فصل: منزلة الفتوى

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


الموسوعة الفقهية / الجزء الثاني والثلاثون

فأر

التّعريف

1 - الفأر معروف، وجمعه فئران وفئرة، والفأرة تهمز ولا تهمز، وتطلق على الذّكر والأنثى، مثل تمرة وتمر‏.‏

وكنية الفأر أمّ خراب، ويقال لها الفويسقة، وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه‏:‏ «قيل له‏:‏ لم قيل للفأرة الفويسقة ‏؟‏ فقال‏:‏ لأنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم استيقظ لها وقد أخذت الفتيلة لتحرق البيت»‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالفأر

أ - حكم الفأر من حيث الطّهارة والنّجاسة‏:‏

2 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ الفأر طاهر، ذلك أنّ المالكيّة يقولون بطهارة الحيوان الحيّ مطلقاً، قال الدّسوقيّ‏:‏ ولو كافراً أو كلباً أو خنزيراً أو شيطاناً‏.‏

وقال النّوويّ‏:‏ الحيوان كلّه طاهر إلاّ الكلب والخنزير والمتولّد من أحدهما‏.‏

وفي مطالب أولي النّهى‏:‏ وما لا يؤكل من طير وبهائم ممّا فوق هرّ خلقةً نجس، وأمّا ما دون ذلك في الخلقة فهو طاهر، كالنّمس، والنّسناس، وابن عرس، والقنفذ، والفأر‏.‏

وذهب الحنفيّة إلى نجاسة الفأر‏.‏

ب - حكم الخارج من الفأر‏:‏

3 - اختلف الحنفيّة في بول الفأرة وخرئها، ففي الخانيّة‏:‏ إنّ بول الهرّة والفأرة وخرئها نجس في أظهر الرّوايات، يفسد الماء والثّوب، ولو طحن بعر الفأرة مع الحنطة ولم يظهر أثره يعفى عنه للضّرورة‏.‏

وقال الحصكفيّ‏:‏ بول الفأرة طاهر لتعذّر التّحرّز عنه، وعليه الفتوى‏.‏ وخرؤها لا يفسد ما لم يظهر أثره، وفي الحجّة‏:‏ الصّحيح أنّه نجس‏.‏

وقال ابن عابدين‏:‏ والحاصل أنّ ظاهر الرّواية نجاسة الكلّ، لكنّ الضّرورة متحقّقة في بول الهرّة في غير المائعات، كالثّياب، وكذا في خرء الفأرة في نحو الحنطة، دون الثّياب والمائعات، وأمّا بول الفأرة فالضّرورة فيه غير متحقّقة‏.‏

ج - سؤر الفأر‏:‏

4 - اتّفق الفقهاء على طهارة سؤر الفأرة، لكن ذهب الحنفيّة والحنابلة إلى كراهته، قال الحنفيّة‏:‏ للزوم طوافها وحرمة لحمها النّجس‏.‏

والكراهة عند الحنفيّة كراهة تنزيهيّة، ومحلّ كراهة سؤرها إذا وجد غيره، أمّا إذا لم يوجد غيره فلا يكره‏.‏

د - أكل الفأر‏:‏

5 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا يحلّ أكل الفأر‏.‏

قال المحلّيّ من الشّافعيّة‏:‏ لحرمته سببان‏:‏ النّهي عن أكله، والأمر بقتله‏.‏

فقد ورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «خمس من الدّوابّ كلّهنّ فاسق يقتلن في الحرم‏:‏ الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور»‏.‏

وعند المالكيّة قولان‏:‏ قول بالحرمة كمذهب الجمهور، وقول بالكراهة‏.‏

وتفصيل ذلك في مصطلح‏:‏ ‏(‏حشرات ف 3‏)‏‏.‏

قتل الفأر‏:‏

6 - اتّفق الفقهاء على جواز قتل الفأر في الحلّ والحرم، للمحرم وغيره، لما روى نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «خمس من الدّوابّ من قتلهنّ وهو محرم فلا جناح عليه‏:‏ العقرب، والفأرة، والكلب العقور، والغراب، والحدأة»‏.‏

وتفصيل ذلك في مصطلح‏:‏ ‏(‏إحرام، ف 89‏)‏‏.‏

فَأْفَأة

انظر‏:‏ ألثغ‏.‏

فَال

انظر‏:‏ تفاؤل‏.‏

فَائتة

انظر‏:‏ قضاء الفوائت‏.‏

فاتحة الكتاب

التّعريف

1 - الفاتحة لغةً‏:‏ ما يفتتح به الشّيء‏.‏

والكتاب من معانيه‏:‏ الصّحف المجموعة‏.‏

والفاتحة في الاصطلاح هي‏:‏ أمّ الكتاب، سمّيت بذلك لأنّه يفتتح بها قراءة القرآن لفظاً، وتفتتح بها الكتابة في المصحف خطّاً، وتفتتح بها الصّلوات‏.‏

قال النّوويّ‏:‏ لفاتحة الكتاب عشرة أسماء، الصّلاة، وسورة الحمد، وفاتحة الكتاب، وأمّ الكتاب، وأمّ القرآن، والسّبع المثاني، والشّفاء، والأساس، والوافية، والكافية‏.‏

وزاد القرطبيّ في أسمائها‏:‏ القرآن العظيم، والرّقية، وعبّر عن السّبع المثاني بالمثاني فقط‏.‏

وزاد السّيوطيّ من الأسماء‏:‏ فاتحة القرآن، والكنز، والنّور، وسورة الشّكر، وسورة الحمد الأولى، وسورة الحمد القصرى، والشّافية، وسورة السّؤال، وسورة الدّعاء، وسورة تعليم المسألة، وسورة المناجاة، وسورة التّفويض‏.‏

الأحكام المتعلّقة بفاتحة الكتاب

أ - مكان نزول فاتحة الكتاب وعدد آياتها‏:‏

2 - أجمعت الأمّة على أنّ فاتحة الكتاب من القرآن، واختلفوا أهي مكّيّة أم مدنيّة ‏؟‏ فقال ابن عبّاس رضي الله عنهما وقتادة وأبو العالية وغيرهم‏:‏ هي مكّيّة، وقال أبو هريرة رضي الله عنه ومجاهد وعطاء بن يسار والزّهريّ وغيرهم‏:‏ هي مدنيّة، قال القرطبيّ‏:‏ والأوّل أصحّ، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ‏}‏، وسورة الحجر مكّيّة بإجماع، ولا خلاف في أنّ فرض الصّلاة كان بمكّة، وما حفظ أنّه كان في الإسلام قطّ صلاة بغير ‏"‏ الحمد للّه ربّ العالمين ‏"‏، يدلّ على هذا قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب» وهذا خبر عن الحكم لا عن الابتداء‏.‏

واختلف الفقهاء في كون البسملة آيةً من الفاتحة‏:‏

فذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة إلى أنّ البسملة ليست بآية من الفاتحة‏.‏

وذهب الشّافعيّة إلى أنّها آية من الفاتحة‏.‏

وتفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏بسملة ف 5‏)‏‏.‏

ب - فضل فاتحة الكتاب‏:‏

3 - ورد في فضل فاتحة الكتاب عدّة أحاديث، منها‏:‏

حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «والّذي نفسي بيده ما أنزلت في التّوراة ولا في الإنجيل ولا في الزّبور ولا في الفرقان مثلها، وإنّها سبع من المثاني والقرآن العظيم الّذي أعطيته»‏.‏

وعن أبي سعيد بن المعلّى رضي الله عنه قال‏:‏ «كنت أصلّي في المسجد فقال لي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ألا أعلّمك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد ‏؟‏ فأخذ بيديّ، فلمّا أردنا أن نخرج قلت‏:‏ يا رسول اللّه إنّك قلت لأعلّمنّك أعظم سورة في القرآن ‏؟‏ قال‏:‏ الحمد للّه ربّ العالمين هي السّبع المثاني والقرآن العظيم الّذي أوتيته»‏.‏ قال القرطبيّ‏:‏ في الفاتحة من الصّفات ما ليس في غيرها، حتّى قيل‏:‏ إنّ جميع القرآن فيها، وهي خمس وعشرون كلمةً، تضمّنت جميع علوم القرآن، ومن شرفها أنّ اللّه سبحانه قسمها بينه وبين عبده‏.‏

والفاتحة تضمّنت التّوحيد والعبادة والوعظ والتّذكير، ولا يستبعد ذلك في قدرة اللّه تعالى‏.‏

ج - قراءة الفاتحة في الصّلاة‏:‏

4 - اختلف الفقهاء في حكم قراءة الفاتحة في الصّلاة‏:‏

فذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة‏:‏ إلى أنّ قراءة الفاتحة ركن من أركان الصّلاة، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب»‏.‏

وذهب الحنفيّة إلى أنّ قراءة الفاتحة واجب من واجبات الصّلاة وليست ركناً لثبوتها بخبر الواحد الزّائد على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ‏}‏‏.‏

