فصل: ما ينبغي فعله بعد الموت، وما لا ينبغي فعله:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


الموسوعة الفقهية / الجزء السادس عشر

جنائز

التّعريف

1 - الجنائز جمع جنازة بالفتح الميّت، وبالكسر السّرير الّذي يوضع عليه الميّت، وقيل عكسه، أو بالكسر‏:‏ السّرير مع الميّت، فإن لم يكن عليه الميّت فهو سرير ونعش وقيل‏:‏ في كلّ منهما لغتان‏.‏

أحكام المحتضر

تعريف المحتضر‏:‏

2 - المحتضر هو من حضره الموت وملائكته، والمراد من قرب موته، وعلامة الاحتضار - كما أوردها ابن عابدين - أن تسترخي قدماه فلا تنتصبان، ويعوجّ أنفه، وينخسف صدغاه، ويمتدّ جلد خصيتيه لانشمار الخصيتين بالموت، وتمتدّ جلدة وجهه فلا يرى فيها تعطّف‏.‏ وللمحتضر أحكام تنظر في مصطلح‏:‏ ‏(‏احتضار‏)‏‏.‏

ما ينبغي فعله بعد الموت، وما لا ينبغي فعله‏:‏

أولاً‏:‏ ما ينبغي فعله بعد الموت

3 - اتّفق الفقهاء على أنّه إذا مات الميّت شدّ لحياه، وغمّضت عيناه، «فإنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم دخل على أبي سلمة، وقد شقّ بصره فأغمضه وقال‏:‏ إذا حضرتم موتاكم فأغمضوا البصر» ويتولّى أرفق أهله به إغماضه بأسهل ما يقدر عليه، ويشدّ لحياه بعصابة عريضة يشدّها في لحيه الأسفل ويربطها فوق رأسه‏.‏

ويقول مغمضه‏:‏ «بسم اللّه وعلى ملّة رسول اللّه»، اللّهمّ يسّر عليه أمره، وسهّل عليه ما بعده، وأسعده بلقائك، واجعل ما خرج إليه خيراً ممّا خرج منه‏.‏

ويليّن مفاصله، ويردّ ذراعيه إلى عضديه، ويردّ أصابع كفّيه، ثمّ يمدّها، ويردّ فخذيه إلى بطنه، وساقيه إلى فخذيه، ثمّ يمدّها، وهو أيضاً ممّا اتّفق عليه‏.‏

ويستحبّ أن ينزع عنه ثيابه الّتي مات فيها، ويسجّى جميع بدنه بثوب ‏"‏ فعن عائشة رضي الله تعالى عنها «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حين توفّي سجّي ببرد حبرة»

ويترك على شيء مرتفع من لوح أو سرير، لئلاّ تصيبه نداوة الأرض فيتغيّر ريحه‏.‏

ويجعل على بطنه حديد، أو طين يابس، لئلاّ ينتفخ، وهذا متّفق عليه في الجملة‏.‏

الإعلام بالموت

4 - يستحبّ أن يعلم جيران الميّت وأصدقاؤه حتّى يؤدّوا حقّه بالصّلاة عليه والدّعاء له، روى سعيد بن منصور عن النّخعيّ‏:‏ لا بأس إذا مات الرّجل أن يؤذن صديقه وأصحابه، إنّما يكره أن يطاف في المجلس فيقال‏:‏ أنعي ‏(‏فلاناً‏)‏ لأنّ ذلك من فعل أهل الجاهليّة، وروي نحوه باختصار عن ابن سيرين، وإليه ذهب الحنفيّة والشّافعيّة‏.‏

وكره بعض الحنفيّة النّداء في الأسواق قال في النّهاية‏:‏ إن كان عالماً، أو زاهداً، أو ممّن يتبرّك به، فقد استحسن بعض المتأخّرين النّداء في الأسواق لجنازته وهو الأصحّ، ولكن لا يكون على هيئة التّفخيم، وينبغي أن يكون بنحو، مات الفقير إلى اللّه تعالى فلان بن فلان، ويشهد له أنّ أبا هريرة كان يؤذن بالجنازة فيمرّ بالمسجد فيقول‏:‏ عبد اللّه دعي فأجاب، أو أمة اللّه دعيت فأجابت‏.‏ وعند الحنابلة لا بأس بإعلام أقاربه وإخوانه من غير نداء‏.‏

وقال ابن العربيّ من المالكيّة‏:‏ يؤخذ من مجموع الأحاديث ثلاث حالات‏:‏

الأولى‏:‏ إعلام الأهل والأصحاب وأهل الصّلاح فهذا سنّة‏.‏

والثّانية‏:‏ الدّعوة للمفاخرة بالكثرة فهذا مكروه‏.‏

والثّالثة‏:‏ الإعلام بنوع آخر كالنّياحة ونحو ذلك فهذا محرّم‏.‏

وفي الشّرح الصّغير كره صياح بمسجد أو ببابه بأن يقال‏:‏ فلان قد مات فاسعوا إلى جنازته مثلاً، إلاّ الإعلام بصوت خفيّ أي من غير صياح فلا يكره‏.‏

فالنّعي منهيّ عنه اتّفاقاً، وهو أن يركب رجل دابّة يصيح في النّاس أنعى فلاناً، أو كما مرّ عن النّخعيّ، أو أن ينادى بموته، ويشاد بمفاخره‏.‏ وبه يقول الحنفيّة والشّافعيّة‏.‏

وينظر التّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏نعي‏)‏‏.‏

قضاء الدّين

5 - يستحبّ أن يسارع إلى قضاء دينه أو إبرائه منه، وبه قال أحمد لحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً «نفس المؤمن معلّقة بدينه حتّى يقضى عنه»‏.‏

قال السّيوطيّ‏:‏ سواء ترك الميّت وفاء أم لا،

وشذّ الماورديّ فقال‏:‏ إنّ الحديث محمول على من يخلّف وفاء‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ إن تعذّر الوفاء استحبّ لوارثه أو غيره أن يتكفّل عنه، والكفالة بدين الميّت قال بصحّتها أكثر الأئمّة، خلافاً لأبي حنيفة، فإنّه لا تصحّ عنده الكفالة بدين على ميّت مفلس، وإن وعد أحد بأداء دين الميّت صحّ عنده عدة لا كفالة‏.‏

وذهب الطّحطاويّ إلى قول الجمهور‏.‏

تجهيز الميّت

6 - اتّفق الفقهاء على أنّه إن تيقّن الموت يبادر إلى التّجهيز ولا يؤخّر ‏"‏ لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهري أهله»‏.‏

وتشهد له أحاديث الإسراع بالجنازة، وسيأتي عند الكلام عن حمل الجنازة‏.‏

فإن مات فجأة ترك حتّى يتيقّن موته، وهو مفاد كلام الشّافعيّ في الأمّ‏.‏

وفي الغاية سنّ إسراع تجهيزه إن مات غير فجأة، وينتظر من مات فجأة بنحو صعقة، أو من شكّ في موته، حتّى يعلم بانخساف صدغيه إلخ‏.‏ وبه يقول المالكيّة ففي مقدّمات ابن رشد يستحبّ أن يؤخّر دفن الغريق مخافة أن يكون الماء غمره فلا تتبيّن حياته‏.‏

ثانياً‏:‏ ما لا ينبغي فعله بعد الموت

قراءة القرآن عند الميّت

7 - تكره عند الحنفيّة قراءة القرآن عند الميّت حتّى يغسّل، وأمّا حديث معقل بن يسار مرفوعاً «اقرءوا سورة يس على موتاكم» فقال ابن حبّان‏:‏ المراد به من حضره الموت، ويؤيّده ما أخرجه ابن أبي الدّنيا وابن مردويه مرفوعاً «ما من ميّت يقرأ عنده يس إلاّ هوّن اللّه عليه» وخالفه بعض متأخّري المحقّقين، فأخذ بظاهر الخبر وقال‏:‏ بل يقرأ عليه بعد موته وهو مسجّى، وفي المسألة خلاف عند الحنفيّة أيضاً‏.‏

قال ابن عابدين‏:‏ الحاصل أنّ الميّت إن كان محدثاً فلا كراهة، وإن كان نجساً كره‏.‏ والظّاهر أنّ هذا أيضاً إذا لم يكن الميّت مسجّى بثوب يستر جميع بدنه، وكذا ينبغي تقييد الكراهة بما إذا قرأ جهراً‏.‏ وعند المالكيّة يكره قراءة شيء من القرآن مطلقاً‏.‏

وذهب الشّافعيّة إلى أنّه لا يقرأ عند الميّت قبل الدّفن لئلاّ تشغلهم القراءة عن تعجيل تجهيزه، خلافاً لابن الرّفعة وبعضهم، وجوّزه الرّمليّ بحثا‏.‏ أمّا بعد الدّفن فيندب عندهم‏.‏

ولم نعثر على تصريح للحنابلة في غير المحتضر‏.‏

النّوح والصّياح على الميّت

8 - يكره النّوح، والصّياح، وشقّ الجيوب، في منزل الميّت، وفي الجنائز، أو في محلّ آخر للنّهي عنه، ولا بأس بالبكاء بدمع قال الحنفيّة‏:‏ والصّبر أفضل‏.‏

فقد روى الشّيخان من حديث أبي موسى الأشعريّ «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم برئ من الصّالقة والحالقة والشّاقّة»‏.‏ وأخرجا من حديث ابن مسعود «ليس منّا من ضرب الخدود، وشقّ الجيوب، ودعا بدعوى الجاهليّة»‏.‏

وأمّا البكاء بغير صوت فيدلّ على جوازه «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم رفع إليه ابن لابنته ونفسه تتقعقع ففاضت عيناه، وقال‏:‏ هذه رحمة جعلها اللّه في قلوب عباده»‏.‏

وقول عمر‏:‏ - في حقّ نساء خالد بن الوليد - دعهنّ يبكين على أبي سليمان ما لم يكن نقع أو لقلقة ذكره البخاريّ تعليقاً‏.‏

وفي الصّبر روى البخاريّ‏:‏ «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم مرّ بامرأة تبكي عند قبر فقال‏:‏ اتّقي اللّه واصبري»‏.‏ والمراد بالكراهة كراهة التّحريم عند الحنفيّة‏.‏ وقال السّرّاج‏:‏ قد أجمعت الأمّة على تحريم النّوح، والدّعوى بدعوى الجاهليّة، ذكره الطّحطاويّ‏.‏

والمراد بالبكاء في حديث‏:‏ «إنّ الميّت ليعذّب ببكاء أهله عليه» النّدب، والنّياحة، وإنّما يعذّب الميّت إذا أوصى بذلك‏.‏

وفي غاية المنتهى من كتب الحنابلة لا يكره بكاء على ميّت قبل موت ولا بعده، بل استحباب البكاء رحمة للميّت سنّة صحيحة، وحرم ندب وهو بكاء مع تعديد محاسنه، ونوح وهو رفع صوت بذلك برقّة وشقّ ثوب، وكره استدامة لبس مشقوق، وحرم لطم خدّ، وخمشه، وصراخ، ونتف شعر ونشره وحلقه، وعدّ في ‏(‏الفصول‏)‏ من المحرّمات إظهار الجزع، لأنّه يشبه التّظلّم من الظّالم، وهو عدل من اللّه سبحانه‏.‏ قال صاحب الغاية‏:‏ ‏(‏ويتّجه‏)‏ ومثله إلقاء تراب على الرّأس، ودعاء بويل وثبور، ويباح يسير ندبة لم تخرج مخرج نوح، نحو يا أبتاه يا ولداه، فإن زاد يصير ندباً ويجب منعه لأنّه محرّم‏.‏

شقّ بطن الميّتة لإخراج الجنين

9 - ذهب الحنفيّة وهو قول ابن سريج وبعض الشّافعيّة، إلى أنّه إن ماتت امرأة والولد يضطرب في بطنها يشقّ بطنها ويخرج الولد، وقال محمّد بن الحسن لا يسع إلاّ ذلك‏.‏ ومذهب الشّافعيّة وهو المتّجه عند الحنابلة، أنّه يشقّ للولد إن كان ترجى حياته‏.‏

فإن كان لا ترجى حياته فالأصحّ أنّه لا يشقّ‏.‏ وعند أحمد حرم شقّ بطنها وأخرج نساء لا رجال من ترجى حياته، فإن تعذّر لم تدفن حتّى يموت، فإن لم يوجد نساء لم يسط عليه الرّجال، لما فيه من هتك حرمة الميّتة، ويترك حتّى يتيقّن موته‏.‏

وعنه يسطو عليه الرّجال والأولى بذلك المحارم‏.‏

وقال ابن القاسم من المالكيّة‏:‏ لا يبقر بطن الميّتة إذا كان جنينها يضطرب في بطنها‏.‏

وقال سحنون منهم‏:‏ سمعت أنّ الجنين إذا استيقن بحياته وكان معروف الحياة، فلا بأس أن يبقر بطنها ويستخرج الولد‏.‏

وفي الشّرح الصّغير لا يشقّ بطن المرأة عن جنين ولو رجي حياته على المعتمد، ولكن لا تدفن حتّى يتحقّق موته ولو تغيّرت‏.‏

واتّفقوا على أنّه إن أمكن إخراجه بحيلة غير الشّقّ وجبت‏.‏

غسل الميّت

9 م - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ تغسيل الميّت واجب كفاية بحيث إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وتفصيل أحكامه في مصطلح‏:‏ ‏(‏تغسيل الميّت‏)‏‏.‏

تكفين الميّت

10 - اتّفق الفقهاء على أنّ تكفين الميّت بما يستره فرض على الكفاية‏.‏

وتفصيل أحكامه ينظر في مصطلح‏:‏ ‏(‏تكفين‏)‏‏.‏

حمل الجنازة

حكم الحمل وكيفيّته‏:‏

11 - أجمع الفقهاء على أنّ حمل الجنازة فرض على الكفاية، ويجوز الاستئجار على حمل الجنازة‏.‏

وأمّا كيفيّة حمل الجنازة وعدد حامليها فيسنّ عند الحنفيّة أن يحملها أربعة رجال، فإذا حملوا الميّت على سرير أخذوه بقوائمه الأربع وبه وردت السّنّة، فقد روى ابن ماجه عن ابن مسعود قال‏:‏ «من اتّبع جنازة فليحمل بجوانب السّرير كلّها فإنّه من السّنّة، ثمّ إن شاء فليتطوّع وإن شاء فليدع»‏.‏

