فصل: رهن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


رهن

التّعريف

1 - الرّهن في اللّغة‏:‏ الثّبوت والدّوام، يقال‏:‏ ماء راهن أي‏:‏ راكد ودائم، ونعمة راهنة أي‏:‏ ثابتة دائمة‏.‏ ويأتي بمعنى الحبس‏.‏ ومن هذا المعنى‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كلّ امرئٍ بما كسب رهين‏}‏ وحديث‏:‏ ‏{‏نفس المؤمن مرهونة - أي محبوسة - بدينه حتّى يقضى عنه دينه‏}‏‏.‏ وشرعًا‏:‏ جعل عينٍ ماليّةٍ وثيقةً بدينٍ يستوفى منها أو من ثمنها إذا تعذّر الوفاء‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

الضّمان‏:‏

2 - وهو في اللّغة الالتزام‏.‏ وشرعًا هو التزام بحقٍّ ثابتٍ في ذمّة الغير، أو بإحضار من عليه الحقّ، ويسمّى الملتزم ضامنًا، وكفيلًا، وقال الماورديّ‏:‏ إنّ العرف جارٍ باستعمال لفظ الضّمان في الأموال والكفالة في النّفوس‏.‏ والفرق بينهما‏:‏ أنّ كلًّا من الرّهن والضّمان عقد وثيقةٍ للدّين، لكنّ الضّمان يكون ضمّ ذمّةٍ إلى ذمّةٍ في المطالبة، أمّا الرّهن فلا بدّ من تقديم عينٍ ماليّةٍ يستوفى منها الدّين عند عدم القدرة على الوفاء‏.‏

مشروعيّة الرّهن

3 - الأصل في مشروعيّة الرّهن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن كنتم على سفرٍ ولم تجدوا كاتبًا فرهان مقبوضة‏}‏، والمعنى‏:‏ فارهنوا، واقبضوا، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فتحرير رقبةٍ‏}‏‏.‏ وخبر ‏{‏أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ اشترى طعامًا من يهوديٍّ إلى أجلٍ ورهنه درعًا من حديدٍ‏}‏‏.‏ وقد أجمعت الأمّة على مشروعيّة الرّهن، وتعاملت به من لدن عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، ولم ينكره أحد‏.‏

الحكم التّكليفيّ

4 - الرّهن جائز وليس واجبًا‏.‏ وقال صاحب المغني‏:‏ لا نعلم خلافًا في ذلك، لأنّه وثيقة بدينٍ، فلم يجب كالضّمان، والكفالة‏.‏ والأمر الوارد به أمر إرشادٍ، لا أمر إيجابٍ، بدليل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن أمن بعضكم بعضًا فليؤدّ الّذي اؤتمن أمانته‏}‏ ولأنّه أمر بعد تعذّر الكتابة، والكتابة غير واجبةٍ، فكذلك بدلها‏.‏

جواز الرّهن في الحضر

5 - الرّهن في الحضر جائز جوازه في السّفر، ونقل صاحب المغني عن ابن المنذر أنّه قال‏:‏ لا نعلم أحدًا خالف ذلك إلاّ مجاهدًا، وقال القرطبيّ‏:‏ وخالف فيه الضّحّاك أيضًا‏.‏ واستدلّوا بخبر‏:‏ ‏{‏أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ توفّي ودرعه مرهونة عند يهوديٍّ بثلاثين صاعًا من شعيرٍ‏}‏ ‏"‏ ولأنّها وثيقة تجوز في السّفر، فجازت في الحضر كالضّمان، وقد تترتّب الأعذار في الحضر أيضًا فيقاس على السّفر‏.‏ والتّقييد بالسّفر في الآية خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له، لدلالة الأحاديث على مشروعيّته في الحضر، وأيضًا السّفر مظنّة فقد الكاتب، فلا يحتاج إلى الرّهن غالبًا إلاّ فيه‏.‏

أركان الرّهن

أ - ما ينعقد به الرّهن‏:‏

6 - ينعقد الرّهن بالإيجاب والقبول وهذا محلّ اتّفاقٍ بين الفقهاء، واختلفوا في انعقاده بالمعاطاة، فذهب الشّافعيّة في المعتمد إلى أنّ الرّهن لا ينعقد إلاّ بإيجابٍ وقبولٍ قوليّين كالبيع‏.‏ وقالوا‏:‏ لأنّه عقد ماليّ فافتقر إليهما‏.‏ ولأنّ الرّضا أمر خفيّ لا اطّلاع لنا عليه فجعلت الصّيغة دليلًا على الرّضا، فلا ينعقد بالمعاطاة، ونحوه‏.‏ وقال المالكيّة والحنابلة‏:‏ إنّ الرّهن ينعقد بكلّ ما يدلّ على الرّضا عرفًا فيصحّ بالمعاطاة، والإشارة المفهمة، والكتابة، لعموم الأدلّة كسائر العقود، ولأنّه لم ينقل عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولا عن أحدٍ من الصّحابة استعمال إيجابٍ وقبولٍ في معاملاتهم، ولو استعملوا ذلك لنقل إلينا شائعًا، ولم يزل المسلمون يتعاملون في عقودهم بالمعاطاة‏.‏ ويشترط في الصّيغة ما يشترط في صيغة البيع‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ بيع‏)‏‏.‏

ب - ‏(‏العاقد‏)‏‏:‏

7 - شرط في كلٍّ من الرّاهن والمرتهن أن يكون مطلق التّصرّف في المال بأن يكون عاقلًا بالغًا رشيدًا، غير محجورٍ من التّصرّف، فأمّا الصّبيّ، والمجنون، والمحجور عليه في التّصرّف الماليّ فلا يصحّ منه الرّهن، ولا الارتهان لأنّه عقد على المال فلم يصحّ منهم‏.‏ والرّهن نوع تبرّعٍ‏;‏ لأنّه حبس مالٍ بغير عوضٍ فلم يصحّ إلاّ من أهل التّبرّع، فيصحّ رهن البالغ العاقل الرّشيد ماله، أو مال مولّيه بشرط وقوعه على وجه الغبطة الظّاهرة، فيكون بها مطلق التّصرّف في مال مولّيه، بأن تكون في رهنه إيّاه غبطة ظاهرة أو ضرورة‏.‏ وصرّح الحنفيّة بأنّ الصّبيّ المأذون يجوز له الرّهن والارتهان‏;‏ لأنّ الرّهن من توابع التّجارة فيملكه من يملك التّجارة‏.‏ وصرّح المالكيّة بأنّ الصّبيّ المميّز والسّفيه يصحّ رهنهما ويكون موقوفًا على إجازة الوليّ‏.‏

ج - ‏(‏المرهون به‏)‏‏:‏

8 - اتّفق الفقهاء على أنّه يجوز أخذ الرّهن بكلّ حقٍّ لازمٍ في الذّمّة، أو آيلٍ إلى اللّزوم، ثمّ اختلفوا في بعض التّفاصيل‏.‏ فقال الشّافعيّة‏:‏ يشترط فيما يجوز أخذ الرّهن به ثلاثة شروطٍ‏:‏

1 - أن يكون دينًا، فلا يصحّ أخذ الرّهن بالأعيان مضمونةً كانت أو أمانةً، وسواء كان ضمان العين بحكم العقد أو بحكم اليد، كالمستعار، والمأخوذ بالسّوم، والمغصوب، والأمانات الشّرعيّة كالوديعة ونحوها، وقالوا‏:‏ لأنّ اللّه تعالى ذكر الرّهن في المداينة فلا يثبت في غيرها‏;‏ ولأنّ الأعيان لا تستوفى من ثمن المرهون، وذلك مخالف لقرض الرّهن عند بيعه‏.‏

2 - أن يكون الدّين ثابتًا، فلا يصحّ أخذ الرّهن بما ليس بثابتٍ، وإن وجد سبب وجوبه، فلا يصحّ بما سيقرضه غدًا، أو نفقة زوجته غدًا‏;‏ لأنّ الرّهن وثيقة حقٍّ فلا يتقدّم عليه، وهو رأي الحنابلة‏.‏