وللتّفصيل في حكم قراءتها في الفرض والنّفل للإمام والمأموم والمنفرد، والجهر والسّرّ يراجع مصطلح ‏(‏صلاة ف 19، 38‏)‏‏.‏

د - خواصّ فاتحة الكتاب‏:‏

5 - ذكر العلماء أنّ من خواصّ سورة الفاتحة الاستشفاء بها، وقد عقد البخاريّ باباً في الرّقي بفاتحة الكتاب، وقد ثبت الرّقي بها في حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه‏:‏ «أنّ ناساً من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم أتوا على حيّ من أحياء العرب، فلم يقروهم، فبينما هم كذلك إذ لدغ سيّد أولئك، فقالوا‏:‏ هل معكم من دواء أو راق ‏؟‏ فقالوا‏:‏ إنّكم لم تقرونا، ولا نفعل حتّى تجعلوا لنا جعلاً، فجعلوا لهم قطيعاً من الشّاء، فجعل يقرأ بأمّ القرآن، ويجمع بزاقه ويتفل فبرأ، فأتوا بالشّاء فقالوا‏:‏ لا نأخذه حتّى نسأل النّبيّ صلى الله عليه وسلم فسألوه، فضحك وقال‏:‏ وما أدراك أنّها رقية ‏؟‏ خذوها، واضربوا لي بسهم»‏.‏

قال ابن القيّم‏:‏ إذا ثبت أنّ لبعض الكلام خواصّ ومنافع، فما الظّنّ بكلام ربّ العالمين، ثمّ بالفاتحة الّتي لم ينزل في القرآن ولا غيره من الكتب مثلها، لتضمّنها جميع معاني الكتاب ‏؟‏ فقد اشتملت على ذكر أصول أسماء اللّه ومجامعها، وإثبات المعاد، وذكر التّوحيد، والافتقار إلى الرّبّ في طلب الإعانة به والهداية منه، وذكر أفضل الدّعاء، وهو طلب الهداية إلى الصّراط المستقيم، المتضمّن كمال معرفته وتوحيده، وعبادته بفعل ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه، والاستقامة عليه، ولتضمّنها ذكر أصناف الخلائق، وقسمتهم إلى منعم عليه لمعرفته بالحقّ والعمل به، ومغضوب عليه لعدوله عن الحقّ بعد معرفته، وضالّ لعدم معرفته له، مع ما تضمّنته من إثبات القدر، والشّرع، والأسماء، والمعاد، والتّوبة، وتزكية النّفس، وإصلاح القلب، والرّدّ على جميع أهل البدع، وحقيق بسورة هذا بعض شأنها أن يستشفى بها من كلّ داء‏.‏

فاحشة

التّعريف

1 - الفاحشة في اللّغة‏:‏ الفعلة القبيحة، والقبيح من القول والفعل، وجمعها فواحش‏.‏ يقال‏:‏ أفحش عليه في المنطق، أي قال الفحش، ورجل فاحش أي‏:‏ ذو فحش، وفي الحديث‏:‏ «إنّ اللّه لا يحبّ الفحش والتّفحّش»‏.‏

وكلّ ما يشتدّ قبحه من الذّنوب والمعاصي فهو فاحشة‏.‏

وتطلق الفاحشة بإطلاقات كثيرة، أهمّها‏:‏ الزّنا - كما قال ابن الأثير - كما تطلق بمعنى القبيح والتّعدّي في القول والفعل، وبمعنى الكثرة والزّيادة، وبمعنى البخل‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

الفجور‏:‏

2 - من معاني الفجور في اللّغة‏:‏ شقّ ستر الدّيانة، يقال‏:‏ فجر فجوراً فهو فاجر، أي‏:‏ انبعث في المعاصي غير مكترث ويقال‏:‏ يمين فاجرة، أي كاذبة‏.‏

وفي الاصطلاح قال الجرجانيّ‏:‏ الفجور هو هيئة حاصلة للنّفس بها يباشر أموراً على خلاف الشّرع والمروءة‏.‏

الأحكام المتعلّقة بفاحشة

من الأحكام المتعلّقة بمصطلح فاحشة ما يأتي‏:‏

أ - في مبطلات الصّلاة‏:‏

3 - اتّفق الفقهاء على أنّ الصّلاة تبطل بالأفعال الكثيرة الّتي ليست من جنسها ولا من مصلحتها، وأنّها لا تبطل بالفعلة الواحدة ما لم تتفاحش، فإن تفاحشت كالضّرب، والوثبة الفاحشة، بطلت الصّلاة‏.‏

وتفصيل ذلك في مصطلح‏:‏ ‏(‏صلاة ف 107 وما بعدها‏)‏‏.‏

ب - الغبن الفاحش‏:‏

4 - اختلف الفقهاء في أثر الغبن الفاحش على العقود بالنّسبة للخيار‏:‏

فذهب الحنفيّة - في ظاهر الرّواية - والشّافعيّة والمالكيّة - على المشهور - إلى أنّ مجرّد الغبن الفاحش لا يثبت الخيار، ولا يوجب الرّدّ‏.‏

وذهب الحنابلة وبعض الحنفيّة وبعض المالكيّة، إلى أنّ الغبن الفاحش يوجب للمغبون حقّ الخيار‏.‏

وتفصيل ذلك في مصطلح‏:‏ ‏(‏غبن ف 6‏)‏‏.‏

ج - في وليمة العرس‏:‏

5 - ذكر الفقهاء أنّ من المنكرات الّتي تمنع وجوب إجابة الدّعوة إلى وليمة العرس وغيرها من الولائم الأخرى، وجود شخص مضحك للنّاس بفاحش من القول أو الفعل أو الكذب‏.‏

والتّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏وليمة‏)‏‏.‏

د - في العدّة‏:‏

6 - اتّفق الفقهاء على أنّه لا يجوز إخراج المعتدّة أو خروجها هي من مسكن عدّتها إلاّ لضرورة، وإلاّ أن تأتي بفاحشة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ ََلا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَََلا يَخْرُجْنَ إََِلا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ََلا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا ‏}‏‏.‏

ولكنّهم اختلفوا في تفسير معنى الفاحشة الواردة في الآية فقال بعضهم‏:‏ هي الزّنا، فيجوز لصاحب العدّة أو ورثته أن يخرجوها من المسكن إذا زنت وتبيّن زناها، كما يجوز إخراجها من قبل الإمام لإقامة حدّ الزّنا عليها، وقال بعضهم‏:‏ معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ إََِلا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ ‏}‏ إلاّ أن تبذو على أهل زوجها وأحمائها، فإذا فعلت ذلك حلّ لهم أن يخرجوها، لما روي عن سعيد بن المسيّب رحمه الله أنّه قال في فاطمة بنت قيس - وهي الّتي أذن لها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالانتقال من بيت زوجها -‏:‏ تلك امرأة استطالت على أحمائها بلسانها فأمرها عليه الصلاة والسلام أن تنتقل‏.‏

وقال آخرون‏:‏ الفاحشة في الآية خروجها من بيتها في العدّة بغير ضرورة‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ الفاحشة هي كلّ معصية كالزّنا والسّرقة والبذاء على الأهل‏.‏

قال أبو بكر الجصّاص‏:‏ هذه المعاني كلّها يحتملها اللّفظ، وجائز أن يكون جميعها مراداً‏.‏

هـ - في الشّعر‏:‏

7 - قال الفقهاء‏:‏ يجوز قول الشّعر، وإنشاده، واستماعه، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان له شعراء يصغى إليهم، لما ورد عن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت‏:‏ «سئل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن الشّعر فقال‏:‏ هو كلام، فحسنه حسن، وقبيحه قبيح» إلاّ أن يكون هجاءً لمسلم، أو غيره من المعصومين، أو إلاّ أن يفحش، وهو أن يتجاوز الشّاعر الحدّ في المدح والإطراء، ولم يمكن حمله على المبالغة، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما كان الفحش في شيء إلاّ شانه، وما كان الحياء في شيء إلاّ زانه»‏.‏ والتّفصيل في مصطلح ‏(‏قصيدة، وشعر ف 7 - 17‏)‏‏.‏

فارس

انظر‏:‏ غنيمة‏.‏

فارسيّة

انظر‏:‏ أعجميّ‏.‏

فاسد

انظر‏:‏ فساد‏.‏

فاسق

انظر‏:‏ فسق‏.‏

فَتْحُ على الإِمام

التّعريف

1 - الفتح في اللّغة نقيض الإغلاق، يقال‏:‏ فتح الباب يفتحه فتحاً‏:‏ أزال غلقه‏.‏

والإمام كلّ من يقتدى به‏.‏

والفتح على الإمام في الاصطلاح هو‏:‏ تلقين المأموم الإمام الآية عند التّوقّف فيها‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - اللّبس‏:‏

2 - اللّبس‏:‏ اختلاط الأمر، من لبس الأمر عليه يلبس لبساً فالتبس‏:‏ إذا خلطه عليه حتّى لا يعرف جهته وفي الحديث‏:‏ «جاءه الشّيطان فلبس عليه»‏.‏