12 - ثمّ إنّ في حمل الجنازة شيئين‏:‏ نفس السّنّة، وكمالها، أمّا نفس السّنّة فهي أن تأخذ بقوائمها الأربع على طريق التّعاقب بأن يحمل من كلّ جانب عشر خطوات‏.‏

وأمّا كمال السّنّة، فهو أن يبدأ الحامل بحمل الجنازة من جانب يمين مقدّم الميّت وهو يسار الجنازة‏.‏‏.‏‏.‏ فيحمله على عاتقه الأيمن، ثمّ المؤخّر الأيمن للميّت على عاتقه الأيمن، ثمّ المقدّم الأيسر للميّت على عاتقه الأيسر، ثمّ المؤخّر الأيسر للميّت على عاتقه الأيسر‏.‏

ويكره حملها بين العمودين، بأن يحملها رجلان أحدهما يحمل مقدّمها والآخر مؤخّرها، لأنّه يشقّ على الحاملين، ولا يؤمن من سقوط الجنازة‏.‏ إلاّ عند الضّرورة، مثل ضيق المكان أو قلّة الحاملين أو نحو ذلك، وعليه حمل ما روي من الحمل بين العمودين‏.‏

وعند الشّافعيّة الأفضل أن يجمع في حمل الجنازة بين التّربيع والحمل بين العمودين، وقد روي من فعل ابن عمر وسالم، فإن أراد أحدهما فالحمل بين العمودين أفضل، والتّربيع أن يحملها أربعة من جوانبها الأربعة، والحمل بين العمودين أن يحملها ثلاثة رجال، أحدهم يكون في مقدّمها، يضع الخشبتين الشّاخصتين على عاتقيه والمعترضة بينهما على كتفيه، والآخران يحملان مؤخّرها، كلّ واحد منهما خشبة على عاتقه، فإن عجز المتقدّم عن حمل المقدّم وحده أعانه رجلان خارج العمودين فيصيرون خمسة‏.‏

وعند الحنابلة يستحبّ التّربيع في حمله، وهو أن يضع قائمة السّرير اليسرى المقدّمة ‏"‏ عند السّير ‏"‏ على كتفه اليمنى، ثمّ ينتقل إلى المؤخّرة، ثمّ يضع القائمة اليمنى على كتفه اليسرى، ثمّ ينتقل إلى المؤخّرة، وإن حمل بين العمودين فحسن‏.‏

وفي غاية المنتهى‏:‏ كره الآجرّيّ وغيره التّربيع مع زحام، ولا يكره الحمل بين العمودين كلّ واحد على عاتق، والجمع بينهما أولى‏.‏

وأمّا المالكيّة فقالوا‏:‏ حمل الميّت ليس له كيفيّة معيّنة، فيجوز أن يحمله أربعة أشخاص، وثلاثة، واثنان بلا كراهة، ولا يتعيّن البدء بناحية من السّرير ‏(‏النّعش‏)‏‏.‏

13 - وذهب الحنفيّة إلى أنّه لا بأس بأن يأخذ السّرير بيده أو يضع على المنكب - يعني بعد أخذ قائمة السّرير باليد لا ابتداء كما تحمل الأثقال -‏.‏

وصرّح الشّافعيّة بحرمة حمل الجنازة على هيئة مزرية، كحمله في قفّة، وغرارة، ونحو ذلك، ويحرم كذلك حمله على هيئة يخاف منها سقوطه‏.‏

ويكره له أن يضع نصفه على المنكب ونصفه على أصل العنق، ويكره عند الحنفيّة حمله على الظّهر والدّابّة بلا عذر‏.‏

أمّا إذا كان عذر بأن كان المحلّ بعيدا يشقّ حمل الرّجال له، أو لم يكن الحامل إلاّ واحدا، فحمله على ظهره فلا كراهة إذن وفاقاً للشّافعيّة‏.‏

وعند الحنابلة أيضا لا يكره حملها على دابّة لغرض صحيح، وذكر الإسبيجابيّ من الحنفيّة أنّ الصّبيّ الرّضيع، أو الفطيم، أو من جاوز ذلك قليلاً، إذا مات فلا بأس أن يحمله رجل واحد على يديه، ويتداوله النّاس بالحمل على أيديهم، ولا بأس بأن يحمله على يديه وهو راكب، وإن كان كبيرا يحمل على الجنازة، واتّفقوا على أنّه لا يكره حمل الطّفل على اليدين بل يندب ذلك عند المالكيّة، وزاد الحنابلة أنّه لا يكره حمل جنازة الكبير بأعمدة عند الحاجة‏.‏

ويسرع بالميّت وقت المشي بلا خبب، وحدّه أن يسرع به بحيث لا يضطرب الميّت على الجنازة، ويكره بخبب لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أسرعوا بالجنازة» أي ما دون الخبب كما في رواية ابن مسعود، «سألنا رسول صلى الله عليه وسلم اللّه عن المشي خلف الجنازة فقال‏:‏ ما دون الخبب» قال الحافظ ابن حجر‏:‏ نقل ابن قدامة أنّ الأمر فيه للاستحباب بلا خلاف بين العلماء‏.‏

وأمّا ما يحكى عن الشّافعيّ والجمهور أنّه يكره الإسراع الشّديد، فقال الحافظ ابن حجر‏:‏ مال عياض إلى نفي الخلاف فقال‏:‏ من استحبّه أراد الزّيادة على المشي المعتاد، ومن كرهه أراد الإفراط فيه كالرّمل‏.‏

وكذا يستحبّ الإسراع بتجهيزه كلّه من حين موته، فلو جهّز الميّت صبيحة يوم الجمعة يكره تأخير الصّلاة عليه ليصلّي عليه الجمع العظيم، ولو خافوا فوت الجمعة بسبب دفنه يؤخّر الدّفن، وقال المالكيّة والشّافعيّة أيضاً، بالإسراع بتجهيزه إلاّ إذا شكّ في موته، ويقدّم رأس الميّت في حال المشي بالجنازة‏.‏

تشييع الجنازة

14 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ تشييع الرّجال للجنازة سنّة، لحديث البراء بن عازب‏:‏ «أمرنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم باتّباع الجنائز» والأمر هنا للنّدب لا للوجوب للإجماع، وقال الزّين بن المنير من المالكيّة‏:‏ إنّ اتّباع الجنازة من الواجبات على الكفاية‏.‏ وقال الشّيخ مرعي الحنبليّ‏:‏ اتّباع الجنائز سنّة‏.‏

قال الحنفيّة اتّباع الجنائز أفضل من النّوافل إذا كان لجوار وقرابة، أو صلاح مشهور، والأفضل لمشيّع الجنازة المشي خلفها، وبه قال الأوزاعيّ وإسحاق على ما حكاه التّرمذيّ ‏"‏ لحديث «الجنازة متبوعة ولا تتبع، ليس معها من تقدّمها» إلاّ أن يكون خلفها نساء فالمشي أمامها أحسن، ولكن إن تباعد عنها بحيث يعدّ ماشياً وحده أو تقدّم الكلّ، وتركوها خلفهم ليس معها أحد أو ركب أمامها كره، وأمّا الرّكوب خلفها فلا بأس به، والمشي أفضل، والمشي عن يمينها أو يسارها خلاف الأولى، لأنّ فيه ترك المندوب وهو اتّباعها‏.‏

وقال المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة‏:‏ المشي أمام الجنازة أفضل، لما روي أنّ «رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يمشون أمام الجنازة»‏.‏

وروي عن الصّحابة كلا الأمرين وقد قال عليّ‏:‏ إنّ فضل الماشي خلفها على الّذي يمشي أمامها كفضل صلاة الجماعة على صلاة الفذّ‏.‏ وقال الثّوريّ‏:‏ كلّ ذلك في الفضل سواء‏.‏

15 - وأمّا النّساء فلا ينبغي لهنّ عند الحنفيّة أن يخرجن في الجنازة، ففي الدّرّ يكره خروجهنّ تحريماً، قال ابن عابدين‏:‏ لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «ارجعن مأزورات غير مأجورات»‏.‏ ولحديث أمّ عطيّة‏:‏ «نهينا عن اتّباع الجنائز، ولم يعزم علينا»‏.‏

ولقوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة‏:‏ «لعلّك بلغت معهم الكدى» ‏"‏ المقابر ‏"‏‏.‏

وأمّا عند الشّافعيّة فقال النّوويّ‏:‏ مذهب أصحابنا أنّه مكروه، وليس بحرام، وفسّر قول أمّ عطيّة «ولم يعزم علينا» أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عنه نهي كراهية تنزيه، لا نهي عزيمة وتحريم‏.‏

وأمّا المالكيّة ففي الشّرح الصّغير‏:‏ جاز خروج متجالَّةٍ ‏"‏ كبيرة السّنّ ‏"‏ لجنازة مطلقاً، وكذا شابّة لا تخشى فتنتها، لجنازة من عظمت مصيبته عليها، كأب، وأمّ، وزوج، وابن، وبنت، وأخ، وأخت، أمّا من تخشى فتنتها فيحرم خروجها مطلقاً‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ كره أن تتبع الجنازة امرأة وحكى الشّوكانيّ عن القرطبيّ أنّه قال‏:‏ إذا أمن من تضييع حقّ الزّوج والتّبرّج وما ينشأ من الصّياح ونحو ذلك فلا مانع من الإذن لهنّ، ثمّ قال الشّوكانيّ‏:‏ هذا الكلام هو الّذي ينبغي اعتماده في الجمع بين الأحاديث المتعارضة‏.‏

قال الحنفيّة‏:‏ وإذا كان مع الجنازة نائحة أو صائحة زجرت، فإن لم تنزجر فلا بأس بأن يمشي معها، لأنّ اتّباع الجنازة سنّة فلا يتركه لبدعة من غيره، لكن يمشي أمام الجنازة كما تقدّم‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ حرم أن يتبعها المشيّع مع منكر، نحو صراخ، ونوح، وهو عاجز عن إزالته، ويلزم القادر إزالته‏.‏

ما ينبغي أن يفعل مع الجنازة وما لا ينبغي

اتّباع الجنازة بمبخرة أو نار

16 - اتّفق الفقهاء على أنّ الجنازة لا تتبع بنار في مجمرة ‏"‏ مبخرة ‏"‏ ولا شمع‏.‏

وفي مراقي الفلاح‏:‏ لا تتبع الجنازة بصوت ولا نار، ويكره تجمير القبر‏.‏

إلاّ لحاجة ضوء أو نحوه‏.‏ لحديث أبي داود مرفوعاً‏:‏ «لا تتبع الجنازة بصوت ولا نار»‏.‏

الجلوس قبل وضع الجنازة

17 - يكره لمتّبع الجنازة أن يجلس قبل وضعها للنّهي عن ذلك‏.‏ فعن أبي هريرة مرفوعاً‏:‏ «من تبع جنازة فلا يقعدن حتّى توضع»‏.‏

قال الطّحطاويّ‏:‏ إنّ في الجلوس قبل وضعها ازدراء بها، قال الحازميّ‏:‏ وممّن رأى ذلك الحسن بن عليّ، وأبو هريرة، وابن عمر، وابن الزّبير، والأوزاعيّ، وأهل الشّام، وأحمد، وإسحاق، وذكر النّخعيّ والشّعبيّ أنّهم كانوا يكرهون أن يجلسوا حتّى توضع عن مناكب الرّجال وبه قال محمّد بن الحسن‏.‏

قال ابن حجر في الفتح‏:‏ ذهب أكثر الصّحابة والتّابعين إلى استحباب القيام، كما نقله ابن المنذر، وهو قول الأوزاعيّ، وأحمد، وإسحاق، ومحمّد بن الحسن، والمختار عند الشّافعيّة استحباب القيام مع الجنازة حتّى توضع، قال الحازميّ‏:‏ وخالفهم في ذلك آخرون، ورأوا الجلوس أولى، وقال بعض السّلف‏:‏ يجب القيام‏.‏ فإذا وضعت الجنازة على الأرض عند القبر فلا بأس بالجلوس، وإنّما يكره قبل أن توضع عن مناكب الرّجال‏.‏

والأفضل أن لا يجلسوا ما لم يسوّوا عليه التّراب لرواية أبي معاوية عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة «حتّى توضع في اللّحد» وخالفه الثّوريّ وهو أحفظ فقال‏:‏ «في الأرض»‏.‏ ونقل حنبل ‏"‏ من أصحاب أحمد ‏"‏ لا بأس بقيامه على القبر حتّى تدفن جبراً وإكراماً، وكان أحمد إذا حضر جنازة وَلِيَها لم يجلس حتّى تدفن‏.‏

القيام للجنازة

18 - مذهب الحنفيّة وأحمد لا يقوم للجنازة إذا مرّت به إلاّ أن يريد أن يشهدها، وكذا إذا كان القوم في المصلّى، وجيء بجنازة، قال بعضهم‏:‏ لا يقومون إذا رأوها قبل أن توضع الجنازة عن الأعناق وهو الصّحيح، وما رواه مسلم من قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها حتّى تخلفكم أو توضع» منسوخ بما روي من طرق عن عليّ رضي الله عنه قال‏:‏ «قام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ثمّ قعد»، قال الحازميّ‏:‏ قال أكثر أهل العلم‏:‏ ليس على أحد القيام لجنازة، وبه قال مالك وأهل الحجاز والشّافعيّ وأصحابه، وذهبوا إلى أنّ الأمر بالقيام منسوخ، وكذا قال القاضي عياض‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ كره قيام لها - أي للجنازة - لو جاءت أو مرّت به وهو جالس، وقال في المغني‏:‏ «كان آخر الأمرين من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ترك القيام للجنازة»، والأخذ بآخر الأمرين أولى‏.‏ وفي شرح مسلم‏:‏ المشهور في مذهبنا أنّ القيام ليس مستحبّاً‏.‏ وقالوا‏:‏ هو منسوخ بحديث عليّ ثمّ قال النّوويّ‏:‏ اختار المتولّي من أصحابنا أنّ القيام مستحبّ وهذا هو المختار، فيكون الأمر به للنّدب، والقعود لبيان الجواز، ولا يصحّ دعوى النّسخ في مثل هذا، لأنّ النّسخ إنّما يكون إذا تعذّر الجمع ولم يتعذّر‏.‏

