فصل: مَشَقَّة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


مَشَقَّة

التّعريف

1 - المشقّة في اللغة‏:‏ بمعنى الجهد والعناء والشّدّة والثّقل‏,‏ يقال‏:‏ شقّ عليه الشّيء يشقّ شقاً ومشقّةً إذا أتعبه‏,‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ لَمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ ‏}‏ معناه‏:‏ إلّا بجهد الأنفس‏,‏ والشّقّ‏:‏ المشقّة‏,‏ وقال في المصباح المنير‏:‏ وشقّ الأمر علينا يشقّ من باب قتل أيضاً فهو شاق‏,‏ وشقّ عليّ الأمر يشقّ شقاً ومشقّةً أي ثقل عليّ والمشقّة اسم منه‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الحَرَج‏:‏

2 - الحرج في اللغة‏:‏ بمعنى الضّيق‏,‏ وحرج صدره حرجاً من باب تعب‏:‏ ضاق‏.‏

وفي الاصطلاح‏:‏ الحرج ما فيه مشقّة فوق المعتاد‏.‏

والصّلة بين المشقّة والحرج هي‏:‏ أنّ الحرج أخص من المشقّة‏.‏

ب - الرخصة‏:‏

3 - الرخصة في اللغة‏:‏ اليسر والسهولة يقال‏:‏ رخص السّعر إذا تراجع وسَهل الشّراء‏.‏ واصطلاحاً‏:‏ عبارة عمّا وسِّع للمكلّف في فعله لعذر وعجز عنه مع قيام السّبب المحرّم‏:‏ كتناول الميتة عند الاضطرار‏,‏ وجواز الفطر في رمضان للمسافر‏.‏

والصّلة بين المشقّة والرخصة‏:‏ هي أنّ المشقّة سبب للرخصة‏.‏

ج - الضّرورة‏:‏

4 - الضّرورة اسم من الاضطرار‏.‏

وفي الشّرع‏:‏ بلوغ الإنسان حداً إن لم يتناول الممنوع هلك أو قارب‏.‏

والصّلة هي أنّ المشقّة أعم من الضّرورة‏.‏

د - الحاجة‏:‏

5 - الحاجة تطلق على الافتقار‏,‏ وعلى ما يفتقر إليه مع محبّته‏.‏

واصطلاحاً‏:‏ ما يفتقر إليها من حيث التّوسعة ورفع الضّيق المؤدّي في الغالب إلى الحرج والمشقّة اللّاحقة بفوت المطلوب‏.‏

والفرق بين المشقّة والحاجة أنّ الحاجة وإن كانت حالة جهد فهي دون المشقّة ومرتبتها أدنى منها‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالمشقّة

أوّلاً‏:‏ أوجه المشقّة

6 - يترتّب على المشقّة أحكام شرعيّة ورخصٌ متعدّدة‏,‏ تعتمد على نوع المشقّة ودرجتها‏.‏ ولا تخلو جميع التّكاليف في الشّريعة الإسلاميّة من جنس المشقّة أصلاً‏,‏ بل إنّ التّكليف ما سمّي بهذا إلّا لأنّه طلب ما فيه كلفة ومشقّة‏,‏ فلا يخلو شيء من التّكاليف من المشقّة وبيان ذلك في أنّ أوجه المشقّة أربعة‏.‏

الوجه الأوّل‏:‏ مشقّة ما لا يطاق‏:‏

7 - وهي المشقّة الّتي لا يقدر العبد على حملها أصلاً‏,‏ فهذا النّوع لم يرد التّكليف به في الشّرع أصلاً‏,‏ إذ لا قدرة للمكلّف عليه في العادة فلا يقع التّكليف به شرعاً‏,‏ وإن جاز عقلاً‏,‏ فتكليف ما لا يطاق يسمّى مشقّةً من حيث كان تكلف الإنسان نفسه بحمله موقعاً في عناء وتعب لا يجدي‏,‏ كالمقعد إذا تكلّف القيام‏,‏ والإنسان إذا تكلّف الطّيران في الهواء‏,‏ وما أشبه ذلك فحين اجتمع مع المقدور عليه الشّاقّ الحمل إذا تحمّل في نفس المشقّة سمّي العمل شاقاً والتّعب في تكلف حمله مشقّة‏.‏

الوجه الثّاني‏:‏ المشقّة الّتي تطاق لكن فيها شدّة‏:‏

8 - المشقّة الّتي تطاق ويمكن احتمالها‏,‏ لكن فيها شدّة‏,‏ وهذا الوجه يكون خاصّاً بالمقدور عليه إلّا أنّه خارج عن المعتاد في الأعمال العادية‏,‏ بحيث يشوّش على النّفوس في تصرفها ويقلقها في القيام بما فيه تلك المشقّة‏.‏

إلّا أنّ هذا الوجه على ضربين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن تكون المشقّة مختصّةً بأعيان الأفعال المكلّف بها‏,‏ بحيث لو وقعت مرّةً واحدةً لوجدت فيها‏,‏ وهذا هو الموضع الّذي وضعت له الرخص المشهورة في اصطلاح الفقهاء‏,‏ كالصّوم في المرض والسّفر‏,‏ والإتمام في السّفر وما أشبه ذلك‏.‏

والثّاني‏:‏ أن لا تكون مختصّةً ولكن إذا نظر إلى كلّيّات الأعمال والدّوام عليها صارت شاقّةً ولحقت المشقّة العامل بها‏,‏ ويوجد هذا في النّوافل وحدها إذا تحمّل الإنسان منها فوق ما يحتمله على وجهٍ ما إلّا أنّه في الدّوام يتعبه‏.‏

ولذلك فإنّ الشّارع لم يقصد إلى التّكليف بالشّاقّ والإعنات فيه‏,‏ والدّليل على ذلك النصوص الدّالّة على ذلك كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ‏}‏‏,‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ‏}‏‏,‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا ‏}‏‏,‏ وجاء في الحديث عن عائشة رضي اللّه عنها أنّ النّبيّ - صلّى اللّه عليه وسلّم‏:‏ « ما خيّر بين أمرين إلّا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً » وإنّما قالت‏:‏ « ما لم يكن إثماً » لأنّ ترك الإثم لا مشقّة فيه من حيث كان مجرّد تركٍ إلى أشباه ذلك ممّا في هذا المعنى ولو كان قاصداً للمشقّة لما كان مريداً لليسر ولا للتّخفيف ولكان مريداً للحرج والعسر وذلك باطل‏.‏

كما يستدل على ذلك بما ثبت أيضاً من مشروعيّة الرخص‏,‏ وهو أمر مقطوع به وممّا علم منه دين الأمّة بالضّرورة‏:‏ كرخص السّفر‏,‏ والفطر‏,‏ والجمع‏,‏ وتناول المحرّمات في الاضطرار‏,‏ فإنّ هذا نمط يدل قطعاً على مطلق رفع الحرج والمشقّة‏,‏ وكذلك بما جاء في النّهي عن التّعمق والتّكلف والتّسبب في الانقطاع عن دوام الأعمال‏,‏ ولو كان الشّارع قاصداً للمشقّة في التّكليف لما كان ثمّ ترخيصٌ ولا تخفيف وهو يدل على عدم قصد الشّارع إليه‏,‏ فإنّه لا ينازع في أنّ الشّارع قاصد للتّكليف بما يلزم فيه كلفة ومشقّة ما‏,‏ ولكن لا تسمّى في العادة المستمرّة مشقّةً كما لا يسمّى في العادة مشقّةً طلب المعاش بالتّحرف وسائر الصّنائع‏,‏ لأنّه ممكن معتاد لا يقطع ما فيه من الكلفة عن العمل في الغالب المعتاد‏,‏ وإلى هذا المعنى يرجع الفرق بين المشقّة الّتي لا تعد مشقّةً عادةً‏,‏ والّتي تعد مشقّةً‏,‏ وهو أنّه إن كان العمل يؤدّي الدّوام عليه إلى الانقطاع عنه أو عن بعضه وإلى وقوع خلل في صاحبه في نفسه أو مال‏,‏ أو حال من أحواله فالمشقّة هنا خارجة عن المعتاد‏,‏ وإن لم يكن فيها شيء من ذلك في الغالب فلا يعد في العادة مشقّةً وإن سمّيت كلفةً‏.‏

فما تضمّن التّكليف الثّابت على العباد من المشقّة المعتادة أيضاً ليس بمقصود الطّلب للشّارع من جهة نفس المشقّة‏,‏ بل من جهة ما في ذلك من المصالح العائدة على المكلّف‏.‏

الوجه الثّالث‏:‏ الزّيادة في الفعل على ما جرت به العادة‏:‏

9 - وهو إذا كان الفعل خاصّاً بالمقدور عليه‏,‏ وليس فيه من التّأثير في تعب النّفس خروج عن المعتاد في الأعمال العاديّة‏,‏ ولكن نفس التّكليف به زيادة على ما جرت به العادات قبل التّكليف شاقٌ على النّفس‏,‏ ولذلك أطلق عليه لفظ التّكليف‏,‏ وهو في اللغة يقتضي معنى المشقّة لأنّ العرب تقول‏:‏ كلّفته تكليفاً إذا حمّلته أمراً يشقّ عليه وأمرته به‏,‏ وتكلّفت الشّيء‏:‏ إذا تحمّلته على مشقّة‏,‏ وحملت الشّيء تكلّفته‏:‏ إذا لم تطقه إلّا تكلفاً‏,‏ فمثل هذا يسمّى مشقّةً بهذا الاعتبار‏,‏ لأنّه إلقاء بالمقاليد ودخول أعمال زائدة على ما اقتضته حياة الدنيا‏.‏

الوجه الرّابع‏:‏ أن يكون ملزماً بما قبله‏:‏

10 - وهو أن يكون التّكليف خاصّاً بما يلزم ما قبله‏,‏ فإنّ التّكليف إخراج المكلّف عن هوى نفسه‏,‏ ومخالفة الهوى شاقّة على صاحب الهوى مطلقاً‏,‏ ويلحق الإنسان بسببها تعب وعناء‏,‏ وذلك معلوم في العادات الجارية في الخلق‏,‏ وذلك أنّ مخالفة ما تهوى الأنفس شاق عليها‏,‏ والشّارع إنّما قصد بوضع شريعة إخراج المكلّف عن اتّباع هواه حتّى يكون عبداً للّه‏,‏ فإذاً مخالفة الهوى ليست من المشقّات المعتبرة في التّكليف‏.‏