والصّلة أنّ اللّبس قد يكون سبباً للفتح على الإمام‏.‏

ب - الحصر‏:‏

3 - الحصر‏:‏ ضرب من العيّ، من حصر الرّجل حصراً‏:‏ عيي، وكلّ من امتنع من شيء لم يقدر عليه فقد حصر عنه‏.‏

والحصر قد يكون سبباً للفتح على الإمام‏.‏

الحكم التّكليفيّ

4 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ فتح المؤتمّ على إمامه إذا أرتج عليه في القراءة وهو في الصّلاة وردّه إذا غلط في القراءة إلى الصّواب مشروع إجمالاً، وبه قال جمع من الصّحابة والتّابعين كعثمان بن عفّان، وعليّ بن أبي طالب، وابن عمر رضي الله عنهم، وعطاء، والحسن، وابن سيرين وابن معقل، ونافع بن جبير‏.‏

واستدلّوا‏:‏ «بأنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم صلّى صلاةً فقرأ فيها فلبس عليه فلمّا انصرف قال لأبيّ رضي الله عنه‏:‏ أصلّيت معنا ‏؟‏ قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ فما منعك ‏؟‏»‏.‏

وبحديث المسور بن يزيد المالكيّ رضي الله عنه قال‏:‏ «شهدت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ يقرأ في الصّلاة، فترك شيئاً لم يقرأه فقال له رجل‏:‏ يا رسول اللّه تركت آية كذا وكذا، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ هلاّ أذكرتنيها»‏.‏

وكرهه ابن مسعود - رضي الله عنه - وشريح، والشّعبيّ، والثّوريّ‏.‏

أحكام الفتح على الإمام

5 - اختلف الفقهاء في بعض أحكام الفتح على الإمام بعد اتّفاقهم على مشروعيّته إجمالاً‏:‏ فذهب الحنفيّة إلى أنّ المؤتمّ إن فتح على إمامه بعد توقّفه في القراءة لم يكن كلاماً مفسداً للصّلاة، لأنّه مضطرّ إلى إصلاح صلاته، سواء أقرأ الإمام مقدار الفرض في القراءة أم لم يقرأ، لأنّه لو لم يفتح عليه ربّما يجري على لسانه ما يكون مفسداً للصّلاة، فكان في الفتح عليه صلاح صلاته في الحالين، ولما روي عن عليّ رضي الله عنه قال‏:‏ ‏"‏ إذا استطعمكم الإمام فأطعموه ‏"‏ واستطعامه سكوته، وينوي الفاتح الفتح لا التّلاوة على الصّحيح، لأنّه مرخّص فيه، وقراءته ممنوع عنها، ولو فتح عليه بعد انتقاله إلى آية أخرى لم تفسد صلاته، وهو قول عامّة مشايخهم، لإطلاق المرخّص‏.‏

وفي البحر الرّائق‏:‏ وفي المحيط ما يفيد أنّه المذهب، فإنّ فيه‏:‏ وذكر في الأصل والجامع الصّغير أنّه إذا فتح على إمامه يجوز مطلقاً، لأنّ الفتح وإن كان تعليماً، لكنّه ليس بعمل كثير، وأنّه تلاوة حقيقيّة فلا يكون مفسداً، وإن لم يكن محتاجاً إليه، وصحّح في الظّهيريّة أنّه لا تفسد صلاة الفاتح على كلّ حال، وتفسد صلاة الإمام، إذا أخذ من الفاتح بعد أن انتقل إلى آية أخرى، وفي الكافي‏:‏ لا تفسد صلاة الإمام أيضاً‏.‏

والحاصل أنّ الفتح على إمامه لا يوجب فساد صلاة أحد لا الفاتح، ولا الآخذ في الصّحيح، ويكره للمقتدي أن يعجل بالفتح، ويكره للإمام أن يلجئهم إليه بأن يسكت بعد الحصر، أو يكرّر الآية، بل يركع إذا جاء أوانه، أو ينتقل إلى آية أخرى ليس في وصلها ما يفسد الصّلاة، أو ينتقل إلى سورة أخرى‏.‏

واختلفت الرّوايات في أوان الرّكوع، ففي بعضها‏:‏ اعتبر أوانه إذا قرأ المستحبّ، وفي بعضها‏:‏ اعتبر فرض القراءة‏:‏ أي إذا قرأ مقدار ما يجوز به الصّلاة ركع‏.‏

وإن فتح المصلّي على غير إمامه فسدت صلاته لأنّه تعليم وتعلّم، فكان من جنس كلام النّاس، إلاّ إذا نوى التّلاوة، فإن نوى التّلاوة لا تفسد صلاته عند الكلّ، وتفسد صلاة الآخذ، إلاّ إذا تذكّر قبل تمام الفتح، وأخذ في التّلاوة قبل تمام الفتح فلا تفسد وإلاّ فسدت صلاته، لأنّ تذكّره يضاف إلى الفتح‏.‏

قال ابن عابدين‏:‏ إن حصل التّذكّر بسبب الفتح تفسد مطلقاً، سواء أشرع في التّلاوة قبل تمام الفتح أم بعده، لوجود التّعلّم، وإن حصل تذكّره من نفسه لا بسبب الفتح لا تفسد مطلقاً، وكون الظّاهر أنّه حصل بالفتح لا يؤثّر بعد تحقّق أنّه من نفسه، ويشمل هذا إذا كان المفتوح عليه مصلّياً أو غير مصلّ، وإن سمع المؤتمّ ممّن ليس في الصّلاة ففتح به على إمامه فسدت صلاة الكلّ، لأنّ التّلقين من خارج، وفتح المراهق كالبالغ فيما ذكر‏.‏ هذا كلّه قول أبي حنيفة ومحمّد، وقال أبو يوسف‏:‏ إنّ الفتح على الإمام لا يكون مفسداً للصّلاة، فلا تفسد صلاة الفاتح مطلقاً، لأنّه قراءة فلا تتغيّر بقصد القارئ‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ إذا أرتج على الإمام في الفاتحة يجب على المأموم أن يفتح عليه على القول بأنّ قراءة الفاتحة تجب في الصّلاة كلّها أو جلّها‏.‏

أمّا على القول بأنّ الفاتحة تجب في جلّ الصّلاة لا في كلّها، وحصل الرّتاج بعد قراءة الفاتحة في جلّ الصّلاة، كأن يقف في ثالثة الثّلاثيّة، أو رابعة الرّباعية، فالفتح عليه سنّة، أمّا صلاة الإمام فصحيحة مطلقاً، لأنّه كمن طرأ له العجز عن ركن في أثناء الصّلاة، أمّا في غير الفاتحة فيسنّ الفتح عليه إن وقف حقيقةً‏:‏ بأن استفتح ولم ينتقل لغير سورة ولم يكرّر آيةً، أو وقف حكماً‏:‏ بأن ردّد آيةً، إذ يحتمل أن يكون للتّبرّك أو التّلذّذ بها، ويحتمل للاستطعام، كقوله‏:‏ ‏"‏ واللّه ‏"‏ ويكرّرها أو يسكت فيعلم أنّه لا يعلم أنّ بعدها ‏"‏ غفور رحيم ‏"‏‏.‏

ومن الحكميّ أيضاً‏:‏ خلط آية رحمة بآية عذاب، أو تغييره آيةً تغييراً يقتضي الكفر، أو وقفه وقفاً قبيحاً فيفتح عليه بالتّنبيه على الصّواب، ولا سجود عليه للفتح على إمامه، وأمّا إن انتقل إلى آية أخرى من غير الفاتحة، أو لم يقف فيكره الفتح عليه حينئذ ولا تبطل صلاة الفاتح ولا سجود عليه‏.‏

وذهب الشّافعيّة إلى أنّ الفتح على الإمام مستحبّ، قال النّوويّ‏:‏ إذا أرتج على الإمام ووقفت عليه القراءة استحبّ للمأموم تلقينه، وكذا إذا كان يقرأ في موضع فسها وانتقل إلى غيره استحبّ تلقينه، وإذا سها عن ذكر فأهمله، أو قال غيره استحبّ للمأموم أن يقوله جهراً ليسمعه، واستدلّوا بما روي عن أنس رضي الله عنه‏:‏ «كان أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يلقّن بعضهم بعضاً في الصّلاة»‏.‏

والأخبار السّابقة في مشروعيّة الفتح على الإمام‏.‏

ولا يقطع الفتح على الإمام موالاة الفاتحة، لأنّه في مصلحة الصّلاة، فلا يجب استئنافها، وإن كان التّوقّف في قراءة غير الفاتحة، لأنّه إعانة للإمام على القراءة المطلوبة‏.‏

ولا بدّ في الفتح عليه من قصد القراءة، ولو مع الفتح، وإلاّ بطلت صلاة الفاتح على المعتمد‏.‏

