فصل: مُسَاقَاة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


مُسَاقَاة

التّعريف

1 - المساقاة في اللغة‏:‏ مفاعلة من السَّقْي - بفتح السّين وسكون القاف - وهي دفع النّخيل والكروم إلى من يعمره ويسقيه ويقوم بمصلحته‏,‏ على أن يكون للعامل سهم ‏"‏ نصيب ‏"‏ والباقي لمالك النّخيل‏.‏

وأهل العراق يسمونها المعاملة‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ‏.‏

قال الجرجاني‏:‏ هي دفع الشّجر إلى من يصلحه بجزء من ثمره‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - المزارعة‏:‏

2 - المزارعة مفاعلة من الزّراعة‏,‏ وتسمّى مخابرةً من الخبار - بفتح الخاء - وهي الأرض اللّيّنة‏.‏

والمزارعة في الاصطلاح‏:‏ عقد على الزّرع ببعض الخارج‏.‏

والصّلة بينهما أنّ موضوع المساقاة الشّجر‏,‏ وموضوع المزارعة البذر والزّرع‏.‏

ب - المناصبة‏:‏

3 - المناصبة وتسمّى المغارسة‏:‏ وهي دفع أرض بيضاء مدّةً معلومةً ليغرس فيها وتكون الأرض والشّجر بينهما‏.‏ أو هي كما قال البهوتيّ دفع الشّجر المعلوم الّذي له ثمر مأكول بلا غرس مع أرضه لمن يغرسه ويعمل عليه حتّى يثمر بجزء مشاع معلوم منه أو من ثمره أو منهما‏.‏

وتختلف المساقاة عن المناصبة في أنّ الشّجر في المساقاة مغروس‏,‏ وفي المناصبة غير مغروس‏.‏

ج - الإجارة‏:‏

4 - الإجارة في اللغة اسم للأجرة‏,‏ وهي كراء الأجير‏.‏

وفي الاصطلاح عرّفها الفقهاء بأنّها‏:‏ عقد معاوضة على تمليك المنفعة بعوض‏.‏

والصّلة بين الإجارة والمساقاة هي أنّ المساقاة أعم من الإجارة‏.‏

الحكم التّكليفي

5 - اختلف الفقهاء في حكم المساقاة على أقوال‏:‏

القول الأوّل‏:‏ أنّها جائزة شرعاً‏,‏ وهو قول المالكيّة‏,‏ والحنابلة‏,‏ والشّافعيّة‏,‏ ومحمّد وأبي يوسف من الحنفيّة‏,‏ وعليه الفتوى عندهم‏.‏

واستدلوا بحديث ابن عمر رضي اللّه عنهما « أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أعطى خيبر اليهود أن يعملوها ويزرعوها ولهم شطر ما يخرج منها »‏.‏

وبالقياس على المضاربة من حيث الشّركة في النّماء فقط دون الأصل‏.‏

القول الثّاني‏:‏ أنّها مكروهة‏,‏ وحكي هذا القول عن إبراهيم النّخعيّ والحسن‏.‏

القول الثّالث‏:‏ أنّها غير مشروعة‏,‏ وهو قول أبي حنيفة وزفر‏.‏

واستدلوا بحديث رافع بن خديج رضي اللّه عنه حيث جاء فيه « من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها‏,‏ ولا يكارها بثلث ولا ربع ولا بطعام مسمّىً »‏,‏ وهذا الحديث وإن كان وارداً في المزارعة غير أنّ معنى النّهي - وهو الكراء بجزء من الخارج من الأرض - وارد في المساقاة أيضاً‏.‏

كما استدلوا بحديث‏:‏ « نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن بيع الغرر »‏,‏ وغرر المساقاة متردّد بين ظهور الثّمرة وعدمها‏,‏ وبين قلّتها وكثرتها‏,‏ فكان الغرر أعظم‏,‏ فاقتضى أن يكون القول بإبطالها أحقّ‏.‏

واستدلوا كذلك بحديث‏:‏ « نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن قفيز الطّحّان »‏,‏ والمعنى الّذي نهى لأجله عن قفيز الطّحّان موجود في المساقاة‏,‏ لأنّها استئجار العامل ببعض ما يخرج من عمله‏.‏

ومن أدلّتهم في المعقول‏:‏ أنّ هذا استئجار ببعض الخارج وإنّه منهي عنه‏.‏

صفّة عقد المساقاة من حيث اللزوم وعدمه

6 - اختلف الفقهاء في الحكم المتعلّق بالمساقاة الصّحيحة ابتداءً فور انعقادها من حيث لزوم العقد أو جوازه‏.‏

فذهب الحنفيّة‏,‏ والمالكيّة‏,‏ والشّافعيّة‏,‏ وهو قول عند الحنابلة إلى القول بأنّ المساقاة عقد لازم من الجانبين وإنّه لا خيرة لواحد من المتعاقدين في فسخه‏.‏

واستدلوا على لزوم العقد بأدلّة منها‏:‏

- أنّه لا ضرر على واحد من المتعاقدين في التّنفيذ‏.‏

- وأنّها كالإجارة من حيث ورود العقد على عمل يتعلّق بالعين مع بقائها‏.‏

- وأنّها لو كانت جائزةً غير لازمة وفسخ المالك العقد قبل ظهور الثّمار فقد فات عمل العامل وذهب سدىً‏.‏

وظاهر مذهب الحنابلة أنّ المساقاة عقد جائز غير لازم‏,‏ وهو قول السبكيّ من الشّافعيّة واستدلوا بأدلّة منها‏:‏

حديث ابن عمر رضي اللّه عنهما‏:‏ في معاملة أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع‏,‏ وورد فيه‏:‏ « نقركم بها على ذلك ما شئنا »‏,‏ ولو كانت عقداً لازماً لم يجز أن يجعل الخيرة إليه في مدّة إقرارهم‏,‏ ولما جاز أيضاً أن تكون من غير توقيت‏.‏

كما استدلوا بأنّها عقد على جزء من نماء المال فكانت جائزةً غير لازمة كالمضاربة‏.‏ وتفرّع على القول باللزوم أحكام منها‏:‏ أنّه لا يملك أحد المتعاقدين الاستقلال بفسخ المساقاة إلّا من عذر ولا الامتناع من التّنفيذ إلّا برضا الطّرف الآخر‏,‏ وأنّه لا يجوز لمالك الشّجر إخراج العامل إلّا من عذر‏.‏

وكذلك ترتّب على القول ‏"‏ بعدم اللزوم ‏"‏ أحكام منها‏:‏ أنّ لكلّ من المتعاقدين فسخها متى شاء ولو قبل العمل‏,‏ وأنّها لا تفتقر إلى ضرب مدّة يحصل الكمال فيها‏,‏ وأنّها تبطل بما تبطل به الوكالة من الموت والجنون والحجر والعزل‏.‏

حكمة مشروعيّتها

7 - الحكمة في تشريع المساقاة تحقيق المصلحة ودفع الحاجة‏,‏ فمن النّاس من يملك الشّجر ولا يهتدي إلى طرق استثماره أو لا يتفرّغ له‏,‏ ومنهم من يهتدي إلى الاستثمار ويتفرّغ له ولا يملك الشّجر‏,‏ فمسّت الحاجة إلى انعقاد هذا العقد بين المالك والعامل‏.‏

أركان المساقاة

8 - قال الشّافعيّة‏:‏ أركان المساقاة خمسة وهي‏:‏ الأوّل‏:‏ العاقدان‏,‏ والثّاني‏:‏ الصّيغة‏,‏ والثّالث‏:‏ متعلّق العمل ‏"‏ الشّجر ‏"‏‏,‏ والرّابع‏:‏ الثّمار‏,‏ الخامس‏:‏ العمل‏,‏ وزاد ابن رشد‏:‏ المدّة فهي ستّة‏.‏

وما ذكره الشّافعيّة وارد عند فقهاء المالكيّة والحنابلة والحنفيّة‏,‏ مع ملاحظة أنّ الركن عند الحنفيّة هو الصّيغة فقط كما في البدائع والبواقي أطراف‏.‏

ولكلّ من هذه الأركان شروط نذكرها فيما يلي‏:‏

الركن الأوّل‏:‏ العاقدان

ويراد بهما العامل والمالك‏:‏

9 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة إلى اشتراط كون العامل في المزارعة والمساقاة عاقلاً أمّا البلوغ فليس بشرط‏,‏ وتجوز مزارعة ومساقاة الصّبيّ المأذون‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ تصح من جائز التّصرف لنفسه ولصبيّ ومجنون وسفيهٍ بالولاية عليهم عند المصلحة للاحتياج إلى ذلك‏.‏

الركن الثّاني‏:‏ الصّيغة

10 - المراد بها الإيجاب والقبول بكلّ ما ينبئ عن إرادة المساقاة لفظاً أو معنىً علم الخلاف بين الفقهاء في قضيّة اعتبار اللّفظ أم المعنى في العقد‏.‏

الركن الثّالث‏:‏ المحل وشروطه

يقصد بالمحلّ هنا‏:‏ متعلّق العمل في المساقاة‏,‏ أي ما يقوم العامل بسقيه ورعايته مقابل جزء من العمر‏.‏

ويشترط الفقهاء في محلّ المساقاة شروطاً هي‏:‏

أوّلاً‏:‏ أن يكون ممّا تصح المساقاة عليه

11 - اتّفق الفقهاء القائلون بجواز المساقاة على جوازها في النّخل واختلفوا في جوازها في‏:‏ العنب‏,‏ والشّجر المثمر وغير المثمر‏,‏ وكذا البقول والرّطاب ونحوها‏.‏

وتبع ذلك اختلاف الشروط الخاصّة بكلّ محل على حدة‏.‏

وتفصيل ذلك في المذاهب على النّحو التّالي‏:‏

12 - قال الحنفيّة لا يشترط في صحّة المساقاة نوع معين من الشّجر‏,‏ فالمثمر وغير المثمر سواء في صحّة العقد‏,‏ فتصح في الحور‏,‏ والصّفصاف وفيما يتّخذ للسّقف والحطب‏,‏ كما أنّه تصح عندهم في الرّطاب‏,‏ وجميع البقول‏,‏ قال في تنوير الأبصار وشرحه‏:‏ وتصح في الكرم والشّجر والرّطاب والمراد منها جميع البقول‏,‏ وأصول الباذنجان والنّخل‏,‏ وتصح في نحو الحور والصّفصاف ممّا لا ثمرة له‏,‏ والبقول غير الرّطاب‏,‏ فالبقول مثل الكرّات والسّلق ونحو ذلك‏,‏ والرّطاب كالقثّاء والبطّيخ والرمّان والعنب والسّفرجل والباذنجان فإن ساقى عليها قبل الجذاذ‏,‏ كان المقصود الرّطبة فيقع العقد على أوّل جزّة‏,‏ وإن ساقى بعد انتهاء جذاذها كان المقصود هو البذر‏,‏ فيصح العقد باعتبار قصد البذر‏,‏ كما يقصد الثّمر من الشّجر‏,‏ وهذا إنّما يتحقّق إذا كان البذر ممّا يرغب فيه وحده‏.‏

واستدلّ الحنفيّة لما ذهبوا إليه بأنّ الجواز للحاجة وقد عمّت‏,‏ وأثر خيبر لا يخصها لأنّ أهلها كانوا يعملون في الأشجار والرّطاب أيضاً‏.‏

13 - وقال المالكيّة‏:‏ الشّجر الّذي يساقى على قسمين‏:‏

القسم الأوّل‏:‏ ما له أصول ثابتة‏,‏ ويشترط فيه شرطان‏:‏

الشّرط الأوّل‏:‏ أن يكون ممّا يثمر في عامه‏,‏ فلا تصح المساقاة في صغار الأشجار‏,‏ قال عياض‏:‏ من شروط المساقاة‏:‏ أنّها لا تصح إلّا في أصل يثمر أو ما في معناه من ذوات الأزهار والأوراق المنتفع بها كالورد والياسمين‏.‏

وقال ابن غازيٍّ‏:‏ وقولهم يثمر أو ذي ثمر - أخرج به الشّجر الّذي لم يبلغ حدّ الإطعام كالوديّ فإنّ مساقاته غير جائزة‏,‏ صرّح به اللّخمي‏.‏

الشّرط الثّاني‏:‏ أن يكون ممّا لا يخلّف وهو الّذي إذا قطف منه ثمرة لا يثمر في العام نفسه‏.‏ ومن هذا النّوع معظم أشجار الفاكهة بخلاف الموز فإنّه ممّا يخلّف إذا نبتت له ثمرة بجانب الأولى من قبل أن تقطع هذه الثّمرة‏,‏ فالثّمرة الثّانية ينالها شيء من عمل العامل‏,‏ ولا تتّضح في العام نفسه‏,‏ فكأنّها زيادة على العمل‏,‏ فلا تصح المساقاة في مثل هذا النّوع من الشّجر‏.‏

القسم الثّاني‏:‏ ما ليست له أصول ثابتة كالمقاثيّ والزّرع‏,‏ وهذا تصح مساقاته عند المالكيّة بالشروط التّالية‏:‏

- أن يكون العقد بعد ظهورها‏.‏

- وأن يكون العقد قبل بدوّ صلاح ثمرها‏.‏

- وأن يعجز رب الأرض عن تعهدها‏.‏

- وأن يكون ممّا لا يخلّف بعد قطفه‏.‏

- وأن يخاف موتها لو ترك العمل فيها‏.‏

14 - قال الشّافعيّة‏:‏ المساقاة جائزة في النّخل والكرم دون غيرهما‏,‏ لأنّه عليه الصّلاة والسّلام ‏"‏ أخذ صدقة ثمرتها بالخرص‏,‏ وثمرها مجتمع بائن من شجره لا حائل دونه يمنع إحاطة النّاظر إليه‏,‏ وثمر غيرها متفرّق بين أضعاف ورقٍ لا يحاط بالنّظر إليه فلا يجوز المساقاة إلّا على النّخل والكرم‏.‏

قال الماورديّ‏:‏ وجملة الشّجر من النّبات مثمراً على ثلاثة أقسام‏:‏

القسم الأوّل‏:‏ لا يختلف مذهب الشّافعيّ في جواز المساقاة عليه وهو‏:‏ النّخل والكرم‏.‏ والقسم الثّاني‏:‏ ما لا يختلف مذهب الشّافعيّ في بطلان المساقاة فيه‏,‏ وهو ما لا ساقٍ له‏,‏ كالبطّيخ والقثّاء والباذنجان‏,‏ والبقول الّتي لا تثبت في الأرض ولا تجز إلّا مرّةً واحدةً‏,‏ فلا تجوز المساقاة عليها‏,‏ كما لا يجوز على الزّرع‏.‏

فإن كانت تثبت في الأرض وتجز مرّةً بعد مرّة فالمذهب المنع وهو الأصح‏.‏

والقسم الثّالث‏:‏ ما كان شجراً‏,‏ ففي جواز المساقاة عليه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ الجواز‏,‏ وهو قول الشّافعيّ في القديم‏,‏ ووجهه‏:‏ أنّه لمّا اجتمع في الأشجار معنى النّخل من بقاء أصلها والمنع من إجارتها كانت كالنّخل في جواز المساقاة عليها‏,‏ مع أنّه قد كان بأرض خيبر شجر لم يرو عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم إفرادها عن حكم النّخل‏,‏ ولأنّ المساقاة مشتقّة الاسم ممّا يشرب بساقٍ‏.‏

والقول الثّاني‏:‏ وبه قال في الجديد‏,‏ وهو قول أبي يوسف‏,‏ أنّ المساقاة على الشّجر باطلة‏,‏ اختصاصاً بالنّخل والكرم لما ذكره الشّافعي من المعنيين في الفرق بين النّخل والكرم وبين الشّجر‏:‏

واحد المعنيين هو‏:‏ اختصاص النّخل والكرم بوجوب الزّكاة فيهما دون ما سواهما من جميع الأشجار‏.‏

والثّاني‏:‏ بروز ثمرهما وإمكان خرصهما دون غيرهما من سائر الأشجار‏,‏ فأمّا إذا كان بين النّخل شجر قليل فساقاه عليهما صحّت المساقاة فيهما‏,‏ وكان الشّجر تبعاً‏,‏ كما تصح المخابرة في البياض الّذي بين النّخل ويكون تبعاً‏.‏

15 - وأمّا الحنابلة‏,‏ وفي المذهب القديم عند الشّافعيّة فيلتقون مع الحنفيّة بصحّة المساقاة في سائر الأشجار‏,‏ دون غيرها‏,‏ واشترطوا أن تكون الأشجار مثمرةً وثمرها مقصود كالجوز والتفّاح والمشمش‏.‏

واستدلوا على ذلك بالتّصريح بذكر الثّمر في حديث ابن عمر رضي اللّه عنهما في « معاملة الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم أهل خيبر »‏.‏

قال ابن قدامة‏:‏ فأمّا ما لا ثمر له من الشّجر كالصّفصاف والحور ونحوهما‏,‏ أو له ثمر غير مقصود كالصّنوبر والأرز فلا تجوز المساقاة عليه لأنّه ليس بمنصوص عليه ولا في معنى المنصوص‏,‏ ولأنّ المساقاة إنّما تكون بجزء من الثّمر‏,‏ وهذا لا ثمرة له إلّا أن يكون ممّا يقصد ورقه كالتوت والورد‏,‏ فالقياس يقتضي جواز المساقاة عليه ‏;‏ لأنّه في معنى الثّمر ولأنّه نماء يتكرّر كلّ عام ويمكن أخذه والمساقاة عليه بجزء منه فيثبت له مثل حكمه‏.‏

16 - ومساقاة الوديّ وصغار الشّجر تصح عند الشّافعيّة والحنابلة على الاتّفاق بالجملة فيما بين المذهبين على التّفصيل التّالي‏:‏

قال الشّافعيّة‏:‏ لو كان الودي مغروساً وساقاه عليه وشرط له جزءاً على العمل فإن قدّر في عقد المساقاة عليه مدّةً يثمر الودي فيها غالباً صحّ العقد وإلّا بأن قدّر مدّةً لا يثمر فيها غالباً فلا تصح لخلوّها عن العوض كالمساقاة على شجرة لا تثمر‏,‏ فإن وقع ذلك وعمل العامل لم يستحقّ أجرةً إن علم أنّها لا تثمر في تلك المدّة وإلّا استحقّ‏.‏

ويرجع في المدّة المذكورة لأهل الخبرة بالشّجر في تلك النّاحية‏.‏

وقال ابن قدامة‏:‏ إذا ساقاه على وديّ النّخل أو صغار الشّجر إلى مدّة يحمل فيها غالباً ويكون له فيها جزء من الثّمرة معلوم صحّ‏,‏ لأنّه ليس فيه أكثر من أنّ عمل العامل يكثر ونصيبه يقل وهذا لا يمنع صحّتها كما لو جعل له سهماً من ألف سهم‏.‏

فإن قلنا‏:‏ المساقاة عقد جائز لم نحتج إلى ذكر المدّة‏,‏ وإن قلنا‏:‏ هو لازم ففيه ثلاثة أقسام‏.‏ أحدها‏:‏ أن يجعل المدّة زمناً يحمل فيه غالباً فيصح‏.‏

ثمّ قال ابن قدامة‏:‏ فإن صحّت وحمل فيها فله ما شرط له‏,‏ وإن لم يحمل فيها فلا شيء له‏.‏ الثّاني‏:‏ أن يجعلها إلى زمن لا يحمل فيه غالباً فلا يصح‏,‏ وإن عمل فيها فهل يستحقّ الأجر‏؟‏ على وجهين‏,‏ وإن حمل في المدّة لم يستحقّ ما جعل له لأنّ العقد وقع فاسداً فلم يستحقّ ما شرط فيه‏.‏

الثّالث‏:‏ أن يجعل المدّة زمناً‏:‏ يحتمل أن يحمل فيها ويحتمل أن لا يحمل فهل يصح‏؟‏ على وجهين‏:‏

