فصل: فَصْلٌ (فِي سَبَبِ تَأْلِيفِ هَذَا الْكِتَابِ)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: النشر في القراءات العشر ***


‏[‏هَلِ الْأَحْرُفُ السَّبْعَةُ مُتَفَرِّقَةٌ فِي الْقُرْآنِ‏]‏

وَأَمَّا هَلْ هَذِهِ السَّبْعَةُ الْأَحْرُفُ مُتَفَرِّقَةٌ فِي الْقُرْآنِ، فَلَا شَكَّ عِنْدِنَا فِي أَنَّهَا مُتَفَرِّقَةٌ فِيهِ، بَلْ وَفِي كُلِّ رِوَايَةٍ وَقِرَاءَةٍ بِاعْتِبَارِ مَا قَرَّرْنَاهُ فِي وَجْهِ كَوْنِهَا سَبْعَةَ أَحْرُفٍ لَا أَنَّهَا مُنْحَصِرَةٌ فِي قِرَاءَةِ خَتْمَةٍ وَتِلَاوَةِ رِوَايَةٍ، فَمَنْ قَرَأَ وَلَوْ بَعْضَ الْقُرْآنِ بِقِرَاءَةٍ مُعَيَّنَةٍ اشْتَمَلَتْ عَلَى الْأَوْجُهِ الْمَذْكُورَةِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ قَدْ قَرَأَ بِالْأَوْجُهِ السَّبْعَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا دُونَ أَنْ يَكُونَ قَرَأَ بِكُلِّ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي عَمْرٍو الدَّانِيِّ إِنَّ الْأَحْرُفَ السَّبْعَةَ لَيْسَتْ مُتَفَرِّقَةً فِي الْقُرْآنِ كُلَّهَا وَلَا مَوْجُودَةً فِيهِ فِي خَتْمَةٍ وَاحِدَةٍ، بَلْ بَعْضِهَا‏.‏ فَإِذَا قَرَأَ الْقَارِئُ بِقِرَاءَةٍ مِنَ الْقِرَاءَاتِ، أَوْ رِوَايَةٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ فَإِنَّمَا قَرَأَ بِبَعْضِهَا لَا بِكُلِّهَا، فَإِنَّهُ صَحِيحٌ عَلَى مَا أَصْلُهُ مِنْ أَنَّ الْأَحْرُفَ هِيَ اللُّغَاتُ الْمُخْتَلِفَاتُ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مَنْ قَرَأَ بِرِوَايَةٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُحَرِّكَ الْحَرْفَ وَيُسَكِّنَهُ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ يَرْفَعَهُ وَيَنْصِبَهُ، أَوْ يُقَدِّمَهُ وَيُؤَخِّرَهُ فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ مَا قَالَهُ‏.‏

‏[‏اشْتِمَالُ الْمَصَاحِفِ الْعُثْمَانِيَّةِ عَلَى الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ‏]‏

وَأَمَّا كَوْنُ الْمَصَاحِفِ الْعُثْمَانِيَّةِ مُشْتَمِلَةً عَلَى جَمِيعِ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ، فَإِنَّ هَذِهِ مَسْأَلَةٌ كَبِيرَةٌ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا‏:‏ فَذَهَبَ جَمَاعَاتٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْقُرَّاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ إِلَى أَنَّ الْمَصَاحِفَ الْعُثْمَانِيَّةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى جَمِيعِ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ، وَبَنَوْا ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَى الْأُمَّةِ أَنْ تُهْمِلَ نَقْلَ شَيْءٍ مِنَ الْحُرُوفِ السَّبْعَةِ الَّتِي نَزَلَ الْقُرْآنُ بِهَا، وَقَدْ أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى نَقْلِ الْمَصَاحِفِ الْعُثْمَانِيَّةِ مِنَ الصُّحُفِ الَّتِي كَتَبَهَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَإِرْسَالِ كُلِّ مُصْحَفٍ مِنْهَا إِلَى مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ وَأَجْمَعُوا عَلَى تَرْكِ مَا سِوَى ذَلِكَ، قَالَ هَؤُلَاءِ‏:‏ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْهَى عَنِ الْقِرَاءَةِ بِبَعْضِ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ وَلَا أَنْ يُجْمِعُوا عَلَى تَرْكِ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَذَهَبَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَصَاحِفَ الْعُثْمَانِيَّةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى مَا يَحْتَمِلُهُ رَسْمُهَا مِنَ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ فَقَطْ جَامِعَةٌ لِلْعَرْضَةِ الْأَخِيرَةِ الَّتِي عَرَضَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جِبْرَائِيلَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مُتَضَمِّنَةٌ لَهَا لَمْ تَتْرُكْ حَرْفًا مِنْهَا‏.‏

قُلْتُ‏:‏ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي يَظْهَرُ صَوَابُهُ؛ لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ وَالْآثَارَ الْمَشْهُورَةَ الْمُسْتَفِيضَةَ تَدُلُّ عَلَيْهِ وَتَشْهَدُ لَهُ إِلَّا أَنَّ لَهُ تَتِمَّةً لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهَا نَذْكُرُهَا آخِرَ هَذَا الْفَصْلِ، وَقَدْ أُجِيبَ عَمَّا اسْتَشْكَلَهُ أَصْحَابُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِأَجْوِبَةٍ مِنْهَا مَا قَالَهُ الْإِمَامُ الْمُجْتَهِدُ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ وَهُوَ أَنَّ الْقِرَاءَةَ عَلَى الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً عَلَى الْأُمَّةِ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا لَهُمْ وَمُرَخَّصًا فِيهِ وَقَدْ جُعِلَ لَهُمُ الِاخْتِيَارُ فِي أَيِّ حَرْفٍ قَرَءُوا بِهِ كَمَا فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، قَالُوا‏:‏ فَلَمَّا رَأَى الصَّحَابَةُ أَنَّ الْأُمَّةَ تَفْتَرِقُ وَتَخْتَلِفُ وَتَتَقَاتَلُ إِذَا لَمْ يَجْتَمِعُوا عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ اجْتَمَعُوا عَلَى ذَلِكَ اجْتِمَاعًا سَائِغًا وَهُمْ مَعْصُومُونَ أَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى ضَلَالَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ تَرْكٌ لِوَاجِبٍ وَلَا فِعْلٌ لِمَحْظُورٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ إِنَّ التَّرْخِيصَ فِي الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لِمَا فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ مِنَ الْمَشَقَّةِ عَلَيْهِمْ أَوَّلًا، فَلَمَّا تَذَلَّلَتْ أَلْسِنَتُهُمْ بِالْقِرَاءَةِ وَكَانَ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ يَسِيرًا عَلَيْهِمْ، وَهُوَ أَوْفَقُ لَهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى الْحَرْفِ الَّذِي كَانَ فِي الْعَرْضَةِ الْأَخِيرَةِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ إِنَّهُ نَسَخَ مَا سِوَى ذَلِكَ؛ وَلِذَلِكَ نَصَّ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْحُرُوفَ الَّتِي وَرَدَتْ عَنْ أُبَيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا يُخَالِفُ هَذِهِ الْمَصَاحِفَ مَنْسُوخَةٌ، وَأَمَّا مَنْ يَقُولُ‏:‏ إِنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ كَابْنِ مَسْعُودٍ كَانَ يُجِيزُ الْقِرَاءَةَ بِالْمَعْنَى فَقَدْ كَذَبَ عَلَيْهِ، إِنَّمَا قَالَ‏:‏ نَظَرْتُ الْقِرَاءَاتِ فَوَجَدْتُهُمْ مُتَقَارِبِينَ فَاقْرَءُوا كَمَا عُلِّمْتُمْ‏.‏ نَعَمْ كَانُوا رُبَّمَا يُدْخِلُونَ التَّفْسِيرَ فِي الْقِرَاءَةِ إِيضَاحًا وَبَيَانًا لِأَنَّهُمْ مُحَقِّقُونَ لِمَا تَلَقَّوْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرْآنًا فَهُمْ آمِنُونَ مِنَ الِالْتِبَاسِ وَرُبَّمَا كَانَ بَعْضُهُمْ يَكْتُبُهُ مَعَهُ، لَكِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- كَانَ يَكْرَهُ ذَلِكَ وَيَمْنَعُ مِنْهُ فَرَوَى مَسْرُوقٌ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ التَّفْسِيرَ فِي الْقُرْآنِ وَرَوَى غَيْرُهُ عَنْهُ‏:‏ جَرِّدُوا الْقُرْآنَ وَلَا تُلْبِسُوا بِهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ ‏.‏

قُلْتُ‏:‏ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقُرْآنَ نُسِخَ مِنْهُ وَغُيِّرَ فِيهِ فِي الْعَرْضَةِ الْأَخِيرَةِ فَقَدْ صَحَّ النَّصُّ بِذَلِكَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَرُوِّينَا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ قَالَ‏:‏ قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ أَيُّ الْقِرَاءَتَيْنِ تَقْرَأُ‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ الْأَخِيرَةُ قَالَ‏:‏ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْرِضُ الْقُرْآنَ عَلَى جِبْرِيلَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً قَالَ‏:‏ فَعَرَضَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ فِي الْعَامِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّتَيْنِ، فَشَهِدَ عَبْدُ اللَّهِ- يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ- مَا نُسِخَ مِنْهُ وَمَا بُدِّلَ، فَقِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَخِيرَةُ‏.‏ وَإِذْ قَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ فَلَا إِشْكَالَ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَتَبُوا فِي هَذِهِ الْمَصَاحِفِ مَا تَحَقَّقُوا أَنَّهُ قُرْآنٌ وَمَا عَلِمُوهُ اسْتَقَرَّ فِي الْعَرْضَةِ الْأَخِيرَةِ، وَمَا تَحَقَّقُوا صِحَّتَهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا لَمْ يُنْسَخْ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ دَاخِلَةً فِي الْعَرْضَةِ الْأَخِيرَةِ؛ وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَتِ الْمَصَاحِفُ بَعْضَ اخْتِلَافٍ، إِذْ لَوْ كَانَتِ الْعَرْضَةُ الْأَخِيرَةُ فَقَطْ لَمْ تَخْتَلِفِ الْمَصَاحِفُ بِزِيَادَةٍ وَنَقْصٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَتَرَكُوا مَا سِوَى ذَلِكَ؛ وَلِذَلِكَ لَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِمُ اثْنَانِ حَتَّى إِنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- لَمَّا وَلِيَ الْخِلَافَةَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يُنْكِرْ حَرْفًا وَلَا غَيَّرَهُ، مَعَ أَنَّهُ هُوَ الرَّاوِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَقْرَءُوا الْقُرْآنَ كَمَا عُلِّمْتُمْ، وَهُوَ الْقَائِلُ‏:‏ لَوْ وَلِيتُ مِنَ الْمَصَاحِفِ مَا وَلِيَ عُثْمَانُ لَفَعَلْتُ كَمَا فَعَلَ‏.‏ وَالْقِرَاءَاتُ الَّتِي تَوَاتَرَتْ عِنْدَنَا عَنْ عُثْمَانَ وَعَنْهُ وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيٍّ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ فِيهَا إِلَّا الْخِلَافُ الْيَسِيرُ الْمَحْفُوظُ بَيْنَ الْقُرَّاءِ، ثُمَّ إِنَّ الصَّحَابَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- لَمَّا كَتَبُوا تِلْكَ الْمَصَاحِفَ جَرَّدُوهَا مِنَ النُّقَطِ وَالشَّكْلِ لِيَحْتَمِلَهُ مَا لَمْ يَكُنْ فِي الْعَرْضَةِ الْأَخِيرَةِ مِمَّا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا أَخْلَوُا الْمَصَاحِفَ مِنَ النُّقَطِ وَالشَّكْلِ لِتَكُونَ دِلَالَةُ الْخَطِّ الْوَاحِدِ عَلَى كِلَا اللَّفْظَيْنِ الْمَنْقُولَيْنِ الْمَسْمُوعَيْنِ الْمَتْلُوَّيْنِ شَبِيهَةً بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ عَلَى كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ الْمَعْقُولَيْنِ الْمَفْهُومَيْنِ، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ- رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ- تَلَقَّوْا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِتَبْلِيغِهِ إِلَيْهِمْ مِنَ الْقُرْآنِ لَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ جَمِيعًا، وَلَمْ يَكُونُوا لِيُسْقِطُوا شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ الثَّابِتِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَمْنَعُوا مِنَ الْقِرَاءَةِ بِهِ‏.‏

‏[‏هَلِ الْقِرَاءَاتُ الَّتِي يُقْرَأُ بِهَا الْيَوْمَ فِي الْأَمْصَارِ جَمِيعُ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ أَمْ بَعْضُهَا‏]‏

وَأَمَّا هَلِ الْقِرَاءَاتُ الَّتِي يُقْرَأُ بِهَا الْيَوْمَ فِي الْأَمْصَارِ جَمِيعُ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ أَمْ بَعْضُهَا، فَإِنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ تُبْتَنَى عَلَى الْفَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ، فَإِنَّ مَنْ عِنْدَهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْأُمَّةِ تَرْكُ شَيْءٍ مِنَ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ يَدَّعِي أَنَّهَا مُسْتَمِرَّةُ النَّقْلِ بِالتَّوَاتُرِ إِلَى الْيَوْمِ، وَإِلَّا تَكُونُ الْأُمَّةُ جَمِيعُهَا عُصَاةً مُخْطِئِينَ فِي تَرْكِ مَا تَرَكُوا مِنْهُ، كَيْفَ وَهُمَ مَعْصُومُونَ مِنْ ذَلِكَ‏؟‏ ‏!‏ وَأَنْتَ تَرَى مَا فِي هَذَا الْقَوْلِ، فَإِنَّ الْقِرَاءَاتِ الْمَشْهُورَةَ الْيَوْمَ عَنِ السَّبْعَةِ وَالْعَشَرَةِ وَالثَّلَاثَةَ عَشْرَةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا كَانَ مَشْهُورًا فِي الْأَعْصَارِ الْأُوَلِ، قِلٌّ مَنْ كُثْرٍ وَنَزْرٌ مِنْ بَحْرٍ، فَإِنَّ مِنْ لَهُ اطِّلَاعٌ عَلَى ذَلِكَ يَعْرِفُ عِلْمَهُ الْعِلْمَ الْيَقِينَ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقُرَّاءَ الَّذِينَ أَخَذُوا عَنْ أُولَئِكَ الْأَئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ السَّبْعَةِ وَغَيْرِهِمْ كَانُوا أُمَمًا لَا تُحْصَى، وَطَوَائِفَ لَا تُسْتَقْصَى، وَالَّذِينَ أَخَذُوا عَنْهُمْ أَيْضًا أَكْثَرُ وَهَلُمَّ جَرَّا، فَلَمَّا كَانَتِ الْمِائَةُ الثَّالِثَةُ وَاتَّسَعَ الْخَرْقُ وَقَلَّ الضَّبْطُ وَكَانَ عِلْمُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَوْفَرَ مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ الْعَصْرِ تَصَدَّى بَعْضُ الْأَئِمَّةِ لِضَبْطِ مَا رَوَاهُ مِنَ الْقِرَاءَاتِ فَكَانَ أَوَّلَ إِمَامٍ مُعْتَبَرٍ جَمَعَ الْقِرَاءَاتِ فِي كِتَابٍ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ، وَجَعَلَهُمْ فِيمَا أَحْسَبُ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ قَارِئًا مَعَ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةِ، وَتُوُفِّيَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَكَانَ بَعْدَهُ أَحْمَدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْكُوفِيُّ نَزِيلُ أَنْطَاكِيَةَ جَمَعَ كِتَابًا فِي قِرَاءَاتِ الْخَمْسَةِ مِنْ كُلِّ مِصْرٍ وَاحِدٌ، وَتُوُفِّيَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَكَانَ بَعْدَهُ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْمَالِكِيُّ صَاحِبُ قَالُونَ أَلَّفَ كِتَابًا فِي الْقِرَاءَاتِ جَمَعَ فِيهِ قِرَاءَةَ عِشْرِينَ إِمَامًا، مِنْهُمْ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةُ تُوُفِّيَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَكَانَ بَعْدَهُ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ جَمَعَ كِتَابًا حَافِلًا سَمَّاهُ الْجَامِعَ فِيهِ نَيِّفٌ وَعِشْرُونَ قِرَاءَةً، تُوُفِّيَ سَنَةَ عَشْرٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَكَانَ بُعَيْدَهُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ الدَّاجُونِيُّ جَمَعَ كِتَابًا فِي الْقِرَاءَاتِ وَأَدْخَلَ مَعَهُمْ أَبَا جَعْفَرٍ أَحَدَ الْعَشْرَةِ، وَتُوُفِّيَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَكَانَ فِي أَثَرِهِ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُوسَى بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ مُجَاهِدٍ أَوَّلُ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى قِرَاءَاتِ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةِ فَقَطْ‏.‏ وَرَوَى فِيهِ عَنْ هَذَا الدَّاجُونِيُّ وَعَنِ ابْنِ جَرِيرٍ أَيْضًا، وَتُوُفِّيَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ‏.‏ وَقَامَ النَّاسُ فِي زَمَانِهِ وَبَعْدَهُ فَأَلَّفُوا فِي الْقِرَاءَاتِ أَنْوَاعَ التَّوَالِيفِ، كَأَبِي بَكْرٍ أَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ الشَّذَائِيِّ، تُوُفِّيَ سَنَةَ سَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَأَبِي بَكْرٍ أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مِهْرَانَ مُؤَلِّفِ كِتَابِ الشَّامِلِ وَالْغَايَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فِي قِرَاءَاتِ الْعَشَرَةِ، وَتُوُفِّيَ سَنَةَ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَالْإِمَامِ الْأُسْتَاذِ أَبِي الْفَضْلِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ الْخُزَاعِيِّ مُؤَلِّفِ الْمُنْتَهَى جَمَعَ فِيهِ مَا لَمْ يَجْمَعْهُ مَنْ قَبْلَهُ، وَتُوُفِّيَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ‏.‏