قال القليوبيّ من الشّافعيّة‏:‏ وهذا هو المعتمد‏.‏ وحكى القاضي عياض عن أحمد، وإسحاق، وابن حبيب وابن الماجشون المالكيّين أنّهم قالوا‏:‏ هو مخيّر‏.‏

الصّمت في اتّباع الجنازة

19 - ينبغي لمن تبع الجنازة أن يطيل الصّمت، ويكره رفع الصّوت بالذّكر وقراءة القرآن وغيرهما، لما روي عن قيس بن عبادة أنّه قال‏:‏ «كان أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يكرهون رفع الصّوت عند ثلاثة‏:‏ عند القتال، وعند الجنازة، والذّكر»‏.‏

وهذه الكراهة قيل‏:‏ كراهة تحريم، وقيل‏:‏ ترك الأولى‏.‏ فإن أراد أن يذكر اللّه تعالى ففي نفسه، أي سرّاً بحيث يسمع نفسه، وفي السّراج‏:‏ يستحبّ لمن تبع الجنازة أن يكون مشغولاً بذكر اللّه تعالى، أو التّفكّر فيما يلقاه الميّت، وأنّ هذا عاقبة أهل الدّنيا، وليحذر عمّا لا فائدة فيه من الكلام، فإنّ هذا وقت ذكر وموعظة، فتقبح فيه الغفلة، فإن لم يذكر اللّه تعالى فيلزم الصّمت، ولا يرفع صوته بالقراءة ولا بالذّكر، ولا يغترّ بكثرة من يفعل ذلك، وأمّا ما يفعله الجهّال من القراءة مع الجنازة من رفع الصّوت والتّمطيط فيه فلا يجوز بالإجماع‏.‏ وروى ابن أبي شيبة عن المغيرة قال‏:‏ كان رجل يمشي خلف الجنازة ويقرأ سورة الواقعة فسئل إبراهيم النّخعيّ عن ذلك فكرهه، ولا يسع أحداً يقدر على إنكاره أن يسكت عنه ولا ينكر عليه، وعن إبراهيم النّخعيّ أنّه كان ينكر أن يقول الرّجل وهو يمشي معها‏:‏ استغفروا له يغفر اللّه لكم‏.‏

وقال ابن عابدين‏:‏ إذا كان هذا في الدّعاء والذّكر فما ظنّك بالغناء الحادث في زماننا‏.‏

قال الحنفيّة‏:‏ ولا ينبغي أن يرجع من يتبع جنازة حتّى يصلّي عليها، لأنّ الاتّباع كان للصّلاة عليها، فلا يرجع قبل حصول المقصود، وبعد ما صلّى لا يرجع إلاّ بإذن أهل الجنازة قبل الدّفن، وبعد الدّفن يسعه الرّجوع بغير إذنهم‏.‏ وبه قال المالكيّة وزادوا أنّ الانصراف قبل الصّلاة يكره ولو أذن أهلها، وبعد الصّلاة لا يكره إذا طوّلوا ولم يأذنوا‏.‏

فإذا وضعوها للصّلاة عليها وضعوها عرضاً للقبلة، هكذا توارثه النّاس‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ كره صياح خلفها ب استغفروا لها ونحوه‏.‏

وقال الشّافعيّة أيضاً‏:‏ يكون رفع الصّوت بالذّكر بدعة، وقالوا‏:‏ يكره اللّغط في الجنازة‏.‏ وقال الشّيخ مرعي الحنبليّ‏:‏ وقول القائل معها‏:‏ استغفروا له ونحوه بدعة، وحرّمه أبو حفص، وسنّ كون تابعها متخشّعاً متفكّراً في مآله، متّعظاً بالموت وما يصير إليه الميّت‏.‏

الصّلاة على الجنازة

20 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ الصّلاة على الجنازة فرض على الكفاية، واختلف فيه قول المالكيّة فقال ابن عبد الحكم‏:‏ فرض على الكفاية وهو قول سحنون، وعليه الأكثر وشهره الفاكهانيّ، وقال أصبغ‏:‏ سنّة على الكفاية‏.‏

ونصّ الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة على أنّ الجماعة ليست شرطاً لصحّة الصّلاة على الجنازة وإنّما هي سنّة‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ من شرط صحّتها الجماعة كصلاة الجمعة، فإن صلّي عليها بغير إمام أعيدت الصّلاة ما لم يفت ذلك‏.‏

21 - وأركان صلاة الجنازة عند الحنفيّة‏:‏ التّكبيرات والقيام، فلا تصحّ من القاعد أو الرّاكب من غير عذر، فلو تعذّر النّزول عن الدّابّة لطين ونحوه جاز أن يصلّي عليها راكبا استحساناً، ولو كان الوليّ مريضا فأمّ قاعدا والنّاس قيام أجزأهم عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمّد‏:‏ تجزئ الإمام فقط‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ أركانها خمسة‏:‏ أوّلها‏:‏ النّيّة‏:‏ ثانيها‏:‏ أربع تكبيرات، ثالثها‏:‏ دعاء بينهنّ، وأمّا بعد الرّابعة فإن أحبّ دعا وإن أحبّ لم يدع، رابعها‏:‏ تسليمة واحدة يجهر بها الإمام بقدر التّسميع، خامسها‏:‏ قيام لها لقادر‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ أركانها النّيّة، والتّكبيرات وقراءة الفاتحة، والصّلاة على النّبيّ، وأدنى الدّعاء للميّت، والتّسليمة الأولى، وكذلك يجب القيام على المذهب إن قدر عليه، فلو صلّوا جلوساً من غير عذر أو ركباناً أعادوا‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ أركانها قيام لقادر في فرضها، وتكبيرات أربع، وقراءة الفاتحة على غير المأموم، والصّلاة على النّبيّ، وأدنى دعاء لميّت ‏(‏ويتّجه‏)‏ يخصّه به بنحو اللّهمّ ارحمه فلا يكفي قوله‏:‏ اللّهمّ اغفر لحيّنا وميّتنا، وسلام، وترتيب‏.‏

شروط صلاة الجنازة

22 - يشترط لصحّة صلاة الجنازة ما يشترط لبقيّة الصّلوات من الطّهارة الحقيقيّة بدناً وثوباً ومكاناً، والحكميّة، وستر العورة، واستقبال القبلة، والنّيّة، سوى الوقت‏.‏

وشرط الحنفيّة أيضاً ما يلي‏:‏

أوّلها‏:‏ إسلام الميّت لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تُصَلِّ على أَحَدٍ منهم مَاتَ أبداً‏}‏‏.‏

والثّاني‏:‏ طهارته من نجاسة حكميّة وحقيقيّة في البدن، فلا تصحّ على من لم يغسّل، ولا على من عليه نجاسة، وهذا الشّرط عند الإمكان فلو دفن بلا غسل ولم يمكن إخراجه إلاّ بالنّبش سقط الغسل وصلّي على قبره بلا غسل للضّرورة - هذه رواية ابن سماعة عن محمّد، وصحّح في غاية البيان معزيّا إلى القدوريّ وصاحب التّحفة أنّه لا يصلّى عليه، لأنّها بلا غسل غير مشروعة - بخلاف ما إذا لم يهل عليه التّراب، فإنّه يخرج ويغسّل ويصلّى عليه‏.‏ ولو صلّي عليه بلا غسل جهلاً مثلاً، ثمّ دفن ولا يخرج إلاّ بالنّبش أعيدت الصّلاة على قبره استحسانا، ويشترط طهارة الكفن إلاّ إذا شقّ ذلك، لما في خزانة الفتاوى من أنّه إن تنجّس الكفن بنجاسة الميّت لا يضرّ، دفعا للحرج، بخلاف الكفن المتنجّس ابتداء‏.‏

وكذا لو تنجّس بدنه بما خرج منه، إن كان قبل أن يكفّن غسّل وبعده لا، وأمّا طهارة مكان الميّت، ففي الهنديّة والفوائد التّاجيّة أنّها ليست بشرط، وفي مراقي الفلاح والقنية أنّها شرط، فإذا كان المكان نجساً، وكان الميّت على الجنازة ‏"‏ النّعش ‏"‏ تجوز الصّلاة، وإن كان على الأرض ففي الفوائد لا يجوز، ومال إلى الجواز قاضي خان، وجزم في القنية بعدمه‏.‏ وجه الجواز أنّ الكفن حائل بين الميّت والنّجاسة، ووجه عدم الجواز أنّ الكفن تابع فلا يعدّ حائلاً‏.‏ والحاصل أنّه إن كان المراد بمكان الميّت الأرض، وكان الميّت على الجنازة، فعدم اشتراط طهارة الأرض متّفق عليه‏.‏ وإن كان المراد الجنازة فالظّاهر أنّه تختلف الأقوال فيه كما اختلفت فيما إذا كان الميّت موضوعاً على الأرض النّجسة‏.‏

قال في القنية‏:‏ الطّهارة من النّجاسة في ثوب وبدن ومكان، وستر العورة شرطان في حقّ الميّت والإمام جميعاً، فلو أمّ بلا طهارة، والقوم بها أعيدت، وبعكسه لا، لسقوط الفرض بصلاة الإمام‏.‏

والثّالث‏:‏ تقديم الميّت أمام القوم فلا تصحّ على ميّت موضوع خلفهم‏.‏

والرّابع‏:‏ حضوره أو حضور أكثر بدنه أو نصفه مع رأسه‏.‏

والخامس‏:‏ وضعه على الأرض أو على الأيدي قريباً منها‏.‏

والسّادس‏:‏ ستر عورته - هذا هو المذكور في الدّرّ المختار‏.‏

والسّابع‏:‏ قال صاحب الدّرّ‏:‏ بقي من الشّروط بلوغ الإمام، فلو أمّ صبيّ في صلاة الجنازة ينبغي أن لا يجوز وهو الظّاهر، لأنّها من فروض الكفاية،وهو ليس من أهل أداء الفرائض‏.‏ ولكن نقل في الأحكام عن جامع الفتاوى سقوط الفرض بفعله‏.‏

والثّامن‏:‏ محاذاة الإمام جزءا من أجزاء الميّت إذا كان الميّت واحداً، وأمّا إذا كثرت الموتى فيجعلهم صفّا ويقوم عند أفضلهم، قال ابن عابدين‏:‏ الأقرب كون المحاذاة شرطاً‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ لا يجب أن يسامت الإمام الميّت فإن لم يسامته كره، وفي تعليق الغاية‏:‏ لعلّه ما لم يفحش عرفاً، فلا تصحّ إن فحش‏.‏

23 - وقد وافق الحنابلة الحنفيّة على اشتراط إسلام الميّت وطهارته، وستر عورته، وحضوره بين يدي المصلّي من الشّروط الّتي ترجع إلى الميّت، وعلى اشتراط كون المصلّي مكلّفاً، واجتنابه النّجاسة، واستقباله القبلة، وستر العورة، والنّيّة، من الّتي ترجع إلى المصلّي‏.‏ وخالفوهم في اشتراط حضور الجنازة فجوّزوا الصّلاة على غائب عن بلد دون مسافة قصر، أو في غير قبلته، وعلى غريق وأسير ونحوه، إلى شهر بالنّيّة، وأمّا ما اشترطوه من حضوره بين يدي المصلّي، فمعناه أن لا تكون الجنازة محمولة، ولا من وراء حائل، كحائط قبل دفن، ولا في تابوت مغطّى‏.‏

ووافق الشّافعيّة الحنابلة على عدم اشتراط حضوره، وتجويز الصّلاة على الغائب، ووافقت المالكيّة الحنفيّة على اشتراط حضوره، وأمّا وضعه أمام المصلّي بحيث يكون عند منكبي المرأة ووسط الرّجل فمندوب عندهم، وعند الحنفيّة أيضاً، إلاّ أنّ محاذاة الإمام بجزء من الميّت شرط عند الحنفيّة‏.‏

وخالف المالكيّة والشّافعيّة الحنفيّة في اشتراط وضعه على الأرض، فقالوا‏:‏ تجوز الصّلاة على المحمول على دابّة، أو على أيدي النّاس، أو على أعناقهم‏.‏

وانفرد المالكيّة باشتراط الإمامة في صلاة الجنازة على ما صرّح به ابن رشد، وصرّح غيره بصحّة صلاة المنفرد عليه، ففي الشّرح الصّغير إن صلّى عليها منفرداً أعيدت ندباً جماعة‏.‏

والواجب عند الحنفيّة في صلاة الجنازة التّسليم مرّتين بعد التّكبيرة الرّابعة، وعند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة التّسليم مرّة واحدة ركن، قالوا لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «وتحليلها التّسليم» في الصّلاة‏.‏

وورد التّسليم مرّة واحدة على الجنازة عن ستّة من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم والتّسليمة الثّانية مسنونة عند الشّافعيّة جائزة عند الحنابلة‏.‏

وأمّا سننها فتفصيلها كما يلي‏:‏

الأولى‏:‏ قيام الإمام بحذاء صدر الميّت ذكرا كان الميّت أو أنثى سنّة عند الحنفيّة، وفي حواشي الطّحطاويّ على المراقي ما يدلّ على أنّه مستحبّ‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ ليس لصلاة الجنازة سنن بل لها مستحبّات، منها وقوف الإمام والمنفرد حذاء وسط الرّجل، ومنكبي المرأة والخنثى‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ إنّهما يقومان عند رأس الرّجل، وعند عجز المرأة أو الخنثى‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ عند صدر الرّجل، ووسط الأنثى، وسنّ ذلك من خنثى‏.‏

الثّانية‏:‏ الثّناء بعد التّكبيرة الأولى سنّة عند الحنفيّة وهو اختيار الخلّال من الحنابلة وهو‏:‏ سبحانك اللّهمّ وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدّك، ولا إله غيرك‏.‏

وقال الشّافعيّة والحنابلة والطّحاويّ من الحنفيّة‏:‏ لا استفتاح منه ولكن النّقل والعادة أنّهم يستفتحون بعد تكبيرة الافتتاح‏.‏

وقال في ‏"‏ سكب الأنهر ‏"‏ الأولى ترك‏:‏ ‏"‏ وجلّ ثناؤك ‏"‏ إلاّ في صلاة الجنازة، وقال ابن عابدين‏:‏ مقتضى ظاهر الرّواية حصول السّنّة بأيّ صيغة من صيغ الحمد‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ لا ثناء في التّكبيرة الأولى، ولكن ابتداء الدّعاء بحمد اللّه والصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم مندوب، أي بعد التّكبيرة الثّانية‏.‏

