لا يستطيع الرّمي بنفسه، كالمريض، يجب أن يستنيب من يرمي عنه، وينبغي أن يكون النّائب قد رمى عن نفسه، فإن لم يكن رمى عن نفسه فليرم عن نفسه أوّلًا الرّمي كلّه، ثمّ يرمي عمّن استنابه، ويجزئ هذا الرّمي عن الأصيل عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة، إلاّ أنّ الحنفيّة والمالكيّة قالوا‏:‏ لو رمى حصاةً عن نفسه وأخرى عن الآخر جاز ويكره‏.‏ وقال الشّافعيّة‏:‏ إنّ الإنابة خاصّة بمن به علّة لا يرجى زوالها قبل انتهاء أيّام التّشريق كمريضٍ أو محبوسٍ‏.‏ وعند الشّافعيّة قول‏:‏ أنّه يرمي حصيات كلّ جمرةٍ عن نفسه أوّلًا، ثمّ يرميها عن المريض الّذي أنابه إلى أن ينتهي من الرّمي، وهو مخلّص حسن لمن خشي خطر الزّحام‏.‏

ب - من عجز عن الاستنابة كالصّبيّ الصّغير، والمغمى عليه، فيرمي عن الصّبيّ وليّه اتّفاقًا، وعن المغمى عليه رفاقه عند الحنفيّة، ولا فدية عليه وإن لم يرم عند الحنفيّة‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ فائدة الاستنابة أن يسقط الإثم عنه إن استناب وقت الأداء ‏{‏وإلاّ فالدّم عليه، استناب، أم لا، إلاّ الصّغير ومن ألحق به، وإنّما وجب عليه الدّم دون الصّغير ومن ألحق به كالمغمى عليه‏;‏ لأنّه المخاطب بسائر الأركان‏}‏‏.‏

ثانيًا‏:‏ الرّمي في الصّيد الصّيد بالرّمي بالمحدّد

24 - يجوز الصّيد بالرّمي بالسّهام المحدّدة للأحاديث الصّحيحة والإجماع، فإن رمى الصّيد من هو أهل للتّذكية من مسلمٍ أو كتابيٍّ فقتله بحدّ ما رماه به كالسّهم الّذي له نصل محدّد، والسّيف، والسّكّين، والسّنان، والحجر المحدّد والخشبة المحدّدة وغير ذلك من المحدّدات حلّ أكله بشروطٍ ذكرها الفقهاء لحلّ ما يصاد بالرّمي‏.‏

الصّيد بالرّمي بالمثقّل

25 - يرى جمهور الفقهاء أنّه لا يحلّ ما صيد بالمثقّل ويعتبر وقيذًا‏.‏ فلا يحلّ ما أصابه الرّامي بما لا حدّ له فقتله كالحجر، وخشبةٍ لا حدّ لها، أو رماه بمحدّدٍ فقتله بعرضه لا بحدّه لما روى عديّ بن حاتمٍ رضي الله عنه قال‏:‏ ‏{‏سألت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن صيد المعراض قال‏:‏ إذا أصبت بحدّه فكل، فإذا أصاب بعرضه فقتل فلا تأكل فإنّه وقيذ‏}‏‏.‏ ولما ورد أنّه عليه الصلاة والسلام ‏{‏نهى عن الخذف وقال‏:‏ إنّه لا يصاد به صيد ولا ينكأ به عدوّ، ولكنّها قد تكسر السّنّ وتفقأ العين‏}‏‏.‏ والخذف‏:‏ الرّمي بحصًى صغارٍ بطريقةٍ مخصوصةٍ بين الأصابع‏.‏ وينظر تفصيله في بحث ‏(‏خذف‏)‏‏.‏ وصرّح الحنفيّة والشّافعيّة أنّه إذا أصاب الصّيد بما لا حدّ له لا يحلّ وإن جرحه‏.‏ وذهب الأوزاعيّ ومكحول وغيرهما من علماء الشّام إلى أنّه يحلّ صيد المعراض مطلقًا فيباح ما قتله بحدّه وعرضه‏.‏ قال النّوويّ‏:‏ إنّه إذا كان الرّمي بالبنادق وبالخذف ‏(‏بالمثقّل‏)‏ إنّما هو لتحصيل الصّيد، وكان الغالب فيه عدم قتله فإنّه يجوز ذلك إذا أدركه الصّائد وذكّاه، كرمي الطّيور الكبار بالبنادق‏.‏ وللتّفصيل ‏(‏ر‏:‏ صيد‏)‏ والمراد بالبندق في كلام النّوويّ ومن عهده‏:‏ كرات من الطّين بحجم حبّة البندقة‏.‏