ويكون الفتح على الإمام إذا توقّف عن القراءة وسكت، ولا يفتح عليه ما دام يردّد‏.‏

فإن لم يقصد القراءة بطلت صلاته على المعتمد إن كان عالماً، وإلاّ فلا تبطل، لأنّها ممّا يخفى على العوّام غالباً، والفتح مندوب عندهم ولو في القراءة الواجبة، وفي حاشية القليوبيّ‏:‏ وفيه نظر في القراءة الواجبة في الرّكعة الأولى من الجمعة، وقياس نظائره الوجوب في هذه، وأنّه لا يقطع موالاة الفاتحة وإن طال، وهو كذلك على المعتمد‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ إذا أرتج على الإمام في القراءة الواجبة كالفاتحة لزم من وراءه الفتح عليه، وكذا إن غلط في الفاتحة، لتوقّف صحّة صلاته على ذلك، كما يجب عليه تنبيهه عند نسيان سجدة ونحوها من الأركان الفعليّة‏.‏

وإن عجز المصلّي عن إتمام الفاتحة بالإرتاج عليه فكالعاجز عن القيام في أثناء الصّلاة، يأتي بما يقدر عليه، ويسقط عنه ما عجز عنه، ولا يعيدها كالأمّيّ، فإن كان إماماً صحّت صلاة الأمّيّ خلفه لمساواته له، والقارئ يفارقه للعذر ويتمّ لنفسه، لأنّه لا يصحّ ائتمام القارئ بالأمّيّ، هذا قول ابن عقيل، وقال الموفّق‏:‏ والصّحيح أنّه إذا لم يقدر على قراءة الفاتحة تفسد صلاته‏.‏

ولا يفتح المصلّي على غير إمامه مصلّياً كان أو غيره، لعدم الحاجة إليه فإن فعل كره ولم تبطل الصّلاة به، لأنّه قول مشروع فيها‏.‏

فِتْنَة

التّعريف

1 - الفتنة في اللّغة كما قال الأزهريّ‏:‏ الابتلاء والامتحان والاختبار، وأصلها مأخوذ من قولك‏:‏ فتنت الفضّة والذّهب إذا أذبتهما بالنّار لتميّز الرّديء من الجيّد‏.‏

وتأتي الفتنة بمعنى الكفر كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ ‏}‏‏.‏

كما تأتي بمعنى الفضيحة كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ ‏}‏‏.‏

وتأتي الفتنة بمعنى العذاب، وبمعنى القتل، والفاتن‏:‏ المضلّ عن الحقّ‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ‏.‏

الحكم الإجماليّ

2 - تظاهرت نصوص الكتاب والسّنّة على التّحذير من الفتن والأمر بتجنّبها واعتزالها وعدم الخوض فيها، فمن ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً ‏}‏‏.‏

وما روته عائشة رضي الله عنها‏:‏ «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يدعو في الصّلاة‏:‏ اللّهمّ إنّي أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدّجّال، وأعوذ بك من فتنة المحيا وفتنة الممات، اللّهمّ إنّي أعوذ بك من المأثم والمغرم»‏.‏

قال ابن دقيق العيد‏:‏ فتنة المحيا ما يعرض للإنسان مدّة حياته من الافتنان بالدّنيا والشّهوات والجهالات، وأعظمها والعياذ باللّه أمر الخاتمة عند الموت‏.‏

وهناك بعض الأحكام الفقهيّة المتعلّقة بالفتنة ومنها‏:‏

أ - بيع السّلاح زمن الفتنة‏:‏

3 - ذهب جمهور الفقهاء إلى حرمة بيع ما يقصد به فعل محرّم واعتبروه من أقسام البيوع المنهيّ عنها، ومثّلوا له ببيع السّلاح زمن الفتنة، وسبب النّهي عنه أنّه يؤدّي إلى ضرر مطلق وعامّ، وفي منعه سدّ لذريعة الإعانة على المعصية‏.‏

وذهب الحنفيّة إلى كراهته كراهة تحريم، وقال أبو حنيفة بعدم الكراهة، لأنّ المعصية لا تقوم بعينه‏.‏

والتّفصيل في مصطلح ‏(‏بيع منهيّ عنه ف 100، 112، 115، 116‏)‏‏.‏

ومصطلح ‏(‏سدّ الذّرائع ف 9‏)‏‏.‏

ب - اشتراط أمن الفتنة في جواز النّظر إلى وجه المرأة الأجنبيّة وكفّيها‏:‏

4 - اتّفق الفقهاء على أنّه لا يجوز النّظر إلى وجه المرأة الأجنبيّة وكفّيها عند خوف الفتنة، واختلفوا في جواز النّظر إلى وجهها عند أمن الفتنة‏.‏

والتّفصيل في مصطلح ‏(‏شهوة ف 11 وعورة ف 3‏)‏‏.‏

ج - الفتنة في عزل الإمام الجائر‏:‏

5 - اعتبر الفقهاء - من حيث الجملة - قيد عدم وقوع الفتنة عند عزل الإمام، فإذا فسق الإمام أو ظلم وجار استحقّ العزل إن لم يترتّب على عزله فتنة، فإنّ بعض الصّحابة رضي الله عنهم صلّوا خلف أئمّة الجور وقبلوا الولاية عنهم، وهذا عندهم للضّرورة وخشية الفتنة، فإن أدّى خلعه إلى فتنة احتمل أدنى المضرّتين من جوره وظلمه أو خلعه وعزله، فإذا قام عليه إمام عدل فيجوز الخروج عليه وإعانة ذلك القائم‏.‏

انظر مصطلح ‏(‏إمامة ف 12‏)‏‏.‏

فَتْوى

التّعريف

1 - الفتوى لغةً‏:‏ اسم مصدر بمعنى الإفتاء، والجمع‏:‏ الفتاوى والفتاوي، يقال‏:‏ أفتيته فتوى وفتيا إذا أجبته عن مسألته، والفتيا تبيين المشكل من الأحكام، وتفاتوا إلى فلان‏:‏ تحاكموا إليه وارتفعوا إليه في الفتيا، والتّفاتي‏:‏ التّخاصم، ويقال‏:‏ أفتيت فلاناً رؤيا رآها، إذا عبّرتها له ومنه قوله تعالى حاكياً‏:‏ ‏{‏ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ ‏}‏‏.‏ والاستفتاء لغةً‏:‏ طلب الجواب عن الأمر المشكل، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ وَََلا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا ‏}‏‏.‏

وقد يكون بمعنى مجرّد سؤال، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَم مَّنْ خَلَقْنَا ‏}‏، قال المفسّرون‏:‏ أي اسألهم‏.‏

والفتوى في الاصطلاح‏:‏ تبيين الحكم الشّرعيّ عن دليل لمن سأل عنه وهذا يشمل السّؤال في الوقائع وغيرها‏.‏

والمفتي لغةً‏:‏ اسم فاعل أفتى، فمن أفتى مرّةً فهو مفت، ولكنّه يحمل في العرف الشّرعيّ بمعنًى أخصّ من ذلك، قال الصّيرفيّ‏:‏ هذا الاسم موضوع لمن قام للنّاس بأمر دينهم، وعلم جمل عموم القرآن وخصوصه، وناسخه ومنسوخه، وكذلك السّنن والاستنباط، ولم يوضع لمن علم مسألةً وأدرك حقيقتها، فمن بلغ هذه المرتبة سمّوه بهذا الاسم، ومن استحقّه أفتى فيما استفتي فيه‏.‏

وقال الزّركشيّ‏:‏ المفتي من كان عالماً بجميع الأحكام الشّرعيّة بالقوّة القريبة من الفعل، وهذا إن قلنا بعدم تجزّؤ الاجتهاد‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - القضاء‏:‏

2 - القضاء‏:‏ هو فصل القاضي بين الخصوم، ويقال له أيضاً‏:‏ الحكم، والحاكم‏:‏ القاضي‏.‏

والقضاء شبيه بالفتوى إلاّ أنّ بينهما فروقاً‏:‏

منها‏:‏ أنّ الفتوى إخبار عن الحكم الشّرعيّ، والقضاء إنشاء للحكم بين المتخاصمين‏.‏ ومنها‏:‏ أنّ الفتوى لا إلزام فيها للمستفتي أو غيره، بل له أن يأخذ بها إن رآها صواباً وله أن يتركها ويأخذ بفتوى مفت آخر، أمّا الحكم القضائيّ فهو ملزم، وينبني عليه أنّ أحد الخصمين إذا دعا الآخر إلى فتاوى الفقهاء لم نجبره، وإن دعاه إلى قاض وجب عليه الإجابة، وأجبر على ذلك، لأنّ القاضي منصوب لقطع الخصومات وإنهائها‏.‏

ومنها‏:‏ ما نقله صاحب الدّرّ المختار عن أيمان البزّازيّة‏:‏ أنّ المفتي يفتي بالدّيانة، أي على باطن الأمر، ويديّن المستفتي، والقاضي يقضي على الظّاهر، قال ابن عابدين‏:‏ مثاله إذا قال رجل للمفتي‏:‏ قلت لزوجتي‏:‏ أنت طالق قاصداً الإخبار كاذباً فإنّ المفتي يفتيه بعدم الوقوع، أمّا القاضي فإنّه يحكم عليه بالوقوع‏.‏