وقال الحنابلة أيضاً‏:‏ لا يستفتح‏.‏ وجاء قراءة الفاتحة بقصد الثّناء كذا نصّ عليه الحنفيّة، وقال عليّ القاريّ‏:‏ يستحبّ قراءتها بنيّة الدّعاء خروجا من الخلاف‏.‏

الثّالثة‏:‏ ومن السّنن عند الحنفيّة الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعد التّكبيرة الثّانية بقوله‏:‏ اللّهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد إلى آخره، لأنّ تقديم الصّلاة على الدّعاء وتقديم الثّناء عليهما سنّة، قالوا‏:‏ وينبغي أن يصلّي على النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعد الدّعاء أيضاً، لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «اجعلوني في أوّل الدّعاء وأوسطه وآخره»‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم مندوبة عقب كلّ تكبيرة قبل الشّروع في الدّعاء، بأن يقول‏:‏ الحمد للّه الّذي أمات وأحيا، والحمد للّه الّذي يحيي الموتى وهو على كلّ شيء قدير، اللّهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد، وبارك على محمّد، وعلى آل محمّد، كما صلّيت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنّك حميد مجيد، كما يدعو كما سيأتي، وهي عند الشّافعيّة والحنابلة ركن كما مرّ‏.‏

25 - الرّابعة‏:‏ ومن السّنن عند الحنفيّة دعاء المصلّي للميّت ولنفسه ‏"‏ وإذا دعا لنفسه قدّم نفسه على الميّت لأنّ من سنّة الدّعاء أن يبدأ فيه بنفسه ‏"‏ ولجماعة المسلمين، وذلك بعد التّكبيرة الثّالثة، ولا يتعيّن للدّعاء شيء سوى كونه بأمور الآخرة، ولكن إن دعا بالمأثور عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم فهو أحسن وأبلغ لرجاء قبوله‏.‏

فمن المأثور ما حفظ عوف بن مالك من دعاء النّبيّ صلى الله عليه وسلم على جنازة «اللّهمّ اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسّع مدخله، واغسله بالماء والثّلج والبرد، ونقّه من الخطايا كما ينقّى الثّوب الأبيض من الدّنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخله الجنّة، وأعذه من عذاب القبر ومن عذاب النّار»‏.‏

وفي الأصل روايات أخر، منها‏:‏ ما رواه أبو حنيفة في مسنده من حديث أبي هريرة‏:‏

«اللّهمّ اغفر لحيّنا وميّتنا، وشاهدنا وغائبنا، وذكرنا وأنثانا، وصغيرنا وكبيرنا»‏.‏

وزاد أحمد وأصحاب السّنن إلاّ النّسائيّ «اللّهمّ من أحييته منّا فأحيه على الإسلام، ومن توفّيته منّا فتوفّه على الإيمان»‏.‏ وفي رواية «اللّهمّ إن كان محسناً فزد في إحسانه، وإن كان مسيئاً فتجاوز عن سيّئاته، اللّهمّ لا تحرمنا أجره، ولا تفتنّا بعده»‏.‏

فإن كان الميّت صغيراً فعن أبي حنيفة ينبغي أن يقول‏:‏ اللّهمّ اجعله لنا فرطاً، واجعله لنا أجراً وذخراً، اللّهمّ اجعله لنا شافعاً ومشفّعاً، مقتصراً عليه كما هو في متون المذهب، أو بعد الدّعاء المذكور كما في حواشي الطّحطاويّ على المراقي وغيرها‏.‏

وقال الشّوكانيّ‏:‏ إذا كان الميّت طفلا استحبّ أن يقول‏:‏ اللّهمّ اجعله لنا سلفاً وفرطاً وأجراً‏.‏ وهذا كلّه إذا كان يحسن ذلك فإن كان لا يحسن يأتي بأيّ دعاء شاء، وقال في الدّرّ‏:‏ لا يستغفر فيها لصبيّ، ومجنون، ومعتوه، لعدم تكليفهم، ولا ينافي هذا قوله‏:‏ ‏"‏ وصغيرنا وكبيرنا ‏"‏ لأنّ المقصود الاستيعاب‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ إن كان صغيراً أو استمرّ مجنوناً قال‏:‏ اللّهمّ اجعله ذخراً لوالديه‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ وظاهره الاقتصار عليه‏.‏

وصرّح الشّافعيّة بأنّ هذا الدّعاء يكون بدل الدّعاء المذكور للبالغين، وهو ظاهر كلام المالكيّة أيضاً، فكأنّ أقوال الأربعة اتّفقت في الدّعاء للصّغير بهذه الصّيغة‏.‏

الدّعاء للميّت

26 - الدّعاء عند المالكيّة والحنابلة ركن، ولكن عند المالكيّة يدعو عقب كلّ تكبيرة حتّى الرّابعة، وفي قول آخر عندهم لا يجب بعد الرّابعة كما تقدّم، وأقلّ الدّعاء أن يقول‏:‏ اللّهمّ اغفر له ونحو ذلك، وأحسنه أن يدعو بدعاء أبي هريرة وهو أن يقول‏:‏ بعد حمد اللّه تعالى والصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ اللّهمّ إنّه عبدك وابن عبدك وابن أمتك، كان يشهد أن لا إله إلاّ أنت وحدك لا شريك لك وأنّ محمّداً عبدك ورسولك وأنت أعلم به، اللّهمّ إن كان محسناً فزد في إحسانه وإن كان مسيئاً فتجاوز عن سيّئاته، اللّهمّ لا تحرمنا أجره ولا تفتنّا بعده‏.‏

ويقول في المرأة‏:‏ اللّهمّ إنّها أمتك وبنت عبدك وبنت أمتك، ويستمرّ في الدّعاء المتقدّم بصيغة التّأنيث، ويقول في الطّفل الذّكر‏:‏ اللّهمّ إنّه عبدك وابن عبدك أنت خلقته ورزقته، وأنت أمتّه وأنت تحييه، اللّهمّ اجعله لوالديه سلفاً وذخراً، وفرطاً وأجراً، وثقّل به موازينهما، وأعظم به أجورهما، ولا تفتنّا وإيّاهما بعده، اللّهمّ ألحقه بصالح سلف المؤمنين في كفالة إبراهيم‏.‏ ويزيد في الكبير‏:‏ وأبدله داراً خيراً من داره وأهلاً خيراً من أهله، وعافه من فتنة القبر وعذاب جهنّم‏.‏ فإن كان يصلّي على ذكر وأنثى معا يغلّب الذّكر على الأنثى فيقول‏:‏ إنّهما عبداك وابنا عبديك وابنا أمتيك‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏

وكذا إذا كان يصلّي على جماعة من رجال ونساء، فإنّه يغلّب الذّكور على الإناث فيقول‏:‏ اللّهمّ إنّهم عبيدك وأبناء عبيدك‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏ فإن كان يصلّي على نساء يقول‏:‏ اللّهمّ إنّهنّ إماؤك، وبنات عبيدك، وبنات إمائك كنّ يشهدن‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏

ويزيد على الدّعاء المذكور في حقّ كلّ ميّت بعد التّكبيرة الرّابعة ‏"‏ اللّهمّ اغفر لأسلافنا، وأفراطنا، ومن سبقنا بالإيمان، اللّهمّ من أحييته منّا فأحيه على الإيمان، ومن توفّيته منّا فتوفّه على الإسلام، واغفر للمسلمين والمسلمات، ثمّ يسلّم‏.‏

والفرض عند الشّافعيّة أدنى دعاء للميّت كما تقدّم لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا صلّيتم على الميّت فأخلصوا له الدّعاء»‏.‏

ويشترط فيه أن يكون بعد التّكبيرة الثّالثة، وأن يكون مشتملاً على طلب الخير للميّت الحاضر، فلو دعا للمؤمنين بغير دعاء له لا يكفي، إلاّ إذا كان صبيّاً، فإنّه يكفي كما يكفي الدّعاء لوالديه، وأن يكون المطلوب به أمراً أخرويّاً كطلب الرّحمة والمغفرة وإن كان الميّت غير مكلّف، ولا يتقيّد المصلّي في الدّعاء بصيغة خاصّة، والأفضل أن يدعو بالدّعاء المشهور الّذي انتخبه الشّافعيّ من مجموع أحاديث وهو‏:‏ «اللّهمّ هذا عبدك وابن عبديك، خرج من روح الدّنيا وسعتها، ومحبوبه وأحبّائه فيها إلى ظلمة القبر وما هو لاقيه، كان يشهد أن لا إله إلاّ أنت، وأنّ محمّداً عبدك ورسولك وأنت أعلم به، اللّهمّ إنّه نزل بك وأنت خير منزول به، وأصبح فقيراً إلى رحمتك وأنت غنيّ عن عذابه، وقد جئناك راغبين إليك شفعاء له، اللّهمّ إن كان محسناً فزد في إحسانه، وإن كان مسيئاً فتجاوز عنه، ولقه برحمتك رضاك وقه فتنة القبر وعذابه، وافسح له في قبره، وجاف الأرض عن جنبيه، ولقه برحمتك الأمن من عذابك حتّى تبعثه آمناً إلى جنّتك برحمتك يا أرحم الرّاحمين»‏.‏

27 - ويستحبّ أن يقول قبله‏:‏ الدّعاء الّذي رواه التّرمذيّ‏:‏ «اللّهمّ اغفر لحيّنا وميّتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، اللّهمّ من أحييته منّا فأحيه على الإسلام، ومن توفّيته منّا فتوفّه على الإيمان، اللّهمّ لا تحرمنا أجره»‏.‏

ويندب أن يقول‏:‏ بين الدّعاءين المذكورين‏:‏ اللّهمّ اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسّع مدخله، واغسله بالماء والثّلج والبرد، ونقّه من الخطايا كما ينقّى الثّوب الأبيض من الدّنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه، وأعذه من عذاب القبر وفتنته، ومن عذاب النّار‏.‏

وينبغي أن يلاحظ المصلّي في دعائه التّذكير والتّأنيث، والتّثنية والجمع، بما يناسب حال الميّت الّذي يصلّي عليه، وله أن يذكّر مطلقا بقصد الشّخص، وأن يؤنّث مطلقاً بقصد الجنازة، ويصحّ أن يقول في الدّعاء على الصّغير بدل الدّعاء المذكور‏:‏ اللّهمّ اجعله فرطاً لأبويه، وسلفاً، وذخراً وعظة، واعتباراً وشفيعاً، وثقّل به موازينهما، وأفرغ الصّبر على قلوبهما، ولا تفتنهما بعده، ولا تحرمهما أجره‏.‏

ويتأدّى الرّكن عند الحنابلة بأدنى دعاء للميّت يخصّه به نحو اللّهمّ ارحمه‏.‏

ومحلّ الدّعاء عندهم بعد التّكبيرة الثّالثة ويجوز عقب الرّابعة، ولا يصحّ عقب سواهما‏.‏ والمسنون الدّعاء بما ورد، ومنه‏:‏ اللّهمّ اغفر لحيّنا وميّتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، إنّك تعلم منقلبنا ومثوانا، وأنت على كلّ شيء قدير، اللّهمّ من أحييته منّا فأحيه على الإسلام والسّنّة، ومن توفّيته منّا فتوفّه عليهما، اللّهمّ اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسّع مدخله، واغسله بالماء والثّلج والبرد، ونقّه من الذّنوب والخطايا كما ينقّى الثّوب الأبيض من الدّنس، وأبدله دارا خيرا من داره، وزوجا خيرا من زوجه، وأدخله الجنّة، وأعذه من عذاب القبر، ومن عذاب النّار، وافسح له في قبره ونوّر له فيه، وهذا الدّعاء للميّت الكبير ذكرا كان أو أنثى إلاّ أنّه يؤنّث الضّمائر في الأنثى‏.‏ وإن كان الميّت صغيراً أو بلغ مجنوناً واستمرّ على جنونه حتّى مات قال في الدّعاء‏:‏ اللّهمّ اجعله ذخراً لوالديه، وفرطاً وأجراً، وشفيعاً مجاباً، اللّهمّ ثقّل به موازينهما، وأعظم به أجورهما، وألحقه بصالح سلف المؤمنين، واجعله في كفالة إبراهيم، وقه برحمتك عذاب الجحيم، يقال ذلك في الذّكر والأنثى إلاّ أنّه يؤنّث في المؤنّث‏.‏

28 - وليس لصلاة الجنازة عند المالكيّة سنن بل لها مستحبّات، وهي الإسرار بها، ورفع اليدين عند التّكبيرة الأولى فقط، حتّى يكونا حذو أذنيه، وابتداء الدّعاء بحمد اللّه، والصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم ووقوف الإمام عند وسط الرّجل، وعند منكبي المرأة، وأمّا المأموم فيقف خلف الإمام كما يقف في غيرها من الصّلاة، وجهر الإمام بالسّلام والتّكبير بحيث يسمع من خلفه، وأمّا غيره فيسرّ فيها‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ سنّتها التّعوّذ قبل الفاتحة والتّأمين، والإسرار بالقراءة والدّعاء وسائر الأقوال فيها ولو فعلت ليلا، عدا التّكبير والسّلام فيجهر بها، وفعل الصّلاة في جماعة، وأن يكونوا ثلاثة صفوف فأكثر إذا أمكن، وأقلّ الصّفّ اثنان ولو بالإمام، ولا تكره مساواة المأموم للإمام في الوقوف، حينئذ واختيار أكمل صيغ الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم وهو مذكور في سنن الصّلاة، والصّلاة على الآل دون السّلام عليهم، وعلى النّبيّ عليه الصلاة والسلام، والتّحميد قبل الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم والدّعاء للمؤمنين والمؤمنات بعد الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم والدّعاء المأثور في صلاة الجنازة والتّسليمة الثّانية، وأن يقول بعد التّكبيرة الرّابعة قبل السّلام‏:‏ اللّهمّ لا تحرمنا أجره ولا تفتنّا بعده‏.‏ ثمّ يقرأ ‏{‏الَّذينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ ومَنْ حَولَه يُسَبِّحُونَ بِحَمدِ رَبِّهمْ وَيُؤمنونَ بهِ‏}‏ وأن يقف الإمام أو المنفرد عند رأس الرّجل، وعند عجز الأنثى أو الخنثى، وأن يرفع يديه عند كلّ تكبيرة ثمّ يضعهما تحت صدره، وأن لا ترفع الجنازة حتّى يتمّ المسبوق صلاته، وإن تكرّر الصّلاة عليه من أشخاص متغايرين، أمّا إعادتها ممّن أقاموها أوّلا فمكروهة‏.‏ ومن السّنن ترك دعاء الافتتاح، وترك السّورة، ويكره أن يصلّى عليه قبل أن يكفّن‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ سننها فعلها في جماعة، وأن لا ينقص عدد كلّ صفّ عن ثلاثة إن كثر المصلّون، وإن كانوا ستّة جعلهم الإمام صفّين، وإن كانوا أربعة جعل كلّ اثنين صفّاً، ولا تصحّ صلاة من صلّى خلف الصّفّ وحده كغيرها من الصّلاة، وأن يقف الإمام والمنفرد عند صدر الرّجل ووسط الأنثى، وأن يسرّ بالقراءة والدّعاء فيها وقد ذكروا التّعوّذ والتّسمية قبل قراءة الفاتحة، ولم يطّلع على تصريح لهم بسنّيّتها‏.‏