ثانياً‏:‏ القواعد الفقهيّة المنظّمة لأحكام المشقّة

11 - وضع الفقهاء مجموعةً من القواعد الفقهيّة لضبط أحكام المشقّة‏,‏ ومن هذه القواعد ‏"‏ المشقّة تجلب التّيسير ‏"‏ يعني أنّ الصعوبة تصير سبباً للتّسهيل‏,‏ ويلزم التّوسيع في وقت المضايقة‏.‏

ويتفرّع على هذا الأصل كثير من الأحكام الفقهيّة كالقرض والحوالة والحجر وغير ذلك‏,‏ وما جوّزه الفقهاء من الرخص والتّخفيفات في الأحكام الشّرعيّة مستنبط من هذه القاعدة‏:‏ وتعتبر المشقّة سبباً هاماً من أسباب الرخص‏,‏ وهي تختلف بالقوّة والضّعف‏,‏ بحسب الأحوال‏,‏ وبحسب قوّة العزائم وضعفها‏,‏ وبحسب الأعمال‏,‏ فليس للمشقّة المعتبرة في التّخفيفات ضابط مخصوصٌ‏,‏ ولا حد محدود يطّرد في جميع النّاس‏,‏ ولذلك أقام الشّرع السّبب مقام العلّة واعتبر السّفر لأنّه أقرب مظَانّ وجود المشقّة‏.‏‏.‏ وليست أسباب الرخص بداخلة تحت قانون أصليٍّ‏,‏ ولا ضابطٍ مأخوذ باليد‏,‏ بل هي إضافيّة بالنّسبة إلى كلّ مخاطب في نفسه‏.‏

والأصل في هذه القاعدة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ‏}‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ‏}‏ ‏,‏ وقوله صلّى اللّه عليه وسلّم‏:‏

« بعثت بالحنيفيّة السّمحاء »‏,‏ وفي لفظ آخر‏:‏ « أحب الأديان إلى اللّه الحنيفيّة السّمحة »‏.‏ وروى أبو هريرة رضي اللّه عنه وغيره قوله صلّى اللّه عليه وسلّم‏:‏ « إنّما بعثتم ميسّرين ولم تبعثوا معسّرين »‏.‏

وقالت عائشة رضي اللّه عنها‏:‏ « ما خيّر رسول اللّه بين أمرين إلّا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً »‏.‏

ويتخرّج على هذه القاعدة جميع رخص الشّرع وتخفيفاته‏.‏

هذا وقد خرج عن هذه القاعدة ما نصّ عليه وإن كان فيه مشقّة وعمّت به البلوى‏,‏ قال ابن نجيم‏:‏ المشقّة والحرج إنّما يعتبران في موضع لا نصّ فيه وأمّا مع النّصّ بخلافه فلا‏.‏ وبمعنى قاعدة‏:‏ المشقّة تجلب التّيسير قول الشّافعيّ رحمه اللّه‏:‏ ‏"‏ إذا ضاق الأمر اتّسع ‏"‏ ومعناها‏:‏ إذا ظهرت مشقّة في أمر يرخّص فيه ويوسّع‏,‏ فعكس هذه القاعدة ‏"‏ إذا اتّسع الأمر ضاق ‏"‏‏,‏ ومن فروع هذه القاعدة شهادة النّساء والصّبيان في الحمّامات والمواضع الّتي لا يحضرها الرّجال دفعاً لحرج ضياع الحقوق‏.‏

ومنها قبول شهادة القابلة

المشاقّ الموجبة للتّخفيفات الشّرعيّة

قال العز بن عبد السّلام‏:‏ المشاقّ ضربان‏:‏

12 - أحدهما‏:‏ مشقّة لا تنفك العبادة عنها كمشقّة الوضوء والغسل في شدّة البرد‏,‏ وكمشقّة إقامة الصّلاة في الحرّ والبرد ولا سيّما في صلاة الفجر‏,‏ وكمشقّة الصّوم في شدّة الحرّ وطول النّهار‏,‏ وكمشقّة السّفر والحجّ والجهاد الّتي لا انفكاك عنها غالباً‏,‏ وكمشقّة الاجتهاد في طلب العلم والرّحلة فيه‏,‏ وكذلك المشقّة في رجم الزناة وإقامة الحدود على الجناة ولا سيّما في حقّ الآباء والأمّهات والبنين والبنات‏,‏ فإنّ في ذلك مشقّةً عظيمةً على مقيم هذه العقوبات بما يجده من الرّقّة والمرحمة بها للسرّاق والزناة والجناة من الأجانب والأقارب البنين والبنات‏,‏ ولمثل هذا قال تعالى‏:‏ « ولا تأخذكم بهما رأفة في دين اللّه »‏,‏ وقال عليه الصّلاة والسّلام‏:‏ « لو أنّ فاطمة بنت محمّد سرقت لقطعت يدها » وهو صلّى اللّه عليه وسلّم أولى بتحمل هذه المشاقّ من غيره ‏;‏ لأنّ اللّه سبحانه وتعالى وصفه في كتابه العزيز بقوله‏:‏ ‏{‏ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ‏}‏ فهذه المشاقّ كلها لا أثر لها في إسقاط العبادات والطّاعات‏.‏

13 - الضّرب الثّاني‏:‏ مشقّة تنفك عنها العبادات غالباً وهي أنواع‏:‏

النّوع الأوّل‏:‏ مشقّة عظيمة فادحة كمشقّة الخوف على النّفوس والأطراف ومنافع الأطراف‏,‏ فهذه مشقّة موجبة للتّخفيف والتّرخيص لأنّ حفظ المهج والأطراف لإقامة مصالح الدّارين أولى من تعريضها للفوات في عبادة أو عبادات ثمّ تفوت أمثالها‏.‏

النّوع الثّاني‏:‏ مشقّة خفيفة كأدنى وجع في إصبع أو أدنى صداع أو سوء مزاج خفيف‏,‏ فهذا لا أثر له ولا التفات إليه لأنّ تحصيل مصالح العبادة أولى من دفع هذه المشقّة الّتي لا أثر لها‏.‏

النّوع الثّالث‏:‏ مشاقّ واقعة بين هاتين المشقّتين مختلفة في الخفّة والشّدّة فما دنا منها من المشقّة العليا أوجب التّخفيف‏,‏ وما دنا منها من المشقّة الدنيا لم يوجب التّخفيف‏.‏

كمريض في رمضان يخاف من الصّوم زيادة مرض أو بطءَ البرء‏,‏ فيجوز له الفطر‏,‏ وهكذا في المرض المبيح للتّيمم والحمّى الخفيفة ووجع الضروس اليسير وما وقع بين هاتين الرتبتين مختلف فيه‏,‏ منهم من يلحقه بالعليا ومنهم من يلحقه بالدنيا‏,‏ وتضبط مشقّة كلّ عبادة بأدنى المشاقّ المعتبرة في تخفيف تلك العبادة فإن كانت مثلها أو أزيد ثبتت الرخصة ولذلك أعتبر في مشقّة المرض المبيح للفطر في الصّوم أن يكون كزيادة مشقّة الصّوم في السّفر عليه في الحضر‏.‏

وكذلك المشاقّ في الحجّ وفي إباحة محظورات الإحرام‏:‏ أن يحصل بتركها مثل مشقّة القمل الوارد فيه الرخصة‏,‏ وأمّا أصل الحجّ فلا يكتفى بتركه بذلك‏,‏ بل لا بدّ من مشقّة لا يحتمل مثلها كالخوف على النّفس والمال‏,‏ وعدم الزّاد والرّاحلة‏,‏ وفي إباحة ترك القيام إلى القعود‏:‏ أن يحصل به ما يشوّش الخشوع وإلى الاضطجاع أشقّ‏,‏ لأنّه مناف لتعظيم العبادات‏.‏ والمشاقّ في الحجّ ثلاثة أقسام‏:‏ منها ما يعظم فيمنع وجوب الحجّ‏,‏ ومنها ما يخف ولا يمنع الوجوب‏,‏ ومنها ما يتوسّط فيردّد فيه‏,‏ وما قرب منه إلى المشقّة العليا كان أولى بمنع الوجوب‏,‏ وما قرب منه إلى المشقّة الدنيا كان أولى بأن لا يمنع الوجوب‏.‏

وتختلف المشاقّ باختلاف العبادات في اهتمام الشّرع‏,‏ فما اشتدّ اهتمامه به شرط في تخفيفه المشاقّ الشّديدة أو العامّة‏,‏ وما لم يهتمّ به خفّفه بالمشاقّ الخفيفة‏,‏ وقد تخفّف مشاقّه مع شرفه وعلوّ مرتبته لتكرر مشاقّه‏,‏ كيلا يؤدّي إلى المشاقّ العامّة الكثيرة الوقوع‏.‏ مثاله‏:‏ ترخيص الشّرع في الصّلاة الّتي هي من أفضل الأعمال تقام مع الخبث الّذي يشقّ الاحتراز منه ومع الحدث في حقّ المتيمّم والمستحاضة‏,‏ ومن كان عذره كعذر المستحاضة‏.‏ أمّا الصّلاة فينتقل فيها القائم إلى القعود بالمرض الّذي يشوّش عليه الخشوع والأذكار‏,‏ ولا يشترط فيها الضّرورة ولا العجز عن تصوير القيام اتّفاقاً‏,‏ ويشترط في الانتقال من القعود إلى الاضطجاع عذراً أشقّ من عذر الانتقال من القيام إلى القعود‏,‏ لأنّ الاضطجاع مناف لتعظيم العبادات ولا سيّما والمصلّي مناج ربّه‏.‏

وأمّا الأعذار في ترك الجماعات والجمعات فخفيفة‏,‏ لأنّ الجماعات سنّة عند من يقول بذلك‏,‏ والجمعات بدل‏.‏

وأمّا الصّوم فالأعذار فيه خفيفة كالسّفر والمرض الّذي يشقّ الصّوم معه لمشقّة الصّوم على المسافر‏,‏ وهذان عذران خفيفان‏,‏ وما كان أشدّ منهما كالخوف على الأطراف والأرواح كان أولى بجواز الفطر‏.‏

وأمّا التّيمم‏:‏ فقد جوّزه الشّافعي رحمه اللّه تارةً بأعذار خفيفة‏,‏ ومنعه تارةً على قول بأعذار أثقل منها‏,‏ والأعذار عنده رتب متفاوتة في المشقّة‏.‏

الرتبة الأولى‏:‏ مشقّة فادحة كالخوف على النّفوس والأعضاء‏,‏ ومنافع الأعضاء فيباح بها التّيمم‏.‏