ومنها‏:‏ ما قال ابن القيّم‏:‏ إنّ حكم القاضي جزئيّ خاصّ لا يتعدّى إلى غير المحكوم عليه وله، وفتوى المفتي شريعة عامّة تتعلّق بالمستفتي وغيره، فالقاضي يقضي قضاءً معيّناً على شخص معيّن، والمفتي يفتي حكماً عامّاً كلّيّاً‏:‏ أنّ من فعل كذا ترتّب عليه كذا، ومن قال كذا لزمه كذا‏.‏

ومنها‏:‏ أنّ القضاء لا يكون إلاّ بلفظ منطوق، وتكون الفتيا بالكتابة والفعل والإشارة‏.‏

ب - الاجتهاد‏:‏

3 - الاجتهاد‏:‏ بذل الفقيه وسعه في تحصيل الحكم الشّرعيّ الظّنّيّ‏.‏

والفرق بينه وبين الإفتاء‏:‏ أنّ الإفتاء‏:‏ يكون فيما علم قطعاً أو ظنّاً، أمّا الاجتهاد فلا يكون في القطعيّ، وأنّ الاجتهاد يتمّ بمجرّد تحصيل الفقيه الحكم في نفسه، ولا يتمّ الإفتاء إلاّ بتبليغ الحكم للسّائل‏.‏

والّذين قالوا‏:‏ إنّ المفتي هو المجتهد، أرادوا بيان أنّ غير المجتهد لا يكون مفتياً حقيقةً، وأنّ المفتي لا يكون إلاّ مجتهداً، ولم يريدوا التّسوية بين الاجتهاد والإفتاء في المفهوم‏.‏

الحكم التّكليفيّ

4 - الفتوى فرض على الكفاية، إذ لا بدّ للمسلمين ممّن يبيّن لهم أحكام دينهم فيما يقع لهم، ولا يحسن ذلك كلّ أحد، فوجب أن يقوم به من لديه القدرة‏.‏

ولم تكن فرض عين لأنّها تقتضي تحصيل علوم جمّة، فلو كلّفها كلّ واحد لأفضى إلى تعطيل أعمال النّاس ومصالحهم، لانصرافهم إلى تحصيل علوم بخصوصها، وانصرافهم عن غيرها من العلوم النّافعة، وممّا يدلّ على فرضيّتها قول اللّه تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏ وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ ‏}‏‏.‏

وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من سئل عن علم ثمّ كتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار»‏.‏

قال المحلّيّ‏:‏ ومن فروض الكفاية القيام بإقامة الحجج العلميّة، وحلّ المشكلات في الدّين، ودفع الشّبه، والقيام بعلوم الشّرع كالتّفسير والحديث والفروع الفقهيّة بحيث يصلح للقضاء والإفتاء للحاجة إليهما‏.‏

ويجب أن يكون في البلاد مفتون ليعرفهم النّاس، فيتوجّهوا إليهم بسؤالهم يستفتيهم النّاس، وقدّر الشّافعيّة أن يكون في كلّ مسافة قصر واحد‏.‏

تعيّن الفتوى

5 - من سئل عن الحكم الشّرعيّ من المتأهّلين للفتوى يتعيّن عليه الجواب، بشروط‏:‏ الأوّل‏:‏ أن لا يوجد في النّاحية غيره ممّن يتمكّن من الإجابة، فإن وجد عالم آخر يمكنه الإفتاء لم يتعيّن على الأوّل، بل له أن يحيل على الثّاني، قال عبد الرّحمن بن أبي ليلى‏:‏ أدركت عشرين ومائةً من الأنصار من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يسأل أحدهم عن المسألة، فيردّها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتّى ترجع إلى الأوّل‏:‏ وقيل‏:‏ إذا لم يحضر الاستفتاء غيره تعيّن عليه الجواب‏.‏

الثّاني‏:‏ أن يكون المسئول عالماً بالحكم بالفعل، أو بالقوّة القريبة من الفعل، وإلاّ لم يلزم تكليفه بالجواب، لما عليه من المشقّة في تحصيله‏.‏

الثّالث‏:‏ أن لا يمنع من وجوب الجواب مانع، كأن تكون المسألة عن أمر غير واقع، أو عن أمر لا منفعة فيه للسّائل، أو غير ذلك‏.‏

منزلة الفتوى

6 - تتبيّن منزلة الفتوى في الشّريعة من عدّة أوجه، منها‏:‏

أ - أنّ اللّه تعالى أفتى عباده، وقال‏:‏ ‏{‏ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ ‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ ‏}‏‏.‏

ب - أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يتولّى هذا المنصب في حياته، وكان ذلك من مقتضى رسالته، وقد كلّفه اللّه تعالى بذلك حيث قال‏:‏ ‏{‏ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ‏}‏‏.‏

فالمفتي خليفة النّبيّ صلى الله عليه وسلم في أداء وظيفة البيان، وقد تولّى هذه الخلافة بعد النّبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه الكرام، ثمّ أهل العلم بعدهم‏.‏

ج - أنّ موضوع الفتوى هو بيان أحكام اللّه تعالى، وتطبيقها على أفعال النّاس، فهي قول على اللّه تعالى، أنّه يقول للمستفتي‏:‏ حقّ عليك أن تفعل، أو حرام عليك أن تفعل، ولذا شبّه القرافيّ المفتي بالتّرجمان عن مراد اللّه تعالى، وجعله ابن القيّم بمنزلة الوزير الموقّع عن الملك قال‏:‏ إذا كان منصب التّوقيع عن الملوك بالمحلّ الّذي لا ينكر فضله، ولا يجهل قدره، وهو من أعلى المراتب السّنيّات، فكيف بمنصب التّوقّع عن ربّ الأرض والسّموات، نقل النّوويّ‏:‏ المفتي موقّع عن اللّه تعالى، ونقل عن ابن المنكدر أنّه قال‏:‏ العالم بين اللّه وبين خلقه، فلينظر كيف يدخل بينهم‏.‏

تهيّب الإفتاء والجرأة عليه

7 - ورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قوله‏:‏ «أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النّار»، وقد تقدّم النّقل عن ابن أبي ليلى ترادّ الصّحابة للجواب عن المسائل‏.‏

وقد نقل النّوويّ في حديثه عنهم روايةً فيها زيادة‏:‏ ما منهم من يحدّث بحديث إلاّ ودّ أنّ أخاه كفاه إيّاه، ولا يستفتى عن شيء إلاّ ودّ أنّ أخاه كفاه الفتيا ونقل عن سفيان وسحنون‏:‏ أجسر النّاس على الفتيا أقلّهم علماً، فالّذي ينبغي للعالم أن يكون متهيّباً للإفتاء، لا يتجرّأ عليه إلاّ حيث يكون الحكم جليّاً في الكتاب أو السّنّة، أو يكون مجمعاً عليه، أمّا فيما عدا ذلك ممّا تعارضت فيه الأقوال والوجوه وخفي حكمه، فعليه أن يتثبّت ويتريّث حتّى يتّضح له وجه الجواب، فإن لم يتّضح له توقّف‏.‏

وفيما نقل عن الإمام مالك أنّه ربّما كان يسأل عن خمسين مسألةً فلا يجيب في واحدة منها، وكان يقول‏:‏ من أجاب فينبغي قبل الجواب أن يعرض نفسه على الجنّة والنّار، وكيف خلاصه، ثمّ يجيب، وعن الأثرم قال‏:‏ سمعت أحمد بن حنبل يكثر أن يقول‏:‏ لا أدري‏.‏

الفتوى بغير علم

8 - الإفتاء بغير علم حرام، لأنّه يتضمّن الكذب على اللّه تعالى ورسوله، ويتضمّن إضلال النّاس، وهو من الكبائر، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ‏}‏، فقرنه بالفواحش والبغي والشّرك، ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنّ اللّه لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العلماء، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتّى إذا لم يبق عالماً اتّخذ النّاس رءوساً جهّالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلّوا وأضلّوا»‏.‏

من أجل ذلك كثر النّقل عن السّلف إذا سئل أحدهم عمّا لا يعلم أن يقول للسّائل‏:‏ لا أدري‏.‏ نقل ذلك عن ابن عمر رضي الله عنهما والقاسم بن محمّد والشّعبيّ ومالك وغيرهم، وينبغي للمفتي أن يستعمل ذلك في موضعه ويعوّد نفسه عليه، ثمّ إن فعل المستفتي بناءً على الفتوى أمراً محرّماً أو أدّى العبادة المفروضة على وجه فاسد، حمل المفتي بغير علم إثمه، إن لم يكن المستفتي قصّر في البحث عمّن هو أهل للفتيا، وإلاّ فالإثم عليهما، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من أفتى بغير علم كان إثمه على من أفتاه»‏.‏

