فصل: الجزء الأول

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: النشر في القراءات العشر ***


الجزء الأول

الْمُقَدِّمَةُ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قَالَ مَوْلَانَا الْإِمَامُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ، مُقْتَدَى الْعُلَمَاءِ الْأَعْلَامِ، مُقْرِي دِيَارِ مِصْرَ وَالشَّامِ، افْتِخَارُ الْأَئِمَّةِ، نَاصِرُ الْأُمَّةِ، أُسْتَاذُ الْمُحَدِّثِينَ، بَقِيَّةُ الْعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ، شَمْسُ الْمِلَّةِ وَالدِّينِ، أَبُو الْخَيْرِ مُحَمَّدُ بْنُ الْجَزَرِيِّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ‏:‏

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ الْقُرْآنَ كَلَامَهُ وَيَسَّرَهُ، وَسَهَّلَ نَشْرَهُ لِمَنْ رَامَهُ وَقَدَّرَهُ، وَوَفَّقَ لِلْقِيَامِ بِهِ مَنِ اخْتَارَهُ وَبَصَّرَهُ، وَأَقَامَ لِحِفْظِهِ خِيرَتَهُ مِنْ بَرِيَّتِهِ الْخِيَرَةِ‏.‏ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ شَهَادَةَ مُقِرٍّ بِهَا بِأَنَّهَا لِلنَّجَاةِ مُقَرِّرَةٌ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الْقَائِلُ‏:‏ إِنَّ الْمَاهِرَ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الَّذِينَ جَمَعُوا الْقُرْآنَ فِي صُدُورِهِمُ السَّلِيمَةِ وَصُحُفِهِ الْمُطَهَّرَةِ، وَسَلَّمَ وَشَرَّفَ وَكَرَّمَ، وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْ أَئِمَّةِ الْقِرَاءَةِ الْمَهَرَةِ، خُصُوصًا الْقُرَّاءَ الْعَشْرَةَ، الَّذِينَ كُلٌّ مِنْهُمْ تَجَرَّدَ لِكِتَابِ اللَّهِ فَجَوَّدَهُ وَحَرَّرَهُ، وَرَتَّلَهُ كَمَا أُنْزِلَ وَعَمِلَ بِهِ وَتَدَبَّرَهُ، وَزَيَّنَهُ بِصَوْتِهِ وَتَغَنَّى بِهِ وَحَبَّرَهُ، وَرَحِمَ اللَّهُ السَّادَةَ الْمَشَايِخَ الَّذِينَ جَمَعُوا فِي اخْتِلَافِ حُرُوفِهِ وَرِوَايَاتِهِ الْكُتُبَ الْمَبْسُوطَةَ وَالْمُخْتَصَرَةَ، فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ تَيْسِيرَهُ فِيهَا عُنْوَانًا وَتَذْكِرَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْضَحَ مِصْبَاحَهُ إِرْشَادًا وَتَبْصِرَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ أَبْرَزَ الْمَعَانِيَ فِي حِرْزِ الْأَمَانِي مُفِيدَةً وَخَيِّرَةً، أَثَابَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى أَجْمَعِينَ، وَجَمَعَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فِي دَارِ كَرَامَتِهِ فِي عِلِّيِّينَ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ‏.‏

وَبَعْدُ‏:‏

‏[‏فَضْلُ حَمَلَةِ الْقُرْآنِ‏]‏

فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَشْرُفُ إِلَّا بِمَا يَعْرِفُ، وَلَا يَفْضُلُ إِلَّا بِمَا يَعْقِلُ، وَلَا يَنْجُبُ إِلَّا بِمَنْ يَصْحَبُ، وَلَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ أَعْظَمَ كِتَابٍ أُنْزِلَ، كَانَ الْمُنَزَّلُ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلَ نَبِيٍّ أُرْسِلَ، وَكَانَتْ أُمَّتُهُ مِنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ أَفْضَلَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ مِنَ الْأُمَمِ، وَكَانَتْ حَمَلَتُهُ أَشْرَفَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَقُرَّاؤُهُ وَمُقْرِئُوهُ أَفْضَلَ هَذِهِ الْمِلَّةِ‏.‏

كَمَا أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَضِرُ الْحَنَفِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ ظَاهِرَ دِمَشْقَ الْمَحْرُوسَةِ فِي أَوَائِلِ سَنَةِ إِحْدَى وَسَبْعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي طَالِبِ بْنِ نِعْمَةَ الصَّالِحِيُّ سَمَاعًا عَلَيْهِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا أَبُو طَالِبٍ عَبْدُ اللَّطِيفِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْقُبَيْطِيِّ فِي آخَرِينَ إِذْنًا، قَالُوا‏:‏ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْمُقَرَّبِ الْكَرْخِيُّ، أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ أَبُو طَاهِرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْبَغْدَادِيُّ، أَخْبَرَنَا شَيْخُنَا أَبُو عَلِيٍّ الْمُقْرِي- يَعْنِي الْحَسَنَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْعَطَّارَ-، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ الطَّبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْفَضْلِ الْعِجْلِيُّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ أَيُّوبَ السَّقْطِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو إِبْرَاهِيمَ الْبُرْجُمَانِيُّ- يَعْنِي إِسْمَاعِيلَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ-، حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ سَعِيدٍ الْجُرْجَانِيُّ وَكُنَّا نَعُدُّهُ مِنَ الْأَبْدَالِ، عَنْ نَهْشَلٍ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقُرَشِيِّ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ أَشْرَافُ أُمَّتِي حَمَلَةُ الْقُرْآنِ‏.‏

نَهْشَلٌ هَذَا ضَعِيفٌ، وَقَدْ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ مِنْ حَدِيثِ الْجُرْجَانِيِّ هَذَا عَنْ كَامِلٍ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الرَّاسِبِيِّ عَنِ الضَّحَّاكِ بِهِ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ‏:‏ أَشْرَفُ أُمَّتِي حَمَلَةُ الْقُرْآنِ وَلَمْ يَذْكُرْ نَهْشَلًا فِي إِسْنَادِهِ، وَالصَّوَابُ ذِكْرُهُ كَمَا أَخْبَرَتْنَا سِتُّ الْعَرَبِ ابْنَةُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ مُشَافَهَةً فِي دَارِهَا بِسَفْحِ قَاسِيُونَ سَنَةَ سِتٍّ وَسِتِّينَ وَسَبْعِمِائَةٍ، قَالَتْ‏:‏ أَنَا جَدِّي عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ، أَنَا أَبُو سَعْدٍ الصَّفَّارُ فِي كِتَابِهِ، أَنَا زَاهِرُ بْنُ طَاهِرٍ سَمَاعًا، أَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْحَافِظُ، أَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ وَأَبُو الْحُسَيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ الْفَارِسِيُّ إِمْلَاءً، قَالَا‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُرَيْشٍ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو إِبْرَاهِيمَ الْبُرْجُمَانِيُّ، حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ سَعِيدٍ الْجُرْجَانِيُّ، أَخْبَرَنَا نَهْشَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ أَشْرَافُ أُمَّتِي حَمَلَةُ الْقُرْآنِ وَأَصْحَابُ اللَّيْلِ‏.‏ كَذَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَرُوِّينَا فِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ثَلَاثَةٌ لَا يَكْتَرِثُونَ لِلْحِسَابِ وَلَا تُفْزِعُهُمُ الصَّيْحَةُ وَلَا يُحْزِنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ‏:‏ حَامِلُ الْقُرْآنِ يُؤَدِّيهِ إِلَى اللَّهِ يَقْدَمُ عَلَى رَبِّهِ سَيِّدًا شَرِيفًا حَتَّى يُرَافِقَ الْمُرْسَلِينَ، وَمَنْ أَذَّنَ سَبْعَ سِنِينَ لَا يَأْخُذُ عَلَى أَذَانِهِ طَمَعًا، وَعَبْدٌ مَمْلُوكٌ أَدَّى حَقَّ اللَّهِ مِنْ نَفْسِهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ‏.‏

وَرُوِّينَا أَيْضًا فِي الطَّبَرَانِيِّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ خَيْرُكُمْ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَأَقْرَأَهُ وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَلَفْظُهُ قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ وَكَانَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ التَّابِعِيُّ الْجَلِيلُ يَقُولُ لَمَّا يَرْوِي هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ عُثْمَانَ‏:‏ هَذَا الَّذِي أَقْعَدَنِي مَقْعَدِي هَذَا، يُشِيرُ إِلَى كَوْنِهِ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ بِالْكُوفَةِ يُعَلِّمُ الْقُرْآنَ وَيُقْرِئُهُ مَعَ جَلَالَةِ قَدْرِهِ وَكَثْرَةِ عِلْمِهِ، وَحَاجَةِ النَّاسِ إِلَى عِلْمِهِ، وَبَقِيَ يُقْرِئُ النَّاسَ بِجَامِعِ الْكُوفَةِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَعَلَيْهِ قَرَأَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، وَلِذَلِكَ كَانَ السَّلَفُ- رَحِمَهُمُ اللَّهُ- لَا يَعْدِلُونَ بِإِقْرَاءِ الْقُرْآنِ شَيْئًا فَقَدْ رُوِّينَا عَنْ شَقِيقٍ أَبِي وَائِلٍ قَالَ‏:‏ قِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-‏:‏ إِنَّكَ تُقِلُّ الصَّوْمَ‏.‏ قَالَ‏:‏ إِنِّي إِذَا صُمْتُ ضَعُفْتُ عَنِ الْقُرْآنِ، وَتِلَاوَةُ الْقُرْآنِ أَحَبُّ إِلَيَّ‏.‏

وَفِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ يَقُولُ اللَّهُ- عَزَّ وَجَلَّ-‏:‏ مَنْ شَغَلَهُ الْقُرْآنُ عَنْ ذِكْرِي وَمَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ قَالَ التِّرْمِذِيُّ‏:‏ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ‏.‏ وَقَدْ جَمَعَ الْحَافِظُ أَبُو الْعَلَاءِ الْهَمَذَانِيُّ طُرُقَ هَذَا الْحَدِيثِ وَفِي بَعْضِهَا‏:‏ مَنْ شَغَلَهُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي أَنْ يَتَعَلَّمَهُ أَوْ يُعَلِّمَهُ عَنْ دُعَائِي وَمَسْأَلَتِي وَأَسْنَدَ الْحَافِظُ أَبُو الْعَلَاءِ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ أَفْضَلُ الْعِبَادَةِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَرُوِّينَا عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ أَفْضَلُ عِبَادَةِ أُمَّتِي قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَعَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمَّانِيِّ‏:‏ سَأَلْتُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ عَنِ الرَّجُلِ يَغْزُو أَحَبُّ إِلَيْكَ أَوْ يُقْرِئُ الْقُرْآنَ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ يُقْرِئُ الْقُرْآنَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ، وَرُوِّينَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ‏:‏ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ لَمْ يُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ قَالَ‏:‏ إِلَّا الَّذِينَ قَرَءُوا الْقُرْآنَ، وَعَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ‏:‏ أَبْقَى النَّاسِ عُقُولًا قُرَّاءُ الْقُرْآنِ ‏.‏

وَأَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ الْبَنَّا، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ، أَنَّ أَبَا مُحَمَّدٍ عَبْدَ الْغَنِيِّ بْنَ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ سُرُورٍ الْمَقْدِسِيَّ الْحَافِظَ أَخْبَرَهُ قَالَ‏:‏ أَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْقُوسِيَانِيُّ سَمَاعًا، أَنَا أَبُو شُجَاعٍ الدَّيْلَمِيُّ الْحَافِظُ، أَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مَعْمَرٍ الْأَثْوَابِيُّ الْوَرَّاقُ، أَنَا أَبُو الْحَسَنِ طَاهِرُ بْنُ حَمَدِ بْنِ سَعْدَوَيْهِ الدِّهْقَانُ بِهَمَذَانَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ النَّيْسَابُورِيُّ بِهَا، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ ح وَأَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الصَّالِحِيُّ شِفَاهًا عَنْ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ الْفَقِيهِ قَالَ‏:‏ كَتَبَ إِلَيَّ الْحَافِظُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَلِيٍّ السَّلَامِيُّ، أَنَا ابْنُ نَاصِرٍ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ، أَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ، أَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الزُّهْرِيُّ، أَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مِقْسَمٍ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ الرَّازِيَّ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ مُحَمَّدٍ النَّهَاوَنْدِيَّ يَقُولُ‏:‏ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ يَقُولُ‏:‏ سَمِعْتُ أَبِي- رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ- يَقُولُ‏:‏ رَأَيْتُ رَبَّ الْعِزَّةِ فِي النَّوْمِ فَقُلْتُ‏:‏ يَا رَبِّ، مَا أَفْضَلُ مَا يَتَقَرَّبُ الْمُتَقَرِّبُونَ بِهِ إِلَيْكَ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ بِكَلَامِي يَا أَحْمَدُ، فَقُلْتُ‏:‏ يَا رَبِّ بِفَهْمٍ أَمْ بِغَيْرِ فَهْمٍ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ بِفَهْمٍ وَبِغَيْرِ فَهْمٍ‏.‏

‏[‏تَكَفُّلُ اللَّهِ تَعَالَى بِحِفْظِ كِتَابِهِ‏]‏

وَقَدْ خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْأُمَّةَ فِي كِتَابِهِمْ هَذَا الْمُنَزَّلِ عَلَى نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا لَمْ يَكُنْ لِأُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ فِي كُتُبِهَا الْمُنَزَّلَةِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى تَكَفَّلَ بِحِفْظِهِ دُونَ سَائِرِ الْكُتُبِ، وَلَمْ يَكِلْ حِفْظَهُ إِلَيْنَا، قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ‏}‏، وَذَلِكَ إِعْظَامٌ لِأَعْظَمِ مُعْجِزَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَحَدَّى بِسُورَةٍ مِنْهُ أَفْصَحَ الْعَرَبِ لِسَانًا وَأَعْظَمَهُمْ عِنَادًا وَعُتُوًّا وَإِنْكَارًا فَلَمْ

يَقْدِرُوا عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِآيَةٍ مِثْلِهِ، ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يُتْلَى آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنْ نَيِّفٍ وَثَمَانِمِائَةِ سَنَةٍ مَعَ كَثْرَةِ الْمُلْحِدِينَ وَأَعْدَاءِ الدِّينِ، وَلَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ مِنْهُمْ مُعَارَضَةَ شَيْءٍ مِنْهُ، وَأَيُّ دَلَالَةٍ أَعْظَمُ عَلَى صِدْقِ نُبُوَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا‏؟‏ وَأَيْضًا فَإِنَّ عُلَمَاءَ هَذِهِ الْأُمَّةِ لَمْ تَزَلْ مِنَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَإِلَى آخِرِ وَقْتٍ يَسْتَنْبِطُونَ مِنْهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ وَالْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينِ وَالْحِكَمِ وَغَيْرِهَا مَا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ مُتَقَدِّمٌ وَلَا يَنْحَصِرُ لِمُتَأَخِّرٍ، بَلْ هُوَ الْبَحْرُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَا قَرَارَ لَهُ يَنْتَهِي إِلَيْهِ، وَلَا غَايَةَ لِآخِرِهِ يُوقَفُ عَلَيْهِ، وَمِنْ ثَمَّ لَمْ تَحْتَجْ هَذِهِ الْأُمَّةُ إِلَى نَبِيٍّ بَعْدَ نَبِيِّهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا كَانَتِ الْأُمَمُ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَخْلُ زَمَانٌ مِنْ أَزْمِنَتِهِمْ عَنْ أَنْبِيَاءَ يُحَكِّمُونَ أَحْكَامَ كِتَابِهِمْ وَيَهْدُونَهُمْ إِلَى مَا يَنْفَعُهُمْ فِي عَاجِلِهِمْ وَمَآبِهِمْ، قَالَ- تَعَالَى-‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ‏}‏ فَوَكَلَ حِفْظَ التَّوْرَاةِ إِلَيْهِمْ؛ فَلِهَذَا دَخَلَهَا بَعْدَ أَنْبِيَائِهِمُ التَّحْرِيفُ وَالتَّبْدِيلُ‏.‏

وَلَمَّا تَكَفَّلَ تَعَالَى بِحِفْظِهِ خَصَّ بِهِ مَنْ شَاءَ مِنْ بَرِيَّتِهِ، وَأَوْرَثَهُ مَنِ اصْطَفَاهُ مِنْ خَلِيقَتِهِ، قَالَ- تَعَالَى-‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا‏}‏ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنَ النَّاسِ، قِيلَ‏:‏ مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ أَهْلُ الْقُرْآنِ هُمْ أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَأَحْمَدُ وَالدَّارِمِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ بِإِسْنَادٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ‏.‏