فإن قلنا‏:‏ لا يصح استحقّ الأجر‏.‏

وإن قلنا‏:‏ يصح فحمل في المدّة استحقّ ما شرط له‏,‏ وإن لم يحمل فيها لم يستحقّ شيئاً ‏.‏ وقال‏:‏ وإن شرط نصف الثّمرة ونصف الأصل لم يصحّ‏,‏ لأنّ موضوع المساقاة أن يشتركا في النّماء والفائدة‏,‏ فإذا شرط اشتراكهما في الأصل لم يجز‏,‏ كما لو شرط في المضاربة اشتراكهما في رأس المال‏,‏ فعلى هذا يكون له أجر مثله‏.‏

وكذلك لو جعل له جزءاً من ثمرتها مدّة بقائها لم يجز‏,‏ وإن جعل له ثمرة عام بعد مدّة المساقاة لم يجز‏,‏ لأنّه خالف موضوع المساقاة‏.‏

ثانياً‏:‏ أن يكون محل المساقاة معلوماً معيناً

17 - يشترط أن يكون محل المساقاة معلوماً معيناً لأنّ المساقاة إجارة ابتداءً وشركة انتهاءً‏,‏ فكما تشترط معلوميّة محلّ الإجارة تشترط معلوميّة محلّ المساقاة‏,‏ ويكون ذلك بالإشارة أو الوصف أو التّحديد‏,‏ أو الرؤية‏.‏

ثالثاً‏:‏ أن يكون الشّجر بحيث يزيد ثمره بالسّقي والتّعهد

18 - أورد هذا الشّرط فقهاء الحنفيّة والحنابلة والمالكيّة إلّا سحنون‏,‏ وعن الشّافعيّة فيه قولان أظهرهما الجواز‏,‏ كما في الرّوضة‏.‏

رابعاً‏:‏ التّخلية

19 - التّخلية بمعنى تسليم الشّجر إلى العامل وانفراد العامل بوضع اليد في الحديقة‏,‏ وذلك ليتمكّن من العمل متى شاء‏.‏

الركن الرّابع‏:‏ الثّمار

20 - ويعبّر الفقهاء عنه بـ ‏(‏ الخارج ‏)‏ وله شروطه الخاصّة به‏.‏

أ - أن يكون مشتركاً بين المالك والعامل‏,‏ لا أن يكون لأحدهما أو لغيرهما‏.‏

قال الكاساني‏:‏ لأنّ معنى الشّركة لازم لهذا العقد وكل شرطٍ يكون قاطعاً للشّركة يكون مفسداً للعقد‏.‏

غير أنّ المالكيّة نصوا على جواز أن تكون الثّمرة كلها للعامل أو المالك‏.‏

وخرج ذلك على أنّه منحة لا مساقاة‏.‏

ب - أن يكون نصيب كل منهما من الخارج جزءاً معلوم القدر كالثلث والنّصف‏,‏ وأجاز المالكيّة كون التّعيين بالعادة الجارية في البلد‏.‏

ج - أن يكون الاشتراك في الخارج على وجه الشيوع لا على التّعيين أو العدد‏.‏

ومحصّل هذا اشتراط كون نصيب كل منهما من الثّمرة جزءاً شائعاً معلوماً‏,‏ وذلك تحقيقاً لمعنى المساقاة‏,‏ وهو العمل في الشّجر لقاء جزء معلوم من الثّمر‏.‏

الركن الخامس‏:‏ العمل

يشترط في العمل ثلاثة شروطٍ هي‏:‏

أوّلاً‏:‏ أن يكون مقصوراً على العامل وحده بدون اشتراط شيء منه على المالك

21 - هذا الشّرط - في الجملة - متّفق عليه بين فقهاء المذاهب الأربعة حتّى يفسد العقد بوجه عام باشتراط شيء من العمل ومؤنته ولوازمه على المالك‏,‏ لأنّه يخالف مقتضى العقد‏,‏ وهو‏:‏ أنّ العمل على العامل‏,‏ كما في المضاربة إذا شرط فيها العمل على ربّ المال‏.‏

ثانياً‏:‏ أن لا يشترط على العامل ما لا يدخل في جنس عمله

22 - قال ابن رشد‏:‏ إنّ العلماء بالجملة أجمعوا على أنّ الّذي يجب على العامل هو السّقي والإبار واختلفوا في غير ذلك‏.‏

واتّفقوا على أنّه لا يجوز فيها اشتراط منفعة زائدة‏,‏ مثل أن يشترط أحدهما على صاحبه زيادة دراهم أو دنانير‏,‏ ولا شيئاً من الأشياء الخارجة عن المساقاة‏.‏

ثالثاً‏:‏ أن ينفرد العامل بالحديقة

23 - من شروط العمل‏:‏ أن يستبدّ العامل باليد في الحديقة ليتمكّن من العمل متى شاء فلو شرطا كونه في يد المالك‏,‏ أو مشاركته في اليد لم يصحّ‏,‏ ولو سلّم المفتاح إليه‏,‏ وشرط المالك الدخول عليه‏,‏ جاز على الصّحيح‏,‏ والوجه الثّاني‏:‏ أنّه إذا دخل‏,‏ كانت الحديقة في يده‏,‏ يتعوّق بحضوره عن العمل‏.‏

ما يلزم العامل في المساقاة والاشتراط عليه

في ضبط ما على العامل بالعقد عند إطلاقه وما ليس عليه‏,‏ وما يجوز اشتراطه عليه وما لا يجوز اشتراطه التّفصيل التّالي‏:‏

24 - ذكر الحنفيّة ضابطين‏:‏

الضّابط الأوّل‏:‏ أنّ ما كان من عمل قبل إدراك الثّمر من السّقي والتّلقيح والحفظ‏,‏ فهو على العامل‏,‏ وما بعد الإدراك كالجذاذ وهو القطف‏,‏ وحفظه فهو عليهما في ظاهر الرّواية‏,‏ وما بعد القسمة فهو عليهما‏,‏ فعلى هذا لو شرط قطف الثّمر على العامل لم يجز لأنّه لا عرف فيه‏.‏

الضّابط الثّاني‏:‏ أنّ ما لا تبقى منفعته بعد مدّة العقد فهو على العامل‏,‏ فاشتراطه عليه لا يفسد العقد‏,‏ وما تبقى منفعته بعدها كغرس الأشجار ونصب العرائش‏,‏ وإلقاء السّرقين‏,‏ فاشتراطه على العامل يفسد العقد‏.‏

25 - وأمّا المالكيّة‏:‏ فأرجعوا الأمر إلى العرف‏,‏ فقرّروا‏:‏ أنّ كلّ ما يفتقر إليه الثّمر عرفاً يجب على العامل ولو بقي بعد المساقاة‏,‏ ولا يشترط تفصيل العمل‏,‏ ويحمل على العرف إن كان منضبطاً‏,‏ وإلّا فلا بدّ من البيان‏.‏

ولهم ضابط تفصيلي قريب من ضابط الحنفيّة على النّحو التّالي‏:‏

أ - أنّ ما لا يتعلّق بالثّمرة ولا تأثير له في إصلاحها لا يلزم العامل بالعقد‏,‏ ولا يجوز أن يشترط عليه إلّا اليسير منه كسدّ الحيطان وإصلاح مجاري المياه‏.‏

ب - ما يتعلّق بالثّمرة ويبقى بعدها أو يتأبّد‏,‏ كحفر بئر أو عين أو ساقية أو بناء بيت يخزّن فيه الثّمر‏,‏ أو غرس فسيل‏,‏ فإنّه لا يلزم بالعقد‏,‏ ولا يجوز أن يشترط عليه‏,‏ وفي بداية المجتهد‏:‏

وأمّا ما له تأثير في إصلاح الثّمر ويبقى بعد الثّمر فيدخل عنده بالشّرط في المساقاة لا بنفس العقد‏.‏

ج - ما يتعلّق بالثّمرة ولا يبقى أو لا يتأبّد فهو واجب على العامل بالعقد‏,‏ كالسّقي والحفر‏,‏ والتّنقية والتّذكير‏,‏ والجذاذ وشبه ذلك‏.‏

26 - أمّا الشّافعيّة فلهم في ذلك تفصيل أوسع - ويلتقون بالجملة مع المالكيّة والحنابلة - وفق البيان التّالي‏:‏

قال في الحاوي‏:‏ قال الشّافعي‏:‏ وكل ما كان فيه مستزاد في الثّمر من إصلاح الماء وطريقه وتصريف الجريد وإبار النّخل‏,‏ وقطع الحشيش المضرّ بالنّخل ونحوه جاز شرطه على العامل‏,‏ فأمّا شد الحظائر فليس فيه مستزاد ولا صلاح في الثّمرة فلا يجوز شرطه على العامل‏.‏

قال الماورديّ‏:‏ العمل المشروط في المساقاة على أربعة أضرب‏:‏

أحدها‏:‏ ما يعود نفعه على الثّمرة دون النّخل‏.‏

والثّاني‏:‏ ما يعود نفعه على النّخل دون الثّمرة‏.‏

والثّالث‏:‏ ما يعود نفعه على النّخل والثّمرة‏.‏

والرّابع‏:‏ ما لا يعود نفعه على الثّمرة ولا النّخل‏.‏

فأمّا الضّرب الأوّل‏:‏ وهو ما يعود نفعه على الثّمرة دون النّخل‏,‏ فمثل إبار النّخل وتصريف الجريد وتلقيح الثّمرة ولقاطها رطباً وجذاذها ثمراً‏,‏ فهذا الضّرب يجوز اشتراطه على العامل‏,‏ وينقسم ثلاثة أقسام‏:‏

أ - قسم يجب عليه فعله من غير شرطٍ‏,‏وهو كل ما لا تحصل الثّمرة إلّا به كالتّلقيح والإبار‏.‏ ب - وقسم لا يجب عليه فعله إلّا بالشّرط‏,‏ وهو كل ما فيه مستزاد للثّمرة وقد تصلح بعدمه‏,‏ كتصريف الجريد وتدليه الثّمرة‏.‏

ج - قسم مختلف فيه وهو كل ما تكاملت الثّمرة قبله كاللّقاط والجذاذ ففيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنّه لا يجب على العامل إلّا بشرط لتكامل الثّمرة بعدمه‏,‏ والوجه الثّاني‏:‏ أنّه واجب على العامل بغير شرطٍ‏,‏ لأنّ الثّمرة لا تستغني عنه وإن تكاملت قبله‏.‏

وأمّا الضّرب الثّاني‏:‏ وهو ما يعود نفعه على النّخل دون الثّمرة‏,‏ فمثل شدّ الحظائر وحفر الآبار وشقّ السّوّاقي وكري الأنهار‏,‏ فكل هذا ممّا يعود نفعه على النّخل دون الثّمرة‏,‏ فلا يجوز اشتراط شيء من ذلك على العامل‏,‏ وكذا ما شاكله من عمل الدّواليب ونحوها‏.‏

فإن شرط رب المال على العامل شيئاً ممّا ذكرنا كان الشّرط باطلاً والمساقاة فاسدةً‏.‏

وقال بعض أصحابنا‏:‏ يبطل الشّرط وتصح المساقاة‏,‏ حملاً على الشروط الزّائدة في الرّهن تبطل ولا يبطل معها الرّهن في أحد القولين‏.‏

وأمّا الضّرب الثّالث‏:‏ وهو ما يعود نفعه على النّخل والثّمرة‏,‏ فكالسّقي والإثارة وقطع الحشيش المضرّ بالنّخل‏.‏‏.‏ إلى ما جرى هذا المجرى ممّا فيه صلاح النّخل ومستزاد في الثّمرة فهذا على ضربين‏:‏

أحدهما‏:‏ ما لا تصلح الثّمرة إلّا به‏,‏ كالسّقي فيما لا يشرب بعروقه من النّخل حتّى يسقى سيحاً فهو على العامل‏,‏ كنخل البصرة فهو وغيره من شروط هذا الفصل سواء‏,‏ وهو الضّرب الثّاني في هذين الضّربين‏,‏ وفيه لأصحابنا ثلاثة أوجهٍ‏:‏

أحدها‏:‏ أنّه واجب على العامل بنفس العقد‏,‏ واشتراطه عليه تأكيد لما فيه من صلاح النّخل وزيادة الثّمرة‏.‏

والوجه الثّاني‏:‏ أنّه واجب على ربّ النّخل‏,‏ واشتراطه على العامل مبطل للعقد لأنّه بصلاح النّخل أخص منه بصلاح الثّمرة‏.‏

والوجه الثّالث‏:‏ أنّه يجوز اشتراطه على العامل لما فيه من زيادة الثّمرة‏,‏ ويجوز اشتراطه على ربّ النّخل لما فيه من صلاح النّخل فلم يتناف الشّرطان فيه فإن شرطه على العامل لزمه‏,‏ وإن شرط على ربّ النّخل لزمه‏,‏ وإن أغفل لم يلزم واحداً منهما‏,‏ وأمّا العامل فلأنّه لا يلزمه إلّا ما كان من موجبات العقد أو من شروطه‏,‏ وأمّا رب النّخل فلأنّه لا يجبر على تثمير ماله‏.‏

وأمّا الضّرب الرّابع‏:‏ وهو ما لا يعود نفعه على النّخل ولا على الثّمرة فهو كاشتراطه على العامل أن يبني له قصراً أو يخدمه شهراً أو يسقي له زرعاً‏,‏ فهذه شروط تنافي العقد‏,‏ وتمنع من صحّته لأنّه لا تعلق لها به‏,‏ ولا تختص بشيء في مصلحته‏.‏

27 - وقال الحنابلة‏:‏ يلزم العامل بإطلاق عقد المساقاة ما فيه صلاح الثّمرة وزيادتها مثل حرث الأرض تحت الشّجر والبقر الّتي تحرث وآلة الحرث وسقي الشّجر واستقاء الماء وإصلاح طرق الماء وتنقيتها وقطع الحشيش المضرّ والشّوك وقطع الشّجر اليابس وزبار الكرم وقطع ما يحتاج إلى قطعه وتسوية الثّمر وإصلاح الأجاجين وهي الحفر الّتي يجتمع فيها الماء على أصول النّخل وإدارة الدولاب‏,‏ والحفظ للثّمر في الشّجر وبعده حتّى يقسم‏,‏ وإن كان ممّا يشمّس فعليه تشميسه‏.‏

وعلى ربّ المال ما فيه حفظ الأصل كسدّ الحيطان وإنشاء الأنهار وعمل الدولاب وحفر بئره وشراء ما يلقّح به‏.‏

وعبّر بعض أهل العلم عن هذا بعبّارة أخرى فقال‏:‏ كل ما يتكرّر كلّ عام فهو على العامل وما لا يتكرّر فهو على ربّ المال‏,‏ وهذا صحيح في العمل‏,‏ فأمّا شراء ما يلقّح به فهو على ربّ المال وإن تكرّر‏,‏ لأنّ هذا ليس من العمل‏.‏

وإن أطلقا العقد ولم يبيّنا ما على كلّ واحد منهما فعلى كلّ واحد منهما ما ذكرنا أنّه عليه‏,‏ وإن شرطا ذلك كان تأكيداً‏,‏ وإن شرطا على أحدهما شيئاً ممّا يلزم الآخر‏,‏ فقال القاضي وأبو الخطّاب لا يجوز ذلك‏,‏فعلى هذا تفسد المساقاة لأنّه شرط يخالف مقتضى العقد فأفسده‏.‏ وقد روي عن أحمد ما يدل على صحّة ذلك فإنّه ذكر أنّ الجذاذ عليهما‏,‏ فإن شرطه على العامل جاز‏,‏ لأنّه شرط لا يخل بمصلحة العقد ولا مفسدة فيه فصحّ كتأجيل الثّمن في المبيع لكن يشترط أن يكون ما يلزم كلّ واحد من العمل معلوماً لئلّا يفضي إلى التّنازع والتّواكل فيختلّ العمل‏,‏ وأن لا يكون ما على ربّ المال أكثر العمل‏,‏ لأنّ العامل يستحقّ بعمله فإذا لم يعمل أكثر العمل كان وجود عمله كعدمه فلا يستحقّ شيئاً ‏.‏

فأمّا الجذاذ والحصاد واللّقاط فهو على العامل‏,‏ نصّ أحمد عليه في الحصاد‏,‏ لأنّه من العمل فكان على العامل كالتّشميس‏,‏ وروي عن أحمد في الجذاذ أنّه إذا شرط على العامل فجائز لأنّ العمل عليه وإن لم يشرطه فعلى ربّ المال بحصّته ما يصير إليه‏.‏

مدّة المساقاة

28 - ذهب الحنفيّة في الاستحسان عندهم والمالكيّة والحنابلة إلى أنّه يصح توقيت المساقاة‏,‏ ولا يشترط التّوقيت‏,‏ واستدلّ الحنفيّة بأنّ وقت إدراك الثّمر معلوم وقلّما يتفاوت فيه فيدخل فيه ما هو المتيقّن‏,‏ ولأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وخلفاءه لم يضربوا مدّةً لأهل خيبر‏.‏

والقياس عند الحنفيّة أن تذكر المدّة لما فيها من معنى الإجارة‏.‏

واستدلّ الحنابلة بأنّه لا ضرر في تقدير مدّة المساقاة فصحّ توقيتها ولأنّها عقد جائز كالوكالة فلم يشترط التّوقيت‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ يشترط معرفة العمل جملةً لا تفصيلاً بتقدير المدّة كسنة أو أكثر‏,‏ فلا تصح مطلقةً ولا مؤبّدةً لأنّها عقد لازم فأشبهت الإجارة‏.‏

بيان المدّة

29 - قال الحنفيّة‏:‏ المساقاة كالمزارعة في الخلاف والحكم وفي الشروط إلّا المدّة‏,‏ والقياس أن تذكر المدّة لما فيها من معنى الإجارة‏,‏ وفي الاستحسان‏:‏ يجوز وإن لم يبيّنها‏,‏ وتقع على أوّل ثمرة تخرج‏,‏ لأنّ وقت إدراك الثّمرة معلوم والتّفاوت فيه قليل ويدخل فيه المتيقّن‏,‏ بخلاف الزّرع فيه يختلف كثيراً ابتداءً وانتهاءً ربيعاً وخريفاً وغير ذلك‏.‏

أ - ففي حال ذكر المدّة‏:‏ إن ذكر مدّةً يثمر الشّجر خلالها صحّت المساقاة‏,‏ وإن ذكر مدّةً لا يثمر خلالها فسدت‏,‏ وإن ذكر مدّةً يحتمل أن يثمر الشّجر خلالها وأن لا يثمر تصح أيضاً لعدم التّيقّن بفوات المقصود‏,‏ ثمّ إن خرج الثّمر خلال هذه المدّة المحتملة صحّت‏,‏ وإن تأخّر عنها فسدت لأنّه تبيّن الخطأ في المدّة المسمّاة‏,‏ وإن لم يخرج الثّمر أصلاً صحّ العقد لأنّ الذّهاب كان بآفة لا بسبب فساد تسمية المدّة‏,‏ فيبقى العقد صحيحاً فلا يتبيّن فساد المدّة‏.‏

ب - وفي حال عدم ذكر المدّة يقع العقد صحيحاً وينصرف إلى أوّل ثمرة تخرج في تلك السّنة للتّيقّن به لا إلى ما بعده لأنّه مشكوك‏,‏ ومثل الشّجر في ذلك الرّطاب‏,‏ إذا دفعها مساقاةً حتّى يدرك بذرها فإنّه يصح العقد لأنّ لإدراك البذرة مدّةً معلومةً‏.‏

أمّا لو دفعها ريثما يذهب أصولها وينقطع نبتها فإنّه يفسد المساقاة‏,‏ إذ ليس لذلك أمد معلوم‏,‏ وإذا لم يتعرّض لذهاب الأصول وأطلق جاز العقد وانصرف إلى أوّل جزّة‏.‏

30 - وأمّا المالكيّة فمذهبهم قريب من مذهب الحنفيّة‏.‏

قال ابن عبد البرّ‏:‏ وجائز عقد المساقاة عاماً واحداً وعامين وأعواماً من الجذاذ إلى الجذاذ على جزء معلوم ممّا يخرج اللّه من الثّمرة بعد إخراج الزّكاة فيها‏.‏

ولو ساقاه إلى أجل فانقضى الأجل وفي النّخل ثمر لم يجز جذاذه‏,‏ ولم يحلّ بيعه فهو على مساقاته حتّى يجزّ‏,‏ لأنّه حق وجب له‏.‏ وإنّما المساقاة إلى الجذاذ وإلى القطاف‏,‏ لا إلى الأجل‏.‏