الرتبة الثّانية‏:‏ مشقّة دون هذه المشقّة في الرتبة كالخوف من حدوث المرض المخوف فهذا ملحق بالرتبة العليا على الأصحّ‏.‏

الرتبة الثّالثة‏:‏ خوف إبطاء البرء وشدّة الضّنى ففي إلحاقه بالرتبة الثّانية خلاف والأصح الإلحاق‏.‏

الرتبة الرّابعة‏:‏ خوف الشّين إن كان باطناً لم يكن عذراً‏,‏ وإن كان ظاهراً ففيه خلاف والمختار الإباحة‏,‏ وقد جوّز الشّافعي التّيمم بمشاقّ خفيفة دون هذه المشاقّ‏.‏

14 - ولا تختص المشاقّ بالعبادات بل تجري في المعاملات مثاله‏:‏ الغرر في البيوع وهو أيضاً ثلاثة أقسام‏:‏

أحدها‏:‏ ما يعسر اجتنابه كبيع الفستق والبندق والرمّان والبطّيخ في قشورها فيعفى عنه‏.‏ القسم الثّاني‏:‏ ما لا يعسر اجتنابه فلا يعفى عنه‏.‏

القسم الثّالث‏:‏ ما يقع بين الرتبتين وفيه اختلاف‏,‏ منهم من يلحقه بما عظمت مشقّته لارتفاعه عمّا خفّت مشقّته‏,‏ ومنهم من يلحقه بما خفّت مشقّته لانحطاطه عمّا عظمت مشقّته‏,‏ إلّا أنّه تارةً يعظم الغرر فيه فلا يعفى عنه على الأصحّ كبيع الجوز الأخضر في قشرته‏.‏ 15 - وإذا كانت المشاقّ تنقسم إلى ما هو في أعلى مراتب الشّدّة وإلى ما هو في أدناها‏,‏ وإلى ما يتوسّط بينهما‏,‏ فكيف تعرف المشاقّ المتوسّطة المبيحة الّتي لا ضابط لها‏,‏ مع أنّ الشّرع قد ربط التّخفيفات بالشّديد والأشدّ والشّاقّ والأشقّ‏,‏ مع أنّ معرفة الشّديد والشّاقّ متعذّرة لعدم الضّابط‏؟‏ وأجاب العز بن عبد السّلام بقوله‏:‏ لا وجه لضبط هذا وأمثاله إلّا بالتّقريب‏,‏ فإنّ ما لا يحد ضابطه لا يجوز تعطيله ويجب تقريبه‏,‏ فالأولى في ضابط مشاقّ العبادات أن تضبط مشقّة كلّ عبادة بأدنى المشاقّ المعتبرة في تلك العبادة‏,‏ فإن كانت مثلها أو أزيد ثبتت الرخصة بها‏,‏ ولن يعلم التّماثل إلّا بالزّيادة‏,‏ إذ ليس في قدرة البشر الوقوف على تساوي المشاقّ‏,‏ فإذا زادت إحدى المشقّتين على الأخرى علما أنّهما قد استوتا‏,‏ فما اشتملت عليه المشقّة الدنيا منهما كان ثبوت التّخفيف والتّرخيص بسبب الزّيادة‏,‏ وأمثال ذلك أنّ التّأذّي بالقمل مبيح للحلق في حقّ النّاسك فينبغي أن يعتبر تأذّيه بالأمراض بمثل مشقّة القمل‏.‏

كذلك سائر المشاقّ المبيحة للبس والطّيب والدهن وغير ذلك من المحظورات‏,‏ وكذلك ينبغي أن تقرّب المشاقّ المبيحة للتّيمم بأدنى مشقّة أبيح بمثلها التّيمم‏,‏ وفي هذا إشكال‏,‏ فإنّ مشقّة الزّيادة اليسيرة على ثمن المثل ومشقّة الانقطاع من سفر النزهة خفيفة لا ينبغي أن يعتبر بها الأمراض‏,‏ وأمّا المبيح للفطر فينبغي أن تقرّب مشقّته بمشقّة الصّيام في الحضر‏,‏ فإذا شقّ الصّوم مشقّةً تربي على مشقّة الصّوم في الحضر فليجز الإفطار بذلك‏.‏

ولهذا نظائر كثيرة‏:‏ منها مقادير الإغرار في المعاملات‏,‏ ومنها توقان الجائع إلى الطّعام وقد حضرت الصّلاة‏,‏ ومنها التّأذّي بالرّياح الباردة في اللّيلة المظلمة‏,‏ كذلك التّأذّي بالمشي في الوحل‏.‏

ضابط المشقّة

16 - يشترط أن تكون المشقّة عامّةً‏,‏ ووقوعها كثيراً‏,‏ فلو كان وقوعها نادراً لم تراع المشقّة‏,‏ والمشقّة يختلف ضابطها باختلاف أعذارها‏,‏ كما في التّيمم‏,‏ إذ يعدل عن الماء إذا خيف إتلاف عضوٍ أو بطء البرء أو شين فاحشٌ‏.‏

قال العز بن عبد السّلام‏:‏ إن قيل ما ضابط الفعل الشّاقّ الّذي يؤجر عليه أكثر ممّا يؤجر على الخفيف‏؟‏ قلت‏:‏ إذا اتّحد الفعلان في الشّرف والشّرائط والسنن والأركان - وكان أحدهما - شاقاً فقد استويا في أجرهما لتساويهما في جميع الوظائف وانفرد أحدهما بتحمل المشقّة لأجل اللّه سبحانه وتعالى‏,‏ فأثيب على تحمل المشقّة لا على عين المشاقّ‏,‏ إذ لا يصح التّقرب بالمشاقّ لأنّ القرب كلّها تعظيم للرّبّ سبحانه وتعالى وليس عين المشاقّ تعظيماً ولا توقيراً‏,‏ ويدل على ذلك أنّ من تحمّل مشقّةً في خدمة إنسان فإنّه يرى ذلك له لأجل كونه شقّ عليه‏,‏ وإنّما يراه له بسبب تحمل مشقّة الخدمة لأجله‏.‏‏.‏‏.‏ ويختلف أجر تحمل المشاقّ بشدّة المشاقّ وخفّتها‏.‏

وقال الشّاطبي‏:‏ كما أنّ المشقّة تكون دنيويّةً‏,‏ كذلك تكون أخرويّةً‏,‏ فإنّ الأعمال إذا كان الدخول فيها يؤدّي إلى تعطيل واجب أو فعل محرّم فهو أشد مشقّةً - باعتبار الشّرع - من المشقّة الدنيويّة الّتي هي غير مخلّة بدين‏,‏ واعتبار الدّين مقدّم على اعتبار النّفس والأعضاء وغيرها في نظر الشّارع‏,‏ فالمشقّة الدّينيّة مقدّمة في الاعتبار على الدنيويّة‏,‏ فإذا كان كذلك فليس للشّارع قصد في إدخال المشقّة من هذه الجهة‏.‏

فالمشقّة من حيث إنّها غير مقصودة للشّارع تكون غير مطلوبة ولا العمل المؤدّي إلى المشقّة الخارجة عن المعتاد مطلوباً‏,‏ فقد نشأ هنا نظر في تعارض مشقّتين‏,‏ فإنّ المكلّف إن لزم من اشتغاله بنفسه فساد ومشقّة لغيره فيلزم أيضاً من الاشتغال بغيره فساد ومشقّة في نفسه‏,‏ وإذا كان كذلك تصدّى النّظر في وجه اجتماع المصلحتين مع انتفاء المشقّتين إن أمكن ذلك‏,‏ وإن لم يمكن فلا بدّ من التّرجيح‏,‏ فإذا كانت المشقّة العامّة أعظم أعتبر جانبها وأهمل جانب الخاصّة‏.‏

ثمّ إنّ المشقّة في الأعمال المعتادة مختلفة باختلاف تلك الأعمال فليست المشقّة في صلاة ركعتي الفجر كالمشقّة في ركعتي الصبح‏,‏ ولا المشقّة في الصّلاة كالمشقّة في الصّيام ولا المشقّة في الصّيام كالمشقّة في الحجّ‏,‏ ولا المشقّة في ذلك كلّه كالمشقّة في الجهاد‏,‏ إلى غير ذلك من أعمال التّكليف ولكن كل عمل في نفسه له مشقّة معتادة فيه‏,‏ توازي مشقّة مثله من الأعمال العاديّة‏.‏

المواطن الّتي تظن فيها المشقّة والأحكام المنوطة بها

17 - شرع الإسلام أنواعاً من الرخص لظروف توجد للمكلّف نوعةً من المشقّة الّتي تثقل كاهله وقد ذكر العلماء أسباب التّخفيف في العبادات وغيرها الّتي بنيت على الأعذار وقد رخّص الشّارع لأصحابها بالتّخفيف عنهم في العبادات والمعاملات والحدود وغيرها‏,‏ فكل ما تعسّر أمره وشقّ على المكلّف وضعه خفّفته الشّريعة ومن أهمّ هذه الأعذار الّتي جعلت سبباً للتّخفيف عن العباد والمواطن الّتي تظن فيها المشقّة هي‏:‏ السّفر - المرض - الحمل - الإرضاع - الشّيخوخة والهرم - الإكراه - النّسيان - الجهل - العسر وعموم البلوى - النّقص‏.‏

أ - السّفر‏:‏

18 - السّفر سبب للتّخفيف‏,‏ لما فيه من مشقّة‏,‏ ولحاجة المسافر إلى التّقلب في حاجاته‏,‏ ويعتبر السّفر من أسباب المشقّة في الغالب فلذلك أعتبر نفس السّفر سبباً للرخص وأقيم مقام المشقّة‏.‏

وتفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏ سفر ف / 5 وما بعدها ‏)‏‏,‏ ومصطلحات‏:‏ ‏(‏ صلاة المسافر‏,‏ وصوم‏,‏ وتطوع‏,‏ وتيمم ‏)‏‏.‏

ب - المرض‏:‏

19 - قال القرطبي‏:‏ المريض هو الّذي خرج بدنه عن حدّ الاعتدال والاعتياد فيضعف عن القيام بالمطلوب‏.‏

وقد خصّت الشّريعة المريض بحظّ وافر من التّخفيف لأنّ المرض مظنّة للعجز فخفّف عنه الشّارع‏.‏

وللمريض رخصٌ كثيرة‏.‏

وتفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏ تيسير ف / 32 ‏)‏‏.‏

ج - الشّيخوخة والهرم‏:‏

20 - لقد خفّف الشّارع عن الشّيخ الهرم‏,‏ فخصّه بجواز إخراج الفدية بدلاً عن الصّيام الّذي عجز عن أدائه لما يلحقه من المشقّة‏,‏ ولا خلاف بين الفقهاء أنّه لا يلزمه الصّوم‏,‏ ونقل ابن المنذر الإجماع عليه وأنّ له أن يفطر إذا كان الصّوم يجهده ويشقّ عليه مشقّةً شديدةً‏.‏