وَقَدْ أَخْبَرَتْنَا بِهِ عَالِيًا أُمُّ مُحَمَّدٍ سِتُّ الْعَرَبِ ابْنَةُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ الصَّالِحِيَّةُ مُشَافَهَةً، أَنَا جَدِّي قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا حَاضِرَةٌ، أَنَا أَبُو الْمَكَارِمِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ اللَّبَّانُ فِي كِتَابِهِ مِنْ أَصْبَهَانَ، أَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ الْحَدَّادُ سَمَاعًا، أَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الْحَافِظُ، أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، أَنَا يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بُدَيْلٍ الْعُقَيْلِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَنَسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-‏:‏ إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنَ النَّاسِ، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هُمْ‏؟‏ قَالَ‏:‏

أَهْلُ الْقُرْآنِ هُمْ أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بُدَيْلٍ‏.‏

ثُمَّ إِنَّ الِاعْتِمَادَ فِي نَقْلِ الْقُرْآنِ عَلَى حِفْظِ الْقُلُوبِ وَالصُّدُورِ لَا عَلَى حِفْظِ الْمَصَاحِفِ وَالْكُتُبِ، وَهَذِهِ أَشْرَفُ خَصِيصَةٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ إِنَّ رَبِّي قَالَ لِي‏:‏ قُمْ فِي قُرَيْشٍ فَأَنْذِرْهُمْ فَقُلْتُ لَهُ‏:‏ رَبِّ إِذًا يَثْلَغُوا رَأْسِي حَتَّى يَدَعُوهُ خُبْزَةً، فَقَالَ‏:‏ مُبْتَلِيكَ وَمُبْتَلِي بِكَ وَمُنْزِلٌ عَلَيْكَ كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ، تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ، فَابْعَثْ جُنْدًا أَبْعَثْ مِثْلَهُمْ، وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَكَ مَنْ عَصَاكَ، وَأَنْفِقْ يُنْفَقْ عَلَيْكَ‏.‏ فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَحْتَاجُ فِي حِفْظِهِ إِلَى صَحِيفَةٍ تُغْسَلُ بِالْمَاءِ، بَلْ يَقْرَءُوهُ فِي كُلِّ حَالٍ كَمَا جَاءَ فِي صِفَةِ أُمَّتِهِ‏:‏ أَنَاجِيلُهُمْ فِي صُدُورِهِمْ، وَذَلِكَ بِخِلَافِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ لَا يَحْفَظُونَهُ لَا فِي الْكُتُبِ وَلَا يَقْرَءُونَهُ كُلَّهُ إِلَّا نَظَرًا لَا عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ، وَلَمَّا خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى بِحِفْظِهِ مَنْ شَاءَ مِنْ أَهْلِهِ أَقَامَ لَهُ أَئِمَّةً ثِقَاتٍ تَجَرَّدُوا لِتَصْحِيحِهِ وَبَذَلُوا أَنْفُسَهُمْ فِي إِتْقَانِهِ وَتَلَقَّوْهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرْفًا حَرْفًا، لَمْ يُهْمِلُوا مِنْهُ حَرَكَةً وَلَا سُكُونًا وَلَا إِثْبَاتًا وَلَا حَذْفًا، وَلَا دَخَلَ عَلَيْهِمْ فِي شَيْءٍ مِنْهُ شَكٌّ وَلَا وَهْمٌ، وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ حَفِظَهُ كُلَّهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَفِظَ أَكْثَرَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَفِظَ بَعْضَهُ، كُلُّ ذَلِكَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ فِي الْقِرَاءَاتِ‏:‏ مَنْ نُقِلَ عَنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ وُجُوهِ الْقِرَاءَةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ، فَذَكَرَ مِنَ الصَّحَابَةِ أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيًّا، وَطَلْحَةَ، وَسَعْدًا، وَابْنَ مَسْعُودٍ، وَحُذَيْفَةَ، وَسَالِمًا، وَأَبَا هُرَيْرَةَ، وَابْنَ عُمَرَ، وَابْنَ عَبَّاسٍ، وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، وَابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ، وَمُعَاوِيَةَ، وَابْنَ الزُّبَيْرِ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ السَّائِبِ، وَعَائِشَةَ، وَحَفْصَةَ، وَأُمَّ سَلَمَةَ، وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَذَكَرَ مِنَ الْأَنْصَارِ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ، وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ، وَأَبَا الدَّرْدَاءِ، وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، وَأَبَا زَيْدٍ، وَمُجَمِّعَ بْنَ جَارِيَةَ، وَأَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ‏.‏

‏[‏جَمْعُ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ‏]‏

وَلَمَّا تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَامَ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ أَحَقُّ النَّاسِ بِهِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، وَقَاتَلَ الصَّحَابَةُ- رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ- أَهْلَ الرِّدَّةِ وَأَصْحَابَ مُسَيْلِمَةَ، وَقُتِلَ مِنَ الصَّحَابَةِ نَحْوُ الْخَمْسِمِائَةِ، أُشِيرَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ فِي مُصْحَفٍ وَاحِدٍ خَشْيَةَ أَنْ يَذْهَبَ بِذَهَابِ الصَّحَابَةِ، فَتَوَقَّفَ فِي ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْمُرْ فِي ذَلِكَ بِشَيْءٍ، ثُمَّ اجْتَمَعَ رَأْيُهُ وَرَأْيُ الصَّحَابَةِ- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ- عَلَى ذَلِكَ، فَأَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ بِتَتَبُّعِ الْقُرْآنِ وَجَمْعِهِ، فَجَمَعَهُ فِي صُحُفٍ كَانَتْ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- حَتَّى تُوُفِّيَ، ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- حَتَّى تُوُفِّيَ، ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا‏.‏

وَلَمَّا كَانَ فِي نَحْوِ ثَلَاثِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- حَضَرَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ فَتْحَ أَرْمِينِيَّةَ وَأَذْرَبِيجَانَ، فَرَأَى النَّاسَ يَخْتَلِقُونَ فِي الْقُرْآنِ وَيَقُولُ أَحَدُهُمْ لِلْآخَرِ قِرَاءَتِي أَصَحُّ مِنْ قِرَاءَتِكَ، فَأَفْزَعَهُ ذَلِكَ وَقَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ وَقَالَ‏:‏ أَدْرِكْ هَذِهِ الْأُمَّةَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا اخْتِلَافَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى حَفْصَةَ أَنْ أَرْسِلِي إِلَيْنَا بِالصُّحُفِ نَنْسَخْهَا ثُمَّ نَرُدَّهَا إِلَيْكِ، فَأَرْسَلَتْهَا إِلَيْهِ، فَأَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَنْ يَنْسَخُوهَا فِي الْمَصَاحِفِ، وَقَالَ‏:‏ إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدٌ فِي شَيْءٍ فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ، فَكُتِبَ مِنْهَا عِدَّةُ مَصَاحِفَ، فَوَجَّهَ بِمُصْحَفٍ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَمُصْحَفٍ إِلَى الْكُوفَةِ، وَمُصْحَفٍ إِلَى الشَّامِ، وَتَرَكَ مُصْحَفًا بِالْمَدِينَةِ، وَأَمْسَكَ لِنَفْسِهِ مُصْحَفًا الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْإِمَامُ، وَوَجَّهَ بِمُصْحَفٍ إِلَى مَكَّةَ، وَبِمُصْحَفٍ إِلَى الْيَمَنِ، وَبِمُصْحَفٍ إِلَى الْبَحْرَيْنِ، وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ الْمَعْصُومَةُ مِنَ الْخَطَأِ عَلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْمَصَاحِفُ وَتَرْكِ مَا خَالَفَهَا مِنْ زِيَادَةٍ وَنَقْصٍ وَإِبْدَالِ كَلِمَةٍ بِأُخْرَى مِمَّا كَانَ مَأْذُونًا فِيهِ تَوْسِعَةً عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُمْ ثُبُوتًا مُسْتَفِيضًا أَنَّهُ مِنَ الْقُرْآنِ، وَجُرِّدَتْ هَذِهِ الْمَصَاحِفُ جَمِيعُهَا مِنَ النُّقَطِ وَالشَّكْلِ لِيَحْتَمِلَهَا مَا صَحَّ نَقْلُهُ وَثَبَتَ تِلَاوَتُهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ كَانَ الِاعْتِمَادُ عَلَى الْحِفْظِ لَا عَلَى مُجَرَّدِ الْخَطِّ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَحْرُفِ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ‏:‏ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَكُتِبَتِ الْمَصَاحِفُ عَلَى اللَّفْظِ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ فِي الْعَرْضَةِ الْأَخِيرَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ‏:‏ كَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَعُبَيْدَةَ السَّلْمَانِيِّ وَعَامِرٍ الشَّعْبِيِّ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-‏:‏ لَوْ وَلِيتُ فِي الْمَصَاحِفِ مَا وَلِيَ عُثْمَانُ لَفَعَلْتُ كَمَا فَعَلَ‏.‏

‏[‏أَسْمَاءُ مَنِ اشْتَهَرَ بِالْقِرَاءَةِ فِي الْأَمْصَارِ‏]‏

وَقَرَأَ كُلُّ أَهْلِ مِصْرٍ بِمَا فِي مُصْحَفِهِمْ، وَتَلَقَّوْا مَا فِيهِ عَنِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ تَلَقَّوْهُ مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَامُوا بِذَلِكَ مَقَامَ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ تَلَقَّوْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

فَمِمَّنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ قُرَّاءُ الْمَدِينَةِ الْمَشْهُورِينَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَعُرْوَةُ وَسَالِمٌ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَسُلَيْمَانُ وَعَطَاءٌ ابْنَا يَسَارٍ وَمُعَاذُ بْنُ الْحَارِثِ الْمَعْرُوفُ بِمُعَاذٍ الْقَارِئِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ هُرْمُزَ الْأَعْرَجُ وَابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ وَمُسْلِمُ بْنُ جُنْدُبٍ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَبِمَكَّةَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ وَعَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، وَبِالْكُوفَةِ عَلْقَمَةُ وَالْأَسْوَدُ وَمَسْرُوقٌ وَعُبَيْدَةُ وَعَمْرُو بْنُ شُرَحْبِيلَ وَالْحَارِثُ بْنُ قَيْسٍ وَالرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ وَزِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ وَعُبَيْدُ بْنُ نُضَيْلَةَ وَأَبُو زُرْعَةَ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَالشَّعْبِيُّ‏.‏

وَبِالْبَصْرَةِ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ قَيْسٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَأَبُو رَجَاءٍ وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ وَمُعَاذٌ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَقَتَادَةُ، وَبِالشَّامِ الْمُغِيرَةُ بْنُ أَبِي شِهَابٍ الْمَخْزُومِيُّ صَاحِبُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فِي الْقِرَاءَةِ، وَخُلَيْدُ بْنُ سَعْدٍ صَاحِبُ أَبِي الدَّرْدَاءِ‏.‏ ثُمَّ تَجَرَّدَ قَوْمٌ لِلْقِرَاءَةِ وَالْأَخْذِ، وَاعْتَنَوْا بِضَبْطِ الْقِرَاءَةِ أَتَمَّ عِنَايَةٍ، حَتَّى صَارُوا فِي ذَلِكَ أَئِمَّةً يُقْتَدَى بِهِمْ وَيُرْحَلُ إِلَيْهِمْ وَيُؤْخَذُ عَنْهُمْ، أَجْمَعَ أَهْلُ بَلَدِهِمْ عَلَى تَلَقِّي قِرَاءَتِهِمْ بِالْقَبُولِ، وَلَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِمْ فِيهَا اثْنَانِ، وَلِتَصَدِّيهِمْ لِلْقِرَاءَةِ نُسِبَتْ إِلَيْهِمْ، فَكَانَ بِالْمَدِينَةِ أَبُو جَعْفَرٍ يَزِيدُ بْنُ الْقَعْقَاعِ، ثُمَّ شَيْبَةُ بْنُ نِصَاحٍ، ثُمَّ نَافِعُ بْنُ أَبِي نُعَيْمٍ، وَكَانَ بِمَكَّةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ وَحُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ الْأَعْرَجُ وَمُحَمَّدُ بْنُ مُحَيْصِنٍ، وَكَانَ بِالْكُوفَةِ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَعَاصِمُ بْنُ أَبِي النَّجُودِ وَسُلَيْمَانُ الْأَعْمَشُ، ثُمَّ حَمْزَةُ، ثُمَّ الْكِسَائِيُّ، وَكَانَ بِالْبَصْرَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ وَأَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ، ثُمَّ عَاصِمٌ الْجَحْدَرِيُّ، ثُمَّ يَعْقُوبُ الْحَضْرَمِيُّ، وَكَانَ بِالشَّامِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ وَعَطِيَّةُ بْنُ قَيْسٍ الْكِلَابِيُّ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُهَاجِرِ، ثُمَّ يَحْيَى بْنُ الْحَارِثِ الذِّمَارِيُّ، ثُمَّ شُرَيْحُ بْنُ يَزِيدَ الْحَضْرَمِيُّ‏.‏

‏[‏أَرْكَانُ الْقِرَاءَةِ الصَّحِيحَةِ‏]‏

ثُمَّ إِنَّ الْقُرَّاءَ بَعْدَ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ كَثُرُوا وَتَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ وَانْتَشَرُوا وَخَلْفَهُمْ أُمَمٌ بَعْدَ أُمَمٍ، عُرِفَتْ طَبَقَاتُهُمْ، وَاخْتَلَفَتْ صِفَاتُهُمْ، فَكَانَ مِنْهُمُ الْمُتْقِنُ لِلتِّلَاوَةِ الْمَشْهُورُ بِالرِّوَايَةِ وَالدِّرَايَةِ، وَمِنْهُمُ الْمُقْتَصِرُ عَلَى وَصْفٍ مِنْ هَذِهِ الْأَوْصَافِ، وَكَثُرَ بَيْنَهُمْ لِذَلِكَ الِاخْتِلَافُ، وَقَلَّ الضَّبْطُ، وَاتَّسَعَ الْخَرْقُ، وَكَادَ الْبَاطِلُ يَلْتَبِسُ بِالْحَقِّ، فَقَامَ جَهَابِذَةُ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ، وَصَنَادِيدُ الْأَئِمَّةِ، فَبَالَغُوا فِي الِاجْتِهَادِ وَبَيَّنُوا الْحَقَّ الْمُرَادَ، وَجَمَعُوا الْحُرُوفَ وَالْقِرَاءَاتِ، وَعَزَوُا الْوُجُوهَ وَالرِّوَايَاتِ، وَمَيَّزُوا بَيْنَ الْمَشْهُورِ وَالشَّاذِّ، وَالصَّحِيحِ وَالْفَاذِّ، بِأُصُولٍ أَصَّلُوهَا، وَأَرْكَانٍ فَصَّلُوهَا، وَهَا نَحْنُ نُشِيرُ إِلَيْهَا وَنُعَوِّلُ كَمَا عَوَّلُوا عَلَيْهَا فَنَقُولُ‏:‏

كُلُّ قِرَاءَةٍ وَافَقَتِ الْعَرَبِيَّةَ وَلَوْ بِوَجْهٍ، وَوَافَقَتْ أَحَدَ الْمَصَاحِفِ الْعُثْمَانِيَّةِ وَلَوِ احْتِمَالًا وَصَحَّ سَنَدُهَا، فَهِيَ الْقِرَاءَةُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي لَا يَجُوزُ رَدُّهَا وَلَا يَحِلُّ إِنْكَارُهَا، بَلْ هِيَ مِنَ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ وَوَجَبَ عَلَى النَّاسِ قَبُولُهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ عَنِ الْأَئِمَّةِ السَّبْعَةِ، أَمْ عَنِ الْعَشْرَةِ، أَمْ عَنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمَقْبُولِينَ، وَمَتَى اخْتَلَّ رُكْنٌ مِنْ هَذِهِ الْأَرْكَانِ الثَّلَاثَةِ أُطْلِقَ عَلَيْهَا ضَعِيفَةٌ أَوْ شَاذَّةٌ أَوْ بَاطِلَةٌ، سَوَاءٌ كَانَتْ عَنِ السَّبْعَةِ أَمْ عَمَّنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُمْ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ أَئِمَّةِ التَّحْقِيقِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، صَرَّحَ بِذَلِكَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو عَمْرٍو عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّانِيُّ، وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَكَذَلِكَ الْإِمَامُ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عَمَّارٍ الْمَهْدَوِيُّ، وَحَقَّقَهُ الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْمَعْرُوفُ بِأَبِي شَامَةَ، وَهُوَ مَذْهَبُ السَّلَفِ الَّذِي لَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ خِلَافُهُ‏.‏