قال ابن رشد‏:‏ وكره مالك المساقاة فيما طال من السّنين وانقضاء السّنين فيها هو بالجذاذ لا بالأهلّة‏.‏

31 - وعند الشّافعيّة يشترط التّوقيت بسنة أو أكثر‏,‏ فلا يصح عندهم الإطلاق فيها ولا التّأبيد‏,‏ ورتّبوا على انقضاء المدّة أحكاماً من حيث إدراك الثّمر وعدم إدراكه‏.‏

قال النّووي‏:‏ يشترط لصحّة المساقاة أن تكون مؤقّتةً‏,‏ فإن وقّت بالشهور أو السّنين العربيّة فذاك‏,‏ ولو وقّت بالروميّة وغيرها جاز إذا علماها‏.‏

فإن أطلقا لفظ السّنة انصرف إلى العربيّة‏.‏

وإن وقّت بإدراك الثّمرة فهل يبطل كالإجارة أم يصح لأنّه المقصود‏؟‏

وجهان‏:‏ أصحهما عند الجمهور‏:‏ أوّلهما‏,‏ وبه قطع البغويّ‏,‏ وصحّح الغزالي الثّاني حيث قال‏:‏ وليعرف العمل جملةً‏,‏ فإن عرف بإدراك الثّمار جاز على الأصحّ‏.‏

ولو قال‏:‏ ساقيتك سنةً وأطلق فهل يحمل على السّنة العربيّة أم سنة الإدراك وجهان‏:‏ زعم أبو الفرج السّرخسي أنّ أصحّهما‏:‏ الثّاني‏,‏ فإن قلنا بالأوّل أو وقّت بالزّمان‏,‏ فأدركت الثّمار والمدّة باقية لزم العامل أن يعمل في تلك البقيّة ولا أجرة له‏.‏

وإن انقضت المدّة وعلى الشّجر طلع أو بلح فللعامل نصيبه منها وعلى المالك التّعهد إلى الإدراك‏.‏

وإن حدث الطّلع بعد المدّة فلا حقّ للعامل فيه‏.‏

ولو ساقاه أكثر من سنة ففي صحّته أقوال‏,‏ فعلى القول بالجواز هل يجب بيان حصّة كل سنة‏,‏ أم يكفي قوله ساقيتك على النّصف لاستحقاق النّصف كلّ سنة‏؟‏ قولان أو وجهان كالإجارة‏.‏

وقيل‏:‏ يجب هنا قطعاً لكثرة الاختلاف في الثّمر‏.‏

قال الماورديّ‏:‏ فلو ساقاه على نخله عشر سنين على أنّ له ثمرة سنة منها لم يجز‏,‏ سواء عيّن السّنة أو لم يعيّنها لأنّه إن لم يعيّنها كانت مجهولةً‏,‏ وإن عيّنها فقد شرط جميع الثّمرة فيها‏.‏

ولو جعل له نصف الثّمرة في سنة من السّنين العشرة إن لم يعيّنها بطلت المساقاة للجهل بها‏,‏ وإن عيّنها نظر‏:‏ فإن كانت غير السّنة الأخيرة بطلت المساقاة‏,‏ لأنّه قد شرط عليه بعد حقّه من الثّمرة عملاً لا يستحقّ عليه عوضاً‏,‏ وإن كانت السّنة الأخيرة ففي صحّة المساقاة وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنّها صحيحة كما يصح أن يعمل في جميع السّنة‏,‏ وإن كانت الثّمرة في بعضها‏.‏ والوجه الثّاني‏:‏ أنّها باطلة لأنّه يعمل فيها مدّةً تثمر فيها ولا يستحقّ شيئاً من ثمرها وبهذا المعنى خالف السّنة الواحدة‏.‏

وإذا ساقاه عشر سنين‏,‏ فأطلعت ثمرة السّنة العاشرة بعد تقضّيها لم يكن للعامل في ثمرة تلك السّنة حق‏,‏ لتقضّي مدّته وزوال عقده‏,‏ ولو أطلعت قبل تقضّي تلك السّنة ثمّ تقضّت والثّمرة لم يبد صلاحها - وهي بعد طلع أو بلح - كان له حقّه منها لحدوثها في مدّته‏.‏

فإن قيل‏:‏ إنّه أجير‏,‏ فعليه أن يأخذ حقّه منها طلعاً أو بلحاً‏,‏ وليس له استيفاء حقّه إلى بدوّ الصّلاح‏,‏ وإن قيل‏:‏ إنّه شريك‏,‏ كان له استيفاؤُها إلى بدوّ الصّلاح‏,‏ وتناهي الثّمرة‏.‏

32 - وأمّا الحنابلة‏:‏ فقد قال البهوتيّ‏:‏ ويصح توقيت مساقاة كوكالة وشركة ومضاربة لأنّه لا ضرر فيه‏,‏ ولا يشترط توقيت المساقاة لأنّها عقد جائز لكلّ منهما إبقاؤُه وفسخه‏,‏ فلم يحتج إلى التّوقيت كالمضاربة‏.‏

ويصح توقيتها إلى جذاذ وإلى إدراكٍ وإلى مدّة تحتمله لا إلى مدّة لا تحتمله لعدم حصول المقصود بها‏.‏

وإن ساقاه إلى مدّة تكمل فيها الثّمرة غالباً فلم تحمل الثّمرة تلك السّنة فلا شيء للعامل لأنّه دخل على ذلك‏.‏

الأحكام المترتّبة على المساقاة الصّحيحة ابتداءً

33 - يترتّب على المساقاة الصّحيحة العديد من الأحكام منها‏:‏

أ - أنّه يجب قيام العامل بكلّ ما يحتاج إليه الشّجر من السّقي والتّلقيح والحفظ‏,‏ لأنّها من توابع المعقود عليه وهو العمل‏,‏ وسبق ذكر الضّابط فيما يجب عليه وما لا يجب‏,‏ كما يجب على المالك كل ما يتعلّق بالنّفقة على الشّجر من السّماد واللّقاح ونحو ذلك‏.‏

ب - لا يملك العامل أن يدفع الشّجر معاملةً إلى غيره إلّا إذا قال له المالك‏:‏ اعمل برأيك‏,‏ وذلك لأنّ فيه إثبات الشّركة في مال غيره بغير إذنه والثّمر عندئذ للمالك‏.‏

وللعامل الثّاني أجر مثله على العامل الأوّل‏,‏ ولا أجر للأوّل لأنّه تصرّف في مال غيره بغير تفويض وهو لا يملك ذلك‏.‏

وهذا ما قاله الحنفيّة وما ذهب إليه أيضاً الحنابلة قياساً على المضاربة والوكالة‏.‏

واستدلّ ابن قدامة‏:‏ بأنّه عامل في المال بجزء من نمائه فلم يجز أن يعامل غيره فيه كالمضارب‏,‏ ولأنّه إنّما أذن له في العمل فيه فلم يجز أن يأذن لغيره كالوكيل‏.‏

وقال‏:‏ وللموقوف عليه أن يزارع في الوقف ويساقي على شجره لأنّه إمّا مالك لرقبة ذلك أو بمنزلة المالك ولا نعلم في هذا خلافاً عند من أجاز المساقاة والمزارعة‏.‏

وأجاز المالكيّة ذلك بقيد‏,‏ قال الدسوقي‏:‏ وجاز مساقاة العامل عاملاً آخر بغير إذن ربّ الحائط‏,‏ ومحل الجواز إن لم يشترط رب الحائط عمل العامل بعينه وإلّا منع من مساقاته لآخر‏,‏ ما لم يكن أميناً - أيضاً - ولو أقلّ أمانةً لا غير أمين‏,‏ - وفرّقوا في هذا الصّدد بينه وبين المضارب - قال الدسوقي‏:‏ بخلاف عامل القراض‏,‏ فليس له أن يعامل عاملاً آخر بغير إذن ربّ المال مطلقاً‏,‏ ولو كان أميناً‏,‏ لأنّ مال القراض ممّا يغاب عليه بخلاف الحائط‏.‏

واحترز بقوله ‏"‏ لا غير أمين ‏"‏ أي إن كان غير أمين لا تجوز مساقاته وإن كان الأوّل مثله في عدم الأمانة ‏;‏ لأنّ ربّ الحائط ربّما رغب في الأوّل لأمر ليس في الثّاني‏,‏ ويضمن العامل الأوّل موجب فعل الثّاني‏,‏ إذا كان هذا غير أمين أو مجهول الحال‏,‏ وإن كان الاتّفاق بين العاملين على أكثر ممّا جعل للأوّل في عقد المساقاة فالزّائد على العامل الأوّل‏,‏ وإن كان أقلّ فالزّائد للعامل الأوّل‏.‏

وأمّا الشّافعيّة‏:‏ فقالوا بالجواز بقيد التّوافق في المدّة والنّصيب‏,‏ قال في الحاوي‏:‏ فإن أراد العامل أن يساقي غيره عليها مدّة مساقاته جاز بمثل نصيبه فما دون‏,‏ كالإجارة‏,‏ ولا يجوز بأكثر من نصيبه لأنّه لا يملك الزّيادة‏,‏ والفرق بين المساقاة حيث كان للعامل أن يساقي عليها وبين المضاربة حيث لم يجز للعامل أن يضارب بها‏,‏ أن تصرف العامل في المضاربة تصرف في حقّ ربّ المال لأنّ العقد ليس بلازم فلم يملك ما بات عليه في تصرفه‏,‏ وتصرف العامل في المساقاة تصرف في حقّ نفسه للزوم العقد فيملك الاستنابة في تصرفه‏.‏

ج - إذا قصّر العامل في سقي الشّجر حتّى يبس ضمن‏,‏ لأنّ العمل واجب عليه‏,‏ والشّجر في يده أمانة‏,‏ فيضمن بالتّقصير ولو أخّر السّقي تأخيراً معتاداً لا يضمن لعدم التّقصير‏,‏ وإلّا ضمن‏,‏ وهذا عند الحنفيّة‏,‏ كذلك قال المالكيّة بالضّمان إن قصّر عمّا شرط عليه أو جرى به العرف‏.‏

قال في الشّرح الكبير‏:‏ إن قصّر عامل عمّا شرط عليه من العمل أو جرى به العرف‏,‏ كالحرث أو السّقي ثلاث مرّات فحرث أو سقى مرّتين حطّ من نصيبه بنسبته‏,‏ فينظر قيمة ما عمل مع قيمة ما ترك‏,‏ فإن كانت قيمة ما ترك الثلث مثلاً حطّ من جزئه المشترط له ثلثه‏.‏ وقوله‏:‏ قصّر‏,‏ يشعر أنّه لو لم يقصّر‏,‏ بأن شرط عليه السّقي ثلاث مرّات فسقى مرّتين‏,‏ وأغناه المطر عن الثّالثة‏,‏ لم يحطّ من حصّته شيء وكان له جزؤُه بالتّمام وهو كذلك‏,‏ قال ابن رشد بلا خلاف‏,‏ بخلاف الإجارة بالدّراهم أو الدّنانير على سقاية حائطٍ زمن السّقي وهو معلوم عندهم وجاء ماء السّماء فأقام به حيناً فإنّه يحط من الأجرة بقدر إقامة الماء فيه‏,‏ والفرق أنّ الإجارة مبنيّة على المشاحّة‏,‏ والمساقاة مبنيّة على المسامحة لأنّها رخصة والرخصة تسهيل‏.‏

د - قال الحنفيّة‏:‏ الزّيادة على المشروط في العقد جائزة بوجه عام وكذلك الحط منه‏,‏ وذلك في حالتين‏:‏

الأولى‏:‏ إن لم يتناه عظم الثّمر كانت جائزةً منهما - العامل وربّ الأرض - لأنّ إنشاء العقد جائز في هذه الحال فتجوز الزّيادة منهما أيّهما كان‏.‏

الثّانية‏:‏ وإن تناهى عظم الثّمر وتمّ نضجه جازت الزّيادة من قبل العامل لربّ الأرض‏,‏ لأنّ الزّيادة في هذه الحال بمثابة حطٍّ‏,‏ ولا تجوز الزّيادة من قبل المالك لأنّها مستحقّة في مقابل العمل‏,‏ والمحل لا يحتمله‏,‏ إذ قد نضج الثّمر‏,‏ ولهذا لا يحتمل إنشاء العقد في هذه الحال‏.‏ والأصل في هذا - كما يقول الحنفيّة - أنّ كلّ موضع احتمل إنشاء العقد احتمل الزّيادة وإلّا فلا‏,‏ والحط جائز في الموضعين‏.‏

أحكام المساقاة الصّحيحة في الانتهاء

34 - الآثار المترتّبة على المساقاة الصّحيحة عند انتهائها دون فسخٍ أو انحلال تبرز في الأحكام الآتية‏:‏

أوّلاً‏:‏ اقتسام الخارج على الشّرط المذكور في العقد‏,‏ لأنّ الشّرط صحيح فيجب الوفاء به‏,‏ وهذا حكم متّفق عليه‏.‏

وإن لم تثمر الأشجار شيئاً فلا أجر للعامل ولا للمالك لأنّ الواجب هو المسمّى في العقد‏,‏ وهو بعض الخارج ولم يوجد ولا يخالف أحد في هذا‏.‏

ثانياً‏:‏ العمل في الثّمار بعد إدراكها قبل قسمتها من الجذاذ والقطف والحصاد والتّجفيف واللّقاط‏,‏ اختلف الفقهاء في ذلك‏.‏

فذهب الحنفيّة وهو قول عند الشّافعيّة‏:‏ أنّها عليهما معاً على قدر - حصصهما‏,‏ وعلّله الحنفيّة‏:‏ بأنّه ليس من أعمال المساقاة لانتهائها بالإدراك‏,‏ حتّى لا يجوز اشتراطها على العامل‏,‏ لأنّه لا عرف في ذلك‏.‏

والصّحيح من المذهب عند الحنابلة أنّ الجذاذ عليهما بقدر حصّتهما إلّا أن يشرطه على العامل‏.‏

وذهب المالكيّة‏,‏ والشّافعيّة في الأصحّ عندهم‏,‏ وفي الرّواية الثّانية عن أحمد أنّها على العامل‏,‏ وأنّها لازمة بالعقد نفسه‏.‏

أمّا الأعمال الّتي تلي القسمة فتجب على كلّ واحد منهما في نصيبه خاصّةً لتمييز ملك كل منهما عن الآخر‏.‏

ثالثاً‏:‏ إن اختلف المالك والعامل في المقدار المشروط في العقد للعامل‏.‏

فقد ذهب الحنفيّة إلى أنّ القول للمالك مع يمينه لأنّ العامل يدّعي الزّيادة‏,‏ والمالك ينكر‏,‏ فالقول قوله والبيّنة على العامل‏,‏ ولو أقاما البيّنة رجحت بيّنة العامل‏,‏ لأنّها تثبت الزّيادة ولا يتحالفان هنا أي بعد نضج الثّمر واستيفاء منفعة العامل لخلوّه من الفائدة وإنّما يتحالفان قبل بدء العمل وحال قيامه‏,‏ ويترادّان‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ إن اختلفا في الجزء المشروط للعامل فالقول قول ربّ المال‏,‏ ذكره ابن حامد‏,‏ وكذلك إن اختلفا فيما تناولته المساقاة في الشّجر‏,‏ لأنّ ربّ المال منكر للزّيادة الّتي ادّعاها العامل فيكون القول قوله‏,‏ لما روي عن النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام‏:‏ « البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه »‏,‏ فإن كان مع أحدهما بيّنة حكم بها‏,‏ وإن كان مع كلّ واحد منهما بيّنة ففي أيّهما تقدّم بيّنته‏؟‏ وجهان بناءً على بيّنة الدّاخل والخارج‏,‏ فإن كان الشّجر لاثنين فصدّق أحدهما العامل وكذّبه الآخر أخذ نصيبه من مال المصدّق فإن شهد على المنكر قبلت شهادته إذا كان عدلاً‏,‏ لأنّه لا يجر إلى نفسه نفعاً ولا يدفع ضرراً ويحلف مع شاهده‏,‏ وإن لم يكن عدلاً كانت شهادته كعدمها‏,‏ ولو كان العامل اثنين ورب المال واحداً فشهد أحدهما على صاحبه قبلت شهادته أيضاً‏.‏

وفصّل المالكيّة في ذلك‏,‏ فذهبوا إلى أنّه إن وقع الاختلاف قبل العمل فإنّهما يتحالفان ويتفاسخان‏.‏

وإن وقع بعد انتهاء العمل وينع الثّمر‏:‏ فإن ادّعى أحدهما ما يشبه مساقاة المثل فالقول له بيمينه‏,‏ وإن لم يشبه واحد منهما مساقاة المثل وجب تحليفهما فإن حلفا أو نكلا وجبت مساقاة المثل‏,‏ وإن حلف أحدهما ونكل الآخر قضي للحالف على النّاكل‏.‏

فإن كانت مساقاة المثل مختلفةً كأن كانت عادة أهل المنطقة المساقاة بالثلث والربع قضي بالأكثر‏.‏

وإن أشبه كل منهما في دعواه مساقاة المثل فالقول للعامل بيمينه‏,‏ لأنّه مؤتمن‏,‏ والأصل عند مالكٍ أنّ اليمين تجب على أقوى المتداعيين شبهةً‏.‏

وذهب الشّافعيّة كما قال النّووي‏:‏ إذا اختلفا في قدر المشروط للعامل‏,‏ ولا بيّنة تحالفا كما في القراض‏,‏ وإذا تحالفا وتفاسخا قبل العمل فلا شيء للعامل‏,‏ وإن كان بعده‏,‏ فله أجرة مثل عمله‏,‏ وإن كان لأحدهما بيّنة قضي بها‏.‏

وإن كان لكلّ منهما بيّنة فالأظهر أنّهما تتساقطان فيتحالفان‏,‏ ومقابل الأظهر أنّهما تستعملان فيقرع بينهما‏.‏

ثمّ قال‏:‏ ولو ساقاه شريكان في الحديقة‏,‏ فقال العامل‏:‏ شرطتما لي نصف الثّمر وصدّقه أحدهما‏,‏ وقال الآخر‏:‏ بل شرطنا الثلث‏,‏ فنصيب المصدّق مقسوم بينه وبين العامل‏.‏

وأمّا نصيب المكذّب فيتحالفان فيه ولو شهد المصدّق للعامل أو المكذّب‏,‏ قبلت شهادته لعدم التهمة‏.‏

ما يفسد المساقاة

تفسد المساقاة بما يلي‏:‏

35 - أوّلاً‏:‏ اشتراط جزء معيّن من الثّمرة بالكيل أو بالوزن أو‏:‏ بغيرهما لأحد المتعاقدين‏,‏ أو تخصيص جانب من الكرم أو البستان لأحدهما‏,‏ أو اشتراط جزء معلوم من غير الثّمر يفسدها لأنّه من مورد النّهي الثّابت في السنّة كما في حديث رافع بن خديج رضي اللّه عنه‏.‏ ولأنّه قد لا يثمر الشّجر إلّا القدر المسمّى‏,‏ ولأنّ المساقاة شركة في الثّمرة فقط‏,‏ ولذا لم يختلف جمهور الفقهاء في فساد العقد بمثل هذا الشّرط‏.‏

غير أنّ ابن سراج من المالكيّة استثنى حالة الضّرورة‏:‏ كأن لا يجد رب الحائط عاملاً إلّا مع دفعه له شيئاً زائداً على الجزء المسمّى في العقد فيجوز‏.‏

36 - ثانياً‏:‏ اشتراط مشاركة المالك للعامل في عمله مفسد للعقد إذ لا بدّ من التّخلية بين العامل والشّجر - كما تقدّم - وهي تفوت بذلك‏,‏ كما أنّ هذا يخالف مقتضى عقد المساقاة‏,‏ وهو أنّ العمل فيها على العامل كما هو في المضاربة‏,‏ وقد نصّ على ذلك الكاساني في المزارعة‏,‏ والمساقاة مثلها وكذا النّووي‏.‏

وأمّا المالكيّة فقالوا‏:‏ يفسد العقد باشتراط إخراج ما كان من الرّقيق أو الدّوابّ في البستان الكبير إذ للعامل انتفاعه بالموجود منها فيه‏,‏ وإنّ المفسد أيضاً‏:‏ اشتراط تجديد ما لم يكن موجوداً منها وقت العقد‏,‏ على المالك أو العامل‏.‏