أنواع ما يفتى فيه

9 - يدخل الإفتاء الأحكام الاعتقاديّة‏:‏ من الإيمان باللّه واليوم الآخر وسائر أركان الإيمان‏.‏ ويدخل الأحكام العمليّة جميعها‏:‏ من العبادات والمعاملات والعقوبات والأنكحة، ويدخل الإفتاء الأحكام التّكليفيّة كلّها، وهي الواجبات والمحرّمات والمندوبات والمكروهات والمباحات، ويدخل الإفتاء في الأحكام الوضعيّة كالإفتاء بصحّة العبادة أو التّصرّف أو بطلانهما‏.‏

حقيقة عمل المفتي

10 - لمّا كان الإفتاء هو الإخبار بالحكم الشّرعيّ عن دليله، فإنّ ذلك يستلزم أموراً‏:‏ الأوّل‏:‏ تحصيل الحكم الشّرعيّ المجرّد في ذهن المفتي، فإن كان ممّا لا مشقّة في تحصيله لم يكن تحصيله اجتهاداً، كما لو سأله سائل عن أركان الإسلام ما هي ‏؟‏ أو عن حكم الإيمان بالقرآن ‏؟‏ وإن كان الدّليل خفيّاً، كما لو كان آيةً من القرآن غير واضحة الدّلالة على المراد، أو حديثاً نبويّاً وارداً بطريق الآحاد، أو غير واضح الدّلالة على المراد، أو كان الحكم ممّا تعارضت فيه الأدلّة أو لم يدخل تحت شيء من النّصوص أصلاً، احتاج أخذ الحكم إلى اجتهاد في صحّة الدّليل أو ثبوته أو استنباط الحكم منه أو القياس عليه‏.‏

الثّاني‏:‏ معرفة الواقعة المسئول عنها، بأن يذكرها المستفتي في سؤاله، وعلى المفتي أن يحيط بها إحاطةً تامّةً فيما يتعلّق به الجواب، بأن يستفصل السّائل عنها، ويسأل غيره إن لزم، وينظر في القرائن‏.‏

الثّالث‏:‏ أن يعلم انطباق الحكم على الواقعة المسئول عنها، بأن يتحقّق من وجود مناط الحكم الشّرعيّ الّذي تحصّل في الذّهن في الواقعة المسئول عنها لينطبق عليها الحكم، وذلك أنّ الشّريعة لم تنصّ على حكم كلّ جزئيّة بخصوصها، وإنّما أتت بأمور كلّيّة وعبارات مطلقة، تتناول أعداداً لا تنحصر من الوقائع، ولكلّ واقعة معيّنة خصوصيّة ليست في غيرها‏.‏

وليست الأوصاف الّتي في الوقائع معتبرةً في الحكم كلّها، ولا هي طرديّة كلّها، بل منها ما يعلم اعتباره، ومنها ما يعلم عدم اعتباره، وبينهما قسم ثالث متردّد بين الطّرفين، فلا تبقى صورة من الصّور الوجوديّة المعيّنة إلاّ وللمفتي فيها نظر سهل أو صعب، حتّى يحقّق تحت أيّ دليل تدخل، وهل يوجد مناط الحكم في الواقعة أم لا، فإذا حقّق وجوده فيها أجراه عليها، وهذا اجتهاد لا بدّ منه لكلّ قاض ومفت، ولو فرض ارتفاع هذا الاجتهاد لم تتنزّل الأحكام على أفعال المكلّفين إلاّ في الذّهن، لأنّها عمومات ومطلقات، منزّلة على أفعال مطلقة كذلك، والأفعال الّتي تقع في الوجود لا تقع مطلقةً، وإنّما تقع معيّنةً مشخّصةً، فلا يكون الحكم واقعاً عليها إلاّ بعد المعرفة بأنّ هذا المعيّن يشمله ذلك المطلق أو ذلك العامّ، وقد يكون ذلك سهلاً وقد لا يكون، وذلك كلّه اجتهاد‏.‏

ومثال هذا‏:‏ أن يسأله رجل هل يجب عليه أن ينفق على أبيه ‏؟‏‏.‏

فينظر أوّلاً في الأدلّة الواردة، فيعلم أنّ الحكم الشّرعيّ أنّه يجب على الابن الغنيّ أن ينفق على أبيه الفقير، ويتعرّف ثانياً، حال كلّ من الأب والابن، ومقدار ما يملكه كلّ منهما، وما عليه من الدّين، وما عنده من العيال، إلى غير ذلك ممّا يظنّ أنّ له في الحكم أثراً، ثمّ ينظر في حال كلّ منهما ليحقّق وجود مناط الحكم - وهو الغنى والفقر - فإنّ الغنى والفقر اللّذين علّق بهما الشّارع الحكم لكلّ منهما طرفان وواسطة، فالغنى مثلاً له طرف أعلى لا إشكال في دخوله في حدّ الغنى، وله طرف أدنى لا إشكال في خروجه عنه، وهناك واسطة يتردّد النّاظر في دخولها أو خروجها، وكذلك الفقر له أطراف ثلاثة - فيجتهد المفتي في إدخال الصّورة المسئول عنها في الحكم أو إخراجها بناءً على ذلك‏.‏

وهذا النّوع من الاجتهاد لا بدّ منه في كلّ واقعة - وهو المسمّى تحقيق المناط - لأنّ كلّ صورة من صور النّازلة نازلة مستأنفة في نفسها، لم يتقدّم لها نظير، وإن فرضنا أنّه تقدّم مثلها فلا بدّ من النّظر في تحقيق كونها مثلها أو لا، وهو نظر اجتهاد‏.‏

شروط المفتي

11 - لا يشترط في المفتي الحرّيّة والذّكوريّة والنّطق اتّفاقاً، فتصحّ فتيا العبد والمرأة والأخرس ويفتي بالكتابة أو بالإشارة المفهمة، وأمّا السّمع، فقد قال بعض الحنفيّة‏:‏ إنّه شرط فلا تصحّ فتيا الأصمّ وهو من لا يسمع أصلاً، وقال ابن عابدين‏:‏ لا شكّ أنّه إذا كتب له السّؤال وأجاب عنه جاز العمل بفتواه، إلاّ أنّه لا ينبغي أن ينصّب للفتوى، لأنّه لا يمكن كلّ أحد أن يكتب له، ولم يذكر هذا الشّرط غيرهم، وكذا لم يذكروا في الشّروط البصر، فتصحّ فتيا الأعمى، وصرّح به المالكيّة‏.‏

أمّا ما يشترط في المفتي فهو أمور‏:‏

12 - أ - الإسلام‏:‏ فلا تصحّ فتيا الكافر‏.‏

ب - العقل‏:‏ فلا تصحّ فتيا المجنون‏.‏

ج - البلوغ‏:‏ فلا تصحّ فتيا الصّغير‏.‏

13 - د‏:‏ العدالة‏:‏ فلا تصحّ فتيا الفاسق عند جمهور العلماء، لأنّ الإفتاء يتضمّن الإخبار عن الحكم الشّرعيّ، وخبر الفاسق لا يقبل، واستثنى بعضهم إفتاء الفاسق نفسه فإنّه يعلم صدق نفسه‏.‏

وذهب بعض الحنفيّة إلى أنّ الفاسق يصلح مفتياً، لأنّه يجتهد لئلاّ ينسب إلى الخطأ‏.‏

وقال ابن القيّم‏:‏ تصحّ فتيا الفاسق، إلاّ أن يكون معلناً بفسقه وداعيّاً إلى بدعته، وذلك إذا عمّ الفسوق وغلب، لئلاّ تتعطّل الأحكام، والواجب اعتبار الأصلح فالأصلح‏.‏

وأمّا المبتدعة، فإن كانت بدعتهم مكفّرةً أو مفسّقةً لم تصحّ فتاواهم، وإلاّ صحّت فيما لا يدعون فيه إلى بدعهم، قال الخطيب البغداديّ‏:‏ تجوز فتاوى أهل الأهواء ومن لا نكفّره ببدعته ولا نفسّقه، وأمّا الشّراة والرّافضة الّذين يشتمون الصّحابة ويسبّون السّلف فإنّ فتاويهم مرذولة وأقاويلهم غير مقبولة‏.‏

14 - هـ - الاجتهاد وهو‏:‏ بذل الجهد في استنباط الحكم الشّرعيّ من الأدلّة المعتبرة، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ‏}‏، قال الشّافعيّ فيما رواه عنه الخطيب‏:‏ لا يحلّ لأحد أن يفتي في دين اللّه، إلاّ رجلاً عارفاً بكتاب اللّه‏:‏ بناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله، ومكّيّه ومدنيّه، وما أريد به، ويكون بعد ذلك بصيراً بحديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ويعرف من الحديث مثل ما عرف من القرآن، ويكون بصيراً باللّغة، بصيراً بالشّعر، وما يحتاج إليه للسّنّة والقرآن ويستعمل هذا مع الإنصاف، ويكون مشرفاً على اختلاف أهل الأمصار، وتكون له قريحة بعد هذا، فإذا كان هكذا فله أن يتكلّم ويفتي في الحلال والحرام، وإذا لم يكن هكذا فليس له أن يفتي‏.‏ ا هـ‏.‏ وهذا معنى الاجتهاد‏.‏