د- جواز الفطر للحامل والمرضع في رمضان‏:‏

21 - اتّفق الفقهاء على أنّ الحامل والمرضع لهما أن تفطرا في رمضان بشرط أن تخافا على أنفسهما أو على ولدهما المرض أو زيادته أو الضّرر أو الهلاك والمشقّة‏.‏

ونصّ الحنابلة على كراهة صومهما كالمريض‏.‏

وصرّح المالكيّة بأنّ الحمل مرض حقيقةً‏,‏ والرّضاع في حكم المرض وليس مرضاً حقيقةً‏.‏

هـ - الإكراه‏:‏

22 - الإكراه هو حمل الغير على أمر لا يرضاه‏,‏ وذلك بتهديده بالقتل أو بقطع طرف أو نحوهما إن لم يفعل ما يطلب منه‏.‏

وقد عدّ الشّارع الإكراه بغير حقٍّ عذراً من الأعذار المخفّفة الّتي تسقط بها المؤاخذة في الدنيا والآخرة‏,‏ فتخفّف عن المكره ما ينتج عمّا أكره عليه من آثار دنيويّة أو أخرويّة بحدوده‏.‏ وتفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏ إكراهٌ ف / 6 و 12 ‏)‏‏.‏

ونصّ السيوطيّ على أنّ الفطر في رمضان مباح بالإكراه بل يجب على الصّحيح‏.‏

و - النّسيان‏:‏

23 - النّسيان هو جهل ضروري بما كان يعلمه‏,‏ لا بآفة مع علمه بأمور كثيرة‏.‏

وقد جعلته الشّريعة عذراً وسبباً مخفّفاً في حقوق اللّه تعالى من بعض الوجوه‏,‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ‏}‏ فاللّه سبحانه وتعالى رفع عنّا إثم الغفلة والنّسيان والخطأ غير المقصود‏,‏ ففي أحكام الآخرة يعذر النّاس ويرفع عنهم الإثم مطلقاً‏,‏ فالنّسيان كما نصّ عليه السيوطيّ‏:‏ مسقط للإثم مطلقاً وذلك تخفيف من اللّه سبحانه وتعالى‏,‏ ويقول الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم‏:‏ « تجاوز اللّه عن أمّتي الخطأ والنّسيان وما أستكرهوا عليه »‏.‏

أمّا النّسيان فيما يتعلّق بحقوق العباد فلا يعد عذراً مخفّفاً‏,‏ لأنّ حقّ اللّه مبناه على المسامحة‏,‏ وحقوق العباد مبناها على المشاحّة والمطالبة‏,‏ فلا يكون النّسيان عذراً فيها‏.‏ وللتّفصيل انظر مصطلح ‏(‏ نسيان ‏)‏‏.‏

ز - الجهل‏:‏

24 - الجهل هو‏:‏ عدم العلم بالأحكام الشّرعيّة أو بأسبابها‏.‏

ويعتبر الجهل عذراً مخفّفاً في أحكام الآخرة‏,‏ فلا إثم على من فعل المحرّم أو ترك الواجب جاهلاً‏,‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ‏}‏‏.‏

والتّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏ جهل ف / 5 ‏)‏‏.‏

ح - العسر وعموم البلوى‏:‏

25 - يدخل في العسر الأعذار الغالبة الّتي تكثر البلوى بها وتعم في النّاس دون ما كان منها نادراً‏.‏

والتّفصيل في مصطلح ‏(‏ تيسير ف / 38 ‏)‏‏.‏

ط - النّقص‏:‏

26 - النّقص نوع من المشقّة‏,‏ إذ النّفوس مجبولة على حبّ الكمال ويناسب النّقص التّخفيف في التّكليفات‏,‏ فمن ذلك عدم تكليف الصّبيّ والمجنون‏,‏ ففوّض أمر أحوالهما إلى الوليّ وتربيته‏,‏ وحضانته إلى النّساء رحمةً به ولم يجبرهنّ على الحضانة‏,‏ ومنه عدم تكليف النّساء بكثير ممّا وجب على الرّجال كالجماعة والجمعة والشّهادة والجزية وتحمل العقل وإباحة لبس الحرير وحليّ الذّهب‏,‏ وعدم تكليف العبيد بكثير ممّا وجب على الأحرار لكونه على النّصف من الحرّ في الحدود والعدد‏.‏

مُشْكِل

التّعريف

1 - المشكل لغةً‏:‏ المختلط والملتبس‏,‏ يقال‏:‏ أشكل الأمر‏:‏ التبس واختلط‏,‏ وكل مختلطٍ مشكل‏,‏ والإشكال‏:‏ الأمر الّذي يوجب التباساً في الفهم‏,‏ والشّكل‏:‏ المثل‏.‏

والمشكل عند الأصوليّين هو‏:‏ اسم لما يشتبه المراد منه بدخوله في أشكاله على وجهٍ لا يعرف المراد إلّا بدليل يتميّز به من بين سائر الأشكال‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - المتشابه‏:‏

2 - المتشابه لغةً‏:‏ مأخوذ من اشتبهت الأمور وتشابهت‏:‏ إذا التبست فلم تتميّز ولم تظهر‏.‏ وفي الاصطلاح قال الجرجاني‏:‏ المتشابه ما خفي بنفس اللّفظ ولا يرجى دركه أصلاً كالمقطّعات في أوائل السور‏.‏

والصّلة بينهما أنّ كلاً من المشكل والمتشابه يخفى معناه ابتداءً‏.‏

ب - المجمل‏:‏

3 - المجمل هو ما خفي المراد منه بحيث لا يدرك بنفس اللّفظ إلّا ببيان من المجمل‏,‏ سواء كان ذلك لتزاحم المعاني المتساوية‏,‏ أو لغرابة اللّفظ‏,‏ أو لانتقاله من معناه الظّاهر إلى ما هو غير معلوم‏.‏

والصّلة بين المشكل والمجمل أنّ في كل منهما نوع خفاء يحتاج إلى بيان‏.‏

الحكم الإجمالي

4 - حكم المشكل بمعناه الأصوليّ‏:‏ اعتقاد الحقّيّة فيما هو المراد ثمّ الإقبال على الطّلب والتّعامل فيه إلى أن يبيّن المراد فيعمل به‏.‏

والتّفصيل في الملحق الأصوليّ‏.‏

مَشْهُور

التّعريف

1 - المشهور في اللغة اسم مفعول لفعل شهر‏,‏ ومن معاني هذه المادّة‏:‏ الإبراز‏:‏ يقال شهرت الرّجل بين النّاس‏:‏ أبرزته حتّى صار مشهوراً‏,‏ ومن معانيه أيضاً الإفشاء‏,‏ يقال‏:‏ شهرت الحديث شهراً وشُهْرةً‏:‏ أفشيته‏.‏

وفي اصطلاح الأصوليّين‏:‏ المشهور من الحديث هو ما كان رواته بعد القرن الأوّل في كلّ عهد قوماً لا يحصى عددهم‏,‏ ولا يمكن تواطؤُهم على الكذب لكثرتهم وعدالتهم وتباين أماكنهم‏.‏

وفي اصطلاح المحدّثين‏:‏ هو ما لم يجمع شروط المتواتر وله طرق محصورة بأكثر من اثنين‏.‏

أمّا المشهور عند الفقهاء فللمالكيّة فيه قولان‏:‏

أشهرهما‏:‏ ما قوي دليله‏,‏ فالدّليل هو المراعى عند الإمام مالكٍ لا كثرة القائل‏.‏

وقيل‏:‏ إنّ المشهور هو ما كثر قائله ولا بدّ أن تزيد نقلته عليّ ثلاثة‏.‏

والمشهور عند الشّافعيّة ما كان من القولين أو الأقوال للشّافعيّ وهو المشعر بغرابة مقابله لضعف مدركه، قال الفيوميّ‏:‏ ومدارك الشّرع مواضع طلب الأحكام وهي حيث يستدل بالنصوص والاجتهاد‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - المتواتر

2 - التّواتر في اللغة التّتابع أو مع فترات‏,‏ والمتواتر هو اسم الفاعل‏.‏

وفي اصطلاح الأصوليّين هو‏:‏ خبر أقوام بلغوا في الكثرة إلى حيث حصل العلم بقولهم‏,‏ وله عندهم تعريفات أخرى‏.‏

والعلاقة بين المشهور والمتواتر عموم وخصوصٌ‏.‏

ب - خبر الآحاد‏:‏

3 - هو ما لم يجمع شروط التّواتر‏.‏

والعلاقة بين المشهور والآحاد أنّ خبر الآحاد أعم من المشهور‏.‏

ما يتعلّق بالمشهور من أحكام‏:‏

أوّلاً‏:‏ دلالة الحديث المشهور عند الأصوليّين

4 - قال صدر الشّريعة عبيد اللّه بن مسعود المحبوبيّ‏:‏ الحديث المشهور يوجب علم طمأنينة وهو علم تطمئن به النّفس وتظنه يقيناً‏.‏

وينظر تفصيل ذلك في الملحق الأصوليّ‏.‏

ثانياً‏:‏ القول المشهور عند الفقهاء

5 - قال القرافي‏:‏ إنّ الحاكم إذا كان مجتهداً فلا يجوز له أن يحكم ويفتي إلّا بالرّاجح عنده‏,‏ وإن كان مقلّداً جاز له أن يفتي بالمشهور في مذهبه وأن يحكم به وإن لم يكن راجحاً عنده مقلّداً في رجحان القول المحكوم به إمامه الّذي يقلّده‏,‏ كما يقلّده في الفتيا‏,‏ وأمّا اتّباع الهوى في الحكم أو الفتيا فحرام إجماعاً‏.‏

وقال النّووي‏:‏ ليس للمفتي ولا للعامل المنتسب إلى مذهب الشّافعيّ في مسألة القولين أنّ يعمل بما شاء منهما بغير نظر بل عليه في القولين العمل بآخرهما إن علمه وإلّا فبالّذي رجّحه الشّافعي‏,‏ فإن قالهما في حالة ولم يرجّح واحداً منهما ولم يعلم أقالهما في وقت أم في وقتين‏,‏ وجهلنا السّابق وجب البحث عن أرجحهما فيعمل به‏.‏