وَانْتُدِبَ النَّاسُ لِتَأْلِيفِ الْكُتُبِ فِي الْقِرَاءَاتِ بِحَسَبِ مَا وَصَلَ إِلَيْهِمْ وَصَحَّ لَدَيْهِمْ، كُلُّ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ بِالْأَنْدَلُسِ وَلَا بِبِلَادِ الْغَرْبِ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ إِلَى أَوَاخِرِ الْمِائَةِ الرَّابِعَةِ، فَرَحَلَ مِنْهُمْ مَنْ رَوَى الْقِرَاءَاتِ بِمِصْرَ وَدَخَلَ بِهَا، وَكَانَ أَبُو عُمَرَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الطَّلَمَنْكِيُّ مُؤَلِّفُ الرَّوْضَةِ أَوَّلَ مَنْ أَدْخَلَ الْقِرَاءَاتِ إِلَى الْأَنْدَلُسِ، وَتُوُفِّيَ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، ثُمَّ تَبِعَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ الْقَيْسِيُّ مُؤَلِّفُ التَّبْصِرَةِ وَالْكَشْفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَتُوُفِّيَ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، ثُمَّ الْحَافِظُ أَبُو عَمْرٍو عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّانِيُّ مُؤَلِّفُ التَّيْسِيرِ وَجَامِعِ الْبَيَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ تُوُفِّيَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَهَذَا كِتَابُ جَامِعِ الْبَيَانِ لَهُ فِي قِرَاءَاتِ السَّبْعَةِ فِيهِ عَنْهُمْ أَكْثَرُ مِنْ خَمْسمِائَةِ رِوَايَةٍ وَطَرِيقٍ، وَكَانَ بِدِمَشْقَ الْأُسْتَاذُ أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْأَهْوَازِيُّ مُؤَلِّفُ الْوَجِيزِ وَالْإِيجَازِ وَالْإِيضَاحِ وَالِاتِّضَاحِ، وَجَامِعِ الْمَشْهُورِ وَالشَّاذِّ وَمَنْ لَمْ يَلْحَقْهُ أَحَدٌ فِي هَذَا الشَّأْنِ، وَتُوُفِّيَ سَنَةَ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ‏.‏

وَفِي هَذِهِ الْحُدُودِ رَحَلَ مِنَ الْمَغْرِبِ أَبُو الْقَاسِمِ يُوسُفُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ جُبَارَةَ الْهُذَلِيُّ إِلَى الْمَشْرِقِ وَطَافَ الْبِلَادَ، وَرَوَى عَنْ أَئِمَّةِ الْقِرَاءَةِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَا وَرَاءَ النَّهْرِ وَقَرَأَ بِغَزْنَةَ وَغَيْرِهَا وَأَلَّفَ كِتَابَهُ الْكَامِلَ جَمَعَ فِيهِ خَمْسِينَ قِرَاءَةً عَنِ الْأَئِمَّةِ وَأَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَخَمْسِينَ رِوَايَةً وَطَرِيقًا، قَالَ فِيهِ‏:‏ فَجُمْلَةُ مَنْ لَقِيتُ فِي هَذَا الْعِلْمِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَخَمْسَةٌ وَسِتُّونَ شَيْخًا مِنْ آخِرِ الْمَغْرِبِ إِلَى بَابِ فَرْغَانَةَ يَمِينًا وَشِمَالًا وَجَبَلًا وَبَحْرًا، وَتُوُفِّيَ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ‏.‏

وَفِي هَذَا الْعَصْرِ كَانَ أَبُو مَعْشَرٍ عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ الطَّبَرِيُّ بِمَكَّةَ مُؤَلِّفُ كِتَابِ التَّلْخِيصِ فِي الْقِرَاءَاتِ الثَّمَانِ وَسُوقِ الْعَرُوسِ فِيهِ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ رِوَايَةً وَطَرِيقًا، وَتُوُفِّيَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَهَذَانَ الرَّجُلَانِ أَكْثَرُ مَنْ عَلِمْنَا جَمِيعًا فِي الْقِرَاءَاتِ، لَا نَعْلَمُ أَحَدًا بَعْدَهُمَا جَمَعَ أَكْثَرَ مِنْهُمَا إِلَّا أَبَا الْقَاسِمِ عِيسَى بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْإِسْكَنْدَرِيَّ، فَإِنَّهُ أَلَّفَ كِتَابًا سَمَّاهُ الْجَامِعَ الْأَكْبَرَ وَالْبَحْرَ الْأَزْخَرَ يَحْتَوِي عَلَى سَبْعَةِ آلَافِ رِوَايَةٍ وَطَرِيقٍ، وَتُوُفِّيَ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَلَا زَالَ النَّاسُ يُؤَلِّفُونَ فِي كَثِيرِ الْقِرَاءَاتِ وَقَلِيلِهَا وَيَرْوُونَ شَاذَّهَا وَصَحِيحَهَا بِحَسَبِ مَا وَصَلَ إِلَيْهِمْ، أَوْ صَحَّ لَدَيْهِمْ وَلَا يُنْكِرُ أَحَدٌ عَلَيْهِمْ، بَلْ هُمْ فِي ذَلِكَ مُتَّبِعُونَ سَبِيلَ السَّلَفِ حَيْثُ قَالُوا‏:‏ الْقِرَاءَةُ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ يَأْخُذُهَا الْآخِرُ عَنِ الْأَوَّلِ، وَمَا عَلِمْنَا أَحَدًا أَنْكَرَ شَيْئًا قَرَأَ بِهِ الْآخَرُ إِلَّا مَا قَدَّمْنَا عَنِ ابْنِ شَنَبُوذَ، لَكِنَّهُ خَرَجَ عَنِ الْمُصْحَفِ الْعُثْمَانِيِّ، وَلِلنَّاسِ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ كَمَا قَدَّمْنَاهُ وَكَذَا مَا أُنْكِرَ عَلَى ابْنِ مِقْسَمٍ مِنْ كَوْنِهِ أَجَازَ الْقِرَاءَةَ بِمَا وَافَقَ الْمُصْحَفَ مِنْ غَيْرِ أَثَرٍ كَمَا قَدَّمْنَا‏.‏ أَمَّا مَنْ قَرَأَ بِالْكَامِلِ لِلْهُذَلِيِّ، أَوْ سُوقِ الْعَرُوسِ لِلطَّبَرَيِّ، أَوْ إِقْنَاعِ الْأَهْوَازِيِّ، أَوْ كِفَايَةِ أَبِي الْعِزِّ، أَوْ مُبْهِجِ سِبْطِ الْخَيَّاطِ، أَوْ رَوْضَةِ الْمَالِكِيِّ، وَنَحْوِ ذَلِكَ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ ضَعِيفٍ وَشَاذٍّ عَنِ السَّبْعَةِ وَالْعَشَرَةِ وَغَيْرِهِمْ فَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا أَنْكَرَ ذَلِكَ، وَلَا زَعَمَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِشَيْءٍ مِنَ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ، بَلْ مَا زَالَتْ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ وَقُضَاةُ الْمُسْلِمِينَ يَكْتُبُونَ خُطُوطَهُمْ وَيُثْبِتُونَ شَهَادَتَهُمْ فِي إِجَازَاتِنَا بِمِثْلِ هَذِهِ الْكُتُبِ وَالْقِرَاءَاتِ‏.‏

‏[‏الْأَحْرُفُ السَّبْعَةُ غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ بِمَا فِي الشَّاطِبِيَّةِ وَالتَّيْسِيرِ وَغَيْرِهِمَا‏]‏

وَإِنَّمَا أَطَلْنَا هَذَا الْفَصْلَ لِمَا بَلَغَنَا عَنْ بَعْضِ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ أَنَّ الْقِرَاءَاتِ الصَّحِيحَةَ هِيَ الَّتِي عَنْ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةِ، أَوْ أَنَّ الْأَحْرُفَ السَّبْعَةَ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ قِرَاءَةُ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةِ، بَلْ غَلَبَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْجُهَّالِ أَنَّ الْقِرَاءَاتِ الصَّحِيحَةَ هِيَ الَّتِي فِي الشَّاطِبِيَّةِ وَالتَّيْسِيرِ وَأَنَّهَا هِيَ الْمُشَارُ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ‏:‏ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، حَتَّى أَنَّ بَعْضَهُمْ يُطْلِقُ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ فِي هَذَيْنَ الْكِتَابَيْنِ أَنَّهُ شَاذٌّ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يُطْلِقُ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ عَنْ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةِ شَاذًّا، وَرُبَّمَا كَانَ كَثِيرٌ مِمَّا لَمْ يَكُنْ فِي الشَّاطِبِيَّةِ وَالتَّيْسِيرِ وَعَنْ غَيْرِ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةِ أَصَحَّ مِنْ كَثِيرٍ مِمَّا فِيهِمَا، وَإِنَّمَا أَوْقَعَ هَؤُلَاءِ فِي الشُّبْهَةِ كَوْنُهُمْ سَمِعُوا‏:‏ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، وَسَمِعُوا قِرَاءَاتِ السَّبْعَةِ فَظَنُّوا أَنَّ هَذِهِ السَّبْعَةَ هِيَ تِلْكَ الْمُشَارُ إِلَيْهَا؛ وَلِذَلِكَ كَرِهَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ اقْتِصَارَ ابْنِ مُجَاهِدٍ عَلَى سَبْعَةٍ مِنَ الْقُرَّاءِ وَخَطَّئُوهُ فِي ذَلِكَ، وَقَالُوا‏:‏ أَلَا اقْتَصَرَ عَلَى دُونِ هَذَا الْعَدَدِ أَوْ زَادَهُ أَوْ بَيَّنَ مُرَادَهُ‏؟‏ لِيُخَلِّصَ مَنْ لَا يَعْلَمُ مِنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ‏.‏

قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عَمَّارٍ الْمَهْدَوِيُّ‏:‏ فَأَمَّا اقْتِصَارُ أَهْلِ الْأَمْصَارِ فِي الْأَغْلَبِ عَلَى نَافِعٍ وَابْنِ كَثِيرٍ وَأَبِي عَمْرٍو وَابْنِ عَامِرٍ وَعَاصِمٍ وَحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ، فَذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ اخْتِصَارًا وَاخْتِبَارًا، فَجَعَلَهُ عَامَّةُ النَّاسِ كَالْفَرْضِ الْمَحْتُومِ حَتَّى إِذَا سَمِعَ مَا يُخَالِفُهَا خَطَّأَ، أَوْ كَفَّرَ وَرُبَّمَا كَانَتْ أَظْهَرَ وَأَشْهَرَ، ثُمَّ اقْتَصَرَ مَنْ قَلَّتْ عِنَايَتُهُ عَلَى رَاوِيَيْنِ لِكُلِّ إِمَامٍ مِنْهُمْ، فَصَارَ إِذَا سَمِعَ قِرَاءَةَ رَاوٍ عَنْهُ غَيْرَهُمَا أَبْطَلَهَا وَرُبَّمَا كَانَتْ أَشْهَرَ، وَلَقَدْ فَعَلَ مُسَبِّعُ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةِ مَا لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ، وَأَشْكَلَ عَلَى الْعَامَّةِ حَتَّى جَهِلُوا مَا لَمْ يَسَعْهُمْ جَهْلُهُ وَأَوْهَمَ كُلَّ مَنْ قَلَّ نَظَرُهُ أَنَّ هَذِهِ هِيَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْخَبَرِ النَّبَوِيِّ لَا غَيْرَ وَأَكَّدَ وَهْمَ اللَّاحِقِ السَّابِقُ، وَلَيْتَهُ، إِذِ اقْتَصَرَ نَقَصَ عَنِ السَّبْعَةِ، أَوْ زَادَ لِيُزِيلَ هَذِهِ الشُّبْهَةَ‏.‏ وَقَالَ أَيْضًا‏:‏ الْقِرَاءَةُ الْمُسْتَعْمَلَةُ الَّتِي لَا يَجُوزُ رَدُّهَا مَا اجْتَمَعَ فِيهَا الثَّلَاثَةُ الشُّرُوطُ فَمَا جَمَعَ ذَلِكَ وَجَبَ قَبُولُهُ وَلَمْ يَسَعْ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ رَدُّهُ، سَوَاءٌ كَانَتْ عَنْ أَحَدِ الْأَئِمَّةِ السَّبْعَةِ الْمُقْتَصَرِ عَلَيْهِمْ فِي الْأَغْلَبِ أَوْ غَيْرِهِمْ‏.‏

قَالَ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ مَكِّيٌّ‏:‏ وَقَدْ ذَكَرَ النَّاسُ مِنَ الْأَئِمَّةِ فِي كُتُبِهِمْ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مِمَّنْ هُوَ أَعْلَى مَرْتَبَةً وَأَجَلَّ قَدْرًا مِنْ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةِ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ تَرَكَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي كُتُبِهِمْ فِي الْقِرَاءَاتِ ذِكْرَ بَعْضِ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةِ وَاطَّرَحَهُمْ‏.‏

فَقَدْ تَرَكَ أَبُو حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ ذِكْرَ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ وَابْنِ عَامِرٍ وَزَادَ نَحْوَ عِشْرِينَ رَجُلًا مِنَ الْأَئِمَّةِ مِمَّنْ هُوَ فَوْقَ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةِ، وَكَذَلِكَ زَادَ الطَّبَرَيُّ فِي كِتَابِ الْقِرَاءَاتِ لَهُ عَلَى هَؤُلَاءِ السَّبْعَةِ نَحْوَ خَمْسَةَ عَشَرَ رَجُلًا، وَكَذَلِكَ فَعَلَ أَبُو عُبَيْدٍ وَإِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةَ الْمُتَأَخِّرِينَ قِرَاءَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَحَدُ الْحُرُوفِ السَّبْعَةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا‏؟‏ هَذَا تَخَلُّفٌ عَظِيمٌ، أَكَانَ ذَلِكَ بِنَصٍّ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ كَيْفَ ذَلِكَ‏؟‏ وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ وَالْكِسَائِيُّ إِنَّمَا أُلْحِقَ بِالسَّبْعَةِ بِالْأَمْسِ فِي أَيَّامِ الْمَأْمُونِ وَغَيْرِهِ وَكَانَ السَّابِعُ يَعْقُوبَ الْحَضْرَمِيَّ فَأَثْبَتَ ابْنُ مُجَاهِدٍ فِي سَنَةَ ثَلَاثِمِائَةٍ أَوْ نَحْوِهَا الْكِسَائِيَّ فِي مَوْضِعِ يَعْقُوبَ، ثُمَّ أَطَالَ الْكَلَامَ فِي تَقْرِيرِ ذَلِكَ‏.‏

وَقَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ بَعْدَ أَنْ سَاقَ اعْتِقَادَهُ فِي الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ وَوُجُوهِ اخْتِلَافهَا، وَإِنَّ الْقُرَّاءَ السَّبْعَةَ وَنَظَائِرَهُمْ مِنَ الْأَئِمَّةِ مُتَّبِعُونَ فِي جَمِيعِ قِرَاءَتِهِمُ الثَّابِتَةِ عَنْهُمُ الَّتِي لَا شُذُوذَ فِيهَا‏.‏

وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْهُذَلِيُّ فِي كَامِلِهِ‏:‏ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ لَا تُكْثِرُوا مِنَ الرِّوَايَاتِ وَيُسَمِّيَ مَا لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ شَاذًّا؛ لِأَنَّ مَا مِنْ قِرَاءَةٍ قُرِئَتْ وَلَا رِوَايَةٍ رُوِيَتْ إِلَّا وَهِيَ صَحِيحَةٌ إِذَا وَافَقَتْ رَسْمَ الْإِمَامِ وَلَمْ تُخَالِفِ الْإِجْمَاعَ‏.‏

قُلْتُ‏:‏ وَقَدْ وَقَفْتُ عَلَى نَصِّ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرٍ الْعَرَبِيِّ فِي كِتَابِهِ الْقَبَسِ عَلَى جَوَازِ الْقِرَاءَةِ وَالْإِقْرَاءِ بِقِرَاءَةِ أَبِي جَعْفَرٍ وَشَيْبَةَ وَالْأَعْمَشِ وَغَيْرِهِمْ، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الشَّاذَّةِ، وَلَفْظُهُ‏:‏ وَلَيْسَتْ هَذِهِ الرِّوَايَاتُ بِأَصْلٍ لِلتَّعْيِينِ، رُبَّمَا خَرَجَ عَنْهَا مَا هُوَ مِثْلُهَا، أَوْ فَوْقَهَا كَحُرُوفِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَدَنِيِّ وَغَيْرِهِ‏.‏ وَكَذَلِكَ رَأَيْتُ نَصَّ الْإِمَامِ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ فِي آخِرِ كِتَابِ السِّيرَةِ، وَقَالَ الْإِمَامُ مُحْيِي السُّنَّةِ أَبُو مُحَمَّدٍ الْحُسَيْنُ بْنُ مَسْعُودٍ الْبَغَوِيُّ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِهِ‏:‏ ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ كَمَا أَنَّهُمْ مُتَعَبِّدُونَ بِاتِّبَاعِ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ وَحِفْظِ حُدُودِهِ، فَهُمْ مُتَعَبِّدُونَ بِتِلَاوَتِهِ وَحِفْظِ حُرُوفِهِ عَلَى سَنَنِ خَطِّ الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ الَّذِي اتَّفَقَتِ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ، وَأَنْ لَا يُجَاوِزُوا فِيمَا يُوَافِقُ الْخَطَّ عَمَّا قَرَأَ بِهِ الْقُرَّاءُ الْمَعْرُوفُونَ الَّذِينَ خَلَفُوا الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ وَاتَّفَقَتِ الْأُمَّةُ عَلَى اخْتِيَارِهِمْ، قَالَ‏:‏ وَقَدْ ذَكَرْتُ فِي هَذَا الْكِتَابِ قِرَاءَاتِ مَنِ اشْتَهَرَ مِنْهُمْ بِالْقِرَاءَةِ وَاخْتِيَارَاتِهِمْ عَلَى مَا قَرَأْتُهُ وَذَكَرَ إِسْنَادَهُ إِلَى ابْنِ مِهْرَانَ، ثُمَّ سَمَّاهُمْ فَقَالَ‏:‏ وَهُمْ أَبُو جَعْفَرٍ وَنَافِعٌ الْمَدَنِيَّانِ، وَابْنُ كَثِيرٍ الْمَكِّيُّ وَابْنُ عَامِرٍ الشَّامِيُّ وَأَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ وَيَعْقُوبُ الْحَضْرَمِيُّ الْبَصْرِيَّانِ، وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ الْكُوفِيُّونَ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ فَذَكَرْتُ قِرَاءَةَ هَؤُلَاءِ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى جَوَازِ الْقِرَاءَةِ بِهَا‏.‏

وَقَالَ الْإِمَامُ الْكَبِيرُ الْحَافِظُ الْمُجْمَعُ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَبُو الْعَلَاءِ الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ الْهَمَذَانِيُّ فِي أَوَّلِ غَايَتِهِ‏:‏ أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فِي اخْتِلَافِ الْقُرَّاءِ الْعَشَرَةِ الَّذِينَ اقْتَدَى النَّاسُ بِقِرَاءَتِهِمْ وَتَمَسَّكُوا فِيهَا بِمَذَاهِبِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالشَّامِ وَالْعِرَاقِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْقُرَّاءَ الْعَشَرَةَ الْمَعْرُوفِينَ، وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَمُفْتِي الْأَنَامِ الْعَلَّامَةُ أَبُو عَمْرٍو عُثْمَانُ بْنُ الصَّلَاحِ- رَحِمَهُ اللَّهُ- مِنْ جُمْلَةِ جَوَابِ فَتْوَى وَرَدَتْ عَلَيْهِ مِنْ بِلَادِ الْعَجَمِ ذَكَرَهَا الْعَلَّامَةُ أَبُو شَامَةَ فِي كِتَابِهِ الْمُرْشِدِ الْوَجِيزِ، أَشَرْنَا إِلَيْهَا فِي كِتَابِنَا الْمُنْجِدِ‏:‏ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْرُوءُ بِهِ قَدْ تَوَاتَرَ نَقْلُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرْآنًا وَاسْتَفَاضَ نَقْلُهُ كَذَلِكَ وَتَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ كَهَذِهِ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعِ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي ذَلِكَ الْيَقِينُ وَالْقَطْعُ عَلَى مَا تَقَرَّرَ وَتَمَهَّدَ فِي الْأُصُولِ، فَمَا لَمْ يُوجَدْ فِيهِ ذَلِكَ كَمَا عَدَا السَّبْعَ أَوْ كَمَا عَدَا الْعَشْرَ فَمَمْنُوعٌ مِنَ الْقِرَاءَةِ بِهِ مَنْعَ تَحْرِيمٍ لَا مَنْعَ كَرَاهَةٍ، انْتَهَى‏.‏

وَلِمَا قَدِمَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ الْوَاسِطِيُّ دِمَشْقَ فِي حُدُودِ سَنَةِ ثَلَاثِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ وَأَقْرَأَ بِهَا لِلْعِشْرَةِ بِمُضَمَّنِ كِتَابَيْهِ الْكَنْزِ وَالْكِفَايَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، بَلَغَنَا أَنَّ بَعْضَ مُقْرِئِي دِمَشْقَ مِمَّنْ كَانَ لَا يَعْرِفُ سِوَى الشَّاطِبِيَّةِ وَالتَّيْسِيرِ حَسَدَهُ وَقَصَدَ مَنْعَهُ مِنْ بَعْضِ الْقُضَاةِ، فَكَتَبَ عُلَمَاءُ ذَلِكَ الْعَصْرِ فِي ذَلِكَ وَأَئِمَّتُهُ وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي جَوَازِ ذَلِكَ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ قِرَاءَاتِ هَؤُلَاءِ الْعَشْرِ وَاحِدَةٌ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي إِطْلَاقِ الشَّاذِّ عَلَى مَا عَدَا هَؤُلَاءِ الْعَشَرَةَ وَتَوَقَّفَ بَعْضُهُمْ وَالصَّوَابُ أَنَّ مَا دَخَلَ فِي تِلْكَ الْأَرْكَانِ الثَّلَاثَةِ فَهُوَ صَحِيحٌ، وَمَا لَا فَعَلَى مَا تَقَدَّمَ‏.‏

وَكَانَ مِنْ جَوَابِ الشَّيْخِ الْإِمَامِ مُجْتَهِدِ ذَلِكَ الْعَصْرِ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ تَيْمِيَّةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ-‏:‏ لَا نِزَاعَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتَبَرِينَ أَنَّ الْأَحْرُفَ السَّبْعَةَ الَّتِي ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَيْهَا لَيْسَتْ قِرَاءَاتِ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ الْمَشْهُورَةَ، بَلْ أَوَّلُ مَنْ جَمَعَ ذَلِكَ ابْنُ مُجَاهِدٍ؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ مُوَافِقًا لِعَدَدِ الْحُرُوفِ الَّتِي أُنْزِلَ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ، لَا لِاعْتِقَادِهِ وَاعْتِقَادِ غَيْرِهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعَ هِيَ الْحُرُوفُ السَّبْعَةُ، أَوْ أَنَّ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةَ الْمُعَيَّنِينَ هُمُ الَّذِينَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقْرَأَ بِغَيْرِ قِرَاءَتِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ مَنْ قَالَ مِنْ أَئِمَّةِ الْقُرَّاءِ‏:‏ لَوْلَا أَنَّ ابْنَ مُجَاهِدٍ سَبَقَنِي إِلَى حَمْزَةَ لَجَعَلْتُ مَكَانَهُ يَعْقُوبَ الْحَضْرَمِيَّ إِمَامَ جَامِعِ الْبَصْرَةِ وَإِمَامَ قُرَّاءِ الْبَصْرَةِ فِي زَمَانِهِ وَفِي رَأْسِ الْمِائَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ- أَعْنِي ابْنَ تَيْمِيَّةَ-‏:‏ وَلِذَلِكَ لَمْ يَتَنَازَعْ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ الْمُتَّبِعُونَ مِنَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فِي أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يُقْرَأَ بِهَذِهِ الْقِرَاءَاتِ الْمُعَيَّنَةِ فِي جَمِيعِ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ مَنْ ثَبَتَتْ عِنْدَهُ قِرَاءَةُ الْأَعْمَشِ شَيْخِ حَمْزَةَ، أَوْ قِرَاءَةُ يَعْقُوبَ الْحَضْرَمِيِّ وَنَحْوِهِمَا، كَمَا ثَبَتَتْ عِنْدَهُ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ فَلَهُ أَنْ يَقْرَأَ بِهَا بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتَبَرِينَ مِنْ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ وَالْخِلَافِ، بَلْ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ أَدْرَكُوا قِرَاءَةَ حَمْزَةَ‏:‏ كَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَبِشْرِ بْنِ الْحَارِثِ وَغَيْرِهِمْ يَخْتَارُونَ قِرَاءَةَ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ الْقَعْقَاعِ وَشَيْبَةَ بْنِ نِصَاحٍ الْمَدَنِيَّيْنِ، وَقِرَاءَةَ الْبَصْرِيِّينَ كَشُيُوخِ يَعْقُوبَ وَغَيْرِهِمْ عَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ، وَلِلْعُلَمَاءِ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ مِنَ الْكَلَامِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، وَلِهَذَا كَانَ أَئِمَّةُ أَهْلِ الْعِرَاقِ الَّذِينَ ثَبَتَتْ عِنْدَهُمْ قِرَاءَاتُ الْعَشَرَةِ وَالْأَحَدَ عَشَرَ كَثُبُوتِ هَذِهِ السَّبْعَةِ يَجْمَعُونَ فِي ذَلِكَ الْكُتُبَ وَيَقْرَءُونَهُ فِي الصَّلَاةِ وَخَارِجَ الصَّلَاةِ وَذَلِكَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ لَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ‏.‏

وَأَمَّا الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَمَنْ نَقَلَ كَلَامَهُ مِنَ الْإِنْكَارِ عَلَى ابْنِ شَنَبُوذَ الَّذِي كَانَ يَقْرَأُ بِالشَّوَاذِّ فِي الصَّلَاةِ فِي أَثْنَاءِ الْمِائَةِ الرَّابِعَةِ وَجَرَتْ لَهُ قِصَّةٌ مَشْهُورَةٌ، فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي الْقِرَاءَاتِ الشَّاذَّةِ الْخَارِجَةِ عَنِ الْمُصْحَفِ وَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ قِرَاءَةَ الْعَشَرَةِ، وَلَكِنْ مَنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهَا، أَوْ لَمْ تَثْبُتْ عِنْدَهُ كَمَنْ يَكُونُ فِي بَلَدٍ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ بِالْمَغْرِبِ، أَوْ غَيْرِهِ لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ بَعْضُ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْرَأَ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ، فَإِنَّ الْقِرَاءَةَ كَمَا قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ سُنَّةٌ يَأْخُذُهَا الْآخِرُ عَنِ الْأَوَّلِ، كَمَا أَنَّ مَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنْوَاعِ الِاسْتِفْتَاحَاتِ فِي الصَّلَاةِ وَمِنْ أَنْوَاعِ صِفَةِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، وَصِفَةِ صَلَاةِ الْخَوْفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كُلُّهُ حَسُنٌ يُشْرَعُ الْعَمَلُ بِهِ لِمَنْ عَلِمَهُ، وَأَمَّا مَنْ عَلِمَ نَوْعًا وَلَمْ يَعْلَمْ بِغَيْرِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْدِلَ عَمَّا عَلِمَهُ إِلَى مَا لَمْ يَعْلَمْ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى مَنْ عَلِمَ مَا لَمْ يَعْلَمْهُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَنْ يُخَالِفَهُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ لَا تَخْتَلِفُوا؛ فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ اخْتَلَفُوا فَهَلَكُوا، ثُمَّ بَسَطَ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ فَتَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الْقِرَاءَاتِ الْمَنْسُوبَةَ إِلَى نَافِعٍ وَعَاصِمٍ لَيْسَتْ هِيَ الْأَحْرُفَ السَّبْعَةَ الَّتِي أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهَا وَذَلِكَ بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَكَذَلِكَ لَيْسَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَاتُ السَّبْعُ هِيَ مَجْمُوعَ حَرْفٍ وَاحِدٍ مِنَ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ الَّتِي أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهَا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتَبَرِينَ، بَلِ الْقِرَاءَاتُ الثَّابِتَةُ عَنِ الْأَئِمَّةِ الْقُرَّاءِ‏:‏ كَالْأَعْمَشِ وَيَعْقُوبَ وَخَلَفٍ وَأَبِي جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةَ وَنَحْوِهِمْ هِيَ بِمَنْزِلَةِ الْقِرَاءَاتِ الثَّابِتَةِ عَنْ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةِ عِنْدَ مَنْ يَثْبُتُ ذَلِكَ عِنْدَهُ، وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا لَمْ يَتَنَازَعْ فِيهِ الْأَئِمَّةُ الْمُتَّبَعُونَ مِنْ أَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ وَالْقُرَّاءِ وَغَيْرِهِمْ، وَإِنَّمَا تَنَازَعَ النَّاسُ مِنَ الْخَلَفِ فِي الْمُصْحَفِ الْعُثْمَانِيِّ الْإِمَامِ الَّذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ وَالْأُمَّةُ بَعْدَهُمْ هَلْ هُوَ بِمَا فِيهِ مِنْ قِرَاءَةِ السَّبْعَةِ وَتَمَامِ الْعَشْرَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ حَرْفٌ مِنَ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ الَّتِي أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهَا أَوْ هُوَ مَجْمُوعُ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ‏؟‏ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ، وَالْأَوَّلُ قَوْلُ أَئِمَّةِ السَّلَفِ وَالْعُلَمَاءِ وَالثَّانِي قَوْلُ طَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْقُرَّاءِ وَغَيْرِهِمْ، ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ جَوَابِهِ‏:‏ وَتَجُوزُ الْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَاةِ وَخَارِجِهَا بِالْقِرَاءَاتِ الثَّابِتَةِ الْمُوَافِقَةِ لِرَسْمِ الْمُصْحَفِ كَمَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَاتُ وَلَيْسَتْ شَاذَّةً حِينَئِذٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

