فصل: قبول الجزية من الصّابئة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


قبول الجزية من الصّابئة

30 - ذهب أبو حنيفة إلى أنّ الصّابئة من أهل الكتاب لأنّهم يقرءون الزّبور، ولا يعبدون الكواكب، ولكن يعظّمونها كتعظيم المسلمين الكعبة في استقبالها‏.‏

واستدلّ لذلك بقول أبي العالية، والرّبيع بن أنس، والسّدّيّ، وأبي الشّعثاء، وجابر بن زيد والضّحّاك‏.‏ فتؤخذ منهم الجزية كما تؤخذ من أهل الكتاب‏.‏

وذهب الصّاحبان من الحنفيّة إلى أنّهم ليسوا أهل كتاب، لأنّهم يعبدون الكواكب، وعابد الكواكب كعابد الوثن، فتؤخذ منهم الجزية إذا كانوا من العجم‏.‏

وذهب المالكيّة إلى أنّهم موحّدون معتقدون تأثير النّجوم، وأنّها فعّالة، فليسوا أهل كتاب، وتؤخذ منهم الجزية، لأنّها تقبل من غير أهل الكتاب عند مالك‏.‏

وذهب الشّافعيّ إلى أنّه ينظر فيهم، فإن كانوا يوافقون أحد أهل الكتابين في تديّنهم وكتابهم فهم منهم، وإن خالفوهم في ذلك فليسوا منهم، فتؤخذ منهم الجزية إذا أقرّ النّصارى بأنّهم منهم ولم يكفّروهم، فإنّ كفّروهم لم تؤخذ منهم الجزية‏.‏

وذهب أحمد في رواية إلى أنّهم من النّصارى، لأنّهم يدينون بالإنجيل‏.‏

واستدلّ لذلك بما روي عن ابن عبّاس‏.‏ فتؤخذ منهم الجزية كالنّصارى‏.‏

وذهب في رواية ثانية إلى أنّهم من اليهود لأنّهم يسبتون، واستدلّ لذلك بما روي عن عمر أنّه قال‏:‏ هم يسبتون‏.‏ فتؤخذ منهم الجزية كما تؤخذ من اليهود‏.‏والتّفصيل في‏:‏ ‏(‏صابئة‏)‏‏.‏

أخذ الجزية من المشركين

31 - اختلف الفقهاء في قبول الجزية من المشركين‏:‏

فذهب جمهور الفقهاء من الشّافعيّة، والحنابلة في أظهر الرّوايتين عن أحمد وابن الماجشون من المالكيّة إلى أنّ الجزية لا تقبل من المشركين مطلقاً، أي سواء أكانوا من العرب أو من العجم، ولا يقبل منهم إلاّ الإسلام، فإن لم يسلموا قتلوا‏.‏ واستدلّوا لذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَاتِلُوا الَّذينَ لا يُؤمنونَ باللَّهِ‏}‏‏.‏ ‏{‏من الَّذينَ أُوتوا الكِتابَ حتَّى يُعطُوا الجِزْيةَ عَنْ يَدٍ وهم صَاغِرُون‏}‏‏.‏ فالآية تقضي بجواز أخذ الجزية من أهل الكتاب خاصّة، ولا دلالة للّفظ في حقّ غيرهم من المشركين‏.‏ وروى البخاريّ - بسنده - إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا لا إله إلاّ اللّه فمن قال لا إله إلاّ اللّه فقد عصم منّي نفسه وماله إلاّ بحقّه وحسابه على اللّه»‏.‏ فالحديث عامّ يقتضي عدم قبول الجزية من جميع الكفّار، ولم يخصّص من هذا العموم إلاّ أهل الكتاب والمجوس فمن عداهم من الكفّار يبقى على قضيّة العموم، فلا تقبل الجزية من عبدة الأوثان سواء أكانوا عرباً أم عجماً ولأنّ المشركين من عبدة الأوثان لم يكن عندهم مقدّمة ‏(‏سابقة‏)‏ من التّوحيد والنّبوّة وشريعة الإسلام، فلا حرمة لمعتقدهم‏.‏

وذهب الحنفيّة ومالك في رواية حكاها عنه ابن القاسم، وأخذ بها هو وأشهب وسحنون وكذا أحمد بن حنبل في رواية حكاها عنه الحسن بن ثواب، ذهبوا إلى أنّ الجزية تقبل من المشركين إلاّ مشركي العرب‏.‏ واستدلّوا لذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَاقتُلُوا المُشركينَ حيثُ وجدتموهم‏}‏‏.‏ فهو خاصّ بمشركي العرب، لأنّه مرتّب على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا انْسَلَخَ الأشْهرُ الحُرمُ فَاقتلُوا المشْرِكينَ‏}‏‏.‏ وهي الأشهر الأربعة الّتي كان العرب يحرّمون القتال فيها‏.‏ ولأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يأخذ الجزية من مشركي العرب‏.‏

روى عبد الرّزّاق من حديث الزّهريّ «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم صالح عبدة الأوثان على الجزية إلاّ من كان منهم من العرب»‏.‏

وقال ابن جرير الطّبريّ‏:‏ ‏"‏ أجمعوا على أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أبى أخذ الجزية من عبدة الأوثان من العرب، ولم يقبل منهم إلاّ الإسلام أو السّيف ‏"‏‏.‏

واستدلّوا من المعقول‏:‏ بأنّ كفرهم قد تغلّظ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نشأ بين أظهرهم، والقرآن نزل بلغتهم، فالمعجزة في حقّهم أظهر، لأنّهم كانوا أعرف بمعانيه ووجوه الفصاحة فيه‏.‏ وكلّ من تغلّظ كفره لا يقبل منه إلاّ الإسلام، أو السّيف لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ من الأعْرَابِ سَتُدعَونَ إلى قَومٍ أُولي بَأسٍ شَديدٍ تُقَاتِلُونَهمْ أو يُسْلِمُونَ‏}‏ أي تقاتلونهم إلى أن يسلموا‏.‏ وذهب مالك في قول وهو الرّاجح عند المالكيّة، والأوزاعيّ إلى أنّ الجزية تقبل من جميع الكفّار، ومنهم المشركون وعبدة الأوثان، سواء أكانوا من العرب، أم من العجم، وسواء أكانوا قرشيّين أم غير قرشيّين‏.‏

واستدلّوا لذلك بحديث بريدة قال‏:‏ «كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا أمّر أميراً على جيش أو سريّة، أوصاه في خاصّة نفسه بتقوى اللّه‏.‏‏.‏‏.‏ وقال‏:‏ اغزوا باسم اللّه‏.‏ وإذا لقيت عدوّك من المشركين، فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال‏.‏ فأيّتهنّ ما أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم» وذكر من هذه الخصال الجزية‏.‏ فقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «عدوّك من المشركين» إمّا أن يكون خاصّاً بعبدة الأوثان ونحوهم من غير أهل الكتاب، وإمّا أن يكون عامّا في جميع الكفّار من أهل الكتاب وعبدة الأوثان‏.‏ وعلى كلّ منهما يحصل المقصود وهو قبول الجزية من عبدة الأوثان، لأنّه لو اختصّ بغير أهل الكتاب من عبدة الأوثان‏.‏

فالحديث يفيد قبول الجزية من عبدة الأوثان، وإذا كان عامّا فيستفاد منه أيضا قبول الجزية من عبدة الأوثان وأهل الكتاب‏.‏ واستدلّوا لقبول الجزية من عبدة الأوثان بالقياس على أهل الكتاب والمجوس‏.‏ ونقل عن مالك أنّ الجزية تقبل من جميع الكفّار إلاّ مشركي قريش‏.‏

وقد أخذ بهذا النّقل كلّ من ابن رشد صاحب المقدّمات، وابن الجهم من المالكيّة‏.‏

وقد اختلف المالكيّة في تعليل عدم أخذ الجزية من مشركي قريش‏:‏ فعلّله ابن الجهم بأنّ ذلك إكرام لهم، لمكانهم من النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏.‏

وعلّله القرويّون بأنّ قريشاً أسلموا كلّهم قبل تشريع الجزية، فلم يبق منهم أحد على الشّرك، فمن وجد منهم بعد ذلك على الشّرك فهو مرتدّ، فلا تؤخذ منه الجزية‏.‏

أخذ الجزية من المرتدّين

32 - اتّفق الفقهاء على أنّه لا تقبل الجزية من المرتدّ عن الإسلام‏.‏

الأماكن الّتي يقرّ الكافرون فيها بالجزية

33 - اتّفق الفقهاء على جواز إقرار أهل الكتاب والمجوس بالجزية في أيّ مكان من دار الإسلام ما عدا جزيرة العرب‏:‏ وهي من أقصى عدن أبين جنوبا إلى أطراف الشّام شمالا، ومن جدّة وما والاها من ساحل البحر غربا إلى ريف العراق شرقاً‏.‏

كما اتّفقوا على عدم جواز إقرارهم في بلاد الحجاز وهي‏:‏ مكّة والمدينة واليمامة ومخاليفها‏.‏

واختلفوا في إقرارهم بالجزية فيما عدا بلاد الحجاز من جزيرة العرب كاليمن وغيرها‏.‏ فذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى عدم جواز إقرارهم بالجزية فيما عدا بلاد الحجاز من جزيرة العرب، لأنّهم ممنوعون من السّكنى في جزيرة العرب كلّها‏.‏

واستدلّوا لذلك بحديث ابن عبّاس رضي الله عنهما قال‏:‏ «أوصى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عند موته بثلاث‏:‏ أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم» ونسيت الثّالثة‏.‏ وقال يعقوب بن محمّد سألت المغيرة بن عبد الرّحمن عن جزيرة العرب، فقال‏:‏ مكّة والمدينة واليمامة واليمن، وقال يعقوب‏:‏ والعرج أوّل تهامة‏.‏

فقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب» يدلّ على وجوب إخراج المشركين من جزيرة العرب كلّها‏.‏ وهو عامّ في كلّ مشرك سواء أكان وثنيّاً، أم يهوديّاً، أم نصرانيّاً، أم مجوسيّاً‏.‏

واستدلّوا كذلك أنّ عمر بن عبد العزيز قال‏:‏ «كان من آخر ما تكلّم به رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن قال‏:‏ قاتل اللّه اليهود والنّصارى اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد، لا يبقينّ دينان بأرض العرب» وفي رواية عن ابن شهاب أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

«لا يجتمع دينان في جزيرة العرب» قال ابن شهاب‏:‏ ففحص عن ذلك عمر بن الخطّاب حتّى أتاه الثّلج واليقين أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لا يجتمع دينان في جزيرة العرب» فأجلى يهود خيبر‏.‏ وبقول عائشة رضي الله عنها‏:‏ «كان آخر ما عهد به رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ألاّ ينزل بجزيرة العرب دينان»‏.‏

وبحديث عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أنّه سمع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏

«لأخرجنّ اليهود والنّصارى من جزيرة العرب، حتّى لا أدع إلاّ مسلماً»‏.‏

وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى إقرار من تقبل منهم الجزية على السّكنى في بلاد الإسلام فيما عدا الحجاز من جزيرة العرب، فتجوز لهم سكنى اليمن وغيرها من جزيرة العرب ممّا لا يدخل في بلاد الحجاز‏.‏ واستدلّوا لذلك بقول أبي عبيدة‏:‏ «كان آخر ما تكلّم به رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ أخرجوا يهود أهل الحجاز، وأهل نجران من جزيرة العرب، واعلموا أنّ شرار النّاس الّذين اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد»‏.‏

قالوا‏:‏ فقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أخرجوا يهود أهل الحجاز» يدلّ على أنّه لا يجوز لمن تقبل منه الجزية سكنى الحجاز والإقامة فيه، كما لا يجوز للإمام أن يصالحهم على الإقامة فيه بجزية، وإن فعل ذلك كان الصّلح فاسداً‏.‏ والمراد بالحجاز - كما سبق - مكّة والمدينة واليمامة ومخاليفها‏.‏ وأمّا قوله صلى الله عليه وسلم «أخرجوا أهل نجران من جزيرة العرب»‏.‏ فيحمل على أنّ بلادهم - وهي اليمن - من جزيرة العرب، فأمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم بإخراجهم منها، لأنّهم نقضوا العهد الّذي أخذه صلى الله عليه وسلم عليهم، وكان قد صالحهم على ألا يحدثوا حدثاً، ولا يأكلوا الرّبا، فأكلوا الرّبا، ونقضوا العهد، فأمر بإخراجهم من جزيرة العرب لهذا السّبب، لا لكون جزيرة العرب لا تصلح لسكنى أهل الذّمّة‏.‏ وروى البيهقيّ في سننه عن ابن عمر «أنّ عمر رضي الله عنه أجلى اليهود والنّصارى من أرض الحجاز»‏.‏ ولأنّه لم ينقل عن أحد من الخلفاء أنّه أجلى من كان باليمن من أهل الذّمّة، فقد أجلاهم عمر من الحجاز وأقرّهم باليمن‏.‏

