فصل: رابعًا: زكاة الزّروع والثّمار

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


رابعًا‏:‏ زكاة الزّروع والثّمار

ما تجب فيه الزّكاة من أجناس النّبات‏:‏

97 - أجمع العلماء على أنّ في التّمر ‏(‏ثمر النّخل‏)‏ والعنب ‏(‏ثمر الكرم‏)‏ من الثّمار، والقمح والشّعير من الزّروع الزّكاة إذا تمّت شروطها‏.‏ وإنّما أجمعوا على ذلك لما ورد فيها من الأحاديث الصّحيحة، منها حديث عبد اللّه بن عمرٍو رضي الله عنهما مرفوعًا‏:‏ ‏{‏الزّكاة في الحنطة والشّعير والتّمر والزّبيب‏}‏ وفي لفظٍ ‏{‏العشر في التّمر والزّبيب والحنطة والشّعير‏}‏ ومنها حديث عمر بن الخطّاب رضي الله عنه قال‏:‏ ‏{‏إنّما سنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الزّكاة في هذه الأربعة الحنطة والشّعير والزّبيب والتّمر‏}‏ وعن أبي بردة عن أبي موسى ومعاذٍ رضي الله عنهم أجمعين ‏{‏أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بعثهما إلى اليمن يعلّمان النّاس أمر دينهم، فأمرهم أن لا يأخذوا الصّدقة إلاّ من هذه الأربعة‏:‏ الحنطة والشّعير والتّمر والزّبيب‏}‏‏.‏

98 - ثمّ اختلف العلماء في ما عدا هذه الأصناف الأربعة‏:‏ فذهب أبو حنيفة إلى أنّ الزّكاة تجب في كلّ ما يقصد بزراعته استنماء الأرض، من الثّمار والحبوب والخضراوات والأبازير وغيرها ممّا يقصد به استغلال الأرض، دون ما لا يقصد به ذلك عادةً كالحطب والحشيش والقصب ‏(‏أي القصب الفارسيّ بخلاف قصب السّكّر‏)‏ والتّبن وشجر القطن والباذنجان وبذر البطّيخ والبذور الّتي للأدوية كالحلبة والشّونيز، لكن لو قصد بشيءٍ من هذه الأنواع كلّها أن يشغل أرضه بها لأجل الاستنماء وجبت الزّكاة، فالمدار على القصد‏.‏ واحتجّ بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏فيما سقت السّماء أو كان عثريًّا العشر‏}‏‏.‏ فإنّه عامّ فيؤخذ على عمومه، ولأنّه يقصد بزراعته نماء الأرض واستغلالها فأشبه الحبّ‏.‏ وذهب صاحبا أبي حنيفة إلى أنّ الزّكاة لا تجب إلاّ فيما له ثمرة باقية حولًا‏.‏ وذهب المالكيّة إلى التّفريق بين الثّمار والحبوب، فأمّا الثّمار فلا يؤخذ من أيّ جنسٍ منها زكاة غير التّمر والعنب، وأمّا الحبوب، فيؤخذ من الحنطة والشّعير والسّلت والذّرة والدّخن والأرز والعلس، ومن القطانيّ السّبعة الحمّص والفول والعدس واللّوبيا والتّرمس والجلبّان والبسيلة، وذوات الزّيوت الأربع الزّيتون والسّمسم والقرطم وحبّ الفجل‏.‏ فهي كلّها عشرون جنسًا، لا يؤخذ من شيءٍ سواها زكاة‏.‏ وذهب الشّافعيّة إلى أنّ الزّكاة لا تجب في شيءٍ من الزّروع والثّمار إلاّ ما كان قوتًا‏.‏ والقوت هو ما به يعيش البدن غالبًا دون ما يؤكل تنعّمًا أو تداويًا، فتجب الزّكاة من الثّمار في العنب والتّمر خاصّةً، ومن الحبوب في الحنطة والشّعير والأرز والعدس وسائر ما يقتات اختيارًا كالذّرة والحمّص والباقلاء، ولا تجب في السّمسم والتّين والجوز واللّوز والرّمّان والتّفّاح ونحوها والزّعفران والورس والقرطم‏.‏ وذهب أحمد في روايةٍ عليها المذهب إلى أنّ الزّكاة تجب في كلّ ما استنبته الآدميّون من الحبوب والثّمار، وكان ممّا يجمع وصفين‏:‏ الكيل، واليبس مع البقاء ‏(‏أي إمكانيّة الادّخار‏)‏ وهذا يشمل أنواعًا سبعةً‏:‏ الأوّل‏:‏ ما كان قوتًا كالأرز والذّرة والدّخن‏.‏ الثّاني‏:‏ القطنيّات كالفول والعدس والحمّص والماشّ واللّوبيا‏.‏ الثّالث‏:‏ الأبازير، كالكسفرة والكمّون والكراويا‏.‏ الرّابع‏:‏ البذور، وبذر الخيار، وبذر البطّيخ، وبذر القثّاء، وغيرها ممّا يؤكل، أو لا يؤكل كبذور الكتّان وبذور القطن وبذور الرّياحين‏.‏ الخامس‏:‏ حبّ البقول كالرّشاد وحبّ الفجل والقرطم والحلبة والخردل‏.‏ السّادس‏:‏ الثّمار الّتي تجفّف، وتدّخر كاللّوز والفستق والبندق‏.‏ السّابع‏:‏ ما لم يكن حبًّا ولا ثمرًا لكنّه يكال ويدّخر كسعترٍ وسمّاقٍ، أو ورق شجرٍ يقصد كالسّدر والخطميّ والآس‏.‏ قالوا‏:‏ ولا تجب الزّكاة فيما عدا ذلك كالخضار كلّها، وكثمار التّفّاح والمشمش والتّين والتّوت والموز والرّمّان والبرتقال وبقيّة الفواكه، ولا في الجوز، نصّ عليه أحمد‏;‏ لأنّه معدود، ولا تجب في القصب ولا في البقول كالفجل والبصل والكرّاث، ولا في نحو القطن والقنّب والكتّان والعصفر والزّعفران ونحو جريد النّخل وخوصه وليفه‏.‏ وفي الزّيتون عندهم اختلاف يأتي بيانه‏.‏ واحتجّ الحنابلة لذلك بأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏{‏ليس فيما دون خمسة أوساقٍ من تمرٍ ولا حبٍّ صدقة‏}‏ فدلّ على اعتبار الكيل، وأمّا الادّخار فلأنّ غير المدّخر لا تكمل فيه النّعمة لعدم النّفع به مآلًا‏.‏ وذهب أحمد في روايةٍ، وأبو عبيدٍ، والشّعبيّ، وهو مرويّ عن ابن عمر رضي الله عنهما إلى أنّه لا زكاة في شيءٍ غير هذه الأجناس الأربعة، لأنّ النّصّ بها ورد‏;‏ ولأنّها غالب الأقوات ولا يساويها في هذا المعنى وفي كثرة نفعها شيء غيرها، فلا يقاس عليها شيء‏.‏ واحتجّ من عدا أبا حنيفة على انتفاء الزّكاة في الخضر والفواكه بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏ليس في الخضراوات صدقة‏}‏ وعلى انتفائها في نحو الرّمّان والتّفّاح من الثّمار بما ورد أنّ سفيان بن عبد اللّه الثّقفيّ وكان عاملًا لعمر على الطّائف‏:‏ أنّ قبله حيطانًا فيها من الفرسك ‏(‏الخوخ‏)‏ والرّمّان ما هو أكثر من غلّة الكروم أضعافًا فكتب يستأمر في العشر‏.‏ فكتب إليه عمر أن ليس عليها عشر، وقال‏:‏ هي من العفاة كلّها وليس فيها عشر‏.‏

الزّكاة في الزّيتون

99 - تجب الزّكاة في الزّيتون عند الحنفيّة والمالكيّة، وهو قول الزّهريّ والأوزاعيّ ومالكٍ واللّيث والثّوريّ، وهو قول الشّافعيّ في القديم، ورواية عن أحمد، وهو مرويّ عن ابن عبّاسٍ، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآتوا حقّه يوم حصاده‏}‏ بعد أنّ ذكر الزّيتون في أوّل الآية‏.‏ ولأنّه يمكن ادّخار غلّته فأشبه التّمر والزّبيب‏.‏ وذهب الشّافعيّة في الجديد وأحمد في الرّواية الأخرى إلى أنّه لا زكاة في الزّيتون لأنّه لا يدّخر يابسًا، فهو كالخضراوات‏.‏

شروط وجوب الزّكاة في الزّروع والثّمار

100 - لا يشترط الحول في زكاة الزّروع والثّمار اتّفاقًا، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآتوا حقّه يوم حصاده‏}‏ ولأنّ الخارج نماء في ذاته فوجبت فيه الزّكاة فورًا كالمعدن، بخلاف سائر الأموال الزّكويّة فإنّما اشترط فيها الحول ليمكن فيه الاستثمار‏.‏ ويشترط لوجوب الزّكاة في الزّروع والثّمار ما يلي‏:‏ الشّرط الأوّل النّصاب‏:‏ ونصابها خمسة أوسقٍ عند الجمهور، وبه قال صاحبا أبي حنيفة في ما يوسق، لما في حديث‏:‏ ‏{‏ليس فيما دون خمسة أوساقٍ من تمرٍ ولا حبٍّ صدقة‏}‏ والوسق لغةً‏:‏ حمل البعير، وهو في الحنطة والعدس ونحوهما ستّون صاعًا بصاع النّبيّ صلى الله عليه وسلم ‏(‏وينظر تحرير مقدار الصّاع في مصطلح‏:‏ مقادير‏)‏ فالنّصاب ثلاثمائة صاعٍ‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يشترط نصاب لزكاة الزّروع والثّمار بل هي واجبة في القليل والكثير ما لم يكن أقلّ من نصف صاعٍ‏.‏ النّصاب فيما لا يكال‏:‏

101 - ذهب أبو يوسف إلى أنّ ما لا يوسق فنصابه بالقيمة، فإن بلغت قيمته قيمة أدنى نصابٍ ممّا يوسق ففيه الزّكاة، وإلاّ فلا‏.‏ وذهب محمّد إلى أنّ نصابه خمسة أمثال ما يقدّر به، ففي القطن خمسة أحمالٍ، وفي العسل خمسة أفراقٍ، وفي السّكّر خمسة أمناءٍ‏.‏ وفي النّصاب مسائل‏:‏

أ - ما يضمّ بعضه إلى بعضٍ لتكميل النّصاب‏:‏

102 - تضمّ أنواع الجنس الواحد لتكميل النّصاب، كأنواع التّمر وإن اختلفت أسماؤها لأنّها كلّها تمر، وصرّح الشّافعيّة بأنّه يؤخذ من كلّ نوعٍ بقسطه، فإن شقّ أخرج من الوسط‏.‏‏.‏ ويضمّ الجيّد من الجنس الواحد إلى الرّديء منه ولا يكمّل جنس من جنسٍ آخر فلا يضمّ التّمر إلى الزّبيب ولا أيّ منهما إلى الحنطة أو الشّعير‏.‏ إلاّ أنّهم اختلفوا في بعض الأشياء أنّها أجناس أو أنواع، كالعلس وكان قوت صنعاء اليمن، فقد قيل‏:‏ هو جنس مستقلّ، فلا بدّ أن يكمّل نصابًا وحده، وهو قول ابن القاسم وأصبغ وابن وهبٍ من المالكيّة، وقيل‏:‏ هو نوع من الحنطة، فيضمّ إليها، وهو مذهب الشّافعيّة والحنابلة‏.‏ وقول مالكٍ وسائر أصحابه، والقمح والشّعير والسّلت أجناس ثلاثة لا يضمّ أحدها إلى الآخر عند الشّافعيّة‏.‏ ومذهب الحنابلة أنّ القمح جنس وأنّ الشّعير والسّلت نوعان من جنسٍ واحدٍ‏.‏ ومذهب المالكيّة أنّ الثّلاثة جنس واحد يكمّل النّصاب منها جميعًا‏.‏ بخلاف الأرز والذّرة والدّخن فهي أجناس مختلفة، وكذلك القطانيّ عند المالكيّة وهي سبعة أصنافٍ كلّها جنس واحد يضمّ بعضه إلى بعضٍ، وكذلك تضمّ القطانيّ بعضها إلى بعضٍ في روايةٍ عند الحنابلة‏.‏