29 - وإذا كان القوم سبعة قاموا ثلاثة صفوف يتقدّم واحد ويقوم خلفه ثلاثة، وخلفهم اثنان، وخلفهما واحد، وهذا عند الحنفيّة‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ يسنّ أن لا تنقص الصّفوف عن ثلاثة، ولا ينقص عدد كلّ صفّ عن ثلاثة إن كثر المصلّون، وإن كانوا ستّة جعلهم الإمام صفّين، وإن كانوا أربعة جعل كلّ اثنين صفّاً، ولا تصحّ صلاة من صلّى خلف الصّفّ وحده‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ من سننها أن يكون ثلاثة صفوف إذا أمكن، وأقلّ الصّفّ اثنان ولو بالإمام، ولا تكره مساواة المأموم للإمام في الوقوف حينئذ‏.‏

وقد روى التّرمذيّ من حديث مالك بن هبيرة مرفوعاً‏:‏ «من صلّى عليه ثلاثة صفوف فقد أوجب»، وفي رواية‏:‏ «إلاّ غفر له» وقد كان مالك بن هبيرة يصفّ من يحضر الصّلاة على الجنازة ثلاثة صفوف سواء قلّوا أو كثروا‏.‏

صفة صلاة الجنازة

30 - مذهب الحنفيّة أنّ الإمام يقوم في الصّلاة على الجنازة بحذاء الصّدر من الرّجل والمرأة، وهذا أحسن مواقف الإمام من الميّت للصّلاة عليه، وإن وقف في غيره جاز‏.‏ وروى الحسن عن أبي حنيفة أنّه قال‏:‏ يقوم بحذاء الوسط من الرّجل، وبحذاء الصّدر من المرأة، وهو قول ابن أبي ليلى‏.‏

وعند المالكيّة يندب أن يقف الإمام وسط الذّكر وحذو منكبي غيره، ومذهب الشّافعيّة أنّ الإمام يقوم ندبا عند رأس الرّجل، وعجيزة المرأة، لما روي أنّ «أنساً صلّى على رجل فقام عند رأسه، وعلى امرأة فقام عند عجيزتها، فقال له العلاء بن زياد‏:‏ هكذا كانت صلاة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على المرأة عند عجيزتها وعلى الرّجل عند رأسه‏؟‏ قال‏:‏ نعم» قالوا‏:‏ لأنّه أبلغ في صيانة المرأة عن الباقين‏.‏

فإن وقف من الرّجل والمرأة في أيّ مكان جاز وخالف السّنّة‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ يقوم عند صدر رجل، وقيل عند رأسه، ووسط امرأة، وبين الصّدر والوسط من الخنثى، لحديث أنس «وفيه أنّه صلّى على امرأة فقام وسط السّرير»‏.‏

31 - وينوي الإمام والمأمومون، ثمّ يكبّر ومن خلفه أربع تكبيرات، وهو متّفق عليه عند الفقهاء، وبه قال الثّوريّ وابن المبارك وإسحاق‏.‏ وعليه العمل عند أكثر أهل العلم كما قال التّرمذيّ وابن المنذر - ولو ترك واحدة منها لم تجز صلاته‏.‏

قال الحنفيّة‏:‏ ولو كبّر الإمام خمساً لم يتبع، لأنّه منسوخ، ولكن ينتظر سلامه في المختار ليسلّم معه على الأصحّ، وفي رواية يسلّم المأموم إذا كبّر إمامه التّكبيرة الزّائدة‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ لو كبّر الإمام خمساً لم يتابعه المأموم في الخامسة، بل يسلّم أو ينتظر ليسلّم معه وهذا هو الأصحّ، وخلاف الأصحّ أنّه لو تابعه لم يضرّ‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ الأولى أن لا يزاد على أربع تكبيرات ويتابع إمامه فيما زاد إلى سبع فقط، ويحرم سلام قبله، إن جاوز سبعاً‏.‏

قال الحنفيّة‏:‏ فإذا كبّر الأولى مع رفع يديه أثنى على اللّه كما مرّ‏.‏

وعند الشّافعيّة والحنابلة إذا كبّر الأولى تعوّذ وسمّى وقرأ الفاتحة‏.‏

وقال الحنفيّة والمالكيّة‏:‏ ليس في صلاة الجنازة قراءة‏.‏

وإذا كبّر الثّانية يأتي بالصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم وهي الصّلاة الإبراهيميّة الّتي يأتي بها في القعدة الأخيرة من ذوات الرّكوع، وإذا كبّر الثّالثة يدعو للميّت ويستغفر له كما تقدّم، ثمّ يكبّر الرّابعة ولا دعاء بعد الرّابعة، وهو ظاهر مذهب الحنفيّة ومذهب الحنابلة، وقيل عند الحنفيّة‏:‏ يقول‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيا حَسَنَةً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إلخ

وقيل‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا‏}‏ إلخ، وقيل‏:‏ يخيّر بين السّكوت والدّعاء، وعند الشّافعيّة والمالكيّة يدعو بعد الرّابعة أيضاً ثمّ يسلّم تسليمة واحدة أو تسليمتين على الخلاف المتقدّم‏.‏ وينوي التّسليم على الميّت مع القوم كما في الدّرّ ومراقي الفلاح‏.‏

وفي الهنديّة‏:‏ لا ينوي التّسليم على الميّت‏.‏

ولا يجهر بما يقرأ عقب كلّ تكبيرة سواء في الفاتحة أو غيرها ليلاً كانت الصّلاة أو نهاراً‏.‏ وهل يرفع صوته بالتّسليم‏؟‏ لم يتعرّض له الحنفيّة في ظاهر الرّواية، وذكر الحسن بن زياد أنّه لا يرفع، لأنّه للإعلام ولا حاجة إليه، لأنّ التّسليم مشروع عقب التّكبير بلا فصل، لكن العمل على خلافه، وفي جواهر الفتاوى‏:‏ يجهر بتسليم واحد‏.‏

وروى محمّد في موطّئه أنّ ابن عمر كان إذا صلّى على جنازة سلّم حتّى يسمع من يليه، قال محمّد‏:‏ وبهذا نأخذ فيسلّم عن يمينه ويساره ويسمع من يليه وهو قول أبي حنيفة‏.‏

وقال أبو يوسف‏:‏ إنّه لا يجهر كلّ الجهر ولا يسرّ كلّ الإسرار‏.‏

وعند المالكيّة يجهر الإمام بالتّسليم بقدر التّسميع، ويندب لغير الإمام إسرارها‏.‏

وقال النّوويّ‏:‏ قال جمهورهم‏:‏ يسلّم تسليمة واحدة‏.‏

واختلفوا هل يجهر الإمام بالتّسليم‏؟‏

فأبو حنيفة والشّافعيّ يقولان‏:‏ يجهر، وعن مالك روايتان، وفي المدوّنة قال مالك في السّلام على الجنائز‏:‏ يسمع نفسه وكذلك من خلف الإمام وهو دون سلام الإمام، تسليمة واحدة للإمام وغيره، وفي رواية يسلّم الإمام واحدة قدر ما يسمع من يليه، ويسلّم من وراءه واحدة في أنفسهم، وإن أسمعوا من يليهم لم أر بذلك بأساً،

وقالت الحنابلة‏:‏ يسلّم بلا تشهّد واحدة عن يمينه، ويجوز تلقاء وجهه، ويجوز ثانية‏.‏

ولا يرفع يديه في غير التّكبيرة الأولى عند الحنفيّة في ظاهر الرّواية، وكثير من مشايخ بلخ اختاروا الرّفع في كلّ تكبيرة‏.‏ وبه قال مالك، فقد روي عنه لا ترفع الأيدي في الصّلاة على الجنازة إلاّ في أوّل تكبيرة، وروي عنه أنّه يعجبني أن يرفع يديه في التّكبيرات الأربع‏.‏ والرّاجح في مذهبهم الأوّل وهو الّذي ذهب إليه الثّوريّ، وفي الشّرح الصّغير‏:‏ ندب رفع اليدين حذو المنكبين عند التّكبيرة الأولى فقط، وفي غير الأولى خلاف الأولى‏.‏

وقال الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ يسنّ أن يرفع يديه في كلّ تكبيرة‏.‏

ما يفعل المسبوق في صلاة الجنازة

32 - إذا جاء رجل وقد كبّر الإمام التّكبيرة الأولى ولم يكن حاضراً انتظره حتّى إذا كبّر الثّانية كبّر معه، فإذا فرغ الإمام كبّر المسبوق التّكبيرة الّتي فاتته قبل أن ترفع الجنازة، وهذا قول أبي حنيفة ومحمّد رضي الله عنهما‏.‏ وقال أبو يوسف يكبّر حين يحضر، وكذا إن جاء وقد كبّر الإمام تكبيرتين أو ثلاثاً، فإن لم ينتظر المسبوق وكبّر قبل تكبير الإمام الثّانية أو الثّالثة أو الرّابعة لم تفسد صلاته، ولكن لا يعتدّ بتكبيرته هذه، وإن جاء وقد كبّر الإمام أربعا ولم يسلّم لا يدخل معه في رواية أبي حنيفة، والأصحّ أنّه يدخل، وعليه الفتوى، ثمّ يكبّر ثلاثاً قبل أن ترفع الجنازة متتابعاً لا دعاء فيها - وهو قول أبي يوسف - ولو رفعت بالأيدي ولم توضع على الأكتاف ذكر في ظاهر الرّواية أنّه لا يأتي بالتّكبير‏.‏ وعن محمّد إن كانت إلى الأرض أقرب يكبّر وإلاّ فلا، وهو الّذي ينبغي أن يعوّل عليه كما في الشرنبلالية‏.‏

هذا إذا كان غائباً ثمّ حضر، وأمّا إذا كان حاضراً مع الإمام فتغافل ولم يكبّر مع الإمام أو تشاغل بالنّيّة فأخّر التّكبير، فإنّه يكبّر ولا ينتظر تكبيرة الإمام الثّانية في قولهم جميعاً، لأنّه لمّا كان مستعدّاً جعل كالمشارك‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ إذا جاء والإمام مشتغل بالدّعاء فإنّه يجب عليه أن لا يكبّر حتّى إذا كبّر الإمام كبّر معه، فإن لم ينتظر وكبّر صحّت صلاته ولكن لا تحتسب تكبيرته هذه، سواء انتظر أو لم ينتظر، وإذا سلّم الإمام قضى المأموم ما فاته من التّكبير سواء رفعت الجنازة فوراً أو بقيت، إلاّ أنّه إذا بقيت الجنازة دعا عقب كلّ تكبيرة يقضيها، وإن رفعت فوراً والى التّكبير ولا يدعو لئلاّ يكون مصلّياً على غائب، والصّلاة على الغائب غير مشروعة عندهم، أمّا إذا كان الإمام ومن معه قد فرغوا من التّكبيرة الرّابعة فلا يدخل المسبوق معه على الصّحيح، لأنّه في حكم التّشهّد، فلو دخل معه يكون مكرّراً الصّلاة على الميّت وتكرارها مكروه عندهم‏.‏ وقال الشّافعيّة‏:‏ إذا جاء المأموم وقد فرغ الإمام من التّكبيرة الأولى أو غيرها، واشتغل بما بعدها من قراءة أو غيرها، فإنّه يدخل معه ولا ينتظر الإمام حتّى يكبّر التّكبيرة التّالية، إلاّ أنّه يسير في صلاته على نظم الصّلاة لو كان منفرداً، فبعد أن يكبّر التّكبيرة الأولى يقرأ من الفاتحة ما يمكنه قراءته قبل تكبير الإمام ويسقط عنه الباقي، ثمّ يصلّي على النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعد الثّانية وهكذا، فإذا فرغ الإمام أتمّ المأموم صلاته على النّظم المذكور، ويأتي بالأذكار في مواضعها، سواء بقيت الجنازة أو رفعت، وإذا لم يمكنه قراءة شيء من الفاتحة إن كبّر إمامه عقب تكبير المسبوق للإحرام كبّر معه وتحمّل الإمام عنه كلّ الفاتحة‏.‏ وفي التّنبيه‏:‏ من سبقه الإمام ببعض التّكبيرات دخل في الصّلاة وأتى بما أدرك، فإذا سلّم الإمام كبّر ما بقي متوالياً‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ من سبق ببعض الصّلاة كبّر ودخل مع الإمام حيث أدركه ولو بين تكبيرتين ندباً كالصّلاة، أو كان إدراكه له بعد تكبيرة الرّابعة قبل السّلام، فيكبّر للإحرام معه ويقضي ثلاث تكبيرات استحباباً، ويقضي مسبوق ما فاته قبل دخوله مع الإمام على صفته، لأنّ القضاء يحكي الأداء كسائر الصّلوات، ويكون قضاؤه بعد سلام الإمام كالمسبوق في الصّلاة‏.‏ قال البهوتيّ‏:‏ قلت‏:‏ لكن إن حصل له عذر يبيح ترك جمعة وجماعة صحّ أن ينفرد ويتمّ لنفسه قبل سلامه، فإن أدركه المسبوق في الدّعاء تابعه فيه، فإذا سلّم الإمام كبّر وقرأ الفاتحة بعد التّعوّذ والبسملة، ثمّ كبّر وصلّى على النّبيّ صلى الله عليه وسلم ثمّ كبّر وسلّم ‏;‏ لما تقدّم من أنّ المقضيّ أوّل صلاته، فيأتي فيه بحسب ذلك، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم «وما فاتكم فأتمّوا» وإنّما يظهر إذا كان الدّعاء بعد الرّابعة أو بعد الثّالثة، لكنّه لم يأت بها لنوم أو سهو ونحوه‏.‏ وإلاّ لزم عليه الزّيادة على أربع، وتركها أفضل‏.‏