شروط من تفرض عليهم الجزية

34 - اشترط الفقهاء لفرض الجزية على أهل الذّمّة عدّة شروط منها‏:‏

البلوغ، والعقل، والذّكورة، والحرّيّة، والمقدرة الماليّة، والسّلامة من العاهات المزمنة‏.‏

وفيما يلي تفصيل القول في هذه الشّروط‏.‏

أوّلاً‏:‏ البلوغ‏:‏

35 - اتّفق الفقهاء على أنّ الجزية لا تضرب على صبيان أهل الذّمّة‏.‏

قال ابن قدامة‏:‏ لا نعلم بين أهل العلم خلافا في هذا، وبه قال أبو حنيفة ومالك والشّافعيّ وأحمد وأبو ثور، وقال ابن المنذر، لا أعلم عن غيرهم خلافهم واستدلّوا لهذا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَاتِلُوا الَّذينَ لا يُؤمنونَ باللَّهِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ آية الجزية‏.‏

فالمقاتلة مفاعلة من القتال تستدعي أهليّة القتال من الجانبين، فلا تجب على من ليس أهلا للقتال، والصّبيان ليسوا من أهل القتال فلا تجب الجزية عليهم وبحديث معاذ السّابق‏.‏

حيث أمره النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يأخذ من كلّ حالم ديناراً، أو عدله من المعافر‏.‏ والحالم‏:‏ من بلغ الحلم بالاحتلام، أو غيره من علامات البلوغ، فمفهوم الحديث يدلّ على أنّ الجزية لا تجب على الصّبيان‏.‏

وقد كتب عمر رضي الله عنه إلى أمراء الأجناد أن يضربوا الجزية ولا يضربوها على النّساء والصّبيان، ولا يضربوها إلاّ على من جرت عليه الموسى‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ في معنى ‏"‏ من جرت عليه الموسى ‏"‏‏:‏ يعني من أنبت، وقال في وجه الاستدلال به‏:‏ هذا الحديث هو الأصل فيمن تجب عليه الجزية، ومن لا تجب عليه، ألا ترى أنّه إنّما جعلها على الذّكور المدركين دون الإناث والأطفال، وذلك أنّ الحكم كان عليهم القتل لو لم يؤدّوها، وأسقطها عمّن لا يستحقّ القتل وهم الذّرّيّة‏.‏

وقد مضت السّنّة على أن لا جزية على الصّبيان، وعمل بذلك المسلمون‏.‏

فقد صالح خالد بن الوليد أهل بصرى على أن يؤدّوا عن كلّ حالم دينارا وجريب حنطة، وصالح أبو عبيدة أهل أنطاكيّة على الجزية أو الجلاء، فجلا بعضهم وأقام بعضهم، فأمّنهم ووضع على كلّ حالم منهم ديناراً وجريباً‏.‏

ووضع عمرو بن العاص على أهل مصر دينارين دينارين وأخرج النّساء والصّبيان ولأنّ الجزية تؤخذ لحقن الدّم، والصّبيان دماؤهم محقونة بدونها‏.‏

36 - وإذا بلغ الصّبيّ من أهل الذّمّة، فهل يحتاج إلى استئناف عقد أم يكفي عقد أبيه ‏؟‏

ذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة والشّافعيّة في وجه إلى أنّه يكفي عقد أبيه، لأنّ العقد الأوّل يتناول البالغين ومن سيبلغ من أولادهم أبداً، وعلى هذا استمرّت سنّة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وسنّة خلفائه في جميع الأعصار، ولم يفردوا كلّ من بلغ بعقد جديد‏.‏

وذهب الشّافعيّة في الوجه الصّحيح عندهم إلى أنّ الصّبيّ إذا بلغ يخيّر بين التزام العقد وبين أن يردّ إلى مأمنه، فإن اختار الذّمّة عقدت له، وإن اختار اللّحاق لمأمنه أجيب إليه‏.‏

وإذا كان البلوغ في أوّل حول قومه وأهله أخذت منه الجزية في آخره معهم، وإذا كانت في أثنائه أخذ منه في آخره بقسطه‏.‏

ثانياً‏:‏ العقل‏:‏

37 - نقل ابن هبيرة وابن قدامة وابن المنذر اتّفاق الفقهاء على أنّ الجزية لا تؤخذ من مجانين أهل الذّمّة‏.‏

وقال القرطبيّ‏:‏ هذا إجماع، لكنّ ابن رشد ذكر خلافاً في المجنون، وذكره النّوويّ نقلاً عن البيان وجهاً ضعيفاً للشّافعيّة لأنّه كالمريض والهرم‏.‏ قال النّوويّ‏:‏ وليس بشيء‏.‏

ثالثاً‏:‏ الذّكورة‏:‏

38 - جمهور الفقهاء على أنّ الجزية لا تضرب على نساء أهل الذّمّة‏.‏ لما سبق من الأدلّة‏.‏

رابعاً‏:‏ الحرّيّة‏:‏

39 - جمهور الفقهاء على أنّ الجزية لا تؤخذ من عبيد أهل الذّمّة، وسواء كان العبد مملوكا لمسلم أو كافر‏.‏ وقد نقل هذا الاتّفاق ابن المنذر،وابن هبيرة وابن قدامة وابن رشد‏.‏ لأنّ الجزية شرعت بدلا عن القتل في حقّهم، وعن النّصرة في حقّنا، والعبد محقون الدّم بدون دفع الجزية‏.‏ والعبد أيضاً لا تلزمه النّصرة، لأنّه عاجز عنها، فإذا امتنع الأصل في حقّه امتنع البدل، فلا تجب عليه الجزية‏.‏

وذهب أحمد في رواية عنه إلى أنّ العبد إذا كان مملوكاً لسيّد كافر تؤخذ الجزية من سيّده الكافر، واستدلّ لذلك بما روي عن عمر رضي الله عنه أنّه قال‏:‏ «لا تشتروا رقيق أهل الذّمّة، ولا ممّا في أيديهم، لأنّهم أهل خراج يبيع بعضهم بعضاً، ولا يقرّنّ أحدكم بالصّغار بعد أن أنقذه اللّه منه»‏.‏ قال أحمد‏:‏ أراد أن يوفّر الجزية، لأنّ المسلم إذا اشتراه سقط عنه أداء ما يؤخذ منه، والذّمّيّ يؤدّي عنه وعن مملوكه خراج جماجمهم‏.‏

ولأنّ العبد ذكر مكلّف قويّ مكتسب، فوجبت عليه الجزية كالحرّ‏.‏

خامساً‏:‏ المقدرة الماليّة‏:‏

40 - اشترط بعض الفقهاء لوجوب الجزية على أهل الذّمّة المقدرة الماليّة، فلا تجب على الفقير العاجز عن العمل‏.‏

وقد اتّفق الفقهاء على أنّ الجزية توضع على الفقير المعتمل‏:‏ وهو القادر على العمل‏.‏ واختلفوا في الفقير غير المعتمل‏.‏

فذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة والشّافعيّ في قول غير مشهور له إلى أنّ الجزية لا توضع على الفقير غير المعتمل، واستدلّوا لذلك بقولة تعالى‏:‏ ‏{‏لا يُكلِّفُ اللَّهُ نَفْسَاً إلاّ وسْعَهَا‏}‏ وجه الاستدلال من الآية أنّ الفقير العاجز عن الكسب ليس في وسعه أن يدفع الجزية، ومتى كان الأمر كذلك فلا يكلّف بها‏.‏

وقد وضع عمر بن الخطّاب الجزية على رؤوس الرّجال على الغنيّ ثمانية وأربعين درهماً، وعلى المتوسّط أربعة وعشرين درهماً، وعلى الفقير المكتسب اثني عشر درهماً‏.‏

فقد فرضها عمر رضي الله عنه على طبقات ثلاث أدناها الفقير المعتمل، فدلّ بمفهومه على أنّ الجزية لا تجب على الفقير غير المعتمل‏.‏

وقد كان ذلك بمحضر الصّحابة رضوان الله عليهم، ولم ينكر عليه أحد، فهو إجماع‏.‏

وقالوا‏:‏ إنّ الجزية مال يجب بحلول الحول، فلا يلزم الفقير العاجز عن الكسب كالزّكاة والدّية‏.‏ وأنّ العاجز عن الأداء معذور شرعاً فيما هو حقّ العباد، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإنْ كانَ ذو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيسَرةٍ‏}‏ ففي الجزية أولى‏.‏

وذهب الشّافعيّة وأبو ثور إلى أنّ الجزية توضع على الفقير غير المعتمل، كما توضع على الفقير المعتمل، إلاّ أنّ غير المعتمل تكون دينا في ذمّته حتّى يوسر، فإذا أيسر طولب بما عليه من جزية‏.‏ واستدلّوا بعموم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتَّى يُعْطُوا الجِزيةَ عَنْ يَدٍ وهم صَاغِرُون‏}‏ وعموم حديث معاذ السّابق‏:‏ «أمره أن يأخذ من كلّ حالم ديناراً»‏.‏

ولأنّ الجزية بدل عن القتل، والسّكنى في دار الإسلام، فلم يفارق المعذور فيها غيره، فتؤخذ من الفقير كما تؤخذ من الغنيّ‏.‏

سادساً‏:‏ ألا يكون من الرّهبان المنقطعين للعبادة في الصّوامع‏:‏

41 - اتّفق الفقهاء على أنّ الرّهبان المخالطين للنّاس، والمشاركين لهم في الرّأي والمشورة والمكايد الحربيّة والفكريّة تؤخذ منهم الجزية، وهم أولى بها من عوامّهم، فإنّهم رءوس الكفر، وهم بمنزلة علمائهم‏.‏

واختلفوا في أخذ الجزية من الرّهبان الّذين انقطعوا للعبادة في الصّوامع، ولم يخالطوا النّاس في معايشهم ومساكنهم‏.‏

فذهب أبو حنيفة في رواية القدوريّ، ومالك، وأحمد في رواية، والشّافعيّ في أحد قوليه إلى أنّ الجزية لا تفرض عليهم‏.‏ وسواء كانوا قادرين على العمل أم غير قادرين، لأنّ الرّهبان لا يقتلون ولا يتعرّض لهم، لما جاء في وصيّة أبي بكر الصّدّيق ليزيد بن أبي سفيان حين وجّهه إلى الشّام‏:‏ ‏"‏ لا تقتل صبيّاً ولا امرأة وستمرّون على أقوام في الصّوامع احتبسوا أنفسهم فيها، فدعهم حتّى يميتهم اللّه على ضلالتهم، وستجدون أقواماً فحصوا عن أوساط رؤوسهم فاضرب ما فحصوا عنه بالسّيف ‏"‏‏.‏ فإذا كان الرّاهب لا يقتل فهو محقون الدّم بدون عقد الذّمّة، والجزية إنّما وجبت لحقن الدّم، فلم تجب عليه، كما لا تجب على الصّبيّ والمرأة، ولأنّ الرّاهب من جملة الفقراء، لأنّه إنّما ترك له من المال اليسير‏.‏ وذهب أبو حنيفة في رواية نقلها عنه محمّد بن الحسن، وهو قول أبي يوسف وأحمد في رواية إلى أنّ الجزية توضع على الرّهبان إذا كانوا قادرين على العمل‏.‏

قال أبو يوسف‏:‏ ‏"‏ المترهّبون الّذين في الدّيارات إذا كان لهم يسار أخذ منهم، وإن كانوا إنّما هم مساكين يتصدّق عليهم أهل اليسار منهم لم يؤخذ منهم، وكذلك أهل الصّوامع إن كان لهم غنى ويسار، وإن كانوا قد صيّروا ما كان لهم لمن ينفقه على الدّيارات ومن فيها من المترهّبين والقوّام أخذت الجزية منهم ‏"‏‏.‏