ونقل ابن القيّم قريباً من هذا عن الإمام أحمد‏.‏ ومفهوم هذا الشّرط‏:‏ أنّ فتيا العامّيّ والمقلّد الّذي يفتي بقول غيره لا تصحّ،

قال ابن القيّم‏:‏ وفي فتيا المقلّد ثلاثة أقوال‏:‏

الأوّل‏:‏ ما تقدّم، وهو أنّه لا تجوز الفتيا بالتّقليد، لأنّه ليس بعلم، ولأنّ المقلّد ليس بعالم والفتوى بغير علم حرام، قال‏:‏ وهذا قول جمهور الشّافعيّة وأكثر الحنابلة‏.‏

الثّاني‏:‏ أنّ ذلك يجوز فيما يتعلّق بنفسه، فأمّا أن يتقلّد لغيره ويفتي به فلا‏.‏

والثّالث‏:‏ أنّه يجوز عند الحاجة وعدم العالم المجتهد، قال‏:‏ وهو أصحّ الأقوال، وعليه العمل‏.‏

وقال ابن عابدين نقلاً عن ابن الهمام‏:‏ وقد استقرّ رأي الأصوليّين على أنّ المفتي هو المجتهد، فأمّا غير المجتهد ممّن يحفظ أقوال المجتهد فليس بمفت، والواجب عليه إذا سئل أن يذكر قول المجتهد على وجه الحكاية، فعرف أنّ ما يكون في زماننا من فتوى الموجودين ليس بفتوى، بل هو نقل كلام المفتي ليأخذ به المستفتي‏.‏ ا هـ، وعليه أن يذكره على وجه الحكاية ولا يجعله كأنّه من كلامه هو، ومقصودهم أنّ فتيا المقلّد ليست بفتيا على الحقيقة، وتسمّى فتيا مجازاً للشّبه، ويجوز الأخذ بها في هذه الأزمان لقلّة المجتهدين أو انعدامهم، ولذا قال صاحب تنوير الأبصار‏:‏ الاجتهاد شرط الأولويّة‏.‏

قال ابن عابدين‏:‏ معناه‏:‏ أنّه إذا وجد المجتهد فهو الأولى بالتّولية‏.‏

وقال ابن دقيق العيد‏:‏ توقيف الفتيا على حصول المجتهد يفضي إلى حرج عظيم، أو استرسال الخلق في أهوائهم، فالمختار أنّ الرّاوي عن الأئمّة المتقدّمين إذا كان عدلاً متمكّناً من فهم كلام الإمام، ثمّ حكى للمقلّد قوله فإنّه يكفيه، لأنّ ذلك ممّا يغلب على ظنّ العامّيّ أنّه حكم اللّه عنده، قال‏:‏ وقد انعقد الإجماع في زماننا على هذا النّوع من الفتيا‏.‏

قال الزّركشيّ‏:‏ أمّا من شدا - جمع - شيئاً من العلم فقد نقل الإجماع على أنّه لا يحلّ له أن يفتي‏.‏

15 - وليس لمن يفتي بمذهب إمام أن يفتي به إلاّ وقد عرف دليله ووجه الاستنباط‏.‏

قال ابن القيّم‏:‏ لا يجوز للمقلّد أن يفتي في دين اللّه بما هو مقلّد فيه وليس على بصيرة فيه سوى أنّه قول من قلّده، هذا إجماع السّلف وبه صرّح الشّافعيّ وأحمد وغيرهما‏.‏

وقال الجوينيّ في شرح الرّسالة‏:‏ من حفظ نصوص الشّافعيّ وأقوال النّاس بأسرها غير أنّه لا يعرف حقائقها ومعانيها لا يجوز له أن يجتهد ويقيس، ولا يكون من أهل الفتوى، ولو أفتى به لا يجوز، والأصحّ عند الحنفيّة أنّ المجتهد في المذهب من المشايخ الّذين هم أصحاب التّرجيح لا يلزمه الأخذ بقول الإمام على الإطلاق، بل عليه النّظر في الدّليل وترجيح ما رجح عنده دليله، فإن لم يكن كذلك فعليه الأخذ بأقوال أئمّة المذهب بترتيب التزموه، وليس له أن يختار ما شاء وكذا صرّح الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة بأنّه ليس له أن يتخيّر في مسألة ذات قولين، بل عليه أن ينظر أيّهما أقرب إلى الأدلّة أو قواعد مذهبه فيعمل به، قال ابن عابدين‏:‏ صرّح بذلك ابن حجر المكّيّ من الشّافعيّة ونقل الإجماع عليه وسبقه إلى حكاية الإجماع فيه ابن الصّلاح والباجيّ من المالكيّة، وإذا كان يعلم أنّ الصّواب في قول غير إمامه وكان له اجتهاد فله أن يفتي بما ترجّح عنده‏.‏

وليس للمفتي المقلّد أن يفتي بالضّعيف والمرجوح من الأقوال على ما صرّح به الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة، بل نقل الحصكفيّ أنّ العمل بالقول المرجوح جهل وخرق للإجماع وصرّح الحنفيّة بأن ليس للمفتي المقلّد الإفتاء بالضّعيف والمرجوح حتّى في حقّ نفسه، خلافاً للمالكيّة الّذين أجازوا له العمل بالضّعيف في حقّ نفسه‏.‏

16 - وحيث قلنا‏:‏ إنّ للمقلّد الإفتاء بقول المجتهد، فيجوز له ذلك سواء كان المقلّد حيّاً أو ميّتاً، قال الشّافعيّ‏:‏ المذاهب لا تموت بموت أربابها‏.‏

وصرّح بذلك صاحب المحصول، وادّعى الإجماع عليه، لأنّ المجتهد الّذي يستنبط حكماً فهو عنده حكم دائم‏.‏

وفي وجه آخر للشّافعيّة والحنابلة‏:‏ لا يجوز ذلك لأنّه لو عاش فإنّه كان يجدّد النّظر عند النّازلة إمّا وجوباً أو استحباباً، ولعلّه لو جدّد النّظر لرجع عن قوله الأوّل‏.‏

17 - وما رجع عنه المجتهد من أقواله فلا يجوز للمقلّد الإفتاء به، لأنّه برجوعه عنه لم يعدّ قولاً له، وهذا ما لم يرجّحه أهل التّرجيح، ومن هنا ترك القديم من أقوال الشّافعيّ الّتي خالفها في الجديد، إلاّ مسائل معدودةً يعمل فيها بالقديم رجّحها أهل التّرجيح من أئمّة الشّافعيّة، قال الشّافعيّ‏:‏ ليس في حلّ من روى عنّي القديم‏.‏

18 - و - جودة القريحة‏:‏ ومعنى ذلك أن يكون كثير الإصابة، صحيح الاستنباط، فلا تصلح فتيا الغبيّ، ولا من كثر غلطه، بل يجب أن يكون بطبعه شديد الفهم لمقاصد الكلام ودلالة القرائن، صادق الحكم، وقد تقدّم في كلام الشّافعيّ‏:‏ أن تكون له قريحة، قال النّوويّ‏:‏ شرط المفتي كونه فقيه النّفس، سليم الذّهن، رصين الفكر، صحيح النّظر والاستنباط‏.‏ ا هـ‏.‏

وهذا يصحّح فتياه من جهتين‏:‏

الأولى‏:‏ صحّة أخذه للحكم من أدلّته‏.‏

والثّانية‏:‏ صحّة تطبيقه للحكم على الواقعة المسئول عنها، فلا يغفل عن أيّ من الأوصاف المؤثّرة في الحكم، ولا يعتقد تأثير ما لا أثر له‏.‏

19 - ز - الفطانة والتّيقّظ‏:‏ يشترط في المفتي أن يكون متيقّظاً، قال ابن عابدين‏:‏ شرط بعضهم تيقّظ المفتي، قال‏:‏ وهذا شرط في زماننا، فلا بدّ أن يكون المفتي متيقّظاً يعلم حيل النّاس ودسائسهم، فإنّ لبعضهم مهارةً في الحيل والتّزوير وقلب الكلام وتصوير الباطل في صورة الحقّ، فغفلة المفتي يلزم منها ضرر كبير في هذا الزّمان، وقال ابن القيّم‏:‏ ينبغي للمفتي أن يكون بصيراً بمكر النّاس وخداعهم وأحوالهم، فإن لم يكن كذلك زاغ وأزاغ، فالغرّ يروج عليه زغل المسائل كما يروج على الجاهل بالنّقد زغل الدّراهم، وذو البصيرة يخرج زيفها كما يخرج النّاقد زغل النّقود، وكم من باطل يخرجه الرّجل بحسن لفظه وتنميقه في صورة حقّ، بل هذا أغلب أحوال النّاس، فإن لم يكن المفتي فقيهاً في معرفة أحوال النّاس تصوّر له المظلوم في صورة الظّالم وعكسه، وممّا يتعلّق بهذا ما نبّه إليه بعض العلماء من أنّه يشترط في المفتي أن يكون على علم بالأعراف اللّفظيّة للمستفتي، لئلاّ يفهم كلامه على غير وجهه، وهذا إن كان إفتاؤه في ما يتعلّق بالألفاظ كالأيمان والإقرار ونحوها‏.‏