3 - أن يكون الدّين لازمًا أو آيلًا إلى اللّزوم، فلا يصحّ بجعل الجعالة قبل الفراغ من العمل‏;‏ لأنّه لا فائدة في الوثيقة مع تمكّن المديون من إسقاطها‏.‏ فيصحّ عندهم أخذ الرّهن بكلّ حقٍّ لازمٍ في الذّمّة ثابتٍ غير معرّضٍ للإسقاط من الرّاهن، كدين السّلم، وعوض القرض، وثمن المبيعات، وقيم المتلفات، والمهر، وعوض الخلع غير المعيّنين، والدّية على العاقلة بعد حلول الحول، والأجرة في إجارة العين‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ يجوز أخذ الرّهن بجميع الأثمان الواقعة في جميع البيوعات، إلاّ الصّرف، ورأس مال السّلم‏;‏ لأنّه يشترط فيهما التّقابض في المجلس، ويجوز أخذ الرّهن بدين السّلم والقرض، والمغصوب، وقيم المتلفات، وأرش الجنايات في الأموال، وجراح العمد الّذي لا قود فيه كالمأمومة، والجائفة، وارتهان قبل الدّين من قرضٍ أو بيعٍ، وما يلزم المستأجر من الأجرة بسبب عملٍ يعمله الأجير له بنفسه أو دابّته، وما يلزم بسبب جعالةٍ ما يلزم بالعاريّة المضمونة‏.‏ وقال الحنفيّة‏:‏ يجوز أخذ الرّهن بعوض القرض وإن كان قبل ثبوته، بأن يرهنه ليقرضه مبلغًا من النّقود في الشّهر القادم، فإن هلك الرّهن في يد المرتهن كان مضمونًا بما وعد من الدّين، وبرأس مال السّلم، وثمن الصّرف، والمسلّم فيه، فإن هلك الرّهن في المجلس تمّ الصّرف والسّلم، وصار المرتهن مستوفيًا حقّه حكمًا، وإن افترقا قبل نقدٍ ‏(‏قبضٍ‏)‏ أو هلاكٍ بطلا‏.‏ ويجوز الرّهن بالأعيان المضمونة بعينها كالمغصوبة، وبدل الخلع، والصّداق، وبدل الصّلح عن دم العمد‏;‏ لأنّ الضّمان متقرّر، فإنّه إن كان قائمًا وجب تسليمه، وإن كان هالكًا تجب قيمته، فكان رهنًا بما هو مضمون‏.‏ أمّا الأعيان المضمونة بغيرها كالمبيع في يد البائع، والأمانات الشّرعيّة كالودائع، والعواريّ، والمضاربات، ومال الشّركة، فلا يجوز أخذ الرّهن بها‏.‏ وقال الحنابلة‏:‏ يصحّ الرّهن بكلّ دينٍ واجبٍ أو مآله إلى الوجوب، كقرضٍ، وقيمة متلفٍ، وثمنٍ في مدّة الخيار، وعلى العين المضمونة كالمغصوب والعواريّ، والمقبوض على وجه السّوم، والمقبوض بعقدٍ فاسدٍ‏.‏ لأنّ المقصود من الرّهن الوثيقة بالحقّ، وهو حاصل، فإنّ الرّهن بهذه الأعيان يحمل الرّاهن على أدائها، فإن تعذّر أداؤها استوفى بدلها من ثمن الرّهن، فأشبهت ما في الذّمّة‏.‏ ويجوز أخذ الرّهن على منفعةٍ إجارةً في الذّمّة، كمن استؤجر لبناء دارٍ، وحمل شيءٍ معلومٍ إلى محلٍّ معيّنٍ، فإن لم يعمل الأجير العمل بيع الرّهن، واستؤجر منه من يعمله‏.‏ ويجوز أخذ الرّهن بديةٍ على عاقلةٍ بعد حلول الحول لوجوبها، أمّا قبل حلول الحول فلا يصحّ لعدم وجوبها‏.‏ ولا يجوز أخذ الرّهن على جعل الجعالة قبل العمل، ولا على عوض مسابقةٍ قبل العمل لعدم وجوب ذلك، ولا يتحقّق أنّه يئول إلى الوجوب‏.‏ وبعد العمل جاز فيهما‏.‏ ولا يصحّ أخذ الرّهن بعوضٍ غير ثابتٍ في الذّمّة كالثّمن المعيّن كقطعةٍ من الذّهب جعلت بعينها ثمنًا‏.‏ والأجرة المعيّنة في الإجارة، والمنفعة المعيّنة المعقود عليها في الإجارة، كدارٍ معيّنةٍ، ودابّةٍ معيّنةٍ، لحمل شيءٍ معيّنٍ إلى مكان معلومٍ‏;‏ لأنّ الذّمّة لم يتعلّق بها في هذه الصّور حقّ واجب، ولا يئول إلى الوجوب‏;‏ ولأنّ الحقّ يتعلّق بأعيان هذه الأشياء‏.‏

د - ‏(‏المرهون‏)‏‏:‏

9 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّه يجوز رهن كلّ متموّلٍ يمكن أخذ الدّين منه، أو من ثمنه عند تعذّر وفاء الدّين من ذمّة الرّاهن‏.‏ ثمّ اختلفوا في بعض التّفاصيل‏.‏ فقال الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ إنّ كلّ عينٍ جاز بيعها جاز رهنها، لأنّ المقصود من الرّهن أن يباع ويستوفى الحقّ منه إذا تعذّر استيفاؤه من ذمّة الرّاهن، وهذا يتحقّق في كلّ عينٍ جاز بيعها، ولأنّ ما كان محلًّا للبيع كان محلًّا لحكمة الرّهن، فيصحّ عندهم بيع المشاع سواء رهن عند شريكه أم عند غيره قبل القسمة أم لم يقبلها، وما لا يصحّ بيعه لا يصحّ رهنه، فلا يصحّ رهن المسلم، أو ارتهانه كلبًا، أو خنزيرًا، أو خمرًا‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ يجوز رهن ما فيه غرر يسير، كبعيرٍ شاردٍ، وثمرٍ لم يبد صلاحه، لأنّ للمرتهن دفع ماله بغير وثيقةٍ، فساغ أخذه بما فيه غرر، لأنّه شيء في الجملة وهو خير من لا شيءٍ، بخلاف ما فيه غرر شديد كالجنين، وزرعٍ لم يخلق‏.‏ واشترط الحنفيّة في المرهون ما يلي‏:‏

1 - أن يكون محوزًا أي مقسومًا، فلا يجوز رهن المشاع‏.‏

2 - وأن يكون مفرغًا عن ملك الرّاهن، فلا يجوز رهن مشغول بحقّ الرّاهن، كدارٍ فيها متاعه‏.‏

3 - وأن يكون مميّزًا، فلا يجوز رهن المتّصل بغيره اتّصال خلقةٍ كالثّمر على الشّجر بدون الشّجر، لأنّ المرهون متّصل بغير المرهون خلقةً فصار كالشّائع‏.‏

رهن المستعار

10 - لا يشترط أن يكون المرهون ملكًا للرّاهن، فيصحّ رهن المستعار بإذن المعير باتّفاق الفقهاء‏.‏ ونقل صاحب المغني عن ابن المنذر إجماع أهل العلم على جواز الاستعارة للرّهن، لأنّه توثّق، وهو يحصل بما لا يملكه الرّاهن بدليل صحّة الإشهاد والكفالة، ولأنّ للمعير أن يلزم ذمّته دين غيره، فيملك أن يلزم عين ماله‏;‏ لأنّ كلًّا منهما محلّ حقّه، وتصرّفه‏.‏

شروط صحّة رهن المستعار للرّهن

11 - يشترط في عقد العاريّة للرّهن‏:‏ ذكر قدر الدّين، وجنسه وصفته، وحلوله وتأجيله، والشّخص المرهون عنده، ومدّة الرّهن لأنّ الغرر يختلف بذلك فاحتيج إليه‏.‏ وإلى هذا ذهب الشّافعيّة، وهو قول عند الحنابلة‏.‏ وقال الحنفيّة والحنابلة، وهو مقتضى كلام المالكيّة‏:‏ لا يجب ذكر شيءٍ من ذلك في العقد، فإن أطلق ولم يقيّد بشيءٍ صحّ العقد، وللرّاهن أن يرهن بما شاء‏;‏ لأنّ الإطلاق واجب الاعتبار خصوصًا في الإعارة‏;‏ لأنّ الجهالة لا تفضي فيها إلى المنازعة‏;‏ لأنّ مبناها على المسامحة، والمالك قد رضي بتعلّق دين المستعير بماله، وهو يملك ذلك كما يملك تعلّقه بذمّته بالكفالة‏.‏ وإن شرط شيئًا ممّا ذكر فخالف المستعير لم يصحّ الرّهن باتّفاق الفقهاء‏;‏ لأنّه لم يؤذن له في هذا الرّهن، فأشبه من لم يؤذن له في أصل الرّهن‏.‏ إلاّ أن يخالف إلى خيرٍ منه، كأن يؤذن له بقدرٍ، ويرهن بأقلّ منه فيصحّ‏;‏ لأنّ من رضي بقدرٍ فقد رضي بما دونه‏.‏

ضمان المستعار

12 - اختلف الفقهاء في ضمان العين المستعارة للرّهن، وفيمن يضمنها‏.‏ فذهب الشّافعيّة والحنابلة، وهو مقتضى كلام المالكيّة إلى أنّ الأصل في العين المستعارة للرّهن الضّمان، ثمّ قال الشّافعيّة‏:‏ إذا هلكت في يد المستعير قبل أن يرهنها ضمن‏;‏ لأنّه مستعير، والعاريّة مضمونة‏.‏ وإن تلفت بعد قبض المرتهن بلا تعدٍّ ولا تفريطٍ فلا ضمان عليهما، ولا يسقط الحقّ عن ذمّة الرّاهن‏.‏ لأنّ المرتهن أمين‏;‏ ولأنّ العقد عقد ضمانٍ أي ضمان الدّين على رقبة المرهون، فتكون يد المرتهن يد أمانةٍ بعد الرّهن، فلا ضمان بالتّعدّي‏.‏ وقال الحنابلة‏:‏ إنّ الاستعارة للرّهن عقد ضمانٍ، فيضمن الرّاهن المرهون إن هلكت، بتفريطٍ أو بغير تفريطٍ‏;‏ لأنّ العقد لا يخرج عن أن يكون عقد عاريّةٍ والعاريّة مضمونة، فيضمن المستعير وهو الرّاهن‏.‏ وقال الحنفيّة‏:‏ إنّ يد المستعير للرّهن يد أمانةٍ، فلا يضمن العين المستعارة للرّهن إن هلكت قبل رهنه أو بعد فكّه، وإن استخدمه أو ركبه من قبل‏;‏ لأنّه أمين خالف ثمّ عاد إلى الوفاق، أمّا المرتهن فيده يد ضمانٍ، فإذا هلكت العين المستعارة للرّهن في يده صار مستوفيًا حقّه ووجب للمعير على المستعير الرّاهن مثل الدّين‏.‏

لزوم الرّهن

13 - اختلف الفقهاء فيما يلزم به الرّهن‏:‏ فذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ عقد الرّهن لا يلزم إلاّ بالقبض والإقباض من جائز التّصرّف، وللرّاهن الرّجوع عنه قبل القبض لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فرهان مقبوضة‏}‏‏.‏ فلو لزم عقد الرّهن بدون قبضٍ لما كان للتّقييد به فائدة‏;‏ ولأنّه عقد إرفاقٍ يفتقر إلى القبول فافتقر إلى القبض‏.‏ وقال بعض أصحاب أحمد‏:‏ إن كان المرهون مكيلًا أو موزونًا لا يلزم رهنه إلاّ بالقبض، وفيما عداهما روايتان عن أحمد إحداهما‏:‏ لا يلزم إلاّ بالقبض، والأخرى‏:‏ يلزم بمجرّد العقد كالبيع‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ يلزم عقد الرّهن بالعقد، ثمّ يجبر الرّاهن على التّسليم للمرتهن، لأنّه عقد يلزم بالقبض، فيلزم بالعقد قبله كالبيع‏.‏ هذا، وإذا شرط الرّهن أو الكفيل في عقدٍ ما ثمّ لم يف الملتزم بالشّرط فللآخر الفسخ‏.‏

