فصل: تفسير الآيات (116- 117):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: النكت والعيون المشهور بـ «تفسير الماوردي»



.تفسير الآيات (116- 117):

{وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)}
قوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً} فيه قولان:
أحدهما: أنهم النصارى في قولهم: المسيح ابن الله.
والثاني: أنهم مشركو العرب في قولهم: الملائكة بنات الله.
{سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا في السَّمَواتِ والأَرْضِ} قوله: {سُبْحَانَهُ} تنزيهاً له من قولهم {اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً}.
قوله: {لَهُ مَا في السَّمَواتِ والأَرْضِ} أي خالق ما في السموات والأرض.
{كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} فيه ثلاثة تأويلات:
أحدها: أي مطيعون، وهذا قول قتادة، والسدي، ومجاهد.
والثاني: أي مقرون له بالعبودية، وهو قول عكرمة.
والثالث: أي قائمون، يعني يوم القيامة، وهذا قول الربيع، والقانت في اللغة القائم، ومنه القنوت في الصلاة، لأنه الدعاء في القيام.
قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَواتِ والأَرْضِ} يعني منشئها على غير حد ولا مثال، وكل من أنشأ ما لم يسبق إليه، يقال له مبدع، ولذلك قيل لمن خالف في الدين: مبتدع، لإحداثه ما لم يسبق إليه {وَإِذَا قَضَى أَمْراً} أي أحكمه وحتمه، وأصله الإحكام والفراغ، ومنه قيل للحاكم قاض، لفصله الأمور وإحكامه بين الخصوم، وقيل للميت قد قَضَى أي فرغ من الدنيا، قال أبو ذؤيب:
وعليهما مسرودتان قضاهما ** داود أو صنع السوابغ تُبّع

معنى قضاهما أي أحكمهما. وقال الشاعر في عمر بن الخطاب:
قضيت أموراً ثم غادرت بعدها ** بوائج في أكمامها لم تفتق

{فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} فإن قيل في أي حال يقول له كن فيكون؟ أفي حالة عدمه أم في حال وجوده؟ فإن كان في حال عدمه، استحال أن يأمر إلا مأموراً، كما يستحيل أن يكون الأمر إلا من آمر، وإن كان في حال وجوده، فتلك حال لا يجوز أن يأمر فيها بالوجود والحدوث، لأنه موجود حادث؟.
قيل: عن هذا السؤال أجوبة ثلاثة:
أحدها: أنه خبر من الله تعالى عن نفوذ أوامره في خلقه الموجود، كما أمر في بني إسرائيل، أن يكونوا قردة خاسئين، ولا يكون هذا وارداً في إيجاد المعدومات.
الثاني: أن الله عز وجل عالم، بما هو كائن قبل كونه، فكانت الأشياء التي لم تكن وهي كائنة بعلمه، قبل كونها مشابهة للأشياء التي هي موجودة، فجاز أن يقول لها كوني، ويأمرها بالخروج من حال العدم إلى حال الوجود، لتصور جميعها له ولعلمه بها في حال العدم.
والثالث: أن ذلك خبر من الله تعالى، عامٌ عن جميع ما يُحْدِثُه، ويكوّنه، إذا أراد خلقه وإنشاءه كان ووجد من غير أن يكون هناك قول يقوله، وإنما هو قضاء يريده، فعبر عنه بالقول وإن لم يكن قولاً، كقول أبي النجم:
قد قالت الأنساع للبطن الحق ** قدما فآضت كالغسق المحقق

ولا قول هناك، وإنما أراد أن الظهر قد لحق بالبطن، وكقوله عمرو بن حممة الدوسي.
فأصبحت مثل النسر طارت فراخه ** إذا رام تطياراً يقال له قَعِ

.تفسير الآية رقم (118):

{وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آَيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)}
قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِيَنَآ ءَايَةٌ} فيهم ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنهم النصارى، وهو قول مجاهد.
والثاني: أنهم اليهود، وهو قول ابن عباس.
والثالث: أنهم مشركو العرب، وهو قول قتادة والسدي. وقوله: {لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللهُ} يعني هَلاَّ يكلمنا الله، كقول الأشهب بن رملية:
تعدون عقر النيب أفضل مجدكم ** بني ضَوْطَرَى لولا الكمى المقنعا