بل استثنى فقهاء المذاهب الثّلاثة - كما سبق - جواز اشتراط العامل معاونة من يستحقّ المالك منفعته إذا كان معلوماً بالرؤية أو الوصف‏,‏ وفي قول عند الحنابلة‏:‏ إنّ المفسد اشتراط أكثر العمل على المالك‏.‏

37 - ثالثاً‏:‏ أن يشترط على العامل عملاً يبقى أثره ومنفعته بعد أن يونع الثّمر‏,‏ وتنتهي مدّة المساقاة‏,‏ كنصب العرائش‏,‏ وغرس الأشجار‏,‏ وبناء الجدران‏,‏ وتشييد البيوت لحفظ الثّمار‏,‏ وتسوير الحدائق‏,‏ واستحداث حفريّات مائيّة‏,‏ فهذا مفسد للعقد عند الحنفيّة والشّافعيّة‏.‏

وعلّله الحنفيّة بقولهم‏:‏ لأنّه شرط لا يقتضيه العقد‏,‏ كما علّله الشّافعيّة بقولهم‏:‏ لأنّه استئجار بعوض مجهول‏,‏ وأنّه اشتراط عقد في عقد‏,‏ ولأنّه ليس من العمل في الشّجر في شيء‏,‏ وقالوا‏:‏ لأنّه شرط عليه ما ليس من جنس عمله‏.‏

وأمّا المالكيّة‏:‏ فاستثنوا اشتراط اليسير القليل على العامل ممّا لا يبقى غالباً بعد المساقاة كإصلاح الحياض وتحصين الجدر‏.‏

38 - رابعاً‏:‏ اشتراط شيء من الأعمال على العامل بعد أن تنتهي مدّة المساقاة ويحين الأكل‏,‏ كالقطاف والحفظ والتّجفيف‏,‏ لأنّ ذلك ليس ممّا يقتضيه العقد وفيه منفعة لأحدهما ولم يجر به التّعامل‏,‏ فكان من مؤن الملك‏,‏ والملك مشترك بينهما فكانت مؤنته عليهما على قدر ملكيهما‏.‏

ومعنى هذا أنّه لو جرى بشيء من ذلك العرف صحّ العقد وجاز اشتراطه‏,‏ وهو الّذي رواه بشر وابن سماحة عن أبي يوسف‏.‏

غير أنّ جمهور الفقهاء - كما سبق - على أنّ هذه المذكورات على العامل‏,‏ فلا يفسد العقد باشتراطها على العامل‏,‏ لأنّها من العمل الواجب عليه‏,‏ خلافاً للحنفيّة الّذين يرون أنّ المفسد اشتراطها على العامل‏.‏

فقد قرّر الشّافعيّة كما في المحلّيّ على المنهاج‏:‏ أنّ ما على المالك إذا شرط في العقد على العامل بطل العقد‏,‏ وكذا ما على العامل إذا شرط في العقد على المالك بطل العقد‏.‏

وكذا قرّر الحنابلة‏:‏ أنّه إذا شرط على أحدهما شيء ممّا يلزم الآخر لا يجوز ذلك فعلى هذا تفسد المساقاة لأنّه شرط يخالف مقتضى العقد فأفسده‏.‏

وأمّا المالكيّة فمع أنّهم ذهبوا مذهب الشّافعيّة والحنابلة في أنّ الجذاذ ونحوه على العامل لكنّهم قالوا‏:‏ أنّه لو اشترطه العامل على المالك جاز‏,‏ بل قرّروا هذا المبدأ كما في حاشية الدسوقيّ‏:‏ وهو‏:‏ أنّه إذا جرت العادة بشيء واشترط خلافه عمل بالشّرط ‏;‏ لأنّه كالنّاسخ للعادة‏.‏

39 - خامساً‏:‏ اشتراط أن يكون الخارج كله لأحدهما لانقطاع معنى الشّركة به‏,‏ وهي من خصائص هذا العقد‏,‏ وكذلك لو شرط أن يكون بعض الخارج لغيرهما‏.‏

ومذهب المالكيّة جواز أن تكون الثّمرة كلها للعامل أو المالك وإن نفاه بعضهم‏.‏

‏(‏ ر‏:‏ ف / 20 ‏)‏‏.‏

40 - سادساً‏:‏ اشتراط الحمل والحفظ بعد قسمة المحصول على العامل‏,‏ لأنّه ليس من عمل المساقاة‏,‏ وهذا عند الحنفيّة‏,‏ وقيّد المالكيّة الفساد بها إذا كانت فيه كلفة أو مشقّة‏,‏ قال الدّردير‏:‏ أو اشترط العامل على ربّ الحائط حمل نصيب العامل لمنزل العامل إذا كان فيه كلفة ومشقّة‏,‏ وإلّا جاز‏,‏ وينبغي أن يدفع له أجرة الحمل في الممنوعة مع أجرة المثل‏,‏ وكذا عكسه‏,‏ وهو اشتراط ربّ الحائط على العامل ذلك‏.‏

41 - سابعاً‏:‏ تحديد مدّة لا يثمر الشّجر خلالها‏,‏ وهذا يمنع المقصود فيكون مفسداً للعقد‏,‏ ومن يشترط التّوقيت من المالكيّة لا يجيزه بما زاد على الجذاذ في العادة‏.‏

وعند الشّافعيّة‏:‏ لا يجوز فيها الإطلاق ولا التّأبيد ولا التّوقيت بإدراك الثّمر في الأصحّ‏,‏ لأنّه يتقدّم ويتأخّر كما سبق عند شرط المدّة وأحكامها‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ إن ساقاه على مدّة لا تكمل فيها الثّمرة فالمساقاة فاسدة‏.‏

42 - ثامناً‏:‏ شركة العامل فيما يعمل فيه‏,‏ كما لو كان بستاناً مشتركاً بين اثنين فدفعه أحدهما إلى الآخر مساقاةً مدّةً معلومةً على أن يكون الثّمر بينهما مثالثةً‏,‏ ثلثاه للعامل وثلثه للمالك‏,‏ فإنّه تفسد المساقاة‏,‏ والخارج بينهما على قدر الملك‏,‏ ولا شيء للعامل‏,‏ وهذا لأنّ المساقاة إجارة في المعنى‏,‏ ولا يجوز استئجار الإنسان للعمل في شيء هو فيه شريك‏,‏ ولأنّ من شروط صحّة الإجارة عند الحنفيّة تسليم المعقود عليه إلى المستأجر وتسليمه في الصورة المذكورة غير متصوّر‏,‏ لأنّ كلّ جزء من أجزاء البستان الّذي يعمل فيه هو شريك فيه‏,‏ فيكون عاملاً فيه لنفسه فلا يتحقّق التّسليم‏.‏

وخالف الشّافعيّة في ذلك‏:‏ فأجازوا مساقاة الشّريك بشرطين‏:‏ أوّلهما‏:‏ أن يشرط له زيادةً على حصّته‏,‏ حتّى لو لم يشرط له زيادةً عليها لم تصحّ‏,‏ لخلوّها عن العوض ولا أجرة له بالعمل لأنّه متبرّع‏,‏ والآخر‏:‏ أن يستبدّ العامل بالعمل ويستقلّ به حتّى لو شاركه المالك بالعمل لم تصحّ‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ وإن ساقى أحد الشّريكين شريكه وجعل له من الثّمر أكثر من نصيبه مثل أن يكون الأصل بينهما نصفين فجعل له ثلثي الثّمرة صحّ‏,‏ وكان السدس حصّته من المساقاة فصار كأنّه قال‏:‏ ساقيتك على نصيبي بالثلث وإن جعل الثّمرة بينهما نصفين أو جعل للعامل الثلث فهي مساقاة فاسدة ‏;‏ لأنّ العامل يستحقّ نصفها بملكه فلم يجعل له في مقابلة عمله شيئاً‏,‏ وإذا شرط له الثلث فقد شرط أنّ غير العامل يأخذ من نصيب العامل ثلثه‏,‏ ويستعمله بلا عوض فلا يصح‏,‏ فإذا عمل في الشّجر بناءً على هذا كانت الثّمرة بينهما بحكم الملك ولا يستحقّ العامل بعمله شيئاً‏,‏ لأنّه تبرّع به لرضاه بالعمل بغير عوض‏,‏ فأشبه ما لو قال له‏:‏ أنا أعمل فيه بغير شيء‏,‏ لأنّه عمل في مال غيره متبرعاً فلم يستحقّ عوضاً كما لو لم يعقد المساقاة‏,‏ قال ابن قدامة‏:‏ وذكر أصحابنا وجهاً آخر أنّه يستحقّ أجر المثل‏,‏ لأنّ المساقاة تقتضي عوضاً فلم تسقط برضاه بإسقاطه كالنّكاح إذا لم يسلّم له المسمّى يجب فيه مهر المثل‏.‏

أحكام المساقاة الفاسدة

43 - إذا وقعت المساقاة فاسدةً‏,‏ واطّلع على الفساد وقبل الشروع في العمل وجب فسخها هدراً بلا شيء يجب على المالك أو العامل‏,‏ لأنّ الوجوب أثر للعقد الصّحيح ولم يوجد‏.‏

أمّا إذا اطّلع على الفساد بعد الشروع في العمل فقد اختلف الفقهاء فيما يتعلّق بالنّاتج ونصيب العامل والمالك‏,‏ أو ما يكون للعامل وللمالك وفق البيان التّالي‏:‏

أ - أطلق الشّافعيّة والحنابلة والحنفيّة القول بوجوب الأجرة للعامل واستحقاق المالك للثّمر في المساقاة الفاسدة وهو قياس رواية عن مالكٍ‏.‏

ب - أنّه لا يجبر العامل على العمل لأنّ الجبر على العمل بحكم العقد ولم يصحّ‏.‏

ج - أنّ أجر المثل لا يجب في المعاملة الفاسدة ما لم يوجد العمل‏.‏

د - أنّ أجر المثل فيها يجب مقدّراً بالمسمّى لا يتجاوز عنه عند أبي يوسف‏,‏ وعند محمّد‏:‏ يجب تاماً‏.‏

وهذا الاختلاف فيما إذا كانت حصّة كلّ واحد منهما مسمّاةً في العقد‏,‏ فإن لم تكن مسمّاةً في العقد يجب أجر المثل تاماً بلا خلاف‏,‏ قال الكاساني‏:‏ ووجه قول محمّد‏:‏ أنّ الأصل في الإجارة وجوب أجر المثل لأنّها عقد معاوضة‏,‏ ومبنى المعاوضات على المساواة بين البدلين‏,‏ وذلك في وجوب أجر المثل‏,‏ لأنّه المثل الممكن في الباب إذ هو قدر قيمة المنافع المستوفاة إلّا أنّ فيه ضرب جهالة وجهالة المعقود عليه تمنع صحّة العقد فلا بدّ من تسمية البدل تصحيحاً للعقد‏,‏ فوجب المسمّى على قدر قيمة المنافع أيضاً‏,‏ فإذا لم يصحّ العقد لفوات شرطٍ من شرائطه وجب المصير إلى البدل الأصليّ للمنافع وهو أجر المثل ولهذا إذا لم يسمّ البدل أصلاً في العقد وجب أجر المثل بالغاً ما بلغ‏.‏

ووجه قول أبي يوسف‏:‏ أنّ الأصل ما قاله محمّد وهو وجوب أجر المثل بدلاً عن المنافع قيمةً لها لأنّه هو المثل بالقدر الممكن لكن مقدّراً بالمسمّى‏,‏ لأنّه كما يجب اعتبار المماثلة في البدل في عقد المعاوضة بالقدر الممكن يجب اعتبار التّسمية بالقدر الممكن‏,‏ لأنّ اعتبار تصرف العاقل واجب ما أمكن‏,‏ وأمكن ذلك بتقدير أجر المثل بالمسمّى‏,‏ لأنّ المستأجر ما رضي بالزّيادة على المسمّى والآجر ما رضي بالنقصان عنه‏,‏ فكان اعتبار المسمّى في تقدير أجر المثل به عملاً بالدّليلين ورعايةً للجانبين بالقدر الممكن فكان أولى‏,‏ بخلاف ما إذا لم يكن البدل سمّي في العقد لأنّ البدل إذا لم يكن مسمّىً أصلاً لا حاجة إلى اعتبار التّسمية فوجب اعتبار أجر المثل فهو الفرق‏.‏

وأمّا المالكيّة ففصّلوا في الاطّلاع على الفساد بعد الشروع‏,‏ قال ابن رشد في بيان المذهب‏,‏ بعد أن أورد إحدى الرّوايتين عن مالكٍ والمذكورة عند بيان مذهب الجمهور قال‏:‏ وقيل‏:‏ إنّها ترد إلى مساقاة المثل بإطلاق‏,‏ وهو قول ابن الماجشون وروايته عن مالكٍ‏,‏ وأمّا ابن القاسم فقال في بعضها‏:‏ ترد إلى مساقاة مثلها‏,‏ وفي بعضها‏:‏ إلى إجارة المثل‏.‏

انفساخ المساقاة

تنفسخ المساقاة بالموت‏,‏ ومضيّ المدّة‏,‏ والاستحقاق‏,‏ وتصرف المالك‏,‏ والفسخ‏,‏ وبيان ذلك فيما يأتي‏:‏

أولاً‏:‏ الموت

44 - اختلف الفقهاء في فسخ المساقاة بالموت‏.‏

فقال الحنفيّة‏:‏ تبطل المساقاة بالموت لأنّها في معنى الإجارة‏,‏ فلو طرأ الموت قبل الشروع في العمل انفسخ العقد ولا يلزم واحد منهما بشيء للآخر‏.‏

ولو طرأ الموت بعد نضج الثّمر انفسخ العقد وقسم الثّمر بينهما على حسب الشّرط في العقد‏.‏ ولو طرأ الموت والثّمر فج فقالوا‏:‏ ببقاء العقد حكماً وإن بطل قياساً‏,‏ وفرّقوا بين ثلاثة أحوال‏:‏

الحال الأوّل‏:‏ أن يموت رب الأرض ولمّا ينضج الثّمر‏,‏ بأن كان بسراً أو فجّاً‏,‏ فيجوز للعامل أن يقوم به حتّى ينضج وإن أبى ذلك ورثته لأنّ في فسخ العقد إضراراً به وإبطالاً لما كان مستحقّاً بالعقد وهو ترك الثّمار في الأشجار إلى وقت الإدراك‏,‏ فإذا انتقض العقد‏,‏ تكلّف الجذاذ قبل الإدراك وفيه ضرر عليه وإذا جاز نقض الإجارة لدفع الضّرر فلأن يجوز بقاؤُها لدفعه أولى‏,‏ ولا ضرر في ذلك على الورثة‏,‏ فلو أراد العامل تحمل الضّرر ورضي بقطع الثّمر فجّاً أو بسراً‏,‏ تخيّر ورثة المالك بين أمور ثلاثة‏:‏

الأوّل‏:‏ أن يقسموا البسر على الشّرط‏.‏

الثّاني‏:‏ أن يعطوه قيمة نصيبه يومئذ فجّاً‏,‏ ويبقى الثّمر لهم‏.‏

الثّالث‏:‏ أن ينفقوا عليه بأمر القاضي ثمّ يرجعوا على العامل بجميع ما أنفقوا‏,‏ لأنّ العمل عليه فعليه بدله‏,‏ ولأنّه ليس له إلحاق الضّرر بهم وهذا لأنّ العامل لمّا امتنع عن العمل لم يجبر عليه ‏;‏ لأنّ إبقاء العقد بعد وجود سبب البطلان وهو الموت استحساناً للنّظر له وقد ترك هو النّظر لنفسه‏,‏ فيخيّر الورثة بين الأمور الثّلاثة دفعاً للضّرر عنهم بقدر الإمكان‏.‏ الحال الثّاني‏:‏ أن يموت العامل والثّمر كذلك بسر‏,‏ فيقوم وارثه مقامه‏,‏ إن شاء يستمر على العمل حتّى نضوج الثّمر ولا يحقّ لصاحب الأشجار منعه ‏;‏ لأنّه نظر في ذلك إلى الجانبين‏,‏ وإذا امتنع الوارث عن الاستمرار على العمل فلا يجبر على العمل‏,‏ ولكن يكون صاحب الشّجر مخيراً بأحد الوجوه الثّلاثة التّالية‏:‏

الوجه الأوّل‏:‏ إن شاء اقتسم الثّمر الغير النّاضج مع الوارث على الوجه المشروط‏.‏

الوجه الثّاني‏:‏ وإن شاء أدّى للوارث حصّته من قيمة الثّمر الغير النّاضج‏.‏

الوجه الثّالث‏:‏ وإن شاء يصرف قدراً معروفاً بإذن القاضي ويستمر على العمل‏,‏ ويأخذ المبلغ المصروف بعد ذلك من الوارث‏,‏ ولكن لا يتجاوز هذا المبلغ المصروف في أيّ حال حصّته من الثّمر‏.‏

الحال الثّالث‏:‏ إذا توفّي كلاهما فيكون ورثة العامل مخيّرين على الوجه المذكور آنفاً لأنّهم يقومون مقام العامل‏,‏ وقد كان له في حياته هذا الخيار بعد موت ربّ الأرض‏,‏ فكذلك يكون لورثته بعد موته‏.‏

وأمّا المالكيّة فقال الدّردير‏:‏ وإذا لم تنفسخ - أي المساقاة - بالفلس الطّارئ فكذا بالموت ‏;‏ لأنّ الموت كالفلس‏,‏ والمساقاة كالكراء لا تنفسخ بموت المتكاريين‏.‏

وذهب الشّافعيّة إلى القول بأنّ المساقاة تنفسخ بالموت في أحوال خاصّة وفرّقوا بين موت المالك وموت العامل‏:‏

فإن مات مالك الشّجر في أثناء المدّة لم تنفسخ المساقاة بل يستمر العامل ويأخذ نصيبه‏.‏

واستثني من ذلك الوارث‏,‏ أي إذا ساقى المورّث من يرثه ثمّ مات فإنّ المساقاة تنفسخ‏,‏ وكذا لو ساقى البطن الأوّل البطن الثّاني ثمّ مات الأوّل في أثناء المدّة وكان الوقف وقف ترتيب فينبغي أن تنفسخ كما قال الزّركشي‏,‏ لأنّه لا يكون عاملاً لنفسه‏.‏

وإن مات العامل يفرّق بين أن تكون المساقاة على عينه أو على ذمّته‏:‏ فإن كانت المساقاة على عينه انفسخت المساقاة بموته كما تنفسخ الإجارة بموت الأجير المعيّن‏,‏ وقيّده السبكي وغيره بما إذا مات قبل تمام العمل وإلّا بأن لم يبق إلّا نحو التّجفيف فلا تنفسخ‏.‏

وإن كانت المساقاة على الذّمّة‏,‏ فوجهان‏:‏

الأوّل‏:‏ تنفسخ‏,‏ لأنّه لا يرضى بيد غيره‏,‏

والثّاني‏:‏ وهو الصّحيح وعليه التّفريع‏:‏ لا تنفسخ كالإجارة بل ينظر‏:‏

أ - إن خلّف تركةً تمّم وارثه العمل‏,‏ بأن يستأجر من يعمل وإلّا‏,‏ فإن أتمّ العمل بنفسه أو استأجر من ماله من يتمّم‏,‏ فعلى المالك تمكينه إن كان مهتدياً إلى أعمال المساقاة ويسلّم له المشروط‏,‏ وإن أبى لم يجبر عليه على الصّحيح‏.‏

ب - وإن لم يخلّف تركةً لم يقترض على الميّت وللوارث أن يتمّ العمل بنفسه أو بماله ويسلّم له المشروط‏.‏

قال الغزالي‏:‏ فإن أبى لم يجب عليه شيء إذا لم يكن له تركة وسلّم إليه أجرة العمل الماضي وفسخ العقد للمستقبل‏.‏

وأمّا الحنابلة‏,‏ فالمساقاة في ظاهر كلام أحمد عقد جائز غير لازم ينفسخ بموت كل منهما كما في المضاربة ويكون الحكم فيها كما لو فسخها أحدهما‏.‏