رهن العين عند من هي بيده

14 - إذا كانت العين المرهونة بيد المرتهن عاريّةً أو وديعةً، أو مغصوبةً، فرهنها منه صحّ الرّهن باتّفاق الفقهاء، لأنّه ماله، له أخذه فصحّ رهنه كما لو كان بيده‏.‏ ويلزم الرّهن في الصّور السّابقة بالعقد من غير احتياجٍ إلى أمرٍ زائدٍ‏;‏ لأنّ اليد ثابتة، والقبض حاصل، فلم يحتج إلى إقباضٍ، وإلى هذا ذهب الحنفيّة والحنابلة‏.‏ وقال الشّافعيّة يشترط فيه الإقباض، أو الإذن به إن كان المرهون حاضرًا، وإن كان المرهون غائبًا عن مجلس العقد يشترط مع إذن القبض مضيّ مدّة إمكان القبض، وقالوا‏:‏ لأنّ اليد كانت عن غير جهة الرّهن، فلم يحصل القبض بها‏.‏ ثمّ على قول الجمهور بعدم الحاجة لتجديد القبض يزول الضّمان بالرّهن‏;‏ لأنّه مأذون في إمساكه رهنًا، ولم يتجدّد منه عدوان، فلم يضمنه كما لو أخذه الرّاهن منه، ثمّ أقبضه أو أبرأه من ضمانه‏;‏ ولأنّ سبب الضّمان‏:‏ الغصب، والإعارة، ولم يعدّ المرتهن غاصبًا أو مستعيرًا‏.‏ وقال الشّافعيّة‏:‏ لا يبرأ الغاصب المرتهن، ولا المستعير عن الضّمان وإن لزم العقد، لأنّه وإن كان الرّهن عقد أمانةٍ‏:‏ الغرض منه التّوثّق - وهو لا ينافي الضّمان - فإنّ المرتهن لو تعدّى في المرهون ضمنه مع بقاء الرّهن، فإذا كان لا يرفع الضّمان فلأن لا يدفعه ابتداءً أولى، وللغاصب إجبار الرّاهن على إيقاع يده على المرهون ‏(‏أي وضع يده عليه‏)‏ ليبرأ من الضّمان، ثمّ يستعيده منه بحكم الرّهن، فإن لم يقبل رفع إلى الحاكم ليأمره بالقبض، فإن امتنع قبضه الحاكم أو مأذونه، ويردّه إلى المرتهن‏.‏

زوائد المرهون، ونماؤه

15 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ زيادة المرهون المتّصلة كالسّمن وكبر الشّجر تتبع الأصل‏.‏ أمّا الزّيادة المنفصلة فقد اختلفوا في حكمها‏.‏ فذهب الشّافعيّة إلى أنّ الزّيادة المنفصلة بأنواعها لا يسري عليها الرّهن‏;‏ لأنّ الرّهن لا يزيل الملك فلم يسر عليها كالإجارة‏.‏ وقال الحنفيّة‏:‏ إنّ نماء المرهون كالولد، والثّمر، واللّبن، والصّوف، ونحو ذلك رهن مع الأصل، بخلاف ما هو بدل عن المنفعة كالأجرة، والصّدقة، والهبة، فلا تدخل في الرّهن، وهي للرّاهن‏.‏ ويقول المالكيّة‏:‏ إنّ ما تناسل من الرّهن، أو نتج منه كالولد يسري إليه الرّهن، وما عدا ذلك من الزّوائد كالصّوف واللّبن، وثمار الأشجار وسائر الغلّات فلا يسري عليها الرّهن‏.‏ وذهب الحنابلة إلى أنّ زوائد العين المرهونة المنفصلة رهن كالأصل، لا فرق بين ما تناسل منها أو نتج منها كالولد، وبين غيره كالأجرة، والثّمر، واللّبن، والصّوف، وقالوا‏:‏ لأنّه حكم ثبت في العين بعقد المالك، فيدخل فيه النّماء والمنافع بأنواعها، كالملك بالبيع وغيره‏;‏ ولأنّ النّماء حادث من عين الرّهن فيدخل فيها كالمتّصل‏.‏ وقالوا في سراية الرّهن على الولد‏:‏ إنّه حكم مستقرّ في الأمّ ثبت برضا المالك فيسري إلى الولد كالتّدبير، والاستيلاد‏.‏

الانتفاع بالمرهون

16 - اختلف الفقهاء في جواز الانتفاع بالمرهون، وفيمن له ذلك‏.‏ فذهب الحنفيّة إلى أنّه ليس للرّاهن ولا للمرتهن الانتفاع بالمرهون مطلقًا، لا بالسّكنى ولا بالرّكوب، ولا غيرهما، إلاّ بإذن الآخر، وفي قولٍ عندهم‏:‏ لا يجوز الانتفاع للمرتهن ولو بإذن الرّاهن‏;‏ لأنّه ربًا، وفي قولٍ‏:‏ إن شرطه في العقد كان ربًا، وإلاّ جاز انتفاعه بإذن الرّاهن‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ غلّات المرهون للرّاهن، وينوب في تحصيلها المرتهن، حتّى لا تجول يد الرّاهن في المرهون، ويجوز للمرتهن الانتفاع بالمرهون بشروطٍ هي‏:‏

1 - أن يشترط ذلك في صلب العقد‏.‏

2 - وأن تكون المدّة معيّنةً‏.‏

3 - ألاّ يكون المرهون به دين قرضٍ‏.‏ فإن لم يشرط في العقد وأباح له الرّاهن الانتفاع به مجّانًا لم يجز‏;‏ لأنّه هديّة مديانٍ، وهي غير جائزةٍ، وكذا إن شرط مطلقًا ولم يعيّن مدّةً للجهالة، أو كان المرهون به دين قرضٍ، لأنّه سلف جرّ نفعًا‏.‏ وفرّق الحنابلة بين المرهون المركوب أو المحلوب وبين غيرهما، وقالوا‏:‏ إن كان المرهون غير مركوبٍ أو محلوبٍ، فليس للمرتهن ولا للرّاهن الانتفاع به إلاّ بإذن الآخر‏.‏ أمّا المرتهن فلأنّ المرهون ونماءه ومنافعه ملك للرّاهن، فليس لغيره أخذها بدون إذنه، وأمّا الرّاهن فلأنّه لا ينفرد بالحقّ، فلا يجوز له الانتفاع إلاّ بإذن المرتهن‏.‏ فإن أذن المرتهن للرّاهن بالانتفاع بالمرهون جاز، وكذا إن أذن الرّاهن للمرتهن بشرط‏:‏

1 - أن لا يكون المرهون به دين قرضٍ‏.‏

2 - وأن لا يأذن بغير عوضٍ، فإن أذن الرّاهن للمرتهن بالانتفاع بغير عوضٍ، وكان المرهون به دين قرضٍ، فلا يجوز له الانتفاع به‏;‏ لأنّه قرض جرّ نفعًا، وهو حرام، أمّا إن كان المرهون بثمن مبيعٍ أو أجرة دارٍ، أو دين غير القرض جاز للمرتهن الانتفاع بإذن الرّاهن، وكذا إن كان الانتفاع بعوضٍ، كأن يستأجر الدّار المرهونة من الرّاهن بأجرة مثلها في غير محاباةٍ‏;‏ لأنّه لم ينتفع بالقرض بل بالإجارة، وإن شرط في صلب العقد أن ينتفع بها المرتهن فالشّرط فاسد‏;‏ لأنّه ينافي مقتضى العقد‏.‏ أمّا المركوب، والمحلوب، فللمرتهن أن ينفق عليه، ويركب، ويحلب بقدر نفقته متحرّيًا العدل - من غير استئذانٍ من الرّاهن بالإنفاق، أو الانتفاع - سواء تعذّر إنفاق الرّاهن أم لم يتعذّر‏.‏ واستدلّوا بحديث ‏{‏الظّهر يركب بنفقته إذا كان مرهونًا، ولبن الدّرّ يشرب بنفقته إذا كان مرهونًا، وعلى الّذي يركب ويشرب النّفقة‏}‏‏.‏ وقالوا‏:‏ إنّ قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏بنفقته‏}‏ يشير إلى الانتفاع بعوض النّفقة، ويكون هذا في حقّ المرتهن، أمّا الرّاهن فإنفاقه وانتفاعه ليسا بسبب الرّكوب وشرب الدّرّ، بل بسبب الملك‏.‏ فإن لم يتّفقا على الانتفاع بالعين المرهونة في غيرهما لم يجز الانتفاع بها، فإن كان دارًا أغلقت، وإن كانت حيوانًا تعطّلت منافعه حتّى يفكّ الرّهن‏.‏ وقال الشّافعيّة‏:‏ ليس للمرتهن في المرهون إلاّ حقّ الاستيثاق فيمنع من كلّ تصرّفٍ أو انتفاعٍ بالعين المرهونة، أمّا الرّاهن فله عليها كلّ انتفاعٍ لا ينقص القيمة كالرّكوب ودرّ اللّبون، والسّكنى والاستخدام، لحديث‏:‏ ‏{‏الظّهر يركب بنفقته إذا كان مرهونًا‏}‏، وحديث‏:‏ ‏{‏الرّهن مركوب ومحلوب‏}‏‏.‏ وقيس على ذلك ما أشبهه من الانتفاعات‏.‏ أمّا ما ينقص القيمة كالبناء على الأرض المرهونة والغرس فيها فلا يجوز له إلاّ بإذن المرتهن‏;‏ لأنّ الرّغبة تقلّ بذلك عند البيع‏.‏