وقد استدلّ من قيّد أخذ الجزية من الرّهبان بالقدرة على العمل بأمرين‏:‏

الأوّل - أنّ المعتمل إذا ترك العمل تؤخذ منه الجزية، فكذلك الرّاهب القادر على العمل‏.‏ والثّاني‏:‏ أنّ الأرض الخراجيّة الصّالحة للزّراعة لا يسقط عنها الخراج بتعطيل المالك لها عن الزّراعة، فكذلك الرّاهب القادر على العمل لا تسقط عنه الجزية إذا ترك العمل‏.‏

هذا بالإضافة إلى الأدلّة الّتي استدلّ بها أصحاب المذهب الأوّل على عدم أخذ الجزية من الرّاهب، فقد استدلّ بها أصحاب هذا المذهب، وحملوها على الرّاهب غير المعتمل الّذي يعيش على صدقات الموسرين‏.‏

وذهب الشّافعيّ في القول المعمول به عند الشّافعيّة وأبو ثور إلى أنّ الجزية تجب على الرّهبان الّذين ينقطعون للعبادة في الأديرة والصّوامع، سواء أكانوا موسرين أو غير موسرين، قادرين على العمل أم غير قادرين‏.‏

واستدلّوا لذلك بعموم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتَّى يُعْطُوا الجِزْيةَ عَنْ يَدٍ وهم صَاغِرُون‏}‏ فهو يشمل الرّهبان القادرين على العمل وغير القادرين، الموسرين وغير الموسرين‏.‏ وبعموم الأحاديث القاضية بأخذ الجزية من كلّ بالغ كحديث معاذ السّابق‏:‏ «أمره أن يأخذ من كلّ حالم ديناراً»‏.‏ وحديث عمر السّابق‏:‏ «ولا يضربوها إلاّ على من جرت عليه الموسى»، وبما روى أبو عبيد وغيره عن عمر بن عبد العزيز‏:‏ ‏"‏ أنّه فرض على رهبان الدّيارات على كلّ راهب دينارين ‏"‏‏.‏ وأمّا المعقول فمن وجهين‏:‏

الأوّل‏:‏ أنّ الجزية عوض عن حقن الدّم، والرّاهب غير محقون الدّم، فتجب عليه الجزية لحقن الدّم‏.‏

والثّاني‏:‏ أنّ الجزية عوض عن سكنى دار الإسلام، والرّاهب كغيره في الانتفاع بالدّار، فلا تسقط عنه الجزية‏.‏

سابعاً‏:‏ السّلامة من العاهات المزمنة‏:‏

42 - إذا أصيب المطالب بالجزية بعاهة مزمنة، كالمرض، أو العمى، أو الكبر المقعد عن العمل والقتال، فهل تؤخذ منه الجزية أم لا ‏؟‏ اختلف الفقهاء في ذلك‏:‏ فظاهر الرّواية عند الحنفيّة ومذهب أحمد، والشّافعيّ في أحد قوليه‏:‏ أنّ الجزية لا تؤخذ من هؤلاء ولو كانوا موسرين‏.‏ واستدلّوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَاتِلُوا الَّذينَ لا يُؤمنونَ باللَّهِ ولا باليومِ الآخِرِ‏}‏‏.‏ ففحوى الآية يدلّ على أنّ الجزية تؤخذ ممّن كان منهم من أهل القتال، لاستحالة الخطاب بالأمر بقتال من ليس من أهل القتال، إذ القتال لا يكون إلاّ بين اثنين ومن يمكنه أداؤه من المحترفين، ولذلك لا تؤخذ الجزية ممّن لم يكن من أهل القتال‏:‏ كالأعمى والزّمن والمفلوج والشّيخ الكبير الفاني‏:‏ سواء أكان موسرا أم غير موسر، ولأنّ الجزية تؤخذ ممّن أبيح قتله من الحربيّين، وهؤلاء لا يقتلون‏.‏

وذهب المالكيّة وأبو يوسف من الحنفيّة إلى أنّ الجزية تؤخذ من الزّمنى والعميان والشّيوخ الكبار إذا كان لهم مال‏.‏

واستدلّوا لذلك بأنّ هؤلاء المصابين بالعاهات المزمنة أهل للقتال، إذ إنّهم يقتلون إذا كانوا ذوي رأي في الحرب والقتال، فتجب عليهم الجزية، كما تجب على غيرهم‏.‏

ولأنّ الجزية تجب على الفقير المعتمل، ووجود المال عند هؤلاء المصابين أكثر من القدرة على العمل، فتجب عليهم الجزية إذا كانوا موسرين، ولا تجب عليهم إذا كانوا معسرين‏.‏

ويدلّ على ذلك ما في كتاب الصّلح بين خالد بن الوليد رضي الله عنه وأهل الحيرة‏:‏ ‏"‏ وجعلت لهم أيّما شيخ ضعف عن العمل، أو أصابته آفة من الآفات، أو كان غنيّا فافتقر وصار أهل دينه يتصدّقون عليه طرحت جزيته، وعيل من بيت مال المسلمين وعياله ما أقام بدار الهجرة ودار الإسلام، فإن خرجوا إلى غير دار الهجرة ودار الإسلام فليس على المسلمين النّفقة على عيالهم ‏"‏‏.‏

ومذهب أبي ثور أنّ الجزية تؤخذ من المصابين بالعاهات المزمنة، ولو لم يكونوا موسرين‏.‏ واستدلّوا لذلك بعموم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وهم صَاغِرُونَ‏}‏ فهو يشمل الزّمنى والعميان والشّيوخ الكبار‏.‏ وبعموم الأحاديث القاضية بأخذ الجزية من كلّ حالم، كحديث معاذ السّابق‏.‏ الّذي أمره فيه أن يأخذ من كلّ حالم ديناراً، وحديث عمر بن الخطّاب السّابق‏:‏ «ولا يضربوها إلاّ على من جرت عليه الموسى»، واستدلّوا من المعقول بأنّ الجزية عوض عن حقن الدّم، وهؤلاء كغيرهم في الانتفاع بحقن الدّم، فلا تسقط عنهم الجزية بتلك الإصابات، وأنّ الجزية عوض عن سكنى دار الإسلام، وهؤلاء كغيرهم في الانتفاع بالدّار، فلا تسقط عنهم الجزية، كما أنّ الأجرة لا تسقط عن أصحاب الأعذار‏.‏

ضبط أسماء أهل الذّمّة وصفاتهم في ديوان

43 - يستوفي العامل الجزية من أهل الذّمّة وفق ديوان يشتمل على أسمائهم وصفاتهم وأحوالهم وما يجب على كلّ واحد منهم‏.‏ قال الشّيرازيّ في المهذّب‏:‏ ‏"‏ ويثبت الإمام عدد أهل الذّمّة وأسماءهم، ويحلّيهم بالصّفات الّتي لا تتغيّر بالأيّام فيقول‏:‏ طويل، أو قصير، أو ربعة، وأبيض، أو أسود، أو أسمر، أو أشقر، وأدعج العينين، أو مقرون الحاجبين، أو أقنى الأنف‏.‏ ويكتب ما يؤخذ من كلّ واحد منهم، ويجعل على كلّ طائفة عريفاً، ليجمعهم عند أخذ الجزية، ويكتب من يدخل معهم في الجزية بالبلوغ، ومن يخرج منهم بالموت ‏"‏‏.‏

مقدار الجزية

44 - اختلف الفقهاء في مقدار الجزية‏:‏

فذهب الحنفيّة إلى أنّ الجزية على ضربين‏:‏ جزية توضع بالتّراضي والصّلح، وجزية يبتدئ الإمام وضعها على الكفّار إذا فتح بلادهم عنوة‏.‏

فالضّرب الأوّل‏:‏ الجزية الصّلحيّة ليس لها حدّ معيّن بل تتقدّر بحسب ما يقع عليه الاتّفاق بين الإمام وأهل الذّمّة‏.‏ واستدلّوا لذلك باختلاف مقادير الجزية الصّلحيّة من مجموعة إلى مجموعة أخرى‏.‏ فقد «صالح النّبيّ صلى الله عليه وسلم أهل نجران على ألفي حلّة، النّصف في صفر، والبقيّة في رجب يؤدّونها إلى المسلمين»‏.‏

«وأمر معاذا أن يأخذ من أهل اليمن من كلّ حالم ديناراً، وعدله من المعافر»‏.‏

وصالح عمر رضي الله عنه بني تغلب على أن يؤدّوا ضعف زكاة المسلمين‏.‏ روى البيهقيّ عن عبادة بن النّعمان التّغلبيّ في حديث طويل - أنّ عمر رضي الله عنه لمّا صالحهم - يعني نصارى بني تغلب - على تضعيف الصّدقة قالوا‏:‏ نحن عرب لا نؤدّي ما يؤدّي العجم، ولكن خذ منّا كما يأخذ بعضكم من بعض - يعنون الصّدقة - فقال عمر رضي الله عنه‏:‏ لا، هذه فرض المسلمين‏.‏ قالوا‏:‏ فزد ما شئت بهذا الاسم، لا باسم الجزية، ففعل فتراضى هو وهم على أن تضعّف عليهم الصّدقة‏.‏ وفي بعض طرقه‏:‏ ‏"‏ سمّوها ما شئتم ‏"‏‏.‏

والضّرب الثّاني‏:‏ الجزية العنويّة وهي مقدّرة الأقلّ والأكثر، فيضع على الغنيّ ثمانية وأربعين درهما، وعلى المتوسّط أربعة وعشرين، وعلى الفقير المعتمل اثني عشر درهما‏.‏ واستدلّوا لذلك بأنّ عمر بن الخطّاب وضع في الجزية على رؤوس الرّجال على الغنيّ ثمانية وأربعين درهماً، وعلى المتوسّط أربعة وعشرين درهماً، وعلى الفقير اثني عشر درهماً‏.‏ قال الحنفيّة‏:‏ ‏"‏ ونصب المقادير بالرّأي لا يكون، فعرفنا أنّ عمر اعتمد السّماع من النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأخذنا به ‏"‏ وقد فعل عمر ذلك بمحضر من الصّحابة‏.‏

واستدلّوا بقياس الجزية على خراج الأرض، فقد جعل الخراج على مقدار الطّاقة، واختلف بحسب اختلاف الأرض وطاقتها الإنتاجيّة فوجب أن تكون الجزية على قدر الطّاقة والإمكان، فتختلف بحسب طاقة الشّخص وإمكاناته الماليّة‏.‏ وبأنّ الجزية إنّما وجبت عوضاً عن النّصرة للمسلمين، والنّصرة من المسلمين تتفاوت، فالفقير ينصر دار الإسلام راجلاً، ومتوسّط الحال ينصرها راجلاً وراكباً، والموسر ينصرها بالرّكوب بنفسه وإركاب غيره‏.‏ فوجب أن تكون الجزية على قدر طاقة الشّخص وإمكاناته الماليّة‏.‏

45 - واختلف الحنفيّة في المراد بالغنيّ والمتوسّط والفقير على خمسة أقوال‏:‏

الأوّل‏:‏ ما قاله بعضهم‏:‏ من لم يملك نصاباً تجب في مثله الزّكاة على المسلمين، وهو مائتا درهم فهو فقير‏.‏ ومن ملك مائتي درهم فهو من الأواسط‏.‏ ومن ملك أربعة آلاف درهم فصاعدا، فهو من الأغنياء، لما روي عن عليّ رضي الله عنه وعبد اللّه بن عمر رضي الله عنهما أنّهما قالا‏:‏ أربعة آلاف فما دونها نفقة، وما فوق ذلك كنز‏.‏

والثّاني‏:‏ ما قاله الكرخيّ‏:‏ من لم يملك نصابا فهو فقير، ومن ملك مائتي درهم إلى أقلّ من عشرة آلاف فهو من الأوساط، ومن ملك زيادة على عشرة آلاف فهو من الأغنياء‏.‏

والثّالث‏:‏ ما قاله بشر بن غياث‏:‏ من كان يملك قوته وقوت عياله وزيادة فهو موسر، وإن ملك بلا فضل فهو الوسط، ومن لم يكن له قدر الكفاية فهو الفقير المعتمل أو المكتسب‏.‏ والرّابع‏:‏ ما قاله أبو يوسف في كتاب الخراج‏:‏ ‏"‏ الموسر ‏"‏‏:‏ مثل الصّيرفيّ، والبزّاز، وصاحب الضّيعة، والتّاجر، والمعالج، والطّبيب، وكلّ من كان منهم بيده صناعة وتجارة يحترف بها فيؤخذ من أهل كلّ صناعة وتجارة على قدر صناعتهم وتجارتهم ثمانية وأربعون درهما من الموسر، وأربعة وعشرون درهما من الوسط، من احتملت صناعته ثمانية وأربعين أخذ منه ذلك، ومن احتملت أربعة وعشرين درهما أخذ ذلك منه، واثنا عشر درهما على العامل بيده‏:‏ مثل الخيّاط والصّبّاغ والإسكاف والخرّاز ومن أشبههم‏.‏