فإن كان أدركه في الدّعاء وكبّر الأخيرة معه فإذا سلّم الإمام كبّر وقرأ الفاتحة، ثمّ كبّر وصلّى عليه صلى الله عليه وسلم ثمّ سلّم من غير تكبير، لأنّ الأربع تمّت‏.‏ وإن كبّر مع الإمام التّكبيرة الأولى ولم يكبّر الثّانية والثّالثة يكبّرهما، ثمّ يكبّر مع الإمام الرّابعة‏.‏

ترك بعض التّكبيرات

33 - ولو سلّم الإمام بعد الثّالثة ناسيا كبّر الرّابعة ويسلّم‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ إن ترك غير مسبوق تكبيرة عمدا بطلت، وإن ترك سهوا فإن كان مأموما كبّرها ما لم يطل الفصل ‏(‏أي بعد السّلام‏)‏، وإن كان إماما نبّهه المأمومون فيكبّرها ما لم يطل الفصل، وصحّت صلاة الجميع، فإن طال أو وجد مناف استأنف، وصحّت صلاة المأمومين إن نووا المفارقة‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ تبطل صلاة الجميع إن كان النّقص قصدا من الإمام، وإن كان سهوا تداركه الإمام والمأموم كالصّلاة، ولا سجود للسّهو هنا‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ إن كان النّقص من الإمام عمداً بطلت صلاة الجميع، وإن سهوا سبّح له المأمومون، فإن رجع عن قرب وكمّل التّكبير كمّلوه معه وصحّت صلاة الجميع، وإن لم يرجع أو لم يتنبّه إلاّ بعد زمن طويل كمّلوا هم، وصحّت صلاتهم وبطلت صلاته‏.‏

الصّلاة على جنائز مجتمعة

34 - اتّفق الفقهاء على أنّه إذا اجتمعت جنائز يجوز أن يصلّى عليهم مجتمعين أو فرادى ثمّ اختلفوا فقال الحنفيّة‏:‏ فالإمام إن شاء صلّى على كلّ واحدة على حدة، وإن شاء صلّى على الكلّ دفعة واحدة بالنّيّة على الجميع، كذا في معراج الدّراية والبدائع، وفي الدّرّ‏:‏ إفراد الصّلاة على كلّ واحدة أولى من الجمع - لأنّ الجمع مختلف فيه - فإذا أفرد يصلّي على أفضلهم أوّلا، ثمّ على الّذي يليه في الفضل إن لم يسبقه غيره، وإلاّ يصلّي على الأسبق أوّلا ولو كان مفضولاً‏.‏

والمذهب عند الشّافعيّة‏:‏ أنّ الإفراد أفضل من أن يصلّي عليهم دفعة واحدة لأنّه أكثر عملا وأرجى للقبول‏.‏ وقال الحنابلة وهو قول صاحب التّنبيه من الشّافعيّة إذا اجتمعت جنائز فجمعهم في الصّلاة عليهم أفضل من الصّلاة على كلّ واحد منهم منفرداً، وذلك لأجل المحافظة على الإسراع والتّخفيف‏.‏

ثمّ قال الحنفيّة إن صلّى عليهم دفعة فإن شاء جعلهم صفّاً واحداً عرضاً، وإن شاء وضع واحدا بعد واحد ممّا يلي القبلة ليقوم بحذاء الكلّ، هذا جواب ظاهر الرّواية‏.‏

وروي عن أبي حنيفة في غير رواية الأصول أنّ الثّاني أولى، لأنّ السّنّة هي قيام الإمام بحذاء الميّت، وهو يحصل في الثّاني دون الأوّل، فإذا صفّهم صفّاً واحداً عرضاً قام عند أفضلهم إذا اختلفوا في الفضل، وإن تساووا قام عند أسنّهم، ‏"‏ أكبرهم سنّا ‏"‏‏.‏

وقال مالك‏:‏ أرى ذلك واسعاً إن جعل بعضهم خلف بعض، أو جعلوا صفّاً واحداً، ويقوم الإمام وسط ذلك ويصلّي عليهم‏.‏ وإن كانوا غلماناً ذكوراً أو نساء جعل الغلمان ممّا يلي الإمام والنّساء من خلفهم ممّا يلي القبلة، وإن كنّ نساء صنع بهنّ كما يصنع بالرّجال كلّ ذلك واسع بعضهم خلف بعض صفّاً واحداً‏.‏

وقال الشّافعيّة - في الأصحّ عندهم - والحنابلة‏:‏ إنّ الجنائز توضع أمام الإمام بعضها خلف بعض، والقول الثّاني عند الشّافعيّة‏:‏ أنّها توضع بين يدي الإمام صفّاً واحداً عن يمينه فيقف هو في محاذاة الآخر منهم، فإن كانوا رجالا ونساء يتعيّن عند الشّافعيّة القول الأوّل‏.‏

وإن وضعوا واحداً بعد واحد ممّا يلي القبلة ينبغي أن يكون أفضلهم ممّا يلي الإمام، كذا روي عن أبي حنيفة أنّه يوضع أفضلهم وأسنّهم ممّا يلي الإمام، وقال أبو يوسف‏:‏ الأحسن عندي أن يكون أهل الفضل ممّا يلي الإمام‏.‏ ثمّ إن وضع رأس كلّ واحد منهم بحذاء رأس صاحبه فحسن، وإن وضع شبه الدّرج كما قال ابن أبي ليلى، وهو أن يكون رأس الثّاني عند منكب الأوّل فحسن أيضاً، كذا روي عن أبي حنيفة‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ يوضع بعضهم خلف بعض ليحاذي الإمام الجمع‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ يتعيّن أن يكون رأس كلّ واحد منهم بحذاء رأس صاحبه إن كانوا من نوع واحد، فإن كانوا أكثر من نوع سوّى بين رءوس كلّ نوع ويجعل وسط المرأة حذاء صدر الرّجل‏.‏ وترتيبهم في الوضع عند اختلاف النّوع لا خلاف فيه بين المذاهب، فتوضع الرّجال ممّا يلي الإمام، ثمّ الصّبيان، ثمّ الخناثى، ثمّ النّساء، ثمّ المراهقات‏.‏

ولو كان الكلّ رجالاً يوضع أفضلهم وأسنّهم ممّا يلي الإمام‏.‏

وهذا إن جيء بهم دفعة واحدة فإن جيء بهم متعاقبين وكانوا من نوع واحد يقدّم الأسبق‏.‏

وقال مالك والشّافعيّ‏:‏ إن افتتح المصلّي الصّلاة على جنازة فكبّر واحدة أو اثنتين، ثمّ أتي بجنازة أخرى وضعت حتّى يفرغ من الصّلاة على الجنازة الّتي كانت قبلها، لأنّه افتتح الصّلاة ينوي بها غير هذه الجنازة المؤخّرة، ثمّ يصلّي على الجنازة المؤخّرة‏.‏

وإذا كبّر الإمام على جنازة فجيء بأخرى مضى على صلاته على الأولى، فإذا فرغ استأنف على الثّانية، وإن كان لمّا وضعوا الثّانية كبّر الأخرى ينويهما فهي للأولى أيضاً، ولا يكون للثّانية، وإن كبّر الثّانية ينوي الثّانية وحدها فهي للثّانية وقد خرج من الأولى، فإذا فرغ أعاد الصّلاة على الأولى وهذا ما ذهب إليه الحنفيّة‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ لو كبّر فجيء بأخرى كبّر ثانية ونواهما، فإن جيء بثالثة كبّر ثالثة ونوى الجنائز الثّلاث، فإن جيء برابعة كبّر رابعة ونوى الكلّ، فيصير مكبّراً على الأولى أربعاً وعلى الثّانية ثلاثاً، وعلى الثّالثة اثنتين، وعلى الرّابعة واحدة، فيأتي بثلاث تكبيرات أخر، فيتمّ التّكبيرات سبعا، يقرأ في خامسة ويصلّي على النّبيّ صلى الله عليه وسلم بسادسة، ويدعو بسابعة، فيصير مكبّراً على الأولى سبعاً، وعلى الثّانية ستّاً، وعلى الثّالثة خمساً، وعلى الرّابعة أربعاً‏.‏ فإن جيء بخامسة لم ينوها بل يصلّي عليها بعد سلامه، وكذا لو جيء بثانية عقب التّكبيرة الرّابعة، لأنّه لم يبق من السّبع أربع، ولا بدّ من أربع تكبيرات، ولا يجوز أن يزيد على سبع تكبيرات‏.‏

35 - ويرى الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّه لو صلّى النّساء جماعة على جنازة قامت الّتي تؤمّ وسطهنّ كما في الصّلاة المفروضة المعهودة‏.‏

وعند المالكيّة لا تصلّي النّساء جماعة، بل يصلّين فرادى في آن واحد، لأنّهنّ لو صلّين واحدة بعد واحدة لزم تكرار الصّلاة وهو مكروه عندهم‏.‏

الحدث في صلاة الجنازة

36 - ذهب الحنفيّة إلى أنّه إن كان الإمام على غير الطّهارة تعاد الصّلاة، وإن كان الإمام على طهارة والقوم على غير طهارة صحّت صلاة الإمام ولا تعاد الصّلاة عليه‏.‏

وقال الشّافعيّ‏:‏ لو صلّى الإمام غير متوضّئ ومن خلفه متوضّئون أجزأت صلاتهم، وإن كانوا كلّهم غير متوضّئين أعادوا، وإن كان فيهم ثلاثة فصاعداً متوضّئون أجزأت‏.‏

وقال مالك‏:‏ إذا أحدث إمام الجنازة يأخذ بيد رجل فيقدّمه فيكبّر ما بقي على هذا الّذي قدّمه، ثمّ إن شاء رجع بعد أن يتوضّأ فصلّى ما أدرك وقضى ما فاته، وإن شاء ترك ذلك‏.‏

ولو أحدث الإمام في صلاة الجنازة فقدّم غيره جاز وهو الصّحيح، فإذا عاد بعد التّوضّؤ بنى على صلاته وهذا عند الحنفيّة‏.‏

وقال الشّافعيّ‏:‏ إن أحدث الإمام انصرف وتوضّأ وكبّر من خلفه ما بقي من التّكبير فرادى لا يؤمّهم أحد‏.‏

الصّلاة على القبر

37 - لو دفن الميّت قبل الصّلاة أو قبل الغسل فإنّه يصلّى عليه وهو في قبره ما لم يعلم أنّه تمزّق، وهذا مذهب الحنفيّة‏.‏

وقال مالك‏:‏ لا يصلّى على القبر كما في بداية المجتهد، وفي مقدّمات ابن رشد إن دفن قبل أن يصلّى عليه أخرج وصلّي عليه ما لم يفت، فإن فات صلّي عليه في قبره، وهو مذهب ابن القاسم وابن وهب، وقيل‏:‏ إنّه إن فات لم يصلّ عليه لئلاّ يكون ذريعة للصّلاة على القبور وهو مذهب أشهب وسحنون‏.‏

واختلف بم يكون الفوت‏؟‏ فقيل‏:‏ يفوت بأن يهال عليه التّراب بعد نصب اللّبن، وإن لم يفرغ من دفنه وما لم يهل عليه التّراب، وإن نصب اللّبن فإنّه يخرج ويصلّى عليه، وهو قول أشهب‏.‏ وقيل‏:‏ إنّه لا يفوت إلاّ بالفراغ من الدّفن وهو قول ابن وهب‏.‏

وقيل‏:‏ إنّه لا يفوت وإن فرغ من دفنه ويخرج ويصلّى عليه ما لم يخش عليه التّغيّر وهو قول سحنون وعيسى بن دينار ورواية عن ابن القاسم، وإنّما يصلّى عليه في القبر ما لم يطل حتّى يغلب على الظّنّ أنّه قد فني بالبلى أو غيره‏.‏

وأمّا إذا صلّي على الميّت مرّة فلا تعاد الصّلاة عليه دفن أو لم يدفن‏.‏

وقال مالك في الحديث الّذي جاء فيه «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى عليها وهي في قبرها»‏.‏ قد جاء هذا الحديث وليس عليه العمل‏.‏

وعند الشّافعيّة يجوز الصّلاة على المقبور لكلّ من فاتته الصّلاة عليه قبل دفنه، وقيل‏:‏ يصلّي عليه من كان من أهل الصّلاة عليه عند الموت أبداً، وقيل‏:‏ إلى شهر، وقيل‏:‏ ما لم يبل جسده، والمعتمد عندهم الجواز لمن كان من أهل فرض الصّلاة عليه وقت الموت‏.‏ وعند أحمد يجوز لمن فاتته الصّلاة على الميّت أن يصلّي على قبره إلى شهر من دفنه وزيادة يسيرة كيومين ويحرم بعدها، وحكي عن الأوزاعيّ تجويزه الصّلاة على القبر ولم يحك عنه التّحديد‏.‏

وحكي عن إسحاق بن راهويه أنّه قال‏:‏ يصلّي الغائب إلى شهر، والحاضر إلى ثلاث‏.‏ وحكى التّرمذيّ عن ابن المبارك أنّه قال‏:‏ إذا دفن الميّت ولم يصلّ عليه صلّي على القبر‏.‏

الصّلاة على الجنازة في المسجد

38 - مذهب الحنفيّة أنّه تجوز الصّلاة على الجنازة في الجبّانة والأمكنة والدّور وهي فيها سواء، ويكره في الشّارع وأراضي النّاس، وكذا تكره في المسجد الّذي تقام فيه الجماعة سواء كان الميّت والقوم في المسجد، أو كان الميّت خارج المسجد والقوم في المسجد، أو الميّت في المسجد، والإمام والقوم خارج المسجد، وهو المختار‏.‏