تصرّف الرّاهن في المرهون

17 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّه ليس للرّاهن التّصرّف في المرهون بعد لزوم العقد بما يزيل الملك كالبيع، والهبة والوقف، أو يزحم المرتهن في مقصود الرّهن، كالرّهن عند آخر، أو يقلّل الرّغبة في المرهون، إلاّ بإذن المرتهن‏.‏ فإن تصرّف بما ذكر فتصرّفه موقوف على إجازة المرتهن، لأنّه تصرّف يبطل حقّ المرتهن في الوثيقة، فلم يصحّ بغير إذنه، فإن أذن له صحّ التّصرّف، وبطل الرّهن إن كان التّصرّف ممّا ليس فيه للمرهون بدل كالوقف، والهبة، ويسقط حقّ المرتهن في حبس المرهون‏.‏ لأنّ المنع كان لحقّه وقد زال بإذنه‏.‏ وإن كان للمرهون بدل كالبيع ففيه تفصيل‏:‏ فإن كان الإذن مطلقًا، والدّين مؤجّلًا صحّ البيع وبطل الرّهن لخروج المرهون من ملك الرّاهن بإذن المرتهن، ولا يحلّ ثمن العين المرهونة محلّها لعدم حلول الدّين‏.‏ أمّا إذا كان حالًّا عند الإذن قضى حقّ المرتهن من ثمن المرهون، وحمل إذنه على البيع من غرضه لمجيء وقته‏;‏ ولأنّ مقتضى الرّهن بيعه والاستيفاء منه، ولا يبطل الرّهن، فيكون الرّاهن محجورًا في ثمن المرهون إلى وفاء الدّين‏.‏ وإن شرط في الإذن أن يقضى الدّين من ثمن المرهون صحّ البيع للإذن، ولغا الشّرط‏;‏ لأنّ التّأجيل أخذ قسطًا من الثّمن وهو لا يجوز، ويكون الثّمن رهنًا مكان المرهون‏;‏ لأنّ المرتهن لم يأذن في البيع إلاّ طامعًا في وفاء الدّين من ثمنه فلم يسقط حقّه منه مطلقًا، وإلى هذا ذهب الحنابلة‏.‏ وقال الشّافعيّة‏:‏ إن شرط في إذن البيع أن يكون الثّمن رهنًا لم يصحّ البيع سواء أكان الدّين حالًّا أم مؤجّلًا لفساد الإذن بفساد الشّرط‏.‏ وقال الحنفيّة‏:‏ إذا باع الرّاهن وأجاز المرتهن البيع جاز‏;‏ لأنّ توقيف البيع لحقّه، وقد رضي بسقوطه، وإن نفذ البيع بإجازة المرتهن ينتقل حقّه إلى بدله لأنّ حقّه بالماليّة، وللبدل حكم البدل، وإن لم يجز المرتهن البيع يبقى موقوفًا في أصحّ الرّوايتين في المذهب، وللمشتري الخيار بين أن يصبر حتّى يفكّ الرّاهن المرهون، وبين أن يرفع الأمر إلى الحاكم فيفسخ البيع لفوات القدرة على التّسليم، وفي روايةٍ‏:‏ للمرتهن فسخ البيع لأنّ الحقّ الثّابت للمرتهن بمنزلة الملك فصار كالمالك، له أن يفسخ أو يجيز‏.‏ وعن أبي يوسف‏:‏ إن شرط المرتهن في الإجازة أن يكون الثّمن رهنًا فهو رهن، لأنّه إذا أجاز بهذا الشّرط لم يرض ببطلان حقّه عن العين، إلاّ أن يكون متعلّقًا بالبدل، فإن لم يشترط ذلك فقد سقط حقّه عن المرهون، والثّمن ليس بمرهونٍ حتّى يتعلّق به حقّ‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ إن أذن المرتهن للرّاهن بالبيع بطل الرّهن عن العين المرهونة، وحلّ مكانها الثّمن رهنًا إن لم يأت الرّاهن برهنٍ كالأوّل‏.‏

اليد على المرهون

18 - اليد على المرهون بعد لزوم العقد للمرتهن‏;‏ لأنّ الرّهن الرّكن الأعظم للتّوثيق، وليس للرّاهن استرداده إلاّ برضا المرتهن أو بأداء الدّين وإن اتّفقا على أن يجعلاه في يد ثالثٍ جاز، وكان وكيلًا للمرتهن في قبضه‏;‏ لأنّ كلًّا منهما قد لا يثق بصاحبه، وهذا محلّ اتّفاقٍ بين الفقهاء‏.‏ وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ يد المرتهن على العين المرهونة يد أمانةٍ، فلا يضمن إن تلفت بغير تعدٍّ منه لحديث‏:‏ ‏{‏لا يغلق الرّهن لصاحبه غنمه وعليه غرمه‏}‏‏.‏ لأنّنا لو ضمّنّاه لامتنع النّاس من فعله خوفًا من الضّمان، ولتعطّلت المداينات وفيه ضرر عظيم، ولأنّه وثيقة بالدّين فلا يضمن كالزّيادة على الدّين، إلاّ بالتّعدّي أو التّفريط‏.‏ وقال الحنفيّة‏:‏ إنّها يد ضمانٍ، فيضمن المرتهن إن هلك بيده بالأقلّ من قيمته ومن الدّين، فإن تساويا كان المرتهن مستوفيًا حقّه، وإن زادت قيمة المرهون كانت الزّيادة أمانةً بيده، وإن نقصت عنها سقط بقدره من الدّين، ورجع المرتهن بالفضل على الرّاهن‏.‏ واستدلّوا بما ورد عن عطاء بن أبي رباحٍ أنّه حدّث ‏{‏أنّ رجلًا رهن فرسًا، فنفق في يده، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم للمرتهن‏:‏ ذهب حقّك‏}‏‏.‏ وقالوا أيضًا‏:‏ أجمع الصّحابة رضي الله عنهم على أنّ الرّهن مضمون، وإن اختلفوا في كيفيّته‏.‏ ولا فرق عندهم بين أن يكون المرهون مالًا ظاهرًا كالحيوان والعقار، وبين أن يكون مالًا باطنًا يمكن إخفاؤه كالحليّ والعروض، وبين أن يقيم شهادةً بهلاكها بلا تفريطٍ، وبين ألاّ يقيم على ذلك شهادةً‏.‏ أمّا إن هلك المرهون بتعدٍّ منه فإنّه يضمن ضمان الغصب‏.‏ وفرّق المالكيّة بين ما يمكن إخفاؤه كالحليّ والعروض، وبين ما لا يمكن إخفاؤه كالحيوان والعقار، فيضمن الأوّل إن لم يكن المرهون عند أمين، أو لم يقم بيّنةً على هلاكه بلا تفريطٍ منه، ولا يضمن الثّاني إلاّ بتفريطٍ منه‏.‏

مؤنة المرهون

19 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ مؤنة المرهون على الرّاهن كعلف الحيوان، وسقي الأشجار، وجذاذ الثّمار وتجفيفها، وأجرة مكان الحفظ، والحارس، ورعي الماشية وأجرة الرّاعي ونحو ذلك، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏لا يغلق الرّهن من راهنه الّذي رهنه، عليه غرمه، وله غنمه‏}‏‏.‏ ولأنّه ملكه، فوجب عليه ما يحتاج لبقاء الرّهن‏.‏ وقال الحنفيّة‏:‏ إنّ ما يحتاج إليه لمصلحة الرّهن بنفسه أو تبعيّته كعلف الدّابّة، وأجرة الرّاعي، وسقي البستان فعلى الرّاهن، وما يحتاج لحفظ المرهون كمأوى الماشية، وأجرة الحفظ فعلى المرتهن، لأنّ حبس المرهون له‏.‏

الامتناع من بذل ما وجب

20 - إذا امتنع من وجبت عليه مؤنة المرهون أجبره الحاكم عليه، فإن أصرّ فعله الحاكم من ماله بقدر الحاجة، وإن قام المرتهن بالمؤنة بغير إذن الحاكم صار متطوّعًا فلا يرجع على الرّاهن بشيءٍ، وإن قام بالمؤنة بإذن الحاكم، أو أشهد على الإنفاق عند فقد الحاكم وامتناع من وجب عليه المؤنة أو كان غائبًا عن البلد رجع بما أنفقه عليه‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ يرجع المرتهن على الرّاهن بما أنفقه وإن لم يأذن له الحاكم أو الرّاهن‏.‏

ما يبطل به عقد الرّهن قبل اللّزوم

21 - يبطل الرّهن قبل القبض برجوع الرّاهن عن الرّهن بالقول وبتصرّفٍ يزيل الملك كالبيع والإصداق، وجعله أجرةٍ ورهنه عند آخر مع القبض، وهبةٍ، ووقفٍ‏;‏ لأنّه أخرجه عن إمكان استيفاء الدّين من ثمنه، أمّا موت أحد المتعاقدين قبل القبض وجنونه، وتخمّر العصير، وشرود العين المرهونة قبل اللّزوم فلا يبطل، أمّا في الموت‏:‏ فلأنّ مصير الرّهن إلى اللّزوم فلا يتأثّر بموته كالبيع في زمن الخيار، فيقوم وارث الرّاهن مقامه في الإقباض، ووارث المرتهن في القبض، أمّا المجنون ونحوه فكالموت بل أولى فيعمل الوليّ بما فيه المصلحة له، من الإجازة أو الفسخ والرّجوع عن العقد‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ يبطل العقد بموت الرّاهن، وفلسه ومرضه وجنونه المتّصلين بالموت قبل الحوز، وإذنه بسكنى الدّار أو إجارة العين المرهونة، ولو لم يسكن‏.‏

ما يبطل به الرّهن بعد لزوم العقد

22 - يبطل العقد بعد لزومه‏:‏ بتلف المرهون بآفةٍ سماويّةٍ أو بفعل من لا يضمن كحربيٍّ، لفواته بلا بدلٍ، وبفسخ المرتهن لأنّ الحقّ له، والعقد جائز من جهته، وبالبراءة من الدّين بأداءٍ أو إبراءٍ أو حوالةٍ به أو عليه، وبتصرّف الرّاهن بإذن المرتهن بما يزيل الملك، كالهبة، والوقف، والبيع، أو إجارةٍ يحلّ الدّين قبل انقضاء مدّتها، ورهنٍ عند غير المرتهن بإذنه أيضًا‏.‏

الشّرط في عقد الرّهن

23 - الشّرط في عقد الرّهن كالشّرط في البيع فإن شرط فيه مقتضى العقد كتقدّم المرتهن بالمرهون عند تزاحم الغرماء وكون المرهون في يد المرتهن، صحّ العقد، وإن شرط فيه ما ينافي مقتضى العقد، كأن لا يباع عند الحاجة إلى البيع أو لا يباع إلاّ بأكثر من ثمن المثل، أو أن يكون المرهون بيد الرّاهن ونحو ذلك ممّا يضرّ المرتهن أو الرّاهن بطل الشّرط لمنافاته مقصود الرّهن ومقتضاه، ويبطل العقد لفساد الشّرط‏.‏