بمعنى هل لا تعدون الكمى المقنعا.
{كَذلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ} فيهم قولان:
أحدهما: أنهم اليهود، وهو قول مجاهد.
والثاني: أنهم اليهود والنصارى، وهو قول قتادة.
قوله تعالى: {تَشَابَهتْ قُلُوْبُهُمْ} يعني في الكفر، وفيه وجهان:
أحدهما: تشابهت قلوب اليهود لقلوب النصارى، وهذا قول مجاهد.
والثاني: تشابهت قلوب مشركي العرب لقلوب اليهود والنصارى، وهذا قول قتادة.

.تفسير الآية رقم (119):

{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)}
قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً} يعني محمداً أرسله بدين الحق.
{بَشِيراً وَنَذِيراً} يعني بشيراً بالجنة لمن أطاع، ونذيراً بالنار لمن عصى.
{وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} أي لا تكون مؤاخذاً بكفرةِ من كفر بعد البشرى والإنذار، وقرأ بعض أهل المدينة: ولا تَسَلْ عن أصحاب الجحيم، بفتح التاء وجزم اللام، وذكر أن سبب نزولها، ما رواه موسى بن عبيد عن محمد بن كعب القرظي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَيْتَ شِعري مَا فَعَلَ أَبَوَاي» فأنزل الله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ}.

.تفسير الآيات (120- 121):

{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)}
قوله تعالى: {الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حقَّ تِلاَوَتِهِ} فيه قولان:
أحدهما: أنهم المؤمنون برسول الله صلى الله عليه وسلم، والكتاب هو القرآن، وهذا قول قتادة.
والثاني: أنهم علماء اليهود، والكتاب هو التوراة، وهذا قول عبد الرحمن بن زيد.
{يتلونه حق تلاوته} فيه تأويلان:
أحدهما: يقرؤونه حق قراءة.
والثاني: يتبعونه حق اتباعه، فيحللون حلاله، ويحرمون حرامه، وهذا قول الجمهور.
{أولئك يؤمنون به} يعني بمحمد صلى الله عليه وسلم، لأن من قرأ أحد الكتابين، آمن به، لِمَا فيهما من وجوب اتباعه.

.تفسير الآيات (122- 124):