ضمّ غلّة العام الواحد بعضها إلى بعضٍ

103 - لا تضمّ ثمرة عامٍ إلى ثمرة عامٍ آخر ولا الحاصل من الحبّ كذلك‏.‏ وأمّا في العام الواحد، فقد فرّق الشّافعيّة في الأظهر بين الزّرع والثّمر، فأمّا الزّرع فيضمّ ما زرع في العام الواحد بعضه إلى بعضٍ، كالذّرة تزرع في الرّبيع وفي الخريف، وأمّا الثّمر إذا اختلف إدراكه فلا يضمّ بعضه إلى بعضٍ في العام الواحد، وذلك كما لو اختلف إدراكه لاختلاف أنواعه واختلاف بلاده حرارةً وبرودةً، وكما لو أطلع النّخل في العام الواحد مرّتين فلا يضمّ‏.‏ وفي قولٍ عندهم‏:‏ إن أطلع الثّاني بعد جداد الأوّل فلا يضمّ وإلاّ فيضمّ‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ يشترط للضّمّ أن يزرع أحدها قبل استحقاق حصاد الآخر وهو وقت وجوب الزّكاة فيه، ويشترط أيضًا أن يبقى من حبّ الأوّل إلى استحقاق حصاد الثّاني وإن لم يحصد ما يكمل به النّصاب، أمّا لو أكل الأوّل قبل وقت وجوب الزّكاة في الثّاني، فلا يضمّ الثّاني للأوّل بل إن كان الثّاني نصابًا زكّي، وإلاّ فلا‏.‏ وكذا يضمّ زرع ثانٍ إلى أوّلٍ، وثانٍ إلى ثالثٍ، إن كان فيه مع كلٍّ منهما خمسة أوسقٍ، وهذا إن لم يخرج زكاة الأوّلين حتّى يحصد الثّالث‏.‏ وحيث ضمّ أصنافًا بعضها إلى بعضٍ فإنّه يخرج من كلٍّ صنفٍ بحسبه‏.‏ وأطلق الحنابلة القول أنّ زرع العام الواحد يضمّ بعضه إلى بعضٍ إذا اتّفق الجنس، وكذا ثمرة العام، سواء كان الأصل ممّا يحمل مرّتين في العام كالذّرة، أو لا‏.‏

104 - والمعتبر في قدر النّصاب اتّحاد المالك، فإن كان الزّرع والثّمر مشتركًا، أو مختلطًا فلا زكاة فيه ما لم يبلغ ما يملكه المزكّي منه وحده نصابًا، وذهب الشّافعيّة إلى أنّ المال المشترك والمختلط يزكّى زكاة مالٍ واحدٍ فإن بلغ مجموعه نصابًا زكّي، وإلاّ فلا‏.‏ وينظر التّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏خلطة‏)‏‏.‏ ولا ترد هذه التّفريعات كلّها عند الحنفيّة لأنّ النّصاب هنا غير معتبرٍ بل تجب الزّكاة عندهم في قليل الزّروع وكثيرها كما تقدّم‏.‏

ب - نصاب ما له قشر، وما ينقص كيله باليبس‏:‏

105 - يرى الشّافعيّة والحنابلة أنّه تعتبر الأوسق الخمسة بعد التّصفية في الحبوب، وبعد الجفاف في الثّمار فلو كان له عشرة أوسقٍ من العنب لا يجيء منها بعد الجفاف خمسة أوسقٍ من الزّبيب فليس عليه فيها زكاة، وذلك لأنّ الجفاف هو وقت وجوب الإخراج، فاعتبر النّصاب بحال الثّمار وقت الوجوب‏.‏ والمراد بتصفية الحبّ فصله من التّبن ومن القشر الّذي لا يؤكل معه‏.‏ وهذا إن كان الحبّ ييبس ويدّخر‏.‏ أمّا إن كان ممّا لا يصلح ادّخاره إلاّ في قشره الّذي لا يؤكل معه كالعلس، وهو حبّ شبيه بالحنطة، والأرز في بعض البلاد إذ يخزّنونه بقشره، فقد أطلق بعض الشّافعيّة القول بأنّ نصابه عشرة أوسقٍ اعتبارًا لقشره الّذي ادّخاره فيه أصلح له‏.‏ وقال الحنابلة وهو قول الشّيخ أبي حامدٍ من الشّافعيّة‏:‏ يعتبر ما يكون صافيه نصابًا، ويؤخذ الواجب منه بالقشر‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ بل يحسب في النّصاب قشر الأرز والعلس الّذي يخزّنان به كقشر الشّعير فلو كان الأرز مقشورًا أربعة أوسقٍ فإن كان بقشره خمسة أوسقٍ زكّي، وإن كان أقلّ فلا زكاة، وله أن يخرج الواجب مقشورًا أو غير مقشورٍ، وأمّا القشر الّذي لا يخزّن الحبّ به كقشر الفول الأعلى فيحتسب فيه الزّكاة مقدّر الجفاف‏.‏

وقت وجوب الزّكاة في الحبّ والثّمر

106 - اختلف الفقهاء في الوقت الّذي تجب فيه زكاة الزّروع والثّمار‏.‏ فذهب المالكيّة ما عدا ابن عرفة، والشّافعيّة وأبو حنيفة إلى أنّها تجب بإفراك الحبّ، وطيب الثّمر والأمن عليه من الفساد، والمراد بإفراك الحبّ طيبه واستغناؤه عن السّقي، وإن بقي في الأرض لتمام طيبه، وطيب الثّمر نحو أن يزهي البسر، أو تظهر الحلاوة في العنب‏.‏ قالوا‏:‏ لأنّ الحبّ باشتداده يكون طعامًا حقيقةً وهو قبل ذلك بقل، والثّمر قبل بدوّ صلاحه بلح وحصرم، وبعد بدوّ صلاحه ثمرة كاملة، ولأنّ ذلك وقت الخرص، والمراد بالوجوب هنا انعقاد سبب الوجوب، ولا يكون الإخراج إلاّ بعد اليبس والجفاف‏.‏ وذهب أبو يوسف من الحنفيّة وهو قول ابن أبي موسى من الحنابلة وقول ابن عرفة من المالكيّة إلى أنّ الوجوب يتعلّق باليبس واستحقاق الحصاد‏.‏ وذهب محمّد بن الحسن إلى أنّ الوجوب لا يثبت إلاّ بحصاد الثّمرة وجعلها في الجرين‏.‏ وقال الحنابلة‏:‏ يثبت الوجوب ببدوّ الصّلاح في الثّمر، واشتداد الحبّ في الزّرع، ويستقرّ الوجوب بجعل الثّمرة أو الزّرع في الجرين أو البيدر، فلو تلف قبل استقرار الحبوب بجائحةٍ فلا شيء عليه إجماعًا على ما قال ابن المنذر ونقله في شرح المنتهى عنه، أمّا قبل ثبوت الوجوب فلو بيع النّخل أو الأرض فلا زكاة على البائع في الزّرع والثّمر، ولو مات المالك قبل الوجوب فالزّكاة على الورثة إن بقي إلى وقت الوجوب وبلغ نصيب الوارث نصابًا، وكذا إن أوصى بها ومات قبل الوجوب فلا زكاة فيها، ولو أكل من الثّمرة قبل الوجوب لم يحتسب عليه ما أكل، ولو نقصت عن النّصاب بما أكل فلا زكاة عليه‏.‏ وأمّا بعد الوجوب فتلزمه الزّكاة وإن باع أو أوصى بها، ولا شيء على من ملكها بعد أن ثبت الوجوب‏.‏ وذكر الحنابلة ممّا يتفرّع على ذلك أنّه لا زكاة على من حصل على نصابٍ من لقاط السّنبل أو أجرة الحصاد، أو ما يأخذه من المباحات من الحبّ أو العفص والأشنان ونحوها لأنّه لم يملكها وقت الوجوب‏.‏

من تلزمه الزّكاة في حال اختلاف مالك الغلّة عن مالك الأرض

107 - إن كان مالك الزّرع عند وجوب الزّكاة فيه هو مالك الأرض، فالأمر واضح، فتلزمه الزّكاة‏.‏ أمّا إن كان مالك الزّرع غير مالك الأرض فلذلك صور‏:‏

أ - الأرض الخراجيّة‏:‏

108 - أرض الصّلح الّتي أقرّت بأيدي أصحابها على أنّها لهم ولنا عليها الخراج، متى أسلموا سقط خراجها، ووجب عليهم في غلّتها الزّكاة، فإن اشتراها من الذّمّيّ مسلم فعليه الزّكاة فيها، وأرض العنوة الّتي ملكها المسلمون وحيزت لبيت المال فهذه عليها الخراج اتّفاقًا، سواء بقي من هي بيده على دينه أو أسلم أو باعها لمسلمٍ‏;‏ لأنّه خراج بمعنى الأجرة، واختلف الفقهاء هل يجب في غلّتها إن كان صاحبها مسلمًا الزّكاة أيضًا، فذهب الجمهور إلى أنّ الخراج يؤدّى أوّلًا، ثمّ يزكّى ما بقي‏.‏ وذهب الحنفيّة إلى أنّه لا زكاة في غلّة الأرض الخراجيّة، وذلك لأنّ الخراج مئونة الأرض، والعشر فيه معنى المئونة، فلا يجتمع عشر وخراج‏.‏ والتّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏خراج‏)‏‏.‏

ب - الأرض المستعارة والمستأجرة‏:‏

109 - ذهب جمهور الفقهاء ‏(‏المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة والصّاحبان‏)‏ إلى أنّ من استعار أرضًا أو استأجرها فزرعها، فالزّكاة على المستعير والمستأجر لأنّ الغلّة ملكه، والعبرة في الزّكاة بملكيّة الثّمرة لا بملكيّة الأرض أو الشّجر‏.‏ وذهب أبو حنيفة إلى أنّ العشر على المؤجّر لأنّ الأرض كما تستنمى بالزّراعة تستنمى بالإجارة‏.‏

ج - الأرض الّتي تستغلّ بالمزارعة أو المساقاة‏:‏

110 - ذهب الحنابلة والصّاحبان من الحنفيّة إلى أنّ العشر في هاتين الحالتين على كلٍّ من المالك والعامل كلّ بحسب نصيبه من الغلّة إن بلغ نصيبه نصابًا، ومن كان نصيبه منهما أقلّ من نصابٍ فلا عشر عليه، ما لم يكن له من أرضٍ غيرها ما يكمّل به النّصاب‏.‏ وهذا عند الحنابلة على الرّواية الّتي لا تجعل الخلطة مؤثّرةً في زكاة الزّروع‏.‏ أمّا على الرّواية الّتي تجعل الخلطة مؤثّرةً فيها، فإذا بلغت غلّة الأرض خمسة أوسقٍ يكون فيها الزّكاة فيؤخذ من كلٍّ من الشّريكين عشر نصيبه، ما لم يكن أحدهما ممّن لا عشر عليه، كالذّمّيّ‏.‏ وعند أبي حنيفة العشر في المزارعة على ربّ الأرض‏;‏ لأنّ المزارعة عنده فاسدة، فالخارج منها له، تحقيقًا أو تقديرًا‏.‏ ويرى المالكيّة أنّه يجب إخراج زكاة الحائط ‏(‏البستان‏)‏ المساقى عليه من جملة الثّمرة إن بلغت نصابًا، أو كان لربّ الحائط ما إن ضمّه إليها بلغت نصابًا، ثمّ يقتسمان ما بقي، ولا بأس أن تشترط الزّكاة في حظّ ربّ الحائط أو العامل‏;‏ لأنّه يرجع إلى جزءٍ معلومٍ ساقاه عليه فإن لم يشترطا شيئًا فشأن الزّكاة أن يبدأ بها ثمّ يقتسمان ما بقي‏.‏ وقال اللّخميّ نقلًا عن مالكٍ‏:‏ إنّ المساقاة تزكّى على ملك ربّ الحائط فيجب ضمّها إلى ماله من ثمرٍ غيرها، ويزكّي جميعها ولو كان العامل ممّن لا تجب عليه، وتسقط إن كان ربّ الحائط ممّن لا تجب عليه والعامل ممّن تجب عليه‏.‏