استحقاق بيع المرهون

24 - إذا حلّ الدّين لزم الرّاهن بطلب المرتهن إيفاء الدّين لأنّه دين حالّ فلزم إيفاؤه كالّذي لا رهن به، فإن وفى الدّين جميعه في ماله غير المرهون انفكّ المرهون، فإن لم يوف كلّ الدّين أو بعضه، وجب عليه بيع المرهون بنفسه أو بوكيله بإذن المرتهن‏;‏ لأنّ له حقًّا فيه، ويقدّم في ثمنه المرتهن على سائر الغرماء، وهذا محلّ اتّفاقٍ بين الفقهاء‏.‏ فإن امتنع عن وفاء الدّين وبيع المرهون لأداء الدّين من ثمنه أمره الحاكم بوفاء الدّين من ماله، أو بيع المرهون، وأدائه من ثمنه فإن أصرّ على الامتناع من كلا الأمرين عزّره الحاكم بالحبس أو الضّرب ليبيع المرهون، فإن لم يفعل باع الحاكم المرهون، وقضى الدّين من ثمنه لأنّه تعيّن طريقًا لأداء الواجب، وإلى هذا ذهب الشّافعيّة والحنابلة‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ لا يضرب، ولا يحبس، ولا يهدّد بهما، بل يقتصر الحاكم على بيع المرهون وأداء الدّين من ثمنه‏.‏ وقال الحنفيّة‏:‏ للمرتهن مطالبة الرّاهن بدينه، وإن كان الرّهن بيده، وأن يطالب بحبسه لدينه لأنّ حقّه باقٍ بعد الرّهن، والرّهن لزيادة التّوثيق والصّيانة فلا تمتنع به المطالبة، والحبس جزاء الظّلم، وحبسه القاضي إن ظهر مطله، ولا يبيع القاضي المرهون لأنّه نوع حجرٍ، وفي الحجر إهدار أهليّته، فلا يجوز، ولكنّه يديم الحبس عليه حتّى يبيعه دفعًا للظّلم‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ حجر‏)‏‏.‏

رواتب

انظر‏:‏ راتب‏.‏

رواج‏.‏

التّعريف

1 - الرّواج اسم من راج يروج روجًا ورواجًا بمعنى أسرع‏.‏ ويقال‏:‏ راج الشّيء أي نفق وكثر طلّابه‏.‏ وراجت الدّراهم رواجًا‏:‏ كثر تعامل النّاس بها‏.‏ ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ له عن المعنى اللّغويّ‏.‏

الحكم الإجماليّ

2 - للرّواج أثر في تعيين النّقود والثّمن في العقود، وهو قرينة دالّة على إرادة الطّرفين حال إطلاق الثّمن في البيوع، فقد ذكر الفقهاء أنّه يشترط لصحّة البيع أن يكون الثّمن معلومًا، وإلاّ فسد العقد‏;‏ لأنّ الجهالة تفضي إلى المنازعة فلا يحصل المقصود من شرعيّة العقد المبنيّ على التّراضي‏.‏ وإذا ذكر مقدار الثّمن ولم يبيّن نوعه وصفته، كأن قال‏:‏ بعتك هذه السّلعة بألف دينارٍ مثلًا، فإذا كان في البلد المعقود فيه نقد واحد يتعامل النّاس به صحّ العقد، وانصرف إلى ذلك النّقد الرّائج في البلد‏;‏ لأنّه تعيّن بانفراده وعدم مشاركة غيره له، فلا جهالة‏.‏ كذلك إذا كان في البلد نقود متعدّدة - مختلفة في الماليّة أو متساوية فيها - لكنّ أحدها غالب رواجًا صحّ البيع وانصرف الإطلاق إلى النّقد الرّائج‏;‏ لدلالة القرينة الحاليّة على إرادته، فكأنّه معيّن، لأنّ المعلوم بالعرف كالمعلوم بالنّصّ‏.‏

3 - كما يصحّ البيع إذا أطلق الثّمن وكان في البلد نقود متعدّدة مستوية في القيمة الماليّة والرّواج، وفي هذه الحالة يخيّر المشتري في أن يؤدّي أيّهما شاء، وجبر البائع على قبول ما يدفع له منها‏;‏ لأنّ الجهالة في هذه الحالة لا تؤدّي إلى المنازعة‏.‏ أمّا إذا أطلق الثّمن ولم يبيّن نوعه ولا صفته، وكان في البلد نقود مختلفة في القيمة والماليّة ومتساوية في الرّواج فإنّ البيع يفسد اتّفاقًا‏;‏ لأنّ جهالة وصف الثّمن في هذه الحالة تفضي إلى المنازعة، فالمشتري يريد دفع الأدون والبائع يطلب الأرفع‏;‏ ولعدم إمكان الصّرف إلى أحدها دون الآخر لما فيه من التّحكّم عند التّساوي في الرّواج‏.‏ وإذا لم يمكن الصّرف إلى أحدها والحالة أنّها متفاوتة الماليّة جاءت الجهالة المفضية إلى المنازعة فيفسد البيع، وهذا عند الجميع‏.‏ ثمّ قال الحنفيّة‏:‏ إن ارتفعت الجهالة ببيان أحدها في المجلس وبرضا الآخر صحّ، لارتفاع المفسد قبل تقرّره‏.‏ وتفصيل هذه المسائل في مصطلح‏:‏ ‏(‏نقود‏)‏‏.‏

روث

التّعريف

1 - الرّوث لغةً‏:‏ رجيع ‏(‏فضلة‏)‏ ذي الحافر، واحده روثة والجمع أرواث‏.‏ ويستعمل الفقهاء هذا اللّفظ بأوسع من ذلك فيطلق عندهم على رجيع ذي الحافر وغيره كالإبل والغنم‏.‏ وقريب منه الخثي، والخثي للبقر، والبعر للإبل والغنم، والذّرق للطّيور‏.‏ والعذرة للآدميّ، والخرء للطّير والكلب والجرذ والإنسان‏.‏ والسّرجين أو السّرقين هو رجيع ما سوى الإنسان‏.‏

حكم الرّوث من حيث الطّهارة والنّجاسة

2 - يرى المالكيّة والحنابلة والشّافعيّة في وجهٍ أنّ روث ما يؤكل لحمه طاهر‏.‏ وبهذا قال عطاء والنّخعيّ والثّوريّ، واستدلّوا بما روي ‏{‏أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يصلّي في مرابض الغنم‏.‏ وقال‏:‏ صلّوا في مرابض الغنم‏}‏‏.‏ وصلّى أبو موسى في موضعٍ فيه أبعار الغنم فقيل له‏:‏ لو تقدّمت إلى هاهنا‏.‏ قال‏:‏ هذا وذاك واحد‏.‏ ولم يكن للنّبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما يصلّون عليه من الأوطئة والمصلّيات وإنّما كانوا يصلّون على الأرض، ومرابض الغنم لا تخلو من أبعارها وأبوالها‏;‏ ولأنّه متحلّل معتاد من حيوانٍ يؤكل لحمه فكان طاهرًا‏.‏ أمّا روث غير مأكول اللّحم فنجس عند هؤلاء الفقهاء، وقد صرّح المالكيّة بنجاسة روث مكروه الأكل كمحرّمه وإن لم يستعمل النّجاسة‏.‏ وقال الحنفيّة والشّافعيّة - على المذهب - بنجاسة الرّوث من جميع الحيوانات المأكول اللّحم وغيرها‏.‏

ثمّ اختلف الفقهاء في صفة نجاسة الأرواث‏:‏ فعند أبي حنيفة هي نجسة نجاسةً غليظةً، وعند أبي يوسف ومحمّدٍ نجاسةً خفيفةً‏.‏ وذكر الكرخيّ أنّ النّجاسة الغليظة عند أبي حنيفة ما ورد نصّ يدلّ على نجاسته، ولم يرد نصّ معارض له يدلّ على طهارته، وإن اختلف العلماء فيه‏.‏ والخفيفة ما تعارض نصّان في طهارته ونجاسته‏.‏ وعند أبي يوسف ومحمّدٍ الغليظة ما وقع الاتّفاق على نجاسته‏.‏ والخفيفة ما اختلف العلماء في نجاسته وطهارته‏.‏

3 - بناءً على هذا الأصل فالأرواث كلّها نجسة نجاسةً غليظةً عند أبي حنيفة لأنّه ورد نصّ يدلّ على نجاستها وهو حديث ابن مسعودٍ رضي الله عنه قال‏:‏ ‏{‏إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم طلب منه أحجار الاستنجاء فأتى بحجرين وروثةٍ فأخذ الحجرين ورمى بالرّوثة وقال‏:‏ هذا ركس‏}‏ أي‏:‏ نجس‏.‏ وليس له نصّ معارض، وإنّما قال بعض العلماء بطهارتها بالرّأي والاجتهاد، والاجتهاد لا يعارض النّصّ فكانت نجاستها غليظةً‏.‏ وعلى قول الصّاحبين نجاسة ما يؤكل لحمه خفيفة لأنّ العلماء اختلفوا فيها‏.‏ كما أنّ في الأرواث ضرورةً، وعموم البليّة لكثرتها في الطّرقات فتتعذّر صيانة الخفاف والنّعال عنها، وما عمّت بليّته خفّت قضيّته‏.‏ ويتفرّع عن اختلاف الأصلين أنّه إذا أصاب الثّوب من الرّوث أكثر من قدر درهمٍ لم تجز الصّلاة فيه عند أبي حنيفة‏.‏ وقال الصّاحبان‏:‏ يجزئه حتّى يفحش، ولا فرق عندهما بين المأكول وغير المأكول‏.‏ وفي كلّ ما يعتبر فيه الفاحش فهو مقدّر بالرّبع في قول محمّدٍ وهو رواية عن أبي حنيفة‏.‏ وقال أبو يوسف‏:‏ شبر في شبرٍ‏.‏ وفي رواية ذراع في ذراعٍ‏.‏ وروي عن محمّدٍ في الرّوث أنّه لا يمنع جواز الصّلاة وإن كان كثيرًا فاحشًا‏.‏ وقيل‏:‏ إنّ هذا آخر أقاويله حين كان بالرّيّ وكان الخليفة بها، فرأى الطّرق والخانات مملوءةً من الأرواث وللنّاس فيها بلوًى عظيمة‏.‏ وعند المالكيّة يعفى عمّا أصاب الخفّ والنّعل من أرواث الدّوابّ وأبوالها في الطّرق والأماكن الّتي تطرقها الدّوابّ كثيرًا‏;‏ لعسر الاحتراز من ذلك، بخلاف ما أصاب غير الخفّ والنّعل كالثّوب والبدن فلا عفو‏.‏ أمّا الشّافعيّة فنجاسة الرّوث عندهم لا يعفى عنها إلاّ إذا كانت ممّا لا يدركه الطّرف فيعفى عنها في قولٍ‏.‏ وعند الإمام أحمد يعفى عن يسير فضلات سباع البهائم وجوارح الطّير والبغل والحمار‏.‏ وظاهر مذهب أحمد أنّ اليسير ما لا يفحش في القلب‏.‏ وهو قول ابن عبّاسٍ‏.‏ وقال ابن أبي ليلى‏:‏ السّرقين ليس بشيءٍ، قليله وكثيره لا يمنع الصّلاة‏;‏ لأنّه وقود أهل الحرمين ولو كان نجسًا لما استعملوه، كما لم يستعملوا العذرة‏.‏ ولتفصيل ذلك انظر مصطلح‏:‏ ‏(‏نجاسة‏)‏‏.‏