اتّخاذ الحيوان هدفًا يرمى إليه

26 - يحرم اتّخاذ شيءٍ فيه الرّوح غرضًا‏.‏ فقد قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏لا تتّخذوا شيئًا فيه الرّوح غرضًا‏}‏‏.‏ أي لا تتّخذوا الحيوان الحيّ غرضًا ترمون إليه كالغرض من الجلود وغيرها، وهذا النّهي للتّحريم لأنّه أصله، ويؤيّده حديث ‏{‏ابن عمر أنّه مرّ بنفرٍ قد نصبوا دجاجةً يترامونها، فلمّا رأوا ابن عمر تفرّقوا عنها‏.‏ فقال ابن عمر‏:‏ من فعل هذا ‏؟‏ إنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لعن من فعل هذا‏}‏ وروى مسلم من حديث هشام بن زيد بن أنس بن مالكٍ أنّه قال‏:‏ دخلت مع جدّي أنس بن مالكٍ دار الحكم بن أيّوب فإذا قوم قد نصبوا دجاجةً يرمونها‏.‏ قال‏:‏ فقال أنس‏:‏ ‏{‏نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن تصبر البهائم‏}‏‏.‏ قال العلماء‏:‏ صبر البهائم أن تحبس وهي حيّة لتقتل بالرّمي ونحوه‏.‏ قال الصّنعانيّ وغيره في وجه حكمة النّهي‏:‏ إنّ فيه إيلامًا للحيوان، وتضييعًا لماليّته، وتفويتًا لذكاته إن كان ممّا يذكّى، ولمنفعته إن كان غير مذكًّى‏.‏ وينظر بحث‏:‏ ‏(‏تعذيب‏)‏‏.‏

ثالثًا‏:‏ الرّمي في الجهاد ‏(‏تعلّم الرّمي‏)‏

27 - حثّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه على الرّمي وحضّهم على مواصلة التّدرّب عليه، وحذّر من تعلّم الرّمي فتركه، روى سلمة بن الأكوع رضي الله عنه ‏{‏أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏.‏ مرّ على نفرٍ من أسلم ينتضلون فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ارموا بني إسماعيل فإنّ أباكم كان راميًا، ارموا، وأنا مع بني فلانٍ‏.‏ قال‏:‏ فأمسك أحد الفريقين بأيديهم، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما لكم لا ترمون ‏؟‏ قالوا‏:‏ كيف نرمي وأنت معهم ‏؟‏ فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ارموا فأنا معكم كلّكم‏}‏‏.‏ وفسّر النّبيّ صلى الله عليه وسلم القوّة الّتي أمر اللّه بها في قوله تعالى ‏{‏وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوّةٍ‏}‏ بالرّمي، كما في حديث عقبة بن عامرٍ قال‏:‏ ‏{‏سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول‏:‏ وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوّةٍ، ألا إنّ القوّة الرّمي، ألا إنّ القوّة الرّمي، ألا إنّ القوّة الرّمي‏}‏‏.‏ وعن ‏{‏خالد بن زيدٍ قال‏:‏ كنت راميًا أرامي عقبة بن عامرٍ الجهنيّ، فمرّ ذات يومٍ فقال يا خالد‏:‏ اخرج بنا نرمي، فأبطأت عليه فقال‏:‏ يا خالد‏:‏ تعال أحدّثك ما حدّثني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأقول لك كما قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنّ اللّه يدخل بالسّهم الواحد ثلاثة نفرٍ الجنّة‏:‏ صانعه الّذي احتسب في صنعته الخير، ومنبّله، والرّامي به، ارموا واركبوا، وأن ترموا أحبّ إليّ من أن تركبوا، وليس من اللّهو إلاّ ثلاث‏:‏ تأديب الرّجل فرسه، وملاعبته زوجته، ورميه بنبله عن قوسه، ومن علم الرّمي ثمّ تركه فهي نعمة كفرها‏}‏‏.‏ وهناك أحاديث أخرى تدلّ على فضل الرّمي والتّحريض عليه منها ما روى أبو نجيحٍ أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏{‏من رمى بسهمٍ في سبيل اللّه فهو له عدل محرّرٍ‏}‏‏.‏ وقال النّوويّ في تعليقه على الأحاديث الّتي ذكرها مسلم في فضل الرّمي، والحثّ عليه‏:‏ في هذه الأحاديث فضيلة الرّمي والمناضلة، والاعتناء بذلك بنيّة الجهاد في سبيل اللّه تعالى، وكذلك المشاجعة، وسائر أنواع استعمال السّلاح، وكذا المسابقة بالخيل وغيرها، والمراد بهذا كلّه التّمرّن على القتال، والتّدرّب، والتّحذّق فيه، ورياضة الأعضاء بذلك‏.‏ وقال القرطبيّ‏:‏ فضل الرّمي عظيم، ومنفعته عظيمة للمسلمين، ونكايته شديدة على الكافرين، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏يا بني إسماعيل ارموا فإنّ أباكم كان راميًا‏}‏ وتعلّم الفروسيّة واستعمال الأسلحة فرض كفايةٍ وقد يتعيّن‏.‏