د - الأرض المغصوبة‏:‏

111 - ذهب الحنفيّة إلى أنّه لو غصب أرضًا عشريّةً فزرعها إن لم تنقصها الزّراعة فلا عشر على ربّ الأرض، وإن نقصتها الزّراعة كان العشر على ربّ الأرض‏.‏ وقال قاضي خان‏:‏ أرض خراجها وظيفة اغتصبها غاصب فإن كان الغاصب جاحدًا ولا بيّنة للمالك إن لم يزرعها الغاصب فلا خراج على أحدٍ، وإن زرعها الغاصب ولم تنقصها الزّراعة، فالخراج على الغاصب، وإن كان الغاصب مقرًّا بالغصب أو كان للمالك بيّنة ولم تنقصها الزّراعة فالخراج على ربّ الأرض، وإن نقصتها الزّراعة عند أبي يوسف الخراج على ربّ الأرض قلّ النّقصان أو كثر، كأنّه آجرها من الغاصب بضمان النّقصان‏.‏ وعند محمّدٍ ينظر إلى الخراج والنّقصان فأيّهما كان أكثر كان ذلك على الغاصب إن كان النّقصان أكثر من الخراج، فمقدار الخراج يؤدّيه الغاصب إلى السّلطان ويدفع الفضل إلى صاحب الأرض، وإن كان الخراج أكثر يدفع الكلّ إلى السّلطان، ومن نصّهم هذا في الخراج يفهم مرادهم ممّا تقدّم في العشر‏.‏ وذهب المالكيّة إلى أنّ النّخل إذا غصبت ثمّ ردّت بعد أعوامٍ مع ثمرتها، فإنّها تزكّى لكلّ عامٍ بلا خلافٍ إذا لم تكن زكّيت أي يزكّى ما يخرج منها إذا ردّ الغاصب جميعها‏.‏ فإن ردّ بعض ثمارها وكان حصل في كلّ سنةٍ نصاب ولم يردّ جميعه بل ردّ منه قدر نصابٍ فأكثر وكان بحيث لو قسم على سنين الغصب لم يبلغ كلّ سنةٍ نصابًا ففي زكاته قولان‏.‏ وصرّح الحنابلة بأنّ زكاة الزّرع على مالك الأرض إن تملّك الزّرع قبل وقت الحصاد وبعد اشتداده، وذلك لأنّه يتملّكه بمثل بذره وعوض لواحقه، فيستند ملكه إلى أوّل زرعه‏.‏ أمّا إن حصد الغاصب الزّرع بأن لم يتملّكه ربّها قبل حصاده، فزكاة الزّرع على الغاصب لاستقرار ملكه عليه‏.‏ ولم نجد للشّافعيّة نصًّا في هذه المسألة‏.‏

زكاة الزّرع والثّمر المأخوذين من الأرض المباحة

112 - من أخذ من الأرض المباحة ما في جنسه الزّكاة، وبلغ نصابًا‏.‏ فقد ذهب المالكيّة والحنابلة وأبو يوسف إلى أنّه لا زكاة عليه، وهو لمن أخذه‏.‏ قال الحنابلة‏:‏ لكن لو زرع في أرضٍ مباحةٍ ففيه الزّكاة‏.‏ وذهب أبو حنيفة ومحمّد إلى أنّ ثمر الجبال والمفاوز فيه العشر، إن حماه الإمام أي من أهل الحرب والبغاة وقطّاع الطّريق، ولو كان الشّجر غير مملوكٍ ولم يعالجه أحد‏;‏ لأنّ المقصود النّماء، وقد حصل بأخذه‏.‏

خرص الثّمار إذا بدا صلاحها

113 - ذهب جمهور الفقهاء - خلافًا للحنفيّة - إلى أنّه ينبغي للإمام إذا بدا صلاح الثّمار أن يرسل ساعيًا يخرصها - أي يقدّر كم سيكون مقدارها بعد الجفاف - ليعرف قدر الزّكاة الواجبة على أصحابها، وذلك لمعرفة حقّ الفقراء وأهل استحقاق الزّكاة، وللتّوسعة على أهل الثّمار ليخلّي بينهم وبينها فيأكلوا منها رطبًا ثمّ يؤدّون الزّكاة بحساب الخرص المتقدّم، وذلك عند جفاف الثّمر‏.‏ ولمعرفة مؤهّلات الخارص، وما يراعيه عند الخرص، ومعرفة ما يخرص من الغلال وما لا يخرص، وسائر أحكام الخرص ينظر مصطلح‏:‏ ‏(‏خرص‏)‏‏.‏

الحيل لإسقاط الزّكاة

114 - اختلف الفقهاء في حكم التّحيّل لإسقاط الزّكاة‏:‏ فذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى أنّ المالك إن فعل ما تسقط به الزّكاة عنه ولو بنيّة الفرار منها سقطت، ومثّل له ابن عابدين بمن وهب النّصاب قبل الحول بيومٍ، ثمّ رجع في هبته بعد الحول، وكذا لو وهبه أثناء الحول ثمّ رجع أثناء الحول لانقطاع الحول بذلك، وكذا لو وهب النّصاب لابنه، أو استبدل نصاب السّائمة بآخر‏.‏ ثمّ قال أبو يوسف‏:‏ لا يكره ذلك لأنّه امتناع عن الوجوب، لا إبطال لحقّ الغير، وقال محمّد‏:‏ يكره لأنّ فيه إضرارًا بالفقراء وإبطال حقّهم مآلًا‏.‏ والفتوى على قول محمّدٍ عند الحنفيّة‏.‏ وعند الشّافعيّة‏:‏ الفرار مكروه في المعتمد، وقال الغزاليّ‏:‏ حرام ولا تبرأ به الذّمّة في الباطن‏.‏ وذهب المالكيّة والحنابلة والأوزاعيّ وابن الماجشون وإسحاق وأبو عبيدٍ - وهو ما نقله القاضي ابن كجٍّ من الشّافعيّة - إلى تحريم التّحيّل لإسقاط الزّكاة، ولو فعل لم تسقط، كمن أبدل النّصاب من الماشية بغير جنسه فرارًا من الزّكاة، أو أتلف أو استهلك جزءًا من النّصاب عند قرب الحول‏.‏‏.‏ ولو فعل ذلك في أوّل الحول لم تجب الزّكاة‏;‏ لأنّ ذلك ليس بمظنّة الفرار من الزّكاة‏.‏ واستدلّوا بما ذكره اللّه تعالى في سورة القلم من قصّة أصحاب الجنّة، وقوله فيها‏:‏ ‏{‏فطاف عليها طائف من ربّك وهم نائمون فأصبحت كالصّريم‏}‏ فعاقبهم اللّه تعالى على تحيّلهم لإسقاط حقّ الفقراء، فتؤخذ معاقبةً للمحتال بنقيض قصده، قياسًا على منع ميراث القاتل، وتوريث المطلّقة في مرض الموت‏.‏ والّذي يؤخذ منه على ما بيّنه المالكيّة هو زكاة المبدل، ولا تؤخذ منه زكاة البدل إن كانت أكثر لأنّها لم تجب‏.‏

قدر المأخوذ في زكاة الزّروع والثّمار

115 - يؤخذ في زكاة الزّروع والثّمار عشر الخارج أو نصف عشره‏.‏ فالعشر اتّفاقًا فيما سقي بغير كلفةٍ، كالّذي يشرب بماء المطر أو بماء الأنهار سيحًا، أو بالسّوّاقي دون أن يحتاج إلى رفعه غرفًا أو بآلةٍ، أو يشرب بعروقه، وهو ما يزرع في الأرض الّتي ماؤها قريب من وجهها تصل إليه عروق الشّجر فيستغني عن السّقي‏.‏ ويجب فيما يسقى بكلفةٍ نصف العشر، سواء سقته النّواضح أو سقي بالدّوالي، أو السّواني أو الدّواليب أو النّواعير أو غير ذلك‏.‏ وكذا لو مدّ من النّهر ساقيّةً إلى أرضه فإذا بلغها الماء احتاج إلى رفعه بالغرف أو بآلةٍ‏.‏ والضّابط لذلك أن يحتاج في رفع الماء إلى وجه الأرض إلى آلةٍ أو عملٍ‏.‏ واستدلّ لذلك بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏فيما سقت السّماء والعيون أو كان عثريًّا العشر، وما سقي بالنّضج نصف العشر‏}‏ والحكمة في تقليل القدر الواجب فيما فيه عمل أنّ للكلفة أثرًا في تقليل النّماء‏.‏ ولو احتاجت الأرض إلى ساقٍ يسقيها بماء الأنهار أو الأمطار، ويحوّل الماء من جهةٍ إلى جهةٍ، أو احتاجت إلى عمل سواقٍ أو حفر أنهارٍ لم يؤثّر ذلك في تقليل النّصاب‏.‏ وإن سقيت الأرض نصف الوقت بكلفةٍ ونصفها بغير كلفةٍ فالزّكاة ثلاثة أرباع العشر اتّفاقًا، وإن سقيت بأحدهما أكثر من الآخر فالجمهور على اعتبار الأكثر، ويسقط حكم الأقلّ، وقيل‏:‏ يعتبر كلّ منهما بقسطه‏.‏

ما يطرح من الخارج قبل أخذ العشر أو نصفه

116 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ العشر أو نصفه على التّفصيل المتقدّم يؤخذ من كلّ الخارج، فلا يطرح منه البذر الّذي بذره ولا أجرة العمّال أو كري الأنهار أو أجرة الحافظ ونحو ذلك بل يجب العشر في الكلّ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم حكم بتفاوت الواجب لتفاوت المؤنة، ولو رفعت المؤنة لكان الواجب بنفس المقدار، واستظهر الصّيرفيّ أنّ الواجب إن كان جزءًا من الخارج فإنّه يجعل كالهالك وتجب الزّكاة في الباقي‏.‏ وذهب الحنابلة إلى أنّ النّفقة على الزّرع إن كانت دينًا يسقطها مالكه منه قبل احتساب العشر، قال أحمد‏:‏ من استدان ما أنفق على زرعه واستدان ما أنفق على أهله، احتسب ما أنفق على زرعه دون ما أنفق على أهله‏.‏ قالوا‏:‏ وذلك لأنّه من مؤنة الزّرع، فالحاصل في مقابلته يجب صرفه إلى غيره، فكأنّه لم يحصل، وهذا بخلاف سائر الدّيون فإنّها لا تسقط من الحاصل لأنّه من الأموال الظّاهرة على المشهور عند الحنابلة كما تقدّم‏.‏ وشبيه بمؤنة الزّرع عند الحنابلة خراج الأرض فإنّه يؤخذ من الغلّة قبل احتساب الزّكاة فيها‏.‏ ولم نجد للمالكيّة والشّافعيّة كلامًا في هذه المسألة‏.‏

ما يلزم المالك فعله قبل إخراج القدر الواجب

117 - يؤخذ القدر الواجب من الغلّة بعد التّجفيف في الثّمار والتّصفية في الحبوب‏;‏ لأنّه أوان الكمال وحال الادّخار، والمؤنة على الثّمرة إلى حين الإخراج لازمة لربّ المال، لأنّه في حقّ الغلّة، كالحفظ في حقّ الماشية، ولا يحقّ للسّاعي أخذه رطبًا‏.‏ ولو أخرج ربّ المال العشر رطبًا لم يجزئه‏.‏ نصّ على ذلك الحنابلة‏.‏ ويستثنى من ذلك أحوال‏:‏ منها‏:‏ أن يضطرّ إلى قطع الثّمرة قبل كمالها خوفًا من العطش، أو إلى قطع بعضها، فيجوز له ذلك، ومثل ذلك أن يكون قطعها رطبةً أنفع وأصلح‏.‏ ومنها‏:‏ أن يكون الثّمر ممّا لا يجفّ بل يؤكل رطبًا كبعض أنواع العنب والتّمر والفول ونحوها، فتجب فيه الزّكاة حتّى عند من قال بأنّ من شرط ما يزكّى الادّخار، وذلك لأنّه يدّخر من حيث الجملة‏.‏ وفي كلتا الحالتين‏:‏ يجوز أخذ حقّ الفقراء رطبًا، وإن أتلفها ربّ المال فعليه القيمة ويجوز إخراج قدر الزّكاة من الجنس جافًّا إن شاء ربّ المال‏.‏ وقيل‏:‏ يجب في ذمّته العشر جافًّا ولو بأن يشتريه‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ يجب عشر الثّمن إن بيع وإلاّ فالقيمة‏.‏ والزّيتون عند من قال تؤخذ منه الزّكاة، إن كان من الزّيتون الّذي يعصر منه الزّيت يؤخذ العشر من زيته بعد عصره، ولو كان زيته قليلًا‏;‏ لأنّه هو الّذي يدّخر فهو بمثابة التّجفيف في سائر الثّمار‏.‏ وإن كان يدّخر حبًّا، فيؤخذ عشره حبًّا إذا بلغ الحبّ خمسة أوسقٍ‏.‏ وهذا مذهب المالكيّة والحنابلة‏.‏ قال مالك‏:‏ إذا بلغ الزّيتون خمسة أوسقٍ أخذ الخمس من زيته بعد أن يعصر‏.‏ وذهب أبو حنيفة إلى أنّه يخرج العشر منه حبًّا على كلّ حالٍ‏.‏

زكاة العسل والمنتجات الحيوانيّة

118 - ذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّ العسل تؤخذ منه الزّكاة، واحتجّ لهم بما روى عمرو بن شعيبٍ عن أبيه عن جدّه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ‏{‏كان يؤخذ في زمانه من قرب العسل من عشر قرباتٍ قربة من أوسطها‏}‏‏.‏ وورد أنّ أبا سيّارة المتعيّ قال‏:‏ ‏{‏قلت‏:‏ يا رسول اللّه إنّ لي نحلًا، قال‏:‏ أدّ العشر، قلت‏:‏ يا رسول اللّه‏:‏ احمها لي‏.‏ فحماها له‏}‏‏.‏ وأخذ عمر من العسل العشر‏.‏ وذهب المالكيّة والشّافعيّة إلى أنّ العسل لا زكاة فيه‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ ليس في وجوب الصّدقة في العسل خبر يثبت‏.‏ ثمّ ذهب الحنفيّة إلى أنّه يشترط أمران‏:‏ الأوّل‏:‏ أن لا يكون النّحل في أرضٍ خراجيّةٍ‏;‏ لأنّ الخراجيّة يؤخذ منها الخراج، ولا يجتمع عندهم عشر وخراج كما تقدّم‏.‏ الثّاني‏:‏ إن كان النّحل في أرض مفازةٍ أو جبلٍ غير مملوكٍ فلا زكاة فيه إلاّ إن حفظه الإمام من اللّصوص وقطّاع الطّرق، وقال أبو يوسف‏:‏ لا زكاة إلاّ إن كانت الأرض مملوكةً‏.‏