وأمّا على القول بلزومها - وهو غير الظّاهر عند الحنابلة - فلا تنفسخ بموت أحدهما‏,‏ ويجري الحكم على نحو التّفصيل المذكور عند الشّافعيّة‏,‏ غير أنّهم في موت العامل ولم يترك تركةً‏,‏ قالوا‏:‏ فإن لم تكن تركة أو تعذّر الاستئجار منها بيع من نصيب العامل ما يحتاج إليه لتكميل العمل واستؤجر من يعمله وإن باعه أي نصيب العامل هو أو وارثه لمن يقوم مقامه بالعمل جاز لأنّه ملكه‏.‏

ثانياً‏:‏ مضي المدّة

45 - الغالب أن تنقضي مدّة المساقاة وقد نضج الثّمر فينتهي العقد ويقسم الثّمر على الشّرط المذكور‏,‏ وقد يحدث أن تنقضي مدّة المساقاة والثّمر فِجٌّ‏,‏ والقياس يقضي ببطلان العقد كما يقضي ببطلانه لموت أحد العاقدين‏,‏ لكن الاستحسان يقضي ببقائه حكماً هنا كما قضى ببقائه هناك بسبب الموت‏,‏ وذلك دفعاً للضّرر وفق الأحكام التّالية‏:‏

أ - يتخيّر العامل بين المضيّ في العمل على الشّرط حتّى يدرك وبين تركه‏.‏

ب - إذا اختار المضيّ في العمل لم يكن عليه أجر حصّته حتّى يدرك الثّمر‏,‏ لأنّ الشّجر لا يجوز استئجاره‏,‏ وهو بخلاف المزارعة حيث يجب الأجر عليه لجواز استئجار الأرض‏.‏

ج - العمل كله واجب على العامل وحده هنا‏,‏ لعدم وجوب الأجر عليه لصاحب الشّجر بخلاف المزارعة‏,‏ فإنّ العمل فيها يجب عليهما بنسبة - حصصهما‏,‏ لأنّه لمّا وجب على العامل من أجر الأرض بنسبة نصيبه من الخارج وجب على المالك عمل مثل نسبة نصيبه من الخارج‏,‏ لأنّ بانتهاء العقد أصبح الزّرع مالاً مشتركاً بينهما‏.‏

وإن اختار العامل التّرك لم يجبر على العمل‏,‏ لكنّه لا يمكّن من قطف الثّمر فجّاً دفعاً للضّرر عن المالك ويتخيّر هذا عندئذ بين الأمور الثّلاثة المتقدّمة سابقاً عند الكلام على أحكام انفساخ المساقاة بموت أحد المتعاقدين‏.‏

وعند الشّافعيّة تفصيل في هذا الأمر‏:‏

فإن انقضت المدّة ولم يحصل الطّلع‏,‏ فلا شيء للعامل فيما عمل ويضيع تعبه في المدّة‏,‏ إذا لم يكن فيها ثمرة‏,‏ لأنّه دخل على ذلك‏.‏

وإن انقضت المدّة وعلى الشّجر الطّلع فعند البغويّ والرّافعيّ يكون التّعهد إلى الإدراك على المالك‏,‏ وعند ابن أبي عصرون عليهما‏,‏ ولا يلزم العامل لتبقيتها أجرةً‏.‏

ولأنّهم نصوا على أنّ العامل يملك حصّته من الثّمر بظهوره وانعقاده بعد الظهور‏.‏

وإن أدركت الثّمار قبل انتهاء المدّة وجب على العامل أن يعمل بقيّتها بغير أجرة‏.‏

ثالثاً‏:‏ الاستحقاق

46 - إذا أستحقّ الشّجر المساقى عليه وفسخ المستحقّ المساقاة تنفسخ وفي هذه الصورة ينظر‏:‏ فإذا كان الاستحقاق حصل بعد ظهور الثّمر فللعامل أجر مثله من صاحب الشّجر‏,‏ وإذا كان قبل ظهور الثّمر فلا يأخذ العامل شيئاً‏.‏

وهذا عند الحنفيّة‏,‏ وهو قدر متّفق عليه فيما يتعلّق بأجرة المثل على تفصيل ذكره أصحاب المذاهب الثّلاثة الأخرى‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ إذا استحقّ الحائط بعد عقد المساقاة فيه خيّر المستحقّ بين إبقاء العمل وفسخ عقده‏,‏ لكشف الغيب أنّ العاقد له غير مالكٍ‏,‏ وحينئذ فيدفع له أجرة عمله‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ ولو خرج الثّمر بعد العمل مستحقّاً لغير المساقي كأن أوصى بثمن الشّجر المساقى عليه أو خرج الشّجر مستحقّاً فللعامل على المساقي أجرة المثل لعمله‏,‏ لأنّه فوّت منافعه بعوض فاسد فيرجع ببدلها‏,‏ هذا إذا عمل جاهلاً بالحال‏,‏ فإن علم الحال فلا شيء له‏,‏ وكذا إذا كان الخروج قبل العمل‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ إن ظهر الشّجر مستحقّاً بعد العمل أخذ الشّجر ربه وأخذ ثمرته لأنّه عين ماله ولا حقّ للعامل في ثمرته ولا أجرة له على ربّ الشّجر‏,‏ لأنّه لم يأذن له في العمل وللعامل على الغاصب أجرة مثله لأنّه غرّه واستعمله‏.‏

وقالوا أيضاً‏:‏ وإن أستحقّت الثّمرة بعد أن اقتسمها الغاصب والعامل وأكلاها فللمالك تضمين من شاء منهما‏,‏ فإن ضمّن الغاصب فله تضمينه الكلّ وله تضمينه قدر نصيبه لأنّ الغاصب سبب يد العامل فلزمه ضمان الجميع‏,‏ وله تضمين العامل قدر نصيبه لتلفه تحت يده فإن ضمّن المالك الغاصب الكلّ رجع على العامل بقدر نصيبه‏,‏ ويرجع العامل على الغاصب بأجرة مثله لأنّه غرّه‏.‏

رابعاً‏:‏ تصرف المالك

47 - المراد بتصرف المالك‏:‏ بيع المالك الحديقة الّتي ساقى عليها في المدّة أو هبتها ‏;‏ أو رهنها‏,‏ أو وقفها‏.‏

قال الشّافعيّة‏:‏ بيع الحديقة الّتي ساقى عليها في المدّة يشبه بيع العين المستأجرة‏,‏ لكن في فتاوى البغويّ‏:‏ أنّ المالك إن باعها قبل خروج الثّمرة لم يصحّ‏,‏ لأنّ للعامل حقّاً في ثمارها‏,‏ فكأنّه استثنى بعض الثّمرة‏,‏ وإن كان بعد خروج الثّمرة صحّ البيع في الأشجار ونصيب المالك من الثّمار‏,‏ ولا حاجة إلى شرط القطع لأنّها مبيعة مع الأصول‏,‏ ويكون العامل مع المشتري كما كان مع البائع‏.‏

وإن باع نصيبه من الثّمرة وحدها‏,‏ لم يصحّ للحاجة إلى شرط القطع وتعذره في الشّائع‏.‏

قال النّووي‏:‏ وهذا الّذي قاله البغويّ حسن‏.‏

قال الطّبريّ‏:‏ وأخبرني يونس عن ابن وهب عنه قال‏:‏ سئل مالك عن الرّجل يبتاع الأرض وقد ساقاها صاحبها رجلاً قبل ذلك سنين‏,‏ فقال المساقي‏:‏ أنا أحقّ به وليس له أن يخرجني ‏"‏ فقال ‏"‏ ليس له أن يخرجه حتّى يفرغ من سقائه إلّا أن يتراضيا‏.‏

رابعاً‏:‏ الفسخ بالإقالة والعذر

48 - لمّا كانت المساقاة عقداً لازماً عند جمهور الفقهاء كما سبق لم يكن لواحد من المتعاقدين أن يستبدّ بفسخها‏,‏ وإنّما تفسخ بما تنفسخ به العقود اللّازمة وذلك بأحد أمرين‏:‏ الأمر الأوّل‏:‏ الاتّفاق الصّريح على الفسخ والإقالة‏,‏ ولا يخالف في هذا أحد‏.‏

والّذين يرون من الفقهاء - كالحنابلة في ظاهر مذهبهم - أنّ المساقاة عقد غير لازم‏,‏ يستجيزون لكلا المتعاقدين الفسخ‏,‏ فإن وقع بعد ظهور الثّمرة‏,‏ فالثّمرة بينهما على ما شرطاه وعلى العامل إتمام العمل‏,‏ وإن وقع الفسخ قبل ظهور الثّمرة‏:‏ فإن كان الّذي فسخ هو العامل فلا شيء له‏,‏ لأنّه رضي بإسقاط حقّه‏,‏ وإن كان المالك فعليه أجر المثل للعامل لأنّه منعه إتمام عمله‏.‏

الأمر الثّاني‏:‏ الفسخ بالعذر‏:‏ وهو مختلف فيه بين الفقهاء على مذهبين‏:‏

المذهب الأوّل‏:‏ جواز الفسخ لحدوث عذر بأحد العاقدين‏,‏ لأنّه لو لزم العقد حين العذر للزم صاحب العذر ضرر لم يلتزمه بالعقد‏,‏ وهذا مذهب الحنفيّة‏,‏ ويقرب منهم المالكيّة في أصل جواز الفسخ بالعذر‏.‏

المذهب الثّاني‏:‏ عدم جواز الفسخ بالأعذار‏,‏ وهذا عند الشّافعيّة‏,‏ وذلك أنّ العقد لازم وهو باتّفاقهما فلا ينفسخ إلّا باتّفاقهما‏.‏

‏(‏ ر‏:‏ إجارة ف / 64 - 65 ‏)‏‏.‏

نوعا الفسخ بالعذر

العذر لجهة العاقدين نوعان‏:‏ عذر المالك‏,‏ وأعذار العامل‏.‏

الأوّل‏:‏ عذر المالك

49 - فمن عذر المالك أن يفدحه دين لا يجد له قضاءً إلّا ببيع الشّجر‏,‏ فقال الحنفيّة‏:‏ إن أمكن الفسخ من غير ضرر بالعامل‏,‏ كأن يفسخ قبل أن يعمل العامل أو بعد أن عمل وقد أدرك الثّمر‏,‏ فإنّ القاضي يبيع الأرض بدينه أوّلاً‏,‏ ثمّ يفسخ العقد ولا تنفسخ المساقاة بمجرّد طروء العذر‏.‏

وتجويز الفسخ في هذه الحال لدفع الضّرر عن المالك إذا كان لا يمكنه المضي في العقد إلّا بضرر يلحقه‏,‏ فلا يلزمه الضّرر وذلك قياساً على فسخ الإجارة به‏.‏

وإن لم يمكن الفسخ إلّا بضرر‏,‏ كما لو كان بعد أن عمل العامل وقبل أن يدرك الثّمر‏,‏ فليس له أن يفسخ العقد ولا أن يبيع الشّجر‏,‏ بل يبقى حكم العقد حتّى يبلغ الثّمر‏,‏ فعندئذ يبيع نصيبه من الثّمر‏,‏ ويبيع الشّجر في دينه‏,‏ ويفسخ العقد فيما بقي‏,‏ لأنّ الشّركة انعقدت بينهما في الثّمر‏,‏ ولإدراكه نهاية معلومة ففي الانتظار توفير المنفعة‏,‏ ودفع الضّرر من الجانبين‏,‏ وفي نقض المعاملة إضرار بالعامل من حيث أنّ فيه إبطال حقّه من نصيب الثّمر‏,‏ فلدفع الضّرر قلنا‏:‏ يمنع المالك من بيع الشّجر‏,‏ ويبقى العقد بينهما إلى أن يدرك ما خرج من الثّمر‏.‏

وأمّا المالكيّة فذهبوا إلى أنّ المساقاة لا تنفسخ بإفلاس المالك إذا طرأ الفلس على العقد قبل العمل أو بعده‏,‏ بل يباع الشّجر على أنّه مساقًى ولو كانت المساقاة سنين‏,‏ كما تباع الدّار على أنّها مستأجرة‏.‏

الثّاني‏:‏ أعذار العامل

50 - من أهمّ أعذار العامل‏:‏

أ - عجز العامل عن العمل‏.‏

اختلف الفقهاء فيما إذا عجز العامل عن العمل بسبب المرض أو الشّيخوخة‏.‏

فقال الحنفيّة‏:‏ إذا عجز العامل عن العمل بسبب المرض الّذي يضعفه عن العمل‏,‏ أو الشّيخوخة‏,‏ جاز فسخ العقد‏,‏ وذلك لأنّ إلزامه بالعمل بمقتضى العقد زيادة ضرر لم يلزمه في العقد‏,‏ كما لا يؤمر باستئجار من يعمل عمله لأنّ فيه أيضاً إلحاق ضرر لم يلتزمه في العقد‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ إذا عجز العامل وقد حلّ بيع الثّمر لم يكن للمالك أن يساقي غيره‏,‏ بل عليه أن يستأجر من يعمل أو وجب عليه أن يستأجر من يعمل وإن يكن له شيء أستؤجر من حظّه من الثّمر‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ إذا ضعف العامل وهو أمين‏,‏ ضمّ إليه عامل قوي أمين ولا تنزع يده‏,‏ لأنّ العمل مستحق عليه ولا ضرر في بقاء يده‏.‏

أمّا إن عجز بالكلّيّة فإنّه يقام مقامه من يعمل عليه ولا يفسخ العقد‏,‏ لأنّ عليه توفية العمل وهذا من توفيته‏.‏

وللشّافعيّة تفصيل في جواز الفسخ لطروء المرض على عقد المساقاة وكذا الهرب أو الحبس أو الامتناع عن العمل‏,‏ سواء كانت قبل الفراغ من العمل أو قبل الشروع فيه‏.‏

قالوا‏:‏ إن تبرّع غيره بعمله ولو كان المتبرّع المالك‏,‏ بقي حقّ العامل‏,‏ لأنّ ما ينفقه أحدهما ممّا يجب على صاحبه يعتبر متبرعاً فيه‏.‏

لكن إن كان المتبرّع أجنبيّاً فللمالك فسخ العقد‏,‏ إذ قد لا يرضى بدخوله ملكه‏.‏

وإن لم يتبرّع غيره رفع الأمر إلى الحاكم إن قدر عليه‏,‏ ثمّ إن كان للعامل مال والمساقاة على ذمّته‏:‏ استأجر الحاكم عليه من يتم العمل‏,‏ وإلّا بأن كانت المساقاة على عين العامل لا يستأجر عليه‏,‏ لأنّ المالك مخيّر في هذه الحال بين الفسخ وبين الإبقاء‏.‏

وإن لم يكن للعامل مال فإن ظهرت الثّمرة استأجر منها‏,‏ وإلّا فإن أمكن استئجار عامل يعمل بمؤجّل إلى ظهور الثّمرة فعل‏,‏ وإن لم يكن ذلك اقترض الحاكم عليه من المالك أو غيره ويوفّى نصيبه من الثّمرة‏,‏ أو أذن المالك في الإنفاق‏,‏ لكن يرجع عليه بعد ذلك بما أنفق‏.‏ أمّا إن لم يقدر المالك على الرجوع إلى الحاكم‏,‏ أو لم يكن هناك حاكم‏,‏ أو رفض الحاكم إجابته‏,‏ أو عجز عن إثبات دعواه مرض العامل أو هربه ونحو ذلك وجب على المالك الإشهاد على ما ينفقه أو يعمله إن أراد الرجوع بما أنفق أو بأجرة ما عمل‏,‏ ووجب أيضاً التّصريح بالرجوع في إشهاده‏,‏ فإن لم يكن إشهاده كذلك فلا رجوع له‏,‏ وكذا إن لم يمكنه الإشهاد أيضاً لا رجوع له في الأصحّ لأنّه عذر نادر‏,‏ ولكن له الحقّ في الفسخ إن شاء‏.‏

ب - سفر العامل‏,‏ لأنّه قد يحتاج إليه‏,‏ لمطالبة غريم له أو الحجّ‏.‏

ج - ترك حرفته‏,‏ لأنّ من الحرف ما لا يغني من جوع فيحتاج إلى الانتقال إلى غيره‏,‏ ولا مانع يمنعه من العمل‏.‏

ومع ذلك ذكرت - عند الحنفيّة - روايتان في الفسخ بسبب هذه الأمور الثّلاثة - المرض والسّفر وترك الحرفة - وفي الهداية والعناية عليها أنّ الرّوايتين في ترك العمل‏,‏ غير أنّهم صحّحوا التّوفيق بينهما بقولهم‏:‏ إنّها عذر يبيح الفسخ إذا شرط على العامل أن يعمل بنفسه‏,‏ كما أنّها ليست بعذر مبيح للفسخ إذا أطلق‏,‏ لأنّ له أن ينيب غيره في العمل منابه‏.‏

وفي كيفيّة الفسخ عند الحنفيّة أيضاً روايتان‏:‏ ففي رواية الجامع الصّغير‏:‏ أنّه لا يشترط الفسخ بالقضاء‏.‏ فينفرد ذو العذر بالفسخ‏,‏ وفي رواية الزّيادات‏:‏ أنّه يشترط القضاء أو التّراضي‏.‏

د - إذا تبيّن أنّ العامل لصٌّ‏,‏ يخاف منه على الشّجر أو الثّمر فللمالك فسخ العقد‏.‏

وهذا عند الحنفيّة‏.‏

وذهب الحنابلة إلى أنّه إذا ثبتت خيانة العامل ببيّنة أو إقرار أو يمين مردودة من العامل على المالك ضمّ إليه مشرف إلى أن يتمّ العمل‏,‏ وعلى العامل أجرة المشرف‏,‏ فإن لم يمكن حفظه بالمشرف أستؤجر من مال العامل عامل يتم العمل‏,‏ وعلى العامل أجرة المشرف أيضاً‏.‏ وقال الشّافعيّة‏:‏ ولو ثبتت خيانة عامل في المساقاة بإقراره أو ببيّنة أو يمين مردودة ضمّ إليه مشرف إلى أن يتمّ العمل ولا تزال يده‏,‏ لأنّ العمل حق عليه ويمكن استيفاؤُه منه بهذا الطّريق‏,‏ فتعيّن سلوكه جمعاً بين الحقّين‏,‏ وأجرة المشرف عليه‏,‏ نعم لو لم تثبت الخيانة ولكن ارتاب المالك فيه فإنّه يضم إليه مشرف وأجرته حينئذ على المالك‏,‏ فإن لم يتحفّظ بالمشرف أزيلت يده بالكلّيّة واستؤجر عليه من مال العامل من يتم العمل لتعذر استيفاء العمل الواجب عليه منه والقدرة عليه بهذا الطّريق‏,‏ نعم إن كانت المساقاة على عينه فظاهر كما قال الأذرعي‏:‏ أنّه لا يستأجر عنه بل يثبت للمالك الخيار‏.‏

وذهب المالكيّة‏:‏ إلى أنّه لا يقوم غيره مقامه‏,‏ ولا يفسخ العقد‏,‏ وإنّما يجب أن يتحفّظ منه‏,‏ فإن لم يمكن التّحفظ ساقى الحاكم عليه عاملاً آخر‏.‏

ثمّ إن كان الجزء المتّفق على العامل الثّاني أقلّ من الأوّل أو أكثر فالزّيادة له والنّقص عليه‏.‏

أحكام الفسخ في هذه الأحوال

51 - إذا حدثت هذه العوارض قبل أن يثمر الشّجر انتقض العقد ولا شيء للعامل وإن كان قد سقى الشّجر وقام عليه وحفظه‏,‏ لأنّ المساقاة شركة في الخارج‏,‏ ولم يخرج شيء به تتحقّق الشّركة بينهما في شيء‏,‏ قال الكاساني‏:‏ وقيل هذا الحكم في القضاء‏,‏ وإن كان من الواجب استرضاء العامل في الدّيانة‏.‏

وإن حدثت بعد أن أزهر الشّجر أو أثمر ولمّا ينضج بعد فالحكم ما يأتي‏:‏

أ - يبقى الخارج بينهما على ما شرطا في العقد حتّى يكتمل نضجه‏.‏

ب - العمل في الشّجر فيما بقي واجب عليهما‏,‏ لأنّه عمل في مال مشتركٍ لم يشترط العمل فيه على أحدهما فيكون عليهما‏.‏