المناضلة

28 - المناضلة هي المسابقة في الرّمي بالسّهام، والمناضلة مصدر ناضلته نضالًا ومناضلةً، وسمّي الرّمي نضالًا لأنّ السّهم التّامّ يسمّى نضلًا، فالرّمي به عمل بالنّضل فسمّي نضالًا ومناضلةً‏.‏ وتصحّ المناضلة على الرّمي بالسّهام بالاتّفاق‏.‏ وأجاز الشّافعيّة المناضلة - بجانب ما تقدّم - على رماحٍ، وعلى رميٍ بأحجارٍ بمقلاعٍ، أو بيدٍ، ورميٍ بمنجنيقٍ، وكلّ نافعٍ في الحرب بما يشبه ذلك كالرّمي بالمسلّات، والإبر، والتّردّد بالسّيوف والرّماح‏.‏ وقد تجب المناضلة إذا تعيّنت طريقًا لقتال الكفّار، وقد يكره أو يحرم - حسب اختلاف المذاهب - إذا كان سببًا في قتال قريب كافرٍ لم يسبّ اللّه ورسوله، وبذلك تعتري المناضلة الأحكام التّكليفيّة الخمسة‏.‏

رابعًا‏:‏ الرّمي في القذف الرّمي بالزّنا

29 - الرّمي بالزّنا لا في معرض الشّهادة يوجب حدّ القذف لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والّذين يرمون المحصنات ثمّ لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدةً‏}‏ والمراد‏:‏ الرّمي بالزّنا بإجماع العلماء‏.‏ وأمّا الرّمي في معرض الشّهادة فينظر‏:‏ إن تمّ عدد الشّهود أربعةً وثبتوا على شهادتهم أقيم حدّ الزّنا على المرميّ ولا شيء عليهم، وإن لم يتمّ العدد، بأن شهد اثنان أو ثلاثة فعليهم حدّ القذف عند أكثر الفقهاء‏.‏ ويرى الشّافعيّة في القول المقابل للأظهر والحنابلة في إحدى الرّوايتين‏:‏ أنّ الشّهود - عند عدم تمام العدد - لا حدّ عليهم لأنّهم شهود فلم يجب عليهم الحدّ كما لو كانوا أربعةً أحدهم فاسق‏.‏ وللتّفصيل ‏(‏ر‏:‏ قذف‏)‏‏.‏