والخامس‏:‏ ما قاله أبو جعفر الطّحاويّ‏:‏ إنّه ينظر إلى عادة كلّ بلد في ذلك، فصاحب خمسين ألفاً ببلخ يعدّ من المكثرين، وفي البصرة لا يعدّ مكثراً‏.‏ فهو يعتبر في كلّ بلدة عرفها، فمن عدّه النّاس في بلدهم فقيراً، أو وسطاً، أو غنيّاً فهو كذلك، وهذا هو المختار عند الحنفيّة، قال الموصليّ‏:‏ ‏"‏ والمختار أن ينظر في كلّ بلد إلى حال أهله، وما يعتبرونه في ذلك، فإنّ عادة البلاد في ذلك مختلفة ‏"‏‏.‏

46 - وذهب المالكيّة إلى أنّ الجزية ضربان‏:‏ صلحيّة، وعنويّة‏:‏

فالضّرب الأوّل‏:‏ الجزية الصّلحيّة‏:‏ وهي الّتي عقدت مع الّذين منعوا أنفسهم وأموالهم وبلادهم من أن يستولي عليها المسلمون بالقتال، وهي تتقدّر بحسب ما يتّفق عليه الطّرفان‏.‏ ولا حدّ لأقلّها ولا أكثرها عند بعض المالكيّة، واستظهر ابن رشد أنّ الصّلحيّ إن بذل القدر الّذي على العنويّ أنّه يلزم الإمام أن يقبله منه، ويحرم على الإمام أن يقاتله‏.‏

واستدلّوا بأدلّة الحنفيّة السّابقة‏.‏

والضّرب الثّاني‏:‏ الجزية العنويّة‏:‏ وهي الّتي تفرض على أهل البلاد المفتوحة عنوة، وتقدّر بأربعة دنانير على أهل الذّهب، وأربعين درهما على أهل الفضّة، بلا زيادة ولا نقصان‏.‏ ونحو هذا رواية عن أحمد فيها أنّها على الغنيّ ثمانية وأربعون درهما وعلى الوسط أربعة وعشرون، وعلى الفقير اثنا عشر، وهذه اختيار الخرقيّ، ويرجع إلى العرف من الغنى والفقر‏.‏ وقد استدلّوا لذلك بما روى الإمام مالك عن نافع عن أسلم مولى عمر أنّ عمر ضرب الجزية على أهل الذّهب أربعة دنانير، وعلى أهل الورق أربعين درهماً، ومع ذلك أرزاق المسلمين، وضيافة ثلاثة أيّام‏.‏ قال الباجيّ المراد بأرزاق المسلمين أقوات من عندهم من أجناد المسلمين، والمراد بالضّيافة ضيافة المجتاز من المسلمين على أهل الذّمّة‏.‏

وهو يقتضي أنّه قدّرها بهذا المقدار وذلك لما رآه من الاجتهاد والنّظر للمسلمين واحتمال أحوال أهل الجزية‏.‏ وأمّا أرزاق المسلمين والضّيافة، فقد قال مالك‏:‏ ‏"‏ أرى أن توضع عنهم اليوم الضّيافة والأرزاق، لما حدث عليهم من الجور ‏"‏، وذلك سدّاً للذّريعة، ونقل الدّسوقيّ عن الباجيّ وأقرّه أنّه إن انتفى الظّلم فلا تسقط‏.‏

47 - وذهب الشّافعيّة وهو رواية يعقوب بن بختان عن أحمد إلى أنّ أقلّ الجزية دينار ذهبيّ خالص، ولا حدّ لأكثرها، فلا يجوز للإمام التّراضي مع أهل الذّمّة على أقلّ من دينار في حالة القوّة، وتجوز الزّيادة على الدّينار، بل تستحبّ المماكسة في الزّيادة‏:‏ بأن يطلب منهم أكثر من دينار إن ظنّ إجابتهم إليها، أمّا إذا علم أو ظنّ أنّهم لا يجيبونه إلى تلك الزّيادة، فلا معنى للمماكسة‏.‏ وفي حالة الضّعف يجوز للإمام التّراضي مع أهل الذّمّة على أقلّ من الدّينار‏.‏ واستدلّوا لذلك بحديث معاذ السّابق‏:‏ «أمره أن يأخذ من كلّ حالم ديناراً أو عدله من المعافر»‏.‏ فالحديث يدلّ على تقدير الجزية بالدّينار من الذّهب على كلّ حالم، وظاهر إطلاقه سواء أكان غنيّاً أم متوسّطاً أم فقيراً‏.‏

وقد أخذها النّبيّ صلى الله عليه وسلم من أهل ‏"‏ أيلة ‏"‏، حيث «قدم يوحنّا بن رؤبة على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في تبوك، وصالحه على كلّ حالم بأرضه في السّنة ديناراً، واشترط عليهم قرى من مرّ بهم من المسلمين»‏.‏ «وقد أخذ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من أهل نجران ألفي حلّة نصفها في صفر والبقيّة في رجب»‏.‏

قال الشّافعيّ‏:‏ سمعت بعض أهل العلم من المسلمين ومن أهل الذّمّة من أهل نجران يذكر أنّ قيمة ما أخذ من كلّ واحد دينار‏.‏ وروى الشّافعيّ عن إبراهيم بن محمّد عن أبي الحويرث

«أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم ضرب على نصرانيّ بمكّة، يقال له موهب ديناراً كلّ سنة» واستدلّوا لجواز عقدها مع أهل الذّمّة على أقلّ من دينار في حالة الضّعف بأنّ من القواعد المقرّرة شرعاً‏:‏ ‏"‏ أنّ تصرّف الإمام على الرّعيّة منوط بالمصلحة ‏"‏ فإذا كان في عقد الذّمّة على أقلّ من دينار مصلحة ظاهرة وجب المصير إليه‏.‏

48 - وفي رواية عن الإمام أحمد - نقلها عنه الأثرم -‏:‏ أنّ المرجع في الجزية إلى الإمام، فله أن يزيد وينقص على قدر طاقة أهل الذّمّة، وعلى ما يراه‏.‏

وهذا هو المذهب كما قال المرداويّ في الإنصاف، وقال الخلّال‏:‏ العمل في قول أبي عبد اللّه على ما رواه الجماعة بأنّه لا بأس للإمام أن يزيد في ذلك وينقص على ما رواه أصحابه عنه في عشرة مواضع، فاستقرّ قوله على ذلك‏.‏ وهذا قول الثّوريّ وأبي عبيد‏.‏

واستدلّوا لذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتَّى يُعْطُوا الجِزْيةَ عَنْ يَدٍ وهم صَاغِرون‏}‏‏.‏

فلفظ الجزية في الآية مطلق غير مقيّد بقليل أو كثير، فينبغي أن يبقى على إطلاقه، غير أنّ الإمام لمّا كان وليّ أمر المسلمين جاز له أن يعقد مع أهل الذّمّة عقدا على الجزية بما يحقّق مصلحة المسلمين ‏;‏ لأنّ تصرّف الإمام على الرّعيّة منوط بالمصلحة‏.‏

ولأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أمر معاذاً أن يأخذ من كلّ حالم ديناراً وصالح أهل نجران على ألفي حلّة، النّصف في صفر والباقي في رجب»‏.‏

وجعل عمر بن الخطّاب الجزية على ثلاث طبقات على الغنيّ ثمانية وأربعين درهماً، وعلى المتوسّط أربعة وعشرين درهماً، وعلى الفقير اثني عشر درهماً، وصالح بني تغلب على ضعف ما على المسلمين من الزّكاة‏.‏ فهذا الاختلاف يدلّ على أنّها إلى رأي الإمام، لولا ذلك لكانت على قدر واحد في جميع هذه المواضع ولم يجز أن تختلف‏.‏ ويؤيّد ذلك ما روى البخاريّ عن ابن عيينة عن أبي نجيح قلت لمجاهد‏:‏ ما شأن أهل الشّام عليهم أربعة دنانير، وأهل اليمن عليهم دينار ‏؟‏ قال‏:‏ جعل ذلك من أجل اليسار‏.‏ ولأنّ المال المأخوذ على الأمان ضربان‏:‏ هدنة وجزية، فلمّا كان المأخوذ هدنة إلى اجتهاد الحاكم، فكذلك المأخوذ جزية‏.‏

ولأنّ الجزية عوض، فلم تتقدّر بمقدار واحد في جميع المواضع كالأجرة‏.‏

استيفاء الجزية

وقت استيفاء الجزية

49 - اتّفق الفقهاء على أنّ الجزية لا تؤخذ من الذّمّيّ إلاّ مرّة واحدة في السّنة ولا تتكرّر‏.‏ والسّنة المعتبرة شرعاً هي السّنة القمريّة، لأنّها هي المرادة شرعاً عند الإطلاق، أمّا إذا عيّن الإمام كونها شمسيّة أو قمريّة فيجب اتّباع ما عيّنه‏.‏

وقت وجوب الجزية

50 - اتّفق الفقهاء على أنّ وقت وجوب الالتزام بالجزية عقب عقد الذّمّة مباشرة، إلاّ أنّ الشّافعيّة قالوا‏:‏ تجب بالعقد وجوبا غير مستقرّ وتستقرّ بانقضاء الزّمن كالأجرة، فكلّما مضت مدّة من الحول استقرّ قسطها من جزية الحول، حتّى تستقرّ جزية الحول كلّه بانقضائه، لأنّ الجزية عوض عن منفعة حقن الدّم، فتجب بالعقد وجوباً غير مستقرّ، وتستقرّ بمضيّ المدّة شيئاً فشيئاً كالأجرة‏.‏

51 - واختلف الفقهاء في وقت وجوب أداء الجزية‏:‏

فذهب جمهور الفقهاء من المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ وقت وجوب الأداء آخر الحول واستدلّوا لذلك بما وقع من النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الجزية، فقد ضربها على أهل الذّمّة والمجوس بعد نزول آية الجزية، ولم يطالبهم بأدائها في الحال، بل كان يبعث رسله وسعاته في آخر الحول لجبايتها‏.‏ روى البخاريّ عن عمرو بن عوف الأنصاريّ «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجرّاح إلى البحرين يأتي بجزيتها، وكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم هو صالح أهل البحرين وأمّر عليهم العلاء بن الحضرميّ»‏.‏

وتدلّ سيرة الخلفاء والأمراء بعد النّبيّ صلى الله عليه وسلم على أنّهم كانوا يبعثون الجباة في آخر العام لجباية الجزية‏.‏ فبعث عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أبا هريرة إلى البحرين، فقدم بمال كثير‏.‏ ولأنّ الجزية حقّ ماليّ يتكرّر بتكرّر الحول، فوجب بآخره كالزّكاة‏.‏

ولأنّ الجزية تؤخذ جزاء على تأمينهم وإقرارهم على دينهم، فلا تجوز المطالبة بها إلاّ بعد أن يتحقّق لهم ذلك في طول السّنة‏.‏

ولأنّ الجزية عوض عن سكنى الدّار فوجب أن تؤخذ بعد استيفاء المنفعة وانقضاء المدّة‏.‏

وذهب الحنفيّة إلى أنّ وقت وجوب الأداء في أوّل السّنة، فتجب وجوباً موسّعاً كالصّلاة، وللإمام المطالبة بها بعد عقد الذّمّة‏.‏

واستدلّوا لذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتَّى يُعْطُوا الجِزْيةَ عَنْ يَدٍ وهم صَاغِرُون‏}‏‏.‏

فجعل إعطاء الجزية غاية لرفع القتال عنهم، لأنّ غاية هذا حقيقة اللّفظ، والمفهوم من ظاهره، ألا ترى أنّ قوله‏:‏ ‏{‏ولا تَقْربُوهُنَّ حتَّى يَطْهُرنَ‏}‏‏.‏

