فصل: تفسير الآيات (18- 22):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: النكت والعيون المشهور بـ «تفسير الماوردي»



.تفسير الآيات (18- 22):

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22)}
قوله عز وجل: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} معناه ومن أظلم لنفسه ممن افترى على الله كذباً بأن يدعي إنزال ما لم ينزل عليه أو ينفي ما أنزل عليه.
{أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ} وهو حشرهم إلى موقف الحساب كعرض الأمير لجيشه، إلا أن الأمير يعرضهم ليراهم وهذا لا يجوز على الله تعلى لرؤيته لهم قبل الحشر.
{وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هؤلاَءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ} والأشهاد جمع، وفيما هو جمع له وجهان:
أحدهما: أنه جمع شاهد مثل صاحب وأصحاب.
والثاني: جمع شهيد مثل شريف وأشراف.
وفي الأشهاد أربعة أقاويل:
احدها: أنه الأنبياء، قاله الضحاك.
الثاني: أنهم الملائكة، قاله مجاهد.
الثالث: الخلائق، قاله قتادة.
الرابع: أن الأشهاد أربعة: الملائكة والأنبياء والمؤمنون والأجساد، قاله زيد بن أسلم.
قوله عز وجل: {الَّذِينَ يَصُّدُونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} يعني قريشاً.
وفي سبيل الله التي صدوا عنها وجهان:
أحدهما: أنه محمد صلى الله عليه وسلم صدت قريش عنه الناس، قاله السدي.
والثاني: دين الله تعالى، قاله ابن عباس.
{وَيَبْغُونَها عِوَجاً} فيه ثلاثة أقاويل:
أحدها: يعني يؤمنون بملة غير الإسلام ديناً، قاله أبو مالك.
الثاني: يبغون محمداً هلاكاً، قاله السدي.
الثالث: أن يتأولوا القرآن تاويلاً باطلاً، قاله عليّ بن عيسى.
قوله عز وجل: {لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن معنى لا جرم: لا بد.
الثاني: أن {لا} عائد على الكفار، أي لا دافع لعذابهم، ثم استأنف فقال: جرم، أي كسب بكفره استحقاق النار، ويكون معنى جرم: كسب، أي بما كسبت يداه، قال الشاعر:
نَصَبنا رأسه في جذع نخل ** بما جَرَمت يداه وما اعتدينا

أي بما كسبت يداه.
الثالث: أن {لا} زائدة دخلت توكيداً، يعني حقاً إنهم في الآخرة هم الأخسرون. قال الشاعر:
ولقد طعنت أبا عيينة طعنة ** جرمت فزارُة بعدها أن يغضبوا.

أي أحقتهم الطعنة بالغضب.

.تفسير الآيات (23- 24):

{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)}
قوله عز وجل: {وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ} فيه خمسة تأويلات:
أحدها: يعني خافوا ربهم، قاله ابن عباس.
الثاني: يعني اطمأنوا، قاله مجاهد.
الثالث: أنابوا، قاله قتادة.
الرابع: خشعوا وتواضعوا لربهم، رواه معمر.
الخامس: أخلصوا إلى ربهم، قاله مقاتل.

.تفسير الآيات (25- 27):

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27)}
قوله عزوجل: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَك إلاَّ الَّذينَ هُمْ أرَاذِلُنا} الاراذل جمع أرذل، وارذل جمع رذل، والرذل الحقير، وعنوا بأراذلهم الفقراء وأصحاب المهن المتضعة. {باديَ الرأي} أي ظاهر الرأي، وفيه ثلاثة اوجه:
احدها: إنك تعمل بأول الرأي من غير فكر، قاله الزجاج.
الثاني: أن ما في نفسك من الرأي ظاهر، تعجيزاً له، قال ابن شجرة. الثالث: يعني ان أراذلنا اتبعوك بأقل الرأي وهم إذا فكروا رجعوا عن اتباعك، حكاه ابن الأنباري.
{وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنا مِن فَضْلٍ} يحتمل وجهين.
أحدهما: من فضل تفضلون به علينا من دنياكم. والثاني: من فضل تفضلون به علينا في أنفسكم.