ج - على العامل أن يدفع أجر مثل نصف الشّجر إلى المالك‏,‏ لانتهاء العقد بالفسخ‏,‏ وفي قطف الثّمر في حاله الرّاهنة إضرار به‏,‏ وفي تركه بلا أجر إضرار بصاحب الأرض فكان في التّرك بأجر المثل نظر للطّرفين‏.‏

د - ولا يجوز بيع الشّجر في هذه الحال‏,‏ رعايةً لحقّ العامل إلّا أن يجيزه ويسقط حقّه‏.‏ والمالكيّة يجيزون بيع الشّجر وهو مساقىً ولو كانت المساقاة إلى سنين كما تباع الدّار على أنّها مستأجرة‏.‏

هـ - إن أستحقّت الأرض أو الشّجر كان الثّمر للمستحقّ لتبعيّته للشّجر ويرجع العامل على الّذي دفع إليه الشّجر مساقاةً بأجر مثله فيما عمل‏,‏ لفساد عقد الشّركة في المساقاة فيسقط حقّه في الثّمر‏,‏ ويبقى عمله مستوفًى بعقد فاسد‏,‏ فيستوجب أجر المثل‏.‏

وإن حدثت هذه العوارض بعد نضج الثّمر فهو بينهما على ما شرطاه‏.‏

حكم الجائحة وغيرها في المساقاة

52 - إذا أجيح الحائط كله انفسخت فيه المساقاة‏,‏ وهذا مقابل الأصحّ عند الشّافعيّة على ما ذكره النّووي حيث ذكر أنّ البغويّ قال‏:‏ إنّه إذا تلفت الثّمار كلها بالجائحة ينفسخ العقد‏.‏ وقال النّووي‏:‏ نقل المتولّي‏:‏ أنّه إذا لم تثمر الأشجار أصلاً أو تلفت الثّمار كلها بجائحة أو غصب‏,‏ فعلى العامل إتمام العمل وإن تضرّر به‏,‏ كما أنّ عامل القراض يكلّف التّنضيض وإن ظهر خسران ولم ينل إلّا التّعب‏,‏ وهذا أصح ممّا ذكره البغويّ‏:‏ أنّه إذا تلفت الثّمار كلها بالجائحة ينفسخ العقد‏,‏ إلّا أن يريد بعد تمام العمل وتكامل الثّمار‏.‏

واختلف الفقهاء فيما إذا هلك بعضه على تفصيل ذكره المالكيّة والشّافعيّة‏.‏

قال ابن عبد البرّ‏:‏ وإذا أجيح بعض الحائط سقط عنه بعض ما أجيح منه‏,‏ إذا كان لا يرجى منه ثمرة‏,‏ وما جذّ من النّخل لم يلزمه سقيها‏,‏ وعليه أن يسقي ما لم يجذّ حتّى يجذّ وإن جذّ غيره قبله‏.‏

وإن أجيح ثلثه فصاعداً فعن مالكٍ فيه روايتان‏:‏ إحداهما‏:‏ أنّ العامل بالخيار بين فسخ المساقاة والإقامة عليها‏,‏ والأخرى‏:‏ أنّ المساقاة لازمة لهما‏,‏ إلّا أن تكون الجائحة أتت على قطعة من النّخل والشّجر بعينها‏,‏ فتنفسخ المساقاة فيها وحدها دون ما سواها‏.‏

وإن أتلفت الجائحة أقلّ من ثلث الحائط‏,‏ فالمساقاة صحيحة لازمة‏.‏

ولو انهارت البئر انفسخت المساقاة إلّا أن يريد العامل أن ينفق من ماله في صلاح البئر‏,‏ ويكون على مساقاته‏,‏ ويرتهن صاحب الحائط من الثّمرة بما أنفق‏,‏ فذلك له‏.‏

وقال النّووي‏:‏ وإن هلك بعضها فللعامل الخيار بين أن يفسخ العقد ولا شيء له‏,‏ وبين أن يجيز ويتمّ العمل ويأخذ نصيبه‏.‏

مُسَاكَنَة

التّعريف

1 - المساكنة - في اللغة - على ميزان المفاعلة‏.‏ من ساكنه‏:‏ أيّ سكن معه في دار واحدة‏,‏ ويقال‏:‏ تساكنوا في الدّار‏,‏ أي‏:‏ سكنوا فيها معاً‏.‏

وفي الاصطلاح نقل النّووي عن الشّافعيّ قوله‏:‏ المساكنة‏:‏ أن يكونا في بيت أو بيتين حجرتهما واحدة ومدخلهما واحد‏,‏ قال الشّيخ أبو حامد‏:‏ أراد بالحجرة الصّحن‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الإقامة‏:‏

2 - الإقامة في اللغة مصدر أقام‏,‏ واسم الموضع المقام بالضّمّ‏,‏ وأقام بالموضع إقامةً اتّخذه وطنا فهو مقيم‏.‏

وفي الاصطلاح تطلق الإقامة على ما يأتي‏:‏

أولاً - الثبوت في المكان‏.‏

ثانياً - الإعلام بالشروع في الصّلاة بألفاظ عيّنها الشّارع‏.‏

والفرق بين الإقامة والمساكنة كما قال ابن عابدين‏:‏ أنّ الإقامة متى قيّدت بالمدّة لزم في مفهومها الامتداد‏,‏ وتقيّدت بالمدّة المذكورة كلّها‏,‏ بخلاف المساكنة‏,‏ فإنّه لا يلزم في تحقّقها الامتداد مطلقاً‏,‏ لصدقها على القليل والكثير‏,‏ فلا تكون المدّة قيداً لها‏.‏

ب - المجالسة‏:‏

3 - المجالسة من جالسه‏:‏ جلس معه‏,‏ فهو مجالس وجليس‏,‏ وتجالسوا‏:‏ جلس بعضهم مع بعض‏.‏

وبين المساكنة والمجالسة - كما ذكر ابن عابدين - وجه اشتراك وافتراق‏:‏

أمّا الأوّل‏:‏ فهو أنّ الوقت ظرف لهما لا معيار‏,‏ لأنّ كلاً منهما غير مقدّر بالوقت‏,‏ لصحّتها في جميع الأوقات وإن قلّت‏.‏

والثّاني‏:‏ أنّ المساكنة تكون بالاستقرار والدّوام وذلك بأهله ومتاعه‏,‏ بخلاف المجالسة حيث تتحقّق بما دون ذلك‏.‏

الحكم الإجمالي

تتعلّق بالمساكنة أحكام منها‏:‏

أ - مساكنة المعتدّة أثناء العدّة‏:‏

4 - اختلف الفقهاء في جواز مساكنة المطّلق المعتدّة على أقوال‏:‏

فيرى المالكيّة والشّافعيّة أنّه لا يجوز للرّجل المطلّق مساكنة المعتدّة‏,‏ ولم يفرّقوا في ذلك بين الرّجعيّة والبائن‏.‏

وعند الحنفيّة‏:‏ لا بأس أن يسكنا في بيت واحد مطلقاً إذا وجب الاعتداد في منزل الزّوج إذا كان المطلّق عدلاً‏.‏

وذهب الحنابلة إلى أنّه يجوز للمطلّق أن يسكن مع المطلّقة الرّجعيّة دون البائن‏.‏

وينظر تفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏ سكنى ف / 16 ‏)‏‏.‏

ب - الحلف على المساكنة‏:‏

5 - لو قال الحالف‏:‏ واللّه لا أساكن فلاناً فإمّا أن يكون مقيّداً ببعض المواضع لفظاً مثل‏:‏ لا أساكنه في هذا البيت‏,‏ أو هذه الدّار‏.‏

أو لا يكون مقيّداً‏.‏

ففي الحالة الأولى‏:‏ وهي أن يكون مقيّداً لفظاً‏:‏ ذهب الفقهاء إلى أنّه إن كانا فيه عند الحلف فانتقل الحالف أو المحلوف عليه‏,‏ أو انتقلا معاً من المكان الّذي كانا ساكنين فيه انتقالاً يزول معه اسم المساكنة عرفاً‏,‏ لم يحنث‏,‏ لانقطاع المساكنة‏.‏

وإن مكثا فيه بلا عذر حنث‏.‏

وكذلك لا يحنث الحالف إذا شرع هو أو المحلوف عليه إثر اليمين‏,‏ في بناء جدار‏,‏ أو غيره بحيث يكون لكلّ محل مرفق ومدخل على حدة عند جمهور المالكيّة‏,‏ وهو وجهٌ عند الشّافعيّة رجّحه البغويّ وهو خلاف الأصحّ عندهم‏,‏ لاشتغاله برفع المساكنة‏,‏ وأمّا مالك فكره الجدار‏.‏

وزاد المالكيّة لكفاية الجدار في عدم الحنث فيها قيداً آخر‏,‏ وهو‏:‏ أن يكون الحلف لأجل ما يحصل بين العيال‏,‏ وأنّه إن كان لكراهة جواره فلا بدّ من الانتقال‏.‏

وقال ابن الماجشون‏:‏ لا يعتد بالجدار إذا كان جريداً‏.‏

وذهب الحنفيّة والحنابلة‏,‏ وهو الأصح عند الشّافعيّة إلى أنّه يحنث‏,‏ لحصول المساكنة إلى تمام البناء بغير ضرورة‏,‏ ولأنّهما بتشاغلهما ببناء الجدار قد تساكناً قبل انفراد إحدى الدّارين عن الأخرى‏,‏ بخلاف ما إذا خرج أحدهما في الحال فبنى الجدار ثمّ عاد‏,‏ لم يحنث الحالف‏.‏

والحالة الثّانية‏:‏ أن لا يقيّدها لفظاً‏,‏ ويذكر داراً على التّنكير‏,‏ وباقي المسألة بحالها‏,‏ لم يحنث عند الحنفيّة والمالكيّة‏.‏

ونص الشّافعيّة على أنّه‏:‏ إن نوى موضعاً معيناً من دار‏,‏ فالمذهب عندهم‏,‏ الّذي قطع به الجمهور أنّ اليمين محمولة على ما نوى‏,‏ وإن لم ينو موضعاً‏,‏ وأطلق المساكنة‏,‏ حنث بالمساكنة في أيّ موضع كان في المشهور من المذهب‏.‏

مُسَامَحة

التّعريف

1 - المسامحة في اللغة‏:‏ المساهلة في المعاملة والموافقة على المطلوب والصّفح عن الذّنب‏,‏ واللّفظ مأخوذ من السّمح وهو الجود يقال‏:‏ سمح الرّجل سماحةً وسموحةً‏:‏ إذا جاد‏,‏ وتسامح القوم تسامحاً ومسامحةً‏:‏ تساهلوا في الأمر‏,‏ إذا تناولوه بلا مشاحّة أو مضاجرة‏.‏

والمعنى الاصطلاحيّ لا يخرج عن المعنى اللغويّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - المشاجرة‏:‏

2 - المشاجرة هي المنازعة‏:‏ يقال‏:‏ تشاجر القوم مشاجرةً‏:‏ تنازعوا في الأمر‏,‏ واشتجر القوم‏:‏ اختلفوا‏.‏

والعلاقة التّضاد‏.‏

ب - المشاحّة‏:‏

3 - المشاحّة في اللغة‏:‏ من شحّ الرّجل‏:‏ وهو أشد البخل مع الحرص‏,‏ ويقال‏:‏ تشاحوا في الأمر وعليه‏:‏ شحّ بعضهم على بعض وتبادروا إليه حذر فوته‏,‏ ويقال‏:‏ هما يتشاحّان على أمر‏:‏ إذا تنازعاه لا يريد كل واحد منهما أن يفوته‏.‏

والعلاقة التّضاد‏.‏

الحكم التّكليفي

4 - قال العلماء‏:‏ المسامحة مندوب إليها لقول النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم‏:‏ « رحم اللّه رجلاً سمحاً إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى »‏.‏

قال ابن حجر‏:‏ في الحديث الحض على السّماحة في المعاملة واستعمال معالي الأخلاق وترك المشاحّة والحضّ على ترك التّضييق على النّاس في المطالب وأخذ العفو منهم‏.‏

وقال الغزالي‏:‏ تنال رتبة الإحسان في المعاملة بأمور منها‏:‏

المسامحة في استيفاء الثّمن وسائر الديون وحطّ البعض‏,‏ أو بالإمهال والتّأخير‏,‏ أو بالمساهلة في طلب جودة النّقد‏,‏ وكل ذلك مندوب إليه ومحثوث عليه‏.‏

مُسَاواة

التّعريف

1 - المساواة في اللغة‏:‏ المماثلة والمعادلة‏,‏ يقال‏:‏ ساواه مساواةً‏,‏ ماثله وعادله قدراً‏,‏ أو قيمةً ومنه قولهم‏:‏ هذا يساوي درهماً أي تعادل قيمته درهماً‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ‏.‏

ما يتعلّق بالمساواة من أحكام

يتعلّق بالمساواة أحكام منها‏:‏

أولاً‏:‏ المساواة بين النّساء أساس لتحديد مهر المثل

2 - يتقرّر مهر المثل في بعض صور النّكاح كنكاح التّفويض الّذي لم يسمّ فيه صداق وكالوطء في النّكاح الفاسد وغير ذلك‏.‏

والمراد بالمثل‏:‏ مساواة المرأة امرأةً أخرى في عدّة أمور سيأتي بيانها‏.‏

والأصل فيه ما رواه معقل بن سنان أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم « قضى في بروع بنت واشقٍ وكان زوجها مات ولم يدخل بها ولم يفرض لها صداقاً فجعل لها مهر نسائها لا وكس ولا شطط »‏.‏

والمساواة الّتي هي الأساس في تحديد مهر المثل تتحقّق بأمرين‏:‏

أحدهما‏:‏ القرابة‏.‏

والثّاني‏:‏ الصّفّات‏.‏

وبيان ذلك فيما يلي‏:‏

أ - القرابة‏:‏

3 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والإمام أحمد في رواية ‏"‏ قال ابن قدامة هي الأولى ‏"‏ إلى أنّ القرابة المعتبرة في مساواة المهر هي قرابة الأب أي عشيرتها الّتي من قبل أبيها كأخواتها وعمّاتها وبنات أعمامها لقول ابن مسعود‏:‏ لها مهر مثل نسائها لا وكس فيه ولا شطط‏,‏ فقد أضاف النّساء إليها‏,‏ وإنّما يضاف إلى أقارب الأب لأنّ الإنسان من جنس قوم أبيه‏,‏ وقيمة الشّيء إنّما تعرف بالنّظر في قيمة جنسه‏.‏

ولا تعتبر قرابة الأمّ فلا يعتبر بأمّها وخالتها إذا لم تكونا من قبيلتها‏,‏ فإن كانت الأم من قوم أبيها بأن كانت بنت عمّه فحينئذ يعتبر بمهرها لأنّها من قوم أبيها‏.‏

ويراعى في نساء العصبات قرب الدّرجة وكونهنّ على صفاتها‏,‏ وأقربهنّ أخت لأبوين ثمّ لأب ثمّ بنات أخ لأبوين ثمّ لأب ثمّ عمّات كذلك ثمّ بنات الأعمام‏.‏

هذا ترتيب الشّافعيّة‏,‏ لكنّ الحنفيّة قالوا‏:‏ يعتبر بالأخوات الشّقيقات ثمّ أخواتها لأبيها ثمّ عمّاتها ثمّ بنات الأخت الشّقيقة ثمّ بنات الأعمام‏.‏

وعند المالكيّة‏:‏ الأقرب الأخوات الشّقائق ثمّ الأخوات لأب ثمّ العمّات الشّقائق ثمّ العمّات لأب‏.‏ وعند الحنابلة‏:‏ أقرب نساء عصبتها إليها أخواتها ثمّ عمّاتها ثمّ بنات عمّها الأقرب فالأقرب‏.‏ ولو كان نساء العصبة ببلدين وهي في أحدهما أعتبر نساء بلدها‏,‏ فإن كنّ ببلد غير بلدها كأن زوّجت في بلد غير البلد الّذي زوّج فيه أقاربها فعند الحنفيّة لا يعتبر بمهورهنّ لأنّ مهور البلدان مختلفة‏,‏ وعند الشّافعيّة الاعتبار بهنّ أولى من الأجنبيّات في البلد‏.‏

فإن فقد نساء العصبة أو لم ينكحن أصلاً أو نكحن ولكن جهل مهرهنّ فيعتبر مهرها بمهر أقاربها من الأرحام تقدّم منهنّ القربى فالقربى‏,‏ فتقدّم الأم ثمّ الجدّات ثمّ الخالات ثمّ بنات الأخوات ثمّ بنات الأخوال‏,‏ فإن فقد نساء الأرحام أو لم ينكحن أصلاً‏,‏ أو جهل مهرهنّ أعتبر بمثلها من الأجنبيّات لكن تقدّم أجنبيّات بلدها‏,‏ ثمّ أقرب بلد إليها‏.‏

4 - وإذا ساوت المرأة امرأتين من أقاربها مع اختلاف مهرهما فهل يعتبر بالمهر الأقلّ أو الأكثر‏؟‏ نقل ابن عابدين عن البحر أنّه ينبغي أنّ كلّ مهر اعتبره القاضي وحكم به فإنّه يصح لقلّة التّفاوت‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ إن اجتمع أم أب وأم أم فوجوهٌ‏:‏ أوجهها استواؤُهما فتلحق بواحدة منهما سواء زاد مهرها على الأخرى أو نقص ولا التفات إلى ضرر الزّوج عند الزّيادة وضرر الزّوجة عند النّقص‏.‏

والرّواية الأخرى عن أحمد وهي رواية إسحاق بن هانئٍ أنّ لها مهر نسائها مثل أمّها أو أختها أو عمّتها أو بنت عمّها‏,‏ واختار أبو بكر هذه الرّواية‏,‏ لكنّ صاحب كشّاف القناع ذكر قولاً واحداً للحنابلة وهو أنّ مهر المثل معتبر بمن يساويها من جميع أقاربها من جهة أبيها وأمّها كأختها وعمّتها وبنت أخيها وبنت عمّها وأمّها وخالتها وغيرهنّ القربى فالقربى‏.‏

قال المرداوي‏:‏ وهذا المذهب وعليه جمهور الأصحاب‏.‏

وقال ابن أبي ليلى‏:‏ المعتبر مساواتها بأمّها وقوم أمّها كالخالات ونحوها‏,‏ لأنّ المهر قيمة بضع النّساء فيعتبر بالقرابات من جهة النّساء‏.‏

وقال عبد الوهّاب من المالكيّة‏:‏ يعتبر عشيرتها وجيرانها سواء كنّ عصبةً أم لا‏.‏

وفي مواهب الجليل‏:‏ ينبغي أن يراعى من ذلك العرف‏,‏ فإن جرى العرف بالنّظر إلى صداق الأمّ وغيرها كما هو في زماننا فيجب اعتباره‏,‏ وأشار اللّخمي وغيره إلى ذلك‏.‏

ب - المساواة في الصّفّات‏:‏

اعتبار المساواة في الصّفّات بالنّسبة للزّوجة‏:‏

5 - ذكر الفقهاء أنّ الاعتبار بمهر المثل لا يثبت بمجرّد المساواة في القرابة المذكورة‏,‏ بل لا بدّ مع ذلك من المساواة في السّنّ والجمال والمال والعقل والدّين والبكارة والثيوبة والأدب وكمال الخلق والعلم والعفّة والحسب‏,‏ وعدم ولد إن كان من اعتبر لها المهر كذلك‏,‏ أي لا ولد لها فإن كان لها ولد أعتبر مهر مثلها بمهر من لها ولد‏.‏

وإنّما أعتبرت المساواة في هذه الصّفّات لأنّ مهر المثل يختلف باختلاف هذه الأوصاف فإنّ الغنيّة تنكح بأكثر ممّا تنكح به الفقيرة‏,‏ وكذا الشّابّة مع العجوز والحسناء مع الشّوهاء‏,‏ فإنّ الرّغبة في المتّصفة بالدّين أو الجمال أو المال أو غير ذلك من الصّفّات تخالف الرّغبة في غيرها فمتى وجدت هذه الأشياء عظم مهرها ومتى فقدت أو بعضها قلّ مهرها‏.‏