نصاب العسل

‏(‏118 م‏)‏ - قال الحنابلة‏:‏ نصابه عشرة أفراقٍ ‏(‏والفرق مكيال يسع 16 رطلًا عراقيًّا من القمح‏)‏‏.‏ وقيل‏:‏ عندهم النّصاب ألف رطلٍ‏.‏ وقال محمّد‏:‏ خمسة أفراقٍ‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ تجب الزّكاة في قليله وكثيره‏.‏ أمّا ما عدا العسل فقد نصّ الحنفيّة والحنابلة والشّافعيّة على أنّه لا زكاة في الحرير ودودة القزّ‏.‏ وقال الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ لأنّه ليس بمنصوصٍ ولا في معنى المنصوص‏.‏ وأضاف صاحب مطالب أولي النّهى‏:‏ الصّوف والشّعر واللّبن، وذكر الشّافعيّ ممّا لا زكاة فيه أيضًا‏:‏ المسك ونحوه من الطّيب‏.‏

زكاة الخارج من الأرض غير النّبات

119 - قد يستخرج من الأرض غير النّبات الذّهب أو الفضّة أو غيرهما من المعادن الّتي تنطبع كالنّحاس والحديد والزّئبق أو لا تنطبع كالنّفط والقار والفحم وغيرها‏.‏ وكلّ ذلك قد يكون مخلوقًا في الأرض بفعل اللّه تعالى، أو يكون ممّا وضعه فيها الآدميّون كالكنوز الّتي يضعها أهلها في الأرض ثمّ يبيدون وتبقى فيها‏.‏ ويرى الحنفيّة أنّ اسم ‏(‏الرّكاز‏)‏ شامل لكلّ ذلك، ويرى الحنابلة أنّ اسم الرّكاز خاصّ بما هو مركوز في الأرض خلقةً، ويؤخذ الخمس من ذلك أو ربع العشر على اختلافٍ وتفصيلٍ عند الفقهاء، وقد اختلفوا فيما يؤخذ أهو زكاة تصرف في مصارفها أم فيء يصرف في مصارفه‏.‏ ولمعرفة كلّ ذلك تنظر المصطلحات‏:‏ ‏(‏ركاز، كنز، معدن‏)‏‏.‏

زكاة المستخرج من البحار

120 - ذهب جمهور العلماء الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة وهي إحدى روايتين عن أحمد وهو قول أبي عبيدٍ وأبي ثورٍ إلى أنّ المستخرج من البحر من اللّؤلؤ والعنبر والمرجان ونحوها لا شيء فيه من زكاةٍ أو خمسٍ، لما روي عن ابن عبّاسٍ‏:‏ ليس في العنبر شيء، إنّما هو شيء ألقاه البحر وروي مثله عن جابرٍ، ولأنّه قد كان يستخرج على عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم وخلفائه فلم يأت فيه سنّة عنه ولا عنهم‏.‏ وفي روايةٍ عن أحمد وهو قول أبي يوسف‏:‏ فيه الزّكاة، لأنّه يشبه الخارج من معدن البرّ‏.‏ وروي أنّ ابن عبّاسٍ قال في العنبر‏:‏ إن كان فيه شيء ففيه الخمس، وكتب يعلى بن أميّة إلى عمر بن الخطّاب رضي الله عنه في عنبرةٍ وجدها على ساحل البحر فاستشار الصّحابة، فأشاروا أن يأخذ منها الخمس‏.‏ فكتب عمر إليه بذلك‏.‏ وروي مثل ذلك عن الحسن والزّهريّ‏.‏ وعن عمر بن عبد العزيز أنّه أخذ من العنبر الخمس‏.‏ وأمر عمر بن عبد العزيز عامله بعمان أن يأخذ من السّمك الزّكاة إذا بلغ ثمنه مائتي درهمٍ‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ ما خرج من البحر كعنبرٍ إن لم يتقدّم عليه ملك فهو لواجده ولا يخمّس كالصّيد، فإن كان تقدّم عليه ملك فإن كان لجاهليٍّ أو شكّ فيه فركاز، وإن كان لمسلمٍ أو ذمّيٍّ فلقطة‏.‏

القسم الثّالث إخراج الزّكاة

121 - من وجبت عليه الزّكاة إمّا أن يخرجها بإعطائها مباشرةً إلى الفقراء وسائر المستحقّين، وإمّا أن يدفعها إلى الإمام ليصرفها في مصارفها‏.‏ ونذكر هنا الأحكام المتعلّقة بالإخراج وخاصّةً الإخراج المباشر إلى الفقراء‏.‏

النّيّة عند أداء الزّكاة

122 - الزّكاة فريضة من فرائض العبادات، كالصّلاة، ولذلك فإنّ النّيّة شرط فيها عند عامّة العلماء‏.‏ وروي عن الأوزاعيّ عدم اشتراط النّيّة فيها لأنّها دين على صاحبها، وأداء الدّين لا يفتقر إلى نيّةٍ‏.‏ واستدلّ الجمهور بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏إنّما الأعمال بالنّيّات وإنّما لكلّ امرئٍ ما نوى‏}‏‏.‏ ولأنّ إخراج المال للّه يكون فرضًا ويكون نفلًا، فافتقرت الفريضة إلى النّيّة لتمييزها عن النّفل، وقياسًا على الصّلاة‏.‏ ومعنى النّيّة المشترطة في الزّكاة أن يقصد بقلبه أنّ ما يخرجه هو الزّكاة الواجبة عليه في ماله، وإن كان يخرج عمّن تحت يده من صبيٍّ أو مجنونٍ أن يقصد أنّها الزّكاة الواجبة عليهما‏.‏ ويعتبر أن يكون النّاوي مكلّفًا‏;‏ لأنّها فريضة‏.‏ وينوي عند دفعها إلى الإمام أو إلى مستحقّها، أو قبل الدّفع بقليلٍ‏.‏ فإن نوى بعد الدّفع لم يجزئه على ما صرّح به المالكيّة والشّافعيّة‏.‏ أمّا عند الحنفيّة فالشّرط مقارنة النّيّة للأداء ولو حكمًا، كما لو دفع بلا نيّةٍ ثمّ نوى والمال لا يزال قائمًا في ملك الفقير بخلاف ما إذا نوى بعدما استهلكه الفقير أو باعه فلا تجزئ عن الزّكاة‏.‏ وقال الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة‏:‏ إن عزل الزّكاة عن ماله ونوى عند العزل أنّها زكاة كفى ذلك، ولو لم ينو عند الدّفع، قال ابن عابدين‏:‏ لأنّ الدّفع يتفرّق، فيتحرّج باستحضار النّيّة عند كلّ دفعٍ، فاكتفي بذلك، للحرج‏.‏ وإن دفع الزّكاة إلى وكيله ناويًا أنّها زكاة كفى ذلك، والأفضل أن ينوي الوكيل أيضًا عند الدّفع إلى المستحقّين أيضًا ولا تكفي نيّة الوكيل وحده‏.‏ ولو دفع الإنسان كلّ ماله إلى الفقراء تطوّعًا بعد ما وجبت فيه الزّكاة، لم تسقط عنه الزّكاة، بل تبقى في ذمّته، وبهذا قال الشّافعيّة والحنابلة لأنّه لم ينو الفرض‏.‏ وقال الحنفيّة‏:‏ تسقط عنه الزّكاة في هذه الحال استحسانًا لأنّه لمّا أدّى الكلّ زالت المزاحمة بين الجزء المؤدّى وسائر الأجزاء، وبأداء الكلّ للّه تعالى تحقّق أداء الجزء الواجب‏.‏ ولا يجب تعيين المال المخرج عنه، لكن لو عيّنه تعيّن‏.‏ فلو أخرج الزّكاة ونوى عن ماله الغائب الّذي لا يعلم سلامته جاز، لأنّ الأصل بقاؤه ثمّ إن تبيّنت سلامته أجزأه، وإن تبيّن تلفه لم يجز أن يصرف الزّكاة إلى مالٍ آخر، وإن نوى عن مالي الغائب أو الحاضر، فتبيّن تلف الغائب أجزأت عن الحاضر، وإن نوى بالمخرج أن يكون زكاة المال الموروث الّذي يشكّ في موت مورثه لم تجزئه، لأنّه متردّد والأصل عدم الموت‏.‏ ولا يشترط علم آخذ الزّكاة أنّها زكاة‏.‏

النّيّة عند أخذ السّلطان الزّكاة

123 - إن أخذ السّلطان أو نوّابه الزّكاة من الممتنع عن أدائها قهرًا، وبمنزلة الممتنع قهرًا من غيّب ماله لئلاّ تؤخذ منه الزّكاة، والأسير، ومن يتعذّر الوصول إليه، على ما صرّح به شارح المنتهى، فقد اختلف الفقهاء في ذلك‏.‏ فقال الشّافعيّة في الأصحّ وهو قول عند الحنابلة‏:‏ إن أخذ السّلطان الزّكاة من الممتنع قهرًا ونوى عند الأخذ أو عند التّفريق، أجزأت عن الممتنع ظاهرًا وباطنًا، لأنّ تعذّر النّيّة في حقّه أسقط وجوبها عنه، كالصّغير والمجنون، والسّلطان له ولاية على المالك‏.‏ وأطلق المالكيّة القول بإجزائها، وظاهره إجزاؤها ظاهرًا وباطنًا‏.‏ وقال القاضي من الحنابلة‏:‏ إذا أخذها السّلطان أجزأت من غير نيّةٍ سواء أخذها طوعًا أو كرهًا، لأنّ أخذ الإمام لها بمنزلة القسم بين الشّركاء، لأنّه وكيل الفقراء‏;‏ ولأنّ للسّلطان ولايةً عامّةً، وبدليل أنّه يأخذها من الممتنع اتّفاقًا، ولو لم يجزئه لما أخذها، أو لأخذها ثانيةً وثالثةً، حتّى ينفد ماله‏.‏ وفي قول أبي الخطّاب وابن عقيلٍ من الحنابلة‏:‏ إن أخذها الإمام قهرًا أجزأت ظاهرًا، فلا يطالب بها، ولا تجزئ باطنًا، لأنّها عبادة، فلا تجزئ عمّن وجبت عليه بغير نيّةٍ، كالصّلاة، وأخذ الإمام لها يسقط المطالبة بها لا غير‏.‏

تعجيل الزّكاة عن وقت الوجوب

124 - ذهب جمهور الفقهاء ومنهم الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة وأبو عبيدٍ وإسحاق، إلى أنّه يجوز للمزكّي تعجيل إخراج زكاة ماله قبل ميعاد وجوبها، لما ورد ‏{‏أنّ العبّاس سأل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في تعجيل صدقته قبل أن تحلّ، فرخّص له في ذلك‏.‏ وقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم لعمر‏:‏ إنّا قد أخذنا زكاة العبّاس عام الأوّل للعام‏}‏‏.‏ إلاّ أنّ الشّافعيّة قالوا‏:‏ يجوز التّعجيل لعامٍ واحدٍ ولا يجوز لعامين في الأصحّ لأنّ زكاة العام الثّاني لم ينعقد حولها‏.‏ واشترطوا لجواز ذلك أن يكون النّصاب موجودًا، فلا يجوز تعجيل الزّكاة قبل وجود النّصاب، بغير خلافٍ، وذلك لأنّ النّصاب سبب وجوب الزّكاة، والحول شرطها ولا يقدّم الواجب قبل سببه، ويجوز تقديمه قبل شرطه، كإخراج كفّارة اليمين بعد الحلف وقبل الحنث، وكفّارة القتل بعد الجرح وقبل الزّهوق‏.‏ وتوسّع الحنفيّة فقالوا‏:‏ إن كان مالكًا لنصابٍ واحدٍ جاز أن يعجّل زكاة نصبٍ كثيرةٍ لأنّ اللّاحق تابع للحاصل‏.‏ والشّافعيّة أجازوا ذلك في مال التّجارة لأنّ النّصاب فيها عندهم مشترط في آخر الحول فقط لا في أوّله ولا في أثنائه‏.‏ وقال الحنابلة‏:‏ إن ملك نصابًا فقدّم زكاته وزكاة ما قد يستفيده بعد ذلك فلا يجزئه عندهم‏.‏ وقال الحنفيّة، وهو المعتمد عند الشّافعيّة‏:‏ إن قدّم زكاته وزكاة ما قد ينتج منه، أو يربحه منه، أجزأه لأنّه تابع لما هو مالكه الآن‏.‏ وذهب المالكيّة إلى أنّه إن أخرج زكاة الثّمار أو الزّروع قبل الوجوب، بأن دفع الزّكاة من غيرها لم يصحّ ولم تجزئ عنه‏.‏ وكذا لا تجزئ زكاة الماشية إن قدّمها وكان هناك ساعٍ يأتي لقبضها فأخرجها قبل قدومه‏.‏ أمّا زكاة العين والماشية الّتي ليس لها ساعٍ فيجوز تقديمها في حدود شهرٍ واحدٍ لا أكثر، وهذا على سبيل الرّخصة، وهو مع ذلك مكروه والأصل عدم الإجزاء لأنّها عبادة موقوتة بالحول‏.‏