وَكَانَ مِنْ جَوَابِ الْإِمَامِ الْحَافِظِ أُسْتَاذِ الْمُفَسِّرِينَ أَبِي حَيَّانَ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ حَيَّانَ الْجَيَّانِيِّ الْأَنْدَلُسِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ-، وَمِنْ خَطِّهِ نَقَلْتُ‏:‏ قَدْ ثَبَتَ لَنَا بِالنَّقْلِ الصَّحِيحِ أَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ شَيْخُ نَافِعٍ، وَأَنَّ نَافِعًا قَرَأَ عَلَيْهِ، وَكَانَ أَبُو جَعْفَرٍ مِنْ سَادَاتِ التَّابِعِينَ وَهُمَا بِمَدِينَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَيْثُ كَانَ الْعُلَمَاءُ مُتَوَافِرِينَ وَأَخَذَ قِرَاءَتَهُ عَنِ الصَّحَابَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ تَرْجُمَانِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ وَلَمْ يَكُنْ مَنْ هُوَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ لِيَقْرَأَ كِتَابَ اللَّهِ بِشَيْءٍ مُحَرَّمٍ عَلَيْهِ، وَكَيْفَ وَقَدْ تَلَقَّفَ ذَلِكَ فِي مَدِينَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَحَابَتِهِ غَضًّا رَطْبًا قَبْلَ أَنْ تَطُولَ الْأَسَانِيدُ وَتَدْخُلَ فِيهَا النَّقَلَةُ غَيْرُ الضَّابِطِينَ، وَهَذَا وَهُمْ عَرَبٌ آمِنُونَ مِنَ اللَّحْنِ، وَأَنَّ يَعْقُوبَ كَانَ إِمَامَ الْجَامِعِ بِالْبَصْرَةِ يَؤُمُّ بِالنَّاسِ، وَالْبَصْرَةُ إِذْ ذَاكَ مَلْأَى مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ قِرَاءَتِهِ وَيَعْقُوبُ تِلْمِيذُ سَلَّامٍ الطَّوِيلِ وَسَلَّامٌ تِلْمِيذُ أَبِي عَمْرٍو وَعَاصِمٍ، فَهُوَ مِنْ جِهَةِ أَبِي عَمْرٍو كَأَنَّهُ مِثْلُ الدُّورِيِّ الَّذِي رَوَى عَنِ الْيَزِيدِيِّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَمِنْ جِهَةِ عَاصِمٍ كَأَنَّهُ مِثْلُ الْعُلَيْمِيِّ، أَوْ يَحْيَى اللَّذَيْنِ رَوَيَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَقَرَأَ يَعْقُوبُ أَيْضًا عَلَى غَيْرِ سَلَّامٍ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ وَهَلْ هَذِهِ الْمُخْتَصَرَاتُ الَّتِي بِأَيْدِي النَّاسِ الْيَوْمَ كَالتَّيْسِيرِ وَالتَّبْصِرَةِ وَالْعُنْوَانِ وَالشَّاطِبِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِمَا اشْتَهَرَ مِنْ قِرَاءَاتِ الْأَئِمَّةِ السَّبْعَةِ إِلَّا نَزْرٌ مِنْ كُثْرٍ، وَقَطْرَةٌ مِنْ قَطْرٍ، وَيَنْشَأُ الْفَقِيهُ الْفُرُوعِيُّ فَلَا يَرَى إِلَّا مِثْلَ الشَّاطِبِيَّةِ وَالْعُنْوَانِ فَيَعْتَقِدُ أَنَّ السَّبْعَةَ مَحْصُورَةٌ فِي هَذَا فَقَطْ، وَمَنْ كَانَ لَهُ اطِّلَاعٌ عَلَى هَذَا الْفَنِّ رَأَى أَنَّ هَذَيْنِ الْكِتَابَيْنِ وَنَحْوَهُمَا مِنَ السَّبْعَةِ كَثَغْبَةٍ مِنْ دَأْمَاءَ وَتُرْبَةٍ فِي بَهْمَاءَ هَذَا أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ الْإِمَامُ الَّذِي يَقْرَأُ أَهْلُ الشَّامِ وَمِصْرَ بِقِرَاءَتِهِ اشْتَهَرَ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْكُتُبِ الْمُخْتَصَرَةِ الْيَزِيدِيُّ وَعَنْهُ رَجُلَانِ الدُّورِيُّ وَالسُّوسِيُّ‏.‏

وَعِنْدَ أَهْلِ النَّقْلِ اشْتَهَرَ عَنْهُ سَبْعَةَ عَشَرَ رَاوِيًا‏:‏ الْيَزِيدِيُّ وَشُجَاعٌ وَعَبْدُ الْوَارِثِ وَالْعَبَّاسُ بْنُ الْفَضْلِ وَسَعِيدُ بْنُ أَوْسٍ وَهَارُونُ الْأَعْوَرُ وَالْخِفَافُ وَعُبَيْدُ بْنُ عَقِيلٍ وَحُسَيْنٌ الْجُعْفِيُّ وَيُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ وَاللُّؤْلُؤِيُّ وَمَحْبُوبٌ وَخَارِجَةُ وَالْجَهْضَمِيُّ وَعِصْمَةُ وَالْأَصْمَعِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ الرُّؤَاسِيُّ، فَكَيْفَ تُقْصَرُ قِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو عَلَى الْيَزِيدِيِّ، وَيُلْغَى مَنْ سِوَاهُ مِنَ الرُّوَاةِ عَلَى كَثْرَتِهِمْ وَضَبْطِهِمْ وَدِرَايَتِهِمْ وَثِقَتِهِمْ، وَرُبَّمَا يَكُونُ فِيهِمْ مَنْ هُوَ أَوْثَقُ وَأَعْلَمُ مِنَ الْيَزِيدِيِّ‏؟‏

وَنَنْتَقِلُ إِلَى الْيَزِيدِيِّ فَنَقُولُ‏:‏ اشْتَهَرَ مِمَّنْ رَوَى عَنِ الْيَزِيدِيِّ‏:‏ الدُّورِيُّ وَالسُّوسِيُّ وَأَبُو حَمْدَانَ وَمُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ جُبَيْرٍ وَأُوقِيَّةُ أَبُو الْفَتْحِ وَأَبُو خَلَّادٍ وَجَعْفَرُ بْنُ حَمْدَانَ سَجَّادَةُ وَابْنُ سَعْدَانَ وَأَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْيَزِيدِيِّ وَأَبُو الْحَارِثِ اللَّيْثُ بْنُ خَالِدٍ، فَهَؤُلَاءِ عَشَرَةٌ فَكَيْفَ يُقْتَصَرُ عَلَى أَبِي شُعَيْبٍ وَالدُّورِيِّ وَيُلْغَى بَقِيَّةُ هَؤُلَاءِ الرُّوَاةِ الَّذِينَ شَارَكُوهُمَا فِي الْيَزِيدِيِّ، وَرُبَّمَا فِيهِمْ مَنْ هُوَ أَضْبَطُ مِنْهُمَا وَأَوْثَقُ‏؟‏

وَنَنْتَقِلُ إِلَى الدُّورِيِّ فَنَقُولُ‏:‏ اشْتَهَرَ مِمَّنْ رَوَى عَنْهُ ابْنُ فَرَحٍ وَابْنُ بَشَّارٍ وَأَبُو الزَّعْرَاءِ وَابْنُ مَسْعُودٍ السَّرَّاجُ‏:‏ وَالْكَاغِدِيُّ وَابْنُ بَرْزَةَ وَأَحْمَدُ بْنُ حَرْبٍ الْمُعَدَّلُ‏.‏

وَنَنْتَقِلُ إِلَى ابْنِ فَرَحٍ فَنَقُولُ‏:‏ رَوَى عَنْهُ مِمَّا اشْتَهَرَ‏:‏ زَيْدُ بْنُ أَبِي بِلَالٍ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ وَأَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ مُحَيْرِيزٍ وَأَبُو مُحَمَّدٍ الْقَطَّانُ وَالْمُطَّوِّعِيُّ، وَهَكَذَا نُنْزِلُ هَؤُلَاءِ الْقُرَّاءَ طَبَقَةً طَبَقَةً إِلَى زَمَانِنَا هَذَا فَكَيْفَ، وَهَذَا نَافِعٌ الْإِمَامُ الَّذِي يَقْرَأُ أَهْلُ الْمَغْرِبِ بِقِرَاءَتِهِ اشْتَهَرَ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْكُتُبِ الْمُخْتَصَرَةِ وَرْشٌ وَقَالُونُ، وَعِنْدَ أَهْلِ النَّقْلِ اشْتَهَرَ عَنْهُ تِسْعَةُ رِجَالٍ‏:‏ وَرْشٌ وَقَالُونُ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ وَأَبُو خُلَيْدٍ وَابْنُ جَمَّازٍ وَخَارِجَةُ وَالْأَصْمَعِيُّ وَكَرْدَمٌ وَالْمُسَيَّبِيُّ‏.‏

وَهَكَذَا كُلُّ إِمَامٍ مِنْ بَاقِي السَّبْعَةِ قَدِ اشْتَهَرَ عَنْهُ رُوَاةٌ غَيْرُ مَا فِي هَذِهِ الْمُخْتَصَرَاتِ، فَكَيْفَ يُلْغَى نَقْلُهُمْ وَيُقْتَصَرُ عَلَى اثْنَيْنِ‏؟‏ وَأَيُّ مَزِيَّةٍ وَشَرَفٍ لِذَيْنِكَ الِاثْنَيْنِ عَلَى رُفَقَائِهِمَا وَكُلُّهُمْ أَخَذُوا عَنْ شَيْخٍ وَاحِدٍ وَكُلُّهُمْ ضَابِطُونَ ثِقَاتٌ‏؟‏ وَأَيْضًا فَقَدْ كَانَ فِي زَمَانِ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةِ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ النَّاقِلِينَ الْقِرَاءَاتِ عَالَمٌ لَا يُحْصَوْنَ، وَإِنَّمَا جَاءَ مُقْرِئٌ اخْتَارَ هَؤُلَاءِ وَسَمَّاهُمْ، وَلِكَسَلِ بَعْضِ النَّاسِ وَقِصَرِ الْهِمَمِ ‏,‏ وَإِرَادَةِ اللَّهِ أَنْ يَنْقُصَ الْعِلْمُ اقْتَصَرُوا عَلَى السَّبْعَةِ، ثُمَّ اقْتَصَرُوا مِنَ السَّبْعَةِ عَلَى نَزْرٍ يَسِيرٍ مِنْهَا‏.‏ انْتَهَى‏.‏

وَقَالَ الْإِمَامُ مُؤَرِّخُ الْإِسْلَامِ وَحَافِظُ الشَّامِ وَشَيْخُ الْمُحَدِّثِينَ وَالْقُرَّاءِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الذَّهَبِيُّ فِي تَرْجَمَةِ ابْنِ شَنَبُوذَ مِنْ طَبَقَاتِ الْقُرَّاءِ لَهُ‏:‏ إِنَّهُ كَانَ يَرَى جَوَازَ الْقِرَاءَةِ بِالشَّاذِّ وَهُوَ مَا خَالَفَ رَسْمَ الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ مَعَ أَنَّ الْخِلَافَ فِي جَوَازِ ذَلِكَ مَعْرُوفٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا وَمَا رَأَيْنَا أَحَدًا أَنْكَرَ الْإِقْرَاءَ بِمِثْلِ قِرَاءَةِ يَعْقُوبَ وَأَبِي جَعْفَرٍ، وَإِنَّمَا أَنْكَرَ مَنْ أَنْكَرَ الْقِرَاءَةَ بِمَا لَيْسَ بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ‏.‏

وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ صَاحِبُ التَّيْسِيرِ فِي طَبَقَاتِهِ‏:‏ وَائْتَمَّ بِيَعْقُوبَ فِي اخْتِيَارِهِ عَامَّةُ الْبَصْرِيِّينَ بَعْدَ أَبِي عَمْرٍو، فَهُمْ أَوْ أَكْثَرُهُمْ عَلَى مَذْهَبِهِ، قَالَ‏:‏ وَقَدْ سَمِعْتُ طَاهِرَ بْنَ غَلْبُونَ يَقُولُ‏:‏ إِمَامُ الْجَامِعِ بِالْبَصْرَةِ لَا يَقْرَأُ إِلَّا بِقِرَاءَةِ يَعْقُوبَ‏.‏

وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَشْتَةَ الْأَصْبَهَانِيُّ وَعَلَى قِرَاءَةِ يَعْقُوبَ إِلَى هَذَا الْوَقْتِ أَئِمَّةُ الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ بِالْبَصْرَةِ، وَكَذَلِكَ أَدْرَكْنَاهُمْ‏.‏

وَقَالَ الْإِمَامُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْفَضْلِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَحْمَدَ الرَّازِيُّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الشُّبْهَةَ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا وَقَعَ بَعْضُ الْعَوَامِّ الْأَغْبِيَاءِ فِي أَنَّ أَحْرُفَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ السَّبْعَةِ هِيَ الْمُشَارُ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ‏:‏ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، وَأَنَّ النَّاسَ إِنَّمَا ثَمَّنُوا الْقِرَاءَاتِ وَعَشَّرُوهَا وَزَادُوا عَلَى عَدَدِ السَّبْعَةِ الَّذِينَ اقْتَصَرَ عَلَيْهِمُ ابْنُ مُجَاهِدٍ لِأَجْلِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ وَإِنِّي لَمْ أَقْتَفِ أَثَرَهُمْ تَثْمِينًا فِي التَّصْنِيفِ، أَوْ تَعْشِيرًا، أَوْ تَفْرِيدًا إِلَّا لِإِزَالَةِ مَا ذَكَرْتُهُ مِنَ الشُّبْهَةِ، وَلِيُعْلَمَ أَنْ لَيْسَ الْمُرَاعَى فِي الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ الْمُنَزَّلَةِ عَدَدًا مِنَ الرِّجَالِ دُونَ آخَرِينَ وَلَا الْأَزْمِنَةَ وَلَا الْأَمْكِنَةَ، وَأَنَّهُ لَوِ اجْتَمَعَ عَدَدٌ لَا يُحْصَى مِنَ الْأُمَّةِ فَاخْتَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حُرُوفًا بِخِلَافِ صَاحِبِهِ وَجَرَّدَ طَرِيقًا فِي الْقِرَاءَةِ عَلَى حِدَةٍ فِي أَيِّ مَكَانٍ كَانَ وَفِي أَيِّ أَوَانٍ أَرَادَ بَعْدَ الْأَئِمَّةِ الْمَاضِينَ فِي ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ كَانَ ذَلِكَ الْمُخْتَارُ بِمَا اخْتَارَهُ مِنَ الْحُرُوفِ بِشَرْطِ الِاخْتِيَارِ، لَمَا كَانَ بِذَلِكَ خَارِجًا عَنِ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ الْمُنَزَّلَةِ، بَلْ فِيهَا مُتَّسَعٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ‏.‏

وَقَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْوَلِيُّ مُوَفَّقُ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ الْكَوَاشِيُّ الْمَوْصِلِيُّ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِهِ التَّبْصِرَةِ‏:‏ وَكُلُّ مَا صَحَّ سَنَدُهُ وَاسْتَقَامَ وَجْهُهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَوَافَقَ لَفْظُهُ خَطَّ الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ فَهُوَ مِنَ السَّبْعَةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا وَلَوْ رَوَاهُ سَبْعُونَ أَلْفًا مُجْتَمِعِينَ، أَوْ مُتَفَرِّقِينَ فَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ بُنِيَ قَبُولُ الْقِرَاءَاتِ عَنْ سَبْعَةٍ كَانُوا أَوْ سَبْعَةِ آلَافٍ، وَمَتَى فُقِدَ وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقِرَاءَةِ فَاحْكُمْ بِأَنَّهَا شَاذَّةٌ‏.‏ انْتَهَى‏.‏

وَقَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ شَيْخُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمُحَقِّقُ لِلْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْكَافِي السُّبْكِيُّ فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ‏:‏ فَرْعٌ قَالُوا- يَعْنِي أَصْحَابَنَا الْفُقَهَاءَ-‏:‏ تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا بِالْقِرَاءَاتِ السَّبْعِ وَلَا تَجُوزُ بِالشَّاذَّةِ‏.‏ وَظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ يُوهِمُ أَنَّ غَيْرَ السَّبْعِ الْمَشْهُورَةِ مِنَ الشَّوَاذِّ، وَقَدْ نَقَلَ الْبَغَوِيُّ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِهِ الِاتِّفَاقَ عَلَى الْقِرَاءَةِ بِقِرَاءَةِ يَعْقُوبَ وَأَبِي جَعْفَرٍ مَعَ السَّبْعِ الْمَشْهُورَةِ، قَالَ‏:‏ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ‏.‏ وَاعْلَمْ أَنَّ الْخَارِجَ عَنِ السَّبْعَةِ الْمَشْهُورَةِ عَلَى قِسْمَيْنِ‏:‏ مِنْهُ مَا يُخَالِفُ رَسْمَ الْمُصْحَفِ، فَهَذَا لَا شَكَّ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قِرَاءَتُهُ لَا فِي الصَّلَاةِ وَلَا فِي غَيْرِهَا، وَمِنْهُ مَا لَا يُخَالِفُ رَسْمَ الْمُصْحَفِ وَلَمْ تَشْتَهِرِ الْقِرَاءَةُ بِهِ، وَإِنَّمَا وَرَدَ مِنْ طَرِيقٍ غَرِيبَةٍ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهَا، وَهَذَا يُظْهِرُ الْمَنْعَ مِنَ الْقِرَاءَةِ بِهِ أَيْضًا، وَمِنْهُ مَا اشْتَهَرَ عِنْدَ أَئِمَّةِ هَذَا الشَّأْنِ الْقِرَاءَةُ بِهِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، فَهَذَا لَا وَجْهَ لِلْمَنْعِ مِنْهُ وَمِنْ ذَلِكَ قِرَاءَةُ يَعْقُوبَ وَغَيْرِهِ، قَالَ‏:‏ وَالْبَغَوِيُّ أَوْلَى مَنْ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ مُقْرِئٌ فَقِيهٌ جَامِعٌ لِلْعُلُومِ، قَالَ‏:‏ وَهَكَذَا التَّفْصِيلُ فِي شَوَاذَّ السَّبْعَةِ، فَإِنَّ عَنْهُمْ شَيْئًا كَثِيرًا شَاذًّا‏.‏ انْتَهَى‏.‏

وَسُئِلَ وَلَدُهُ الْعَلَّامَةُ قَاضِي الْقُضَاةِ أَبُو نَصْرٍ عَبْدُ الْوَهَّابِ- رَحِمَهُ اللَّهُ- عَنْ قَوْلِهِ فِي كِتَابِ جَمْعِ الْجَوَامِعِ فِي الْأُصُولِ‏:‏ وَالسَّبْعُ مُتَوَاتِرَةٌ مَعَ قَوْلِهِ وَالصَّحِيحُ أَنَّ مَا وَرَاءَ الْعَشَرَةِ فَهُوَ شَاذٌّ‏:‏ إِذَا كَانَتِ الْعَشْرُ مُتَوَاتِرَةً فَلِمَ لَا قُلْتُمْ وَالْعَشَرُ مُتَوَاتِرَةٌ بَدَلَ قَوْلِكُمْ وَالسَّبْعُ‏؟‏ فَأَجَابَ‏:‏ أَمَّا كَوْنُنَا لَمْ نَذْكُرِ الْعَشْرَ بَدَلَ السَّبْعِ مَعَ ادِّعَائِنَا تَوَاتُرَهَا فَلِأَنَّ السَّبْعَ لَمْ يُخْتَلَفْ فِي تَوَاتُرِهَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَوَّلًا مَوْضِعَ الْإِجْمَاعِ، ثُمَّ عَطَفْنَا عَلَيْهِ مَوْضِعَ الْخِلَافِ، عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْقِرَاءَاتِ الثَّلَاثَ غَيْرُ مُتَوَاتِرَةٍ فِي غَايَةِ السُّقُوطِ وَلَا يَصِحُّ الْقَوْلُ بِهِ عَمَّنْ يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ فِي الدِّينِ وَهِيَ- أَعْنِي الْقِرَاءَاتِ الثَّلَاثَ-‏:‏ قِرَاءَةُ يَعْقُوبَ وَخَلَفٍ وَأَبِي جَعْفَرِ بْنِ الْقَعْقَاعِ، لَا تُخَالِفُ رَسْمَ الْمُصْحَفِ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ الشَّيْخَ الْإِمَامَ يَعْنِي وَالِدَهُ الْمَذْكُورَ يُشَدِّدُ النَّكِيرَ عَلَى بَعْضِ الْقُضَاةِ، وَقَدْ بَلَغَهُ عَنْهُ أَنَّهُ مَنَعَ مِنَ الْقِرَاءَةِ بِهَا وَاسْتَأْذَنَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا مَرَّةً فِي إِقْرَاءِ السَّبْعِ فَقَالَ‏:‏ أَذِنْتُ لَكَ أَنْ تُقْرِئَ الْعَشْرَ‏.‏ انْتَهَى نَقَلْتُهُ مِنْ كِتَابِهِ مَنْعِ الْمَوَانِعِ عَلَى سُؤَالَاتِ جَمْعِ الْجَوَامِعِ، وَقَدْ جَرَى بَيْنِي وَبَيْنَهُ فِي ذَلِكَ كَلَامٌ كَثِيرٌ وَقُلْتُ لَهُ‏:‏ يَنْبَغِي أَنْ تَقُولَ وَالْعَشْرُ مُتَوَاتِرَةٌ وَلَا بُدَّ، فَقَالَ‏:‏ أَرَدْنَا التَّنْبِيهَ عَلَى الْخِلَافِ فَقُلْتُ‏:‏ وَأَيْنَ الْخِلَافُ، وَأَيْنَ الْقَائِلُ بِهِ‏؟‏ وَمَنْ قَالَ‏:‏ إِنَّ قِرَاءَةَ أَبِي جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبَ وَخَلَفٍ غَيْرُ مُتَوَاتِرَةٍ، فَقَالَ‏:‏ يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ الْحَاجِبِ وَالسَّبْعُ مُتَوَاتِرَةٌ‏.‏ فَقُلْتُ‏:‏ أَيُّ سَبْعٍ وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةُ مَعَ أَنَّ كَلَامَ ابْنِ الْحَاجِبِ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَقِرَاءَةُ خَلَفٍ لَا تَخْرُجُ عَنْ قِرَاءَةِ أَحَدٍ مِنْهُمْ، بَلْ وَلَا عَنْ قِرَاءَةِ الْكُوفِيِّينَ فِي حَرْفٍ، فَكَيْفَ يَقُولُ أَحَدٌ بِعَدَمِ تَوَاتُرِهَا مَعَ ادِّعَائِهِ تَوَاتُرَ السَّبْعِ، وَأَيْضًا فَلَوْ قُلْنَا إِنَّهُ يَعْنِي هَؤُلَاءِ السَّبْعَةَ، فَمِنْ أَيِّ رِوَايَةٍ وَمِنْ أَيِّ طَرِيقٍ وَمِنْ أَيِّ كِتَابٍ‏؟‏ إِذِ التَّخْصِيصُ لَمْ يَدَّعِهِ ابْنُ الْحَاجِبِ وَلَوِ ادَّعَاهُ لَمَا سَلِمَ لَهُ، بَقِيَ الْإِطْلَاقُ فَيَكُونُ كُلَّمَا جَاءَ عَنِ السَّبْعَةِ فَقِرَاءَةُ يَعْقُوبَ جَاءَتْ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبِي عَمْرٍو، وَأَبُو جَعْفَرٍ هُوَ شَيْخُ نَافِعٍ وَلَا يَخْرُجُ عَنِ السَّبْعَةِ مِنْ طُرُقٍ أُخْرَى، فَقَالَ‏:‏ فَمِنْ أَجْلِ هَذَا قُلْتُ‏:‏ وَالصَّحِيحُ أَنَّ مَا وَرَاءَ الْعَشَرَةِ فَهُوَ شَاذٌّ، وَمَا يُقَابِلُ الصَّحِيحَ إِلَّا فَاسِدٌ، ثُمَّ كَتَبْتُ لَهُ اسْتِفْتَاءً فِي ذَلِكَ وَصُورَتُهُ‏:‏ مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءُ أَئِمَّةُ الدِّينِ فِي الْقِرَاءَاتِ الْعَشْرِ الَّتِي يُقْرَأُ بِهَا الْيَوْمَ وَهَلْ هِيَ مُتَوَاتِرَةٌ أَمْ غَيْرُ مُتَوَاتِرَةٍ‏؟‏ وَهَلْ كُلَّمَا انْفَرَدَ بِهِ وَاحِدٌ مِنَ الْعَشَرَةِ بِحَرْفٍ مِنَ الْحُرُوفِ مُتَوَاتِرٌ أَمْ لَا‏؟‏ وَإِذَا كَانَتْ مُتَوَاتِرَةً فَمَا يَجِبُ عَلَى مَنْ جَحَدَهَا أَوْ حَرْفًا مِنْهَا‏؟‏ فَأَجَابَنِي وَمِنْ خَطِّهِ نَقَلْتُ‏:‏

الْحَمْدُ لِلَّهِ؛ الْقِرَاءَاتُ السَّبْعُ الَّتِي اقْتَصَرَ عَلَيْهَا الشَّاطِبِيُّ وَالثَّلَاثُ الَّتِي هِيَ قِرَاءَةُ أَبِي جَعْفَرٍ وَقِرَاءَةُ يَعْقُوبَ وَقِرَاءَةُ خَلَفٍ مُتَوَاتِرَةٌ مَعْلُومَةٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ وَكُلُّ حَرْفٍ انْفَرَدَ بِهِ وَاحِدٌ مِنَ الْعَشَرَةِ مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُكَابِرُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا جَاهِلٌ، وَلَيْسَ تَوَاتُرُ شَيْءٍ مِنْهَا مَقْصُورًا عَلَى مَنْ قَرَأَ بِالرِّوَايَاتِ، بَلْ هِيَ مُتَوَاتِرَةٌ عِنْدَ كُلِّ مُسْلِمٍ يَقُولُ أَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَلَوْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ عَامِّيًّا جِلْفًا لَا يَحْفَظُ مِنَ الْقُرْآنِ حَرْفًا، وَلِهَذَا تَقْرِيرٌ طَوِيلٌ وَبُرْهَانٌ عَرِيضٌ لَا يَسَعُ هَذِهِ الْوَرَقَةَ شَرْحُهُ وَحَظُّ كُلِّ مُسْلِمٍ وَحَقُّهُ أَنْ يَدِينَ لِلَّهِ تَعَالَى وَيَجْزِمَ نَفْسَهُ بِأَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مُتَوَاتِرٌ مَعْلُومٌ بِالْيَقِينِ لَا يَتَطَرَّقُ الظُّنُونُ وَلَا الِارْتِيَابُ إِلَى شَيْءٍ مِنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏ كَتَبَهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ السُّبْكِيِّ الشَّافِعِيُّ‏.‏

وَقَالَ الْإِمَامُ الْأُسْتَاذُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْقَرَّابُ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ الشَّافِي‏:‏ ثُمَّ التَّمَسُّكُ بِقِرَاءَةِ سَبْعَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ دُونَ غَيْرِهِمْ لَيْسَ فِيهِ أَثَرٌ وَلَا سُنَّةٌ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ جَمْعِ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ لَمْ يَكُنْ قَرَأَ بِأَكْثَرَ مِنَ السَّبْعِ فَصَنَّفَ كِتَابًا وَسَمَّاهُ السَّبْعَ فَانْتَشَرَ ذَلِكَ فِي الْعَامَّةِ وَتَوَهَّمُوا أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ لِاشْتِهَارِ ذِكْرِ مُصَنِّفِهِ، وَقَدْ صَنَّفَ غَيْرُهُ كُتُبًا فِي الْقِرَاءَاتِ وَبَعْدَهُ وَذَكَرَ لِكُلِّ إِمَامٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ رِوَايَاتٍ كَثِيرَةً وَأَنْوَاعًا مِنَ الِاخْتِلَافِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِتِلْكَ الرِّوَايَاتِ مِنْ أَجْلِ أَنَّهَا غَيْرُ مَذْكُورَةٍ فِي كِتَابِ ذَلِكَ الْمُصَنِّفِ، وَلَوْ كَانَتِ الْقِرَاءَةُ مَحْصُورَةً بِسَبْعِ رِوَايَاتٍ لِسَبْعَةٍ مِنَ الْقُرَّاءِ لَوَجَبَ أَنْ لَا يُؤْخَذَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِلَّا رِوَايَةٌ، وَهَذَا لَا قَائِلَ بِهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، أَنَّهُ مُنْصَرِفٌ إِلَى قِرَاءَةِ سَبْعَةٍ مِنَ الْقُرَّاءِ الَّذِينَ وُلِدُوا بَعْدَ التَّابِعِينَ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مُتَعَرِّيًا عَنِ الْفَائِدَةِ إِلَى أَنْ يُولَدَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ السَّبْعَةُ فَيُؤْخَذُ عَنْهُمُ الْقِرَاءَةُ وَيُؤَدِّي أَيْضًا إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنْ يَقْرَأَ إِلَّا بِمَا يَعْلَمُ أَنَّ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةَ مِنَ الْقُرَّاءِ إِذَا وُلِدُوا وَتَعَلَّمُوا اخْتَارُوا الْقِرَاءَةَ بِهِ، وَهَذَا تَجَاهُلٌ مِنْ قَائِلِهِ، قَالَ‏:‏ وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِأَنَّ قَوْمًا مِنَ الْعَامَّةِ يَقُولُونَهُ جَهْلًا وَيَتَعَلَّقُونَ بِالْخَبَرِ وَيَتَوَهَّمُونَ أَنَّ مَعْنَى السَّبْعَةِ الْأَحْرُفِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْخَبَرِ اتِّبَاعُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ السَّبْعَةِ وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى مَا تَوَهَّمُوهُ، بَلْ طَرِيقُ أَخْذِ الْقِرَاءَةِ أَنْ تُؤْخَذَ عَنْ إِمَامٍ ثِقَةٍ لَفْظًا عَنْ لَفْظٍ إِمَامًا عَنْ إِمَامٍ إِلَى أَنْ يَتَّصِلَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِجَمِيعِ ذَلِكَ‏.‏

‏[‏قِرَاءَاتُ غَيْرِ السَّبْعَةِ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ‏]‏

وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ مَكِّيٌّ فِي إِبَانَتِهِ‏:‏ ذِكْرُ اخْتِلَافِ الْأَئِمَّةِ الْمَشْهُورِينَ غَيْرِ السَّبْعَةِ فِي سُورَةِ الْحَمْدِ مِمَّا يُوَافِقُ خَطَّ الْمُصْحَفِ وَيُقْرَأُ بِهِ، قَرَأَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي عَبْلَةَ الْحَمْدُ لُلَّهِ بِضَمِّ اللَّامِ الْأُولَى، وَقَرَأَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ بِكَسْرِ الدَّالِ وَفِيهِمَا بُعْدٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَمَجَازُهُمَا الِاتِّبَاعُ، وَقَرَأَ أَبُو صَالِحٍ مَالِكَ يَوْمِ الدِّينِ بِأَلِفٍ وَالنَّصْبِ عَلَى النِّدَاءِ، وَكَذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ السَّمَيْفَعِ الْيَمَانِيُّ وَهِيَ قِرَاءَةٌ حَسَنَةٌ، وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ مَلِكَ بِالنَّصْبِ عَلَى النِّدَاءِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ، وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مَلَكَ يَوْمَ فَنَصَبَ اللَّامَ وَالْكَافَ وَنَصَبَ يَوْمَ فَجَعَلَهُ فِعْلًا مَاضِيًا، وَرَوَى عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو مَلْكِ يَوْمِ الدِّينِ بِإِسْكَانِ اللَّامِ وَالْخَفْضِ وَهِيَ مَنْسُوبَةٌ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَقَرَأَ عَمْرُو بْنُ فَائِدٍ الْإِسْوَارِيُّ إِيَاكَ نَعْبُدُ وَإِيَاكَ بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ فِيهِمَا، وَقَدْ كَرِهَ ذَلِكَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ لِمُوَافَقَةِ لَفْظِهِ لَفْظَ إِيَا الشَّمْسِ وَهُوَ ضِيَاؤُهَا، وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ نِسْتَعِينُ بِكَسْرِ النُّونِ الْأُولَى وَهِيَ لُغَةٌ مَشْهُورَةٌ حَسَنَةٌ، وَرَوَى الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ غَيْرَ الْمَغْضُوبِ بِالنَّصْبِ وَنَصْبُهُ حَسَنٌ عَلَى الْحَالِ، أَوْ عَلَى الصِّفَةِ، وَقَرَأَ أَيُّوبُ السَّخْتِيَانِيُّ وَلَا الضَّأْلِينَ بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ فِي مَوْضِعِ الْأَلِفِ وَهُوَ قَلِيلٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، قَالَ‏:‏ فَهَذَا كُلُّهُ مُوَافِقٌ لِخَطِّ الْمُصْحَفِ وَالْقِرَاءَةُ بِهِ لِمَنْ رَوَاهُ عَنِ الثِّقَاتِ جَائِزَةٌ لِصِحَّةِ وَجْهِهِ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَمُوَافَقَتِهِ الْخَطَّ إِذَا صَحَّ نَقْلُهُ‏.‏