.تفسير الآية رقم (28):

{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28)}
قوله عز وجل: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرءَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِن رَّبِّي} فيه وجهان:
أحدهما: يعني على ثقة من ربي، قاله أبو عمران الجوني.
الثاني: على حجة من ربي، قاله عليّ بن عيسى.
{وَآتَانِي رَحْمَة مِنْ عِنْدِهِ} فيها وجهان:
أحدهما: الإيمان.
والثاني: النبوة، قاله ابن عباس.
{فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} يعني البينة في قوله {إنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةِ مِن رَبِّي} وإنما قال {فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} وهم الذين عموا عنها، لأنها خفيت عليهم بترك النظر فأعماهم الله عنها.
وقرأ حمزة والكسائي وحفص {فعميت عليكم} بضم العين وتشديد الميم، وفي قراءة أُبي {فعمّاها} وهي موافقة لقراءة من قرأ بالضم على ما لم يسم فاعله.
وفي الذي عماها على هاتين القراءتين وجهان:
أحدهما: أن الله تعالى عماها عليهم.
الثاني: بوسوسة الشيطان. وما زينه لهم من الباطل حتى انصرفوا عن الحق. وإنما قصد نبي الله نوح بهذا القول لقومه أن يرد عيهم قولهم {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ} ليظهر فضله عليهم بأنه على بينة من ربه وآتاه رحمة من عنده وهم قد سلبوا ذلك، فأي فضل أعظم منه.
ثم قال تعالى: {أَنُلْزِمْكَمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} فيها وجهان: أنلزمكم الرحمة، قاله مقاتل.
الثاني: أنلزمكم البينة وأنتم لها كارهون، وقبولكم لها لا يصح مع الكراهة عليها.
قال قتادة والله لو استطاع نبي الله نوح عليه السلام لألزمها قومه ولكنه لم يملك ذلك.

.تفسير الآيات (29- 30):

{وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30)}
قوله عز وجل: {وَمَآ أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ} لأنهم سألوه طرد من اتبعه من أراذلهم، فقال جواباً لهم ورداً لسؤالهم: وما أنا بطارد الذين آمنوا.
{إِنَّهُم مُّلاَقُوْا رَبِّهِم} يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون قال ذلك على وجه الإعظام لهم بلقاء الله تعالى.
الثاني: على وجه الاختصام، بأني لو فعلت ذلك لخاصموني عند الله. {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ} فيه وجهان:
أحدهما: تجهلون في استرذالكم لهم وسؤالكم طردهم.
الثاني: تجلون في أنهم خير منكم لإيمانهم وكفركم.

.تفسير الآيات (31- 34):

{وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)}
قوله عز وجل: {وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} احتمل هذا القول من نوح عليه السلام وجهين:
أحدهما: أن يكون جواباً لقومه على قولهم {مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنَا}
الثاني: أن يكون جواباً لهم على قولهم {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ} فقال الله تعالى له قل: {وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِن اللَّهِ} وفيها وجهان:
أحدهما: أنها الرحمة أي ليس بيدي الرحمة فأسوقها إليكم، قاله ابن عباس.
الثاني: أنها الأموال، أي ليس بيدي أموال فأعطيكم منها على إيمانكم. {وَلاَ أعْلَمُ الْغَيْبَ} فأخبركم بما في انفسكم. {وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} يعني فأباين جنسكم. {وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً} والازدراء الإحتقار. يقال ازدريت عليه إذاعبته، وزريت عليه إذا حقرته.
وأنشد المبرد:
يباعده الصديق وتزدريه ** حليلته وينهره الصغير.

{لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً} أي ليس لاحتقاركم لهم يبطل أجرهم أو ينقص ثوابهم، وكذلك لستم لعلوكم في الدنيا تزدادون على أجوركم.
{اللَّهَ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ} يعني أنه يجازيهم عليه ويؤاخذهم به. {إِني إذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ} يعني إن قلت هذا الذي تقدم ذكره.

.تفسير الآية رقم (35):

{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)}
قوله عز وجل: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} يعني النبي صلى الله عليه وسلم، افترى افتعل من قبل نفسه ما أخبر به عن نوح وقومه.
{قُلْ إِنْ افْتَرَيْتُهُ فَعَليَّ إجرامي} وفي الإجرام وجهان:
أحدهما: أنه الذنوب المكتسبة. حكاه ابن عيسى.
الثاني: أنها الجنايات المقصودة، قاله ابن عباس ومنه قول الشاعر:
طريد عشيرةٍ ورهين جرم ** بما جرمت يدي وجنى لساني.