الاستنجاء بالرّوث

4 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة والمالكيّة في قولٍ والثّوريّ وإسحاق إلى عدم جواز الاستنجاء بالرّوث طاهرًا كان أو غير طاهرٍ‏.‏ واستدلّ هذا الفريق من الفقهاء على ما ذهبوا إليه بما يأتي‏:‏

1 - حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ ‏{‏اتّبعت النّبيّ صلى الله عليه وسلم وخرج لحاجته فقال‏:‏ ابغني أحجارًا أستنفض بها أو نحوه ولا تأتني بعظمٍ ولا روثٍ‏}‏‏.‏

2 - حديث سلمان رضي الله عنه قال‏:‏ ‏{‏نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن الرّوث والعظام‏}‏‏.‏ ولأنّ الرّوث نجس في نفسه عند من قال بنجاسته والنّجس لا يزيل النّجاسة‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ لا يجوز الاستنجاء بالرّوث النّجس ويجوز بالطّاهر منه مع الكراهة‏;‏ لأنّ الرّوث طعام دوابّ الجنّ يرجع علفًا كما كان عليه‏.‏ ويرى الحنفيّة كراهة الاستنجاء بالرّوث لأنّ النّصّ الوارد في الاستنجاء بالأحجار معلول بمعنى الطّهارة، وقد حصلت بالرّوث كما تحصل بالأحجار، إلاّ أنّه كرهه بالرّوث لما فيه من استعمال النّجس وإفساد علف دوابّ الجنّ‏.‏

5- ثمّ اختلف الفقهاء في الاعتداد بالاستنجاء بالرّوث‏:‏ فذهب الحنفيّة والمالكيّة وابن تيميّة إلى أنّ من خالف واستنجى بالرّوث يعتدّ به إن حصل به الإنقاء‏.‏ قال الكاسانيّ‏:‏ فإن فعل ذلك ‏(‏استنجى بالرّوث‏)‏ يعتدّ به عندنا، فيكون مقيمًا سنّةً ‏(‏سنّة الاستنجاء‏)‏ ومرتكبًا كراهةً، ويجوز أن يكون لفعلٍ واحدٍ جهتان مختلفتان فيكون بجهةٍ كذا وبجهةٍ كذا‏.‏ ويرى الشّافعيّة وجمهور الحنابلة أنّ من خالف واستنجى بالرّوث لم يصحّ‏.‏ واستدلّوا بحديث ابن مسعودٍ رضي الله عنه ‏{‏في سؤال الجنّ الزّاد من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ لكم كلّ عظمٍ ذكر اسم اللّه عليه يقع في أيديكم، أوفر ما يكون لحمًا، وكلّ بعرةٍ علف لدوابّكم فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ فلا تستنجوا بهما، فإنّهما طعام إخوانكم‏}‏‏.‏ والنّهي يقتضي الفساد وعدم الإجزاء‏.‏

6- أمّا من استنجى بالرّوث ثمّ استنجى بعده بمباحٍ كحجرٍ فقد اختلف من يرى عدم الصّحّة من الفقهاء فيه على الاتّجاهات التّالية‏:‏

1 - عدم الإجزاء مطلقًا، وهو الصّحيح عند جمهور الشّافعيّة وهو قول عند الحنابلة، وبناءً على هذا الاتّجاه يتعيّن الاستنجاء بالماء بعده‏.‏

2 - الإجزاء مطلقًا وهو قول عند كلٍّ من الشّافعيّة والحنابلة‏.‏

3 - الإجزاء إن أزال شيئًا، وهو قول ذكره ابن حمدان الحنبليّ في الرّعاية الكبرى واختاره‏.‏ وأجاز ابن جريرٍ الاستنجاء بكلّ طاهرٍ ونجسٍ من الجمادات‏.‏ وللتّفصيل ‏(‏ر‏:‏ استجمار، استنجاء‏)‏‏.‏

بيع الرّوث

7 - اختلف الفقهاء في حكم بيع الرّوث، وينظر التّفصيل في بحث ‏(‏زبل‏)‏‏.‏

ريبة

التّعريف

1 - الرّيبة اسم مأخوذ من الرّيب، وهي في اللّغة الشّكّ والتّهمة، وجمعها ريب كسدرةٍ وسدر‏.‏ ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ للرّيبة عن المعنى اللّغويّ‏.‏

الحكم التّكليفي

2 - يندب ترك ما من شأنه أن يوقع في الرّيبة، والأخذ بما لا يوقع فيها، للحديث الّذي رواه الحسن بن عليٍّ رضي الله عنهما أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏{‏دع ما يريبك إلى ما لا يريبك‏}‏‏.‏ فإنّ الأمر فيه للنّدب‏;‏ لأنّ توقّي الشّبهات مندوب لا واجب على الأصحّ‏.‏ ومعنى الحديث اترك ما تشكّ فيه من الشّبهات واعدل إلى ما لا تشكّ فيه من الحلال، لأنّ ‏{‏من اتّقى الشّبهات استبرأ لدينه وعرضه‏}‏‏.‏ كما في الحديث‏.‏ فمن أشكل عليه شيء والتبس ولم يتبيّن أنّه من أي القبيلين هو، فليتأمّل فيه فإن وجد ما تسكن إليه نفسه ويطمئنّ به قلبه وينشرح له صدره فليأخذ به وإلاّ فليدعه، وليأخذ بما لا شبهة فيه ولا ريبة، ويسأل المجتهدين إن كان من المقلّدين وهذا هو طريق الورع والاحتياط‏.‏ وينبغي للإمام اجتناب الرّيبة في الرّعيّة، وعدم تتبّع العورات‏;‏ لأنّه إن فعل ذلك أفسدهم لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏إنّ الأمير إذا ابتغى الرّيبة في النّاس أفسدهم‏}‏‏.‏ ومقصود الحديث حثّ الإمام على التّغافل، وعدم تتبّع العورات‏.‏ فإنّ بذلك يقوم النّظام ويحصل الانتظام‏.‏ والإنسان قلّما يسلم من عيبه فلو عاملهم بكلّ ما قالوه أو فعلوه اشتدّت عليهم الأوجاع واتّسع المجال، بل يستر عيوبهم ويتغافل ويصفح ولا يتّبع عوراتهم ولا يتجسّس عليهم‏.‏ وأمّا ظنّ السّوء والخيانة بمن شوهد منه السّتر والصّلاح فحرام شرعًا، بخلاف من اشتهر بين النّاس بتعاطي الرّيب والمجاهرة بالخبائث، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيّها الّذين آمنوا اجتنبوا كثيرًا من الظّنّ إنّ بعض الظّنّ إثم‏}‏‏.‏ ولقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏إيّاكم والظّنّ فإنّ الظّنّ أكذب الحديث‏}‏‏.‏ ولما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏كلّ المسلم على المسلم حرام‏:‏ دمه، وماله، وعرضه‏}‏‏.‏ والظّنّ في الشّريعة قسمان‏:‏ محمود ومذموم، فالمحمود منه ما سلم معه دين الظّانّ، وسلم أيضًا المظنون به عند علمه بذلك الظّنّ‏.‏ والمذموم ضدّه بدلالة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنّ بعض الظّنّ إثم‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لولا إذ سمعتموه ظنّ المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرًا‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وظننتم ظنّ السّوء وكنتم قومًا بورًا‏}‏‏.‏ وقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏إذا كان أحدكم مادحًا لا محالة فليقل أحسب كذا وكذا إن كان يرى أنّه كذلك، واللّه حسيبه، ولا يزكّي على اللّه أحدًا‏}‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏إذا حسدت فاستغفر، وإذا ظننت فلا تحقّق، وإذا تطيّرت فامض‏}‏‏.‏ قال المهدويّ‏:‏ وأكثر العلماء على أنّ الظّنّ القبيح بمن ظاهره الخير لا يجوز، وأنّه لا حرج في الظّنّ القبيح بمن ظاهره القبح‏.‏

آثار الرّيبة ومواطن البحث

3 - يظهر أثر الرّيبة في كثيرٍ من مسائل الفقه، فيظهر أثرها في الفقر والمسكنة كما لو كان ظاهر من يدّعي ذلك مخالفًا لدعواهما فتلك ريبة تكذّب دعواهما فلا تقبل إلاّ ببيّنةٍ‏.‏ - ويظهر أثرها أيضًا في الوصيّة بمعنى الإيصاء كما لو ظهر للحاكم ريبة في الوصيّ، فإنّه يجوز له أن يضمّ إليه معيّنًا بمجرّد الرّيبة كما أفتى السّبكيّ‏.‏