مَشُورة

انظر‏:‏ شورى‏.‏

مَشْي

التّعريف

1 - المشي لغةً السّير على القدم‏,‏ سريعاً كان أو غير سريع‏,‏ يقال‏:‏ مشى يمشي مشياً‏:‏ إذا كان على رجليه‏,‏ سريعاً كان أو بطيئاً‏,‏ فهو ماشٍ‏,‏ والجمع مشاة‏.‏

ولا يخرج استعمال الفقهاء عن المعنى اللغويّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - السّعي‏:‏

2 - من معاني السّعي في اللغة الإسراع في المشي‏.‏

والسّعي في الاصطلاح يطلق على معان منها‏:‏ قطع المسافة الكائنة بين الصّفا والمروة سبع مرّات ذهاباً وإياباً‏,‏ ومنها‏:‏ الإسراع في المشي‏.‏

قال الرّاغب الأصفهاني‏:‏ السّعي‏:‏ المشي السّريع وهو دون العدو‏.‏

والصّلة بينهما هي أنّ المشي أعم من السّعي‏.‏

ب - الرَّمَل‏:‏

3 - الرَّمَل - بفتح الميم - في اللغة الهرولة‏,‏ قال صاحب النّهاية‏:‏ رمل يرمل رملاً ورمَلاناً‏:‏ إذا أسرع في المشي وهزّ منكبيه‏.‏

ولا يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللّفظ عن معناه اللغويّ‏,‏ لكنّ النّوويّ قال‏:‏ الرّمل - بفتح الرّاء - هو إسراع المشي مع تقارب الخطى دون الوثوب والعدو‏.‏

والصّلة بينهما هي أنّ الرّمل أخص من المشي‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالمشي

تتعلّق بالمشي أحكام منها‏:‏

إمكانيّة متابعة المشي في الخفّ لجواز المسح عليه

4 - يشترط الفقهاء لجواز المسح على الخفّين شروطاً منها‏:‏ أن يكون الخف ممّا يمكن متابعة المشي فيه‏.‏

وللتّفصيل ‏(‏ ر‏:‏ مسح على الخفّين ‏)‏‏.‏

المشي في الصّلاة

5 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ المأموم إذا مشى في صلاته إلى جهة القبلة مشياً غير متداركٍ بأن مشى قدر صف‏,‏ ثمّ وقف قدر ركن‏,‏ ثمّ مشى قدر صف آخر‏,‏ وهكذا إلى أن مشى قدر صفوف كثيرة لا تفسد صلاته‏,‏ إلّا إن خرج من المسجد فيما إذا كانت الصّلاة فيه‏,‏ أو تجاوز الصفوف فيما إذا كانت الصّلاة في الصّحراء‏,‏ فإن مشى مشياً متلاحقاً بأن مشى قدر صفّين دفعةً واحدةً‏,‏ أو خرج من المسجد‏,‏ أو تجاوز الصفوف في الصّحراء فسدت صلاته‏,‏ وهذا بناءً على أنّ الفعل القليل غير مفسد ما لم يتكرّر متوالياً‏,‏ وعلى أنّ الاختلاف في المكان مبطل للصّلاة ما لم يكن لإصلاحها‏,‏ والمسجد مكان واحد حكماً‏,‏ وموضع الصفوف في الصّحراء كالمسجد‏,‏ هذا إذا كان قدّامه صفوف‏.‏

أمّا لو كان إماماً فمشى حتّى جاوز موضع سجوده فإن كان ذلك مقدار ما بينه وبين الصّفّ الّذي يليه لا تفسد‏,‏ وإن كان أكثر فسدت‏,‏ وإن كان منفرداً فالمعتبر موضع سجوده‏,‏ إن جاوزه فسدت وإلّا فلا‏.‏

وهذا التّفصيل كله إذا لم يكن الماشي في الصّلاة مستدبر القبلة‏,‏ بأن مشى قدّامه أو يميناً أو يساراً أو إلى ورائه من غير تحويل أو استدبار‏,‏ وأمّا إذا استدبر القبلة فقد فسدت صلاته سواء مشى قليلاً أو كثيراً أو لم يمش‏,‏ لأنّ استدبار القبلة لغير إصلاح الصّلاة وحده مفسد‏.‏ وقال بعض مشايخ الحنفيّة في رجل رأى فرجةً في الصّفّ الّذي أمامه مباشرةً فمشى إلى تلك الفرجة فسدّها لا تفسد صلاته‏,‏ ولو مشى إلى صف غير الّذي أمامه مباشرةً فسدّ فرجةً فيه تفسد صلاته‏.‏

وذهب المالكيّة إلى أنّ الصّلاة لا تبطل بمشي المصلّي صفّين لسترة يقرب إليها‏,‏ أو دفع مار أو لذهاب دابّة أو لسدّ فرجة في صف‏,‏ حتّى لو كان المشي بجنب أو قهقرى‏:‏ بأن يرجع على ظهره‏,‏ بشرط ألا يستدبر القبلة‏,‏ فيما عدا مسألة الدّابّة فإنّه يعذر إن استدبر القبلة‏.‏ وذهب الشّافعيّة إلى أنّ المشي أكثر من خطوتين متوسّطتين مبطل للصّلاة إن توالت لا إن تفرّقت‏,‏ أما المشي خطوتين فلا يبطل الصّلاة وإن اتّسعت‏,‏ كما تبطل بالوثبة الفاحشة مطلقاً‏.‏

واختلفوا في مسمّى الخطوة هل هو نقل رجل واحدة فقط أو نقل الرّجل الأخرى إلى محاذاتها‏,‏ قال ابن أبي الشّريف‏:‏ كل منهما محتمل‏,‏ والثّاني أقرب‏.‏

والّذي يستفاد من مذهب الحنابلة أنّ المشي الّذي تقتضيه صحّة صلاة المأموم مع إمامه جائز‏,‏ كما إذا كبَّر فذّاً خلف الإمام‏,‏ ثمّ تقدّم عن يمينه‏,‏ أو تقدّم المأموم إلى صف بين يديه‏,‏ أو كانا اثنين وراء الإمام‏,‏ فخرج أحدهما من الصّلاة فمشى المأموم حتّى وقف عن يمين الإمام‏,‏ أو كان المأموم واحداً فكبّر آخر عن يسار الإمام أداره الإمام عن يمينه‏.‏ والعبرة عندهم في ذلك أنّ المشي الكثير إن كان لضرورة كخوف أو هرب من عدوٍّ ونحوه لم تبطل صلاته‏,‏ وإن لم يكن لضرورة بطلت صلاته‏.‏

التّنفل ماشياً

6 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة في الجملة إلى جواز التّنفل ماشياً ولكلّ من المذهبين في المسألة تفصيل‏:‏

فقال الشّافعيّة‏:‏ يجوز التّنفل ماشياً‏,‏ وعلى الرّاحلة سائرةً إلى جهة مقصده في السّفر الطّويل‏,‏ وكذا القصير على المذهب‏,‏ ولا يجوز في الحضر على الصّحيح بل لها فيه حكم الفريضة في كلّ شيء إلّا القيام‏,‏ وقال الإصطخريّ‏:‏ يجوز للرّاكب والماشي في الحضر متردّداً في جهة مقصده‏,‏ واختار القفّال الجواز بشرط الاستقبال في جميع الصّلاة‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ تصح الصّلاة بدون الاستقبال لمتنفّل راكب وماشٍ في سفر غير محرّم ولا مكروهٍ‏,‏ ولو كان السّفر قصيراً لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ ‏}‏‏,‏ قال ابن عمر رضي اللّه عنهما‏:‏ نزلت في التّطوع خاصّةً‏,‏ ولما ورد « أنّ ابن عمر كان يصلّي في السّفر على راحلته أينما توجّهت يومئ‏,‏ وذكر عبد اللّه أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم كان يفعله »‏,‏ وكان ابن عمر رضي اللّه عنهما يفعله‏,‏ ولم يفرّق بين طويل السّفر وقصيره‏,‏ وألحق الماشي بالرّاكب لأنّ الصّلاة أبيحت للرّاكب لئلّا ينقطع عن القافلة في السّفر وهو موجود في الماشي‏.‏

ولا تجوز صلاة الماشي عند الحنفيّة والمالكيّة‏.‏

آداب المشي إلى صلاة الجماعة

7 - ذهب الحنفيّة والحنابلة والشّافعيّة في الأصحّ إلى أنّه يستحب لقاصد الجماعة أنّ يمشي إلى الصّلاة بسكينة ووقار‏,‏ وإن سمع الإقامة لم يسع إليها‏,‏ سواء خاف فوت تكبيرة الإحرام أم لا‏,‏ لما روى أبو هريرة رضي اللّه عنه عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال‏:‏ « إذا أقيمت الصّلاة فلا تأتوها تسعون ائتوها تمشون وعليكم السّكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا »‏.‏

وصرّح المالكيّة بأنّه يجوز الإسراع لإدراك الصّلاة مع الجماعة بلا هرولة وهي ما دون الجري‏,‏ وتكره الهرولة لأنّها تذهب الخشوع‏,‏ إلّا أنّ يخاف فوات الوقت فتجب‏.‏

وتفصيل ذلك ينظر في ‏(‏ صلاة الجماعة ف / 22 ‏)‏‏.‏

المفاضلة بين المشي والركوب لقاصد الجمعة

8 - ذهب الفقهاء إلى أنّه يستحب لمريد حضور الجمعة المشي في ذهابه لخبر‏:‏ « من غسّل يوم الجمعة واغتسل ثمّ بكّر وابتكر ومشى ولم يركب ودنا من الإمام فاستمع ولم يلغ كان له بكلّ خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها »‏,‏ ولما فيه من التّواضع للّه عزّ وجلّ‏,‏ لأنّه عبد ذاهب لمولاه‏,‏ فيطلب منه التّواضع له فيكون ذلك سبباً في إقباله عليه‏.‏

قال البهوتيّ‏:‏ هذا إذا لم يكن له عذر‏,‏ فإن كان له عذر فلا بأس بركوبه ذهاباً وإياباً‏,‏ لكنّ الإياب لا بأس به ولو لغير عذر‏.‏

وصرّح المالكيّة بأنّه لا يندب المشي في الرجوع لأنّ العبادة قد انقضت‏.‏

وقال الرّملي من الشّافعيّة‏:‏ من ركب لعذر أو غيره سيّر دابّته بسكون كالماشي ما لم يضق الوقت‏,‏ ويشبه أنّ الركوب أفضل لمن يجهده المشي لهرم أو ضعف أو بعد منزله‏,‏ بحيث يمنعه ما يناله من التّعب الخشوع والخضوع في الصّلاة عاجلاً‏.‏