ومحصّل كلام ابن عابدين في الصّلاة على الجنازة في المسجد، أنّ البلاد الّتي جرت فيها العادة بالصّلاة عليها في المسجد لتعذّر غيره أو لتعسّره، بسبب اندراس المواضع الّتي كانت يصلّى فيها عليها، ينبغي الإفتاء بالقول بكراهة التّنزيه الّذي هو خلاف الأولى، ولا يكره لعذر المطر ونحوه، كاعتكاف الوليّ، ومن له حقّ التّقدّم ويصلّي فيه غيره تبعاً له، وأمّا المسجد الّذي خصّص لأجل صلاة الجنازة فلا يكره فيه‏.‏

وقال مالك‏:‏ أكره أن توضع الجنازة في المسجد، فإن وضعت قرب المسجد للصّلاة عليها فلا بأس أن يصلّي من في المسجد عليها بصلاة الإمام الّذي يصلّي عليها إذا ضاق خارج المسجد بأهله، وفي الشّرح الصّغير كره إدخالها المسجد ولو بغير صلاة‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ تندب الصّلاة على الميّت في المسجد إذا أمن تلويثه، أمّا إذا خيف تلويث المسجد فلا يجوز إدخاله، وحجّة جواز الصّلاة على الجنازة في المسجد، لأنّه «صلى الله عليه وسلم صلّى فيه على سهل وسهيل ابني بيضاء» كما رواه مسلم‏.‏

قال الشّافعيّة‏.‏ فالصّلاة عليه لذلك، ولأنّ المسجد أشرف‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ تباح الصّلاة على الجنازة في المسجد مع أمن تلويث، فإن لم يؤمن لم يجز‏.‏

الصّلاة على الجنازة في المقبرة

39 - فيها للفقهاء قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ لا بأس بها، وهو مذهب الحنفيّة كما تقدّم ورواية عن أحمد، لأنّ «النّبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى على قبر وهو في المقبرة»‏.‏

وقال ابن المنذر‏:‏ ذكر نافع أنّه صلّي على عائشة وأمّ سلمة وسط قبور البقيع، صلّى على عائشة أبو هريرة وحضر ذلك ابن عمر، وفعل ذلك عمر بن عبد العزيز‏.‏

والقول الثّاني‏:‏ يكره ذلك، روي ذلك عن عليّ وعبد اللّه بن عمرو بن العاص وابن عبّاس، وبه قال عطاء والنّخعيّ والشّافعيّ وإسحاق وابن المنذر وهو رواية أخرى عن أحمد، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «والأرض كلّها مسجد إلاّ المقبرة والحمّام»

ولأنّه ليس بموضع للصّلاة غير صلاة الجنازة فكرهت فيه صلاة الجنازة كالحمّام‏.‏

من يصلّى عليه ومن لا يصلّى عليه

40 - يرى الحنفيّة أنّه يصلّى على كلّ مسلم مات بعد الولادة صغيراً كان أو كبيراً، ذكراً كان أو أنثى، حرّاً كان أو عبداً، إلاّ البغاة وقطّاع الطّريق ومن بمثل حالهم‏.‏

وكره مالك لأهل الفضل الصّلاة على أهل البدع‏.‏

قال الدّردير‏:‏ وكره صلاة فاضل على بدعيّ لم يكفر ببدعته‏.‏

وقال مالك في المدوّنة‏:‏ إذا قتل الخوارج فذلك أحرى عندي أن لا يصلّى عليهم‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ حرّم أن يعود أو يغسّل مسلم صاحب بدعة مكفّرة، أو يكفّنه، أو يصلّى عليه، أو يتبع جنازته‏.‏

وقال أحمد‏:‏ أهل البدع إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تصلّوا عليهم‏.‏

ويرى الحنفيّة أنّ من قتل نفسه ولو عمدا يغسّل ويصلّى عليه، به يفتى وإن كان أعظم وزرا من قاتل غيره‏.‏ وقال أبو يوسف‏:‏ يغسّل ولا يصلّى عليه، والقتل أعمّ من أن يكون بسيف أو إلقاء في بحر أو نار‏.‏

وقال مالك‏:‏ يصلّى على الّذين كابروا - أي البغاة - ولا يصلّي عليهم الإمام، وقال‏:‏ يصلّى على قاتل نفسه ويصنع به ما يصنع بموتى المسلمين وإثمه على نفسه‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ لا يسنّ للإمام الأعظم وإمام كلّ قرية وهو واليها في القضاء، الصّلاة على غالّ وقاتل نفسه عمداً، وإن صلّى عليهما فلا بأس به‏.‏

وقال الشّوكانيّ‏:‏ ذهب مالك والشّافعيّ وأبو حنيفة وجمهور العلماء إلى أنّه يصلّى على الفاسق، وقالوا‏:‏ «إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم إنّما لم يصلّ على من قتل نفسه زجراً للنّاس، وصلّت عليه الصّحابة»‏.‏

ويرى الحنفيّة أنّ من قتل أحد أبويه لا يصلّى عليه إهانة، قال أبو يوسف‏:‏ لا يصلّى على كلّ من يقتل على متاع يأخذه، ومن قتل بحقّ بسلاح أو غيره كما في القود والرّجم يغسّل ويصلّى عليه، ويصنع به ما يصنع بالموتى، والّذي صلبه الإمام ففيه روايتان عن أبي حنيفة روى أبو سليمان عنه أنّه لا يصلّى عليه،

وقال مالك‏:‏ كلّ من قتله الإمام على قصاص، أو في حدّ من الحدود، فإنّ الإمام لا يصلّي عليه والنّاس يصلّون عليه وكذا المرجوم‏.‏

ولا يصلّى على من لم يستهلّ بعد الولادة كما تقدّم‏.‏

وإذا اختلط موتانا بكفّار صلّي عليهم مطلقا في أوجه الأقوال‏.‏

أمّا الشّافعيّة فلم يستثنوا من الصّلاة على الميّت إلاّ الكافر والمرتدّ‏.‏

من له ولاية الصّلاة على الميّت

41 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ أولى النّاس بالصّلاة على الميّت السّلطان إن حضر ثمّ نائبه وهو أمير المصر، ثمّ القاضي، فإن لم يحضر فصاحب الشّرط ثمّ خليفة الوالي، ثمّ خليفة القاضي، ثمّ إمام الحيّ‏.‏

قال الحصكفيّ‏:‏ فيه إيهام، وذلك أنّ تقديم الولاة واجب وتقديم إمام الحيّ مندوب فقط بشرط أن يكون أفضل من الوليّ، وإلاّ فالوليّ أولى، وبشرط أن لا يكون ساخطا عليه حال حياته لوجه صحيح‏.‏ والمراد بإمام الحيّ إمام المسجد الخاصّ بالمحلّة، وإمام المسجد الجامع

- وعبّر عنه في كتاب المنية بإمام الجمعة - أولى من إمام الحيّ، وأمّا إمام مصلّى الجنازة فاستظهر المقدسيّ أنّه كالأجنبيّ فالوليّ مقدّم عليه‏.‏

ثمّ الوليّ بترتيب عصوبة الإنكاح إلاّ الأب فإنّه يقدّم على الابن اتّفاقاً إلاّ أن يكون الابن عالماً والأب جاهلاً فالابن أولى، فلا ولاية للنّساء ولا للزّوج إلاّ أنّه أحقّ من الأجنبيّ، والتّقييد بالعصوبة لإخراج النّساء فقط، فذوو الأرحام وهم داخلون في الولاية وهم أولى من الأجنبيّ‏.‏ والمراد بالوليّ الذّكر المكلّف فلا حقّ للصّغير ولا للمعتوه‏.‏

42 - وتفصيل الإجمال أنّه يقدّم في الصّلاة على الميّت أبوه، ثمّ ابنه، ثمّ ابن ابنه وإن سفل، ثمّ الجدّ وإن علا، ثمّ الأخ الشّقيق، ثمّ الأخ لأب، ثمّ ابن الأخ الشّقيق، وهكذا الأقرب فالأقرب كترتيبهم في النّكاح‏.‏

ومن له ولاية التّقدّم فهو أحقّ بالصّلاة على الميّت ممّن أوصى له الميّت بالصّلاة عليه، لأنّ الوصيّة باطلة على المفتى به عند الحنفيّة، وفي نوادر ابن رستم الوصيّة جائزة ومع ذلك يقدّم من له حقّ التّقدّم‏.‏

وقال أبو يوسف‏:‏ القريب أولى من السّلطان‏.‏ ولا ولاية للزّوج عند الحنفيّة لانقطاع الصّلة بالموت لكن إن لم يكن للزّوجة الميّتة وليّ فالزّوج أولى، ثمّ الجيران أولى من الأجنبيّ‏.‏ ولو ماتت امرأة ولها زوج وابن عاقل بالغ منه، فالولاية للابن دون الزّوج، لكن يكره للابن أن يتقدّم أباه، وينبغي أن يقدّمه، فإن كان لها ابن من زوج آخر فلا بأس أن يتقدّم، لأنّه هو الوليّ، وتعظيم زوج أمّه غير واجب عليه‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ الأحقّ بالصّلاة عليه وصيّ الميّت إن كان أوصى إليه رجاء بركته وإلاّ فلا، ثمّ الخليفة وهو الإمام الأعظم، وأمّا نائبه فلا حقّ له في التّقدّم إلاّ إذا كان نائبه في الحكم والخطبة، ثمّ أقرب العصبة فيقدّم الابن، ثمّ ابنه ثمّ الأب، ثمّ الأخ، ثمّ ابن الأخ، ثمّ الجدّ، ثمّ العمّ، ثمّ ابن العمّ وهكذا‏.‏ ولا حقّ لزوج الميّتة في التّقدّم ويكون بعد العصبة، فإن لم يوجد عصبة فالأجانب سواء، إلاّ أنّه يقدّم الأفضل منهم‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ الأولى بالصّلاة عليه أبو الميّت وإن علا، ثمّ ابنه وإن سفل، ثمّ الأخ الشّقيق، ثمّ الأخ لأب، ثمّ ابن الأخ الشّقيق، ثمّ ابن الأخ لأب، ثمّ بقيّة العصبة على ترتيب الميراث، فإن لم يكن فالإمام الأعظم، أو نائبه عند انتظام بيت المال، ثمّ ذوو الأرحام الأقرب فالأقرب‏.‏ وإذا أوصى بالصّلاة لغير من يستحقّ التّقدّم ممّن ذكر فلا تنفذ وصيّته‏.‏

ولا حقّ للزّوج حيث وجد معه غيره من الأجانب، ولا حقّ للزّوجة حيث وجد معها ذكر، فإن لم يوجد فالزّوج مقدّم على الأجانب‏.‏ والمرأة تصلّي وتقدّم بترتيب الذّكور‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ الأولى بالصّلاة عليه إماماً وصيّه العدل، ثمّ السّلطان، ثمّ نائبه، ثمّ أبو الميّت وإن علا، ثمّ ابنه وإن نزل، ثمّ الأقرب فالأقرب على ترتيب الميراث، ثمّ ذوو الأرحام، ثمّ الزّوج، ونائب الوليّ بمنزلته بخلاف نائب الوصيّ فلا يكون بمنزلته‏.‏

وقال الحنفيّة‏:‏ ولو كان الوليّان في درجة واحدة فأكبرهما سنّا أولى، ولهما أن يقدّما غيرهما فلو قدّم كلّ واحد منهما رجلاً على حدة فالّذي قدّمه الأكبر أولى‏.‏

وليس لأحدهما أن يقدّم إنساناً إلاّ بإذن الآخر، إلاّ إن قدّما الأسنّ لسنّه ‏"‏ لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الكبر الكبر» ولغيره من الأحاديث‏.‏

وإذا أراد أحد الوليّين المتساويين درجة أن يستخلف غيره كان الآخر أولى بأن يستخلفه‏.‏ فإن تشاجر الوليّان فتقدّم أجنبيّ بغير إذنهما فصلّى، ينظر إن صلّى الأولياء معه جازت الصّلاة ولا تعاد، وإن لم يصلّوا معه فلهم إعادة الصّلاة لعدم سقوط حقّهم وإن تأدّى الفرض، ولا يعيد مع الأولياء من صلّى مع غيرهم‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ إن تعدّدت العصبة المتساوون في القرب من الميّت، قدّم الأفضل منهم لزيادة فقه أو حديث أو نحو ذلك، وكذا الأجانب إذا لم يوجد غيرهم يقدّم الأفضل منهم كما في صلاة الجماعة‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ بتقديم الأسنّ إذا استوى الولاة وتشاحّوا، إلاّ أن تكون حالة الأسنّ غير محمودة، فكان أفضلهم وأفقههم أحبّ، فإن تقاربوا فأسنّهم، لأنّ الغرض هنا الدّعاء ودعاء الأسنّ أقرب للإجابة لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنّ اللّه يستحيي أن يردّ دعوة ذي الشّيبة في الإسلام» وإن استووا وقلّما يكون ذلك فلم يصطلحوا أقرع بينهم‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ إذا تساوى الأولياء قدّم من كان أولاهم بالإمامة في الصّلوات الخمس، فإن استووا فيه أيضاً أقرع بينهم، وتكره إمامة غير الأولى بلا إذنه مع حضوره، لكن يسقط به الفرض، فإن صلّى الأولى خلفه صار إذناً، وإلاّ فله أن يعيدها، لأنّها حقّه، ويجوز أن يعيدها من صلّاها تبعاً للأولى‏.‏

43 - وعند الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ تسنّ الصّلاة على الجنازة لكلّ من لم يصلّ أوّلا، سواء أكان أولى بالصّلاة عليه أم لم يكن‏.‏

وقال في الأمّ‏:‏ إن سبق الأولياء بالصّلاة على الجنازة ثمّ جاء وليّ آخر أحببت أن لا توضع للصّلاة ثانية، وإن فعل فلا بأس إن شاء اللّه‏.‏

وعند مالك لا تعاد الصّلاة على الجنازة مرّة أخرى‏.‏

ما يفسد صلاة الجنازة وما يكره فيها

44 - تفسد صلاة الجنازة عند الحنفيّة بما تفسد به سائر الصّلوات من الحدث العمد والكلام، والعمل الكثير وغيرها من مبطلات الصّلاة، إلاّ المحاذاة فإنّها غير مفسدة في هذه الصّلاة، لأنّ فساد الصّلاة بالمحاذاة عرف بالنّصّ، والنّصّ ورد في الصّلاة المطلقة فلا يلحق بها غيرها، ولهذا لم يلحق بها سجدة التّلاوة حتّى لم تكن المحاذاة فيها مفسدة، وكذا القهقهة في هذه الصّلاة لا تنقض الطّهارة، لأنّ القهقهة مبطلة بالنّصّ الوارد في صلاة مطلقة، فلا يجعل وارداً في غيرها‏.‏