قُلْتُ‏:‏ كَذَا اقْتُصِرَ عَلَى نِسْبَةِ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ لِمَنْ نَسَبَهَا إِلَيْهِ، وَقَدْ وَافَقَهُمْ عَلَيْهَا غَيْرُهُمْ وَبَقِيَتْ قِرَاءَاتٌ أُخْرَى عَنِ الْأَئِمَّةِ الْمَشْهُورِينَ فِي الْفَاتِحَةِ تُوَافِقُ خَطَّ الْمُصْحَفِ وَحُكْمُهَا حُكْمُ مَا ذُكِرَ ذَكَرَهَا الْإِمَامُ الصَّالِحُ الْوَلِيُّ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ فِي كِتَابِ اللَّوَامِحِ لَهُ‏:‏ وَهِيَ الْحَمْدَ لِلَّهِ بِنَصْبِ الدَّالِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ-، وَعَنْ رُؤْبَةَ بْنِ الْعَجَّاجِ وَعَنْ هَارُونَ بْنِ مُوسَى الْعَتَكِيِّ وَوَجْهَا النَّصْبِ عَلَى الْمَصْدَرِ وَتَرْكِ فِعْلِهِ لِلشُّهْرَةِ، وَعَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا، الْحَمْدَ لَلَّهِ بِفَتْحِ اللَّامِ إِتْبَاعًا لِنَصْبِ الدَّالِ وَهِيَ لُغَةُ بَعْضِ قَيْسٍ وَإِمَالَةِ الْأَلِفِ مِنْ لِلَّهِ لِقُتَيْبَةَ عَنِ الْكِسَائِيِّ وَوَجْهُهَا الْكَسْرَةُ بَعْدُ، وَعَنْ أَبِي زَيْدٍ سَعِيدِ بْنِ أَوْسٍ الْأَنْصَارِيِّ، رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ وَحَكَاهُ عَنِ الْعَرَبِ وَوَجْهُهُ أَنَّ النُّعُوتَ إِذَا تَتَابَعَتْ وَكَثُرَتْ جَازَتِ الْمُخَالَفَةُ بَيْنَهَا فَيُنْصَبُ بَعْضُهَا بِإِضْمَارِ فِعْلٍ وَيُرْفَعُ بَعْضُهَا بِإِضْمَارِ الْمُبْتَدَأِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى الْجَرِّ بَعْدَمَا انْصَرَفْتَ عَنْهُ إِلَى الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ، وَعَنِ الْكِسَائِيِّ فِي رِوَايَةِ سَوْرَةَ بْنِ الْمُبَارَكِ وَقُتَيْبَةَ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ بِالْإِمَالَةِ، وَعَنْ عَاصِمٍ الْجَحْدَرِيِّ، مَالِكٌ بِالرَّفْعِ وَالْأَلِفِ مُنَوَّنًا وَنَصْبِ يَوْمَ الدِّينِ بِإِضْمَارِ الْمُبْتَدَأِ وَإِعْمَالِ مَالِكِ فِي يَوْمِ، وَعَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي شَدَّادٍ الْعُقَيْلِيِّ مَالِكُ بِالْأَلِفِ وَالرَّفْعِ مَعَ الْإِضَافَةِ وَرَفْعُهُ بِإِضْمَارِ الْمُبْتَدَأِ وَهِيَ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي حَيْوَةَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مَلَّاكِ يَوْمِ الدِّينِ بِتَشْدِيدِ اللَّامِ مَعَ الْخَفْضِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُخَالِفٍ لِلرَّسْمِ، بَلْ يَحْتَمِلُهُ تَقْدِيرًا كَمَا تَحْتَمِلُهُ قِرَاءَةُ مَالِكِ، وَعَلَى ذَلِكَ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ، عَلَّامُ الْغَيْبِ وَعَنِ الْيَمَانِيِّ أَيْضًا مَلِيكِ يَوْمِ الدِّينِ بِالْيَاءِ وَهِيَ مُوَافِقَةٌ لِلرَّسْمِ أَيْضًا كَتَقْدِيرِ الْمُوَافَقَةِ فِي جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ بِالْيَاءِ وَالْهَمْزَةِ وَكَقِرَاءَةِ أَبِي عَمْرٍو وَأَكُونُ مِنَ الصَّالِحِينَ بِالْوَاوِ، وَعَنِ الْفَضْلِ بْنِ مُحَمَّدٍ الرَّقَاشِيِّ أَيَّاكَ نَعْبُدُ وَأَيَّاكَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ فِيهِمَا، وَهِيَ لُغَةٌ وَرَوَاهَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ عَلِيٍّ أَيْضًا، وَعَنْ أَبِي عَمْرٍو فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دَاوُدَ الْخُرَيْبِيِّ إِمَالَةُ الْأَلِفِ مِنْهُمَا وَوَجْهُ ذَلِكَ الْكَسْرَةُ مِنْ قَبْلُ، وَعَنْ بَعْضِ أَهْلِ مَكَّةَ نَعْبُدْ بِإِسْكَانِ الدَّالِ وَوَجْهُهَا التَّخْفِيفُ كَقِرَاءَةِ أَبِي عَمْرٍو يَأْمُرْكُمْ بِالْإِسْكَانِ، وَقِيلَ‏:‏ إِنَّهُ عِنْدَهُمْ رَأْسُ آيَةٍ فَنَوَى الْوَقْفَ لِلسُّنَّةِ وَحَمَلَ الْوَصْلَ عَلَى الْوَقْفِ، وَرَوَى الْأَصْمَعِيُّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، الزِّرَاطَ بِالزَّاي الْخَالِصَةِ وَجَاءَ أَيْضًا عَنْ حَمْزَةَ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ حُرُوفَ الصَّفِيرِ يُبْدَلُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، وَهِيَ مُوَافِقَةٌ لِلرَّسْمِ كَمُوَافَقَةِ قِرَاءَةِ السِّينِ، وَعَنْ عُمَرَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، غَيْرُ الْمَغْضُوبِ بِالرَّفْعِ، أَيْ‏:‏ هُمْ غَيْرُ الْمَغْضُوبِ أَوْ أُولَئِكَ‏.‏ وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ الْأَعْرَجِ وَمُسْلِمِ بْنِ جُنْدُبٍ وَعِيسَى بْنِ عُمَرَ الثَّقَفِيِّ الْبَصْرِيِّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْقَصِيرِ عَلَيْهُمُ بِضَمِّ الْهَاءِ وَوَصْلِ الْمِيمِ بِالْوَاو، وَعَنِ الْحَسَنِ وَعَمْرِو بْنِ فَائِدٍ عَلَيْهِمِ بِكَسْرِ الْهَاءِ وَوَصْلِ الْمِيمِ بِالْيَاءِ، وَعَنِ ابْنِ هُرْمُزَ أَيْضًا بِضَمِّ الْهَاءِ وَالْمِيمِ مِنْ غَيْرِ صِلَةٍ، وَعَنْهُ أَيْضًا بِكَسْرِ الْهَاءِ وَضَمِّ الْمِيمِ مِنْ غَيْرِ صِلَةٍ فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ وَفِي الْمَشْهُورِ ثَلَاثَةٌ فَتَصِيرُ سَبْعَةً، وَكُلُّهَا لُغَاتٌ وَذَكَرَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَخْفَشُ فِيهَا ثَلَاثُ لُغَاتٍ أُخْرَى لَوْ قُرِئَ بِهَا لَجَازَ، وَهِيَ ضَمُّ الْهَاءِ وَكَسْرُ الْمِيمِ مَعَ الصِّلَةِ وَالثَّانِيَةُ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ بِغَيْرِ صِلَةٍ، وَالثَّالِثَةُ بِالْكَسْرِ فِيهِمَا مِنْ غَيْرِ صِلَةٍ وَلَمْ يَخْتَلِفْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ فِي الْإِسْكَانِ وَقْفًا‏.‏

قُلْتُ‏:‏ وَبَقِيَ مِنْهَا رِوَايَاتٌ أُخْرَى رُوِّينَاهَا مِنْهَا إِمَالَةُ الْعَالَمِينَ وَالرَّحْمَنِ بِخِلَافٍ لِقُتَيْبَةَ عَنِ الْكِسَائِيِّ، وَمِنْهَا إِشْبَاعُ الْكَسْرَةِ مِنْ مَلِكِ يَوْمَ الدِّينِ قَبْلَ الْيَاءِ حَتَّى تَصِيرَ يَاءً، وَإِشْبَاعُ الضَّمَّةِ مِنْ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ حَتَّى تَصِيرَ وَاوًا رِوَايَةُ كَرْدَمٍ عَنْ نَافِعٍ وَرَوَاهَا أَيْضًا الْأَهْوَازِيُّ عَنْ وَرْشٍ وَلَهَا وَجْهٌ وَمِنْهَا، يُعْبَدُ بِالْيَاءِ وَضَمِّهَا وَفَتْحِ الْبَاءِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ، وَهِيَ مُشْكَلَةٌ وَتُوَجَّهُ عَلَى الِاسْتِعَارَةِ وَالِالْتِفَاتِ‏.‏

‏[‏حَقِيقَةُ اخْتِلَافِ السَّبْعَةِ الْأَحْرُفِ وَفَائِدَتُهُ‏]‏

وَأَمَّا حَقِيقَةُ اخْتِلَافِ هَذِهِ السَّبْعَةِ الْأَحْرُفِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَائِدَتُهُ، فَإِنَّ الِاخْتِلَافَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافُ تَنَوُّعٍ وَتَغَايُرٍ لَا اخْتِلَافَ تَضَادٍّ وَتَنَاقُضٍ، فَإِنَّ هَذَا مُحَالٌ أَنْ يَكُونَ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ- تَعَالَى-‏:‏ ‏{‏أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا‏}‏، وَقَدْ تَدَبَّرْنَا اخْتِلَافَ الْقِرَاءَاتِ كُلِّهَا فَوَجَدْنَاهَا لَا تَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ‏:‏ أَحَدُهَا اخْتِلَافُ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، الثَّانِي اخْتِلَافُهُمَا جَمِيعًا مَعَ جَوَازِ اجْتِمَاعِهِمَا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ، الثَّالِثُ اخْتِلَافُهُمَا جَمِيعًا مَعَ امْتِنَاعِ جَوَازِ اجْتِمَاعِهِمَا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ، بَلْ يَتَّفِقَانِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ لَا يَقْتَضِي التَّضَادَّ‏.‏

فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَكَالِاخْتِلَافِ فِي ‏{‏الصِّرَاطَ‏}‏ وَ‏{‏عَلَيْهِمْ‏}‏ وَ‏{‏يُؤَدِّهِ‏}‏ وَ‏{‏الْقُدُسِ‏}‏ وَ‏{‏يَحْسَبُ‏}‏ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لُغَاتٌ فَقَطْ‏.‏

وَأَمَّا الثَّانِي فَنَحْوُ مَالِكِ، وَمَلِكِ فِي الْفَاتِحَةِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ مَالِكُ يَوْمِ الدِّينِ وَمَلِكُهُ وَكَذَا يُكَذِّبُونَ، وَيَكْذِبُونَ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِمَا هُمُ الْمُنَافِقُونَ لِأَنَّهُمْ يُكَذِّبُونَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَكْذِبُونَ فِي أَخْبَارِهِمْ وَكَذَا كَيْفَ نُنْشِرُهَا بِالرَّاءِ وَالزَّايِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِمَا هِيَ الْعِظَامُ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَنْشَرَهَا أَيْ‏:‏ أَحْيَاهَا، وَأَنْشَزَهَا أَيْ‏:‏ رَفَعَ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ حَتَّى الْتَأَمَتْ فَضَمِنَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَعْنَيَيْنِ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ‏.‏

وَأَمَّا الثَّالِثُ فَنَحْوَ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ، وَكَذَا وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ بِفَتْحِ اللَّامِ وَرَفْعِ الْأُخْرَى وَبِكَسْرِ الْأُولَى وَفَتْحِ الثَّانِيَةِ، وَكَذَا لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا، وَفَتَنُوا بِالتَّسْمِيَةِ وَالتَّجْهِيلِ، وَكَذَا قَالَ‏:‏ لَقَدْ عَلِمْتَ بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِهَا، وَكَذَلِكَ مَا قُرِئَ شَاذًّا وَهُوَ يُطْعَمُ وَلَا يُطْعِمُ عَكْسَ الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ، وَكَذَلِكَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعِمُ عَلَى التَّسْمِيَةِ فِيهِمَا، فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ وَإِنِ اخْتَلَفَ لَفْظًا وَمَعْنَى وَامْتَنَعَ اجْتِمَاعُهُ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّهُ يَجْتَمِعُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ يَمْتَنِعُ فِيهِ التَّضَادُّ وَالتَّنَاقُضُ‏.‏ فَأَمَّا وَجْهُ تَشْدِيدِ كُذِّبُوا فَالْمَعْنَى وَتَيَقَّنَ الرُّسُلُ أَنَّ قَوْمَهُمْ قَدْ كَذَّبُوهُمْ، وَوَجْهُ التَّخْفِيفِ‏:‏ وَتَوَهَّمَ الْمُرْسَلُ إِلَيْهِمْ أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ كَذَبُوهُمْ فِيمَا أَخْبَرُوهُمْ بِهِ، فَالظَّنُّ فِي الْأُولَى يَقِينٌ، وَالضَّمَائِرُ الثَّلَاثَةُ لِلرُّسُلِ، وَالظَّنُّ فِي الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ شَكٌّ، وَالضَّمَائِرُ الثَّلَاثَةُ لِلْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ‏.‏ وَأَمَّا وَجْهُ فَتْحِ اللَّامِ الْأُولَى وَرَفْعِ الثَّانِيَةِ مِنْ لَتَزُولُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ إِنْ مُخَفَّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ، أَيْ‏:‏ وَإِنَّ مَكْرَهُمْ كَانَ مِنَ الشِّدَّةِ بِحَيْثُ تَقْتَلِعُ مِنْهُ الْجِبَالُ الرَّاسِيَاتُ مِنْ مَوَاضِعِهَا، وَفِي الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ إِنْ نَافِيَةٌ، أَيْ‏:‏ مَا كَانَ مَكْرُهُمْ وَإِنْ تَعَاظَمَ وَتَفَاقَمَ لِيَزُولَ مِنْهُ أَمْرُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدِينُ الْإِسْلَامِ، فَفِي الْأُولَى تَكُونُ الْجِبَالُ حَقِيقَةً وَفِي الثَّانِيَةِ مَجَازًا‏.‏