اشتراط القدرة على المشي لوجوب الجمعة

9 - صرّح الحنفيّة بأنّ من شرائط وجوب الجمعة القدرة على المشي‏,‏ فلا تجب على المريض ولا على المقعد وإن وجد من يحمله ولا على الأعمى وإن وجد قائداً‏,‏ وقالوا‏:‏ الشّيخ الكبير ملحق بالمريض فلا تجب عليه‏,‏ والمطر الشّديد مسقط للجمعة عندهم‏.‏

ولم ينصّ المالكيّة على هذا الشّرط بهذا اللّفظ وإنّما عبّروا عنه بالتّمكن من أداء الجمعة‏,‏ قال ابن شاس‏:‏ ويلتحق بعذر المرض المطر الشّديد على أحد القولين فيهما‏.‏

واعتبر الشّافعيّة والحنابلة المرض من أعذار ترك الجمعة في الجملة‏,‏ وقالوا‏:‏ إن لم يتضرّر المريض بإتيان المسجد راكباً أو محمولاً‏,‏ أو تبرّع أحد بأن يركبه أو يحمله‏,‏ أو يتبرّع بقود أعمىً لزمته الجمعة‏.‏

وعند الشّافعيّة تجب الجمعة على الأعمى إذا وجد قائداً ولو بأجرة وله مال وإلّا فقد أطلق الأكثرون منهم أنّها لا تجب عليه‏,‏ وقال القاضي حسين‏:‏ إن كان الأعمى يحسن المشي بالعصا من غير قائد لزمه‏.‏

وفي الوحل الشّديد للشّافعيّة ثلاثة أوجهٍ‏:‏ الصّحيح أنّه عذر في ترك الجمعة والجماعة‏.‏ وعند الحنابلة قال ابن قدامة‏:‏ لا تجب الجمعة على من في طريقه إليها مطر يبل الثّياب‏,‏ أو وحل يشقّ المشي إليها فيه

المشي لقاصد صلاة العيد

10 - ذهب الفقهاء إلى أنّه يستحب لقاصد العيد المشي إن قدر‏,‏ لما روى الحارث عن عليٍّ رضي اللّه عنه‏:‏ « من السنّة أن تخرج إلى العيد ماشياً »‏,‏ ولأنّه أقرب للتّواضع‏,‏ فإن ضعف لكبر أو مرض فله الركوب‏.‏

والتّفصيل في مصطلح ‏(‏ صلاة العيدين ف / 13 ‏)‏‏.‏

المشي في تشييع الجنازة

11 - ذهب الفقهاء إلى أنّه يسن اتّباع الجنازة ماشياً‏,‏ والمشي أفضل من الركوب‏.‏ والتّفصيل في مصطلح ‏(‏ جنائز ف / 14 ‏)‏‏.‏

المشي في المقابر

12 - ذهب الحنفيّة إلى أنّه لا يكره المشي في المقابر بنعلين‏.‏

وقال الحصكفيّ‏:‏ يكره وطء القبر والمشي في طريقٍ ظنّ أنّه محدث حتّى إذا لم يصل إلى قبر قريبه إلّا بوطء قبر تركه‏.‏

وقال ابن عابدين نقلاً عن خزانة الفتاوى‏:‏ وعن أبي حنيفة لا يوطأ القبر إلّا لضرورة‏,‏ وقال بعضهم‏:‏ لا بأس بأن يطأ القبر وهو يقرأ أو يسبّح أو يدعو لهم‏.‏

ويرى المالكيّة أنّ القبر محرّم فلا ينبغي أن يمشي عليه إذا كان مسنّماً والطّريق دونه‏,‏ فأمّا إذا عفا فواسع‏.‏

وقال صاحب التّهذيب من الشّافعيّة إنّه لا بأس بالمشي بالنّعل بين القبور‏,‏ وقالوا‏:‏ القبر محرّم توقيراً للميّت فيكره في المشهور عندهم الجلوس عليه والاتّكاء ووطؤُه إلّا لحاجة بأن لا يصل إلى قبر ميّته إلّا بوطئه‏.‏

وقال النّووي‏:‏ يحرم ذلك أخذاً بظاهر الحديث‏:‏ « لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر »‏.‏

وقال الحنابلة بكراهة وطء القبور والمشي بينها بنعل لخبر « حتّى بالتمشك » - نوع من النّعال - وقالوا‏:‏ لا يكره المشي بينها بخفّ لمشقّة نزعه‏,‏ لأنّه ليس بنعل‏,‏ ويسن خلع النّعل إذا دخل المقبرة لحديث بشير بن الخصاصية قال‏:‏ « بينما أنا أماشي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذا رجل يمشي في القبور عليه نعلان فقال يا صاحب السّبتيّتين ويحك ألق سبتيّتيك فنظر الرّجل فلمّا عرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خلعهما فرمى بهما »‏,‏ واحتراماً لأموات المسلمين إلّا خوف نجاسة وشوكٍ وحرارة أرض وبرودتها فلا يكره - المشي بنعل بين القبور - للعذر‏.‏

المشي في الطّواف والسّعي

13 - ذهب الحنفيّة والحنابلة في المذهب إلى أنّ المشي في الطّواف والسّعي للقادر عليهما واجب مطلقاً‏.‏

وعند المالكيّة واجب في الطّواف والسّعي الواجبين‏,‏ وأمّا الطّواف والسّعي غير الواجبين فالمشي فيهما سنّة عندهم‏.‏

وذهب الشّافعيّة وهو رواية عند الحنابلة إلى أنّ المشي في الطّواف سنّة‏.‏

والتّفصيل في مصطلح ‏(‏ طواف ف / 25‏,‏ سعي ف / 14 ‏)‏‏.‏

نذر المشي إلى بيت اللّه الحرام

14 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ من قال - وهو في الكعبة أو في غيرها - عليّ المشي إلى بيت اللّه تعالى أو إلى الكعبة فعليه حجّة أو عمرة ماشياً وإن شاء ركب وأهرق دماً‏,‏ وقالوا‏:‏ مذهبنا مأثور عن عليٍّ رضي اللّه عنه‏,‏ ولأنّ النّاس تعارفوا إيجاب الحجّ والعمرة بهذا اللّفظ فصار كما إذا قال‏:‏ عليّ زيارة البيت ماشياً فيلزمه ماشياً وإن شاء ركب وأهرق دماً‏.‏ ويرى المالكيّة أنّ من نذر المشي إلى بيت اللّه الحرام أو إلى جزء منه كالركن والحجر والحطيم يلزمه المشي إن نوى نسكاً فإن لم ينو النسك لم يلزمه شيء‏.‏

وإذا لزمه المشي مشى من حيث نوى المشي منه‏,‏ وإن لم ينو محلاً مخصوصاً فمن حيث حلف أو نذر وأجزأ المشي من مثله في المسافة‏,‏ ويستمر ماشياً لتمام طواف الإفاضة أو تمام السّعي إن كان سعيه بعد الإفاضة‏,‏ ولزم الرجوع في عام قابل لمن ركب في العام الّذي نذر فيه المشي فيمشي ما ركب فيه إن علمه وإن لم يعلمه فيجب مشي جميع المسافة‏.‏ وقال الشّافعيّة‏:‏ إذا نذر المشي إلى بيت اللّه تعالى ناوياً الكعبة أو إتيانه فالمذهب وجوب إتيانه بحجّ أو عمرة‏,‏ وفي قول من طريقٍ لا يجب‏.‏

وإن لم ينو الكعبة فالأصح أنّه لا يصح نذره وقيل‏:‏ يحمل عليها‏.‏

فإن نذر الإتيان لم يلزمه مشي وله الركوب‏.‏

وإن نذر المشي أو أن يحجّ أو يعتمر ماشياً فالأظهر وجوب المشي‏,‏ والثّاني‏:‏ له الركوب وإن قال‏:‏ أمشي إلى بيت اللّه تعالى فيمشي من دويرة أهله في الأصحّ‏,‏ والثّاني‏:‏ يمشي من حيث يُحرم‏.‏

وإذا وجب المشي فركب لعذر أجزأه وعليه دم في الأظهر لتركه الواجب‏,‏ والثّاني‏:‏ لا دم عليه كما لو نذر الصّلاة قائماً فصلّى قاعداً لعجزه فلا شيء عليه‏.‏

وإذا ركب بلا عذر أجزأه على المشهور لأنّه لم يترك إلّا هيئةً التزمها وعليه دم لترفهه بتركها‏,‏ والثّاني‏:‏ لا يجزئه لأنّه لم يأت بما التزمه بالصّفة مع قدرته عليها‏.‏

وذهب الحنابلة إلى أنّ من نذر المشي إلى بيت اللّه الحرام وأطلق فلم يقل في حج ولا عمرة ولا غيره أو قال غير حاج ولا معتمر لزمه المشي في حج أو في عمرة حملاً له على المعهود الشّرعيّ وإلغاءً لإرادته غيره‏,‏ ويلزمه المشي من مكان النّذر أي دويرة أهله كما في حجّ الفرض إلى أن يتحلّل‏,‏ ولا يلزمه إحرام قبل ميقاته ما لم ينو مكاناً بعينه للمشي منه أو الإحرام فيلزمه لعموم حديث‏:‏ « من نذر أن يطيع اللّه فليطعه »‏,‏ ومن نوى بنذره المشي إلى بيت اللّه الحرام إتيانه لا حقيقة المشي فيلزمه الإتيان ويخيّر بين المشي والركوب لحصوله بكلّ منهما‏.‏

وإن ركب ناذر المشي إلى بيت اللّه الحرام لعجز أو غيره كفّر كفّارة يمين‏.‏

وللتّفصيل في أحكام نذر المشي إلى أحد المشاعر‏,‏ ونذر المشي إلى المدينة المنوّرة أو بيت المقدس أو أحد المساجد ينظر مصطلح ‏(‏ نذر ‏)‏‏.‏

الواجب في إزالة منفعة المشي

15 - ذهب الفقهاء إلى أنّ الواجب في إزالة منفعة المشي كمال الدّية‏,‏ فلو ضرب صلبه فبطل مشيه ورجله سليمة وجبت الدّية‏,‏ وفصّل الشّافعيّة فقالوا‏:‏ ولا تؤخذ الدّية حتّى تندمل فإن انجبر وعاد مشيه فلا دية وتجب الحكومة إن بقي أثر‏,‏ وكذا إن نقص مشيه بأن احتاج إلى عصاً‏,‏ أو صار يمشي محدودباً‏,‏ ولو كسر صلبه وشلّت رجله قال المتولّي من الشّافعيّة‏:‏ يلزمه دية لفوات المشي‏,‏ وحكومة لكسر الظّهر‏,‏ بخلاف ما إذا كانت الرّجل سليمةً لا يجب مع الدّية حكومة ‏;‏ لأنّ المشي منفعة في الرّجل فإذا شلّت الرّجل ففوات المنفعة لشلل الرّجل فأفرد كسر الصلب بحكومة‏,‏ أمّا إذا كانت سليمةً ففوات المشي لخلل الصلب فلا يفرد بحكومة‏.‏