{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)}
قوله تعالى: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلماتٍ فأتمهن} فيه محذوف وتقديره: واذكر إذا ابتلى يعني اختبر، وإبراهيم بالسريانية أب رحيم، وفي الكلمات التي ابتلاه الله عز وجل بها، ثمانية أقاويل:
أحدها: هي شرائع الإِسلام، قال ابن عباس: ما ابتلى الله أحداً بهن، فقام بها كلها، غير إبراهيم، ابتلي بالإِسلام فأتمه، فكتب الله له البراءة فقال: {وإبراهيم الذي وَفَّى} [النجم: 37] قال: وهي ثلاثون سهماً:
عشرة منها في سورة براءة: {التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون} [التوبة: 112].
وعشرة في الأحزاب: {إنَّ المُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَادِقينَ والصَادِقَاتِ وَالصَابِرِينَ وَالصَابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ واَلْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فروجَهُم وَالْحافِظَاتِ وَالذَاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالْذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغَفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب: 35].
وعشرة في سورة المؤمنين: {قَدْ أفْلَحَ الْمُؤمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِم خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُم عَنِ اللَّغُوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذيِنَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إلاَّ عَلَى أزْوَاجِهِم أوْ مَا مَلَكَتْ أيمَانُهُم فَإِنَّهُم غَيرُ مَلُومِينَ فَمن ابتغى وَرَاءَ ذلِكَ فَأولئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمُ لأَمَانَاتِهِم وَعَهْدِهِم رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُولئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونِ الْفِرْدَوسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 1- 11] وفي سورة سأل سائل من {إلا المُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج: 23]، إلى {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِم يُحَافظُون} [المعارج: 34].
والقول الثاني: إنها خصال من سُنَنِ الإسلام، خمس في الرأس، وخمس في الجسد، فروى ابن عباس في الرأس: قص الشارب، والمضمضة، والاستنشاق، والسواك، وفرق الرأس. وفي الجسد تقليم الأظفار، وحلق العانة، والختان، ونتف الإبط، وغسل أثر البول والغائط بالماء. وهذا قول قتادة.
والقول الثالث: إنها عشر خصال، ست في الإنسان وأربع في المشاعر، فالتي في الإنسان: حَلْقُ العانة، والختان، ونَتْفُ الإبط، وتقليم الأظفار، وقص الشارب، والغُسل يوم الجمعة. والتي في المشاعر: الطواف، والسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار، والإفاضة. روى ذلك الحسن عن ابن عباس.
والقول الرابع: إن الله تعالى قال لإبراهيم: إني مبتليك يا إبراهيم، قال: تجعلني للناس إماماً؟ قال نعم، قال: ومن ذريتي؟ قال: لا ينال عهدي الظالمين، قال: تجعل البيت مثابة للناس؟ قال: نعم، قال: وأمناً؟ قال: نعم، قال: وتجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك؟ قال: نعم، قال: وأرنا مناسكنا وتب علينا؟ قال: نعم، قال: وتجعل هذا البلد آمناً؟ قال: نعم، قال: وترزق أهله من الثمرات من آمن؟ قال: نعم، فهذه الكلمات التي ابتلى الله بها إبراهيم، وهذا قول مجاهد.
والخامس: أنها مناسك الحج خاصة، وهذا قول قتادة.
والقول السادس: أنها الخلال الست: الكواكب، والقمر، والشمس، والنار، والهجرة، والختان، التي ابتلي بهن فصبر عليهن، وهذا قول الحسن.
والقول السابع: ما رواه سهل بن معاذ بن أنس عن أمه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ألا أخبركم لم سمى الله إبراهيم خليله الذي وفّى؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى: سبحان الله حين تُمْسُونَ وحينَ تُصْبِحُونَ، وله الحمْدُ في السّموَاتِ والأرْضِ وعَشِيّاً وحين تُظْهِرُونَ». والقول الثامن، ما رواه القاسم بن محمد، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «{وَإبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} قَالَ: أتَدْرُونَ مَا وَفَّى؟ قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أعْلَمُ، قَالَ: وَفّى عَمَلَ يَوْمٍ بِأرْبَعِ رَكْعَاتٍ فِي النَّهَارِ»
{قَالَ إنَّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إمَاماً} أي مقصوداً متبوعاً، ومنه إمام المصلين، وهو المتبوع في الصلاة.
{قال ومن ذريتي} فاحتمل ذلك وجهين:
أحدهما: أنه طمع في الإمامة لذريته، فسأل الله تعالى ذلك لهم.
والثاني: أنه قال ذلك استخباراً عن حالهم، هل يكونون أهل طاعة فيصيروا أئمة؟ فأخبره الله تعالى أن فيهم عاصياً وظالماً، لا يستحق الإمامة، فقال: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}.
وفي هذا العهد، سبعة تأويلات:
أحدها: أنه النبوة، وهو قول السدي.
والثاني: أنه الإمامة، وهو قول مجاهد.
والثالث: أنه الإيمان، وهو قول قتادة.
والرابع: أنه الرحمة، وهو قول عطاء.
والخامس: أنه دين الله وهو قول الضحاك.
والسادس: أنه الجزاء والثواب.
والسابع: أنه لا عهد عليك لظالم أنه تطيعه في ظلمة، وهو قول ابن عباس.

.تفسير الآيات (125- 128):

{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)}
قوله تعالى: {وَإذْ جَعَلْنَا مَثَابَةً لِلنَّاسِ} فيه قولان:
أحدهما: مجمعاً لاجتماع الناس عليه في الحج والعمرة.
والثاني: مرجعاً من قولهم قد ثابت العلة إذا رجعت. وقال الشاعر:
مثاباً لأفناءِ القبائل كلها ** تحب إليها اليعملات الذوامل