وقد حظر إباحة قربهنّ إلاّ بعد وجود طهرهنّ، وكذلك المفهوم من قول القائل لا تعط زيداً حتّى يدخل الدّار، منع الإعطاء إلاّ بعد دخوله، فثبت بذلك أنّ الآية موجبة لقتال أهل الكتاب مزيلة ذلك عنهم بإعطاء الجزية وهذا يدلّ على أنّ الجزية وجبت بعقد الذّمّة‏.‏

ولقول النّعمان بن مقرّن‏:‏ «أمرنا نبيّنا رسول ربّنا صلى الله عليه وسلم أن نقاتلكم حتّى تعبدوا اللّه وحده أو تؤدّوا الجزية» فوقت وجوب أداء الجزية عقب العقد مباشرة‏.‏

ولأنّ الجزية وجبت بدلا عن القتل في حقّهم،فتجب في الحال كالواجب بالصّلح عن دم العمد‏.‏ ولأنّ المعوّض قد سلّم لهم، فوجب أن يستحقّ العوض عليهم كالثّمن‏.‏

ولأنّ الجزية وجبت بدلاً من النّصرة في حقّنا، وهي لا تتحقّق في الماضي، وإنّما تتحقّق في المستقبل، لأنّ نصرة الماضي يستغنى عنها بانقضائه‏.‏

فإذا تعذّر إيجاب الجزية بعد الحول تجب في أوّله‏.‏

تعجيل الجزية

52 - المقصود بتعجيل الجزية‏:‏ استيفاؤها ممّن وجبت عليه قبل وقت وجوبها بسنة أو سنتين أو أكثر، فهل يجوز للإمام أن يستعجل أخذ الجزية أو يستسلفها ‏؟‏

اختلف العلماء في ذلك‏:‏ فذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة في وجه، إلى جواز تعجيلها لسنة أو سنتين أو أكثر برضا أهل الذّمّة، ويجوز اشتراط تعجيلها وذلك لأنّها كالخراج، ولأنّها عوض عن حقن دمائهم فأشبهت الأجرة‏.‏

وذهب الحنابلة والشّافعيّة في وجه إلى عدم جواز اشتراط تعجيلها، ويجوز تعجيلها برضا أهل الذّمّة‏.‏ واستدلّوا بقياس الجزية على الزّكاة، فلا يجوز للإمام أن يستسلف الزّكاة إلاّ برضا ربّ المال، بل الجزية أولى بالمنع، لأنّها تتعرّض للسّقوط قبل الحول وبعده، فتسقط بالإسلام والموت أثناء السّنة وتتداخل بالاجتماع عند أبي حنيفة‏.‏

تأخير الجزية

53 - إذا تأخّر الذّمّيّ عن أداء الجزية في وقتها المحدّد فإمّا أن يكون موسراً، وإمّا أن يكون معسراً‏.‏ فإن كان موسراً ومطل بها جاز للإمام أن يعاقبه على ذلك بالحبس وغيره‏.‏ قال القرطبيّ‏:‏ أمّا عقوبتهم إذا امتنعوا من أدائها مع التّمكّن فجائز، فأمّا مع تبيّن عجزهم

فلا تحلّ عقوبتهم، لأنّ من عجز عن الجزية سقطت عنه‏.‏

من له حقّ استيفاء الجزية

54 - الجزية من الأموال العامّة الّتي يتولّى أمرها الأئمّة والسّلاطين، فالشّرع هو الّذي قدّر الجزية عند الجمهور، وقيل‏:‏ يقدّرها الإمام‏.‏

والإمام يعقد الذّمّة ويطالب بالجزية ويصرفها في مصالح المسلمين العامّة باجتهاده، وذلك لأنّ الإمام العدل وكيل عن الأمّة في استيفاء حقوقها ممّن وجبت عليه، وفي تدبير شئونها‏.‏ قال القرطبيّ‏:‏ ‏"‏ الأموال الّتي للأئمّة والولاة فيها مدخل ثلاثة أضرب‏:‏

الأوّل‏:‏ ما أخذ من المسلمين على طريق التّطهير لهم كالصّدقات والزّكوات‏.‏

والثّاني‏:‏ الغنائم وما يحصل في أيدي المسلمين من أموال الكافرين بالحرب والقهر والغلبة‏.‏ والثّالث‏:‏ الفيء، وهو ما رجع للمسلمين من أموال الكفّار عفواً صفواً من غير قتال ولا إيجاف كالصّلح والجزية والخراج والعشور المأخوذة من أهل الذّمّة‏.‏

وبناء على ذلك فحقّ استيفاء الجزية للإمام، فيطالب بها ويجب على أهل الذّمّة الدّفع إليه‏.‏ والإمام المطالب بالجزية إمّا أن يكون عادلاً، أو جائراً ظالماً، أو باغياً، أو خارجاً على إمام العدل، أو محارباً وقاطعاً للطّريق‏.‏

أ - حكم دفع الجزية إلى أئمّة العدل‏:‏

54 م - الإمام العادل‏:‏ هو الّذي اختاره المسلمون للإمامة وبايعوه، وقام بتدبير شئون الأمّة وفق شرع اللّه عزّ وجلّ‏.‏ فإذا طلب من ذوي الأموال مالا لا يطلبه إلاّ بحقّ، وإذا قسم أموالا عامّة قسمها وفق شرع اللّه وحسب ما تقتضيه المصلحة العامّة كما قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما أعطيكم ولا أمنعكم وإنّما أنا قاسم أضع حيث أمرت»‏.‏

وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب رضي الله عنه ‏"‏ إنّي أنزلت نفسي وإيّاكم من هذا المال بمنزلة والي اليتيم فإنّ اللّه تبارك وتعالى قال‏:‏ ‏{‏ومَنْ كانَ غَنيَّاً فَليسْتعففْ ومَنْ كانَ فَقِيرَاً فَليأكُلْ بالمَعروفِ‏}‏ واللّه ما أرى أرضا يؤخذ منها شاة في كلّ يوم إلاّ استسرع خرابها‏.‏

وبناء على ذلك إذا طلب الإمام العادل الجزية من أهل الذّمّة وجب عليهم الدّفع إليه، ولا يجوز لأحد تفرقة خراج رأسه بنفسه، وإذا أدّى شخص الجزية إلى مستحقّ الفيء بنفسه فللإمام أخذها منه ثانية، لأنّ حقّ الأخذ له‏.‏

ب - حكم دفع الجزية إلى أئمّة الجور والظّلم‏:‏

55 - الإمام الجائر‏:‏ هو الّذي يقوم بتدبير شئون الأمّة وفق هواه، فيقع منه الجور والظّلم على النّاس‏.‏ وإذا طلب الإمام الجائر الجزية من أهل الذّمّة وجب عليهم أداؤها إليه عند جماهير الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وإذا أدّى الذّمّيّ الجزية إلى الإمام الجائر سقطت عنه ولا يطالب بها مرّة ثانية من قبل الإمام العادل‏.‏

قال الكاسانيّ‏:‏ وأمّا سلاطين زماننا الّذين أخذوا الصّدقات والعشور والخراج لا يضعونها مواضعها، فهل تسقط هذه الحقوق عن أربابها ‏؟‏ اختلف المشايخ فيه، ذكر الفقيه أبو جعفر الهندوانيّ أنّه يسقط ذلك كلّه، وإن كانوا لا يضعونها في أهلها، لأنّ حقّ الأخذ لهم فيسقط عنه بأخذهم، ثمّ إنّهم إن لم يضعوها مواضعها فالوبال عليهم‏.‏

قال الشّيخ أبو بكر بن سعيد‏:‏ إنّ الخراج يسقط، ولا تسقط الصّدقات لأنّ الخراج يصرف إلى المقاتلة، وهم يصرفون إلى المقاتلة ويقاتلون العدوّ، ألا ترى أنّه لو ظهر العدوّ فإنّهم يقاتلون ويذبّون عن حريم المسلمين، فأمّا الزّكوات والصّدقات فإنّهم لا يضعونها في أهلها‏.‏ واستدلّوا لوجوب طاعة الإمام الجائر في طلب الجزية والخراج بما يلي‏:‏

أ - ما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلّما هلك نبيّ خلفه نبيّ، وإنّه لا نبيّ بعدي‏.‏ وسيكون خلفاء ويكثرون‏.‏ قالوا‏:‏ فما تأمرنا ‏؟‏ فقال‏:‏ أوفوا ببيعة الأوّل فالأوّل، ثمّ أعطوهم حقّهم، فإنّ اللّه سائلهم عمّا استرعاهم»‏.‏ قال الشّوكانيّ‏:‏ في بيان معنى ‏"‏ أعطوهم حقّهم ‏"‏ - أي ادفعوا إلى الأمراء حقّهم الّذي لهم المطالبة به وقبضه، سواء كان يختصّ بهم أو يعمّ، وذلك من الحقوق الواجبة كالزّكاة، وفي الأنفس كالخروج إلى الجهاد‏.‏

ب - وما روي عنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أنّها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها قالوا‏:‏ يا رسول اللّه كيف تأمر من أدرك منّا ذلك ‏؟‏ قال‏:‏ تؤدّون الحقّ الّذي عليكم، وتسألون اللّه الّذي لكم»‏.‏

ج - وما روي عنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن أمّر عليكم عبد مجدّع، أسود، يقودكم بكتاب اللّه فاسمعوا له وأطيعوا»‏.‏

ج - دفع الجزية إلى البغاة‏:‏

56 - البغاة‏:‏ هم الّذين يقاتلون على التّأويل ويخرجون على الإمام، أو يمتنعون عن الدّخول في طاعته، أو يمنعون حقّا وجب عليهم كالزّكاة وشبهها، فيدعون إلى الرّجوع للحقّ‏.‏ فإذا غلب أهل البغي على بلد ونصبوا إماماً، فجبى الجزية من أهل الذّمّة، فذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة وابن الماجشون من المالكيّة إلى سقوط الجزية عن أهل الذّمّة بدفعها إلى البغاة، ولكن يأخذ منهم فيما يستقبلون ما يجب عليهم من ذلك‏.‏ واستدلّوا لذلك‏:‏ بأنّ عليّاً رضي الله عنه لمّا ظهر على أهل البصرة لم يطالبهم بشيء ممّا جبي منهم‏.‏

قال الشّافعيّة‏:‏ ولأنّ حقّ الإمام في الجباية مرهون بالحماية، وهي غير موجودة عند تغلّب البغاة على بلدة معيّنة‏.‏ ولأنّ في ترك احتسابها ضرراً عظيماً ومشقّة كبيرة، فإنّ البغاة قد يغلبون على البلاد السّنين الكثيرة وتتجمّع على أهل الذّمّة مبالغ طائلة لا يطيقونها‏.‏

وذهب المالكيّة إلى أنّه يجب على من دفع الجزية إلى البغاة الإعادة، لأنّه أعطاها إلى من لا ولاية له صحيحة فأشبه ما لو أخذها آحاد الرّعيّة غصباً‏.‏

ح - حكم دفع الجزية إلى المحاربين ‏"‏ قطّاع الطّرق ‏"‏‏:‏

57 - المحاربون‏:‏ هم الّذين يعرضون للنّاس بالسّلاح فيغصبون المال مجاهرة أو يقتلون أو يخيفون الطّريق‏.‏ فإذا أخذ المحاربون الجزية من أهل الذّمّة لم يقع ذلك موقعه، ولم تسقط الجزية عنهم بأدائها إلى المحاربين، لأنّ المأخوذ منهم كالمأخوذ غصباً‏.‏

طرق استيفاء الجزية

58 - إذا كان الإمام هو صاحب الحقّ في استيفاء الجزية، فلا يعني ذلك أنّه سيباشر جميع الأعمال الّتي تتعلّق بها من حيث تقديرها وتدوينها وجمعها وصرفها، لأنّ ذلك يصعب عليه ولا يستطيعه، بل يعني تولية من يجمعها والإشراف عليها ومتابعة من يقوم باستيفائها وصرفها‏.‏

ومن طرق الاستيفاء الّتي كانت متّبعة في ذلك، العمالة على الجزية، والقبالة ‏(‏التّضمين‏)‏‏.‏

الطّريقة الأولى‏:‏ العمالة على الجزية

59 - العمالة على الجزية ولاية من الولايات الشّرعيّة الصّادرة عن الإمام يتمّ بمقتضاها استيفاء الجزية وقبضها‏.‏ وعامل الجزية وكيل عن الإمام في استيفاء الجزية وقبضها، وجبايته للجزية محدّدة بما رسمه له الإمام، ولعامل الجزية شروط أهمّها‏:‏ الإسلام والحرّيّة، والأمانة، والكفاية، والعلم والفقه‏.‏ وللتّفصيل تنظر الشّروط المطلوبة في‏:‏ ‏(‏جباية‏)‏‏.‏