قال النّووي‏:‏ إنّ مجرّد الكسر لا يوجب الدّية وإنّما تجب الدّية إذا فات به المشي‏.‏

ولو أذهب كسر الصلب مشيه ومنيّه‏,‏ أو منيّه وجماعه وجبت ديتان على الأصحّ عند الشّافعيّة وقيل‏:‏ دية‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ إنّ دية ذهاب منفعة المشي تجب حتّى لو انجبر كسر الصلب‏.‏

المشي في نعل واحدة

16 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى كراهة المشي في نعل واحدة بغير عذر‏,‏ وقال الحنابلة‏:‏ ولو يسيراً سواء كان في إصلاح الأخرى أو لا‏,‏ لقوله صلّى اللّه عليه وسلّم‏:‏ « لا يمشي أحدكم في نعل واحدة »‏,‏ وقوله عليه الصّلاة والسّلام‏:‏ « إذا انقطع شسع أحدكم فلا يمشي في الأخرى حتّى يصلحها »‏,‏ وقال أبو يحيى زكريّا الأنصاري‏:‏ والمعنى فيه أنّ مشيه يختل بذلك‏.‏

وقال الخطّابيّ‏:‏ الحكمة في النّهي أنّ النّعل شرعت لوقاية الرّجل عمّا يكون في الأرض من شوكٍ أو نحوه فإذا انفردت إحدى الرّجلين احتاج الماشي أن يتوقّى لإحدى رجليه ما لا يتوقّى للأخرى فيخرج بذلك من سجيّة مشيه‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ لا يمشي أحد في نعل واحدة ولا يقف فيه إلّا أن يكون الشّيء الخفيف‏,‏ في حال كونه متشاغلاً بإصلاح الأخرى‏,‏ وليلبسهما جميعاً أو فلينزعهما جميعاً‏.‏

تسليم الرّاكب على الماشي

17 - يسن تسليم الرّاكب على الماشي والماشي على القاعد‏,‏ والقليل على الكثير‏,‏ والصّغير على الكبير‏,‏ لقوله صلّى اللّه عليه وسلّم‏:‏ « يسلّم الرّاكب على الماشي والماشي على القاعد والقليل على الكثير »‏.‏

وللتّفصيل ‏(‏ ر‏:‏ سلام ف / 23 ‏)‏‏.‏

آداب المشي مع النّاس

18 - قال ابن عقيل من الحنابلة‏:‏ من مشى مع إنسان فإن كان أكبر منه وأعلم مشى عن يمينه يقيمه مقام الإمام في الصّلاة‏.‏

قال ابن مفلح مقتضى كلام ابن عقيل‏:‏ استحباب مشي الجماعة خلف الكبير وإن مشوا عن جانبيه فلا بأس كالإمام في الصّلاة‏,‏ وفي مسلم قول يحيى بن يعمر أنّه هو وحميد بن عبد الرّحمن مشياً على جانبي ابن عمر‏,‏ قال في شرح مسلم‏:‏ فيه تنبيهٌ على مشي الجماعة مع فاضلهم وهو أنّهم يكتنفونه ويحفون به‏.‏

قال الحصكفيّ وابن عابدين‏:‏ وللشّابّ العالم أن يتقدّم على الشّيخ الجاهل‏,‏ لأنّه أفضل منه‏,‏ ولهذا يقدّم في الصّلاة وهي إحدى أركان الإسلام وهي تالية الإيمان‏,‏ قال ابن عابدين‏:‏ وصرّح الرّملي في فتاواه بحرمة تقدم الجاهل على العالم حيث يشعر بنزول درجته عند العامّة لمخالفته لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ‏}‏ وهذا مجمع عليه‏,‏ فالمتقدّم ارتكب معصيةً فيعزّر‏.‏

مَشِيئَة

التّعريف

1 - المشيئة في اللغة الإرادة يقال شاء زيد الأمر يشاؤُه شيئاً‏:‏ أراده‏,‏ والمشيئة اسم منه‏.‏ ولا يخرج استعمال الفقهاء للمشيئة عن المعنى اللغويّ‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالمشيئة

أوّلاً‏:‏ تعليق الطّلاق بالمشيئة

أ - تعليقه بمشيئة اللّه أو الملائكة أو الجنّ‏:‏

2 - ذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة وأحمد في رواية إلى أنّ الطّلاق المعلّق على مشيئة اللّه وعلى مشيئة من لا يعلم مشيئته من الملائكة والجنّ لا يقع‏,‏ كما لو قال الزّوج لزوجته‏:‏ أنت طالق إن شاء اللّه تعالى فهذا الطّلاق لا يقع‏,‏ لأنّ مشيئة اللّه تعالى لا يطّلع عليها أحد‏,‏ فكان هذا التّعليق كالتّعليق على شرطٍ مستحيل فيكون نفياً للطّلاق‏,‏ لقوله صلّى اللّه عليه وسلّم‏:‏ « من حلف على يمين فقال إن شاء اللّه فقد استثنى فلا حنث عليه» وقيّد الشّافعيّة هذا الحكم بقصد التّعليق حقيقةً‏,‏ وأمّا لو سبقت كلمة المشيئة إلى لسانه لتعوده لها كما هو الأدب‏,‏ أو قصد التّبرك بذكر اللّه تعالى‏,‏ أو الإشارة إلى أنّ الأمور كلّها بمشيئة اللّه تعالى‏,‏ ولم يقصد تعليقاً محقّقاً لم يؤثّر ذلك ويقع الطّلاق‏.‏

وذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّ من علّق بمشيئة اللّه تعالى فقال‏:‏ أنت طالق إن شاء اللّه تعالى يقع الطّلاق‏,‏ لما روى أبو حمزة قال‏:‏ سمعت ابن عبّاس رضي اللّه عنهما يقول‏:‏

‏"‏ إذا قال الرّجل لامرأته أنت طالق إن شاء اللّه تعالى فهي طالق ‏"‏‏.‏

وقال عبد اللّه بن عمر وأبو سعيد رضي اللّه عنهم‏:‏ كنّا معاشر أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم نرى الاستثناء جائزاً في كلّ شيء إلّا في العتاق والطّلاق‏,‏ ولأنّه استثناء حكم في محل فلم يرتفع بالمشيئة كالبيع والنّكاح‏,‏ ولأنّه إزالة ملكٍ فلم يصحّ تعليقه على مشيئة اللّه كما لو قال‏:‏ أبرأتك إن شاء اللّه أو تعليقاً على ما لا سبيل إلى علمه فأشبه تعليقه على المستحيلات‏.‏

وقال الصّاوي من المالكيّة‏:‏ هذا‏,‏ لو صرف المشيئة على المعلّق‏,‏ أما لو صرف المشيئة أي مشيئة اللّه أو الملائكة أو الجنّ لمعلّق عليه كقوله‏:‏ أنت طالق إن دخلت الدّار إن شاء اللّه وصرف المشيئة للدخول أي إن دخلت بمشيئة اللّه فينجّز عليه إن وجد الدخول عند ابن القاسم‏,‏ وقال أشهب وابن الماجشون‏:‏ لا ينجّز ولو حصل المعلّق عليه‏,‏ وأمّا إن صرفها للمعلّق وهو الطّلاق أو لهما أو لم تكن له نيّة فينجّز إن وجد الدخول اتّفاقاً‏.‏

ب - تعليقه بمشيئة إنسان‏:‏

3 - ذهب المالكيّة والحنابلة والصّاحبان من الحنفيّة إلى أنّ الرّجل لو علّق الطّلاق بمشيئة زوجته بأن قال لها‏:‏ أنت طالق إن شئت أو إذا شئت أو متى شئت أو كلّما شئت أو كيف شئت أو حيث شئت أو أنّى شئت لم تطلّق حتّى تشاء وتنطق بالمشيئة بلسانها فتقول‏:‏ قد شئت‏,‏ لأنّ ما في القلب لا يعلم حتّى يعبّر عنه اللّسان فيتعلّق الحكم بما يتعلّق به دون ما في القلب‏,‏ فلو شاءت بقلبها دون نطقها لم يقع الطّلاق‏,‏ ولو قالت قد شئت بلسانها وهي كارهة لوقع الطّلاق اعتباراً بالنطق‏,‏ ويقع الطّلاق سواء كان على الفور أو على التّراخي‏,‏ لأنّه أضاف الطّلاق إلى مشيئتها فأشبه به ما لو قال حيث شئت‏,‏ ولأنّ هذه الحروف صريحة في التّراخي فحملت على مقتضاها‏,‏ ولأنّه تعليق للطّلاق على شرطٍ فكان على التّراخي كسائر التّعليق‏,‏ ولأنّه إزالة ملكٍ معلّقٍ على المشيئة فكان على التّراضي كالعتق‏.‏ وقال الشّافعيّة‏:‏ لو قال لزوجته مخاطبةً‏:‏ أنت طالق إن شئت اشترط مشيئتها في مجلس التّواجب فإن تأخّرت لم تقع‏,‏ لأنّ هذا تمليك للطّلاق فكان على الفور كقوله اختاري‏,‏ وهذا في التّعليق بغير نحو متى وأيّ وقت أمّا فيه فلا يشترط الفور فإن قال متى شئت طلقت متى شاءت وإن فارقت المجلس‏.‏

ولو قال لأجنبيّ‏:‏ إن شئت فزوجتي طالق فالأصح أنّه لا يشترط مشيئته على الفور‏,‏ وقيل‏:‏ كالزّوجة‏,‏ ورجّحه المتولّي ولو علّق بمشيئتها لا مخاطبةً‏,‏ فقال‏:‏ زوجتي طالق إن شاءت لم تشترط المشيئة‏,‏ على الفور على الأصحّ‏,‏ وقيل‏:‏ يشترط قولها‏:‏ شئت في الحال إن كانت حاضرةً وإن كانت غائبةً فتبادر بها إذا بلغها الخبر‏,‏ ولو قال‏:‏ امرأتي طالق إذا شاء زيد لم يشترط على الفور باتّفاق الشّافعيّة‏,‏ ولو قال‏:‏ إن شئت وشاء فلان فأنت طالق أشترط مشيئتها على الفور‏.‏