ونقل ابن عابدين عن الفتح‏:‏ وقيل‏:‏ لا يعتبر الجمال في بيت الحسب والشّرف بل في أوساط النّاس وهذا جيّد‏,‏ لكن قال ابن نجيم‏:‏ الظّاهر اعتباره مطلقاً‏,‏ قال ابن عابدين‏:‏ ووجه ذلك أنّ الكلام فيمن كانت من قوم أبيها‏,‏ فإذا ساوت إحداهما الأخرى في الحسب والشّرف وزادت عليها في الجمال كانت الرّغبة فيها أكثر‏.‏

6 - والمساواة في الصّفّات المذكورة معتبرة لتحديد مهر المثل‏,‏ فإن اختصت بزيادة صفّة أو نقص صفّة فإنّه يزاد في مهرها في صورة الزّيادة وينقص من مهرها في صورة النّقص بما يليق بحال المرأة المطلوب مهرها بحسب ما يراه الحاكم فالرّأي في ذلك منوط به فيقدّر باجتهاده صعوداً وهبوطاً‏,‏ وهذا إذا لم يحصل اتّفاق على المهر وحصل تنازع‏.‏

هذا ما ذكره الشّافعيّة وبمثله قال المالكيّة والحنابلة‏.‏

وقت اعتبار المساواة في الأوصاف

7 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ المماثلة في الأوصاف تعتبر وقت العقد‏,‏ قال ابن عابدين‏:‏ والمعنى أنّه إذا أردنا أن نعرف مهر مثل امرأةً تزوّجت بلا تسمية مثلاً ننظر إلى صفّاتها وقت تزوجها من سن وجمال إلى آخر الصّفّات‏,‏ وإلى امرأة من قوم أبيها كانت حين تزوّجت في السّنّ والجمال إلى آخر هذه الصّفّات مثل الأولى ولا عبرة بما حدث بعد ذلك في واحدة منهما من زيادة جمال ونحوه أو نقص‏.‏

وقال‏:‏ وهذه الأوصاف تعتبر وقت العقد في كلّ نكاح صحيح لا تسمية فيه أصلاً أو سمّي فيه ما هو مجهول أو ما لا يحل شرعاً‏,‏ وكل نكاح فاسد بعد الوطء سمّي فيه مهر أو لا‏,‏ خلافاً لوطء الشبهة‏.‏

وذكر المالكيّة أنّ الأوصاف المذكورة من جمال وغيره تعتبر يوم الوطء في النّكاح الفاسد وفي وطء الشبهة بخلاف النّكاح الصّحيح ولو تفويضاً فتعتبر الأوصاف يوم العقد‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ يعتبر في النّكاح الفاسد يوم الوطء‏,‏ لأنّه وقت الإتلاف ولا اعتبار بالعقد إذ لا حرمة له لفساده‏,‏ ويعتبر ذلك في أعلى الأحوال الّتي للموطوءة حال وطئها كأن يطأها سمينةً وهزيلةً فيجب مهر تلك الحالة العليا‏.‏

وفي نكاح التّفويض يعتبر مهر المثل بحال العقد في الأصحّ لأنّه المقتضي للوجوب بالوطء ومقابل الأصحّ يعتبر بحال الوطء لأنّه وقت الوجوب‏.‏

وذهب الحنابلة إلى مثل ما ذهب إليه الشّافعيّة‏.‏

اعتبار المساواة في الصّفّات بالنّسبة للزّوج

8 - قال الحنفيّة‏:‏ يعتبر حال الزّوح أيضاً ‏"‏ أي في الصّفّات ‏"‏ أي بأن يكون زوج هذه كأزواج أمثالها من نسائها في المال والحسب وعدمهما‏.‏

قال ابن عابدين‏:‏ وكذا في بقيّة الصّفّات فإنّ الشّابّ والمتّقي مثلاً يزوّج بأرخص من الشّيخ والفاسق‏.‏

وعند الشّافعيّة قال الفارقي بعد ذكر ما يعتبر من الصّفّات في المرأة الّتي يعتبر بمهرها‏:‏ أنّه يعتبر حال الزّوج أيضاً من يسار وعلم وعفّة ونحوها‏.‏

قال‏:‏ فلو وجد في نساء العصبة بصفتها وزوجها مثل زوجها فيما ذكر من الصّفّات أعتبر بها وإلّا فلا‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ يعتبر حال الزّوج فقد يرغب في تزويج فقير لقرابة أو صلاح أو علم أو حلم‏,‏ وقد يرغب في تزويج أجنبيٍّ لمال أو جاه ويختلف المهر باعتبار هذه الأحوال وجوداً وعدماً‏.‏

ثانياً‏:‏ المساواة في المدفوع إليهم عن الكفّارات

9 - يشترط جمهور الفقهاء المساواة فيما يعطى من الكفّارة للفقراء والمساكين‏.‏

قال الشّافعيّة في كفّارة الظّهار‏:‏ من عجز عن الصّوم كَفَّرَ بإطعام ستّين مسكيناً‏,‏ ستّين مداً لكلّ واحد منهم مد كأن يضعها بين أيديهم ويملّكها لهم بالسّويّة أو يُطْلق‏,‏ فإذا قبلوا ذلك أجزأ على الصّحيح‏,‏ فلو فاوت بينهم بتمليك واحد مدّين وآخر مداً أو نصف مُد لم يجز‏,‏ ولو قال‏:‏ خذوه ونوى فأخذوه بالسّويّة أجزأه فإن تفاوتوا لم يجزئ‏,‏ وإن صرف ستّين مداً إلى مائة وعشرين بالسّويّة أحتسب له بثلاثين مداً فيصرف ثلاثين أخرى إلى ستّين منهم ويسترد من الباقين إن كان ذكر لهم أنّها كفّارة‏,‏ وإن صرف ستّين مداً إلى ثلاثين بحيث لا ينقص كل منهم عن مد لزمه صرف ثلاثين مُدَّاً إلى ثلاثين غيرهم‏.‏

وعند الحنابلة نقل ابن رجب عن المغني أنّ من وضع طعاماً في الكفّارة بين يدي عشرة مساكين فقال‏:‏ هو بينكم بالسّويّة فقبلوه ففيه ثلاثة أوجهٍ‏:‏

أحدها - وهو الّذي جزم به أولاً - أنّه يجزيه لأنّه ملّكهم التّصرف فيه والانتفاع به قبل القسمة كما لو دفع دين غرمائه بينهم‏.‏

والثّاني‏:‏ وحكاه عن ابن حامد‏:‏ يجزيه وإن لم يقل بالسّويّة‏,‏ لأنّ قوله‏:‏ خذوه عن كفّارتي يقتضي التّسوية لأنّ ذلك حكمها‏.‏

والثّالث‏:‏ وحكاه عن القاضي بأنّه إن علم أنّه وصل إلى كلّ واحد قدر حقّه أجزأ وإلّا لم يجزه‏,‏ وأصل ذلك ما ذكره القاضي في المجرّد أنّه إذا أفرد ستّين مداً وقال لستّين مسكيناً‏:‏ خذوها فأخذوها أو قال‏:‏ كلوها ولم يقل بالسّويّة أو قال‏:‏ قد ملّكتموها بالسّويّة فأخذوها فقال ابن حامد‏:‏ يجزيه ‏;‏ لأنّ قوله‏:‏ خذوها عن كفّارتي يقتضي التّسوية لأنّ حكم الكفّارة أن يكون بينهم بالسّويّة‏,‏ فإن عرف أنّها وصلت إليهم بالسّويّة أجزأه‏,‏ وإن علم التّفاضل فمن حصل معه التّفضيل فقد أخذ زيادةً‏,‏ ومن أخذ أقلّ كان عليه أن يكمله‏,‏ وإن لم يعلم كيف وصل إليهم لم يجزه وعليه استئنافها‏,‏ لأنّه لم يعلم قدر ما وصل إلى كلّ واحد بعينه‏.‏ وعند المالكيّة من كفّر بالإطعام أو الكسوة فيشترط أن يعطي بالتّساوي العدد المطلوب في الكفّارة كستّين في الظّهار وعشرة في اليمين‏,‏ فلو أعطى كفّارة اليمين خمسةً لكلّ واحد مدّين أو أعطى ثلاثين في كفّارة الظّهار فلا يجزئ ذلك‏,‏ كما لا يجزئ إعطاء ناقصٍ كأن يعطي عشرين مسكيناً لكلّ واحد نصف مد في كفّارة اليمين أو يعطي مائةً وعشرين في كفّارة الظّهار‏,‏ فيجب عليه أن يكمل في التّكرار بإعطاء من يكمل العشرة في كفّارة اليمين ومن يكمل السّتّين في كفّارة الظّهار‏,‏ وفي النّاقص عن المدّ يجب عليه أن يكمل المدّ لعشرة في كفّارة اليمين ولستّين في كفّارة الظّهار‏,‏ وله نزع ما في يد الزّائد عن العشرة في اليمين وعن السّتّين في الظّهار‏.‏

ثالثاً‏:‏ المساواة في الحقوق

أ - الأولياء المستوون في التّزويج‏:‏

10 - اختلف الفقهاء في تزويج أحد الأولياء المستوين في درجة القرابة والولاية في النّكاح شخصاً واحداً أو أكثر‏,‏ في حال الإذن بالتّزويج أو عدمه‏,‏ سواء أكان التّزويج على التّرتيب أم في وقت واحد‏,‏ وسواء أحدث بينهم تنازع في الولاية أم لا‏.‏

والتّفصيل في مصطلح ‏(‏ ولاية ‏)‏‏.‏

ب - المساواة في استحقاق الشفعة‏:‏

11 - إذا تعدّد الشفعاء وكانوا متساوين في سبب الاستحقاق كأن كانوا جميعاً شركاء في دار مثلاً فقد اختلف الفقهاء في كيفيّة توزيع المشفوع فيه‏.‏

فعند جمهور الفقهاء يوزّع المشفوع فيه على الشفعاء بقدر الحصص من الملك لا على عدد الرءوس‏.‏

وقال الحنفيّة‏:‏ إنّ الشركاء إذا استووا في سبب الاستحقاق استووا في الاستحقاق فيقسّم المشفوع فيه على عدد الرءوس لا على قدر الملك‏.‏

وينظر تفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏ شفعة ف / 40 - 42 ‏)‏‏.‏

ج - مساواة المستحقّين للحضّانة‏:‏

12 - ذهب الفقهاء إلى أنّه إذا تساوى مستحقّون للحضّانة في درجة القرابة بالنّسبة للمحضون فإنّه يقدّم الأصلح ثمّ الأورع ثمّ الأكبر سناً كما يعبّر الحنفيّة وبتعبير المالكيّة يقدّم الأكثر صيانةً وشفقةً ثمّ الأكبر سناً‏.‏

فإذا استوى المستحقّون من كلّ وجهٍ بأن كانوا في درجة واحدة في القرابة واستووا في الصّفّات وفي السّنّ كذلك فإنّه يقرع بينهم قطعاً للنّزاع فيقدّم من المستحقّين المتساوين من خرجت قرعته‏.‏

وينظر تفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏ حضانة ف / 10 - 13 ‏)‏‏.‏

د - مساواة الموقوف عليهم في الاستحقاق‏:‏

13 - الأصل أنّه يعمل بشرط الواقف في توزيع غلّة الموقوف لأنّ شرط الواقف كنصّ الشّارع كما يقول الفقهاء‏,‏ فلو شرط الواقف التّسوية بين المستحقّين في توزيع الغلّة عليهم كقوله‏:‏ الذّكر والأنثى سواء فإنّه يعمل بشرطه‏.‏

ولو شرط تفضيل بعضهم ففيه تفصيل ينظر في مصطلح ‏(‏ وقف ‏)‏‏.‏

هـ - تقديم أحد الأولياء المتساوين للصّلاة على الميّت‏:‏

14 - اختلف الفقهاء فيمن يقدّم للصّلاة على الميّت من الأولياء إن تساووا في درجة القرابة وفيما يقدّم به أحد الأولياء المتساوين في القرابة على غيره‏.‏

والتّفصيل في مصطلح ‏(‏ جنائز ف / 42 ‏)‏‏.‏

رابعاً‏:‏ المساواة في مبادلة الأموال الرّبويّة

15 - اتّفق الفقهاء على أنّ الأموال الرّبويّة إذا كانت من جنس واحد فإنّه يشترط في بيع بعضها ببعض المساواة بين البدلين لأنّ الفضل يعتبر رباً‏.‏

وينظر تفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏ رباً ف / 26 وما بعدها ‏)‏‏.‏

خامساً‏:‏ المساواة بين المتخاصمين

16 - ذهب الفقهاء إلى أنّه إذا حضر الخصمان أمام القاضي سوّى بينهما في الجلوس والإقبال‏.‏

وتفصيل ذلك ينظر في مصطلح ‏(‏ قضاء فقرة / 41 ‏)‏‏.‏

سادساً‏:‏ المساواة بين الرّجل والمرأة في العبادات والعقوبات

17 - سوّى الإسلام بين المرأة والرّجل في العبادات البدنيّة والماليّة كالوضوء والغسل والصّلاة والصّوم والزّكاة والحجّ‏,‏ وفي العقوبات كالحدود‏.‏

مُسَاومَة

التّعريف

1 - المساومة في اللغة‏:‏ المجاذبة بين البائع والمشتري على السّلعة وفصل ثمنها‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللغويّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - المزايدة‏:‏

2 - المزايدة‏:‏ أن ينادي على السّلعة ويزيد النّاس فيها بعضهم على بعض حتّى تقف على آخر من يزيد فيها فيأخذها‏.‏

والمزايدة نوع من المساومة‏.‏

ب - النّجش‏:‏

3 - النّجش في اللغة معناه تنفير الصّيد واستثارته من مكانه ليصاد‏,‏ يقال‏:‏ نجشت الصّيد أنجشه - بضمّ الجيم - نجشاً‏.‏

وفي الشّرع‏:‏ الزّيادة في ثمن السّلعة ممّن لا يريد شراءها ليقع غيره فيها‏,‏ سمّي بذلك لأنّ النّاجش يثير الرّغبة في السّلعة‏,‏ قال في النّهاية‏:‏ هو أن يمدح السّلعة لينفقها ويروّجها أو يزيد في ثمنها وهو لا يريد شراءها ليقع غيره فيها‏,‏ ويجري في النّكاح وغيره‏.‏

والفرق بينه وبين المساومة أنّ النّاجش لا يرغب في الشّيء والمساوم يرغب فيه‏.‏

حكم المساومة

4 - المساومة جائزة إذا تحقّقت على غير المعنى المنهيّ عنه‏.‏

آثار المساومة

للمساومة آثار منها‏:‏

أ - سقوط الشفعة بالمساومة‏:‏

5 - جاء في تنقيح الفتاوى الحامديّة‏:‏ أنّ الشفعة تسقط بالمساومة بيعاً أو إجارةً‏.‏

ب - سقوط الدّعوى بالمساومة‏:‏

6 - جاء في تنقيح الفتاوى الحامديّة أنّ من استام من آخر عيناً بيده ثمّ ادّعى أنّ تلك العين له لا تسمع دعواه بعد ثبوت المساومة بالوجه الشّرعيّ‏.‏

حكم المقبوض حال المساومة

7 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ المقبوض حال المساومة مضمون بالجملة سواء بالثّمن أو القيمة على الخلاف‏,‏ وفرّق‏:‏ بعضهم كالحنفيّة والحنابلة بين المقبوض على سوم الشّراء والمقبوض على سوم النّظر‏.‏

والتّفصيل في مصطلح ‏(‏ ضمان ف / 40 - 41 ‏)‏‏.‏

مَسْبُوق

التّعريف

1 - المسبوق في اللغة‏:‏ اسم مفعول‏,‏ فعله سبق‏,‏ يقال‏:‏ سبقه إذا تقدّمه والمسبوق في الاصطلاح‏:‏ مَنْ سبقه الإمام ببعض ركعات الصّلاة أو بجميعها‏,‏ أو هو الّذي أدرك الإمام بعد ركعة أو أكثر‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - المُدرك‏:‏

2 - المدرك في اللغة‏:‏ اسم فاعل فعله أدرك‏,‏ يقال‏:‏ أدركه إذا لحقه وتداركوا‏:‏ تلاحقوا‏,‏ أي لحق آخرهم أوّلهم‏,‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً ‏}‏‏.‏

وفي الاصطلاح‏:‏ هو الّذي يدرك الإمام بعد تكبيرة الافتتاح‏,‏ أي يدرك جميع ركعات الإمام‏.‏ فالمدرك من لم يفته شيء من ركعات صلاته بخلاف المسبوق‏.‏

ب - اللَّاحِق‏:‏

3 - اللَّاحِق في اللغة‏:‏ اسم فاعل من لحق‏,‏ يقال‏:‏ لَحِقه‏:‏ أدركه‏.‏

وفي الاصطلاح اللّاحق‏:‏ من فاتته الرّكعات كلها أو بعضها بعد الاقتداء بالإمام‏.‏

والفرق بين اللّاحق والمسبوق‏:‏ أنّ المسبوق تفوته ركعة أو أكثر من أوّل الصّلاة‏,‏ واللّاحق تفوته ركعة أو أكثر من آخر الصّلاة أو وسطها‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالمسبوق

تتعلّق بالمسبوق أحكام منها‏:‏

متابعة المسبوق إمامه في الصّلاة

4 - ذهب الفقهاء إلى أنّ المسبوق إذا تخلّف في صلاته بركعة أو أكثر فإنّه يتبع إمامه فيما بقي من الصّلاة‏,‏ ثمّ يأتي بما فاته من صلاته‏.‏

وقال ابن عابدين‏:‏ لو قضى المسبوق ما سُبق به ثمّ تابع إمامه ففيه قولان مصحّحان‏,‏ واستظهر في البحر القول بالفساد‏,‏ لقولهم‏:‏ إنّ الانفراد في موضع الاقتداء مفسد‏,‏ ونقل عن البزّازيّة أنّ عدم الفساد أقوى لسقوط التّرتيب‏,‏ وعن جامع الفتاوى‏:‏ يجوز عند المتأخّرين وعليه الفتوى‏,‏ وقالوا‏:‏ يكره له ذلك لأنّه خالف السنّة‏.‏

وقال الحنفيّة أيضاً‏:‏ المسبوق إذا أدرك الإمام في القراءة في الرّكعة الّتي يجهر فيها لا يأتي بالثّناء‏,‏ سواء كان بعيداً أو قريباً أو لا يسمع لصممه‏,‏ فإذا قام إلى قضاء ما سبق يأتي بالثّناء ويتعوّذ للقراءة‏,‏ وفي صلاة المخافتة يأتي به‏,‏ ويسكت المؤتم عن الثّناء إذا جهر الإمام وهو الصّحيح‏,‏ وإن أدرك الإمام في الركوع أو السجود يتحرّى إن كان أكبر رأيه أنّه لو أتى به أدركه في شيء من الركوع أو السجود يأتي به قائماً‏,‏ وإلّا يتابع الإمام ولا يأتي به‏,‏ وإذا لم يدرك الإمام في الركوع أو السجود لا يأتي بهما‏,‏ وإن أدرك الإمام في القعدة لا يأتي بالثّناء بل يكبّر للافتتاح ثمّ للانحطاط ثمّ يقعد‏.‏

وقالوا إنّ المسبوق ببعض الرّكعات يتابع الإمام في التّشهد الأخير‏,‏ وإذا أتمّ التّشهد لا يشتغل بما بعده من الدّعوات‏,‏ قال ابن الشجاع‏:‏ إنّه يكرّر التّشهد إلى قوله‏:‏ أشهد أن لا إله إلّا اللّه وهو المختار‏,‏ والصّحيح أنّ المسبوق يترسّل في التّشهد حتّى يفرغ من التّشهد عند سلام الإمام‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ لو أدرك المسبوق الإمام في غير القيام لا يأتي بدعاء الاستفتاح‏,‏ حتّى قال أبو محمّد الجويني في التّبصرة‏:‏ لو أدرك الإمام رافعاً من الركوع حين كبّر للإحرام لم يأت بدعاء الاستفتاح‏,‏ بل يقول‏:‏ سمع اللّه لمن حمده ربّنا لك الحمد‏.‏‏.‏‏.‏ إلى آخره موافقةً للإمام‏,‏ وإن أدركه في القيام وعلم أنّه يمكنه دعاء الاستفتاح والتّعوذ والفاتحة أتى به‏,‏ نصّ عليه الشّافعي في الأمّ‏,‏ وقاله الأصحاب‏,‏ وقال أبو محمّد في التّبصرة‏:‏ ويستحب أن يعجّل في قراءته ويقرأ إلى قوله‏:‏ وأنا من المسلمين‏,‏ ثمّ ينصت لقراءة إمامه‏.‏