رمي الجمار

انظر‏:‏ رمي

رهان

التّعريف

يأتي الرّهان على معانٍ منها‏:‏

1 - المخاطرة‏:‏ جاء في لسان العرب‏:‏ الرّهان والمراهنة‏:‏ المخاطرة‏.‏ يقال‏:‏ راهنه في كذا، وهم يتراهنون، وأرهنوا بينهم خطرًا، وصورة هذا المعنى من معاني الرّهان‏:‏ أن يتراهن شخصان أو حزبان على شيءٍ يمكن حصوله كما يمكن عدم حصوله بدونه، كأن يقولا مثلًا‏:‏ إن لم تمطر السّماء غدًا فلك عليّ كذا من المال، وإلاّ فلي عليك مثله من المال، والرّهان بهذا المعنى حرام باتّفاق الفقهاء بين الملتزمين بأحكام الإسلام من المسلمين والذّمّيّين‏;‏ لأنّ كلًّا منهم متردّد بين أن يغنم أو يغرم، وهو صورة القمار المحرّم‏.‏ وأمّا الرّهان بين الملتزم وبين الحربيّ فقد اختلف الفقهاء في تحريمه، فذهب الجمهور إلى أنّه محرّم لعموم الأدلّة ‏(‏ر‏:‏ ميسر، ربًا‏)‏‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ الرّهان جائز بين الملتزم والحربيّ، لأنّ مالهم مباح في دارهم، فبأيّ طريقةٍ أخذه المسلم أخذ مالًا مباحًا إذا لم يكن غدرًا، واستدلّ بقصّة أبي بكرٍ مع قريشٍ في مكّة قبل الهجرة، ‏{‏لمّا نزلت آية ‏{‏ألم غلبت الرّوم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين للّه الأمر من قبل ومن بعد ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر اللّه ينصر من يشاء وهو العزيز الرّحيم‏}‏ فقالت قريش لأبي بكرٍ‏:‏ ترون أنّ الرّوم تغلب فارسًا قال‏:‏ نعم، فقالوا‏:‏ أتخاطرنا على ذلك ‏؟‏ فخاطرهم، فأخبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ اذهب إليهم فزد في الخطر ففعل، وغلبت الرّوم فارسًا، فأخذ أبو بكرٍ خطره، فأجاز النّبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك‏}‏‏.‏ قال ابن الهمام‏:‏ وهذا هو القمار بعينه‏.‏ وينظر التّفصيل في‏:‏ ‏(‏ميسر‏)‏‏.‏

2 - ويأتي الرّهان بمعنى المسابقة بالخيل أو الرّمي، وهذا جائز بشروطه - ‏(‏ر‏:‏ مسابقة‏)‏‏.‏ 3 - ويأتي بمعنى‏:‏ رهنٍ، والرّهان جمعه، وهو جعل مالٍ وثيقةً بدينٍ يستوفى منها عند تعذّر وفائه‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ رهن‏)‏‏.‏

4 - ويطلق الرّهان على المال المشروط في سباق الخيل ونحوه، جاء في لسان العرب‏:‏ السّبق - بفتح الباء - الخطر الّذي يوضع في الرّهان على الخيل والنّضال، والرّهان بهذا المعنى مشروع باتّفاق الفقهاء، بل هو مستحبّ إذا قصد به التّأهّب للجهاد‏.‏

5 - واختلف الفقهاء فيما يجوز فيه الرّهان من الحيوان فقال الشّافعيّة‏:‏ يكون في الخيل، والإبل، والفيل، والبغل، والحمار في القول الأظهر عندهم، وقال المالكيّة‏:‏ لا يجوز إلاّ في الخيل والإبل، وقال الحنفيّة‏:‏ يجوز في الخيل والإبل وعلى الأرجل‏.‏

شروط جواز الرّهان في السّباق

6 - يشترط لجواز الرّهان على ما ذكر‏:‏ علم الموقف الّذي يجريان منه، والغاية الّتي يجريان إليها، وتساويهما فيهما، والعلم بالمشروط، وتعيين الفرسين ونحوهما، وإمكان سبق كلّ واحدٍ منهما، ويجوز المال من غيرهما ومن أحدهما، فيقول‏:‏ إن سبقتني فلك عليّ كذا، وإن سبقتك فلا شيء لي عليك، وإن شرط أنّ من سبق منهما فله على الآخر كذا لم يصحّ‏;‏ لأنّ كلًّا منهما متردّد بين أن يغنم وأن يغرم، وهو صورة القمار المحرّم، إلاّ أن يكون هناك محلّل فرسه كفء لفرسيهما، إن سبق أخذ مالهما، وإن سبق لم يغرم شيئًا‏.‏ والتّفصيل وأقوال الفقهاء في ‏(‏مسابقة‏)‏‏.‏

رهبانيّة

التّعريف

1 - الرّهبانيّة لغةً‏:‏ من الرّهبة، وهي الخوف والفزع مع تحرّزٍ واضطرابٍ، ومنها الرّاهب‏:‏ وهو المتعبّد في صومعةٍ من النّصارى يتخلّى عن أشغال الدّنيا وملاذّها زاهدًا فيها معتزلًا أهلها، والجمع‏:‏ رهبان، وقد يكون الرّهبان واحدًا، والجمع رهابين وترهّب الرّجل إذا صار راهبًا‏.‏ والرّهبانيّة‏:‏ - بفتح الياء - منسوبة إلى الرّهبان وهو الخائف، فعلان من رهب، كخشيان من خشي‏.‏ وتكون أيضًا - بضمّ الرّاء - نسبةً إلى الرّهبان وهو جمع راهبٍ كراكبٍ وركبانٍ‏.‏ والمعنى الاصطلاحيّ لا يخرج عن المعنى اللّغويّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - العزلة‏:‏