ما يراعيه العامل في جباية الجزية

الرّفق بأهل الذّمّة‏:‏

60 - للفقهاء في هذه المسألة اتّجاهان‏:‏

الأوّل‏:‏ أنّه ينبغي لعامل الجزية أن يكون رفيقاً بأهل الذّمّة عند استيفائه للجزية‏:‏ بأن يأخذها منهم بتلطّف دون تعذيب أو ضرب، وأن يؤخّرهم إلى غلّاتهم، وأن يقسّطها عليهم، وأن يقبل منهم القيمة بدلا من العين‏.‏

والصّغار في قوله تعالى ‏{‏وهم صاغرون‏}‏ معناه عندهم التزام أحكام الإسلام‏.‏

والاتّجاه الآخر‏:‏ ما ذهب إليه كثير من فقهاء الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وهو أنّ الجزية تستوفى من أهل الذّمّة بإهانة وإذلال، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتَّى يُعْطُوا الجِزْيةَ عَنْ يَدٍ وهمْ صَاغِرُون‏}‏‏.‏

الأموال الّتي تستوفى منها الجزية

61 - لا يتعيّن في استيفاء الجزية ذهب ولا فضّة ولا نوع بعينه، بل يجوز أخذها ممّا تيسّر من أموال أهل الذّمّة‏:‏ كالسّلاح والثّياب والحبوب والعروض فيما عدا ثمن الخمر والخنزير‏.‏ وهذا مذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة‏.‏

واستدلّوا لذلك بما يلي‏:‏

- أ - حديث معاذ السّابق‏:‏ «أمره النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يأخذ من كلّ حالم ديناراً أو عدله من المعافر» فهو يدلّ على جواز أخذ القيمة في الجزية من الثّياب المصنوعة باليمن والمنسوبة إلى قبيلة معافر‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ ‏"‏ ألا تراه قد أخذ منهم الثّياب مكان الدّنانير ‏؟‏ وإنّما يراد بهذا كلّه الرّفق بأهل الذّمّة، وأن لا يباع عليهم من متاعهم شيء، ولكن يؤخذ ممّا سهل عليهم بالقيمة‏.‏ ألا تسمع إلى قول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أو عدله من المعافر» فقد بيّن لك ذكر العدل أنّه القيمة ‏"‏‏.‏

- ب - «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم صالح أهل نجران على ألفي حلّة، النّصف في صفر والباقي في رجب»‏.‏

- ج - ما روي عن عمر رضي الله عنه أنّه كان يأخذ النّعم في الجزية‏.‏

- د - ما روي عن عليّ رضي الله عنه أنّه كان يأخذ من كلّ ذي صنعة من متاعه‏:‏ من صاحب الإبر إبرا، ومن صاحب المسانّ مسانّا، ومن صاحب الحبال حبالاً‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ ‏"‏ وإنّما يوجّه هذا من عليّ أنّه كان يأخذ منهم هذه الأمتعة بقيمتها من الدّراهم الّتي عليهم من جزية رءوسهم ولا يحملهم على بيعها ثمّ يأخذ ذلك من الثّمن، إرادة الرّفق بهم والتّخفيف عليهم ‏"‏‏.‏

استيفاء الجزية من ثمن الخمر والخنزير

62 - استيفاء الجزية من أعيان الخمر والخنزير لا يجوز باتّفاق الفقهاء لأنّهما ليسا بمال عند جمهور الفقهاء، ومال غير متقوّم عند الحنفيّة، فلا يجوز أخذها في الجزية‏.‏

وأمّا استيفاء الجزية من ثمن ما باعوه من الخمر والخنزير فقد اختلف الفقهاء في جوازه‏.‏ فذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة والشّافعيّة في قول إلى جواز أخذ الجزية من ثمن الخمر والخنزير إذا تولّى الذّمّيّ بيعها‏.‏ واستدلّوا لذلك بما يلي‏:‏

- أ - ما روى أبو عبيد - بسنده - عن سويد بن غفلة قال‏:‏ ‏"‏ بلغ عمر بن الخطّاب أنّ ناسا يأخذون الجزية من الخنازير، وقام بلال فقال‏:‏ إنّهم ليفعلون، فقال عمر‏:‏ لا تفعلوا‏:‏ ولّوهم بيعها وفي رواية‏:‏ أنّ بلالاً قال لعمر بن الخطّاب‏:‏ إنّ عمّالك يأخذون الخمر والخنازير في الخراج، فقال‏:‏ لا تأخذوا منهم، ولكن ولّوهم بيعها، وخذوا أنتم من الثّمن‏"‏‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ ‏"‏ يريد أنّ المسلمين كانوا يأخذون من أهل الذّمّة الخمر والخنزير من جزية رءوسهم وخراج أرضهم بقيمتها ثمّ يتولّى المسلمون بيعها، فهذا الّذي أنكره بلال، ونهى عنه عمر، ثمّ رخّص لهم أن يأخذوا ذلك من أثمانها إذا كان أهل الذّمّة هم المتولّين لبيعها، لأنّ الخمر والخنزير مال من أموال أهل الذّمّة ولا تكون مالاً للمسلمين ‏"‏‏.‏

- ب - ولأنّ الخمر والخنزير مال من أموالهم الّتي نقرّهم على اقتنائها، والتّصرّف فيها، فجاز أخذ أثمانها منهم كثيابهم‏.‏

وذهب الشّافعيّة في القول المعتمد عندهم إلى عدم جواز استيفاء الجزية من ثمن الخمر والخنزير‏.‏ واستدلّوا لذلك بما يلي‏:‏

- أ - روى البيهقيّ - بسنده - إلى أبي هريرة أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

«إنّ اللّه جلّ ثناؤه حرّم الخمر وثمنها وحرّم الميتة وثمنها، وحرّم الخنزير وثمنه»‏.‏

- ب - وروى البيهقيّ أيضا عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّه قال‏:‏ «إنّ اللّه إذا حرّم على قوم أكل شيء حرّم عليهم ثمنه»‏.‏

- ج - ولأنّ ثمن هذه المحرّمات حرام عليهم في اعتقادنا فحرم علينا أخذ الثّمن عند العلم به كالمسروق والمغصوب‏.‏

تأخيرهم إلى غلّاتهم

63 - ممّا يراعى في استيفاء الجزية تأخير من فرضت عليهم إلى غلّاتهم، أي حتّى تنضج الثّمار، وتحصد الزّروع فيتمكّنوا من بيعها وأداء الجزية‏.‏

ويؤيّد ذلك ما روى أبو عبيد - بسنده - إلى سعيد بن عبد العزيز قال‏:‏ ‏"‏ قدم سعيد بن عامر بن حِذْيَم على عمر بن الخطّاب، فلمّا أتاه علاه بالدّرّة، فقال سعيد‏:‏ سبق سيلك مطرك، إن تعاقب نصبر، وإن تعف نشكر، وإن تستعتب نعتب، فقال‏:‏ ما على المسلم إلاّ هذا، ما لك تبطئ في الخراج ‏؟‏ قال‏:‏ أمرتنا ألا نزيد الفلّاحين على أربعة دنانير فلسنا نزيدهم على ذلك، ولكنّنا نؤخّرهم إلى غلّاتهم‏.‏ فقال عمر‏:‏ لا عزلتك ما حييت ‏"‏‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ ‏"‏ وإنّما وجه التّأخير إلى الغلّة الرّفق بهم، ولم نسمع في استيداء الخراج والجزية وقتا من الزّمان يجتبى فيه غير هذا ‏"‏‏.‏

استيفاء الجزية على أقساط

64 - وممّا يراعى في استيفاء الجزية عند الحنفيّة أخذها منهم على أقساط، فقد نصّ الحنفيّة على أخذ الجزية منهم شهريّا من باب التّخفيف والتّيسير عليهم‏.‏

قال المرغينانيّ‏:‏ يأخذ في كلّ شهر أربعة دراهم - أي على الغنيّ - لأجل التّسهيل عليه‏.‏ وقال الزّيلعيّ‏:‏ يوضع على الفقير المعتمل في مثل هذه الحالة اثنا عشر درهماً يؤخذ منه في كلّ شهر درهم، ثمّ قال‏:‏ نقل ذلك عن عمر وعثمان وعليّ والصّحابة متواترون ولم ينكر عليهم منهم أحد فصار إجماعاً‏.‏

وظاهر كلام غير الحنفيّة أنّها تؤخذ منهم دفعة واحدة كلّ عام‏.‏

كتابة عامل الجزية براءة للذّمّيّ

65 - إذا استوفيت الجزية كتب للذّمّيّ براءة، لتكون حجّة له إذا احتاج إليها‏.‏

التّعفّف عن أخذ ما ليس له أخذه

66 - ينبغي أن يكون عامل الجزية عفيف النّفس، فلا يقبل هديّة من أهل الذّمّة ولا رشوة لحديث‏:‏ «لعن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الرّاشي والمرتشي»‏.‏

وروى البخاريّ ومسلم عن أبي حميد السّاعديّ رضي الله عنه قال‏:‏ «استعمل النّبيّ صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأزد يقال له ابن اللّتبيّة على الصّدقة، فلمّا قدم قال‏:‏ هذا لكم وهذا أهدي إليّ، فقال‏:‏ فهلاّ جلس في بيت أبيه أو بيت أمّه فينظر أيهدى له أم لا ‏؟‏ والّذي نفسي بيده لا يأخذ أحدكم منه شيئاً إلاّ جاء يوم القيامة يحمله على رقبته إن كان بعيراً له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر، ثمّ رفع يديه حتّى رأينا عفرة إبطيه‏.‏ اللّهمّ هل بلغت ثلاثا»‏.‏ فهو يدلّ على أنّ الهدايا الّتي يقدّمها أهل الجزية للعمّال حرام ولا يجوز لهم قبولها‏.‏

قال الخطّابيّ‏:‏ ‏"‏ في هذا بيان أنّ هدايا العمّال سحت وأنّه ليس سبيلها سبيل سائر الهدايا المباحات، وإنّما يهدى إليه للمحاباة وليخفّف عن المهدي ويسوّغ له بعض الواجب عليه وهو خيانة منه وبخس للحقّ الواجب عليه استيفاؤه لأهله ‏"‏‏.‏

وانظر مصطلح ‏(‏هديّة ورشوة‏)‏‏.‏

الرّقابة على عمّال الجزية

67 - على الإمام مشارفة الأمور وتصفّح الأحوال، ومن مقتضيات هذا الواجب‏:‏ الرّقابة الفعّالة على عمّال الجزية، وضرورة منحهم رواتب تكفيهم‏.‏

قال أبو يوسف في نصيحته الّتي كتبها لهارون الرّشيد‏:‏ ‏"‏ أرى أن تبعث قوما من أهل الصّلاح والعفاف ممّن يوثق بدينه وأمانته، يسألون عن سيرة العمّال، وما عملوا به في البلاد، وكيف جبوا الخراج ‏؟‏ على ما أمروا به وعلى ما وظّف على أهل الخراج واستقرّ، فإذا ثبت ذلك عندك وصحّ، أخذوا بما استفضلوا من ذلك أشدّ الأخذ، حتّى يؤدّوه بعد العقوبة الموجعة والنّكال، حتّى لا يتعدّوا ما أمروا به وما عهد إليهم فيه، فإنّ كلّ ما عمل به والي الخراج من الظّلم والعسف فإنّما يحمل على أنّه قد أمر به، وقد أمر بغيره، وإن أحللت بواحد منهم العقوبة الموجعة انتهى غيره واتّقى وخاف، وإن لم تفعل هذا بهم تعدّوا على أهل الخراج واجترءوا على ظلمهم وتعسّفهم وأخذهم بما لا يجب عليهم، وإذا صحّ عندك من العامل والوالي تعدّ بظلم وعسف وخيانة لك في رعيّتك واحتجاز شيء من الفيء أو خبث طعمته أو سوء سيرته، فحرام عليك استعماله والاستعانة به، وأن تقلّده شيئا من أمور رعيّتك أو تشركه في شيء من أمرك، بل عاقبه على ذلك عقوبة تردع غيره من أن يتعرّض لمثل ما تعرّض له، وإيّاك ودعوة المظلوم فإنّها مجابة ‏"‏‏.‏