وَأَمَّا وَجْهُ ‏{‏مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا‏}‏ عَلَى التَّجْهِيلِ فَهُوَ أَنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا، وَفِي التَّسْمِيَةِ يَعُودُ إِلَى ‏{‏الْخَاسِرُونَ‏}‏‏.‏ وَأَمَّا وَجْهُ ضَمِّ تَاءِ عَلِمْتُ، فَإِنَّهُ أَسْنَدَ الْعِلْمَ إِلَى مُوسَى حَدِيثًا مِنْهُ لِفِرْعَوْنَ حَيْثُ قَالَ‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ‏}‏، فَقَالَ مُوسَى عَلَى نَفْسِهِ‏:‏ لَقَدْ عَلِمْتُ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ، فَأَخْبَرَ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَنْ نَفْسِهِ بِالْعِلْمِ بِذَلِكَ، أَيْ أَنَّ الْعَالِمَ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَجْنُونٍ، وَقِرَاءَةُ فَتْحِ التَّاءِ أَنَّهُ أَسْنَدَ هَذَا الْعِلْمَ لِفِرْعَوْنَ مُخَاطَبَةً مِنْ مُوسَى لَهُ بِذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيعِ لِشِدَّةِ مُعَانَدَتِهِ لِلْحَقِّ بَعْدَ عِلْمِهِ، وَكَذَلِكَ وَجْهُ قِرَاءَةِ الْجَمَاعَةِ ‏{‏يُطْعِمُ‏}‏ بِالتَّسْمِيَةِ، ‏{‏وَلَا يُطْعَمُ‏}‏ عَلَى التَّجْهِيلِ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي وَهُوَ يَعُودُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ‏:‏ وَاللَّهُ تَعَالَى يَرْزُقُ الْخَلْقَ وَلَا يَرْزُقُهُ أَحَدٌ، وَالضَّمِيرُ فِي عَكْسِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ يَعُودُ إِلَى الْوَلِيِّ، أَيْ‏:‏ وَالْوَلِيُّ الْمُتَّخَذُ يُرْزَقُ وَلَا يَرْزُقُ أَحَدًا، وَالضَّمِيرُ فِي الْقِرَاءَةِ الثَّالِثَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ‏:‏ وَاللَّهُ يُطْعِمُ مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُطْعِمُ مَنْ يَشَاءُ‏.‏ فَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْقِرَاءَاتِ تَنَافٍ وَلَا تَضَادٌّ وَلَا تَنَاقُضٌ‏.‏

وَكُلُّ مَا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ وَجَبَ قَبُولُهُ، وَلَمْ يَسَعْ أَحَدًا مِنَ الْأُمَّةِ رَدُّهُ وَلَزِمَ الْإِيمَانُ بِهِ، وَإِنَّ كُلَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، إِذْ كُلُّ قِرَاءَةٍ مِنْهَا مَعَ الْأُخْرَى بِمَنْزِلَةِ الْآيَةِ مَعَ الْآيَةِ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهَا كُلِّهَا وَاتِّبَاعُ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الْمَعْنَى عِلْمًا وَعَمَلًا، وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ مُوجِبِ إِحْدَاهُمَا لِأَجْلِ الْأُخْرَى ظَنًّا أَنَّ ذَلِكَ تَعَارُضٌ، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- بِقَوْلِهِ‏:‏ لَا تَخْتَلِفُوا فِي الْقُرْآنِ وَلَا تَتَنَازَعُوا فِيهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ وَلَا يَتَسَاقَطُ، أَلَا تَرَوْنَ أَنَّ شَرِيعَةَ الْإِسْلَامِ فِيهِ وَاحِدَةٌ، حُدُودُهَا وَقِرَاءَتُهَا وَأَمْرُ اللَّهِ فِيهَا وَاحِدٌ، وَلَوْ كَانَ مِنَ الْحَرْفَيْنِ حَرْفٌ يَأْمُرُ بِشَيْءٍ يَنْهَى عَنْهُ الْآخَرُ كَانَ ذَلِكَ الِاخْتِلَافَ، وَلَكِنَّهُ جَامِعٌ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَمَنْ قَرَأَ عَلَى قِرَاءَةٍ فَلَا يَدَعْهَا رَغْبَةً عَنْهَا، فَإِنَّهُ مَنْ كَفَرَ بِحَرْفٍ مِنْهُ كَفَرَ بِهِ كُلَّهُ ‏.‏

قُلْتُ‏:‏ وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ‏:‏ لِأَحَدِ الْمُخْتَلِفِينَ‏:‏ أَحْسَنْتَ، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ‏:‏ أَصَبْتَ، وَفِي الْآخَرِ‏:‏ هَكَذَا أُنْزِلَتْ ‏.‏ فَصَوَّبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِرَاءَةَ كُلٍّ مِنَ الْمُخْتَلِفِينَ، وَقَطَعَ بِأَنَّهَا كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَبِهَذَا افْتَرَقَ اخْتِلَافُ الْقُرَّاءِ مِنَ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ، فَإِنَّ اخْتِلَافَ الْقُرَّاءِ كُلٌّ حَقٌّ وَصَوَابٌ نَزَلَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَهُوَ كَلَامُهُ لَا شَكَّ فِيهِ وَاخْتِلَافُ الْفُقَهَاءِ اخْتِلَافٌ اجْتِهَادِيٌّ وَالْحَقُّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فِيهِ وَاحِدٌ، فَكُلُّ مَذْهَبٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْآخَرِ صَوَابٌ يَحْتَمِلُ الْخَطَأَ، وَكُلُّ قِرَاءَةٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأُخْرَى حَقٌّ وَصَوَابٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ نَقْطَعُ بِذَلِكَ وَنُؤْمِنُ بِهِ، وَنَعْتَقِدُ أَنَّ مَعْنَى إِضَافَةِ كُلِّ حَرْفٍ مِنْ حُرُوفِ الِاخْتِلَافِ إِلَى مَنْ أُضِيفَ إِلَيْهِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ، إِنَّمَا هُوَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ كَانَ أَضْبَطَ لَهُ وَأَكْثَرَ قِرَاءَةً وَإِقْرَاءً بِهِ، وَمُلَازَمَةً لَهُ، وَمَيْلًا إِلَيْهِ، لَا غَيْرَ ذَلِكَ‏.‏ وَكَذَلِكَ إِضَافَةُ الْحُرُوفِ وَالْقِرَاءَاتِ إِلَى أَئِمَّةِ الْقِرَاءَةِ وَرُوَاتِهِمُ الْمُرَادُ بِهَا أَنَّ ذَلِكَ الْقَارِئَ وَذَلِكَ الْإِمَامَ اخْتَارَ الْقِرَاءَةَ بِذَلِكَ الْوَجْهِ مِنَ اللُّغَةِ حَسْبَمَا قَرَأَ بِهِ، فَآثَرَهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَدَاوَمَ عَلَيْهِ وَلَزِمَهُ حَتَّى اشْتَهَرَ وَعُرِفَ بِهِ، وَقُصِدَ فِيهِ، وَأُخِذَ عَنْهُ؛ فَلِذَلِكَ أُضِيفَ إِلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْقُرَّاءِ، وَهَذِهِ الْإِضَافَةُ إِضَافَةُ اخْتِيَارٍ وَدَوَامٍ وَلُزُومٍ لَا إِضَافَةَ اخْتِرَاعٍ وَرَأْيٍ وَاجْتِهَادٍ‏.‏

وَأَمَّا فَائِدَةُ اخْتِلَافِ الْقِرَاءَاتِ وَتَنَوُّعِهَا، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ فَوَائِدَ غَيْرَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ سَبَبِ التَّهْوِينِ وَالتَّسْهِيلِ وَالتَّخْفِيفِ عَلَى الْأُمَّةِ‏.‏

وَمِنْهَا مَا فِي ذَلِكَ مِنْ نِهَايَةِ الْبَلَاغَةِ، وَكَمَالِ الْإِعْجَازِ وَغَايَةِ الِاخْتِصَارِ، وَجِمَالِ الْإِيجَازِ، إِذْ كُلُّ قِرَاءَةٍ بِمَنْزِلَةِ الْآيَةِ، إِذْ كَانَ تَنَوُّعُ اللَّفْظِ بِكَلِمَةٍ تَقُومُ مَقَامَ آيَاتٍ، وَلَوْ جُعِلَتْ دَلَالَةُ كُلِّ لَفْظٍ آيَةً عَلَى حِدَتِهَا لَمْ يَخَفْ مَا كَانَ فِي ذَلِكَ مِنَ التَّطْوِيلِ‏.‏

وَمِنْهَا مَا فِي ذَلِكَ مِنْ عَظِيمِ الْبُرْهَانِ وَوَاضِحِ الدِّلَالَةِ، إِذْ هُوَ مَعَ كَثْرَةِ هَذَا الِاخْتِلَافِ وَتَنَوُّعِهِ لَمْ يَتَطَرَّقْ إِلَيْهِ تَضَادٌّ وَلَا تَنَاقُضٌ وَلَا تَخَالُفٌ، بَلْ كُلُّهُ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَيُبَيِّنُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَيَشْهَدُ بَعْضُهُ لِبَعْضٍ عَلَى نَمَطٍ وَاحِدٍ وَأُسْلُوبٍ وَاحِدٍ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا آيَةٌ بَالِغَةٌ، وَبُرْهَانٌ قَاطِعٌ عَلَى صِدْقِ مَنْ جَاءَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

وَمِنْهُ سُهُولَةُ حِفْظِهِ وَتَيْسِيرُ نَقْلِهِ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ، إِذْ هُوَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ مِنَ الْبَلَاغَةِ وَالْوَجَازَةِ، فَإِنَّهُ مَنْ يَحْفَظُ كَلِمَةً ذَاتَ أَوْجُهٍ أَسْهَلُ عَلَيْهِ وَأَقْرَبُ إِلَى فَهْمِهِ وَأَدْعَى لِقَبُولِهِ مِنْ حِفْظِهِ جُمَلًا مِنَ الْكَلَامِ تُؤَدِّي مَعَانِيَ تِلْكَ الْقِرَاءَاتِ الْمُخْتَلِفَاتِ، لَا سِيَّمَا فِيمَا كَانَ خَطُّهُ وَاحِدًا، فَإِنَّ ذَلِكَ أَسْهَلُ حِفْظًا وَأَيْسَرُ لَفْظًا‏.‏

وَمِنْهَا إِعْظَامُ أُجُورِ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ يُفْرِغُونَ جُهْدَهُمْ لِيَبْلُغُوا قَصْدَهُمْ فِي تَتَبُّعِ مَعَانِي ذَلِكَ وَاسْتِنْبَاطِ الْحُكْمِ وَالْأَحْكَامِ مِنْ دِلَالَةِ كُلِّ لَفْظٍ، وَاسْتِخْرَاجِ كَمِينِ أَسْرَارِهِ وَخَفِيِّ إِشَارَاتِهِ، وَإِنْعَامِهِمُ النَّظَرَ وَإِمْعَانِهِمُ الْكَشْفَ عَنِ التَّوَجُّهِ وَالتَّعْلِيلِ وَالتَّرْجِيحِ، وَالتَّفْصِيلِ بِقَدْرِ مَا يَبْلُغُ غَايَةُ عِلْمِهِمْ، وَيَصِلُ إِلَيْهِ نِهَايَةُ فَهْمِهِمْ ‏{‏فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى‏}‏، وَالْأَجْرُ عَلَى قَدْرِ الْمَشَقَّةِ‏.‏

وَمِنْهَا بَيَانُ فَضْلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَشَرَفِهَا عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ، مِنْ حَيْثُ تَلَقِّيهِمْ كِتَابَ رَبِّهِمْ هَذَا التَّلَقِّي، وَإِقْبَالُهُمْ عَلَيْهِ هَذَا الْإِقْبَالَ، وَالْبَحْثُ عَنْ لَفْظَةٍ لَفْظَةٍ، وَالْكَشْفُ عَنْ صِيغَةٍ صِيغَةٍ، وَبَيَانُ صَوَابِهِ، وَبَيَانُ تَصْحِيحِهِ، وَإِتْقَانُ تَجْوِيدِهِ، حَتَّى حَمَوْهُ مِنْ خَلَلِ التَّحْرِيفِ، وَحَفِظُوهُ مِنَ الطُّغْيَانِ وَالتَّطْفِيفِ، فَلَمْ يُهْمِلُوا تَحْرِيكًا وَلَا تَسْكِينًا، وَلَا تَفْخِيمًا وَلَا تَرْقِيقًا، حَتَّى ضَبَطُوا مَقَادِيرَ الْمَدَّاتِ وَتَفَاوُتَ الْإِمَالَاتِ وَمَيَّزُوا بَيْنَ الْحُرُوفِ بِالصِّفَاتِ، مِمَّا لَمْ يَهْتَدِ إِلَيْهِ فِكْرُ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ، وَلَا يُوصَلُ إِلَيْهِ إِلَّا بِإِلْهَامِ بَارِئِ النَّسَمِ‏.‏

وَمِنْهَا مَا ادَّخَرَهُ اللَّهُ مِنَ الْمَنْقَبَةِ الْعَظِيمَةِ، وَالنِّعْمَةِ الْجَلِيلَةِ الْجَسِيمَةِ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ الشَّرِيفَةِ، مِنْ إِسْنَادِهَا كِتَابَ رَبِّهَا، وَاتِّصَالُ هَذَا السَّبَبِ الْإِلَهِيِّ بِسَبَبِهَا خَصِيصَةُ اللَّهِ تَعَالَى هَذِهِ الْأُمَّةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ، وَإِعْظَامًا لِقَدْرِ أَهْلِ هَذِهِ الْمِلَّةِ الْحَنِيفِيَّةِ، وَكُلُّ قَارِئٍ يُوصِلُ حُرُوفَهُ بِالنَّقْلِ إِلَى أَصْلِهِ، وَيَرْفَعُ ارْتِيَابَ الْمُلْحِدِ قَطْعًا بِوَصْلِهِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْفَوَائِدِ إِلَّا هَذِهِ الْفَائِدَةُ الْجَلِيلَةُ لَكَفَتْ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْخَصَائِصِ إِلَّا هَذِهِ الْخَصِيصَةُ النَّبِيلَةُ لَوَفَتْ‏.‏

وَمِنْهَا ظُهُورُ سِرِّ اللَّهِ فِي تَوَلِّيهِ حِفْظَ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ وَصِيَانَةَ كَلَامِهِ الْمُنَزَّلِ بِأَوْفَى الْبَيَانِ وَالتَّمْيِيزِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُخْلِ عَصْرًا مِنَ الْأَعْصَارِ، وَلَوْ فِي قُطْرٍ مِنَ الْأَقْطَارِ، مِنْ إِمَامٍ حُجَّةٍ قَائِمٍ بِنَقْلِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِتْقَانِ حُرُوفِهِ وَرِوَايَاتِهِ، وَتَصْحِيحِ وُجُوهِهِ وَقِرَاءَاتِهِ، يَكُونُ وَجُودُهُ سَبَبًا لِوُجُودِ هَذَا السَّبَبِ الْقَوِيمِ عَلَى مَمَرِّ الدُّهُورِ، وَبَقَاؤُهُ دَلِيلًا عَلَى بَقَاءِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ فِي الْمَصَاحِفِ وَالصُّدُورِ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏فِي سَبَبِ تَأْلِيفِ هَذَا الْكِتَابِ‏]‏

وَإِنِّي لَمَّا رَأَيْتُ الْهِمَمَ قَدْ قَصُرَتْ، وَمَعَالِمَ هَذَا الْعِلْمِ الشَّرِيفِ قَدْ دُثِرَتْ، وَخَلَتْ مِنْ أَئِمَّتِهِ الْآفَاقُ، وَأَقْوَتْ مِنْ مُوَفَّقٍ يُوقِفُ عَلَى صَحِيحِ الِاخْتِلَافِ وَالِاتِّفَاقِ، وَتُرِكَ لِذَلِكَ أَكْثَرُ الْقِرَاءَاتِ الْمَشْهُورَةِ، وَنُسِيَ غَالِبُ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ الْمَذْكُورَةِ، حَتَّى كَادَ النَّاسُ لَمْ يُثْبِتُوا قُرْآنًا إِلَّا مَا فِي الشَّاطِبِيَّةِ وَالتَّيْسِيرِ وَلَمْ يَعْلَمُوا قِرَاءَاتٍ سِوَى مَا فِيهِمَا مِنَ النَّذْرِ الْيَسِيرِ، وَكَانَ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَى التَّعْرِيفِ بِصَحِيحِ الْقِرَاءَاتِ، وَالتَّوْقِيفِ عَلَى الْمَقْبُولِ مِنْ مَنْقُولِ مَشْهُورِ الرِّوَايَاتِ، فَعَمَدْتُ إِلَى أَثْبَتِ مَا وَصَلَ إِلَيَّ مِنْ قِرَاءَاتِهِمْ، وَأَوْثَقِ مَا صَحَّ لَدَيَّ مِنْ رِوَايَاتِهِمْ، مِنَ الْأَئِمَّةِ الْعَشْرَةِ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ، وَالْمُقْتَدَى بِهِمْ فِي سَالِفِ الْأَعْصَارِ، وَاقْتَصَرْتُ عَنْ كُلِّ إِمَامٍ بِرَاوِيَيْنِ، وَعَنْ كُلِّ رَاوٍ بِطَرِيقَيْنِ، وَعَنْ كُلِّ طَرِيقِ بِطْرِيقَيْنِ‏:‏ مَغْرِبِيَّةٍ وَمَشْرِقِيَّةٍ، مِصْرِيَّةٍ وَعِرَاقِيَّةٍ، مَعَ مَا يَتَّصِلُ إِلَيْهِمْ مِنَ الطُّرُقِ، وَيَتَشَعَّبُ عَنْهُمْ مِنَ الْفِرَقِ‏:‏