- وتؤثّر الرّيبة أيضًا في العدّة فإنّها أي العدّة تثبت بالشّكّ كما ذكر الحنفيّة، وذكر المالكيّة أنّ المستحاضة إذا لم تميّز دم المرض من دم الحيض، أو تأخّر الحيض بلا سببٍ ظاهرٍ من رضاعٍ أو استحاضةٍ، أو مرضت المطلّقة فتأخّر حيضها بسببه قبل الطّلاق أو بعده، تربّصت تسعة أشهرٍ استبراءً على المشهور لزوال الرّيبة لأنّها مدّة الحمل غالبًا‏.‏ وفي كونها تعتبر من يوم الطّلاق أو من يوم ارتفاع حيضها قولان، وقالوا في المعتدّة من طلاقٍ أو وفاةٍ إن ارتابت في الحمل، أنّها تتربّص إلى أقصى أمد الحمل، وفي كونها تتربّص أربع سنين أو خمسًا خلاف‏.‏ وذكر الشّافعيّة - كما جاء في المنهاج - أنّه لو ظهر في عدّة أقراءٍ أو أشهرٍ حمل من الزّوج اعتدّت بوضعه، ولا اعتبار بما مضى من الأقراء أو الأشهر لوجود الحمل، ولو ارتابت في العدّة المذكورة لثقلٍ وحركةٍ تجدهما، لم تنكح آخر بعد تمامها حتّى تزول الرّيبة‏.‏ وذكر الحنابلة أنّ المعتدّة إذا ارتابت بأن ترى أمارات الحمل من حركةٍ أو نفخةٍ ونحوهما وشكّت‏.‏ هل هو حمل أم لا ‏؟‏ فلا يخلو ذلك من ثلاثه أحوالٍ‏:‏ أحدها‏:‏ أن تحدث بها الرّيبة قبل انقضاء عدّتها وفي هذه الحالة تبقى في حكم الاعتداد حتّى تزول الرّيبة، فإن بان حملًا انقضت عدّتها بوضعه، فإن زالت وبان أنّه ليس بحملٍ تبيّنّا أنّ عدّتها انقضت بالقروء أو الأشهر، فإن زوّجت قبل زوال الرّيبة فالنّكاح باطل‏;‏ لأنّها تزوّجت وهي في حكم المعتدّات في الظّاهر، ويحتمل أنّه إذا تبيّن عدم الحمل أنّه يصحّ النّكاح، لأنّا تبيّنّا أنّها تزوّجت بعد انقضاء عدّتها‏.‏ الثّاني‏:‏ أن تظهر بها الرّيبة بعد انقضاء عدّتها وزواجها، فالنّكاح صحيح لوجوده بعد انقضاء العدّة ظاهرًا، والحمل مع الرّيبة مشكوك فيه فلا يزول به ما حكم بصحّته، لكن لا يحلّ لزوجها وطؤها للشّكّ في صحّة النّكاح، ولأنّه لا يحلّ لمن يؤمن باللّه واليوم الآخر أن يسقي ماءه زرع غيره‏.‏ ثمّ ننظر فإن وضعت الولد لأقلّ من ستّة أشهرٍ منذ تزوّجها الثّاني ووطئها فنكاحه باطل لأنّه نكحها وهي حامل، وإن أتت به لأكثر من ذلك فالولد لا حقّ به ونكاحه صحيح‏.‏ الثّالث‏:‏ أن تحدث بها الرّيبة بعد انقضاء العدّة وقبل النّكاح ففي حلّ النّكاح لها وجهان أحدهما‏:‏ عدم الحلّ، فإن تزوّجت فالنّكاح باطل لأنّها تتزوّج مع الشّكّ في انقضاء العدّة فلم يصحّ، كما لو وجدت الرّيبة في العدّة، ولأنّنا لو صحّحنا النّكاح لوقع موقوفًا، ولا يجوز كون النّكاح موقوفًا‏.‏ والثّاني‏:‏ يحلّ لها النّكاح ويصحّ لأنّنا حكمنا بانقضاء العدّة، وحلّ النّكاح، وسقوط النّفقة والسّكنى، فلا يجوز زوال ما حكم به للشّكّ الطّارئ، ولهذا لا ينقض الحاكم ما حكم به بتغيّر اجتهاده ورجوع الشّهود‏.‏

وتؤثّر الرّيبة أيضًا في الشّهادة على الدّم، كما لو ادّعى الوليّ القتل على رجلين، وشهد له شاهدان فبادر المشهود عليهما وشهدا على الشّاهدين بأنّهما القاتلان، وذلك يورث ريبةً للحاكم فيراجع الوليّ ويسأله احتياطًا‏.‏ - ويندب للحاكم تفرقة الشّهود عند ارتيابه فيهم، كما ذكر الشّافعيّة ويسأل كلًّا ويستقصي، ثمّ يسأل الثّاني كذلك قبل اجتماعه بالأوّل ويعمل بما غلب على ظنّه‏.‏ والأولى كون ذلك قبل التّزكية‏.‏ ثمّ إنّ أصل الرّدّ في الشّهادة مبناه التّهمة‏.‏ هذا، ويبحث عن المسائل الخاصّة بمصطلح ريبةٍ في‏:‏ الزّكاة، والوصيّة، والعدّة، والقضاء، والشّهادة، ويبحث عنها أيضًا في مصطلح‏:‏ ‏(‏شكّ‏)‏ ومصطلح‏:‏ ‏(‏تهمة‏)‏‏.‏

ريح

التّعريف

1 - الرّيح في اللّغة‏:‏ الهواء المسيّر بين السّماء والأرض، والرّيح بمعنى الرّائحة‏:‏ عرض يدرك بحاسّة الشّمّ، يقال‏:‏ ريح زكيّة‏.‏ وقيل‏:‏ لا يطلق اسم الرّيح إلاّ على الطّيّب من النّسيم‏.‏ أمّا الرّائحة فهي النّسيم طيّبًا كان أم نتنًا‏.‏ وجمعها‏:‏ رياح، وأرواح، وأراويح‏.‏ ويستخدم لفظ ‏(‏الرّياح‏)‏ في الرّحمة، ولفظ ‏(‏الرّيح‏)‏ في العذاب، ومنه حديث‏:‏ ‏{‏اللّهمّ اجعلها رياحًا ولا تجعلها ريحًا‏}‏‏.‏ والرّيح‏:‏ الهواء الخارج من أحد السّبيلين‏.‏ ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن هذه المعاني اللّغويّة‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالرّيح‏:‏

الدّعاء عند هبوب الرّيح

2 - يستحبّ للمرء عند هبوب الرّيح أن يسأل اللّه خيرها ويتعوّذ من شرّها، ويكره سبّها لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏الرّيح من روح اللّه تأتي بالرّحمة وبالعذاب، فإذا رأيتموها فلا تسبّوها، وسلوا اللّه خيرها، واستعيذوا باللّه من شرّها‏}‏‏.‏ ويقول في دعائه‏:‏ ‏{‏اللّهمّ إنّي أسألك خيرها، وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرّها، ومن شرّ ما فيها وشرّ ما أرسلت به‏}‏‏.‏ ويقول‏:‏ ‏{‏اللّهمّ اجعلها رحمةً، ولا تجعلها عذابًا، اللّهمّ اجعلها رياحًا، ولا تجعلها ريحًا‏}‏‏.‏

الرّيح الخارج من السّبيلين

3 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ خروج ريحٍ من دبر الإنسان ينقض الوضوء لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏لا وضوء إلاّ من صوتٍ أو ريحٍ‏}‏‏.‏ واختلفوا في نقضه إذا خرج من قبل المرأة أو من ذكر الرّجل‏.‏ فذهب الشّافعيّة، وبعض الحنابلة إلى أنّ خروج الرّيح من قبل المرأة أو ذكر الرّجل ناقض للطّهارة، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏لا وضوء إلاّ من صوتٍ أو ريحٍ‏}‏‏.‏ وقال الحنفيّة والمالكيّة‏:‏ إنّ الرّيح الخارج من القبل أو الذّكر ليس بناقضٍ، لأنّها لا تنبعث عن محلّ النّجاسة فهو كالجشاء‏.‏ وهو قول عند الحنابلة‏.‏ والتّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏حدث‏)‏‏.‏

الاستنجاء من الرّيح

4 - الرّيح الخارجة من الدّبر ليست بنجسةٍ، فلا يستنجى منها لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏من استنجى من الرّيح فليس منّا‏}‏ وقال أحمد‏:‏ ليس في الرّيح استنجاء في كتاب اللّه ولا في سنّة رسوله، فهي طاهرة فلا تنجّس سراويله المبتلّة إذا خرجت‏.‏ والتّفصيل في ‏(‏استنجاء‏)‏‏.‏

وجوب إزالة ريح النّجاسة

5 - يجب إزالة ريح النّجاسة عند تطهير الشّيء المتنجّس، وفي ذلك خلاف وتفصيل ينظر في مصطلح‏:‏ ‏(‏نجاسة‏)‏‏.‏

إخراج الرّيح في المسجد

6 - يكره إخراج الرّيح في المسجد وإن لم يكن فيه أحد لحديث‏:‏ ‏{‏إنّ الملائكة تتأذّى ممّا يتأذّى منه بنو آدم‏}‏‏.‏ ويخرج من يفعل ذلك، كما يكره حضور المسجد لمن أكل شيئًا له رائحة كريهة كالبصل النّيء ونحوه، وتسقط عنه الجماعة إن تعذّر عليه إزالة ريحها، ومثل ذلك من له صنان، أو بخر، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏من أكل من هذه الشّجرة فلا يقربنّ مسجدنا‏}‏‏.‏

ثبوت حدّ شرب الخمر بفوح ريحها من فمه

7 - لا يثبت حدّ شرب الخمر بوجود ريحها في فمه لاحتمال أنّه تمضمض بها، أو ظنّها ماءً فلمّا ذاقها مجّها، أو أنّه تناول شيئًا آخر تشبه ريحه ريح الخمر، والاحتمال شبهة يسقط به الحدّ لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏ادرءوا الحدود بالشّبهات‏}‏، وإلى هذا ذهب أكثر أهل العلم‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ يثبت حدّ شرب الخمر بوجود الرّيح، وهي إحدى روايتين عن أحمد، لأنّ الرّيح تدلّ على شربه للخمر فأجري مجرى الإقرار، وأنّ ابن مسعودٍ رضي الله عنه جلد رجلًا وجد منه ريح الخمر‏.‏ ولتفصيل ذلك انظر مصطلح‏:‏ ‏(‏سكر‏)‏‏.‏

البول في مهبّ الرّيح

8 - يكره التّبوّل والتّغوّط في مهبّ الرّيح‏;‏ لئلاّ يصيبه رشاش النّجاسة، ولا يكره استقبال القبلة عند إخراج الرّيح‏;‏ لأنّ النّهي عن استقبالها واستدبارها مقيّد بحالة قضاء الحاجة، وهو منتفٍ في الرّيح‏.‏

التّخلّف عن الجمعة والجماعة لشدّة الرّيح

9 - يجوز التّخلّف عن الجماعة والجمعة لاشتداد الرّيح، وهو محلّ اتّفاقٍ بين الفقهاء، وذلك للمشقّة، ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم في اللّيلة المطيرة وذات الرّيح‏:‏ ‏{‏ألا صلّوا في الرّحال‏}‏‏.‏ ولتفصيل ذلك ينظر مصطلح‏:‏ ‏(‏صلاة الجماعة‏)‏‏.‏