تأخير إخراج الزّكاة عن وقت وجوبها

125 - ذهب جمهور العلماء ‏(‏الشّافعيّة والحنابلة وهو المفتى به عند الحنفيّة‏)‏ إلى أنّ الزّكاة متى وجبت، وجبت المبادرة بإخراجها على الفور، مع القدرة على ذلك وعدم الخشية من ضررٍ‏.‏ واحتجّوا بأنّ اللّه تعالى أمر بإيتاء الزّكاة، ومتى تحقّق وجوبها توجّه الأمر على المكلّف بها، والأمر المطلق يقتضي الفور عندهم‏;‏ ولأنّه لو جاز التّأخير لجاز إلى غير غايةٍ فتنتفي العقوبة على التّرك‏;‏ ولأنّ حاجة الفقراء ناجزة، وحقّهم في الزّكاة ثابت، فيكون تأخيرها منعًا لحقّهم في وقته‏.‏ وسئل أحمد‏:‏ إذا ابتدأ في إخراجها فجعل يخرجها أوّلًا فأوّلًا ‏؟‏ قال‏:‏ لا، بل يخرجها كلّها إذا حال الحول‏.‏ وقال‏:‏ لا يجري على أقاربه من الزّكاة كلّ شهرٍ، أي مع التّأخير‏.‏ ثمّ قال الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ ويجوز التّأخير لعذرٍ‏.‏ وممّا ذكره الشّافعيّة من الأعذار‏:‏ أن يكون المال غائبًا فيمهل إلى مضيّ زمنٍ يمكن فيه إحضاره، وأن يكون بإخراجها أمر مهمّ دينيّ أو دنيويّ، وأن ينتظر بإخراجها صالحًا أو جارًا‏.‏ وممّا ذكره الحنابلة أن يكون عليه مضرّة في تعجيل الإخراج، مثل من يحول عليه الحول قبل مجيء السّاعي، ويخشى إن أخرجها بنفسه أخذها السّاعي منه مرّةً أخرى‏.‏ وكذا إن خشي في إخراجها ضررًا في نفسه أو مالٍ له سواها، لأنّ مثل ذلك يجوز تأخير دين الآدميّ لأجله، فدين اللّه أولى‏.‏ وذهب المالكيّة إلى أنّ الحاضر يجب عليه أن يخرج زكاة ما حضر من ماله وما غاب دون تأخيرٍ مطلقًا، ولو دعت الضّرورة لصرف ما حضر، بخلاف المسافر فله التّأخير إن دعته الضّرورة أو الحاجة لصرف ما معه في نفقته‏.‏ والقول الآخر للحنفيّة، وعليه عامّة مشايخهم أنّ افتراض الزّكاة عمريّ، أي على التّراخي ففي أيّ وقتٍ أدّى يكون مؤدّيًا للواجب، ويتعيّن ذلك الوقت للوجوب، وإذا لم يؤدّ إلى آخر عمره يتضيّق عليه الوجوب حتّى لو لم يؤدّ يأثم إذا مات‏.‏ واستدلّ له الجصّاص بأنّ من عليه الزّكاة إذا هلك نصابه بعد تمام الحول والتّمكّن من الأداء لا يضمن، ولو كانت على الفور لضمن، كمن أخّر صوم رمضان عن وقته فإنّ عليه القضاء‏.‏

حكم من ترك إخراج الزّكاة حتّى مات

126 - من ترك الزّكاة الّتي وجبت عليه، وهو متمكّن من إخراجها، حتّى مات ولم يوص بإخراجها أثم إجماعًا‏.‏ ثمّ ذهب جمهور الفقهاء منهم مالك والشّافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثورٍ، وابن المنذر، وهو مرويّ عن عطاءٍ، والحسن، والزّهريّ إلى أنّ من مات وعليه زكاة لم يؤدّها فإنّها لا تسقط عنه بالموت كسائر حقوق اللّه تعالى الماليّة، ومنها الحجّ والكفّارات، ويجب إخراجها من ماله سواء أوصى بها أو لم يوص، وتخرج من كلّ ماله لأنّها دين للّه، فتعامل معاملة الدّين، ولا تزاحم الوصايا في الثّلث‏;‏ لأنّ الثّلث يكون فيما بعد الدّين‏.‏ واستدلّوا بأنّه حقّ واجب في المال، فلم تسقط بالموت كدين الآدميّ‏.‏ ثمّ قال الشّافعيّة‏:‏ إذا اجتمع دين اللّه مع دين الآدميّ يقدّم دين اللّه لحديث ‏{‏دين اللّه أحقّ أن يقضى‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ يقدّم دين الآدميّ، وقيل‏:‏ يستويان‏.‏ وذهب الأوزاعيّ واللّيث إلى أنّها تؤخذ من الثّلث مقدّمةً على الوصايا ولا يجاوز بها الثّلث‏.‏ وذهب أبو حنيفة والثّوريّ والنّخعيّ والشّعبيّ إلى أنّ الزّكاة تسقط بالموت بمعنى أنّها لا يجب إخراجها من تركته، فإن كان قد أوصى بها فهي وصيّة تزاحم سائر الوصايا في الثّلث، وإن لم يوص بها سقطت، لأنّها عبادة من شرطها النّيّة، فسقطت بموت من هي عليه كالصّلاة والصّوم، فإن أخرجها الورثة فهي صدقة تطوّعٍ منهم‏.‏ ويستثنى من هذا عند الحنفيّة في ظاهر الرّواية عشر الخارج من الأرض، فيؤخذ من تركة الميّت لأنّه عندهم في معنى مئونة الأرض‏.‏ وفي روايةٍ‏:‏ بل يسقط أيضًا‏.‏ ثمّ عند المالكيّة تخرج زكاة فرّط فيها من رأس ماله إن تحقّق أنّه لم يخرجها، أمّا إن كان ذلك بمجرّد إقراره في مرض موته وأشهد على بقائها في ذمّته، وأوصى بإخراجها فهي من الثّلث، وإلاّ فلا تخرج أصلًا‏.‏ وأمّا زكاة عام موته فإن اعترف بحلولها وأوصى بإخراجها أخرجت من رأس المال‏.‏

تراكم الزّكاة لسنين

127 - إذا أتى على المكلّف بالزّكاة سنون لم يؤدّ زكاته فيها وقد تمّت شروط الوجوب، لم يسقط عنه منها شيء اتّفاقًا، ووجب عليه أن يؤدّي الزّكاة عن كلّ السّنين الّتي مضت ولم يخرج زكاته فيها‏.‏ ولكن اختلف الفقهاء في أنّه هل يسقط من المال قدر زكاته للسّنة الأولى ويزكّي في الثّانية ما عداه، وهكذا في الثّالثة وما بعدها، أم يزكّي كلّ المال لكلّ السّنين ‏؟‏‏.‏ قال ابن قدامة‏:‏ فائدة الخلاف‏:‏ أنّها إذا كانت في الذّمّة فحال على ماله حولان لم يؤدّ زكاتهما وجب عليه أداؤها لما مضى، ولا تنقضي عنه الزّكاة في الحول الثّاني، وكذلك إن كان أكثر من نصابٍ لم تنقص الزّكاة، وإن مضى عليه أحوال، فلو كان عنده أربعون شاةً مضى عليها ثلاثة أحوالٍ لم يؤدّ زكاتها وجب عليه ثلاث شياهٍ، وإن كانت مائة دينارٍ، فعليه سبعة دنانير ونصف‏;‏ لأنّ الزّكاة وجبت في ذمّته فلم يؤثّر في تنقيص النّصاب، لكن إن لم يكن له مال آخر يؤدّي الزّكاة منه احتمل أن تسقط الزّكاة في قدرها‏;‏ لأنّ الدّين يمنع وجوب الزّكاة‏.‏ وإن قلنا‏:‏ الزّكاة تتعلّق بالعين، وكان النّصاب ممّا تجب الزّكاة في عينه فحالت عليه أحوال لم تؤدّ زكاتها تعلّقت الزّكاة في الحول الأوّل من النّصاب بقدرها، فإن كان نصابًا لا زيادة عليه فلا زكاة فيه فيما بعد الحول الأوّل‏;‏ لأنّ النّصاب نقص فيه، وإن كان أكثر من نصابٍ عزل قدر فرض الحول الأوّل، وعليه زكاة ما بقي‏.‏ وهذا هو المنصوص عن أحمد في رواية جماعة‏.‏

حكم من شكّ هل أدّى الزّكاة أم لم يؤدّها

128 - تعرّض لهذه المسألة الحنفيّة‏:‏ فقالوا‏:‏ إنّ من شكّ هل أدّى زكاته أو لا يجب عليه أن يزكّي بخلاف ما لو شكّ بعد الوقت أنّه هل صلّى أم لا، لا يعيد‏.‏ قالوا‏:‏ لأنّ وقت الزّكاة لا آخر له، بل هو العمر، فالشّكّ فيها كالشّكّ في الصّلاة في الوقت‏.‏ وقواعد المذاهب الأخرى تقتضي مثل ذلك فإنّ اليقين لا يزول بالشّكّ‏.‏

صور إخراج الزّكاة

129 - الزّكاة إمّا أن تخرج من أعيان المال وهو الأصل في غير زكاة العروض التّجاريّة وقد تقدّم‏.‏ وإمّا أن تخرج القيمة‏.‏ ذهب الجمهور إلى أنّ الواجب في زكاة عروض التّجارة إخراج القيمة، ولا يجزئ إخراج شيءٍ من أعيان العروض عندهم، خلافًا للحنفيّة القائلين بالجواز‏.‏ ويجزئ إخراج الذّهب عن الفضّة بالقيمة وعكسه، وهو مذهب الحنفيّة والمالكيّة، ورواية عند الحنابلة رجّحها ابن قدامة‏.‏ وذلك لأنّ المقصود من هذين الجنسين الثّمنيّة، والتّوسّل بها إلى المقاصد، وذلك موجود في الجنسين جميعًا، ومن هنا فرّق من فرّق بينهما وبين سائر الأجناس، فإنّ لكلّ جنسٍ مقصودًا مختصًّا به لا يحصل بالجنس الآخر‏.‏ ولأنّ إخراج القيمة هنا قد يكون أرفق بالآخذ والمعطي‏.‏ وقد يندرئ به الضّرر عنهما، فإنّه لو تعيّن إخراج زكاة الدّنانير منها شقّ على من يملك أقلّ من أربعين دينارًا ذهبًا إخراج جزءٍ من دينارٍ، لأنّه يحتاج إلى قطعه أو بيعه أو مشاركة الفقير له فيه، وفي كلّ ذلك ضرر، قال ابن قدامة‏:‏ وعلى هذا لا يجوز الإبدال في موضعٍ يلحق فيه الفقير ضرر‏.‏ وأضاف المالكيّة على المشهور عندهم جواز إخراج الفلوس عن كلٍّ من الذّهب والفضّة‏.‏