فَنَافِعٌ مِنْ رِوَايَتَيْ قَالُونَ وَوَرْشٍ عَنْهُ‏.‏

وَابْنُ كَثِيرٍ مِنْ رِوَايَتَيِ الْبَزِّيِّ وَقُنْبُلٍ عَنْ أَصْحَابِهِمَا عَنْهُ‏.‏

وَأَبُو عَمْرٍو مِنْ رِوَايَتَيِ الدُّورِيِّ وَالسُّوسِيِّ عَنِ الْيَزِيدِيِّ عَنْهُ‏.‏

وَابْنُ عَامِرٍ مِنْ رِوَايَتَيْ هِشَامٍ وَابْنِ ذَكْوَانَ عَنْ أَصْحَابِهِمَا عَنْهُ،‏.‏

وَعَاصِمٌ مِنْ رِوَايَتَيْ أَبِي بَكْرٍ شُعْبَةَ وَحَفْصٍ عَنْهُ‏.‏

وَحَمْزَةُ مِنْ رِوَايَتَيْ خَلَفٍ وَخَلَّادٍ عَنْ سُلَيْمٍ عَنْهُ‏.‏

وَالْكِسَائِيُّ مِنْ رِوَايَتَيْ أَبِي الْحَارِثِ وَالدُّورِيِّ عَنْهُ‏.‏

وَأَبُو جَعْفَرٍ مِنْ رِوَايَتَيْ عِيسَى بْنِ وَرْدَانَ وَسُلَيْمَانَ بْنِ جَمَّازٍ عَنْهُ‏.‏

وَيَعْقُوبُ مِنْ رِوَايَتَيْ رُوَيْسٍ وَرَوْحٍ عَنْهُ‏.‏

وَخَلَفٌ مِنْ رِوَايَتَيْ إِسْحَاقَ الْوَرَّاقِ وَإِدْرِيسَ الْحَدَّادِ عَنْهُ‏.‏

فَأَمَّا قَالُونُ فَمِنْ طَرِيقَيْ أَبِي نَشِيطٍ وَالْحُلْوَانِيِّ عَنْهُ‏.‏ فَأَبُو نَشِيطٍ مِنْ طَرِيقَيِ ابْنِ بُويَانَ وَالْقَزَّازِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْأَشْعَثِ عَنْهُ فَعَنْهُ، وَالْحُلْوَانِيُّ مِنْ طَرِيقَيِ ابْنِ أَبِي مِهْرَانَ وَجَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْهُ فَعَنْهُ‏.‏

وَأَمَّا وَرْشٌ فَمِنْ طَرِيقَيِ الْأَزْرَقِ وَالْأَصْبَهَانِيِّ، فَالْأَزْرَقُ مِنْ طَرِيقَيِ إِسْمَاعِيلَ النَّحَّاسِ وَابْنِ يُوسُفَ عَنْهُ‏.‏ وَالْأَصْبَهَانِيُّ مِنْ طَرِيقَيِ ابْنِ جَعْفَرٍ وَالْمُطَّوِّعِيِّ عَنْهُ عَنْ أَصْحَابِهِ فَعَنْهُ‏.‏

وَأَمَّا الْبَزِّيُّ فَمِنْ طَرِيقَيِ أَبِي رَبِيعَةَ وَابْنِ الْحُبَابِ عَنْهُ، فَأَبُو رَبِيعَةَ مِنْ طَرِيقَيِ النَّقَّاشِ وَابْنِ بَنَانٍ عَنْهُ فَعَنْهُ، وَابْنُ الْحُبَابِ مِنْ طَرِيقَيِ ابْنِ صَالِحٍ وَعَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ عُمَرَ عَنْهُ فَعَنْهُ‏.‏

وَأَمَّا قُنْبُلٌ فَمِنْ طَرِيقَيِ ابْنِ مُجَاهِدٍ وَابْنِ شَنَبُوذَ عَنْهُ، فَابْنُ مُجَاهِدٍ مِنْ طَرِيقَيِ السَّامَرِّيِّ وَصَالِحٍ عَنْهُ فَعَنْهُ، وَابْنُ شَنَبُوذَ مِنْ طَرِيقَيِ الْقَاضِي أَبِي الْفَرَجِ وَالشَّطَوِيِّ عَنْهُ فَعَنْهُ‏.‏

وَأَمَّا الدُّورِيُّ فَمِنْ طَرِيقَيْ أَبِي الزَّعْرَاءِ وَابْنِ فَرَحٍ بِالْحَاءِ عَنْهُ، فَأَبُو الزَّعْرَاءِ مِنْ طَرِيقَيِ ابْنِ مُجَاهِدٍ وَالْمُعَدَّلِ عَنْهُ فَعَنْهُ، وَابْنُ فَرَحٍ مِنْ طَرِيقَيِ ابْنِ أَبِي بِلَالٍ وَالْمُطَّوِّعِيِّ عَنْهُ فَعَنْهُ‏.‏

وَأَمَّا السُّوسِيُّ فَمِنْ طَرِيقَيِ ابْنِ جَرِيرٍ وَابْنِ جُمْهُورٍ عَنْهُ، فَابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقَيِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُسَيْنِ وَابْنِ حَبَشٍ عَنْهُ فَعَنْهُ، وَابْنُ جُمْهُورٍ مِنْ طَرِيقَيِ الشَّذَائِيِّ وَالشَّنَبُوذِيِّ عَنْهُ فَعَنْهُ‏.‏

وَأَمَّا هِشَامٌ فَمِنْ طَرِيقَيِ الْحُلْوَانِيِّ عَنْهُ وَالدَّاجُونِيِّ عَنْ أَصْحَابِهِ عَنْهُ، فَالْحُلْوَانِيُّ مِنْ طَرِيقَيِ ابْنِ عَبْدَانَ وَالْجَمَّالِ عَنْهُ فَعَنْهُ، وَالدَّاجُونِيُّ مِنْ طَرِيقَيْ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ وَالشَّذَائِيِّ عَنْهُ فَعَنْهُ‏.‏

وَأَمَّا ابْنُ ذَكْوَانَ فَمِنْ طَرِيقَيِ الْأَخْفَشِ وَالصُّورِيِّ عَنْهُ، فَالْأَخْفَشُ مِنْ طَرِيقَيِ النَّقَّاشِ وَابْنِ الْأَخْرَمِ عَنْهُ فَعَنْهُ، وَالصُّورِيُّ مِنْ طَرِيقَيِ الرَّمْلِيِّ وَالْمُطَّوِّعِيِّ عَنْهُ فَعَنْهُ‏.‏

وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَمِنْ طَرِيقَيْ يَحْيَى بْنِ آدَمَ وَالْعُلَيْمِيِّ عَنْهُ، فَابْنُ آدَمَ مِنْ طَرِيقَيْ شُعَيْبٍ وَأَبِي حَمْدُونَ عَنْهُ فَعَنْهُ، وَالْعُلَيْمِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ خُلَيْعٍ وَالرَّزَّازُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْوَاسِطِيِّ عَنْهُ فَعَنْهُ‏.‏

وَأَمَّا حَفْصٌ فَمِنْ طَرِيقَيْ عُبَيْدِ بْنِ الصَّبَّاحِ وَعَمْرِو بْنِ الصَّبَّاحِ، فَعُبَيْدٌ مِنْ طَرِيقَيْ أَبِي الْحَسَنِ الْهَاشِمِيِّ وَأَبِي طَاهِرٍ عَنِ الْأُشْنَانِيِّ عَنْهُ فَعَنْهُ، وَعَمْرٌو عَنْ طَرِيقَيِ الْفِيلِ وَزَرْعَانَ عَنْهُ فَعَنْهُ‏.‏

وَأَمَّا خَلَفٌ فَمِنْ طُرُقِ ابْنِ عُثْمَانِ وَابْنِ مِقْسَمٍ وَابْنِ صَالِحٍ وَالْمُطَّوِّعِيِّ أَرْبَعَتِهِمْ عَنْ إِدْرِيسَ عَنْ خَلَفٍ‏.‏

وَأَمَّا خَلَّادٌ فَمِنْ طُرُقِ‏:‏ ابْنِ شَاذَانَ وَابْنِ الْهَيْثَمِ وَالْوَزَّانِ وَالطَّلْحِيِّ، أَرْبَعَتِهِمْ عَنْ خَلَّادٍ‏.‏

وَأَمَّا أَبُو الْحَارِثِ فَمِنْ طَرِيقَيْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى وَسَلَمَةَ بْنِ عَاصِمٍ عَنْهُ، فَابْنُ يَحْيَى مِنْ طَرِيقَيِ الْبَطِّيِّ وَالْقَنْطَرِيِّ عَنْهُ فَعَنْهُ، وَسَلَمَةُ مِنْ طَرِيقَيْ ثَعْلَبٍ وَابْنِ الْفَرَجِ عَنْهُ فَعَنْهُ‏.‏

وَأَمَّا الدُّورِيُّ فَمِنْ طَرِيقَيْ جَعْفَرٍ النَّصِيبِيِّ وَأَبِي عُثْمَانَ الضَّرِيرِ عَنْهُ، فَالنَّصِيبِيُّ مِنْ طَرِيقَيِ ابْنِ الْجَلَنْدَا وَابْنِ دِيزَوَيْهِ عَنْهُ فَعَنْهُ، وَأَبُو عُثْمَانَ مِنْ طَرِيقَيِ ابْنِ أَبِي هَاشِمٍ وَالشَّذَائِيِّ عَنْهُ فَعَنْهُ‏.‏

وَأَمَّا عِيسَى بْنُ وَرْدَانَ فَمِنْ طَرِيقَيِ الْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ وَهِبَةِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ أَصْحَابِهِمَا عَنْهُ، فَالْفَضْلُ مِنْ طَرِيقَيِ ابْنِ شَبِيبٍ وَابْنِ هَارُونَ عَنْهُ عَنْ أَصْحَابِهِ عَنْهُ، وَهِبَةُ اللَّهِ مِنْ طَرِيقَيِ الْحَنْبَلِيِّ وَالْحَمَّامِيِّ عَنْهُ‏.‏

وَأَمَّا ابْنُ جَمَّازٍ فَمِنْ طَرِيقَيْ أَبِي أَيُّوبَ الْهَاشِمِيِّ وَالدُّورِيِّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْهُ فَعَنْهُ، فَالْهَاشِمِيُّ مِنْ طَرِيقَيِ ابْنِ رَزِينٍ وَالْأَزْرَقِ الْجَمَّالِ عَنْهُ فَعَنْهُ‏.‏ وَالدُّورِيُّ مِنْ طَرِيقَيِ ابْنِ النَّفَّاخِ وَابْنِ نَهْشَلٍ عَنْهُ فَعَنْهُ‏.‏

وَأَمَّا رُوَيْسٌ فَمِنْ طُرُقِ النَّخَّاسِ بِالْمُعْجَمَةِ وَأَبِي الطَّيِّبِ وَابْنِ مِقْسَمٍ وَالْجَوْهَرِيِّ أَرْبَعَتِهِمْ عَنِ التَّمَّارِ عَنْهُ‏.‏

وَأَمَّا رَوْحٌ فَمِنْ طَرِيقَيِ ابْنِ وَهْبٍ وَالزُّبَيْرِيِّ عَنْهُ، فَابْنُ وَهْبٍ مِنْ طَرِيقَيِ الْمُعَدَّلِ وَحَمْزَةَ بْنِ عَلِيٍّ عَنْهُ فَعَنْهُ، وَالزُّبَيْرِيُّ مِنْ طَرِيقَيْ غُلَامِ بْنِ شَنَبُوذَ وَابْنِ حُبْشَانَ عَنْهُ فَعَنْهُ‏.‏

وَأَمَّا الْوَرَّاقُ فَمِنْ طَرِيقَيِ السُّوسَنْجِرْدِيِّ وَبَكْرِ بْنِ شَاذَانَ عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ عَنْهُ، وَمِنْ طَرِيقَيْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الْوَرَّاقِ وَالْبُرْصَاطِيِّ عَنْهُ‏.‏

وَأَمَّا إِدْرِيسُ الْحَدَّادُ فَمِنْ طَرِيقِ الشَّطِّيِّ وَالْمُطَّوِّعِيِّ وَابْنِ بُويَانَ وَالْقَطِيعِيِّ الْأَرْبَعَةِ عَنْهُ‏.‏

وَجَمَعْتُهَا فِي كِتَابٍ يُرْجَعُ إِلَيْهِ، وَسِفْرٍ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، لَمْ أَدَعْ عَنْ هَؤُلَاءِ الثِّقَاتِ الْأَثْبَاتِ حَرْفًا إِلَّا ذَكَرْتُهُ، وَلَا خُلْفًا إِلَّا أَثْبَتُّهُ، وَلَا إِشْكَالًا إِلَّا بَيَّنْتُهُ وَأَوْضَحْتُهُ، وَلَا بَعِيدًا إِلَّا قَرَّبْتُهُ، وَلَا مُفَرَّقًا إِلَّا جَمَعْتُهُ وَرَتَّبْتُهُ، مُنَبِّهًا عَلَى مَا صَحَّ عَنْهُمْ وَشَذَّ وَمَا انْفَرَدَ بِهِ مُنْفَرِدٌ وَفَذٌّ، مُلْتَزِمًا لِلتَّحْرِيرِ وَالتَّصْحِيحِ وَالتَّضْعِيفِ وَالتَّرْجِيحِ مُعْتَبِرًا لِلْمُتَابَعَاتِ وَالشَّوَاهِدِ، رَافِعًا إِبْهَامَ التَّرْكِيبِ بِالْعَزْوِ الْمُحَقَّقِ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ جَمَعَ طُرُقًا بَيْنَ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ، فَرَوَى الْوَارِدَ وَالصَّادِرَ بِالْغَرْبِ، وَانْفَرَدَ بِالْإِتْقَانِ وَالتَّحْرِيرِ، وَاشْتَمَلَ جُزْءٌ مِنْهُ عَلَى كُلِّ مَا فِي الشَّاطِبِيَّةِ وَالتَّيْسِيرِ؛ لِأَنَّ الَّذِي فِيهِمَا عَنِ السَّبْعَةِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ طَرِيقًا، وَأَنْتَ تَرَى كِتَابَنَا هَذَا حَوَى ثَمَانِينَ طَرِيقًا تَحْقِيقًا، غَيْرَ مَا فِيهِ مِنْ فَوَائِدَ لَا تُحْصَى وَلَا تُحْصَرُ، وَفَرَائِدَ دُخِرَتْ لَهُ فَلَمْ تَكُنْ فِي غَيْرِهِ تُذْكَرُ، فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ نَشْرُ الْعَشْرِ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ قَدْ مَاتَ قِيلَ لَهُ حَيٌّ بِالنَّشْرِ‏.‏ وَإِنِّي لَأَرْجُو عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَظِيمَ الْأَجْرِ وَجَزِيلَ الثَّوَابِ يَوْمَ الْحَشْرِ، وَأَنْ يَجْعَلَهُ لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ مِنْ خَالِصِ الْأَعْمَالِ، وَأَنْ لَا يَجْعَلَ حَظَّ تَعَبِي وَنَصَبِي فِيهِ أَنْ يُقَالَ، وَأَنْ يَعْصِمَنِي فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ مِنْ زَيْغِ الزَّلَلِ وَخَطَأِ الْخَطَلِ‏.‏