ولاجتناب وقوع عمّال الجزية في الرّشوة وأكل أموال النّاس بالباطل، يصرف الإمام لهم أجوراً ‏(‏رواتب‏)‏ مجزية تفي بحاجاتهم، وتكفي نفقاتهم‏.‏

وقد نبّه على ذلك القاضي أبو يوسف في كتاب الخراج حيث قال‏:‏ ‏"‏ حدّثني محمّد بن أبي حميد قال حدّثنا أشياخنا أنّ أبا عبيدة بن الجرّاح قال لعمر بن الخطّاب رضي الله عنه‏:‏ دنّست أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال عمر‏:‏ يا أبا عبيدة إذا لم استعن بأهل الدّين على سلامة ديني فبمن أستعين ‏؟‏ أمّا إن فعلت فأغنهم بالعمالة عن الخيانة ‏"‏‏.‏

يعني إذا استعملتهم على شيء فأجزل لهم في العطاء والرّزق لا يحتاجون‏.‏

الطّريقة الثّانية‏:‏ لاستيفاء الجزية

68 - القبالة ‏(‏أو التّقبيل‏)‏ وتسمّى التّضمين أو الالتزام‏:‏ هي في اللّغة - بالفتح الكفالة، وهي في الأصل مصدر قبل بفتح الباء إذا كفل وقبل بضمّها إذا صار قبيلاً أي كفيلاً‏.‏

قال الزّمخشريّ‏:‏ كلّ من يقبل بشيء مقاطعة وكتب عليه بذلك كتاب، فالكتاب الّذي يكتب هو القبالة بالفتح والعمل قبالة بالكسر، لأنّه صناعة، وفي الاصطلاح‏:‏ أن يدفع السّلطان أو نائبه صقعا أو بلدة أو قرية إلى رجل مدّة سنة مقاطعة بمال يؤدّيه إليه عن خراج أرضها، وجزية رءوس أهلها إن كانوا أهل ذمّة، فيقبل ذلك، ويكتب عليه بذلك كتاباً‏.‏

وقد يقع في جباية الجزية بهذه الطّريقة ظلم لأهل الذّمّة أو غبن لبيت المال، ولذلك مال بعض الفقهاء إلى منعها، قال أبو يوسف ‏"‏ فإن قال صاحب القرية أنا أصالحكم عنهم وأعطيكم ذلك لم يجيبوه إلى ما سأل لأنّ ذهاب الجزية من هذا أكثر لعلّ صاحب القرية يصالحهم على خمسمائة درهم وفيها من أهل الذّمّة من إذا أخذت منهم الجزية بلغت ألف درهم أو أكثر ‏"‏‏.‏

مسقطات الجزية

69 - تسقط الجزية بالإسلام، أو الموت، أو التّداخل، أو العجز الماليّ، أو عجز الدّولة عن توفير الحماية لأهل الذّمّة، أو الإصابة بالعاهات المزمنة، أو اشتراك الذّمّيّين في القتال، وفي بعض هذه الأمور خلاف يتبيّن بما يلي‏:‏

الأوّل‏:‏ الإسلام‏:‏

70 - اتّفق الفقهاء على أنّ الجزية تسقط عمّن دخل في الإسلام من أهل الذّمّة، فلا يطالب بها فيما يستقبل من الزّمان‏.‏ واستدلّوا لذلك بما يلي‏:‏

1 - روى أبو داود وغيره عن ابن عبّاس قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏

«ليس على المسلم جزية»‏.‏

2 - الإجماع‏:‏ قال ابن المنذر‏:‏ أجمعوا - يعني الفقهاء - على أن لا جزية على مسلم‏.‏

3 - ولأنّ الجزية وجبت وسيلة إلى الإسلام فلا تبقى بعده‏.‏

4 - ولأنّ الجزية وجبت عقوبة على الكفر أو بدلا عن النّصرة، فلا تقام العقوبة بعد الدّخول في الإسلام‏.‏ ولا يطالب بالجزية بعد أن أصبح قادرا على النّصرة بالدّخول في الإسلام‏.‏

هذا الاتّجاه الفقهيّ هو السّائد بين الفقهاء، ولكنّ بعض خلفاء بني أميّة لم يلتزموا به، فقد كانوا يأخذون الجزية ممّن أسلم من أهل الذّمّة ويعتبرونها بمنزلة الضّريبة على العبيد‏.‏ ونقل أبو بكر الجصّاص أنّ عمر بن عبد العزيز كتب إلى عامله بالعراق عبد الحميد بن عبد الرّحمن‏:‏ أمّا بعد فإنّ اللّه بعث محمّدا صلى الله عليه وسلم داعيا ولم يبعثه جابيا، فإذا أتاك كتابي هذا فارفع الجزية عمّن أسلم من أهل الذّمّة‏.‏

حكم أخذ الجزية عمّا مضى من الزّمان بعد دخول الذّمّيّ في الإسلام

71 - اختلف الفقهاء في ذلك، فذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة والثّوريّ وأبو عبيد إلى أنّ الجزية تسقط عمّن أسلم من أهل الذّمّة، سواء أسلم في أثناء الحول أو بعده، ولو اجتمعت عليه جزية سنين‏.‏ واستدلّوا لذلك بما يلي‏:‏

1 - قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَاتِلُوا الَّذينَ لا يُؤمنونَ باللَّهِ ولا باليومِ الآخرِ‏}‏ تدلّ هذه الآية على سقوط الجزية عمّن أسلم، لأنّ الأمر بأخذ الجزية ممّن يجب قتاله على الكفر إن لم يؤدّها، ومتى أسلم لم يجب قتاله، فلا جزية عليه‏.‏

2 - قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ للَّذينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لهم مَا قَدْ سَلَفَ وإنْ يَعُودُوا فقدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلينَ‏}‏ فالآية تدلّ على أنّ الإسلام يجبّ ما قبله، وأنّ الكافر إذا أسلم لا يطالب بقضاء ما فاته من صلاة أو زكاة، وكذا لا يطالب بما وجب عليه من جزية قبل إسلامه‏.‏

قال مالك فيما رواه ابن جرير عن يونس عن أشهب عنه‏:‏ ‏"‏ الصّواب عندي أن يوضع عمّن أسلم الجزية حين يسلم، ولو لم يبق عليه من السّنة إلاّ يوم واحد لقوله تعالى ‏{‏قُلْ لِلَّذينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ يعني ما قد مضى قبل الإسلام من دم أو مال أو شيء ‏"‏‏.‏

3 - ويروى في ذلك بعض الآثار عن الصّحابة والتّابعين‏.‏

4 - واستدلّوا بالمعقول من وجهين‏:‏

الأوّل‏:‏ أنّ الجزية وجبت وسيلة إلى الإسلام، فلا تبقى بعد الإسلام‏.‏

والثّاني‏:‏ أنّ الجزية إنّما وجبت عقوبة على الكفر، ولهذا سمّيت جزية‏:‏ أي جزاء الإقامة على الكفر، فوجب أن تسقط بالإسلام‏.‏

وذهب الشّافعيّة وأبو ثور وابن المنذر وابن شبرمة وأبو يوسف من الحنفيّة إلى أنّ الجزية لا تسقط عن الذّمّيّ إذا أسلم بعد انتهاء الحول، أمّا إذا أسلم في أثناء الحول، فتسقط عنه الجزية ولا يطالب بقسط ما مضى من السّنة وهذا قول عند الشّافعيّة، وللشّافعيّة قول آخر وهو الصّحيح عندهم‏:‏ وهو أنّها تؤخذ منه بقسط ما مضى من السّنة كالأجرة‏.‏

واستدلّوا لذلك بما يلي‏:‏

1 - أنّ الجزية عوض عن حقن الدّم، وقد وصل إلى الذّمّيّ المعوّض وهو حقن الدّم، فصار العوض وهو الجزية ديناً في ذمّته، فلا يسقط عنه بالإسلام كسائر الدّيون‏.‏

2 - أنّ الجزية عوض عن سكنى الدّار، وقد استوفى الذّمّيّ منافع الدّار المستأجرة، فلا تسقط الأجرة بإسلام الذّمّيّ‏.‏

3 - ولأنّ الجزية عند الشّافعيّة تجب بالعقد وجوبا غير مستقرّ، وتستقرّ بانقضاء الزّمن كالأجرة، فكلّما مضت مدّة من الحول استقرّ قسطها من جزية الحول‏.‏

الثّاني‏:‏ الموت‏:‏

72 - اختلف الفقهاء في سقوط الجزية بالموت، فذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّ الجزية تسقط بالموت مطلقا، سواء أحصل الموت في أثناء الحول أم بعد انتهائه‏.‏

واستدلّوا لذلك‏:‏ بأنّ الجزية وجبت عقوبة على الكفر، فتسقط بالموت كالحدود‏.‏

ولأنّ الجزية وجبت وسيلة إلى الإسلام، وهذا المعنى لا يتحقّق بعد الموت‏.‏

وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ الجزية لا تسقط بالموت إذا حصل بعد انتهاء الحول‏.‏

بل تؤخذ من التّركة كسائر الدّيون‏.‏ أمّا إذا حصل في أثناء الحول، فلا تسقط به أيضا في القول المعتمد عند الشّافعيّة، وتؤخذ من تركته بقسط ما مضى من الحول‏.‏

وتسقط عند الحنابلة والشّافعيّة في قول آخر لأنّها لا تجب ولا تؤخذ قبل كمال حولها واستدلّوا لعدم سقوطها بالموت بالأدلّة الآتية‏:‏

1 - ما أورده ابن القيّم عن عبد الرّحمن بن جنادة - كاتب حيّان بن سريج - وكان حيّان بعثه إلى عمر بن عبد العزيز، وكتب يستفتيه أيجعل جزية موتى القبط على أحيائهم ‏؟‏ فسأل عمر عن ذلك عراك بن مالك - وعبد الرّحمن يسمع - فقال‏:‏ ما سمعت لهم بعقد ولا عهد، إنّما أخذوا عنوة بمنزلة العبيد، فكتب عمر إلى حيّان بن سريج يأمره‏:‏ أن يجعل جزية الأموات على الأحياء‏.‏

2 - ولأنّها استقرّت في ذمّته بدلاً عن العصمة والسّكنى، فلم تسقط بموته كسائر ديون الآدميّين‏.‏

الثّالث‏:‏ اجتماع جزية سنتين فأكثر‏:‏

73 - اختلف الفقهاء في تداخل الجزى‏:‏ فذهب جمهور الفقهاء من المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة والصّاحبان من الحنفيّة إلى عدم التّداخل وتجب الجزى كلّها‏.‏ واستدلّوا لذلك‏:‏

بأنّ الجزية حقّ ماليّ يجب في آخر كلّ حول، فلم تتداخل كالزّكاة والدّية وغيرهما‏.‏

ولأنّ المدّة لا تأثير لها في إسقاط الواجب كخراج الأرض‏.‏

وذهب أبو حنيفة إلى أنّه إذا مضت على الجزية سنة ودخلت ثانية فإنّ الجزى تتداخل، فتسقط جزى السّنوات الماضية ويطالب بجزية السّنة الحاليّة‏.‏

واستدلّ لذلك‏:‏ بأنّ الجزية وجبت عقوبة على الكفر، والعقوبات إذا تراكمت تداخلت خاصّة إذا كانت من جنس واحد كالحدود‏.‏ ألا ترى أنّ من زنى مرارا ثمّ رفع أمره إلى الإمام لم يستوف منه إلاّ حدّا واحدا بجميع الأفعال‏.‏

ولأنّ الجزية وجبت بدلاً عن حقن الدّم في المستقبل، فإذا صار دمه محقونا في السّنة الماضية، فلا تؤخذ الجزية لأجلها، لانعدام الحاجة إلى ذلك، كما إذا أسلم أو مات تسقط عنه الجزية، لعدم الحاجة إلى الحقن بالجزية، ولأنّ الجزية ما وجبت إلاّ لرجاء الإسلام، وإذا لم يوجد حتّى دخلت سنة أخرى انقطع الرّجاء فيما مضى، وبقي الرّجاء في المستقبل فيؤخذ للسّنة المستقبلة‏.‏

الرّابع‏:‏ طروء الإعسار‏:‏

74 - الإعسار‏:‏ ضيق الحال من جهة عدم المال‏.‏

وقد اختلف العلماء في ذلك‏:‏ فذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّ الجزية تسقط عن الذّمّيّ بالإعسار الطّارئ سواء أطرأ عليه الإعسار في أثناء الحول أم بعد انتهائه‏.‏