قَالَ أَبُو شَامَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي كِتَابِهِ الْمُرْشِدِ الْوَجِيزِ‏:‏ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُغْتَرَّ بِكُلِّ قِرَاءَةٍ تُعْزَى إِلَى وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ السَّبْعَةِ وَيُطْلَقُ عَلَيْهَا لَفْظُ الصِّحَّةِ وَإِنْ هَكَذَا أُنْزِلَتْ، إِلَّا إِذَا دَخَلَتْ فِي ذَلِكَ الضَّابِطِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَنْفَرِدُ بِنَقْلِهَا مُصَنِّفٌ عَنْ غَيْرِهِ، وَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِنَقْلِهَا عَنْهُمْ، بَلْ إِنْ نُقِلَتْ عَنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْقُرَّاءِ فَذَلِكَ لَا يُخْرِجُهَا عَنِ الصِّحَّةِ، فَإِنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَى اسْتِجْمَاعِ تِلْكَ الْأَوْصَافِ لَا عَمَّنْ تُنْسَبُ إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْقِرَاءَاتِ الْمَنْسُوبَةَ إِلَى كُلِّ قَارِئٍ مِنَ السَّبْعَةِ وَغَيْرِهِمْ مُنْقَسِمَةٌ إِلَى الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ وَالشَّاذِّ، غَيْرَ أَنَّ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةَ لِشُهْرَتِهِمْ وَكَثْرَةِ الصَّحِيحِ الْمُجْتَمَعِ عَلَيْهِ فِي قِرَاءَتِهِمْ تَرْكَنُ النَّفْسُ إِلَى مَا نُقِلَ عَنْهُمْ فَوْقَ مَا يُنْقَلُ عَنْ غَيْرِهِمْ‏.‏

قُلْتُ‏:‏ وَقَوْلُنَا فِي الضَّابِطِ وَلَوْ بِوَجْهٍ نُرِيدُ بِهِ وَجْهًا مِنْ وُجُوهِ النَّحْوِ، سَوَاءٌ كَانَ أَفْصَحَ أَمْ فَصِيحًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ، أَمْ مُخْتَلَفًا فِيهِ اخْتِلَافًا لَا يَضُرُّ مِثْلُهُ إِذَا كَانَتِ الْقِرَاءَةُ مِمَّا شَاعَ وَذَاعَ وَتَلَقَّاهُ الْأَئِمَّةُ بِالْإِسْنَادِ الصَّحِيحِ، إِذْ هُوَ الْأَصْلُ الْأَعْظَمُ وَالرُّكْنُ الْأَقْوَمُ، وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ فِي رُكْنِ مُوَافَقَةِ الْعَرَبِيَّةِ، فَكَمْ مِنْ قِرَاءَةٍ أَنْكَرَهَا بَعْضُ أَهْلِ النَّحْوِ أَوْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَلَمْ يُعْتَبَرْ إِنْكَارُهُمْ، بَلْ أَجَمَعَ الْأَئِمَّةُ الْمُقْتَدَى بِهِمْ مِنَ السَّلَفِ عَلَى قَبُولِهَا كَإِسْكَانِ بَارِئْكُمْ وَيَأْمُرْكُمْ وَنَحْوِهِ، وَسَبَأْ وَيَا بُنَيْ، وَمَكْرَ السَّيِّئْ وَنُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ فِي الْأَنْبِيَاءِ، وَالْجَمْعِ بَيْنَ السَّاكِنَيْنِ فِي تَاءَاتِ الْبَزِّيِّ وَإِدْغَامِ أَبِي عَمْرٍو وَاسْطَّاعُوا لِحَمْزَةَ وَإِسْكَانِ نِعْمَّا وَيَهْدِّي، وَإِشْبَاعِ الْيَاءِ فِي نَرْتَعِي، وَيَتَّقِي وَيَصْبِرْ وَأَفْئِيدَةٌ مِنَ النَّاسِ، وَضَمِّ ‏{‏الْمَلَائِكَةُ اسْجُدُوا‏}‏، وَنَصْبِ كُنْ فَيَكُونَ، وَخَفْضِ وَالْأَرْحَامِ، وَنَصْبِ لِيُجْزَى قَوْمًا، وَالْفَصْلِ بَيْنَ الْمُضَافَيْنِ فِي الْأَنْعَامِ، وَهَمْزِ سَأْقَيْهَا، وَوَصْلِ وَإِنَّ الْيَاسَ، وَأَلِفِ إِنَّ هَذَانِ، وَتَخْفِيفِ وَلَا تَتَّبِعَانِ، وَقِرَاءَةِ لَيْكَةَ فِي الشُّعَرَاءِ وَص وَغَيْرِ ذَلِكَ‏.‏

قَالَ الْحَافِظُ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ فِي كِتَابِهِ جَامِعِ الْبَيَانِ بَعْدَ ذِكْرِ إِسْكَانِ بَارِئِكُمْ وَيَأْمُرُكُمْ لِأَبِي عَمْرٍو وَحِكَايَةِ إِنْكَارِ سِيبَوَيْهِ لَهُ فَقَالَ أَعْنِي الدَّانِيَّ‏:‏ وَالْإِسْكَانُ أَصَحُّ فِي النَّقْلِ وَأَكْثَرُ فِي الْأَدَاءِ وَهُوَ الَّذِي أَخْتَارُهُ وَآخُذُ بِهِ، ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ نُصُوصَ رُوَاتِهِ قَالَ‏:‏ وَأَئِمَّةُ الْقُرَّاءِ لَا تَعْمَلُ فِي شَيْءٍ مِنْ حُرُوفِ الْقُرْآنِ عَلَى الْأَفْشَى فِي اللُّغَةِ وَالْأَقْيَسِ فِي الْعَرَبِيَّةِ، بَلْ عَلَى الْأَثْبَتِ فِي الْأَثَرِ وَالْأَصَحِّ فِي النَّقْلِ وَالرِّوَايَةِ إِذَا ثَبَتَ عَنْهُمْ لَمْ يَرُدَّهَا قِيَاسُ عَرَبِيَّةٍ وَلَا فُشُوُّ لُغَةٍ؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ يَلْزَمُ قَبُولُهَا وَالْمَصِيرُ إِلَيْهَا‏.‏

قُلْنَا‏:‏ وَنَعْنِي بِمُوَافَقَةِ أَحَدِ الْمَصَاحِفِ مَا كَانَ ثَابِتًا فِي بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ كَقِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا فِي الْبَقَرَةِ بِغَيْرِ وَاوٍ، وَ‏{‏بِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ‏}‏ بِزِيَادَةِ الْبَاءِ فِي الِاسْمَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ فِي الْمُصْحَفِ الشَّامِيِّ، وَكَقِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ ‏{‏جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ‏}‏ فِي الْمَوْضِعِ الْأَخِيرِ مِنْ سُورَةِ بَرَاءَةَ بِزِيَادَةِ مِنْ، فَإِنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ فِي الْمُصْحَفِ الْمَكِّيِّ، وَكَذَلِكَ ‏{‏فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ‏}‏‏.‏

فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ بِحَذْفِ هُوَ، وَكَذَا سَارِعُوا بِحَذْفِ الْوَاوِ، وَكَذَا مِنْهُمَا مُنْقَلَبًا بِالتَّثْنِيَةِ فِي الْكَهْفِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ فِي الْقُرْآنِ اخْتَلَفَتِ الْمَصَاحِفُ فِيهَا فَوَرَدَتِ الْقِرَاءَةُ عَنْ أَئِمَّةِ تِلْكَ الْأَمْصَارِ عَلَى مُوَافَقَةِ مُصْحَفِهِمْ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كَذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمَصَاحِفِ الْعُثْمَانِيَّةِ لَكَانَتِ الْقِرَاءَةُ بِذَلِكَ شَاذَّةً لِمُخَالَفَتِهَا الرَّسْمَ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ، وَقَوْلُنَا بَعْدَ ذَلِكَ وَلَوِ احْتِمَالًا نَعْنِي بِهِ مَا يُوَافِقُ الرَّسْمَ وَلَوْ تَقْدِيرًا، إِذْ مُوَافَقَةُ الرَّسْمِ قَدْ تَكُونُ تَحْقِيقًا وَهُوَ الْمُوَافَقَةُ الصَّرِيحَةُ، وَقَدْ تَكُونُ تَقْدِيرًا وَهُوَ الْمُوَافَقَةُ احْتِمَالًا، فَإِنَّهُ قَدْ خُولِفَ صَرِيحُ الرَّسْمِ فِي مَوَاضِعَ إِجْمَاعًا نَحْوَ‏:‏ السَّمَوَاتُ وَالصَّلِحَتُ وَالَّيْلِ وَالصَّلَوَةَ وَالزَّكَوَةَ وَالرِّبَوا، وَنَحْوَ لِنَظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ وَجيءَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ حَيْثُ كُتِبَ بِنُونٍ وَاحِدَةٍ وَبِأَلِفٍ بَعْدَ الْجِيمِ فِي بَعْضِ الْمَصَاحِفِ، وَقَدْ تُوَافِقُ بَعْضُ الْقِرَاءَاتِ الرَّسْمَ تَحْقِيقًا، وَيُوَافِقُهُ بَعْضُهَا تَقْدِيرًا، نَحْوَ مَلَكَ يَوْمَ الدِّينِ فَإِنَّهُ كُتِبَ بِغَيْرِ أَلْفٍ فِي جَمِيعِ الْمَصَاحِفِ، فَقِرَاءَةُ الْحَذْفِ تَحْتَمِلُهُ تَخْفِيفًا كَمَا كُتِبَ ‏{‏مَلِكِ النَّاسِ‏}‏، وَقِرَاءَةُ الْأَلِفِ مُحْتَمَلَةٌ تَقْدِيرًا كَمَا كُتِبَ ‏{‏مَالِكَ الْمُلْكِ‏}‏، فَتَكُونُ الْأَلِفُ حُذِفَتِ اخْتِصَارًا، وَكَذَلِكَ النَّشَاةُ حَيْثُ كُتِبَتْ بِالْأَلِفِ وَافَقَتْ قِرَاءَةَ الْمَدِّ تَحْقِيقًا وَوَافَقَتْ قِرَاءَةَ الْقَصْرِ تَقْدِيرًا، إِذْ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْأَلِفُ صُورَةَ الْهَمْزَةِ عَلَى غَيْرِ الْقِيَاسِ كَمَا كُتِبَ ‏{‏مَوْئِلًا‏}‏، وَقَدْ تُوَافِقُ اخْتِلَافَاتُ الْقِرَاءَاتِ الرَّسْمَ تَحْقِيقًا نَحْوَ ‏{‏أَنْصَارَ اللَّهِ‏}‏، ‏{‏وَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ‏}‏، ‏{‏وَيَغْفِرْ لَكُمْ‏}‏ وَ‏{‏يَعْمَلُونَ‏}‏ وَ‏{‏هَيْتَ لَكَ‏}‏ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ تَجَرُّدُهُ عَنِ النُّقَطِ وَالشَّكْلِ وَحَذْفُهُ وَإِثْبَاتُهُ عَلَى فَضْلٍ عَظِيمٍ لِلصَّحَابَةِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- فِي عِلْمِ الْهِجَاءِ خَاصَّةً، وَفَهْمٍ ثَاقِبٍ فِي تَحْقِيقِ كُلِّ عِلْمٍ، فَسُبْحَانَ مَنْ أَعْطَاهُمْ وَفَضَّلَهُمْ عَلَى سَائِرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ‏.‏

وَلِلَّهِ دَرُّ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- حَيْثُ يَقُولُ فِي وَصْفِهِمْ فِي رِسَالَتِهِ الَّتِي رَوَاهَا عَنْهُ الزَّعْفَرَانِيُّ مَا هَذَا نَصُّهُ‏:‏ وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ- تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فِي الْقُرْآنِ وَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَسَبَقَ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- مِنَ الْفَضْلِ مَا لَيْسَ لِأَحَدٍ بَعْدَهُمْ، فَرَحِمَهُمُ اللَّهُ وَهَنَّأَهُمْ بِمَا أَثَابَهُمْ مِنْ ذَلِكَ بِبُلُوغِ أَعْلَى مَنَازِلِ الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، أَدَّوْا إِلَيْنَا سُنَنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَاهَدُوهُ وَالْوَحْيُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ، فَعَلِمُوا مَا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامًّا وَخَاصًّا وَعَزْمًا وَإِرْشَادًا وَعَرَفُوا مِنْ سُنَنِهِ مَا عَرَفْنَا وَجَهِلْنَا وَهُمْ فَوْقَنَا فِي كُلِّ عِلْمٍ وَاجْتِهَادٍ وَوَرَعٍ وَعَقْلٍ وَأَمْرٍ اسْتُدْرِكَ بِهِ عِلْمٌ وَاسْتُنْبِطَ بِهِ، وَآرَاؤُهُمْ لَنَا أَحْمَدُ وَأَوْلَى بِنَا مِنْ رَأْيِنَا عِنْدَ أَنْفُسِنَا‏.‏

قُلْتُ‏:‏ فَانْظُرْ كَيْفَ كَتَبُوا ‏{‏الصِّرَاطَ‏}‏ وَ‏{‏الْمُصَيْطِرُونَ‏}‏ بِالصَّادِ الْمُبْدَلَةِ مِنَ السِّينِ، وَعَدَلُوا عَنِ السِّينِ الَّتِي هِيَ الْأَصْلُ لِتَكُونَ قِرَاءَةُ السِّيِنِ وَإِنْ خَالَفَتِ الرَّسْمَ مِنْ وَجْهٍ قَدْ أَتَتْ عَلَى الْأَصْلِ فَيَعْتَدِلَانِ، وَتَكُونَ قِرَاءَةُ الْإِشْمَامِ مُحْتَمَلَةً، وَلَوْ كُتِبَ ذَلِكَ بِالسِّينِ عَلَى الْأَصْلِ لَفَاتَ ذَلِكَ وَعُدَّتْ قِرَاءَةُ غَيْرِ السِّينِ مُخَالِفَةً لِلرَّسْمِ وَالْأَصْلِ، وَلِذَلِكَ كَانَ الْخِلَافُ فِي الْمَشْهُورِ فِي ‏{‏بَسْطَةً‏}‏ الْأَعْرَافِ دُونَ ‏{‏بَسْطَةً‏}‏ الْبَقَرَةِ؛ لِكَوْنِ حَرْفِ الْبَقَرَةِ كُتِبَ بِالسِّينِ وَحَرْفِ الْأَعْرَافِ بِالصَّادِ، عَلَى أَنَّ مُخَالِفَ صَرِيحِ الرَّسْمِ فِي حَرْفٍ مُدْغَمٍ أَوْ مُبْدَلٍ أَوْ ثَابِتٍ أَوْ مَحْذُوفٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ لَا يُعَدُّ مُخَالِفًا إِذَا ثَبَتَتِ الْقِرَاءَةُ بِهِ وَوَرَدَتْ مَشْهُورَةً مُسْتَفَاضَةً، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَمْ يَعُدُّوا إِثْبَاتَ يَاءَاتِ الزَّوَائِدِ وَحَذْفَ يَاءِ ‏{‏تَسْئَلْنِي‏}‏ فِي الْكَهْفِ، وَقِرَاءَةَ وَأَكُونُ مِنَ الصَّالِحِينَ وَالظَّاءَ مِنْ ‏{‏بِضَنِينٍ‏}‏ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ مُخَالَفَةِ الرَّسْمِ الْمَرْدُودِ، فَإِنَّ الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ يُغْتَفَرُ، إِذْ هُوَ قَرِيبٌ يَرْجِعُ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ وَتُمْشِيهِ صِحَّةُ الْقِرَاءَةِ وَشُهْرَتُهَا وَتَلَقِّيهَا بِالْقَبُولِ، وَذَلِكَ بِخِلَافِ زِيَادَةِ كَلِمَةٍ وَنُقْصَانِهَا وَتَقْدِيمِهَا وَتَأْخِيرِهَا حَتَّى وَلَوْ كَانَتْ حَرْفًا وَاحِدًا مِنْ حُرُوفِ الْمَعَانِي، فَإِنَّ حُكْمَهُ فِي حُكْمِ الْكَلِمَةِ لَا يُسَوِّغُ مُخَالَفَةَ الرَّسْمِ فِيهِ، وَهَذَا هُوَ الْحَدُّ الْفَاصِلُ فِي حَقِيقَةِ اتِّبَاعِ الرَّسْمِ وَمُخَالَفَتِهِ، وَقَوْلُنَا وَصَحَّ سَنَدُهَا، فَإِنَّا نَعْنِي بِهِ أَنْ يَرْوِيَ تِلْكَ الْقِرَاءَةَ الْعَدْلُ الضَّابِطُ عَنْ مِثْلِهِ كَذَا حَتَّى تَنْتَهِيَ، وَتَكُونَ مَعَ ذَلِكَ مَشْهُورَةً عِنْدَ أَئِمَّةٍ هَذَا الشَّأْنَ الضَّابِطِينَ لَهُ غَيْرَ مَعْدُودَةٍ عِنْدَهُمْ مِنَ الْغَلَطِ أَوْ مِمَّا شَذَّ بِهَا بَعْضُهُمْ، وَقَدْ شَرَطَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ التَّوَاتُرَ فِي هَذَا الرُّكْنِ وَلَمْ يَكْتَفِ فِيهِ بِصِحَّةِ السَّنَدِ، وَزَعَمَ أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِالتَّوَاتُرِ، وَإِنَّ مَا جَاءَ مَجِيءَ الْآحَادِ لَا يَثْبُتُ بِهِ قُرْآنٌ، وَهَذَا مَا لَا يَخْفَى مَا فِيهِ، فَإِنَّ التَّوَاتُرَ إِذَا ثَبَتَ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الرُّكْنَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ مِنَ الرَّسْمِ وَغَيْرِهِ إِذْ مَا ثَبَتَ مِنْ أَحْرُفِ الْخِلَافِ مُتَوَاتِرًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَبَ قَبُولُهُ وَقُطِعَ بِكَوْنِهِ قُرْآنًا، سَوَاءٌ وَافَقَ الرَّسْمَ أَمْ خَالَفَهُ وَإِذَا اشْتَرَطْنَا التَّوَاتُرَ فِي كُلِّ حَرْفٍ مِنْ حُرُوفِ الْخِلَافِ انْتَفَى كَثِيرٌ مِنْ أَحْرُفِ الْخِلَافِ الثَّابِتِ عَنْ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ السَّبْعَةِ وَغَيْرِهِمْ وَقَدْ كُنْتُ قَبْلُ أَجْنَحُ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ، ثُمَّ ظَهَرَ فَسَادُهُ وَمُوَافَقَةُ أَئِمَّةِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ‏.‏