وإن علم أنّه لا يمكنه الجمع‏,‏ أو شكّ لم يأت بدعاء الاستفتاح‏,‏ وإن علم أنّه يمكنه أن يأتي ببعض دعاء الاستفتاح مع التّعوذ والفاتحة ولا يمكنه كله‏,‏أتى بالممكن‏,‏ نصّ عليه في الأمّ‏.‏

وقالوا‏:‏ ولو أدرك المسبوق الإمام في التّشهد الأخير‏,‏ فكبّر وقعد‏,‏ فسلّم مع أوّل قعوده قام‏,‏ ولا يأتي بدعاء الاستفتاح لفوات محلّه‏,‏ وذكر البغويّ وغيره أنّه لو سلّم الإمام قبل قعود المسبوق لا يقعد ويأتي بدعاء الاستفتاح‏.‏

وقال النّووي‏:‏ إذا حضر المسبوق فوجد الإمام في القراءة‏,‏ وخاف ركوعه قبل فراغه من الفاتحة فينبغي أن لا يقرأ دعاء الاستفتاح والتّعوذ‏,‏ بل يبادر إلى الفاتحة‏,‏ لأنّها فرض فلا يشتغل عنه بالنّفل‏,‏ وإن غلب على ظنّه أنّه إذا قال الدعاء والتّعوذ أدرك تمام الفاتحة أستحبّ الإتيان بهما‏.‏

ولو ركع الإمام وهو في أثناء الفاتحة فثلاثة أوجهٍ‏:‏ أحدها‏:‏ يتم الفاتحة‏,‏ والثّاني‏:‏ يركع ويسقط عنه قراءتها لأنّ متابعة الإمام آكد‏,‏ ولهذا لو أدركه راكعاً سقط عنه فرض القراءة‏,‏ قال البندنيجي‏:‏ وهو المذهب‏,‏ والثّالث‏:‏ هو الأصح وهو قول أبي زيد المروزيّ وصحّحه القفّال‏:‏ أنّه إن لم يقل شيئاً من دعاء الاستفتاح والتّعوذ ركع وسقط عنه بقيّة الفاتحة‏,‏ وإن قال شيئاً من ذلك لزمه أن يقرأ من الفاتحة بقدره لتقصيره بالتّشاغل‏.‏

وقال‏:‏ ولو سلّم الإمام فمكث المسبوق بعد سلامه جالساً وطال جلوسه‏,‏ إن كان في موضع تشهده الأوّل جاز ولا تبطل صلاته‏,‏ لأنّه جلوس محسوب من صلاته‏,‏ ولأنّ التّشهد الأوّل يجوز تطويله لكنّه يكره‏,‏ وإن لم يكن موضع تشهده لم يجز أن يجلس بعد تسليمه‏,‏ لأنّ جلوسه كان للمتابعة وقد زالت‏,‏ فإن جلس متعمّداً بطلت صلاته‏,‏ وإن كان ساهياً لم تبطل ويسجد للسّهو‏.‏

ولو كان المأموم مسبوقاً بركعة أو شاكاً في ترك ركن كالفاتحة‏,‏ فقام الإمام إلى الخامسة لم يجز للمأموم متابعته فيها‏.‏

وقت قيام المسبوق لقضاء ما فاته

5 - قال الحنفيّة‏:‏ لا يقوم المسبوق إلى القضاء بعد التّسليمتين أو التّسليمة‏,‏ بل ينتظر فراغ الإمام‏,‏ ويمكث حتّى يقوم الإمام إلى تطوّعه إن كان صلاة بعدها تطوع‏,‏ أو يستدبر المحراب إن كان لا تطوع بعدها‏,‏ أو ينتقل عن موضعه‏,‏ أو يمضي من الوقت مقدار ما لو كان عليه سهوٌ لسجد‏.‏

ولا يقوم المسبوق قبل سلام الإمام بعد قدر التّشهد إلّا في مواضع‏:‏ إذا خاف المسبوق الماسح زوال مدّته‏,‏ أو خاف صاحب العذر خروج الوقت‏,‏ أو خاف المسبوق في صلاة الجمعة دخول وقت العصر‏,‏ أو دخول الظهر في العيدين‏,‏ أو في الفجر طلوع الشّمس‏,‏ أو خاف أن يسبقه الحدث‏,‏ فله أن لا ينتظر فراغ الإمام ولا سجود السّهو‏,‏ وكذلك إذا خاف المسبوق أن يمرّ النّاس بين يديه لو انتظر الإمام قام إلى قضاء ما سبق قبل فراغه‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ يقوم المسبوق لقضاء ما فاته بعد سلام إمامه‏,‏ فإن قام له قبل سلام الإمام بطلت صلاته‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ يستحب للمسبوق أن لا يقوم ليأتي بما بقي عليه إلّا بعد فراغ الإمام من التّسليمتين‏,‏ فإن قام بعد فراغه من قوله‏:‏ السّلام عليكم في الأولى جاز‏,‏ لأنّه خرج بالأولى‏,‏ فإن قام قبل شروع الإمام في التّسليمتين بطلت صلاته‏,‏ ولو قام بعد شروعه في السّلام قبل أن يفرغ من قوله‏:‏ عليكم فهو كما لو قام قبل شروعه‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ يقوم المسبوق لقضاء ما فاته بعد سلام إمامه من الثّانية‏,‏ فإن قام قبل سلام إمامه ولم يرجع ليقوم بعد سلامها انقلبت صلاته نفلاً‏.‏

تدارك المسبوق الرّكعة

6 - اتّفق الفقهاء على أنّ المسبوق إذا أدرك الإمام في الركوع فقد أدرك الرّكعة‏,‏ لقوله صلّى اللّه عليه وسلّم‏:‏ « من أدرك الركوع فقد أدرك الرّكعة »‏.‏

وقال الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة‏:‏ وهذا إذا أدرك المسبوق إمامه في جزء من الركوع ولو دون الطمأنينة‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ هذا إذا أدرك الإمام في طمأنينة الركوع‏,‏ أو انتهى إلى قدر الإجزاء من الركوع قبل أن يزول الإمام عن قدر الإجزاء‏,‏ فهذا يعتد له بالرّكعة ويكون مدركاً لها‏,‏ فإذا أدرك المسبوق الإمام بعد فوات الحدّ المجزئ من الركوع فإنّه لا يكون مدركاً للرّكعة‏,‏ لكن يجب عليه متابعة الإمام فيما أدرك وإن لم يحسب له‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ إذا قام الإمام إلى خامسة جاهلاً‏,‏ فاقتدى به مسبوق عالماً بأنّها خامسة‏,‏ فالصّحيح المشهور الّذي قطع به الأصحاب في معظم الطرق‏:‏ أنّه لا تنعقد صلاته‏,‏ لأنّه دخل في ركعة يعلم أنّها لغوٌ‏.‏

7 - وذهب جمهور الفقهاء ‏"‏ الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ‏"‏ إلى أنّ ما أدرك المسبوق من الصّلاة مع الإمام فهو آخر صلاته‏,‏ وما يقضيه أوّلها‏.‏

وصرّح الحنفيّة‏:‏ أنّ ما يقضيه المسبوق أوّل صلاته حكماً لا حقيقةً‏,‏ بمعنى أنّه أوّلها في حقّ القراءة وآخرها في حقّ التّشهد‏.‏

وفي الفتاوى الهنديّة‏:‏ المسبوق يقضي أوّل صلاته في حقّ القراءة وآخرها في التّشهد‏,‏ حتّى لو أدرك ركعةً من المغرب قضى ركعتين‏,‏ ويفصل بقعدة فيكون بثلاث قعدات‏,‏ وقرأ في كل فاتحةً وسورةً‏,‏ ولو ترك القراءة في إحداهما تفسد صلاته‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ إذا قام المسبوق لقضاء ما فاته قضى القول والمراد به خصوص القراءة وصفتها من سر أو جهر‏,‏ بأن يجعل ما فاته قبل دخوله مع الإمام بالنّسبة إليه أوّل صلاته وما أدركه معه آخرها‏,‏ وبنى الفعل‏,‏ والمراد بالفعل ما عدا القراءة بصفتها فيشمل التّسميع والتّحميد والقنوت‏,‏ بأن يجعل ما أدركه معه أوّل صلاته بالنّسبة للأفعال‏,‏ وما فاته آخرها‏,‏ فيكون فيه كالمصلّي وحده‏,‏ وإذا كان كذلك فمدرك ثانية الصبح مع الإمام يقنت في ركعة القضاء‏,‏ لأنّها آخرته بالنّسبة للفعل الّذي منه القنوت‏,‏ ويجمع بين التّسميع والتّحميد‏,‏ لأنّها آخرته وهو فيها كالمصلّي وحده‏.‏

فمن أدرك أخيرة المغرب قام بلا تكبير لأنّه لم يجلس في ثانيته‏,‏ ويأتي بركعة بأمّ القرآن وسورة جهراً لأنّه قاضي القول‏,‏ أي يجعل ما فاته أوّل صلاته وأوّلها بالفاتحة والسورة جهراً‏,‏ ويجلس للتّشهد‏,‏ لأنّه باني الفعل أي جعل ما أدركه معه أوّل صلاته وهذه الّتي أتى بها هي الثّانية‏,‏ والثّانية يجلس بعدها‏,‏ ثمّ بركعة بأمّ القرآن وسورة جهراً لأنّها الثّانية بالنّسبة للقول - أي القراءة - ويجمع بين سمع اللّه لمن حمده وربّنا ولك الحمد لأنّه بَانٍ كالمصلّي وحده في الأفعال‏.‏

ومن أدرك أخيرة العشاء أتى بعد سلام الإمام بركعة بأمّ القرآن وسورة جهراً لأنّها أوّل صلاته بالنّسبة للقول‏,‏ فيقضي كما فات ويجلس للتّشهد لأنّها ثانيته بالنّسبة للأفعال‏,‏ ثمّ بركعة بأمّ القرآن وسورة جهراً لأنّها ثانيته بالنّسبة للأقوال‏,‏ ولا يجلس بعدها لأنّها ثانيته بالنّسبة للأقوال‏,‏ ولا يجلس بعدها لأنّها ثالثته بالنّسبة للأفعال‏,‏ ثمّ بركعة بالفاتحة فقط سراً لأنّها آخر صلاته‏,‏ومن أدرك الأخيرتين منها أتى بركعتين بأمّ القرآن وسورة جهراً لما تقدّم‏.‏ وقال الشّافعيّة‏:‏ ما أدركه المسبوق مع الإمام فهو أوّل صلاته‏,‏ وما يفعله بعد سلام إمامه آخرها‏,‏ لقوله صلّى اللّه عليه وسلّم‏:‏ « فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا »‏,‏ وإتمام الشّيء لا يكون إلّا بعد أوّله‏,‏ وعلى هذا إذا صلّى مع الإمام الرّكعة الثّانية من الصبح وقنت مع الإمام‏,‏ فإنّه يعيد القنوت‏,‏ ولو أدرك ركعةً من المغرب مع الإمام تشهّد في ثانيته ندباً‏,‏ لأنّها محل تشهده الأوّل‏,‏ وتشهده مع الإمام للمتابعة‏,‏ وذلك حجّة على أنّ ما يدركه أوّل صلاته‏.‏

سجود المسبوق للسّهو

8 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ المسبوق يسجد مع إمامه مطلقاً‏,‏ سواء كان السّهو قبل الاقتداء أو بعده ثمّ يقضي ما فاته ولو سها فيه سجد ثانياً‏.‏

ولو قام المسبوق إلى قضاء ما سبق به‏,‏ وعلى الإمام سجدتا سهوٍ قبل أن يدخل معه فقالوا‏:‏ إنّ المسبوق عليه أن يعود فيسجد مع الإمام ما لم يقيّد الرّكعة بسجدة‏,‏ فإن لم يعد حتّى سجد يمضي‏,‏ وعليه أن يسجد في آخر صلاته‏,‏ بخلاف المنفرد لا يلزمه السجود لسهو غيره‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ بطلت الصّلاة بسجود المسبوق عمداً مع الإمام سجوداً بعدياً مطلقاً أو قبلياً إن لم يلحق معه ركعة بسجدتيها‏,‏ وإلّا بأن لحق ركعةً سجد القبليّ معه قبل قضاء ما عليه إن سجده الإمام قبل السّلام‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ إذا سها المأموم خلف الإمام لم يسجد‏,‏ ويتحمّل الإمام سهوه ولو سها بعد سلام الإمام‏,‏ لم يتحمّل لانقطاع القدوة‏,‏ وكذا المنفرد إذا سها في صلاته‏,‏ ثمّ دخل في جماعة‏,‏ وجوَّزنا ذلك‏,‏ فلا يتحمّل الإمام سهوه ذلك‏.‏

أمّا إذا ظنّ المأموم أنّ الإمام سلّم‏,‏ فسلّم‏,‏ ثمّ بان أنّه لم يسلّم‏,‏ فسلّم معه‏,‏ فلا سجود عليه‏,‏ لأنّه سها في حال القدرة‏.‏

ولو تيقّن في التّشهد‏,‏ أنّه ترك الركوع أو الفاتحة من ركعة ناسياً‏,‏ فإذا سلّم الإمام‏,‏ لزمه أن يأتي بركعة أخرى‏,‏ ولا يسجد للسّهو‏,‏ لأنّه سها في حال الاقتداء‏.‏

ولو سلّم الإمام‏,‏ فسلّم المسبوق سهوًا‏,‏ ثمّ تذكّر‏,‏ بنى على صلاته‏,‏ وسجد‏,‏ لأنّ سهوه بعد انقطاع القدوة‏.‏

ولو ظنّ المسبوق أنّ الإمام سلّم‏,‏ بأن سمع صوتاً ظنّه سلامه‏,‏ فقام ليتدارك ما عليه‏,‏ وكان ما عليه ركعة مثلاً‏,‏ فأتى بها وجلس‏,‏ ثمّ علم أنّ الإمام لم يسلّم بعد تبين أنّ ظنّه كان خطأً‏,‏ فهذه الرّكعة غير معتد بها‏,‏ لأنّها مفعولة في غير موضعها‏,‏ فإنّ وقت التّدارك بعد انقطاع القدوة‏,‏ فإذا سلّم الإمام‏,‏ قام إلى التّدارك‏,‏ ولا يسجد للسّهو‏,‏ لبقاء حكم القدوة‏.‏ ولو كانت المسألة بحالها‏,‏ فسلّم الإمام وهو قائم‏,‏ فهل يجوز له أن يمضي في صلاته أم يجب عليه أن يعود إلى القعود‏,‏ ثمّ يقوم‏؟‏ وجهان‏:‏ أصحهما‏:‏ الثّاني‏.‏

فإن جوّزنا المضيّ‏,‏ فلا بدّ من إعادة القراءة‏,‏ فلو سلّم الإمام في قيامه‏,‏ لكنّه لم يعلم به حتّى أتمّ الرّكعة - إن جوّزنا المضيّ - فركعته محسوبة‏,‏ ولا يسجد للسّهو‏,‏ وإن قلنا‏:‏ عليه القعود‏,‏ لم يحسب‏,‏ ويسجد للسّهو للزّيادة بعد سلام الإمام‏.‏

ولو كانت المسألة بحالها‏,‏ وعلم في القيام أنّ الإمام لم يسلّم بعد‏,‏ فقال إمام الحرمين‏:‏ إن رجع فهو الوجه‏,‏ وإن أراد أن يتمادى وينوي الانفراد قبل سلام الإمام‏,‏ ففيه الخلاف في قطع القدوة‏,‏ فإن منعناه تعيّن الرجوع‏,‏ وإن جوّزناه فوجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ يجب الرجوع‏,‏ لأنّ نهوضه غير معتد به‏,‏ فيرجع‏,‏ ثمّ يقطع القدوة إن شاء‏,‏ والثّاني‏:‏ لا يجب الرجوع‏,‏ لأنّ النهوض ليس مقصوداً لعينه‏,‏ وإنّما المقصود القيام فما بعده‏,‏ هذا كلام الإمام‏,‏ فلو لم يرد قطع القدوة فمقتضى كلام الإمام‏:‏ وجوب الرجوع‏.‏

وقال الغزالي‏:‏ هو مخيّر‏,‏ إن شاء رجع‏,‏ وإن شاء انتظر قائماً سلام الإمام‏,‏ وجواز الانتظار قائمة مشكل‏,‏ للمخالفة الظّاهرة‏,‏ فإن كان قرأ قبل تبين الحال‏,‏ لم يعتدّ بقراءته في جميع هذه الأحوال‏,‏ بل عليه استئنافها‏.‏

قال النّووي‏:‏ الصّحيح‏:‏ وجوب الرجوع في الحالتين‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ لو كان المأموم مسبوقاً وسها الإمام فيما لم يدركه المسبوق فيه‏,‏ بأن كان الإمام سها في الأولى وأدركه في الثّانية مثلاً‏,‏ فيسجد معه متابعةً له‏,‏ لأنّ صلاته نقصت حيث دخل مع الإمام في صلاة ناقصة وكذا لو أدركه فيما لا يعتدّ له به‏,‏ لأنّه لا يمنع وجوب المتابعة في السجود‏,‏ كما لم يمنعه في بقيّة الرّكعة‏.‏

وقالوا‏:‏ لو قام المسبوق بعد سلام إمامه ظاناً عدم سهو إمامه‏,‏ فسجد إمامه رجع المسبوق فسجد معه لأنّه من تمام صلاة الإمام‏,‏ أشبه السجود قبل السّلام‏,‏ فيرجع وجوباً قبل أن يستتمّ‏,‏ فإن استتمّ فالأولى أن لا يرجع كمن قام عن التّشهد الأوّل‏,‏ ولا يرجع إن شرع في القراءة‏,‏ لأنّه تلبّس بركن مقصود فلا يرجع إلى واجب‏.‏

وإن أدرك المسبوق إمامه في آخر سجدتي السّهو سجد المسبوق مع الإمام‏,‏ فإن سلّم الإمام أتى المسبوق بالسّجدة الثّانية ليوالي بين السّجدتين ثمّ قضى صلاته‏,‏ وإن أدرك المسبوق إمامه بعد سجدتي السّهو وقبل السّلام لم يسجد المسبوق لسهو إمامه‏,‏ لأنّه لم يدرك معه بعضاً منه فيقضي الغائب‏,‏ وبعد السّلام لا يدخل معه‏,‏ لأنّه خرج من الصّلاة‏.‏

كيفيّة جلوس المسبوق

9 - قال الشّافعيّة‏:‏ إذا جلس المسبوق مع الإمام في آخر صلاة الإمام ففيه أقوال‏:‏

القول الأوّل‏:‏ وهو الصّحيح المنصوص في الأمّ‏,‏ وبه قال أبو حامد والبندنيجيّ والقاضي أبو الطّيّب والغزالي‏:‏ يجلس المسبوق مُفْتَرِشاً‏,‏ لأنّه ليس بآخر صلاته‏.‏

والثّاني‏:‏ المسبوق يجلس مُتورِّكاً متابعةً للإمام‏,‏ حكاه إمام الحرمين والرّافعي‏.‏

والثّالث‏:‏ إنّ كان جلوسه في محلّ التّشهد الأوّل للمسبوق افترش‏,‏ وإلّا تورّك‏,‏ لأنّ جلوسه حينئذ لمجرّد المتابعة فيتابع في الهيئة‏,‏ حكاه الرّافعي‏.‏

وإذا جلس مَنْ عليه سجود سهوٍ في آخره‏,‏ فوجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ يجلس متورّكاً لأنّه آخر صلاته‏,‏ والثّاني‏:‏ وهو الصّحيح يفترش وبه قطع صاحب العدّة ونقله إمام الحرمين عن أكثر الأئمّة‏,‏ لأنّه مستوفز ليتمّ صلاته‏,‏ فعلى هذا إذا سجد سجدتي السّهو تورّك ثمّ يسلّم‏.‏