وبشرط أن يكون قد أعسر أكثر الحول، لأنّ الإعسار مانع من وجوب الجزية ابتداء‏.‏

والمذهب عند الشّافعيّة أنّ الجزية لا تسقط عن الذّمّيّ بالإعسار الطّارئ لأنّهم لا يعتبرون الإعسار مانعاً من وجوب الجزية ابتداء‏.‏

وإذا كان ذلك كذلك فلا تسقط الجزية عنه، وتعتبر ديناً في ذمّته، ويمهل إلى وقت يسار يتمكّن فيه من الأداء‏.‏ أخذا بعموم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيسَرةٍ‏}‏‏.‏

وذهب الحنابلة إلى أنّ الجزية تسقط عن الذّمّيّ بالإعسار في أثناء الحول لأنّ الجزية لا تجب، ولا تؤخذ قبل كمال الحول، أمّا إذا كان الإعسار بعد انتهاء الحول، فلا تسقط عنه الجزية، وتصبح دينا في ذمّته، وينظر ويمهل إلى وقت يسار يتمكّن فيه من الأداء‏.‏

الخامس‏:‏ التّرهّب والانعزال عن النّاس‏:‏

75 - إذا ترهّب الذّمّيّ بعد عقد الذّمّة، فانعزل عن النّاس وانقطع للعبادة في الأديرة والصّوامع، فهل تسقط عنه الجزية اختلف العلماء في ذلك‏:‏

فذهب الحنفيّة وابن القاسم من المالكيّة إلى أنّ الجزية تسقط بالتّرهّب، لأنّه مانع من وجوب الجزية ابتداء فأشبه العجز والجنون، فتسقط عنه مطلقا ولو متجمّدة عن سنين‏.‏

وذهب الشّافعيّة والأخوان ‏"‏ مطرّف وابن الماجشون ‏"‏ من المالكيّة إلى أنّ الجزية لا تسقط بالتّرهّب الطّارئ، لأنّه لا يعتبر مانعاً من وجوب الجزية ابتداء، فلا يعتبر عذراً لإسقاط الجزية عمّن وجبت عليه‏.‏ وعلّله الأخوان من المالكيّة بأنّه قد يتّخذه وسيلة للتّهرّب من أداء الجزية، فلا تسقط الجزية به‏.‏

وذهب الحنابلة إلى أنّ التّرهّب الطّارئ لا يسقط الجزية بعد انتهاء الحول، وتصبح دينا في ذمّته‏.‏

أمّا إذا ترهّب أثناء الحول فتسقط عنه الجزية، لأنّها لا تجب ولا تؤخذ قبل كمال الحول‏.‏ وقالوا‏:‏ المراد بالرّاهب الّذي تسقط عنه الجزية، هو من لا يبقى بيده مال إلاّ بلغته فقط ويؤخذ ممّا بيده زائداً على ذلك، وأمّا الرّهبان الّذين يخالطون النّاس ويتّخذون المتاجر والمزارع فحكمهم كسائر النّصارى تؤخذ منهم الجزية اتّفاقاً‏.‏

السّادس‏:‏ الجنون‏:‏

76 - إذا أصيب الذّمّيّ - بعد الالتزام بالجزية - بالجنون فقد اختلف الفقهاء في ذلك‏:‏ ذهب الحنفيّة والمالكيّة وهو قول للشّافعيّة إلى سقوطها بالجنون الطّارئ إذا استمرّ أكثر العام، لأنّه يمنع وجوب الجزية ابتداء - كما بيّنّا في شروط وجوب الجزية -‏.‏

وذهب الشّافعيّة في المعتمد عندهم إلى أنّ الجنون الطّارئ إن كان يسيراً كساعة من شهر أو يوم من سنة فلا تسقط‏.‏

وإن كان كثيراً كيوم إفاقة ويوم جنوناً فإنّ الإفاقة تلفّق فإذا بلغت سنة وجبت الجزية‏.‏

أمّا الجزية المستقرّة في الذّمّة فلا تسقط بالجنون طبقا لمذهبهم في عدم تداخل الجزية كما سبق في ‏(‏ف /73‏)‏‏.‏

وذهب الحنابلة وهو قول للشّافعيّة إلى أنّ الجنون الطّارئ لا يسقط الجزية إذا كان بعد انتهاء الحول‏.‏ أمّا إذا طرأ الجنون في أثناء الحول فتسقط الجزية، لأنّها لا تجب ولا تؤخذ قبل كمال الحول‏.‏ وفي قول للشّافعيّة وهو الرّابع عندهم أنّها تسقط ولا تجب‏.‏

السّابع‏:‏ العمى والزّمانة والشّيخوخة‏:‏

77 - اختلف الفقهاء في ذلك تبعا لاختلافهم في اشتراط السّلامة من العاهات المزمنة الّتي سبق الكلام عنها في شروط الجزية‏.‏

فذهب الحنفيّة إلى أنّ الجزية تسقط بهذه العاهات، سواء أكان ما أصيب به في أثناء الحول أم بعد انتهائه، واشترطوا أن تكون إصابته بإحدى تلك العاهات أكثر السّنة، وهو مقابل المذهب عند الشّافعيّة مطلقاً‏.‏

وذهب المالكيّة وأبو يوسف من الحنفيّة إلى أنّ الجزية لا تسقط عن الذّمّيّ الّذي أصيب بإحدى تلك العاهات إلاّ إذا كان فقيراً غير قادر على أداء الجزية‏.‏

وذهب الشّافعيّة إلى أنّ الجزية لا تسقط عن الذّمّيّ الّذي أصيب بإحدى تلك العاهات، لأنّها لا تعتبر مانعا من وجوب الجزية ابتداء‏.‏

وذهب الحنابلة إلى أنّها لا تسقط عن الذّمّيّ بعد تمام الحول، أمّا إذا أصيب بإحدى العاهات السّابقة أثناء الحول، فتسقط عنه الجزية، لأنّها لا تجب إلاّ بكمال الحول‏.‏

الثّامن‏:‏ عدم حماية أهل الذّمّة‏:‏

78 - على المسلمين في مقابل الجزية توفير الحماية لأهل الذّمّة، والذّبّ عنهم، ومنع من يقصدهم بالاعتداء من المسلمين والكفّار، واستنقاذ من أسر منهم، واسترجاع ما أخذ من أموالهم سواء أكانوا يعيشون مع المسلمين أم كانوا منفردين في بلد لهم‏.‏

فإن لم تتمكّن الدّولة الإسلاميّة من حمايتهم والدّفع عنهم حتّى مضى الحول، فهل يطالبون بالجزية أم تسقط عنهم ‏؟‏

صرّح الشّافعيّة بأنّ الجزية تسقط عن أهل الذّمّة إذا لم تتمكّن الدّولة من حماية الذّمّيّين‏.‏ لأنّهم بذلوا الجزية، لحفظهم وحفظ أموالهم، فإن لم تدفع الدّولة عنهم، لم تجب الجزية عليهم، لأنّ الجزية للحفظ وذلك لم يوجد، فلم يجب ما في مقابلته، كما لا تجب الأجرة إذا لم يوجد التّمكين من المنفعة‏.‏

ولم نجد لغير الشّافعيّة تصريحاً بالسّقوط إذا لم تحصل الحماية مع قولهم بوجوب الحماية‏.‏ وقد ذكر أبو يوسف عن أبي عبيدة بن الجرّاح أنّه عندما أعلمه نوّابه على مدن الشّام بتجمّع الرّوم لمقاتلة المسلمين كتب إليهم أن ردّوا الجزية على من أخذتموها منه، وأمرهم أن يقولوا لهم‏:‏ إنّما رددنا عليكم أموالكم، لأنّه قد بلغنا ما جمع لنا من الجموع، وأنّكم اشترطتم علينا أن نمنعكم، وإنّا لا نقدر على ذلك، وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم، ونحن لكم على الشّروط ما كتبنا بيننا وبينكم إن نصرنا اللّه عليهم‏.‏

وقال البلاذريّ‏:‏ حدّثني أبو حفص الدّمشقيّ قال‏:‏ حدّثنا سعيد بن عبد العزيز قال‏:‏ ‏"‏ بلغني أنّه لمّا جمع هرقل للمسلمين الجموع، وبلغ المسلمين إقبالهم إليهم لوقعة اليرموك ردّوا على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الخراج‏.‏ وقالوا‏:‏ قد شغلنا عن نصرتكم والدّفع عنكم، فأنتم على أمركم، فقال أهل حمص‏:‏ لولايتكم وعدلكم أحبّ إلينا ممّا كنّا فيه من الظّلم والغشم‏.‏ ولندفعنّ جند هرقل عن المدينة مع عاملكم، ونهض اليهود فقالوا‏:‏ والتّوراة لا يدخل عامل هرقل مدينة حمص إلاّ أن نغلب ونجهد فأغلقوا الأبواب وحرسوها ‏"‏‏.‏

وكذلك فعل أهل المدن الّتي صولحت من النّصارى واليهود‏.‏ وقالوا‏:‏ إن ظهر الرّوم وأتباعهم على المسلمين صرنا إلى ما كنّا عليه، وإلاّ فإنّا على أمرنا ما بقي للمسلمين عدد، فلمّا هزم اللّه الكفرة وأظهر المسلمين فتحوا مدنهم وأخرجوا المقلّسين، فلعبوا وأدّوا الخراج‏.‏ وجاء في كتاب صلح حبيب بن مسلمة مع أهل تفليس‏:‏ ‏"‏‏.‏‏.‏‏.‏ وإن عرض للمسلمين شغل عنكم فقهركم عدوّكم فغير مأخوذين بذلك ‏"‏‏.‏

هذه السّوابق التّاريخيّة حدثت في عصر الصّحابة رضوان الله عليهم، وعلموا بها وسكتوا عنها، فيعتبر إجماعاً سكوتيّاً‏.‏

وقد نقل الإجماع على ذلك ابن حزم حيث قال في مراتب الإجماع‏:‏ ‏"‏ إنّ من كان في الذّمّة، وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسّلاح، ونموت دون ذلك، صونا لمن هو في ذمّة اللّه تعالى وذمّة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإنّ تسليمه دون ذلك إهمال لعقد الذّمّة ‏"‏ وحكي في ذلك إجماع الأمّة‏.‏

التّاسع‏:‏ اشتراك الذّمّيّين في القتال مع المسلمين‏:‏

79 - صرّح بعض الفقهاء بأنّ الجزية لا تسقط عن الذّمّيّين بالاشتراك في القتال مع المسلمين‏.‏ قال الشّلبيّ في حاشيته على شرح كنز الدّقائق‏:‏ ‏"‏ ألا ترى أنّ الإمام لو استعان بأهل الذّمّة سنة، فقاتلوا معه لا تسقط عنهم جزية تلك السّنة، لأنّه يلزم حينئذ تغيير المشروع، وليس للإمام ذلك، وهذا لأنّ الشّرع جعل طريق النّصرة في حقّ الذّمّيّ المال دون النّفس‏.‏ وكره المالكيّة الاستعانة بأهل الذّمّة في القتال‏.‏

فقال الباجيّ في المنتقى‏:‏ ‏"‏ الجهاد أن يقاتل النّاس حتّى يقولوا لا إله إلاّ اللّه والمشرك لا يقاتل لذلك، ولأنّه ممّن يلزم أن يقاتل عنه وتمنع الاستعانة به في الحرب وإن استعين به في الأعمال والصّنائع والخدمة‏.‏

والأصل في ذلك ما روي عن عائشة رضي الله عنها‏:‏ «إنّا لا نستعين بمشرك»‏.‏

وانظر بحث‏:‏ ‏(‏جهاد‏)‏ - الاستعانة بالكفّار‏.‏

مصارف الجزية

80 - اتّفق الفقهاء على أنّ الجزية تصرف في مصارف الفيء، حتّى رأى كثير منهم أنّ اسم الفيء شامل للجزية‏.‏ ويصرف الفيء في مصالح المسلمين العامّة ومرافق الدّولة الهامّة‏:‏ كأرزاق المجاهدين وذراريّهم وسدّ الثّغور، وبناء الجسور، والمساجد والقناطر، وإصلاح الأنهار الّتي لا مالك لها، ورواتب الموظّفين من القضاة والمدرّسين والعلماء والمفتين والعمّال وغير ذلك‏.‏

وفي تقدير ذلك وما يراعى فيه يراجع مصطلح‏:‏ ‏(‏بيت المال، وفيء‏)‏‏.‏