2 - العزلة لغةً‏:‏ التّجنّب وهي اسم مصدرٍ، وهي ضدّ المخالطة‏.‏ ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن ذلك‏.‏ والفرق بينها وبين الرّهبانيّة‏:‏ أنّ العزلة من وسائل الرّهبانيّة، وهي على خلاف الأصل، وقد تقع عند فساد الزّمان لغير التّرهّب فلا تحرم‏.‏

ب - السّياحة‏:‏

3 - من معاني السّياحة في اللّغة‏:‏ الذّهاب في الأرض للتّعبّد والتّرهّب، ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن ذلك‏.‏ وكانت السّياحة هكذا ممّا يتعبّد به رهبان النّصارى، ولذا جاء في الحديث‏:‏ ‏{‏سياحة أمّتي الجهاد‏}‏، وتأتي السّياحة بمعنى إدامة الصّوم‏.‏ فالسّياحة بالمعنى الأوّل قريبة من الرّهبانيّة‏.‏ وينظر مصطلح ‏(‏سياحة‏)‏‏.‏

الحكم التّكليفيّ

4 - نهت الشّريعة عن الرّهبانيّة - بمعناها الّذي كان يمارسه رهبان النّصارى - وهو الغلوّ في العبادات، والتّخلّي عن أشغال الدّنيا وترك ملاذّها، واعتزال النّساء، والفرار من مخالطة النّاس، ولزوم الصّوامع والدّيارات أو التّعبّد في الغيران والكهوف، والسّياحة في الأرض على غير هدًى بلحوقهم بالبراريّ والجبال، وحمل أنفسهم على المشقّات في الامتناع من المطعم والمشرب والملبس والمنكح، وتعذيب النّفس بالأعمال التّعبّديّة الشّاقّة كأن يخصي نفسه أو يضع سلسلةً في عنقه‏.‏ ودليل ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحقّ ولا تتّبعوا أهواء قومٍ قد ضلّوا من قبل وأضلّوا كثيرًا وضلّوا عن سواء السّبيل‏}‏‏.‏ وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏عليك بالجهاد، فإنّه رهبانيّة الإسلام‏}‏‏.‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏ولن يشادّ الدّين أحد إلاّ غلبه‏}‏‏.‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏من رغب عن سنّتي فليس منّي‏}‏‏.‏ واتّفق العلماء على أنّ الأفضل للمسلم أن يختلط بالنّاس، ويحضر جماعاتهم ومشاهد الخير ومجالس العلم، وأن يعود مريضهم، ويحضر جنائزهم، ويواسي محتاجهم، ويرشد جاهلهم، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويدعو للخير، وينشر الحقّ والفضيلة، ويجاهد في سبيل اللّه لإعلاء كلمة اللّه، وإعزاز دينه مع قمع نفسه عن إيذاء المسلمين والصّبر على أذاهم‏.‏ قال النّوويّ‏:‏ إنّ الاختلاط بالنّاس على هذا الوجه هو المختار الّذي كان عليه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء صلوات اللّه وسلامه عليهم، وكذلك الخلفاء الرّاشدون، ومن بعدهم من الصّحابة والتّابعين، ومن بعدهم من علماء المسلمين وأخيارهم لقوله تعالى ‏{‏وتعاونوا على البرّ والتّقوى‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كنتم خير أمّةٍ أخرجت للنّاس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنّ اللّه يحبّ الّذين يقاتلون في سبيله صفًّا كأنّهم بنيان مرصوص‏}‏‏.‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏العبادة في الهرج كهجرةٍ إليّ‏}‏ وقوله صلى الله عليه وسلم ‏{‏المؤمن الّذي يخالط النّاس ويصبر على أذاهم أعظم أجرًا من الّذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم‏}‏‏.‏ هذا إذا لم تكن هناك فتنة عامّة أو فساد سائد لا يستطيع إصلاحه، أو غلب على ظنّه وقوعه في الحرام بسبب المخالطة فيستحبّ له في هذه الحالة العزلة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتّقوا فتنةً لا تصيبنّ الّذين ظلموا منكم خاصّةً‏}‏‏.‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏خير النّاس رجل جاهد بنفسه وماله، ورجل في شعبٍ من الشّعاب يعبد ربّه ويدع النّاس من شرّه‏}‏‏.‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شغف الجبال ومواقع القطر يفرّ بدينه من الفتن‏}‏‏.‏