130 - وأمّا ما عدا ذلك كزكاة المواشي والزّروع وإخراج زكاة الذّهب أو الفضّة عن غيرهما أو العكس، فقد اختلف الفقهاء في إخراج القيمة على مذاهب‏:‏ فذهب الجمهور ‏(‏الشّافعيّة، والمالكيّة على قولٍ، والحنابلة في روايةٍ وهي المذهب‏)‏ إلى أنّه لا يجوز إخراج القيم في الزّكاة، واستثنى بعض أصحاب هذا القول نحو إخراج بنت لبونٍ عن بنت مخاضٍ‏.‏ واحتجّوا بحديث ‏{‏في أربعين شاةٍ شاة، وفي مائتي درهمٍ خمسة دراهم‏}‏ فتكون الشّاة المذكورة والدّراهم المذكورة هي المأمور بها، والأمر يقتضي الوجوب‏.‏ واحتجّوا أيضًا بما في حديث كتاب أبي بكرٍ ‏{‏هذه الصّدقة الّتي فرضها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على المسلمين وأمر بها أن تؤدّى، وكان فيه‏:‏ في خمسٍ وعشرين من الإبل بنت مخاضٍ، فإن لم تكن فابن لبونٍ ذكر‏}‏ وهذا يدلّ على أنّه أراد عينها‏.‏ وبحديث معاذٍ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن فقال ‏{‏خذ الحبّ من الحبّ، والشّاة من الغنم، والبعير من الإبل، والبقرة من البقر‏}‏‏.‏ قالوا‏:‏ ولأنّ الزّكاة فرضت دفعًا لحاجة الفقير، وحاجاته متنوّعة، فينبغي أن يتنوّع الواجب ليتنوّع ما يصل إليه، ووجبت شكرًا لنعمة المال، ويحصل ذلك بالمواساة ممّا أنعم اللّه به عليه‏.‏ ولأنّ الزّكاة قربة للّه تعالى وما كان كذلك فسبيله الاتّباع، ولو جازت القيمة لبيّنها النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏.‏ وذهب الحنفيّة، وهو القول المشهور عند المالكيّة، والرّواية الأخرى عند الحنابلة وقول الثّوريّ إلى أنّ إخراج القيمة جائز، وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز‏.‏ لكن قال المالكيّة‏:‏ يجوز، ويجزئ مع الكراهة‏;‏ لأنّه من قبيل شراء الإنسان الصّدقة الّتي أخرجها للّه تعالى‏.‏ واحتجّ القائلون بإجزاء القيمة، بما روي أنّ معاذًا قال لأهل اليمن‏:‏ ائتوني بعرض ثيابٍ آخذه منكم مكان الذّرة والشّعير، فإنّه أهون عليكم، وخير للمهاجرين بالمدينة‏.‏ وقال عطاء‏:‏ « كان عمر بن الخطّاب رضي الله عنه يأخذ العروض في الصّدقة من الدّراهم أي عنها‏;‏ ولأنّ الغرض منها سدّ خلّة المحتاج، وذلك معنًى معقول‏;‏ ولأنّ حاجاته مختلفة، وبالقيمة يحصّل ما شاء من حاجاته‏.‏ وقياسًا على الجزية فإنّ القيمة مجزئة فيها اتّفاقًا، والغرض منها كفاية المقاتلة، ومن الزّكاة كفاية الفقير‏.‏ واحتجّوا أيضًا بما في حديث أنسٍ المرفوع ‏{‏من بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة وليست عنده جذعة وعنده حقّة فإنّها تؤخذ منه الحقّة، ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له، أو عشرين درهمًا‏}‏‏.‏ قال ابن الهمام‏:‏ فانتقل إلى القيمة في موضعين، فعلمنا أن ليس المقصود خصوص عين السّنّ المعيّن وإلاّ لسقط إن تعذّر، أو لوجب عليه أن يشتريه فيدفعه‏.‏ ثمّ قال المالكيّة‏:‏ إن أكره على دفع القيمة فدفعها أجزأت، قولًا واحدًا‏.‏ وقال ابن تيميّة‏:‏ لا تجزئ القيم إلاّ عند الحاجة، مثل من يبيع عنبه ورطبه قبل اليبس‏.‏ قال‏:‏ وهذا هو المنصوص عن أحمد صريحًا، فإنّه منع من إخراج القيم وجوّزه في مواضع للحاجة‏.‏

الإخراج بإسقاط المزكّي دينه عن مستحقٍّ للزّكاة

131 - لا يجوز للدّائن أن يسقط دينه عن مدينه الفقير المعسر الّذي ليس عنده ما يسدّ به دينه ويحسبه من زكاة ماله‏.‏ فإن فعل ذلك لم يجزئه عن الزّكاة، وبهذا قال الحنفيّة والحنابلة والمالكيّة ما عدا أشهب، وهو الأصحّ عند الشّافعيّة، وقول أبي عبيدٍ‏.‏ ووجه المنع أنّ الزّكاة لحقّ اللّه تعالى، فلا يجوز للإنسان أن يصرفها إلى نفع نفسه أو إحياء ماله، واستيفاء دينه‏.‏ وذهب الشّافعيّة في قولٍ وأشهب من المالكيّة وهو منقول عن الحسن البصريّ وعطاءٍ‏:‏ إلى جواز ذلك‏;‏ لأنّه لو دفع إليه زكاته ثمّ أخذها منه عن دينه جاز، فكذا هذا‏.‏ فإن دفع الدّائن زكاة ماله إلى مدينه فردّها المدين إليه سدادًا لدينه، أو استقرض المدين ما يسدّ به دينه فدفعه إلى الدّائن فردّه إليه واحتسبه من الزّكاة، فإن لم يكن ذلك حيلةً، أو تواطؤًا، أو قصدًا لإحياء ماله، جاز عند الجمهور، وهو قول عند المالكيّة‏.‏ وإن كان على سبيل الحيلة لم يجز عند المالكيّة والحنابلة، وجاز عند الشّافعيّة ما لم يكن ذلك عن شرطٍ واتّفاقٍ، بل بمجرّد النّيّة من الطّرفين‏.‏ لكن صرّح الحنفيّة بأنّه لو وهب جميع الدّين إلى المدين الفقير سقطت زكاة ذلك الدّين ولو لم ينو الزّكاة، وهذا استحسان‏.‏

احتساب المكس ونحوه عن الزّكاة

132 - قال السّرخسيّ الحنفيّ‏:‏ إذا نوى أن يكون المكس زكاةً فالصّحيح - أي عند الحنفيّة - أنّه لا يقع عن الزّكاة، ونقله ابن عابدين عن الفتاوى البزّازيّة‏.‏ وعند المالكيّة أفتى الشّيخ عليش فيمن يملك نصابًا من الأنعام، فجعل عليه الحاكم نقدًا معلومًا كلّ سنةٍ، يأخذه بغير اسم الزّكاة، فلا يسوغ له أن ينوي به الزّكاة، وإن نواها لا تسقط عنه، وقال‏:‏ أفتى به النّاصر اللّقانيّ والحطّاب‏.‏ وفي المجموع للنّوويّ‏:‏ اتّفق الأصحاب أنّ الخراج المأخوذ ظلمًا لا يقوم مقام العشر، فإن أخذه السّلطان على أن يكون بدل العشر فهو كأخذ القيمة، وفي سقوط الفرض به خلاف، والصّحيح السّقوط به، فعلى هذا إن لم يبلغ در العشر أخرج الباقي‏.‏ وأفتى ابن حجرٍ الهيتميّ بأنّ ما يؤخذ من التّاجر من المكس لا يحسب عنه زكاةً، ولو نوى به الزّكاة‏;‏ لأنّ الإمام لم يأخذه باسم الزّكاة‏.‏ وعند الحنابلة روايتان‏:‏ إحداهما يجزئ والأخرى لا يجزئ، قال ابن مفلحٍ‏:‏ وهي الأصحّ‏;‏ لأنّه أخذها غصبًا‏.‏ وفي فتاوى ابن تيميّة‏:‏ ما يأخذه ولاة الأمور بغير اسم الزّكاة لا يعتدّ به من الزّكاة‏.‏

ما ينبغي لمخرج الزّكاة مراعاته في الإخراج

133 - أ - يستحبّ للمزكّي إخراج الجيّد من ماله، مع العلم بأنّ الواجب في حقّه الوسط، وذلك لقول اللّه تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏يا أيّها الّذين آمنوا أنفقوا من طيّبات ما كسبتم وممّا أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمّموا الخبيث منه تنفقون‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لن تنالوا البرّ حتّى تنفقوا ممّا تحبّون‏}‏‏.‏

134 - ب - إظهار إخراج الزّكاة وإعلانه، قال ابن عبّاسٍ‏:‏ جعل اللّه صدقة السّرّ في التّطوّع تفضل علانيتها، يقال‏:‏ بسبعين ضعفًا، وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرّها، يقال‏:‏ بخمسةٍ وعشرين ضعفًا، قال‏:‏ وكذلك جميع الفرائض والنّوافل في الأشياء كلّها‏.‏ وقال الطّبريّ‏:‏ أجمع النّاس على أنّ إظهار الواجب أفضل‏.‏ ا هـ‏.‏ وأمّا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن تبدوا الصّدقات فنعمّا هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم‏}‏ فهو في صدقة التّطوّع، نظيرها الصّلاة، تطوّعها في البيت أفضل، وفريضتها في المسجد ومع الجماعة أفضل‏.‏

ج - الحذر من المنّ والرّياء والأذى، وهذه الأمور محرّمة في كلّ ما يخرج من المال ممّا يقصد به وجه اللّه تعالى، وتحبط الأجر لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيّها الّذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى‏}‏‏.‏ ومن هنا استحبّ المالكيّة للمزكّي أن يستنيب من يخرجها خوف قصد المحمدة‏.‏

ج - اختيار المزكّي من يعطيه الزّكاة‏:‏

136 - إعطاء المستحقّين الزّكاة ليس بدرجةٍ واحدةٍ من الفضل، بل يتمايز‏.‏ فقد نصّ المالكيّة على أنّه يندب للمزكّي إيثار المضطرّ أي المحتاج، على غيره، بأن يزاد في إعطائه منها دون عموم الأصناف‏.‏

د - أن لا يخبر المزكّي الفقير أنّها زكاة‏:‏

137 - قيل لأحمد‏:‏ يدفع الرّجل زكاته إلى الرّجل، فيقول‏:‏ هذا من الزّكاة، أو يسكت ‏؟‏ قال‏:‏ ولم يبكّته بهذا القول ‏؟‏ يعطيه ويسكت، ما حاجته إلى أن يقرّعه ‏؟‏ وهذا يقتضي الكراهة وبه صرّح اللّقانيّ من المالكيّة، قال‏:‏ لما فيه من كسر قلب الفقير‏.‏ وقال ابن أبي هريرة من الشّافعيّة‏:‏ لا بدّ أن يقول بلسانه شيئًا، كالهبة، قال النّوويّ‏:‏ هذا ليس بشيءٍ‏.‏ قال‏:‏ والصّحيح المشهور أنّه إذا دفعها إلى المستحقّ ولم يقل هي زكاة، ولا تكلّم بشيءٍ أصلًا فإنّها تجزئه وتقع زكاةً‏.‏ لكن قال الشّافعيّة‏:‏ إن أعطاه ولم يبيّن له أنّها زكاة فبان الآخذ غنيًّا لم يرجع عليه بشيءٍ‏.‏

التّوكيل في أداء الزّكاة

138 - يجوز للمزكّي أن يوكّل غيره في أداء زكاته، سواء في إيصالها للإمام أو نائبه، أو في أدائها إلى المستحقّ، سواء عيّن ذلك المستحقّ أو فوّض تعيينه إلى الوكيل‏.‏ وقد نصّ الشّافعيّة على أنّ إخراج المزكّي الزّكاة بنفسه أفضل من التّوكيل‏;‏ لأنّه بفعل نفسه أوثق‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ التّوكيل أفضل خشية قصد المحمدة، ويجب لمن يعلم من نفسه ذلك القصد، أو يجهل المستحقّين‏.‏ قالوا‏:‏ وليس للوكيل صرفها لقريب المزكّي الّذي تلزمه نفقته، فإن لم تلزمه نفقته كره‏.‏ ثمّ قال الشّافعيّة‏:‏ إن كان الوكيل بالغًا عاقلًا، جاز التّفويض إليه، فإن كان صبيًّا أو سفيهًا لم يصحّ التّوكيل، إلاّ إن نوى الموكّل وعيّن له من يعطيه المال‏.‏

تلف المال كلّه أو بعضه بعد وجوب الزّكاة

139 - من وجبت عليه الزّكاة فلم يخرجها ثمّ ضاع المال كلّه أو بعضه، أو تلف بغير فعل المزكّي فقد اختلف الفقهاء في ذلك‏:‏ فقال الحنفيّة‏:‏ إن تلف المال سقطت الزّكاة‏;‏ لأنّ الواجب جزء من النّصاب فيسقط بهلاك محلّه، لكن إن كان هلاكه بعد طلب السّاعي فقيل‏:‏ يضمن، وقيل‏:‏ لا يضمن‏.‏ قالوا‏:‏ وإذا هلك بعض المال يسقط من الزّكاة بقدره أي بنسبة ما هلك‏.‏ وقالوا‏:‏ إن تلف من مال الزّكاة بعد الحول ما كان به الباقي أقلّ من نصابٍ قبل إمكان الأداء بلا تفريطٍ سقطت الزّكاة، فإن أمكن الأداء وفرّط ضمن‏.‏ وقال المالكيّة والشّافعيّة‏:‏ إن كان ضياعه بتفريطه في حفظه وجبت عليه زكاة كلّ المال، وكذا إن فرّط في الإخراج بعد التّمكّن، بأن وجد المستحقّ، سواء طلب الزّكاة أم لم يطلبها، لتقصيره بحبس الحقّ عن مستحقّه‏.‏ ثمّ قال الشّافعيّة‏:‏ إن لم يكن فرّط زكّى الباقي فقط بقسطه، ولو كان أقلّ من نصابٍ، على الأظهر عندهم، فلو ملك خمسًا من الإبل فتلفت واحدة منه قبل التّمكّن ففي الباقي 5 4 شاةٍ على الأظهر، ولا شيء على الثّاني‏.‏ وقال المالكيّة - وهو قول آخر للشّافعيّة‏:‏ إن كان الباقي أقلّ من نصابٍ سقطت الزّكاة‏.‏ وقال الحنابلة‏:‏ يجب عليه زكاة كلّ المال، حتّى لو ضاع كلّه بعد الحول فالزّكاة في ذمّته لا تسقط إلاّ بالأداء، لأنّها حقّ للفقراء ومن معهم لم يصل إليهم، كدين الآدميّ‏.‏