ريش

التّعريف

1 - الرّيش لغةً‏:‏ كسوة الطّائر، والواحدة ريشة، وهو يقابل الشّعر في الإنسان ونحوه، والصّوف للغنم، والوبر للإبل، والحراشف للزّواحف، والقشور للأسماك، والرّيش أيضًا اللّباس الفاخر، والأثاث، والمال، والخصب، والحالة الجميلة‏.‏ وجمعه أرياش ورياش‏.‏ ولا يخرج استعمال الفقهاء للكلمة عن المعنى اللّغويّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

الشّعر والوبر والصّوف

2 - الشّعر‏:‏ ما ينبت على الجسم ممّا ليس بصوفٍ ولا وبرٍ للإنسان وغيره‏.‏ والشّعر يقابله الرّيش في الطّيور فهما متباينان‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالرّيش

أ - ‏(‏طهارة الرّيش‏)‏‏:‏

3 - اتّفق الفقهاء على أنّ الرّيش يوافق الشّعر في أحكامه، ومقيس عليه، واتّفقوا على طهارة ريش الطّير المأكول حال حياته إذا كان متّصلًا بالطّير، أمّا إذا نتف أو تساقط فيرى الجمهور - أيضًا - طهارته، أمّا المالكيّة فيرون أنّ الطّاهر منه هو الزّغب، وهو ما يحيط بقصب الرّيش، أمّا القصب فنجس، ويرى الشّافعيّة في روايةٍ أنّ الرّيش المتساقط والمنتوف نجس، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏ما قطع من البهيمة وهي حيّة فهي ميتة‏}‏ ودليل الجمهور قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثًا ومتاعًا إلى حينٍ‏}‏ والرّيش مقيس عليها، ولو قصر الانتفاع على ما يكون على المذكّى لضاع معظم الشّعور والأصواف، قال بعضهم‏:‏ وهذا‏.‏ أحد موضعين خصّصت السّنّة فيهما بالكتاب، فإنّ عموم قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏ما قطع من البهيمة وهي حيّة فهي ميتة‏}‏‏.‏ خصّ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها‏}‏‏.‏ الآية‏.‏ ومذهب جمهور العلماء - في الجملة - طهارة ريش الطّير المأكول إذا مات‏.‏ ولهم تفصيل في ذلك‏:‏ قال صاحب الاختيار من الحنفيّة‏:‏ شعر الميتة وعظمها طاهر، لأنّ الحياة لا يحلّهما، حتّى لا يتألّم الحيوان بقطعهما، فلا يحلّهما الموت، وهو المنجّس، وكذلك العصب والحافر والخفّ والظّلف والقرن والصّوف والوبر والرّيش والسّنّ والمنقار والمخلب لما ذكرنا، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثًا ومتاعًا إلى حينٍ‏}‏ امتنّ بها علينا من غير فصلٍ بين المأخوذ من الحيّ أو الميّت‏.‏ واستدلّوا أيضًا بقوله صلى الله عليه وسلم ‏{‏في شاة ميمونة‏:‏ رضي الله عنها إنّما حرم أكلها‏}‏ وفي روايةٍ ‏{‏لحمها‏}‏ فدلّ على أنّ ما عدا اللّحم لا يحرم، فدخلت الأجزاء المذكورة، وفيها أحاديث أخر صريحة‏;‏ ولأنّ المعهود فيها قبل الموت الطّهارة فكذا بعده‏;‏ لأنّه لا يحلّها‏.‏ وقيّدها في الدّرّ المختار‏:‏ بأن تكون خاليةً من الدّسومة‏.‏ ومذهب المالكيّة بالنّسبة لريش الميتة كمذهبهم بالنّسبة للرّيش المنتوف والمنفصل، وهو أنّ الزّغب طاهر دون القصب، ولكنّ ذلك مشروط بجزّ الزّغب ولو بعد نتف الرّيش، ويستحبّ غسله بعد جزّه‏.‏ وكذا الحنابلة يوافقون الجمهور في طهارة ريش الميتة، غير أنّهم يستثنون من ذلك أصول الرّيش إذا نتف سواء أكان رطبًا أم يابسًا‏;‏ لأنّه من جملة أجزاء الميتة، أشبه سائرها‏;‏ ولأنّ أصول الشّعر والرّيش جزء من اللّحم، لم يستكمل شعرًا ولا ريشًا‏.‏ وفي روايةٍ أخرى للحنابلة أنّ أصل الرّيش إذا كان رطبًا، ونتف من الميتة، فهو نجس‏;‏ لأنّه رطب في محلٍّ نجسٍ، وهل يكون طاهرًا بعد غسله ‏؟‏ على وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنّه طاهر كرءوس الشّعر إذا تنجّس‏.‏ والثّاني‏:‏ أنّه نجس لأنّه جزء من اللّحم لم يستكمل شعرًا ولا ريشًا، وهو المعتمد كما سبق‏.‏ ومذهب الشّافعيّة - في الصّحيح - أنّ ريش الميتة نجس، لأنّه جزء متّصل بالحيوان اتّصال خلقةٍ فنجس بالموت كالأعضاء، واستدلّوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حرّمت عليكم الميتة‏}‏ وهذا عامّ يشمل الشّعر والرّيش وغيرهما‏.‏ وذهب جماعة من السّلف إلى أنّ الرّيش ينجس بالموت، ولكنّه يطهر بالغسل، واستدلّوا بحديث أمّ سلمة‏:‏ ‏{‏لا بأس بمسك الميتة إذا دبغ، ولا بأس بصوفها وشعرها وقرونها إذا غسل بالماء‏}‏‏.‏ أمّا الطّير غير المأكول فمذهب الحنفيّة والمالكيّة في ريشه كمذهبهم في ريش الطّير المأكول أنّه طاهر‏.‏ وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى نجاسة ريش الطّير الميّت غير المأكول، إلاّ أنّ الحنابلة لهم تفصيل في ذلك‏.‏ قال في المغني‏:‏ وكلّ حيوانٍ فشعره - أي وريشه - مثل بقيّة أجزائه، ما كان طاهرًا فشعره وريشه طاهر، وما كان نجسًا فشعره - ريشه - كذلك، ولا فرق في حالة الحياة وحالة الموت، إلاّ أنّ الحيوانات الّتي حكمنا بطهارتها لمشقّة الاحتراز منها، كالسّنّور وما دونه في الخلقة، فيها بعد الموت وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنّها نجسة، لأنّها كانت طاهرةً مع وجود علّة التّنجيس لمعارضٍ، وهو الحاجة إلى العفو عنها للمشقّة، وقد انتفت الحاجة، فتنتفي الطّهارة‏.‏ والثّاني‏:‏ هي طاهرة، وهذا أصحّ‏;‏ لأنّها كانت طاهرةً في الحياة، والموت لا يقتضي تنجيسها، فتبقى الطّهارة‏.‏

حكم الرّيش على عضوٍ مبانٍ من حيٍّ

4 - قال البغويّ من الشّافعيّة‏:‏ أنّه لو قطع جناح طائرٍ مأكولٍ في حياته فما عليه من الرّيش نجس تبعًا لميتته‏.‏ وانظر التّفصيل في‏:‏ ‏(‏شعر‏)‏

حكم الرّيش على الجلد المدبوغ

5 - إذا دبغ جلد الميتة وعليه شعر ‏(‏أو ريش‏)‏ قال في الأمّ‏:‏ لا يطهر لأنّ الدّباغ لا يؤثّر في تطهيره‏.‏ وروى الرّبيع بن سليمان الجيزيّ عن الشّافعيّ أنّه يطهر‏;‏ لأنّه شعر - ريش - نابت على جلدٍ طاهرٍ فكان كالجلد في الطّهارة، كشعر الحيوان حال الحياة، والأوّل أصحّ عند الشّافعيّة‏.‏ وينظر التّفصيل‏:‏ في ‏(‏دباغ‏)‏، ‏(‏شعر‏)‏‏.‏

حكم الجناية على ريش الصّيد للمحرم أو في الحرم

6 - إن نتف المحرم ريش الصّيد أو شعره أو وبره فعاد ما نتفه فلا شيء عليه‏;‏ لأنّ النّقص زال، أشبه ما لو اندمل الجرح، فإن صار الصّيد غير ممتنعٍ بنتف ريشه ونحوه فكما لو جرحه جرحًا صار به غير ممتنعٍ - أي عليه جزاء جميعه - وإن نتفه فغاب ولم يعلم خبره فعليه نقصه‏.‏ وينظر التّفصيل في‏:‏ ‏(‏حرم‏)‏، ‏(‏صيد‏)‏‏.‏

الاستنجاء بالرّيش

7 - لا يحرم الاستنجاء بالرّيش إذا كان طاهرًا قالعًا، ولو استنجى بشيءٍ منه وشكّ هل وجدت فيه تلك الشّروط أو لا ‏؟‏ فالمعتمد عند الشّافعيّة الإجزاء‏.‏ وينظر ‏(‏استنجاء‏)‏، ‏(‏شعر‏)‏‏.‏

السّلم في الرّيش

8 - يصحّ السّلم في الوبر والشّعر والصّوف والرّيش ما لم يعيّن حيوانها‏.‏ انظر التّفصيل في‏:‏ ‏(‏سلم‏)‏، ‏(‏شعر‏)‏، ‏(‏صوف‏)‏‏.‏

نتف الرّيش بالماء الحار

9 - في فتاوى الأنقرويّ ‏(‏نقلًا عن فتاوى ابن نجيمٍ في الحظر والإباحة‏)‏‏:‏ سئل عن الدّجاج إذا ألقي في الماء حال الغليان لينتف ريشه، قبل شقّ بطنه هل يتنجّس ‏؟‏ فأجاب‏:‏ يتنجّس، ولكن يغسل بالماء ثلاث مرّاتٍ فيطهر‏.‏ وجاء في شرح الزّرقانيّ على مختصر خليلٍ للمالكيّة‏:‏ ليس من اللّحم المطبوخ بالنّجاسة الدّجاج المذبوح، يوضع في ماءٍ حارٍّ لإخراج ريشه من غير غسل المذبح‏;‏ لأنّ هذا ليس بطبخٍ حتّى تدخل النّجاسة في أعماقه، بل يغسل ويؤكل‏.‏