ومعناه: فعلىّ عقاب إجرامي. {وَأَنَا بَرِيءٌ مِّمَّا تُجْرِمُونَ} أي وعليكم من عقاب جرمكم في تكذيبي ما أنا بريء منه.

.تفسير الآيات (36- 39):

{وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39)}
قوله عز وجل: {وَأوحِيَ إِلَى نُوحٍ أنه لن يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ} حقق الله تعالى استدامة كفرهم تحقيقاً لنزول الوعيد بهم، قال الضحاك، فدعا عليهم لما أُخبر بهذا فقال: {ربِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ ديَّاراً إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً} [نوح: 27: 26].
{فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَ كَانُوا يَفْعَلُونَ} فيه وجهان:
أحدهما: فلا تأسف ومنه قول يزيد بن عبد المدان:
فارسُ الخيل إذا ما ولولت ** ربّهُ الخِدر بصوتٍ مبتئس

الثاني: فلا تحزن، ومنه قول الشاعر:
وكم من خليلٍ او حميم رُزئته ** فلم أبتئس والرزءُ فيه جَليلُ

والأبتئاس: الحزن في استكانة، وأصله من البؤس، وفي ذلك وجهان:
أحدهما: فلا تحزن لهلاكهم.
الثاني: فلا تحزن لكفرهم المفضي إلى هلاكهم.
قوله عز وجل: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} فيه ثلاثة أوجه:
أحدهما: بحيث نراك، فعبر عن الرؤية بالأعين لأن بها تكون الرؤية.
الثاني: بحفظنا إياك حفظ من يراك.
الثالث: بأعين أوليائنا من الملائكة.
ويحتمل وجهاً رابعاً: بمعونتنا لك على صنعها. {وَوَحْيِنَا} فيه وجهان:
أحدهما: وأمرنا لك أن تصنعها.
الثاني: تعليمنا لك كيف تصنعها.
{وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظلَمُواْ إِنَّهُمْ مُغْرَقونَ} نهاه الله عن المراجعة فيهم فاحتمل نهيه أمرين:
أحدهما: ليصرفه عن سؤال ما لا يجاب إليه.
الثاني: ليصرف عنه مأثم الممالأة للطغاة.
قوله عز وجل: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ} قال زيد بن أسلم: مكث نوح عليه السلام مائة سنة يغرس الشجر ويقطعها وييبسها، ومائة سنة يعملها، واختلف في طولها على ثلاثة أقاويل:
أحدها: ما قاله الحسن كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع، وعرضها ستمائة ذراع، وكانت مطبقة.
الثاني: ما قاله ابن عباس: كان طولها أربعمائة ذراع، وعلوها ثلاثون ذراعاً. وقال خصيف: كان طولها ثلاثمائة ذراع، وعرضها خمسون ذراعاً، وكان في أعلاها الطير، وفي وسطها الناس وفي أسفلها السباع. ودفعت من عين وردة في يوم الجمعة لعشر مضين من رجب ورست بباقردي على الجودي يوم عاشوراء. قال قتادة وكان بابها في عرضها.
{وكلّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلأ مِّنْ قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ} وفي سخريتهم منه قولان:
أحدهما: أنهم كانوا يرونه يبني في البر سفينة فيسخرون منه ويستهزئون به ويقولون: يا نوح صرت بعد النبوة نجاراً.
الثاني: أنهم لما رأوه يبني السفينة ولم يشاهدوا قبلها سفينة بنيت قالوا يا نوح: ما تصنع؟ قال: أبني بيتاً يمشي علىلماء فعجبوا من قوله وسخروا منه.
{قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} فيه قولان:
أحدهما: إن تسخروا من قولنا فسنسخر من غفلتكم.
الثاني: إن تسخروا من فِعلنا اليوم عند بناء السفينة فإنا نسخر منكم غداً عند الغرق.
والمراد بالسخرية ها هنا الاستجهال. ومعناه إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم.
قال ابن عباس: ولم يكن في الأرض قبل الطوفان نهر ولا بحر فلذلك سخروا منه. قال: ومياه البحار بقية الطوفان.
فإن قيل: فلم جاز أن يقول فإنا نسخر منكم مع قبح السخرية؟ قيل: لأنه ذمٌّ جعله مجازاة على السخرية فجاء به على مزاوجة الكلام، وكان الزجاج لأجل هذا الاعتراض يتأوله على معنى إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم كما تستجهلوننا.