قَالَ الْإِمَامُ الْكَبِيرُ أَبُو شَامَةَ فِي مُرْشِدِهِ‏:‏ وَقَدْ شَاعَ عَلَى أَلْسِنَةِ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُقْرِئِينَ الْمُتَأَخِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُقَلِّدِينَ أَنَّ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعَ كُلَّهَا مُتَوَاتِرَةٌ، أَيْ كُلُّ فَرْدٍ فَرْدٍ مَا رُوِيَ عَنْ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ السَّبْعَةِ، قَالُوا وَالْقَطْعُ بِأَنَّهَا مُنَزَّلَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاجِبٌ وَنَحْنُ بِهَذَا نَقُولُ، وَلَكِنْ فِيمَا اجْتَمَعَتْ عَلَى نَقْلِهِ عَنْهُمُ الطُّرُقُ وَاتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الْفِرَقُ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ لَهُ مَعَ أَنَّهُ شَاعَ وَاشْتَهَرَ وَاسْتَفَاضَ، فَلَا أَقَلَّ مِنَ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَتَّفِقِ التَّوَاتُرُ فِي بَعْضِهَا‏.‏

وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عُمَرَ الْجَعْبَرِيُّ أَقُولُ‏:‏ الشَّرْطُ وَاحِدٌ وَهُوَ صِحَّةُ النَّقْلِ، وَيَلْزَمُ الْآخَرَانِ فَهَذَا ضَابِطٌ يُعْرَفُ مَا هُوَ مِنَ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ وَغَيْرِهَا، فَمَنْ أَحْكَمَ مَعْرِفَةَ حَالِ النَّقَلَةِ وَأَمْعَنَ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَأَتْقَنَ الرَّسْمَ انْحَلَّتْ لَهُ هَذِهِ الشُّبْهَةُ‏.‏

‏[‏حُكْمُ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ بِالشَّاذِّ‏]‏

وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ مَكِّيٌّ فِي مُصَنَّفِهِ الَّذِي أَلْحَقَهُ بِكِتَابِهِ الْكَشْفِ لَهُ‏:‏ فَإِنْ سَأَلَ سَائِلٌ فَقَالَ‏:‏ فَمَا الَّذِي يُقْبَلُ مِنَ الْقُرْآنِ الْآنَ فَيُقْرَأُ بِهِ‏؟‏ وَمَا الَّذِي لَا يُقْبَلُ وَلَا يُقْرَأُ بِهِ‏؟‏ وَمَا الَّذِي يُقْبَلُ وَلَا يُقْرَأُ بِهِ‏؟‏ فَالْجَوَابُ أَنَّ جَمِيعَ مَا رُوِيَ فِي الْقُرْآنِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ‏:‏ قِسْمٌ يُقْرَأُ بِهِ الْيَوْمَ، وَذَلِكَ مَا اجْتَمَعَ فِيهِ ثَلَاثُ خِلَالٍ، وَهُنَّ‏:‏ أَنْ يُنْقَلَ عَنِ الثِّقَاتِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَكُونَ وَجْهُهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ سَائِغًا، وَيَكُونَ مُوَافِقًا لِخَطِّ الْمُصْحَفِ‏.‏ فَإِذَا اجْتَمَعَتْ فِيهِ هَذِهِ الْخِلَالُ الثَّلَاثُ قُرِئَ بِهِ وَقُطِعَ عَلَى مُغَيَّبِهِ وَصِحَّتِهِ وَصِدْقِهِ؛ لِأَنَّهُ أُخِذَ عَنْ إِجْمَاعٍ مِنْ جِهَةِ مُوَافَقَةِ خَطِّ الْمُصْحَفِ، وَكَفَرَ مَنْ جَحَدَهُ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَالْقِسْمُ الثَّانِي مَا صَحَّ نَقْلُهُ عَنِ الْآحَادِ وَصَحَّ وَجْهُهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَخَالَفَ لَفْظُهُ خَطَّ الْمُصْحَفِ، فَهَذَا يُقْبَلُ وَلَا يُقْرَأُ بِهِ لِعِلَّتَيْنِ‏:‏ إِحْدَاهُمَا أَنَّهُ لَمْ يُؤْخَذْ بِإِجْمَاعٍ، إِنَّمَا أُخِذَ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ وَلَا يَثْبُتُ قُرْآنٌ يُقْرَأُ بِهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَالْعِلَّةُ الثَّانِيَةُ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا قَدْ أُجْمِعَ عَلَيْهِ فَلَا يُقْطَعُ عَلَى مُغَيَّبِهِ وَصِحَّتِهِ وَمَا لَمْ يُقْطَعْ عَلَى صِحَّتِهِ لَا يَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِهِ، وَلَا يَكْفُرُ مَنْ جَحَدَهُ، وَلَبِئْسَ مَا صَنَعَ إِذَا جَحَدَهُ‏.‏

قَالَ وَالْقِسْمُ الثَّالِثِ هُوَ مَا نَقَلَهُ غَيْرُ ثِقَةٍ أَوْ نَقَلَهُ ثِقَةٌ وَلَا وَجْهَ لَهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ، فَهَذَا لَا يُقْبَلُ وَإِنْ وَافَقَ خَطَّ الْمُصْحَفِ، قَالَ‏:‏ وَلِكُلِّ صِنْفٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ تَمْثِيلٌ تَرَكْنَا ذِكْرَهُ اخْتِصَارًا‏.‏ قُلْتُ‏:‏ وَمِثَالُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ ‏{‏مَالِكِ‏}‏ وَمَلِكِ وَيَخْدَعُونَ وَ‏{‏يُخَادِعُونَ‏}‏ وَأَوْصَى ‏{‏وَوَصَّى‏}‏ وَيَطَّوَّعُ وَ‏{‏تَطَوَّعَ‏}‏ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْقِرَاءَاتِ الْمَشْهُورَةِ‏.‏ وَمِثَالُ الْقِسْمِ الثَّانِي قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ‏:‏ وَالذَّكَرَ وَالْأُنْثَى فِي ‏{‏وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى‏}‏ وَقِرَاءَةُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَكَانَ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ غَصْبًا وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ كَافِرًا وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا ثَبَتَ بِرِوَايَاتِ الثِّقَاتِ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِ الْقِرَاءَةِ بِذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ، حُكْمُ الصَّلَاةِ بِالْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ فَأَجَازَهَا بَعْضُهُمْ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ كَانُوا يَقْرَءُونَ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ فِي الصَّلَاةِ، وَهَذَا أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ‏.‏ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى عَدَمِ الْجَوَازِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ لَمْ تَثْبُتْ مُتَوَاتِرَةً عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ ثَبَتَتْ بِالنَّقْلِ فَإِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِالْعَرْضَةِ الْأَخِيرَةِ أَوْ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى الْمُصْحَفِ الْعُثْمَانِيِّ، أَوْ أَنَّهَا لَمْ تُنْقَلْ إِلَيْنَا نَقْلًا يَثْبُتُ بِمِثْلِهِ الْقُرْآنُ أَوْ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مِنَ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ، كُلُّ هَذِهِ مَآخِذُ لِلْمَانِعِينَ، وَتَوَسَّطَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ‏:‏ إِنْ قَرَأَ بِهَا فِي الْقِرَاءَةِ الْوَاجِبَةِ وَهِيَ الْفَاتِحَةُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى غَيْرِهَا لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَيَقَّنْ أَنَّهُ أَدَّى الْوَاجِبَ مِنَ الْقِرَاءَةِ لِعَدَمِ ثُبُوتِ الْقُرْآنِ بِذَلِكَ، وَإِنْ قَرَأَ بِهَا فِيمَا لَا يَجِبُ لَمْ تَبْطُلْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَيَقَّنْ أَنَّهُ أَتَى فِي الصَّلَاةِ بِمُبْطِلٍ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنَ الْحُرُوفِ الَّتِي أُنْزِلَ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ، وَهَذَا يُبْتَنَى عَلَى أَصْلٍ، وَهُوَ أَنَّ مَا لَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهُ مِنَ الْحُرُوفِ السَّبْعَةِ، فَهَلْ يَجِبُ الْقَطْعُ بِكَوْنِهِ لَيْسَ مِنْهَا‏؟‏

فَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقَطْعُ بِذَلِكَ، إِذْ لَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا وَجَبَ عَلَيْنَا أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ بِهِ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ قَطْعِيًّا وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ مَكِّيٌّ بِقَوْلِهِ‏:‏ وَلَبِئْسَ مَا صَنَعَ إِذَا جَحَدَهُ‏.‏ وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْكَلَامِ إِلَى وُجُوبِ الْقَطْعِ بِنَفْيِهِ حَتَّى قَطَعَ بَعْضُهُمْ بِخَطَأِ مَنْ لَمْ يُثْبِتِ الْبَسْمَلَةَ مِنَ الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ سُورَةِ النَّمْلِ، وَعَكَسَ بَعْضُهُمْ فَقَطَعَ بِخَطَأِ مَنْ أَثْبَتَهَا؛ لِزَعْمِهِمْ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ مَوَارِدِ الِاجْتِهَادِ فِي الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْقَطْعُ بِنَفْيِهِ، وَالصَّوَابُ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْقَوْلَيْنِ حَقٌّ، وَأَنَّهَا آيَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ فِي بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ وَهِيَ قِرَاءَةُ الَّذِينَ يَفْصِلُونَ بِهَا بَيْنَ السُّورَتَيْنِ، وَلَيْسَتْ آيَةً فِي قِرَاءَةِ مَنْ لَمْ يَفْصِلْ بِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏ وَكَانَ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا يَقُولُ‏:‏ وَعَلَى قَوْلِ مَنْ حَرَّمَ الْقِرَاءَةَ بِالشَّاذِّ يَكُونُ عَالِمٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَأَتْبَاعِهِمْ قَدِ ارْتَكَبُوا مُحَرَّمًا بِقِرَاءَتِهِمْ بِالشَّاذِّ، فَيَسْقُطُ الِاحْتِجَاجُ بِخَبَرِ مَنْ يَرْتَكِبُ الْمُحَرَّمَ دَائِمًا وَهُمْ نَقَلَةُ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، فَيَسْقُطُ مَا نَقَلُوهُ فَيَفْسُدُ عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ نِظَامُ الْإِسْلَامِ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَيَلْزَمُ أَيْضًا أَنَّ الَّذِينَ قَرَءُوا بِالشَّوَاذِّ لَمْ يُصَلُّوا قَطُّ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْقِرَاءَةِ مُحَرَّمَةٌ وَالْوَاجِبُ لَا يَتَأَدَّى بِفِعْلِ الْمُحَرَّمِ وَكَانَ مُجْتَهِدُ الْعَصْرِ أَبُو الْفَتْحِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ يَسْتَشْكِلُ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَيَقُولُ‏:‏ الشَّوَاذُّ نُقِلَتْ نَقْلَ آحَادٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيُعْلَمُ ضَرُورَةُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ بِشَاذٍّ مِنْهَا وَإِنْ لَمْ يُعَيَّنْ، قَالَ‏:‏ فَتِلْكَ الْقِرَاءَةُ تَوَاتَرَتْ وَإِنْ لَمْ تَتَعَيَّنْ بِالشَّخْصِ، فَكَيْفَ يُسَمَّى شَاذًّا وَالشَّاذُّ لَا يَكُونُ مُتَوَاتِرًا‏؟‏

قُلْتُ‏:‏ وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا مَا يُوَضِّحُ هَذِهِ الْإِشْكَالَاتِ مِنْ مَآخِذَ مِنْ مَنْعِ الْقِرَاءَةِ بِالشَّاذِّ، وَقَضِيَّةُ ابْنِ شَنَبُوذَ فِي مَنْعِهِ مِنَ الْقِرَاءَةِ بِهِ مَعْرُوفَةٌ وَقِصَّتُهُ فِي ذَلِكَ مَشْهُورَةٌ ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِ الطَّبَقَاتِ، وَأَمَّا إِطْلَاقُ مَنْ لَا يَعْلَمُ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ عَنِ السَّبْعَةِ الْقُرَّاءِ، أَوْ مَا لَمْ يَكُنْ فِي هَذِهِ الْكُتُبِ الْمَشْهُورَةِ كَالشَّاطِبِيَّةِ وَالتَّيْسِيرِ أَنَّهُ شَاذٌّ، فَإِنَّهُ اصْطِلَاحٌ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ حَقِيقَةَ مَا يَقُولُ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ فِيمَا بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى‏.‏

‏[‏الْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ‏]‏

وَمِثَالُ الْقِسْمِ الثَّالِثِ مِمَّا نَقَلَهُ غَيْرُ ثِقَةٍ كَثِيرٌ مِمَّا فِي كُتُبِ الشَّوَاذِّ مِمَّا غَالِبُ إِسْنَادِهِ ضَعِيفٌ كَقِرَاءَةِ ابْنِ السَّمَيْفَعِ وَأَبِي السَّمَّالِ وَغَيْرِهِمَا فِي ‏{‏نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ‏}‏ نُنَحِّيكَ‏:‏ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، ‏{‏لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً‏}‏ بِفَتْحِ سُكُونِ اللَّامِ، وَكَالْقِرَاءَةِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَى الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- الَّتِي جَمَعَهَا أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْخُزَاعِيُّ وَنَقَلَهَا عَنْهُ أَبُو الْقَاسِمِ الْهُذَلِيُّ وَغَيْرُهُ، فَإِنَّهَا لَا أَصْلَ لَهَا، قَالَ أَبُو الْعَلَاءِ الْوَاسِطِيُّ‏:‏ إِنَّ الْخُزَاعِيَّ وَضَعَ كِتَابًا فِي الْحُرُوفِ نَسَبَهُ إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ فَأَخَذْتُ خَطَّ الدَّارَقُطْنِيِّ وَجَمَاعَةٍ أَنَّ الْكِتَابَ مَوْضُوعٌ لَا أَصْلَ لَهُ‏.‏