20 - والقرابة والصّداقة والعداوة لا تؤثّر في صحّة الفتوى كما تؤثّر في القضاء والشّهادة، فيجوز أن يفتي أباه أو ابنه أو صديقه أو شريكه أو يفتي على عدوّه، فالفتوى في هذا بمنزلة الرّواية، لأنّ المفتي في حكم المخبر عن الشّرع بأمر عامّ لا اختصاص له بشخص، ولأنّ الفتوى لا يرتبط بها إلزام، بخلاف حكم القاضي‏.‏

ويجوز أن يفتي نفسه، قال ابن القيّم‏:‏ لكن لا يجوز أن يحابي نفسه أو قريبه في الفتيا، بأن يرخّص لنفسه أو قريبه، ويشدّد على غيره فإن فعل قدح ذلك في عدالته، ونقل أبو عمرو بن الصّلاح عن صاحب الحاوي أنّ المفتي إذا نابذ في فتياه شخصاً معيّناً صار خصماً، فتردّ فتواه على من عاداه، كما تردّ شهادته عليه إذا وقعت‏.‏

وقد نبّه أحمد إلى خصال مكمّلة للمفتي حيث قال‏:‏ لا ينبغي للرّجل أن ينصب نفسه للفتيا حتّى يكون فيه خمس خصال‏:‏ أن تكون له نيّة، فإن لم يكن له نيّة لم يكن عليه نور ولا على كلامه نور، وأن يكون له علم وحلم ووقار وسكينة، وأن يكون قويّاً على ما هو فيه وعلى معرفته، والكفاية وإلاّ مضغه النّاس، ومعرفة النّاس‏.‏

إفتاء القاضي

21 - لا خلاف في أنّ للقاضي أن يفتي في العبادات ونحوها ممّا لا مدخل فيه للقضاء كالذّبائح والأضاحيّ‏.‏

واختلف الفقهاء في إفتائه في الأمور الّتي يدخلها القضاء‏:‏

فذهب الشّافعيّة في وجه وصحّحه النّوويّ، والحنابلة في قول وصحّحه ابن القيّم إلى أنّه يفتي فيها أيضاً بلا كراهة‏.‏

وذهب آخرون من الفريقين إلى أنّه لا يجوز، لأنّه موضع تهمة، ووجهه أنّه إن أفتى فيها تكون فتياه كالحكم على الخصم، ولا يمكن نقضه وقت المحاكمة، ولأنّه قد يتغيّر اجتهاده وقت الحكم، أو تظهر له قرائن لم تظهر له عند الإفتاء، فإن حكم بخلاف ما أفتى به جعل للمحكوم عليه سبيلاً للتّشنيع عليه، وقد قال شريح‏:‏ أنا أقضي لكم ولا أفتي، وقال ابن المنذر‏:‏ يكره للقاضي الإفتاء في مسائل الأحكام الشّرعيّة‏.‏

وذهب الحنفيّة في الصّحيح عندهم إلى أنّ للقاضي أن يفتي في مجلس القضاء وغيره في العبادات والأحكام وغيرها، ما لم يكن للمستفتي خصومة، فإن كان له خصومة فليس للقاضي أن يفتيه فيها‏.‏

ومذهب المالكيّة أنّه يكره للقاضي أن يفتي في ما شأنه أن يخاصم فيه، كالبيع والشّفعة والجنايات‏.‏

قال البرزليّ‏:‏ وهذا إذا كان فيما يمكن أن يعرض بين يديه، فلو جاءه السّؤال من خارج البلد الّذي يقضي فيه فلا كراهة‏.‏

ثمّ إن أفتى القاضي لم يكن ذلك حكماً، ويجوز التّرافع إلى غيره، فلو حكم هو أو غيره في النّازلة بعينها بخلافه لم يكن نقضاً لحكمه، وإن ردّ شهادة واحد برؤية هلال رمضان لم يؤثّر ذلك في الحكم بعدالته، ولا يقال‏:‏ إنّه حكم بكذبه أو بأنّه لم ير الهلال، لأنّ القضاء لا يدخل العبادات‏.‏

كما تقدّم ‏(‏ف 2، 9‏)‏‏.‏

ما تستند إليه الفتوى

22 - المجتهد يفتي بمقتضى الأدلّة المعتبرة بالتّرتيب المعتبر، فيفتي أوّلاً بما في كتاب اللّه تعالى، ثمّ بما في سنّة رسوله صلى الله عليه وسلم ثمّ بالإجماع، وأمّا الأدلّة المختلف فيها كالاستحسان وشرع من قبلنا، فإن أدّاه اجتهاده إلى صحّة شيء منها أفتى به، وإذا تعارضت عنده الأدلّة فعليه أن يفتي بالرّاجح منها‏.‏

وليس له أن يفتي في السّعة بمذهب أحد المجتهدين، ما لم يؤدّه اجتهاده إلى أنّه هو الحقّ، وليس له أن يفتي بما هو المرجوح في نظره، نقل الإجماع على ذلك ابن قدامة والباجيّ، وأمّا المقلّد - حيث قلنا‏:‏ يجوز إفتاؤه - فإنّه يفتي بما تيسّر له من أقوال المجتهدين، ولا يلزمه أن يسأل عن أعلمهم وأفضلهم ليأخذ بقوله، لما في ذلك من الحرج، ولأنّ الصّحابة رضي الله عنهم كان السّائل منهم يسأل من تيسّر له سؤاله من المفتين من الصّحابة، وقيل‏:‏ عليه أن يبحث عن الأفضل ليأخذ بقوله‏.‏

أمّا ما اختلف عليه اجتهاد اثنين فأكثر، فإنّه يجب عليه التّرجيح بينهما بوجه من وجوه التّرجيح، وليس هو بالخيار يأخذ ما شاء ويترك ما شاء، قال النّوويّ‏:‏ ليس للمفتي والعامل في مسألة القولين أن يعمل بما شاء منهما بغير نظر، بل عليه العمل بأرجحهما، وإن بنى المفتي فتياه على حديث نبويّ فعليه أن يكون عالماً بصحّته‏:‏ إمّا بتصحيحه هو إن كان أهلاً لذلك، أو يعرف عن أحد من أهل الشّأن الحكم بصحّته‏.‏

وإن كان بنى فتياه على قول مجتهد - حيث يجوز ذلك - فإن لم يأخذه منه مشافهةً وجب أن يتوثّق، قال ابن عابدين‏:‏ طريقة نقله لذلك إمّا أن يكون له سند إلى المجتهد، أو يأخذه عن كتاب معروف تناقلته الأيدي، نحو كتب محمّد بن الحسن ونحوها من التّصانيف المشهورة، لأنّه بمنزلة الخبر المتواتر المشهور، وكذا لو وجد العلماء ينقلون عن الكتاب، ورأى ما نقلوه عنه موجوداً فيه ونحو ذلك ممّا يغلب على الظّنّ، كما لو رأى على الكتاب خطّ بعض العلماء‏.‏

وليحذر من الاعتماد على كتب المتأخّرين غير المحرّرة‏.‏

الإفتاء بالرّأي

23 - الرّأي هو‏:‏ ما يراه القلب بعد فكر وتأمّل وطلب لمعرفة وجه الصّواب، ممّا تتعارض فيه الأمارات، ولا يقال لما لا تختلف فيه الأمارات‏:‏ إنّه رأي والرّأي يشمل القياس والاستحسان وغيرهما‏.‏

ولا يجوز الإفتاء بالرّأي المخالف للنّصّ أو الإجماع، ولا يجوز المصير إلى الرّأي قبل العمل على تحصيل النّصوص الواردة في المسألة، أو القول بالرّأي غير المستند إلى الكتاب والسّنّة، بل بمجرّد الخرص والتّخمين‏.‏

وقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه‏:‏ «كيف تقضي ‏؟‏ قال‏:‏ أقضي بما في كتاب اللّه، قال‏:‏ فإن لم يكن في كتاب اللّه ‏؟‏ قال‏:‏ فبسنّة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ فإن لم يكن في سنّة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ‏؟‏ قال‏:‏ أجتهد رأيي، فقال‏:‏ الحمد للّه الّذي وفّق رسول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم»‏.‏

وعن عمر رضي الله عنه أنّه قال لشريح‏:‏ ما استبان لك من كتاب اللّه فلا تسأل عنه، فإن لم يستبن لك في كتاب اللّه فمن السّنّة، فإن لم تجده في السّنّة فاجتهد رأيك‏.‏