ويرى أبو حنيفة في حكم ما لو قال لها‏:‏ أنت طالق كيف شئت لا يتعلّق أصل الطّلاق بمشيئتها بل تقع طلقةً واحدةً بائنةً ولا مشيئة لها إن لم يدخل بها‏,‏ وإن دخل بها وقعت تطليقةً رجعيّةً بمجرّد قوله ذلك شاءت أو لا‏,‏ ثمّ إن قالت شئت بائنةً أو ثلاثاً وقد نوى الزّوج ذلك تصير كذلك للمطابقة‏,‏ وإن اختلفا بأن شاءت بائنةً والزّوج ثلاثاً أو العكس فهي رجعيّة لأنّه لغت مشيئتها لعدم الموافقة فبقي إيقاع الزّوج بالصّريح وهو رجعي‏,‏ وإذا لم ينو الزّوج شيئاً فالقول كما شاءت هي‏.‏

4 - وإذا قال الزّوج لزوجته‏:‏ أنت طالق إنّ شئت‏,‏ فقالت‏:‏ شئت إن شئت فقال الزّوج شئته ينوي الطّلاق لم يقع الطّلاق عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة‏,‏ وبه قال أيضاً إسحاق وأبو ثور وابن المنذر‏,‏ قال ابن المنذر‏:‏ أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أنّ الرّجل إذا قال لزوجته‏:‏ أنت طالق إن شئت فقالت‏:‏ قد شئت إن شاء فلان أنّها قد ردّت الأمر‏,‏ ولا يلزمها الطّلاق وإن شاء فلان‏,‏ وذلك لأنّه لم توجد منها وإنّما وجد منها تعليق مشيئتها بشرط‏,‏ ولأنّه علّق طلاقها بالمشيئة المرسلة وهي أنت بالمعلّقة فلم يوجد الشّرط وهو اشتغال بما لا يعنيها‏,‏ فخرج الأمر من يدها‏,‏ ولا يقع الطّلاق بقوله شئت وإن نوى الطّلاق لأنّه ليس في كلام المرأة ذكر الطّلاق ليصير الزّوج شائياً طلاقها‏,‏ والنّيّة لا تعمل في غير المذكور حتّى لو قال‏:‏ شئت طلاقك يقع إذا نوى لأنّه إيقاع مبتدأٌ إذ المشيئة تنبئ عن الوجود‏.‏

وفي وجهٍ عند الشّافعيّة‏:‏ يقع الطّلاق لحصول مشيئتها بمشيئة الزّوج‏.‏

5 - وإن قال‏:‏ أنت طالق واحدةً إلّا أن تشائي ثلاثاً فلم تشأ أو شاءت أقلّ من ثلاثٍ طلقت واحدةً‏,‏ وإن قالت قد شئت ثلاثاً‏,‏ فقال الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة‏:‏ لا تطلق إذا شاءت ثلاثاً‏,‏ لأنّ الاستثناء من الإثبات نفي فتقديره أنت طالق واحدةً إلّا أن تشائي ثلاثاً فلا تطلقي‏,‏ ولأنّه لو لم يقل ثلاثاً لما طلقت بمشيئتها ثلاثاً‏,‏ فكذلك إذا قال ثلاثاً لأنّه إنّما ذكر الثّلاث صفةً لمشيئتها الرّافعة لطلاق الواحدة‏,‏ فيصير كما لو قال‏:‏ أنت طالق إلّا أن تكرّري بمشيئتك ثلاثاً‏,‏ وقال أبو بكر من الحنابلة‏:‏ تطلق ثلاثاً‏.‏

ولو قال‏:‏ أنت طالق ثلاثاً إلّا أن تشائي واحدةً فقالت‏:‏ قد شئت واحدةً طلقت واحدةً على قول أبي يوسف من الحنفيّة وأبي بكر من الحنابلة‏,‏ وعلى قول الجمهور ومحمّد من الحنفيّة لا تطلق شيئاً‏.‏

وإن قال‏:‏ أنت طالق لمشيئة فلان أو لرضاه أو له طلقت في الحال‏,‏ لأنّ معناه أنت طالق لكونه قد شاء ذلك أو رضيه أو ليرضى به‏.‏

ثانياً‏:‏ تعليق الظّهار بالمشيئة

6 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لو علّق الظّهار بمشيئة المظاهر منها أو مشيئة غيرها كزيد‏,‏ وقال‏:‏ أنت عليّ كظهر أمّي إن شاء فلان‏,‏ أو قال‏:‏ أنت عليّ كظهر أمّي إن شئت أو إذا شئت أو متى شئت أو مهما شئت فهو معلّق على المشيئة‏,‏ وقيّده الحنفيّة في المجلس‏,‏ وكذلك الشّافعيّة بالنّسبة لمشيئتها‏.‏

ونقل عن السيوريّ من المالكيّة قوله‏:‏ لا يختلف في إذا شئت أو متى شئت أنّ لها ذلك في المجلس ما لم توطأ أو توقف - قال الآبيّ‏:‏ أي على يد حاكم أو جماعة من المسلمين - بخلاف إن شئت فقيل كذلك وقيل ما لم يفترقا‏.‏

وإذا علّق الظّهار بمشيئة اللّه تعالى حيث قال‏:‏ أنت عليّ كظهر أمّي إن شاء اللّه تعالى بطل عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة‏,‏ ولا ينعقد ظهاره‏,‏ لأنّها يمين مكفّرة‏,‏ وكذا لو قال‏:‏ أنت عليّ حرام إن شاء اللّه تعالى أو إن شاء اللّه تعالى وشاء زيد‏,‏ فشاء زيد‏,‏ لا ينعقد ظهاره لأنّه علّقه على شيئين فلا يحصل بأحدهما‏.‏

ثالثاً‏:‏ تعليق الإيلاء بالمشيئة

7 - قال الحنابلة‏:‏ لو قال رجل لزوجته‏:‏ واللّه لا وطئتك إن شئت فشاءت ولو تراخياً فيعتبر مشيئتها ويكون مولياً‏,‏ لأنّه علّق الإيلاء بشرط وقد وجد‏,‏ وإن قال‏:‏ واللّه لا وطئتك إلّا أن تشائي أو إلّا أن يشاء أبوك أو إلّا باختيارك فلا يعتبر مولياً لأنّه علّقه بفعل يمكن وجوده في ثلث سنة إمكاناً غير بعيد وليس بمحرّم ولا فيه مضرّة فأشبه ما لو علّقه على دخولها الدّار‏.‏

ويرى الشّافعيّة أنّه لو قال مخاطباً‏:‏ واللّه لا أجامعك إن شئت وأراد تعليق الإيلاء بمشيئتها أشترط في كونه مولياً مشيئتها وتعتبر مشيئتها على الفور على الأصحّ‏,‏ كما يعتبر في الطّلاق على الفور‏,‏ ولو علّق لا على سبيل خطابها بأن قال‏:‏ واللّه لا أجامع زوجتي إن شاءت‏,‏ أو قال لأجنبيّ‏:‏ واللّه لا أجامع زوجتي إن شئت لم يعتبر على الفور على الأصحّ‏.‏ ولو قال إن شاء فلان‏,‏ أو قال لها‏:‏ متى شئت لم يعتبر الفور مطلقاً‏.‏

وقال الحنفيّة‏:‏ لو قال إن شئت فواللّه لا أقربك فإن شاءت في المجلس صار مولياً وكذا إن شاء فلان فهو على مجلسه‏.‏

رابعاً‏:‏ تعليق الإقرار على المشيئة

8 - تعليق الإقرار على المشيئة قرينة مغيّرة قد تدخل على أصل الإقرار وتكون متّصلةً به‏,‏ والتّعليق على المشيئة إمّا أن يكون على مشيئة اللّه تعالى أو على مشيئة فلان مثلاً‏,‏ وفي كل تفصيل واختلاف ينظر ‏(‏ إقرار ف / 43 ‏)‏‏.‏

خامساً‏:‏ تعليق النّيّة على المشيئة

9 - قال الحلواني من الحنفيّة‏:‏ لو قال نويت صوم غد إنّ شاء الله تعالى يجوز استحساناً‏,‏ لأن المشيئة إنما تبطل اللفظ‏,‏ والنية فعل القلب‏.‏

وقال ابن نجيم‏:‏ لو عقب النية بالمشيئة فإن كان ممّا يتعلّق بالنّيّات كالصّوم والصّلاة لم تبطل وإن كان ممّا يتعلّق بالأقوال كالطّلاق والعتاق بطل‏.‏

وعند المالكيّة الاستثناء بالمشيئة يفيد في اليمين باللّه إن قصد الاستثناء واتّصل الاستثناء بالمستثنى منه ونطق به وإن سراً وكان اليمين في غير توثقٍ بحقّ‏,‏ فلا كفّارة عليه إن حنث‏,‏ فإن لم يقصد الاستثناء كأن جرى على لسانه بلا قصد أو قصد التّبرك فلا يفيد الاستثناء وعليه الكفّارة إن حنث‏.‏

أما الاستثناء في غير اليمين كالطّلاق فلا يقيّده الاستثناء فإن حنث لزمه الطّلاق سواء قصد الاستثناء أو لم يقصد‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ لو عقّب نيّة الصّوم بقوله‏:‏ إن شاء اللّه بقلبه أو بلسانه فإن قصد التّبرك أو وقوع الصّوم وبقاء الحياة إلى تمامه بمشيئة اللّه تعالى لم يضرّه‏,‏ وإن قصد تعليقه والشّكّ لم يصحّ صومه‏,‏ هذا هو المذهب وبه قال المتولّي والرّافعي‏.‏

وقال الماورديّ‏:‏ إن قال‏:‏ أصوم غداً إن شاء زيد لم يصحّ صومه وإن شاء زيد‏,‏ لأنّه لم يجزم النّيّة‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ من قال‏:‏ أنا صائم غداً إن شاء اللّه فإن قصد بالمشيئة الشّكّ والتّردد في العزم والقصد فسدت نيّته لعدم الجزم بها‏,‏ وإن نوى بالمشيئة التّبرك أو لم ينو شيئاً لم تفسد نيّته‏,‏ إذ قصده أنّ فعله للصّوم بمشيئة اللّه وتوفيقه وتيسيره‏.‏

قال القاضي‏:‏ وكذا نقول في سائر العبادات لا تفسد بذكر المشيئة في نيّتها‏.‏