قُلْتُ‏:‏ وَقَدْ رُوِّيتُ الْكِتَابَ الْمَذْكُورَ وَمِنْهُ ‏{‏إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ‏}‏ بِرَفْعِ الْهَاءِ وَنَصْبِ الْهَمْزَةِ، وَقَدْ رَاجَ ذَلِكَ عَلَى أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ وَنَسَبَهَا إِلَيْهِ وَتَكَلَّفَ تَوْجِيهَهَا، وَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَبَرِيءٌ مِنْهَا، وَمِثَالُ مَا نَقَلَهُ ثِقَةٌ وَلَا وَجْهَ لَهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَلَا يَصْدُرُ مِثْلُ هَذَا إِلَّا عَلَى وَجْهِ السَّهْوِ وَالْغَلَطِ وَعَدَمِ الضَّبْطِ وَيَعْرِفُهُ الْأَئِمَّةُ الْمُحَقِّقُونَ وَالْحُفَّاظُ الضَّابِطُونَ وَهُوَ قَلِيلٌ جِدًّا، بَلْ لَا يَكَادُ يُوجَدُ، وَقَدْ جَعَلَ بَعْضُهُمْ مِنْهُ رِوَايَةَ خَارِجَةَ عَنْ نَافِعٍ مَعَائِشَ بِالْهَمْزِ، وَمَا رَوَاهُ ابْنُ بِكَّارٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ يَحْيَى عَنِ ابْنِ عَامِرٍ مِنْ فَتْحِ يَاءِ أَدْرِيَ أَقَرِيبٌ مَعَ إِثْبَاتِ الْهَمْزَةِ، وَهِيَ رِوَايَةُ زَيْدٍ وَأَبِي حَاتِمٍ عَنْ يَعْقُوبَ، وَمَا رَوَاهُ أَبُو عَلِيٍّ الْعَطَّارُ عَنِ الْعَبَّاسِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو سَاحِرَانِ تَظَّاهَرَا بِتَشْدِيدِ الظَّاءِ، وَالنَّظَرُ فِي ذَلِكَ لَا يَخْفَى، وَيَدْخُلُ فِي هَذَيْنَ الْقِسْمَيْنِ مَا يَذْكُرُهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ شُرَّاحِ الشَّاطِبِيَّةِ فِي وَقْفِ حَمْزَةَ عَلَى نَحْوِ أَسْمَايِهِمْ وَأُولَيِكَ بِيَاءٍ خَالِصَةٍ، وَنَحْوِ شُرَكَاوُهُمْ وَأَحِبَّاوُهُ بِوَاوٍ خَالِصَةٍ، وَنَحْوِ بَدَاكُمْ وَاخَاهُ بِأَلِفٍ خَالِصَةٍ، وَنَحْوِ رَاى‏:‏ رَا، وَتَرَاى‏:‏ تَرَا، وَاشْمَازَّتْ‏:‏ اشْمَزَّتْ، وَفَادَّارَاتُمْ‏:‏ فَادَّارَتُّمْ بِالْحَذْفِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مِمَّا يُسَمُّونَهُ التَّخْفِيفَ الرَّسْمِيَّ وَلَا يَجُوزُ فِي وَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْعَرَبِيَّةِ، فَإِنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَنْقُولًا عَنْ ثِقَةٍ وَلَا سَبِيلَ إِلَى ذَلِكَ فَهُوَ مِمَّا لَا يُقْبَلُ، إِذْ لَا وَجْهَ لَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَنْقُولًا عَنْ غَيْرِ ثِقَةٍ فَمَنْعُهُ أَحْرَى وَرَدُّهُ أَوْلَى، مَعَ أَنِّي تَتَبَّعْتُ ذَلِكَ فَلَمْ أَجِدْ مَنْصُوصًا لِحَمْزَةَ لَا بِطُرُقٍ صَحِيحَةٍ وَلَا ضَعِيفَةٍ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي بَابِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَبَقِيَ قِسْمٌ مَرْدُودٌ أَيْضًا وَهُوَ مَا وَافَقَ الْعَرَبِيَّةَ وَالرَّسْمَ وَلَمْ يُنْقَلِ الْبَتَّةَ، فَهَذَا رَدُّهُ أَحَقُّ وَمَنْعُهُ أَشَدُّ وَمُرْتَكِبُهُ مُرْتَكِبٌ لِعَظِيمٍ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَقَدْ ذُكِرَ جَوَازُ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ مِقْسَمٍ الْبَغْدَادِيِّ الْمُقْرِيِّ النَّحْوِيِّ، وَكَانَ بَعْدَ الثَّلَاثِمِائَةِ‏.‏

قَالَ الْإِمَامُ أَبُو طَاهِرِ بْنُ أَبِي هَاشِمٍ فِي كِتَابِهِ الْبَيَانِ‏:‏ وَقَدْ نَبَغَ نَابِغٌ فِي عَصْرِنَا فَزَعَمَ أَنَّ كُلَّ مَنْ صَحَّ عِنْدَهُ وَجْهٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ بِحَرْفٍ مِنَ الْقُرْآنِ يُوَافِقُ الْمُصْحَفَ فَقِرَاءَتُهُ جَائِزَةٌ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا، فَابْتَدَعَ بِدْعَةً ضَلَّ بِهَا عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ‏.‏

قُلْتُ‏:‏ وَقَدْ عُقِدَ لَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ مَجْلِسٌ بِبَغْدَادَ حَضَرَهُ الْفُقَهَاءُ وَالْقُرَّاءُ وَأَجْمَعُوا عَلَى مَنْعِهِ، وَأُوقِفَ لِلضَّرْبِ فَتَابَ وَرَجَعَ وَكُتِبَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ مَحْضَرٌ كَمَا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ فِي تَارِيخِ بَغْدَادَ، وَأَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي الطَّبَقَاتِ، وَمِنْ ثَمَّ امْتَنَعَتِ الْقِرَاءَةُ بِالْقِيَاسِ الْمُطْلَقِ وَهُوَ الَّذِي لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي الْقِرَاءَةِ يُرْجَعُ إِلَيْهِ وَلَا رُكْنٌ وَثِيقٌ فِي الْأَدَاءِ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ كَمَا رُوِّينَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- مِنَ الصَّحَابَةِ، وَعَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَعَامِرٍ الشَّعْبِيِّ مِنَ التَّابِعَيْنِ أَنَّهُمْ قَالُوا‏:‏ الْقِرَاءَةُ سُنَّةٌ يَأْخُذُهَا الْآخِرُ عَنِ الْأَوَّلِ فَاقْرَءُوا كَمَا عُلِّمْتُمُوهُ، وَلِذَلِكَ كَانَ الْكَثِيرُ مِنْ أَئِمَّةِ الْقِرَاءَةِ، كَنَافِعٍ وَأَبِي عَمْرٍو يَقُولُ‏:‏ لَوْلَا أَنَّهُ لَيْسَ لِي أَنْ أَقْرَأَ إِلَّا بِمَا قَرَأْتُ، لَقَرَأْتُ حَرْفَ كَذَا كَذَا وَحَرْفَ كَذَا كَذَا، أَمَّا إِذَا كَانَ الْقِيَاسُ عَلَى إِجْمَاعٍ انْعَقَدَ، أَوْ عَنْ أَصْلٍ يُعْتَمَدُ فَيَصِيرُ إِلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ وَغُمُوضِ وَجْهِ الْأَدَاءِ، فَإِنَّهُ مِمَّا يَسُوغُ قَبُولُهُ وَلَا يَنْبَغِي رَدُّهُ لَا سِيَّمَا فِيمَا تَدْعُو إِلَيْهِ الضَّرُورَةُ وَتَمَسُّ الْحَاجَةُ مِمَّا يُقَوِّي وَجْهَ التَّرْجِيحِ وَيُعِينُ عَلَى قُوَّةِ التَّصْحِيحِ، بَلْ قَدْ لَا يُسَمَّى مَا كَانَ كَذَلِكَ قِيَاسًا عَلَى الْوَجْهِ الِاصْطِلَاحِيِّ، إِذْ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ نِسْبَةُ جُزْئِيٍّ إِلَى كُلِّيٍّ كَمِثْلِ مَا اخْتِيرَ فِي تَخْفِيفِ بَعْضِ الْهَمَزَاتِ لِأَهْلِ الْأَدَاءِ وَفِي إِثْبَاتِ الْبَسْمَلَةِ وَعَدَمِهَا لِبَعْضِ الْقُرَّاءِ، وَنَقْلِ كِتَابِيَهِ انِّي وَإِدْغَامِ مَالِيَهْ هَلَكَ قِيَاسًا عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ قِيَاسُ قَالَ رَجُلَانِ، وَقَالَ رَجُلٌ عَلَى قَالَ رَبِّ فِي الْإِدْغَامِ كَمَا ذَكَرَهُ الدَّانِيُّ وَغَيْرُهُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُخَالِفُ نَصًّا وَلَا يَرُدُّ إِجْمَاعًا وَلَا أَصْلًا مَعَ أَنَّهُ قَلِيلٌ جِدًّا كَمَا سَتَرَاهُ مُبَيَّنًا بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي آخِرِ كِتَابِهِ التَّبْصِرَةِ حَيْثُ قَالَ‏:‏ فَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ‏:‏ قِسْمٌ قَرَأْتُ بِهِ وَنَقَلْتُهُ وَهُوَ مَنْصُوصٌ فِي الْكُتُبِ مَوْجُودٌ، وَقِسْمٌ قَرَأْتُ بِهِ وَأَخَذْتُهُ لَفْظًا أَوْ سَمَاعًا وَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْكُتُبِ، وَقِسْمٌ لَمْ أَقْرَأْ بِهِ وَلَا وَجَدْتُهُ فِي الْكُتُبِ وَلَكِنْ قِسْتُهُ عَلَى مَا قَرَأْتُ بِهِ، إِذْ لَا يُمْكِنُ فِيهِ إِلَّا ذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ الرِّوَايَةِ فِي النَّقْلِ وَالنَّصِّ وَهُوَ الْأَقَلُّ‏.‏

قُلْتُ‏:‏ وَقَدْ زَلَّ بِسَبَبِ ذَلِكَ قَوْمٌ وَأَطْلَقُوا قِيَاسَ مَا لَا يُرْوَى عَلَى مَا رُوِيَ، وَمَا لَهُ وَجْهٌ ضَعِيفٌ عَلَى الْوَجْهِ الْقَوِيِّ، كَأَخْذِ بَعْضِ الْأَغْبِيَاءِ بِإِظْهَارِ الْمِيمِ الْمَقْلُوبَةِ مِنَ النُّونِ وَالتَّنْوِينِ، وَقَطْعِ بَعْضِ الْقُرَّاءِ بِتَرْقِيقِ الرَّاءِ السَّاكِنَةِ قَبْلَ الْكَسْرَةِ وَالْيَاءِ، وَإِجَازَةِ بَعْضِ مَنْ بَلَغَنَا عَنْهُ تَرْقِيقَ لَامِ الْجَلَالَةِ تَبَعًا لِتَرْقِيقِ الرَّاءِ مِنْ ‏{‏ذِكْرِ اللَّهِ‏}‏، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَجِدُهُ فِي مَوْضِعِهِ ظَاهِرًا فِي التَّوْضِيحِ مُبَيَّنًا فِي التَّصْحِيحِ مِمَّا سَلَكْنَا فِيهِ طَرِيقَ السَّلَفِ وَلَمْ نَعْدِلْ فِيهِ إِلَى تَمْوِيهِ الْخَلَفِ، وَلِذَلِكَ مَنَعَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ تَرْكِيبَ الْقِرَاءَاتِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ وَخَطَّأَ الْقَارِئَ بِهَا فِي السُّنَّةِ وَالْفَرْضِ، قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّخَاوِيُّ فِي كِتَابِهِ جَمَالِ الْقُرَّاءِ‏:‏ وَخَلْطُ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ خَطَأٌ‏.‏ وَقَالَ الْحَبْرُ الْعَلَّامَةُ أَبُو زَكَرِيَّا النَّوَوِيُّ فِي كِتَابِهِ التِّبْيَانِ‏:‏ وَإِذَا ابْتَدَأَ الْقَارِئُ بِقِرَاءَةِ شَخْصٍ مِنَ السَّبْعَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَزَالَ عَلَى تِلْكَ الْقِرَاءَةِ مَا دَامَ لِلْكَلَامِ ارْتِبَاطٌ، فَإِذَا انْقَضَى ارْتِبَاطُهُ فَلَهُ أَنْ يَقْرَأَ بِقِرَاءَةِ آخَرَ مِنَ السَّبْعَةِ وَالْأَوْلَى دَوَامُهُ عَلَى تِلْكَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ‏.‏

قُلْتُ‏:‏ وَهَذَا مَعْنَى مَا ذَكَرَهُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ فِي فَتَاوِيهِ‏.‏ وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْجَعْبَرِيُّ‏:‏ وَالتَّرْكِيبُ مُمْتَنِعٌ فِي كَلِمَةٍ وَفِي كَلِمَتَيْنِ إِنْ تَعَلَّقَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ وَإِلَّا كُرِهَ‏.‏

قُلْتُ‏:‏ وَأَجَازَهَا أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ مُطْلَقًا وَجَعَلَ خَطَأَ مَانِعِي ذَلِكَ مُحَقَّقًا، وَالصَّوَابُ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ التَّفْصِيلُ وَالْعُدُولُ بِالتَّوَسُّطِ إِلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ، فَنَقُولُ‏:‏ إِنْ كَانَتْ إِحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ مُتَرَتِّبَةً عَلَى الْأُخْرَى فَالْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ مَنْعُ تَحْرِيمٍ، كَمَنْ يَقْرَأُ ‏{‏فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ‏}‏ بِالرَّفْعِ فِيهِمَا، أَوْ بِالنَّصْبِ آخِذًا رَفْعَ آدَمَ مِنْ قِرَاءَةِ غَيْرِ ابْنِ كَثِيرٍ وَرَفْعَ كَلِمَاتٍ مِنْ قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَنَحْوَ ‏{‏وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا‏}‏ بِالتَّشْدِيدِ مَعَ الرَّفْعِ، أَوْ عَكْسِ ذَلِكَ، وَنَحْوَ ‏{‏أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ‏}‏ وَشِبْهُهُ مِمَّا يُرَكَّبُ بِمَا لَا تُجِيزهُ الْعَرَبِيَّةُ وَلَا يَصِحُّ فِي اللُّغَةِ، وَأَمَّا مَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَإِنَّا نُفَرِّقُ فِيهِ بَيْنَ مَقَامِ الرِّوَايَةِ وَغَيْرِهَا، فَإِنْ قَرَأَ بِذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الرِّوَايَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَيْضًا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ كَذِبٌ فِي الرِّوَايَةِ وَتَخْلِيطٌ عَلَى أَهْلِ الدِّرَايَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى سَبِيلِ النَّقْلِ، بَلْ عَلَى سَبِيلِ الْقِرَاءَةِ وَالتِّلَاوَةِ، فَإِنَّهُ جَائِزٌ صَحِيحٌ مَقَبُولٌ لَا مَنْعَ مِنْهُ وَلَا حَظْرَ، وَإِنْ كُنَّا نَعِيبُهُ عَلَى أَئِمَّةِ الْقِرَاءَاتِ الْعَارِفِينَ بِاخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ مِنْ وَجْهِ تَسَاوِي الْعُلَمَاءِ بِالْعَوَامِّ لَا مِنْ وَجْهِ أَنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ أَوْ حَرَامٌ، إِذْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ تَخْفِيفًا عَنِ الْأُمَّةِ، وَتَهْوِينًا عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْمِلَّةِ، فَلَوْ أَوْجَبْنَا عَلَيْهِمْ قِرَاءَةَ كُلِّ رِوَايَةٍ عَلَى حِدَةٍ لَشَقَّ عَلَيْهِمْ تَمْيِيزُ الْقِرَاءَةِ الْوَاحِدَةِ وَانْعَكَسَ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّخْفِيفِ وَعَادَ بِالسُّهُولَةِ إِلَى التَّكْلِيفِ، وَقَدْ رُوِّينَا فِي الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ لِلطَّبَرَانِيِّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ‏:‏ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ‏:‏ لَيْسَ الْخَطَأُ أَنْ يَقْرَأَ بَعْضَهُ فِي بَعْضٍ، وَلَكِنْ أَنْ يُلْحِقُوا بِهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ‏.‏

‏[‏حَدِيثُ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ‏]‏

وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَهَذَا لَفْظُ الْبُخَارِّيِّ عَنْ عُمَرَ، وَفِي لَفْظِ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا عَنْ عُمَرَ‏:‏ سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَدِيثَ‏.‏