تلف الزّكاة بعد عزلها

140 - لو عزل الزّكاة ونوى أنّها زكاة ماله فتلفت فالحكم كذلك عند كلٍّ من المالكيّة والحنابلة‏.‏ وذكر المالكيّة صورة ما لو عزل الزّكاة فتلف المال وبقيت الزّكاة، فإنّه يجب عليه إخراجها ولا تسقط بتلف المال‏.‏

القسم الرّابع‏:‏ جمع الإمام ونوّابه للزّكاة

141 - للإمام حقّ أخذ الزّكاة من المال الّذي وجبت فيه ‏(‏على خلافٍ في بعض الأموال يأتي بيانه‏)‏‏.‏ وكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم والخليفتان بعده يأخذون الزّكاة من كلّ الأموال، إلى أن فوّض عثمان رضي الله عنه في خلافته أداء الزّكاة عن الأموال الباطنة إلى ملّاكها، كما يأتي‏.‏ ودليل ذلك قوله تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏خذ من أموالهم صدقةً تطهّرهم وتزكّيهم بها‏}‏ وقول أبي بكرٍ رضي الله عنه‏:‏ واللّه لو منعوني عقالًا كانوا يؤدّونه إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه واتّفق الصّحابة على ذلك‏.‏ ويجب على الإمام أخذ الزّكاة ممّن وجبت عليهم، فقد صرّح الشّافعيّة بأنّه يجب على الإمام بعث السّعاة لأخذ الصّدقات، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده كانوا يبعثون السّعاة، ولأنّ في النّاس من يملك المال ولا يعرف ما يجب عليه، ومنهم من يبخل‏.‏ والوجوب هو أحد قولي المالكيّة، واحتجّوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏خذ من أموالهم صدقةً‏}‏‏.‏ والّذين رخّصوا للإمام في عدم أخذ الزّكاة من جميع الأموال أو من بعضها دون بعضٍ، إنّما هو إذا علم الإمام أنّهم إذا لم يأخذها منهم أخرجوها من عند أنفسهم، أمّا لو علم أنّ إنسانًا من النّاس أو جماعةً منهم لا يخرجون الزّكاة فيجب على الإمام أخذها منهم ولو قهرًا، كما تقدّم‏;‏ لأنّ الإمامة لحراسة الدّين وسياسة الدّنيا، ومنع الزّكاة هدم لركنٍ من أركان الدّين‏.‏

حكم دفع الزّكاة إلى الإمام العادل

142 - المراد بالإمام العادل هنا من يأخذ الزّكاة بحقّها، ويعطيها لمستحقّها، ولو كان جائرًا في غير ذلك على ما صرّح به المالكيّة‏.‏ ومن دفع زكاة ماله إلى الإمام العادل جاز، وأجزأت عنه اتّفاقًا‏.‏ ولو كان بإمكانه دفعها إلى الإمام وتفريقها بنفسه فقد اختلف الفقهاء في ذلك‏:‏ فذهب مالك وأبو حنيفة وأبو عبيدٍ، وهو القديم من قولي الشّافعيّ، إلى التّفريق بين الأموال الظّاهرة، وهي الزّروع، والمواشي، والمعادن، ونحوها، وبين الأموال الباطنة وهي الذّهب والفضّة والتّجارات‏.‏ فأمّا الظّاهرة فيجب دفعها إلى الإمام، لأنّ أبا بكرٍ طالبهم بالزّكاة وقاتلهم عليها، ووافقه الصّحابة على هذا، فليس للمزكّي إخراجها بنفسه، حتّى لقد صرّح الشّافعيّة بأنّه لو أخرجها كذلك لم تجزئه‏.‏ ولأنّ ما للإمام قبضه بحكم الولاية لا يجوز دفعه إلى المولّى عليه، كوليّ اليتيم‏.‏ وأمّا زكاة الأموال الباطنة فقال الحنفيّة‏:‏ للإمام طلبها، وحقّه ثابت في أخذ الزّكاة من كلّ مالٍ تجب فيه الزّكاة، للآية‏.‏ وما فعله عثمان رضي الله عنه أنّه فوّض إلى الملّاك زكاة المال الباطن، فهم نوّابه في ذلك، وهذا لا يسقط طلب الإمام أصلًا، ولهذا لو علم أنّ أهل بلدةٍ لا يؤدّون زكاتهم طالبهم بها‏.‏ فأمّا إذا لم يطلبها لم يجب الدّفع إليه‏.‏ وقال المالكيّة والشّافعيّة‏:‏ زكاة الأموال الباطنة مفوّضة لأربابها، فلربّ المال أن يوصلها إلى الفقراء وسائر المستحقّين بنفسه‏.‏ وذهب الحنابلة، وهو الجديد المعتمد من قولي الشّافعيّ‏:‏ إلى أنّ الدّفع إلى الإمام غير واجبٍ في الأموال الظّاهرة والباطنة على السّواء، فيجوز للمالك صرفها إلى المستحقّين مباشرةً، قياسًا للظّاهرة على الباطنة، ولأنّ في ذلك إيصال الحقّ إلى مستحقّه الجائز تصرّفه، فيجزئه، كما لو دفع الدّين إلى غريمه مباشرةً، وأخذ الإمام لها إنّما هو بحكم النّيابة عن مستحقّها، فإذا دفعها إليهم جاز‏;‏ لأنّهم أهل رشدٍ‏.‏ ثمّ قال الشّافعيّة في الأظهر‏:‏ الصّرف إلى الإمام أفضل من تفريقها بنفسه‏;‏ لأنّه أعرف بالمستحقّين، وأقدر على التّفريق بينهم، وبه يبرأ ظاهرًا وباطنًا‏.‏ ثمّ قال الحنابلة‏:‏ تفرقتها بنفسه، أولى وأفضل من دفعها إلى الإمام، لأنّه إيصال للحقّ إلى مستحقّه، فيسلم عن خطر الخيانة من الإمام أو عمّاله‏;‏ ولأنّ فيه مباشرة تفريج كربة من يستحقّها، وفيه توفير لأجر العمالة، مع تمكّنه من إعطاء محاويج أقربائه، وذوي رحمه، وصلتهم بها، إلاّ أنّه إن لم يثق بأمانة نفسه فالأفضل له دفعها إلى السّاعي، لئلاّ يمنعه الشّحّ من إخراجها‏.‏ أمّا لو طلب الإمام العادل الزّكاة فإنّه يجب الدّفع إليه اتّفاقًا، وسواء كان المال ظاهرًا أو باطنًا، والخلاف في استحقاقه جمع زكاة المال الباطن لا يبيح معصيته في ذلك إن طلبه، لأنّ الموضع موضع اجتهادٍ، وأمر الإمام يرفع الخلاف كحكم القاضي، كما هو معلوم من قواعد الشّريعة‏.‏ وصرّح المالكيّة بأنّ الإمام العدل إن طلبها فادّعى المالك إخراجها لم يصدّق‏.‏

دفع الزّكاة إلى الأئمّة الجائرين، وإلى البغاة

143 - إن أخذ الإمام الجائر الزّكاة قهرًا أجزأت عن صاحبها‏.‏ وكذا إن أكره الإمام المزكّي فخاف الضّرر إن لم يدفعها إليه‏.‏ واختلف الفقهاء فيمن كان قادرًا على الامتناع عن دفعها إلى الإمام الجائر، أو على إخفاء ماله، أو إنكار وجوبها عليه، أو نحو ذلك‏:‏ فذهب الجمهور من الحنفيّة والمالكيّة إلى عدم جواز دفعها إلى الإمام حينئذٍ، وأنّها لا تجزئ عن دافعها على التّفصيل التّالي‏:‏ فقال الحنفيّة‏:‏ إذا أخذ الخوارج والسّلاطين الجائرون زكاة الأموال الظّاهرة كزكاة السّوائم والزّروع وما يأخذه العاشر، فإن صرفوه في مصارفه المشروعة فلا إعادة على المزكّي، وإلاّ فعلى المزكّي فيما بينه وبين اللّه تعالى إعادة إخراجها‏.‏ وفي حالة كون الآخذ لها البغاة ليس للإمام أن يطالب أصحاب الأموال بها‏;‏ لأنّه لم يحمهم من البغاة، والجباية بالحماية، ويفتى البغاة بأن يعيدوا ما أخذوه من الزّكاة‏.‏ وأمّا الأموال الباطنة فلا يصحّ دفعها إلى السّلطان الجائر‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ إن دفعها إلى السّلطان الجائر اختيارًا، فدفعها السّلطان لمستحقّها أجزأت عنه، وإلاّ لم تجزئه‏.‏ فإن طلبها الجائر فعلى ربّها جحدها والهرب بها ما أمكن، فإن أكرهه جاز‏.‏ وهذا إن كان جائرًا في أخذها أو صرفها، وسواء كانت من الأموال الظّاهرة أو الباطنة‏.‏ أمّا إن كان عادلًا فيها وجائرًا في غيرها، فيجوز الدّفع إليه مع الكراهة‏.‏ أمّا الشّافعيّة فذهبوا إلى أنّه إن طلب الإمام الجائر زكاة المال الباطن، فصرفها إليه أفضل، وكذا زكاة المال الظّاهر سواء لم يطلبها أو طلبها، وفي التّحفة إن طلبها وجب الدّفع إليه‏.‏ وذهب الحنابلة إلى أنّ دفع الزّكاة إلى الإمام الجائر والبغاة والخوارج إذا غلبوا على البلد جائز سواء كانت من الأموال الظّاهرة أو الباطنة‏.‏ ويبرأ المزكّي بدفعها إليهم، سواء صرفها الإمام في مصارفها أو لا‏.‏ واحتجّوا بما ورد في ذلك عن بعض الصّحابة، منهم سعد بن أبي وقّاصٍ وجابرٍ وأبي هريرة وابن عمر وغيرهم‏.‏

إرسال الجباة والسّعاة لجمع الزّكاة وصرفها

144 - يجب على الإمام أن يرسل السّعاة لقبض الزّكاة وتفريقها على مستحقّيها، وقد ‏{‏كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يولّي العمّال ذلك ويبعثهم إلى أصحاب الأموال، فقد استعمل عمر بن الخطّاب رضي الله عنه عليها‏}‏، وورد أنّه استعمل ابن اللّتبيّة‏.‏ وكذلك الخلفاء الرّاشدون كانوا يرسلون سعاتهم لقبضها‏.‏ ويشترط في السّاعي ما يلي‏:‏

1 - أن يكون مسلمًا، فلا يستعمل عليها كافرًا لأنّها ولاية، وفيها تعظيم للوالي‏.‏

2 - وأن يكون عدلًا، أي ثقةً مأمونًا، لا يخون ولا يجور في الجمع، ولا يحابي في القسمة‏.‏

3 - وأن يكون فقيهًا في أمور الزّكاة، لأنّه يحتاج إلى معرفة ما يؤخذ وما لا يؤخذ، ومحتاج إلى الاجتهاد فيما يعرض له من وقائع الزّكاة‏.‏

4 - وأن يكون فيه الكفاية، وهي القدرة على القيام بالعمل وضبطه على الوجه المعتبر‏.‏

5- وأن لا يكون من آل البيت، وفي هذا الشّرط اختلاف بين الفقهاء‏.‏ ومعنى اشتراطه هنا عدم استحقاقه للأخذ منها مقابل عمله فيها، فلو عمل بلا أجرٍ أو أعطي أجره من مال الفيء أو غيره جاز، ‏(‏و ر‏:‏ آل، جباية‏)‏‏.‏ والسّعاة على الزّكاة أنواع فمنهم الجابي‏:‏ وهو القابض للزّكاة، والمفرّق‏:‏ وهو القاسم، والحاشر‏:‏ وهو الّذي يجمع أرباب الأموال لتؤخذ منهم الزّكاة، والكاتب لها‏.‏ وإن لم يكن هناك إمام، أو كان الإمام لا يرسل السّعاة لجبي الزّكاة فيجب على أهل الأموال إخراجها وتفريقها على المستحقّين‏;‏ لأنّهم أهل الحقّ فيها والإمام نائب‏.‏