وتكره الصّلاة على الجنازة عند طلوع الشّمس وعند غروبها، وعند انتصاف النّهار، لحديث عقبة بن عامر‏:‏ «ثلاث ساعات نهانا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن نصلّي فيها وأن نقبر فيها موتانا»‏.‏ والمراد بقبر الموتى الصّلاة على الجنازة دون الدّفن‏.‏

وإنّما تكره الصّلاة على الجنازة كراهة تحريم عند الحنفيّة إذا حضرت في هذه الأوقات في ظاهر الرّواية، كما في مراقي الفلاح، ولكن في تحفة الفقهاء الأفضل أن يصلّي على جنازة حضرت في تلك الأوقات ولا يؤخّرها، بل قال الزّيلعيّ‏:‏ إنّ التّأخير مكروه لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لعليّ رضي الله عنه‏:‏ «ثلاث لا تؤخّرها، الصّلاة إذا آنت، والجنازة إذا حضرت، والأيّم إذا وجدت لها كفئاً»‏.‏ أمّا إذا حضرت قبل الوقت المكروه فأخّرها حتّى صلّى في الوقت المكروه فإنّها لا تصحّ وتجب إعادتها‏.‏

ولا يكره أن يصلّى على الجنازة بعد صلاة الفجر، أو بعد صلاة العصر، وكذا بعد طلوع الفجر، وبعد الغروب قبل صلاة المغرب، لكن يبدأ بعد الغروب بصلاة المغرب أوّلا، ثمّ بالجنازة ثمّ بالسّنّة‏.‏

قال ابن نجيم‏:‏ ولعلّه لبيان الأفضليّة، وفي الحلية‏:‏ الفتوى على تأخير صلاة الجنازة عن سنّة الجمعة، فعلى هذا تؤخّر عن سنّة المغرب، لأنّها آكد‏.‏

وقال ابن المبارك‏:‏ معنى هذا الحديث «أو أن نقبر فيها موتانا» يعني الصّلاة على الجنازة، وكرهها ابن المبارك عند طلوع الشّمس وعند غروبها، وإذا انتصف النّهار حتّى تزول الشّمس ‏"‏ كما قال أبو حنيفة ‏"‏ وهو قول أحمد وإسحاق وهو قول مالك والأوزاعيّ وهو قول ابن عمر‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ إذا وقع الدّفن في هذه الأوقات بلا تعمّد فلا يكره‏.‏

والنّهي عند الشّافعيّ محمول على الصّلوات الّتي لا سبب لها‏.‏

التّعزية، والرّثاء، وزيارة القبور ونحو ذلك

45 - قال الطّحطاويّ‏:‏ إذا فرغوا من دفن الميّت يستحبّ الجلوس ‏(‏المكث‏)‏ عند قبره بقدر ما ينحر جزور ويقسم لحمه، «فقد روى مسلم عن عمرو بن العاص أنّه قال‏:‏ إذا دفنتموني فشنّوا عليّ التّراب شنّاً، ثمّ أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها حتّى أستأنس بكم، وأنظر ماذا أراجع به رسل ربّي» يتلون القرآن ويدعون للميّت‏.‏

فقد روي عن عثمان رضي الله عنه أنّه قال‏:‏ «كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميّت وقف عليه، فقال‏:‏ استغفروا لأخيكم وسلوا له التّثبيت فإنّه الآن يسأل»‏.‏

وكان ابن عمر يستحبّ أن يقرأ على القبر بعد الدّفن أوّل سورة البقرة وخاتمتها‏.‏

والتّلقين بعد الدّفن لا يؤمر به وينهى عنه‏.‏ وظاهر الرّواية عند الحنفيّة يقتضي النّهي عنه، وبه قالت المالكيّة فقد ذهبوا إلى أنّ التّلقين بعد الدّفن وحاله مكروه، وإنّما يندب حال الاحتضار فقط، واستحبّه الشّافعيّة فقالوا‏:‏ والتّلقين هنا أن يقول الملقّن مخاطباً للميّت‏:‏

«يا فلان بن فلانة، - إن كان يعرف اسم أمّه وإلاّ نسبه إلى حوّاء عليها السلام -، ثمّ يقول بعد ذلك اذكر العهد الّذي خرجت عليه من الدّنيا، شهادة أن لا إله إلاّ اللّه وأنّ محمّداً رسول اللّه، وأنّ الجنّة حقّ، والنّار حقّ، وأنّ البعث حقّ، وأنّ السّاعة آتية لا ريب فيها، وأنّ اللّه يبعث من في القبور، وأنّك رضيت باللّه ربّاً، وبالإسلام ديناً، وبمحمّد صلى الله عليه وسلم نبيّاً، وبالقرآن إماماً، وبالكعبة قبلة وبالمؤمنين إخواناً»‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ استحبّ الأكثر تلقينه، فيقوم عند رأسه بعد تسوية التّراب فيقول‏:‏ ‏"‏ وذكروا نحو ما ذكرته الشّافعيّة من كلمات التّلقين ‏"‏‏.‏

46 - قال كثير من متأخّري الحنفيّة‏:‏ يكره الاجتماع عند صاحب الميّت حتّى يأتي إليه من يعزّي بل إذا رجع النّاس من الدّفن ليتفرّقوا ويشتغلوا بأمورهم، وصاحب الميّت بأمره‏.‏ ويكره الجلوس على باب الدّار للمصيبة، فإنّ ذلك عمل أهل الجاهليّة، ونهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك‏.‏وفي الدّرّ المختار‏:‏ لا بأس بالجلوس للتّعزية في غير مسجد ثلاثة أيّام‏.‏ قال ابن عابدين‏:‏ استعمال لا بأس هنا على حقيقته فإنّه خلاف الأولى صرّح به في شرح المنية‏.‏ أمّا في مسجد فيكره كما في البحر عن المجتبى، وجزم به في شرح المنية والفتح‏.‏ وهذا إذا لم يكن الجلوس مع ارتكاب محظور من فرش البسط، واتّخاذ الأطعمة من أهل الميّت، وإلاّ كانت بدعة مستقبحة، كما في مراقي الفلاح وحواشيه‏.‏

ونقل في النّهر عن التّجنيس أنّه لا بأس بالجلوس لها ثلاثة أيّام، وكونه على باب الدّار مع فرش بسط على قوارع الطّريق من أقبح القبائح‏.‏

قال ابن عابدين‏:‏ الظّاهر أنّه لا تنتفي الكراهة بالجلوس في المسجد وقراءة القرآن، حتّى إذا فرغوا قام وليّ الميّت وعزّاه النّاس كما يفعل في زماننا لكون الجلوس مقصوداً للتّعزية لا للقراءة، ولا سيّما إذا كان هذا الاجتماع والجلوس في المصيبة ثلاثة أيّام جاءت الرّخصة فيه، ولا تجلس النّساء قطعاً‏.‏ وفرّق صاحب الظّهيريّة بين الجلوس في البيت أو المسجد والجلوس على باب الدّار، فحكم على الأوّل أنّه لا بأس به وقال في الثّاني‏:‏ يكره الجلوس على باب الدّار للتّعزية، لأنّه عمل أهل الجاهليّة وقد نهي عنه، وما يصنع في بلاد العجم من فرش البسط، والقيام على قوارع الطّريق من أقبح القبائح، ووافق الشّافعيّة الحنفيّة في كراهية الجلوس للتّعزية‏.‏

وكذا الحنابلة قالوا‏:‏ كره جلوس مصاب لها، وجلوس معزّية كذلك، لا بقرب دار الميّت ليتبع الجنازة، أو ليخرج وليّه فيعزّيه، وقال المالكيّة‏:‏ يباح الجلوس لقبول التّعزية‏.‏

47 - ويستحبّ التّعزية للرّجال والنّساء اللّاتي لا يفتنّ لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «من عزّى أخاه بمصيبة كساه اللّه من حلل الكرامة يوم القيامة»‏.‏

وتفصيل باقي أحكام التّعزية ينظر في مصطلح‏:‏ ‏(‏تعزية‏)‏‏.‏

صنع الطّعام لأهل الميّت

48 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة إلى أنّه يستحبّ لجيران الميّت والأباعد من قرابته تهيئة طعام لأهل الميّت يشبعهم يومهم وليلتهم، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد أتاهم ما يشغلهم» ويلحّ عليهم في الأكل، لأنّ الحزن يمنعهم فيضعفهم، وبه قالت المالكيّة، إلاّ إذا اجتمعوا على محرّم من ندب ولطم ونياحة، فلا يندب تهيئة الطّعام لهم‏.‏ ويسنّ ذلك عند الحنابلة ثلاثاً لأهل الميّت لا لمن يجتمع عندهم، فإنّه يكره لهم، إلاّ أن يكونوا ضيوفاً‏.‏

واتّفق الفقهاء على أنّه تكره الضّيافة من أهل الميّت لأنّها شرعت في السّرور لا في الشّرور، وهي بدعة مستقبحة، وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «لا عقر في الإسلام» وهو الّذي كان يعقر عند القبر من إبل، أو بقر، أو شاة‏.‏

وصرّح الحنابلة بأنّه يكره الأكل من طعام أهل الميّت، فإن كان من تركة وفي مستحقّيها محجور عليه حرّم فعله والأكل منه، وكره الذّبح والأضحيّة عند القبر، والأكل منه‏.‏

وصرّح الحنابلة والشّافعيّة، بأنّه يحرم تهيئة الطّعام لنائحات، لأنّه إعانة على المعصية، وصرّح الحنفيّة بأنّه يكره اتّخاذ الطّعام في أيّام متعارف عليها كاليوم الأوّل، والثّالث، وبعد الأسبوع‏.‏ ونقل الطّعام إلى القبر في المواسم، واتّخاذ الدّعوة لقراءة القرآن، وجمع الصّلحاء والقرّاء للختم، أو لقراءة سورتي الأنعام والإخلاص‏.‏

على أنّه إذا اتّخذ الطّعام للفقراء كان حسناً، وقال في المعراج‏:‏ هذه الأفعال كلّها للسّمعة والرّياء، فيحترز عنها، لأنّهم لا يريدون به وجه اللّه تعالى‏.‏

وفي غاية المنتهى للحنابلة‏:‏ ومن المنكر وضع طعام أو شراب على القبر ليأخذه النّاس‏.‏

وصول ثواب الأعمال للغير

49 - ومن صام أو صلّى أو تصدّق وجعل ثوابه لغيره من الأموات والأحياء جاز، ويصل ثوابها إليهم عند أهل السّنّة والجماعة، واستثنى مالك والشّافعيّ العبادات البدنيّة المحضة، كالصّلاة والتّلاوة، فلا يصل ثوابها إلى الميّت عندهما، ومقتضى تحرير المتأخّرين من الشّافعيّة انتفاع الميّت بالقراءة لا حصول ثوابها له‏.‏

وللعلّامة ابن القيّم كلام مشبع في هذه المسألة، فراجع كتاب الرّوح ‏"‏ له ‏"‏‏.‏

وقال بعض المالكيّة‏:‏ إنّ القراءة تصل للميّت وأنّها عند القبر أحسن مزية‏.‏

وقال ابن قدامة‏:‏ وأيّ قربة فعلها وجعل ثوابها للميّت المسلم نفعه ذلك إن شاء اللّه، أمّا الدّعاء والاستغفار والصّدقة وأداء الواجبات فلا أعلم فيه خلافاً إذا كانت الواجبات ممّا يدخله النّيابة، وقد قال اللّه تعالى ‏{‏والَّذينَ جَاءوا مِنْ بَعْدِهم يَقولونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لنا ولإخْوَانِنَا الَّذينَ سَبَقُونَا بالإيمَانِ‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏واسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وللمؤمنينَ والمُؤمناتِ‏}‏ «ودعا النّبيّ صلى الله عليه وسلم لأبي سلمة حين مات»، «وللميّت الّذي صلّى عليه في حديث عوف بن مالك، ولكلّ ميّت صلّى عليه»، «وسأل رجل النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول اللّه إنّ أمّي ماتت فينفعها إن تصدّقت عنها‏؟‏ قال‏:‏ نعم»، رواه أبو داود‏.‏

وروي ذلك عن سعد بن عبادة، «وجاءت امرأة إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ يا رسول اللّه إنّ فريضة اللّه في الحجّ أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يثبت على الرّاحلة أفأحجّ عنه‏؟‏ قال‏:‏ أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيته‏؟‏ قالت‏:‏ نعم، قال‏:‏ فدين اللّه أحقّ أن يقضى»

وقال للّذي سأله «إنّ أمّي ماتت وعليها صوم شهر أفأصوم عنها‏؟‏ قال‏:‏ نعم»‏.‏

وهذه أحاديث صحاح، وفيها دلالة على انتفاع الميّت بسائر القرب، لأنّ الصّوم والحجّ والدّعاء والاستغفار عبادات بدنيّة وقد أوصل اللّه نفعها إلى الميّت فكذلك ما سواها مع ما ذكرنا من الحديث في ثواب من قرأ ‏"‏ يس ‏"‏، وتخفيف اللّه تعالى عن أهل المقابر بقراءته، وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال لعمرو بن العاص‏:‏ «لو كان أبوك مسلما فأعتقتم عنه، أو تصدّقتم عنه، أو حججتم عنه، بلغه ذلك» وهذا عامّ في حجّ التّطوّع وغيره، ولأنّه عمل برّ وطاعة، فوصل نفعه وثوابه، كالصّدقة، والصّيام، والحجّ الواجب، وقال الشّافعيّ‏:‏ ما عدا الواجب والصّدقة والدّعاء والاستغفار لا يفعل عن الميّت، ولا يصل ثوابه إليه، لقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وأنْ ليسَ للإنْسانِ إلاّ مَا سَعَى‏}‏ وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلاّ من ثلاثة‏:‏ إلاّ من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»

ولأنّ نفعه لا يتعدّى فاعله، فلا يتعدّى ثوابه‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ إذا قرئ القرآن عند الميّت أو أهدي إليه ثوابه كان الثّواب لقارئه، ويكون الميّت كأنّه حاضرها وترجى له الرّحمة‏.‏