وَفِي لَفْظِ مُسْلِمٍ عَنْ أُبَيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عِنْدَ أَضَاةِ بَنِي غِفَارٍ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ، فَقَالَ‏:‏ أَسْأَلُ اللَّهَ مُعَافَاتَهُ وَمَعُونَتَهُ، وَإِنَّ أُمَّتِي لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ عَلَى حَرْفَيْنِ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ بِثَلَاثَةٍ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ أَتَاهُ الرَّابِعَةَ فَقَالَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَأَيُّمَا حَرْفٍ قَرَءُوا عَلَيْهِ فَقَدْ أَصَابُوا وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَحْمَدُ وَهَذَا لَفْظُهُ مُخْتَصَرًا، وَفِي لَفْظٍ لِلتِّرْمِذِيِّ أَيْضًا عَنْ أُبَيٍّ قَالَ‏:‏ لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ عِنْدَ أَحْجَارِ الْمِرَا قَالَ‏:‏ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجِبْرِيلَ إِنِّي بُعِثْتُ إِلَى أُمَّةِ أُمِّيِّينَ فِيهِمُ الشَّيْخُ الْفَانِي وَالْعَجُوزُ الْكَبِيرَةُ وَالْغُلَامُ، قَالَ‏:‏ فَمُرْهُمْ فَلْيَقْرَءُوا الْقُرْآنَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ قَالَ التِّرْمِذِيُّ‏:‏ حَسَنٌ صَحِيحٌ‏.‏ وَفِي لَفْظٍ‏:‏ فَمَنْ قَرَأَ بِحَرْفٍ مِنْهَا فَهُوَ كَمَا قَرَأَ، وَفِي لَفْظِ حُذَيْفَةَ‏:‏ فَقُلْتُ‏:‏ يَا جِبْرِيلُ، إِنِّي أُرْسِلْتُ إِلَى أُمَّةٍ أُمِّيَّةٍ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَالْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ وَالشَّيْخِ الْفَانِي الَّذِي لَمْ يَقْرَأْ كِتَابًا قَطُّ، قَالَ‏:‏ إِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ‏.‏ وَفِي لَفْظٍ لِأَبِي هُرَيْرَةَ‏:‏ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ عَلِيمًا حَكِيمًا غَفُورًا رَحِيمًا، وَفِي رِوَايَةٍ لِأُبَيٍّ‏:‏ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ أُصَلِّي فَدَخَلَ رَجُلٌ فَافْتَتَحَ النَّحْلَ فَخَالَفَنِي فِي الْقِرَاءَةِ، فَلَمَّا انْفَتَلَ قُلْتُ‏:‏ مَنْ أَقْرَأَكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ يُصَلِّي فَقَرَأَ وَافْتَتَحَ النَّحْلَ فَخَالَفَنِي وَخَالَفَ صَاحِبِي، فَلَمَّا انْفَتَلَ قُلْتُ‏:‏ مَنْ أَقْرَأَكَ‏؟‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ‏:‏ فَدَخَلَ قَلْبِي مِنَ الشَّكِّ وَالتَّكْذِيبِ أَشَدَّ مِمَّا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَخَذْتُ بِأَيْدِيهِمَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ‏:‏ اسْتَقْرِئْ هَذَيْنِ فَاسْتَقْرَأَ أَحَدَهُمَا، قَالَ‏:‏ أَحْسَنْتَ‏.‏ فَدَخَلَ قَلْبِي مِنَ الشَّكِّ وَالتَّكْذِيبِ أَشَدَّ مِمَّا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، ثُمَّ اسْتَقْرَأَ الْآخَرَ فَقَالَ‏:‏ أَحْسَنْتَ‏.‏ فَدَخَلَ صَدْرِي مِنَ الشَّكِّ وَالتَّكْذِيبِ أَشَدَّ مِمَّا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدْرِي فَقَالَ‏:‏ أُعِيذُكَ بِاللَّهِ يَا أُبَيُّ مِنَ الشَّكِّ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ جِبْرِيلُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَتَانِي فَقَالَ‏:‏ إِنَّ رَبَّكَ- عَزَّ وَجَلَّ- يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ، فَقُلْتُ‏:‏ اللَّهُمَّ خَفِّفْ عَنْ أُمَّتِي فَقَالَ‏:‏ إِنَّ رَبَّكَ- عَزَّ وَجَلَّ- يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفَيْنِ، فَقُلْتُ‏:‏ اللَّهُمَّ خَفِّفْ عَنْ أُمَّتِي، ثُمَّ عَادَ فَقَالَ‏:‏ إِنَّ رَبَّكَ- عَزَّ وَجَلَّ- يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ وَأَعْطَاكَ بِكُلِّ رَدَّةٍ مَسْأَلَةً الْحَدِيثَ رَوَاهُ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ فِي مُسْنَدِهِ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَفِي لَفْظٍ لِابْنِ مَسْعُودٍ‏:‏ فَمَنْ قَرَأَ عَلَى حَرْفٍ مِنْهَا فَلَا يَتَحَوَّلْ إِلَى غَيْرِهِ رَغْبَةً عَنْهُ، وَفِي لَفْظٍ لِأَبِي بَكْرَةَ‏:‏ كُلٌّ شَافٍ كَافٍ مَا لَمْ تَخْتِمْ آيَةَ عَذَابٍ بِرَحْمَةٍ وَآيَةَ رَحْمَةٍ بِعَذَابٍ، وَهُوَ كَقَوْلِكَ‏:‏ هَلُمَّ، وَتَعَالَ، وَأَقْبِلْ، وَأَسْرِعْ، وَاذْهَبْ، وَاعْجَلْ‏.‏ وَفِي لَفْظٍ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ‏:‏ فَأَيَّ ذَلِكَ قَرَأْتُمْ فَقَدْ أَصَبْتُمْ وَلَا تُمَارُوا فِيهِ، فَإِنَّ الْمِرَاءَ فِيهِ كُفْرٌ ‏.‏ وَقَدْ نَصَّ الْإِمَامُ الْكَبِيرُ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ- عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ تَوَاتَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

قُلْتُ‏:‏ وَقَدْ تَتَبَّعْتُ طُرُقَ هَذَا الْحَدِيثِ فِي جُزْءٍ مُفْرَدٍ جَمَعْتُهُ فِي ذَلِكَ فَرُوِّينَاهُ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَهِشَامِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ وَأَبِي بَكْرَةَ وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَسَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ وَعُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ وَأَبِي جُهَيْمٍ وَأَبِي طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيِّ، وَأُمِّ أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيَّةِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- وَرَوَى الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ فِي مُسْنَدِهِ الْكَبِيرِ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ يَوْمًا وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ‏:‏ أَذْكُرُ أَنَّ رَجُلَا سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ إِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ كُلُّهَا شَافٍ كَافٍ لَمَّا قَامَ، فَقَامُوا حَتَّى لَمْ يُحْصَوْا فَشَهِدُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ كُلُّهَا شَافٍ كَافٍ فَقَالَ عُثْمَانُ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-‏:‏ وَأَنَا أَشْهَدُ مَعَهُمْ، وَقَدْ تَكَلَّمَ النَّاسُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ بِأَنْوَاعِ الْكَلَامِ، وَصَنَّفَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو شَامَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- فِيهِ كِتَابًا حَافِلًا وَتَكَلَّمَ بَعْدَهُ قَوْمٌ وَجَنَحَ آخَرُونَ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ، وَالَّذِي ظَهَرَ لِي أَنَّ الْكَلَامَ عَلَيْهِ يَنْحَصِرُ فِي عَشَرَةِ أَوْجُهٍ‏:‏

الْأَوَّلُ فِي سَبَبِ وُرُودِهِ‏.‏

الثَّانِي فِي مَعْنَى الْأَحْرُفِ‏.‏

الثَّالِثُ فِي الْمَقْصُودِ بِهَا هُنَا‏.‏

الرَّابِعُ مَا وَجْهُ كَوْنِهَا سَبْعَةً‏؟‏

الْخَامِسُ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ يَتَوَجَّهُ اخْتِلَافُ هَذِهِ السَّبْعَةِ‏؟‏

السَّادِسُ عَلَى كَمْ مَعْنًى تَشْتَمِلُ هَذِهِ السَّبْعَةُ‏؟‏

السَّابِعُ هَلْ هَذِهِ السَّبْعَةُ مُتَفَرِّقَةٌ فِي الْقُرْآنِ‏؟‏

الثَّامِنُ هَلِ الْمَصَاحِفُ الْعُثْمَانِيَّةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَيْهَا‏؟‏

التَّاسِعُ هَلِ الْقِرَاءَاتُ الَّتِي بَيْنَ أَيْدِي النَّاسِ الْيَوْمَ هِيَ السَّبْعَةُ أَمْ بَعْضُهَا‏؟‏

الْعَاشِرُ مَا حَقِيقَةُ هَذَا الِاخْتِلَافِ وَفَائِدَتُهُ‏؟‏

فَأَمَّا سَبَبُ وُرُودِهِ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَلِلتَّخْفِيفِ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ وَإِرَادَةِ الْيُسْرِ بِهَا، وَالتَّهْوِينِ عَلَيْهَا شَرَفًا لَهَا وَتَوْسِعَةً وَرَحْمَةً وَخُصُوصِيَّةً لِفَضْلِهَا، وَإِجَابَةً لِقَصْدِ نَبِيِّهَا أَفْضَلِ الْخَلْقِ وَحَبِيبِ الْحَقِّ حَيْثُ أَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ لَهُ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُقْرِأَ أُمَّتَكَ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ فَقَالَ‏:‏ أَسْأَلُ اللَّهَ مُعَافَاتَهُ وَمَعُونَتَهُ وَإِنَّ أُمَّتِي لَا تُطِيقُ ذَلِكَ وَلَمْ يَزَلْ يُرَدِّدُ الْمَسْأَلَةَ حَتَّى بَلَغَ سَبْعَةَ أَحْرُفٍ، وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا‏:‏ إِنَّ رَبِّي أَرْسَلَ إِلَيَّ أَنِ اقْرَأِ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ، فَرَدَدْتُ إِلَيْهِ أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي، وَلَمْ يَزَلْ يُرْدِدُ حَتَّى بَلَغَ سَبْعَةَ أَحْرُفٍ، وَكَمَا ثَبَتَ صَحِيحًا‏:‏ إِنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ مِنْ سَبْعَةِ أَبْوَابٍ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، وَإِنَّ الْكِتَابَ قَبْلَهُ كَانَ يَنْزِلُ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- كَانُوا يُبْعَثُونَ إِلَى قَوْمِهِمُ الْخَاصِّينَ بِهِمْ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ إِلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ أَحْمَرِهَا وَأَسْوَدِهَا عَرَبِيِّهَا وَعَجَمِيِّهَا، وَكَانَتِ الْعَرَبُ الَّذِينَ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلُغَتِهُمْ لُغَاتُهُمْ مُخْتَلِفَةً وَأَلْسِنَتُهُمْ شَتَّى وَيَعْسُرُ عَلَى أَحَدِهِمُ الِانْتِقَالُ مِنْ لُغَتِهِ إِلَى غَيْرِهَا، أَوْ مِنْ حَرْفٍ إِلَى آخَرَ، بَلْ قَدْ يَكُونُ بَعْضُهُمْ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ وَلَا بِالتَّعْلِيمِ وَالْعِلَاجِ، لَا سِيَّمَا الشَّيْخُ وَالْمَرْأَةُ، وَمَنْ لَمْ يَقْرَأْ كِتَابًا كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏ فَلَوْ كُلِّفُوا الْعُدُولَ عَنْ لُغَتِهِمْ وَالِانْتِقَالَ عَنْ أَلْسِنَتِهِمْ لَكَانَ مِنَ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُسْتَطَاعُ، وَمَا عَسَى أَنْ يَتَكَلَّفَ الْمُتَكَلِّفُ وَتَأْبَى الطِّبَاعُ؛ وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِ الْقِرَاءَةِ بِلُغَةٍ أُخْرَى غَيْرِ الْعَرَبِيِّ عَلَى أَقْوَالٍ، ثَالِثُهَا إِنْ عَجَزَ عَنِ الْعَرَبِيِّ جَازَ وَإِلَّا فَلَا، وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ التَّرْجِيحِ فَقَدْ ذُكِرَ فِي مَوْضِعِهِ‏.‏

قَالَ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قُتَيْبَةَ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلِ‏:‏ فَكَانَ مِنْ تَيْسِيرِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ أَمَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُقْرِئَ كُلَّ أُمَّةٍ بِلُغَتِهِمْ وَمَا جَرَتْ عَلَيْهِ عَادَتُهُمْ فَالْهُذَلِيُّ يَقْرَأُ عَتَّى حِينَ يُرِيدُ حَتَّى هَكَذَا يَلْفِظُ بِهَا وَيَسْتَعْمِلُهَا، وَالْأَسَدِيُّ يَقْرَأُ تِعْلَمُونَ وَتِعْلَمُ وَتِسْوَدُّ وَأَلَمْ إِعْهَدْ إِلَيْكُمْ، وَالتَّمِيمِيُّ يَهْمِزُ وَالْقُرَشِيُّ لَا يَهْمِزُ، وَالْآخَرُ يَقْرَأُ ‏{‏قِيلَ لَهُمْ‏}‏، ‏{‏وَغِيضَ الْمَاءُ‏}‏ بِإِشْمَامِ الضَّمِّ مَعَ الْكَسْرِ، وَ‏{‏بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ‏}‏ بِإِشْمَامِ الْكَسْرِ مَعَ الضَّمِّ وَ‏{‏مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا‏}‏ بِإِشْمَامِ الضَّمِّ مَعَ الْإِدْغَامِ‏.‏

قُلْتُ‏:‏ وَهَذَا يَقْرَأُ عَلَيْهِمْ وَفِيهِمْ بِالضَّمِّ وَالْآخَرُ يَقْرَأُ عَلَيْهِمُو، وَمِنْهُمُو بِالصِّلَةِ، وَهَذَا يَقْرَأُ ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ‏}‏، وَ‏{‏قُلْ أُوحِيَ‏}‏ وَ‏{‏خَلَوْا إِلَى ‏{‏بِالنَّقْلِ وَالْآخَرُ يَقْرَأُ مُوسَى، وَعِيسَى، وَدُنْيَا بِالْإِمَالَةِ وَغَيْرُهُ يُلَطِّفُ، وَهَذَا يَقْرَأُ خَبِيرًا وَبَصِيرًا بِالتَّرْقِيقِ، وَالْآخَرُ يَقْرَأُ الصَّلَاةَ، وَالطَّلَاقُ بِالتَّفْخِيمِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ‏:‏ وَلَوْ أَرَادَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْ هَؤُلَاءِ أَنْ يَزُولَ عَنْ لُغَتِهِ وَمَا جَرَى عَلَيْهِ اعْتِيَادُهُ طِفْلًا وَنَاشِيًا وَكَهْلًا لَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَعَظُمَتِ الْمِحْنَةُ فِيهِ وَلَمْ يُمْكِنْهُ إِلَّا بَعْدَ رِيَاضَةٍ لِلنَّفْسِ طَوِيلَةٍ وَتَذْلِيلٍ لِلِّسَانٍ وَقَطْعٍ لِلْعَادَةِ فَأَرَادَ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ وَلُطْفِهِ أَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ مُتَّسَعًا فِي اللُّغَاتِ وَمُتَصَرَّفًا فِي الْحَرَكَاتِ كَتَيْسِيرِهِ عَلَيْهِمْ فِي الدِّينِ، وَأَمَّا مَعْنَى الْأَحْرُفِ فَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ‏:‏ حَرْفُ كُلٍّ شَيْءٍ طَرَفُهُ وَوَجْهُهُ وَحَافَّتُهُ وَحَدُّهُ وَنَاحِيَتُهُ وَالْقِطْعَةُ مِنْهُ، وَالْحَرْفُ أَيْضًا وَاحِدُ حُرُوفُ التَّهَجِّي كَأَنَّهُ قِطْعَةٌ مِنَ الْكَلِمَةِ‏.‏

قَالَ الْحَافِظُ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ‏:‏ مَعْنَى الْأَحْرُفِ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَا هُنَا يَتَوَجَّهُ إِلَى وَجْهَيْنِ‏:‏ أَحَدُهُمَا أَنْ يَعْنِيَ أَنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَوْجُهٍ مِنَ اللُّغَاتِ؛ لِأَنَّ الْأَحْرُفَ جَمْعُ حَرْفٍ فِي الْقَلِيلِ، كَفَلْسٍ وَأَفْلُسٍ، وَالْحَرْفُ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْوَجْهُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ‏}‏ الْآيَةَ، فَالْمُرَادُ بِالْحَرْفِ هُنَا الْوَجْهُ، أَيْ‏:‏ عَلَى النِّعْمَةِ وَالْخَيْرِ وَإِجَابَةِ السُّؤَالِ وَالْعَافِيَةِ، فَإِذَا اسْتَقَامَتْ لَهُ هَذِهِ الْأَحْوَالُ اطْمَأَنَّ وَعَبَدَ اللَّهَ، وَإِذَا تَغَيَّرَتْ عَلَيْهِ وَامْتَحَنَهُ بِالشِّدَّةِ وَالضُّرِّ تَرَكَ الْعِبَادَةَ وَكَفَرَ، فَهَذَا عَبَدَ اللَّهَ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ؛ فَلِهَذَا سَمَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْأَوْجُهَ الْمُخْتَلِفَةَ مِنَ الْقِرَاءَاتِ وَالْمُتَغَايِرَةَ مِنَ اللُّغَاتِ أَحْرُفًا عَلَى مَعْنَى أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْهَا وَجْهٌ‏.‏