موعد إرسال السّعاة

145 - الأموال قسمان‏:‏ فما كان منها لا يشترط لزكاته الحول كالزّروع والثّمار والمعادن، فهذا يرسل الإمام سعاته وقت وجوبها، ففي الزّروع والثّمار عند إدراكها بحيث يصلهم وقت الجذاذ والحصاد‏.‏ وهذا في غير الخرص، أمّا الخارص فيرسل عند بدء ظهور الصّلاح كما تقدّم ‏(‏وانظر مصطلح‏:‏ خرص‏)‏‏.‏ وما كان يشترط فيه الحول كالمواشي‏:‏ فذهب الشّافعيّة إلى أنّه يجب أن يعيّن لهم شهرًا معيّنًا من السّنة القمريّة يرسل إليهم فيه السّاعي كلّ عامٍ‏.‏

حقوق العاملين على الزّكاة

146 - العامل على الزّكاة يجوز إعطاؤه حقّه من الزّكاة نفسها بالشّروط المتقدّمة في السّاعي‏.‏ ويجوز إعطاؤه من بيت المال‏.‏ ويتعيّن ذلك إن لم يكن من أهل الزّكاة، كأن يكون من آل البيت على ما صرّح به المالكيّة، أو يكون العمل ممّا لا يحتاج إليه غالبًا كالرّاعي والحارس والسّائق على ما صرّح به المالكيّة والشّافعيّة، وقال الحنابلة‏:‏ يعطى الرّاعي والحارس ونحوهما من الزّكاة كغيرهم من العاملين‏.‏ وليس للسّاعي أن يأخذ من الزّكاة لنفسه شيئًا غير الأجر الّذي يعطيه إيّاه الإمام، لما في حديث عديّ بن عميرة رضي الله عنه قال‏:‏ سمعت رسول اللّه صلّى يقول‏:‏ ‏{‏من استعملناه منكم على عملٍ فكتمنا مخيطًا فما فوقه، كان غلولًا يأتي به يوم القيامة‏}‏‏.‏ وليس للسّاعي أن يأخذ شيئًا من أهل الأموال باسم الهديّة بسبب ولايته، وإن أخذه لم يحلّ له أن يكتمه ويستأثر به، لما ورد في حديث أبي حميدٍ السّاعديّ رضي الله عنه قال‏:‏ ‏{‏استعمل النّبيّ صلى الله عليه وسلم رجلًا من الأزد يقال له ابن اللّتبيّة على الصّدقة، فلمّا قدم قال‏:‏ هذا لكم، وهذا أهدي لي‏.‏ قال‏:‏ فهلاّ جلس في بيت أبيه - أو بيت أمّه، فينظر أيهدى له أم لا ‏؟‏ والّذي نفسي بيده، لا يأخذ أحد منكم شيئًا إلاّ جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيرًا له رغاء، أو بقرةً لها خوار، أو شاةً تيعر - ثمّ رفع بيده حتّى رأينا عفرة إبطيه - اللّهمّ هل بلّغت، اللّهمّ هل بلّغت، ثلاثًا‏}‏‏.‏

دعاء السّاعي للمزكّي

147 - إذا أخذ السّاعي الزّكاة استحبّ له أن يدعو للمالك، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏خذ من أموالهم صدقةً تطهّرهم وتزكّيهم بها وصلّ عليهم إنّ صلاتك سكن لهم‏}‏ ولما ورد من حديث عبد اللّه بن أبي أوفى رضي الله عنه قال‏:‏ ‏{‏كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال‏:‏ اللّهمّ صلّ على آل فلانٍ فأتاه أبي بصدقته، فقال‏:‏ اللّهمّ صلّ على آل أبي أوفى‏}‏‏.‏ وفي قولٍ للشّافعيّة‏:‏ يجب ذلك، لظاهر الآية‏.‏ ويقول‏:‏ اللّهمّ صلّ على آل فلانٍ‏.‏ وإن شاء دعا بغير ذلك‏.‏ وفي قولٍ للشّافعيّة‏:‏ لا يدعو بالصّلاة على آل المزكّي، بل يدعو بغيرها‏;‏ لأنّ الصّلاة خاصّة بالأنبياء‏.‏

ما يصنع السّاعي بالممتنع عن أداء الزّكاة

148 - قال الشّافعيّة‏:‏ إن كان السّاعي جائرًا في أخذ الزّكاة أو صرفها لم يكن له تعزير من امتنع أو أخفى ماله أو غلب به‏;‏ لأنّ الممتنع أو المخفي يكون بذلك معذورًا‏.‏ أمّا إن كان السّاعي عادلًا فإنّه يأخذها من الممتنع أو المخفي، ويعزّره ما لم يكن له فيما فعله شبهة معتبرة‏.‏ ولو خرج على الإمام قوم فلم يقدر السّاعي على أخذ الزّكاة منهم حتّى مضت أعوام، ثمّ قدر عليهم، يؤخذون بزكاة ما وجد معهم حال القدرة عليهم لماضي الأعوام ولعام القدرة، وإن ادّعوا أنّهم أخرجوها يصدّقون، لكن إن كان خروجهم لمنعها لا يصدّقون على ما صرّح به المالكيّة‏.‏

ما يصنع السّاعي عند اختلاف الحول على الملّاك

149 - قال النّوويّ‏:‏ إذا وصل السّاعي إلى أرباب الأموال، فإن كان حول صاحب المال قد تمّ أخذ منه الزّكاة، وإن كان حول بعضهم لم يتمّ سأله السّاعي تعجيل الزّكاة، ويستحبّ للمالك إجابته، فإن عجّلها برضاه أخذها منه، وإلاّ لم يجبره، ثمّ إن رأى السّاعي المصلحة في أن يوكّل من يأخذها عند حلولها ويفرّقها على أهلها فعل‏.‏ وإن رأى أن يؤخّرها ليأخذها منه في العام المقبل فعل، ويكتبها كي لا ينساها أو يموت فلا يعلمها السّاعي الّذي بعده، وإن رأى أن يرجع في وقت حلولها ليأخذها فعل، وإن وثق بصاحب المال جاز أن يفوّض إليه تفريقها‏.‏ وتقدّم أنّ وصول السّاعي شرط في وجوب الزّكاة عند المالكيّة إن كان هناك ساعٍ، فهو يحاسبهم على ما يملكونه يوم وصوله إليهم‏.‏

حفظ الزّكاة

150 - على السّاعي المحافظة على مال الزّكاة‏.‏ وهو أمانة في يده حتّى يوصله إلى مستحقّيه، أو يوصله إلى الإمام إن فضل منه شيء، وله في سبيل ذلك أن يتّخذ حارسًا أو راعيًا ونحوهما‏.‏ وممّا ذكره الفقهاء من وسائل الحفظ وسم بهائم الصّدقة من الإبل والبقر والغنم لتتميّز عن غيرها‏;‏ ولئلاّ تضيع، ويسمها بالنّار بعلامةٍ خاصّةٍ، كأن تكون علامة الوسم ‏(‏للّه‏)‏ لما ورد في الصّحيحين عن أنسٍ رضي الله عنه أنّه قال‏:‏ ‏{‏وافيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم وبيده الميسم يسم إبل الصّدقة‏}‏ ولآثارٍ وردت من فعل عمر وغيره من الصّحابة رضوان اللّه عليهم‏.‏

بيت مال الزّكاة

151 - على الإمام أن يتّخذ بيتًا لأموال الزّكاة تحفظ فيه وتضبط إلى أن يتمكّن من صرفها لأهلها‏.‏ وتفصيل ذلك في مصطلح‏:‏ بيت المال »‏.‏

تصرّفات السّاعي في الزّكاة

152 - إذا قبض السّاعي الزّكاة يفرّقها على مستحقّيها من أهل البلد الّتي جمعها فيها إن كان الإمام أذن له في تفريقها، فلا ينقلها إلى أبعد من مسافة القصر، إلاّ أن يستغني عنها فقراء البلد، وقد ورد أنّ عمر بعث معاذًا رضي الله عنه إلى اليمن، فبعث إليه من الصّدقة، فقال له‏:‏ إنّي لم أبعثك جابيًا ولا آخذ جزيةٍ ولكن بعثتك لتأخذ من أغنياء النّاس فتردّ في فقرائهم‏.‏ فقال معاذ‏:‏ أنا ما بعثت إليك بشيءٍ وأنا أجد أحدًا يأخذه منّي‏.‏ فلو نقلها في غير تلك الحال ففيه خلاف يأتي‏.‏ وليس للسّاعي أن يأخذ من الزّكاة لنفسه على أنّه أحد أصناف أهل الزّكاة، كما لو كان غارمًا أو فقيرًا‏.‏ ولا يأخذ إلاّ ما أعطاه الإمام على ما صرّح به المالكيّة‏;‏ لأنّه يقسم فلا يحكم لنفسه‏.‏

153 - وإذا تلف من مال الزّكاة شيء في يد الإمام أو السّاعي ضمنه إن كان ذلك بتفريطٍ منه بأن قصّر في حفظه، وكذا لو عرف المستحقّين وأمكنه التّفريق عليهم فلم يفعل حتّى تلفت‏;‏ لأنّه متعدٍّ بذلك، فإن لم يتعدّ ولم يفرّط لم يضمن‏.‏ قال النّوويّ‏:‏ ينبغي للإمام والسّاعي وكلّ من يفوّض إليه أمر تفريق الصّدقات أن يعتني بضبط المستحقّين، ومعرفة أعدادهم، وأقدار حاجاتهم، بحيث يقع الفراغ من جمع الصّدقات بعد معرفتهم أو معها، ليعجّل حقوقهم، وليأمن هلاك المال عنده‏.‏ وتصرف الزّكاة في الأصناف الثّمانية، ولا يجوز صرفها إلاّ لمن جمع شروط الاستحقاق، ويأتي بيان ذلك بالتّفصيل‏.‏

154 - وإذا أخذ الإمام أو السّاعي الزّكاة فاحتاج إلى بيعها لمصلحةٍ، من كلفةٍ في نقلها، أو مرض البهيمة أو نحو ذلك جاز، أمّا إذا باعها لغير ذلك فقد ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى عدم الجواز، والبيع باطل، وعليه الضّمان إن تلف، وذلك لأنّ أهل الزّكاة أهل رشدٍ لا ولاية عليهم، فلم يجز بيع مالهم بغير إذنهم‏.‏ وفي احتمالٍ عند الحنابلة يجوز ذلك، لما ورد عن قيس بن أبي حازمٍ ‏{‏أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم رأى في إبل الصّدقة ناقةً كوماء، فسأل عنها، فقال المصدّق‏:‏ إنّي ارتجعتها بإبلٍ، فسكت‏}‏ قال أبو عبيدٍ‏:‏ الرّجعة أن يبيعها ويشتري بثمنها مثلها أو غيرها‏.‏

نصب العشّارين

155 - ينصب الإمام على المعابر في طرق الأسفار عشّارين للجباية ممّن يمرّ عليهم بالمال من المسلمين وأهل الذّمّة وأهل الحرب إذا أتوا بأموالهم إلى بلاد الإسلام، فيأخذ من أهل الإسلام ما يجب عليهم من زكاةٍ، ويأخذ من أهل الذّمّة نصف العشر، ويأخذ من أهل الحرب العشر‏.‏ والّذي يأخذه من أهل الذّمّة وأهل الحرب فيء حكمه حكم الجزية يصرف في مصارف الفيء، وينظر تفصيله في مصطلح‏:‏ ‏(‏عشر‏)‏‏.‏ أمّا ما يأخذه من أهل الإسلام فهو زكاة يشترط له ما يشترط في سائر الأموال الزّكويّة ويصرف في مصارف الزّكاة، إلاّ أنّ هذا النّوع من المال وإن كان في الأصل مالًا باطنًا لكنّه لمّا انتقل صاحبه به في البلاد أصبح في حكم المال الظّاهر على ما صرّح به ابن عابدين، ولذا كانت ولاية قبض زكاته إلى الإمام، كالسّوائم والزّروع‏.‏ وصرّح الحنفيّة بتحليف من يمرّ على العاشر إن أنكر تمام الحول على ما بيده، أو ادّعى أنّ عليه دينًا يسقط الزّكاة، فإن حلف فالقول قوله، وكذا إن قال أدّيتها إلى عاشرٍ آخر وأخرج براءةً ‏(‏إيصالًا رسميًّا بها‏)‏، وكذا إن قال أدّيتها بنفسي إلى الفقراء في المصر‏.‏ ويشترط أن يكون ما معه نصابًا فأكثر حتّى يجب الأخذ منه، فإن كان معه أقلّ من نصابٍ وله في المصر ما يكمل به النّصاب فلا ولاية للعاشر على الأخذ منه‏;‏ لأنّ ولايته على الظّاهر فقط‏.‏ ويشترط في العاشر ما يشترط في السّاعي كما تقدّم وأن يأمن المسافرون بحمايته من اللّصوص‏.‏