قَالَ وَالْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ مَعْنَاهَا أَنْ يَكُونَ سَمَّى الْقِرَاءَاتِ أَحْرُفًا عَلَى طَرِيقِ السَّعَةِ كَعَادَةِ الْعَرَبِ فِي تَسْمِيَتِهِمُ الشَّيْءَ بِاسْمِ مَا هُوَ مِنْهُ وَمَا قَارَبَهُ وَجَاوَرَهُ وَكَانَ كَسَبَبٍ مِنْهُ وَتَعَلَّقَ بِهِ ضَرْبًا مِنَ التَّعَلُّقِ، كَتَسْمِيَتِهِمُ الْجُمْلَةَ بِاسْمِ الْبَعْضِ مِنْهَا؛ فَلِذَلِكَ سَمَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِرَاءَةَ حَرْفًا، وَإِنْ كَانَ كَلَامًا كَثِيرًا مِنْ أَجْلِ أَنَّ مِنْهَا حَرْفًا قَدْ غَيَّرَ نَظْمَهُ، أَوْ كُسِرَ، أَوْ قُلِبَ إِلَى غَيْرِهِ، أَوْ أُمِيلَ أَوْ زِيدَ، أَوْ نُقِصَ مِنْهُ عَلَى مَا جَاءَ فِي الْمُخْتَلَفِ فِيهِ مِنَ الْقِرَاءَةِ فَسَمَّى الْقِرَاءَةَ، إِذْ كَانَ ذَلِكَ الْحَرْفُ فِيهَا حَرْفًا عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي ذَلِكَ وَاعْتِمَادًا عَلَى اسْتِعْمَالِهَا‏.‏

قُلْتُ‏:‏ وَكِلَا الْوَجْهَيْنِ مُحْتَمَلٌ إِلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ مُحْتَمَلٌ احْتِمَالًا قَوِيًّا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ سَبْعَةُ أَحْرُفٍ أَيْ‏:‏ سَبْعَةُ أَوْجُهٍ وَأَنْحَاءٍ‏.‏ وَالثَّانِي مُحْتَمَلٌ احْتِمَالًا قَوِيًّا فِي قَوْلِ عُمَرَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فِي الْحَدِيثِ‏:‏ سَمِعْتُ هِشَامًا يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ‏:‏ عَلَى قِرَاءَاتٍ كَثِيرَةٍ وَكَذَا قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فِيهَا أَحْرُفًا لَمْ يَكُنْ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْرَأَنِيهَا، فَالْأَوَّلُ غَيْرُ الثَّانِي كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، وَأَمَّا الْمَقْصُودُ بِهَذِهِ السَّبْعَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ مَعَ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودُ أَنْ يَكُونَ الْحَرْفُ الْوَاحِدُ يُقْرَأُ عَلَى سَبْعَةِ أَوْجُهٍ، إِذْ لَا يُوجَدُ ذَلِكَ إِلَّا فِي كَلِمَاتٍ يَسِيرَةٍ نَحْوَ ‏{‏أُفٍّ‏}‏، وَ‏{‏جِبْرِيلُ‏}‏، وَ‏{‏أَرْجِهْ‏}‏، وَ‏{‏هَيْهَاتَ‏}‏، وَ‏{‏هَيْتَ‏}‏، وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةَ الْقُرَّاءَ الْمَشْهُورِينَ، وَإِنْ كَانَ يَظُنُّهُ بَعْضُ الْعَوَامِّ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةَ لَمْ يَكُونُوا خُلِقُوا وَلَا وُجِدُوا، وَأَوَّلُ مَنْ جَمَعَ قِرَاءَاتِهِمْ أَبُو بَكْرِ بْنُ مُجَاهِدٍ فِي أَثْنَاءِ الْمِائَةِ الرَّابِعَةِ كَمَا سَيَأْتِي، وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهَا لُغَاتٌ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِهَا فَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ‏:‏ قُرَيْشٌ، وَهُذَيْلٌ، وَثَقِيفٌ، وَهَوَازِنُ، وَكِنَانَةُ، وَتَمِيمٌ، وَالْيَمَنُ‏.‏ وَقَالَ غَيْرُهُ خَمْسُ لُغَاتٍ فِي أَكْنَافِ هَوَازِنَ‏:‏ سَعْدٌ، وَثَقِيفٌ، وَكِنَانَةُ، وَهُذَيْلٌ، وَقُرَيْشٌ، وَلُغَتَانِ عَلَى جَمِيعِ أَلْسِنَةِ الْعَرَبِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْهَرَوِيُّ‏:‏ يَعْنِي عَلَى سَبْعِ لُغَاتٍ مِنْ لُغَاتِ الْعَرَبِ أَيْ أَنَّهَا مُتَفَرِّقَةٌ فِي الْقُرْآنِ فَبَعْضُهُ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ وَبَعْضُهُ بِلُغَةِ هُذَيْلٍ وَبَعْضُهُ بِلُغَةِ هَوَازِنَ وَبَعْضُهُ بِلُغَةِ الْيَمَنِ‏.‏

قُلْتُ‏:‏ وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ مَدْخُولَةٌ، فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَهِشَامَ بْنَ حَكِيمٍ اخْتَلَفَا فِي قِرَاءَةِ سُورَةِ الْفُرْقَانِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ وَكِلَاهُمَا قُرَشِيَّانِ مِنْ لُغَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَبِيلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ الْمُرَادُ بِهَا مَعَانِي الْأَحْكَامِ‏:‏ كَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَالْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ، وَالْأَمْثَالِ، وَالْإِنْشَاءِ، وَالْإِخْبَارِ‏.‏ وَقِيلَ النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ، وَالْخَاصُّ وَالْعَامُّ، وَالْمُجْمَلُ وَالْمُبَيَّنُ، وَالْمُفَسَّرُ وَقِيلَ الْأَمْرُ، وَالنَّهْيُ، وَالطَّلَبُ، وَالدُّعَاءُ، وَالْخَبَرُ، وَالِاسْتِخْبَارُ، وَالزَّجْرُ وَقِيلَ الْوَعْدُ، وَالْوَعِيدُ، وَالْمُطْلَقُ، وَالْمُقَيَّدُ، وَالتَّفْسِيرُ، وَالْإِعْرَابُ، وَالتَّأْوِيلُ‏.‏

قُلْتُ‏:‏ وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ غَيْرُ صَحِيحَةٍ، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا وَتَرَافَعُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا ثَبَتَ فِي حَدِيثِ عُمَرَ وَهِشَامٍ وَأُبَيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَغَيْرِهِمْ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي تَفْسِيرِهِ وَلَا أَحْكَامِهِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي قِرَاءَةِ حُرُوفِهِ، فَإِنْ قِيلَ فَمَا تَقُولُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ الْمَخْزُومِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِابْنِ مَسْعُودٍ‏:‏ إِنَّ الْكُتُبَ كَانَتْ تَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ، وَإِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ مِنْ سَبْعَةِ أَبْوَابٍ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ‏:‏ حَلَالٍ وَحَرَامٍ، وَمُحْكَمٍ وَمُتَشَابِهٍ، وَضَرْبِ أَمْثَالٍ، وَآمِرٍ وَزَاجِرٍ، فَأَحِلَّ حَلَالَهُ وَحَرِّمْ حَرَامَهُ، وَاعْمَلْ بِمُحَكَمِهِ وَقِفْ عِنْدَ مُتَشَابِهِهِ، وَاعْتَبِرْ أَمْثَالَهُ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ‏؟‏ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ‏:‏

أَحَدُهَا أَنَّ هَذِهِ السَّبْعَةَ غَيْرُ السَّبْعَةِ الْأَحْرُفِ الَّتِي ذَكَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تِلْكَ الْأَحَادِيثِ وَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ فَسَّرَهَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ‏:‏ حَلَالٌ وَحَرَامٌ إِلَى آخِرِهِ وَأَمْرٌ بِإِحْلَالِ حَلَالِهِ وَتَحْرِيمِ حَرَامِهِ إِلَى آخِرِهِ، ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ بِالْأَمْرِ بِقَوْلِ ‏{‏آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا‏}‏، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ غَيْرُ تِلْكَ الْقِرَاءَاتِ‏.‏

الثَّانِي أَنَّ السَّبْعَةَ الْأَحْرُفَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ هِيَ هَذِهِ الْمَذْكُورَةُ فِي الْأَحَادِيثِ الْأُخْرَى الَّتِي هِيَ الْأَوْجُهُ وَالْقِرَاءَاتُ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ حَلَالٌ وَحَرَامٌ إِلَى آخِرِهِ تَفْسِيرًا لِلسَّبْعَةِ الْأَبْوَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

الثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ حَلَالٌ وَحَرَامٌ إِلَى آخِرِهِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالسَّبْعَةِ الْأَحْرُفِ وَلَا بِالسَّبْعَةِ الْأَبْوَابِ، بَلْ إِخْبَارٌ عَنِ الْقُرْآنِ، أَيْ هُوَ كَذَا وَكَذَا وَاتَّفَقَ كَوْنُهُ بِصِفَاتٍ سَبْعٍ كَذَلِكَ، وَأَمَّا وَجْهُ كَوْنِهَا سَبْعَةَ أَحْرُفٍ دُونَ أَنْ لَا كَانَتْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ، فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ‏:‏ إِنَّ أُصُولَ قَبَائِلِ الْعَرَبِ تَنْتَهِي إِلَى سَبْعَةٍ، أَوْ إِنَّ اللُّغَاتِ الْفُصْحَى سَبْعٌ وَكِلَاهُمَا دَعْوَى، وَقِيلَ‏:‏ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالسَّبْعَةِ حَقِيقَةَ الْعَدَدِ بِحَيْثُ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ، بَلِ الْمُرَادُ السَّعَةُ وَالتَّيْسِيرُ وَأَنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَيْهِمْ فِي قِرَاءَتِهِ بِمَا هُوَ مِنْ لُغَاتِ الْعَرَبِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَذِنَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ وَالْعَرَبُ يُطْلِقُونَ لَفْظَ السَّبْعِ وَالسَّبْعِينَ وَالسَّبْعِمِائَةَ وَلَا يُرِيدُونَ حَقِيقَةَ الْعَدَدِ بِحَيْثُ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ، بَلْ يُرِيدُونَ الْكَثْرَةَ وَالْمُبَالَغَةَ مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ، قَالَ- تَعَالَى-‏:‏ ‏{‏كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ‏}‏، وَ‏{‏إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً‏}‏، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَسَنَةِ‏:‏ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَكَذَا حَمَلَ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، وَهَذَا جَيِّدٌ لَوْلَا أَنَّ الْحَدِيثَ يَأْبَاهُ، فَإِنَّهُ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ لَمَّا أَتَاهُ جِبْرِيلُ بِحَرْفٍ وَاحِدٍ قَالَ لَهُ مِيكَائِيلُ‏:‏ اسْتَزِدْهُ‏.‏ وَإِنَّهُ سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى التَّهْوِينَ عَلَى أُمَّتِهِ فَأَتَاهُ عَلَى حَرْفَيْنِ فَأَمَرَهُ مِيكَائِيلُ بِالِاسْتِزَادَةِ، وَسَأَلَ اللَّهَ التَّخْفِيفَ فَأَتَاهُ بِثَلَاثَةٍ وَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى بَلَغَ سَبْعَةَ أَحْرُفٍ‏.‏ وَفِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ‏:‏ فَنَظَرْتُ إِلَى مِيكَائِيلَ فَسَكَتَ فَعَلِمْتُ أَنَّهُ قَدِ انْتَهَتِ الْعِدَّةُ فَدَلَّ عَلَى إِرَادَةِ حَقِيقَةِ الْعَدَدِ وَانْحِصَارِهِ وَلَا زِلْتُ أَسْتَشْكِلُ هَذَا الْحَدِيثَ وَأُفَكِّرُ فِيهِ وَأُمْعِنُ النَّظَرَ مِنْ نَيِّفٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيَّ بِمَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ صَوَابًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَذَلِكَ أَنِّي تَتَبَّعْتُ الْقِرَاءَاتِ صَحِيحَهَا وَشَاذَّهَا وَضَعِيفَهَا وَمُنْكَرَهَا، فَإِذَا هُوَ يَرْجِعُ اخْتِلَافُهَا إِلَى سَبْعَةِ أَوْجُهٍ مِنَ الِاخْتِلَافِ لَا يَخْرُجُ عَنْهَا، وَذَلِكَ إِمَّا فِي الْحَرَكَاتِ بِلَا تَغْيِيرٍ فِي الْمَعْنَى وَالصُّورَةِ‏:‏ نَحْوَ الْبُخْلِ بِأَرْبَعَةٍ وَيَحْسَبُ بِوَجْهَيْنِ، أَوْ بِتَغَيُّرٍ فِي الْمَعْنَى فَقَطْ نَحْوَ ‏{‏فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ‏}‏، ‏{‏وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ‏}‏، وَأَمَهٍ، وَإِمَّا فِي الْحُرُوفِ بِتَغَيُّرِ الْمَعْنَى لَا الصُّورَةِ نَحْوَ تَبْلُوا وَتَتْلُوا وَنُنَحِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ وَ‏{‏نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ‏}‏، أَوْ عَكْسِ ذَلِكَ نَحْوَ بَصْطَةً وَبَسْطَةً وَالصِّرَاطَ وَالسِّرَاطَ، أَوْ بِتَغَيُّرِهِمَا نَحْوَ أَشَدَّ مِنْكُمْ ‏,‏ وَمِنْهُمْ وَيَأْتَلِ وَيَتَأَلَّ وَفَامْضُوا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ، وَإِمَّا فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ نَحْوَ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَجَاءَتْ سَكْرَتُ الْحَقِّ بِالْمَوْتِ، أَوْ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ نَحْوَ وَأَوْصَى وَوَصَّى وَالذَّكَرَ وَالْأُنْثَى فَهَذِهِ سَبْعَةُ أَوْجُهٍ لَا يَخْرُجُ الِاخْتِلَافُ عَنْهَا، وَأَمَّا نَحْوُ اخْتِلَافِ الْإِظْهَارِ، وَالْإِدْغَامِ، وَالرَّوْمِ، وَالْإِشْمَامِ، وَالتَّفْخِيمِ، وَالتَّرْقِيقِ، وَالْمَدِّ، وَالْقَصْرِ، وَالْإِمَالَةِ، وَالْفَتْحِ، وَالتَّحْقِيقِ، وَالتَّسْهِيلِ، وَالْإِبْدَالِ، وَالنَّقْلِ مِمَّا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْأُصُولِ، فَهَذَا لَيْسَ مِنَ الِاخْتِلَافِ الَّذِي يَتَنَوَّعُ فِيهِ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى؛ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْمُتَنَوِّعَةَ فِي أَدَائِهِ لَا تُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَفْظًا وَاحِدًا، وَلَئِنْ فُرِضَ فَيَكُونُ مِنَ الْأَوَّلِ‏.‏

ثُمَّ رَأَيْتُ الْإِمَامَ الْكَبِيرَ أَبَا الْفَضْلِ الرَّازِيَّ حَاوَلَ مَا ذَكَرْتُهُ فَقَالَ‏:‏ إِنَّ الْكَلَامَ لَا يَخْرُجُ اخْتِلَافُهُ عَنْ سَبْعَةِ أَوْجُهٍ‏:‏

الْأَوَّلُ اخْتِلَافُ الْأَسْمَاءِ مِنَ الْإِفْرَادِ وَالتَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ وَالتَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ وَالْمُبَالَغَةِ وَغَيْرِهَا‏.‏

الثَّانِي اخْتِلَافُ تَصْرِيفِ الْأَفْعَالِ وَمَا يُسْنَدُ إِلَيْهِ مِنْ نَحْوِ الْمَاضِي وَالْمُضَارِعِ وَالْأَمْرِ وَالْإِسْنَادِ إِلَى الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ وَالْمُتَكَلِّمِ وَالْمُخَاطَبِ وَالْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ بِهِ‏.‏

الثَّالِثُ وُجُوهُ الْإِعْرَابِ‏.‏

الرَّابِعُ الزِّيَادَةُ وَالنَّقْصُ‏.‏

الْخَامِسُ التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ‏.‏

السَّادِسُ الْقَلْبُ وَالْإِبْدَالُ فِي كَلِمَةٍ بِأُخْرَى وَفِي حَرْفٍ بِآخَرَ‏.‏

السَّابِعُ اخْتِلَافُ اللُّغَاتِ مِنْ فَتْحٍ وَإِمَالَةٍ وَتَرْقِيقٍ وَتَفْخِيمٍ وَتَحْقِيقٍ وَتَسْهِيلٍ وَإِدْغَامٍ وَإِظْهَارٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ‏.‏

ثُمَّ وَقَفْتُ عَلَى كَلَامِ ابْنِ قُتَيْبَةَ وَقَدْ حَاوَلَ مَا حَاوَلْنَا بِنَحْوٍ آخَرَ فَقَالَ‏:‏ وَقَدْ تَدَبَّرْتُ وُجُوهَ الِاخْتِلَافِ فِي الْقِرَاءَاتِ فَوَجَدْتُهَا سَبْعَةً‏:‏

الْأَوَّلُ فِي الْإِعْرَابِ بِمَا لَا يُزِيلُ صُورَتَهَا فِي الْخَطِّ وَلَا يُغَيِّرُ مَعْنَاهَا نَحْوَ ‏{‏هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ‏}‏ وَأَطْهَرَ، وَهَلْ يُجَازَى إِلَّا الْكُفُورُ وَ‏{‏نُجَازِي إِلَّا الْكُفُورَ‏}‏ وَالْبُخْلِ وَالْبَخَلِ، وَمَيْسَرَةٍ وَمَيْسُرَةٍ‏.‏

وَالثَّانِي الِاخْتِلَافُ فِي إِعْرَابِ الْكَلِمَةِ وَحَرَكَاتِ بِنَائِهَا بِمَا يُغَيِّرُ مَعْنَاهَا وَلَا يُزِيلُهَا عَنْ صُورَتِهَا نَحْوَ ‏{‏رَبَّنَا بَاعِدْ‏}‏ وَرَبُّنَا بَاعَدَ وَ‏{‏إِذْ تَلَقَّوْنَهُ‏}‏ وَتُلْقُونَهُ وَ‏{‏بَعْدَ أُمَّةٍ‏}‏ وَبَعْدَ أَمَهٍ‏.‏

وَالثَّالِثُ الِاخْتِلَافُ فِي حُرُوفِ الْكَلِمَةِ دُونَ إِعْرَابِهَا بِمَا يُغَيِّرُ مَعْنَاهَا وَلَا يُزِيلُ صُورَتَهَا نَحْوَ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نَنْشُرُهَا وَ‏{‏نُنْشِزُهَا‏}‏ وَ‏{‏إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ‏}‏ وَفَزَّعَ‏.‏

وَالرَّابِعُ أَنْ يَكُونَ الِاخْتِلَافُ فِي الْكَلِمَةِ بِمَا يُغَيِّرُ صُورَتَهَا وَمَعْنَاهَا نَحْوَ ‏{‏طَلْعٌ نَضِيدٌ‏}‏ فِي مَوْضِعٍ، ‏{‏وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ‏}‏ فِي آخَرَ‏.‏

وَالْخَامِسُ أَنْ يَكُونَ الِاخْتِلَافُ فِي الْكَلِمَةِ بِمَا يُغَيِّرُ صُورَتَهَا فِي الْكِتَابِ وَلَا يُغَيِّرُ مَعْنَاهَا نَحْوُ إِلَّا ذَقْيَةً وَاحِدَةً وَ‏{‏صَيْحَةً وَاحِدَةً‏}‏ وَ‏{‏كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ‏}‏ وَكَالصُّوفِ‏.‏

وَالسَّادِسُ أَنْ يَكُونَ الِاخْتِلَافُ بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ نَحْوَ‏:‏ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْحَقِّ بِالْمَوْتِ فِي‏:‏ ‏{‏سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ‏}‏‏.‏

وَالسَّابِعُ أَنْ يَكُونَ الِاخْتِلَافُ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ نَحْوَ وَمَا عَمِلَتْ أَيْدِيهِمْ وَ‏{‏عَمِلَتْهُ‏}‏، وَ‏{‏إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ‏}‏ وَهَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً أُنْثَى‏.‏

ثُمَّ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ‏:‏ وَكُلُّ هَذِهِ الْحُرُوفِ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتَهَى‏.‏

قُلْتُ‏:‏ وَهُوَ حَسَنٌ كَمَا قُلْنَا إِلَّا أَنَّ تَمْثِيلَهُ بِ طَلْعٍ نَضِيدٍ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِاخْتِلَافِ الْقِرَاءَاتِ، وَلَوْ مَثَّلَ عِوَضَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏بِضَنِينٍ‏}‏ بِالضَّادِ وَبِظَنِينٍ بِالظَّاءِ وَأَشَدَّ مِنْكُمْ وَ‏{‏أَشَدَّ مِنْهُمْ‏}‏ لَاسْتَقَامَ، وَطَلَعَ بَدْرُ حُسْنِهِ فِي تَمَامٍ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ فَاتَهُ كَمَا فَاتَ غَيْرَهُ أَكْثَرُ أُصُولِ الْقِرَاءَاتِ‏:‏ كَالْإِدْغَامِ، وَالْإِظْهَارِ، وَالْإِخْفَاءِ، وَالْإِمَالَةِ، وَالتَّفْخِيمِ، وَبَيْنَ بَيْنَ، وَالْمَدِّ، وَالْقَصْرِ، وَبَعْضِ أَحْكَامِ الْهَمْزِ، كَذَلِكَ الرَّوْمُ، وَالْإِشْمَامُ، عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ اخْتِلَافِ الْقِرَاءَاتِ وَتَغَايُرِ الْأَلْفَاظِ مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ أَئِمَّةُ الْقُرَّاءِ وَكَانُوا يَتَرَافَعُونَ بِدُونِ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ-، وَيَرُدُّ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ كَمَا سَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ وَبَيَانُهُ فِي بَابِ الْهَمْزِ وَالنَّقْلِ وَالْإِمَالَةِ، وَلَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فَيَشْمَلُ الْأَوْجُهَ السَّبْعَةَ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ‏.‏

وَأَمَّا عَلَى أَيِّ شَيْءٍ يَتَوَجَّهُ اخْتِلَافُ هَذِهِ السَّبْعَةِ، فَإِنَّهُ يَتَوَجَّهُ عَلَى أَنْحَاءٍ وَوُجُوهٍ مَعَ السَّلَامَةِ مِنَ التَّضَادِّ وَالتَّنَاقُضِ كَمَا سَيَأْتِي إِيضَاحُهُ فِي حَقِيقَةِ اخْتِلَافِ هَذِهِ السَّبْعَةِ‏.‏

فَمِنْهَا مَا يَكُونُ لِبَيَانِ حُكْمٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ كَقِرَاءَةِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَاصٍّ وَغَيْرِهِ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ مِنْ أُمٍّ فَإِنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ تُبَيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِخْوَةِ هُنَا هُوَ الْإِخْوَةُ لِلْأُمِّ، وَهَذَا أَمْرٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ؛ وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُشْتَرَكَةِ وَهِيَ زَوْجٌ وَأُمٌّ، أَوْ جَدَّةٌ وَاثْنَانِ مِنْ إِخْوَةِ الْأُمِّ وَوَاحِدٌ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ إِخْوَةِ الْأَبِ وَالْأُمِّ، فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ بِالتَّشْرِيكِ بَيْنَ الْإِخْوَةِ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ أُمٍّ وَاحِدَةٍ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَإِسْحَاقَ وَغَيْرِهِمْ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ بِجَعْلِ الثُّلُثِ لِإِخْوَةِ الْأُمِّ وَلَا شَيْءَ لِإِخْوَةِ الْأَبَوَيْنِ لِظَاهِرِ الْقِرَاءَةِ الصَّحِيحَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ الثَّلَاثَةِ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَدَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ وَغَيْرِهِمْ‏.‏

وَمِنْهَا مَا يَكُونُ مُرَجِّحًا لِحُكْمٍ اخْتُلِفَ فِيهِ، كَقِرَاءَةِ أَوْ تَحْرِيرِ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فِيهَا تَرْجِيحٌ لِاشْتِرَاطِ الْإِيمَانِ فِيهَا كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ وَلَمْ يَشْتَرِطْهُ أَبُو حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ-‏.‏

وَمِنْهَا مَا يَكُونُ لِلْجَمْعِ بَيْنَ حُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ ‏{‏يَطْهُرْنَ‏}‏ وَيَطَّهَّرْنَ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ يَنْبَغِي الْجَمْعُ، وَهُوَ أَنَّ الْحَائِضَ لَا يَقْرَبُهَا زَوْجُهَا حَتَّى تَطْهُرَ بِانْقِطَاعِ حَيْضِهَا وَتَطْهُرَ بِالِاغْتِسَالِ‏.‏

وَمِنْهَا مَا يَكُونُ لِأَجْلِ اخْتِلَافِ حُكْمَيْنِ شَرْعِيَّيْنِ كَقِرَاءَةِ ‏{‏وَأَرْجُلَكُمْ‏}‏ بِالْخَفْضِ وَالنَّصْبِ، فَإِنَّ الْخَفْضَ يَقْتَضِي فَرْضَ الْمَسْحِ وَالنَّصْبَ يَقْتَضِي فَرْضَ الْغَسْلِ فَبَيَّنَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ الْمَسْحَ لِلَابِسِ الْخُفِّ وَالْغَسْلَ لِغَيْرِهِ، وَمِنْ ثَمَّ وَهِمَ الزَّمَخْشَرِيُّ حَيْثُ حَمَلَ اخْتِلَافَ الْقِرَاءَتَيْنِ فِي ‏{‏إِلَّا امْرَأَتَكَ‏}‏ رَفْعًا وَنَصْبًا عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الْمُفَسِّرِينَ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ لِإِيضَاحِ حُكْمٍ يَقْتَضِي الظَّاهِرُ خِلَافَهُ كَقِرَاءَةِ فَامْضُوا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ؛ فَإِنَّ قِرَاءَةَ ‏{‏فَاسْعَوْا‏}‏ يَقْتَضِي ظَاهِرُهَا الْمَشْيَ السَّرِيعَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَكَانَتِ الْقِرَاءَةُ الْأُخْرَى مُوَضِّحَةً لِذَلِكَ وَرَافِعَةً لِمَا يُتَوَهَّمُ مِنْهُ‏.‏

وَمِنْهَا مَا يَكُونُ مُفَسِّرًا لِمَا لَعَلَّهُ لَا يُعْرَفُ مِثْلَ قِرَاءَةِ كَالصُّوفِ الْمَنْفُوشِ‏.‏

وَمِنْهَا مَا يَكُونُ حُجَّةً لِأَهْلِ الْحَقِّ وَدَفْعًا لِأَهْلِ الزَّيْغِ كَقِرَاءَةِ وَمِلْكًا كَبِيرًا بِكَسْرِ اللَّامِ وَرَدَتْ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَغَيْرِهِ وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ دَلِيلٍ عَلَى رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ‏.‏

وَمِنْهَا مَا يَكُونُ حُجَّةً بِتَرْجِيحٍ لِقَوْلِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ كَقِرَاءَةِ أَوْ لَمَسْتُمُ النِّسَاءَ إِذِ اللَّمْسُ يُطْلَقُ عَلَى الْجَسِّ وَالْمَسِّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ‏}‏ أَيْ‏:‏ مَسُّوهُ‏.‏ وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ، أَوْ لَمَسْتَ‏.‏ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ‏:‏

وَأَلْمَسْتُ كَفِّي كَفَّهُ طَلَبَ الْغِنَا ***

وَمِنْهَا مَا يَكُونُ حُجَّةً لِقَوْلِ بَعْضِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ كَقِرَاءَةِ وَالْأَرْحَامِ بِالْخَفْضِ، وَلِيُجْزَى قَوْمًا عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ مَعَ النَّصْبِ‏.‏

وَأَمَّا عَلَى كَمْ مَعْنًى تَشْتَمِلُ هَذِهِ الْأَحْرُفُ السَّبْعَةُ، فَإِنَّ مَعَانِيَهَا مِنْ حَيْثُ وُقُوعِهَا وَتَكْرَارِهَا شَاذًّا وَصَحِيحًا لَا تَكَادُ تَنْضَبِطُ مِنْ حَيْثُ التَّعْدَادُ، بَلْ يَرْجِعُ ذَلِكَ كُلُّهُ إِلَى مَعْنَيَيْنِ‏:‏

أَحَدُهُمَا مَا اخْتَلَفَ لَفْظُهُ وَاتَّفَقَ مَعْنَاهُ، سَوَاءٌ كَانَ الِاخْتِلَافُ اخْتِلَافَ كُلٍّ، أَوْ جُزْءٍ، نَحْوَ أَرْشِدْنَا وَ‏{‏اهْدِنَا‏}‏ وَ‏{‏الْعِهْنِ‏}‏ وَالصُّوفِ وَذَقْيَةً وَ‏{‏صَيْحَةً‏}‏ وَ‏{‏خُطُوَاتِ‏}‏، وَخُطْوَاتِ وَ‏{‏هُزُوًا‏}‏ وَهُزًّا وَهُزُؤًا، كَمَا مَثَّلَ فِي الْحَدِيثِ‏:‏ هَلُمَّ، وَتَعَالَ، وَأَقْبِلْ‏.‏

وَالثَّانِي مَا اخْتَلَفَ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ نَحْوَ قَالَ رَبِّ ‏{‏وَقُلْ رَبِّ‏}‏ وَ‏{‏لَنُبَوِّئَنَّهُمْ‏}‏ وَلَنُثْوِيَنَّهُمْ وَ‏{‏يَخْدَعُونَ‏}‏ وَيُخَادِعُونَ وَيَكْذِبُونَ وَيُكَذِّبُونَ وَاتَّخَذُوا ‏{‏وَاتَّخِذُوا‏}‏ وَ‏{‏كُذِبُوا‏}‏ وَكُذِّبُوا وَ‏{‏لِتَزُولَ‏}‏ وَلَتَزُولُ‏.‏ وَبَقِيَ مَا اتَّحَدَ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ مِمَّا يَتَنَوَّعُ صِفَةُ النُّطْقِ بِهِ كَالْمَدَّاتِ وَتَخْفِيفِ الْهَمَزَاتِ وَالْإِظْهَارِ وَالْإِدْغَامِ وَالرَّوْمِ وَالْإِشْمَامِ وَتَرْقِيقِ الرَّاءَاتِ وَتَفْخِيمِ اللَّامَاتِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُعَبِّرُ عَنْهُ الْقُرَّاءُ بِالْأُصُولِ، فَهَذَا عِنْدَنَا لَيْسَ مِنَ الِاخْتِلَافِ الَّذِي يَتَنَوَّعُ فِيهِ اللَّفْظُ، أَوِ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْمُتَنَوِّعَةَ فِي أَدَائِهِ لَا تُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَفْظًا وَاحِدًا وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْحَاجِبِ بِقَوْلِهِ‏:‏ وَالسَّبْعَةُ مُتَوَاتِرَةٌ فِيمَا لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْأَدَاءِ‏:‏ كَالْمَدِّ، وَالْإِمَالَةِ، وَتَخْفِيفِ الْهَمْزِ وَنَحْوِهِ، وَهُوَ وَإِنْ أَصَابَ فِي تَفْرِقَتِهِ بَيْنَ الْخِلَافَيْنِ فِي ذَلِكَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فَهُوَ وَاهِمٌ فِي تَفْرِقَتِهِ بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ نَقْلِهِ وَقَطْعِهِ بِتَوَاتُرِ الِاخْتِلَافِ اللَّفْظِيِّ دُونَ الْأَدَائِيِّ، بَلْ هُمَا فِي نَقْلِهِمَا وَاحِدٌ وَإِذَا ثَبَتَ تَوَاتُرُ ذَلِكَ كَانَ تَوَاتُرُ هَذَا مِنْ بَابٍ أَوْلَى، إِذِ اللَّفْظُ لَا يَقُومُ إِلَّا بِهِ، أَوْ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِوُجُودِهِ وَقَدْ نَصَّ عَلَى تَوَاتُرِ ذَلِكَ كُلِّهِ أَئِمَّةُ الْأُصُولِ كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الطَّيِّبِ الْبَاقِلَّانِيِّ فِي كِتَابَهِ الِانْتِصَارِ وَغَيْرِهِ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا تَقَدَّمَ ابْنَ الْحَاجِبِ إِلَى ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏ نَعَمْ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الِاخْتِلَافِ هُوَ دَخَلٌ فِي الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ لَا أَنَّهُ وَاحِدٌ مِنْهَا‏.‏