وفي رجوعهم إليه وجهان:
أحدهما: أنهم يرجعون إليه المرة بعد المرة.
والثاني: أنهم في كل واحد من نُسُكَيَ الحج والعمرة يرجعون إليه من حل إلى حرم؛ لأن الجمع في كل واحد من النسكين بين الحل والحرم شرط مستحق.
قال تعالى: {وَأَمْناً} فيه قولان:
أحدهما: لأمنه في الجاهلية من مغازي العرب، لقوله: {وءَامَنَهُم مِنْ خَوفٍ} [قريش: 4].
والثاني: لأمن الجناة فيه من إقامة الحدود عليهم حتى يخرجوا منه.
{وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلَّى} روى حماد، عن أنس بن مالك قال: قال عمر بن الخطاب: قلت يا رسول الله، لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فأنزل الله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلَّى} بكسر الخاء من قوله واتخذوا على وجه الأمر، وقرأ بعض أهل المدينة: {وَاتَّخّذُوا} بفتح الخاء على وجه الخبر.
واختلف أهل التفسير في هذا المقام، الذي أُمِرُوا باتخاذه مصلى، على أربعة أقاويل:
أحدها: الحج كله، وهذا قول ابن عباس.
والثاني: أنه عرفة ومزدلفة والجمار، وهو قول عطاء والشعبي.
والثالث: أنه الحرم كله، وهو قول مجاهد.
والرابع: أنه الحجر الذي في المسجد، وهو مقامه المعروف، وهذا أصح.
وفي قوله: {مُصَلَّى} تأويلان:
أحدهما: مَدْعَى يَدْعِي فيه، وهو قول مجاهد.
والثاني: أنه مصلى يصلي عنده، وهو قول قتادة، وهو أظهر التأويلين.
قوله تعالى: {وَعَهِدْنآ إِلى إبْرَاهِمَ وَإِسْمَاعِيلَ} فيه تأويلان:
أحدهما: أي أَمَرْنَا.
والثاني: أي أوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل.
{أنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: من الأصنام.
والثاني: من الكفار.
والثالث: من الأنجاس.
وقوله تعالى: {بَيْتِيَ} يريد البيت الحرام.
فإن قيل: فلم يكن على عهد إبراهيم، قبل بناء البيت بيت يطهر، قيل: عن هذا جوابان:
أحدهما: معناه وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن ابنيا بيتي مُطَهَّراً، وهذا قول السدي.
والثاني: معناه أن طهرا مكان البيت.
{لِلطَّائِفِينَ} فيهم تأويلان:
أحدهما: أنهم الغرباء الذين يأتون البيت من غربة، وهذا قول سعيد بن جبير.
والثاني: أنهم الذين يطوفون بالبيت، وهذا قول عطاء.
{وَالْعَاكِفِينَ} فيهم أربعة تأويلات:
أحدها: أنهم أهل البلد الحرام، وهذا قول سعيد بن جبير وقتادة.
والثاني: أنهم المعتكفون وهذا قول مجاهد.
والثالث: أنهم المصلون وهذا قول ابن عباس.
والرابع: أنهم المجاورون للبيت الحرام بغير طواف، وغير اعتكاف، ولا صلاة، وهذا قول عطاء.
{والرُّكَّعِ السُّجُودِ} يريد أهل الصلاة، لأنها تجمع ركوعاً وسجوداً.
قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً} يعني مكة {وَارْزُقْ أهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} ليجمع لأهله الأمن والخصب، فيكونوا في رغد من العيش.
{مَنْ ءَآمَنَ مِنْهُم بِاللهِ} فيه وجهان:
أحدهما: أن هذا من قول إبراهيم متصلاً بسؤاله، أن يجعله بلداً آمناً، وأن يرزق أهله الذين آمنوا به من الثمرات، لأن الله تعالى قد أعلمه بقوله: {لاَ يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} أن فيهم ظالماً هو بالعقاب أحق من الثواب، فلم يسأل أهل المعاصي سؤال أهل الطاعات.
والوجه الثاني: أنه سؤاله كان عاماً مرسلاً، وأن الله تعالى خص الإجابة لمن آمن منهم بالله واليوم الآخر، ثم استأنف الإخبار عن حال الكافرين، بأن قال: {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً} يعني في الدنيا.
{ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذَابِ النَّارِ} يعني بذنوبه إن مات على كفره.
واختلفوا في مكة، هل صارت حراماً آمناً بسؤال إبراهيم أو كانت فيه كذلك؟ على قولين:
أحدهما: أنها لم تزل حرماً مِنَ الجَبَابِرَةِ والمُسَلَّطِينَ، ومن الخسوف والزلازل، وإنما سأل إبراهيم ربَّه: أن يجعله آمناً من الجذب والقحط، وأن يرزق أهله من الثمرات، لرواية سعيد بن المقبري، قال: سمعت أبا شريح الخزاعي يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما افتتح مكة، قتلت خزاعة رجلاً من هذيل، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً فقال: «يأَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ تَعَالَى حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمواتِ وَالأرْضَ فَهِيَ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لاَ يَحِلُّ لاِمْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليومِ الآخرِ أَنْ يَسْفِكَ فِيها دَماً أَوْ يُعَضِّدُ بِهَا شَجَراً، وَأَنَّهَا لاَ تَحِلُّ لأحَدٍ بَعْدِي وَلَمْ تَحِلَّ لِي إِلاَّ هَذِهِ السَّاعَةَ غَضَباً عَلَى أَهْلِهَا، ألاَ وَهِيَ قَدْ رَجِعَتْ عَلَى حَالِهَا بِالأَمْسِ، ألاَ لِيُبَلِّغَ الشَّاهِدُ الغَائِبَ. فَمَنْ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ قَدْ قَتَلَ بِهَا فَقُولُوا: إنَّ الله تَعَالَى قَدْ أَحَلَّهَا لِرَسُولِهِ وَلَمْ يُحِلَّهَا لَكْ»
والثاني: أن مكة كانت حلالاً قبل دعوة إبراهيم، كسائر البلاد، وأنها بدعوته صارت حرماً آمنا، وبتحريمه لها، كما صارت المدينة بتحريم رسول الله صلى الله عليه وسلم حراماً، بعد أن كانت حلالاً، لرواية أشعب، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه سلم قال: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ عَبْدَ اللهِ وَخَلِيله، وَإِنِّي عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وإِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ، وإِنِّي حَرَّمْتُ المَدِينَةَ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا عَضَاهَا وَصَيْدُهَا، لاَ يُحْمَلُ فِيهَا سِلاَحٌ لِقِتَالٍ، وَلاَ يُقْطَعُ مِنْهَا شَجَرٌ لَعَلَفٍ»
قوله تعالى: {وَإَذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} أول من دله الله تعالى على مكان البيت إبراهيمُ، وهو أول من بناه مع إسماعيل، وأول من حجه، وإنما كانوا قَبْلُ يصلون نحوه، ولا يعرفون مكانه.
والقواعد من البيت واحدتها قاعدة، وهي كالأساس لما فوقها.
{رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} والمعنى: يقولان ربنا تقبل منا، كما قال تعالى: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيكُم} أي يقولون سلام عليكم، وهي كذلك في قراءة أبيّ بن كعب: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ وَيَقُولاَنِ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا}. وتفسير (إسماعيل): إسمع يا الله، لأن إيل بالسريانية هو الله، لأن إبراهيم لما دعا ربه قال: اسمع يا إيل، فلما أجابه ورزقه بما دعا من الولد، سمّى بما دعا.
قوله تعالى: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَينِ لَكَ} على التثنية، وقرأ عوف الأعرابي: {مُسْلِمِينَ لك} على الجمع. ويقال: أنه لم يدع نَبيُّ إلا لنفسه ولأمته إلا إبراهيم فإنه دعا مع دعائه لنفسه ولأمته لهذه الأمة في قوله: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} والمسلم هو الذي استسلم لأمر الله وخضع له، وهو في الدين القابل لأوامر الله سراً وجهراً.
{وأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} أي عرفنا مناسكنا، وفيها تأويلان:
أحدهما: أنها مناسك الحج ومعالمه، وهذا قول قتادة والسدي.
والثاني: أنها مناسك الذبائح التي تنسك لله عز وجل، وهذا قول مجاهد وعطاء.
والمناسك جمع منسك، واختلفوا في تسميته منسكاً على وجهين:
أحدهما: لأنه معتاد ويتردد الناس إليه في الحج والعمرة، من قولهم إن لفلان منسكاً، إذا كان له موضع معتاد لخير أو شر، فسميت بذلك مناسك الحج لاعتيادها.
والثاني: أن النسك عبادة الله تعالى، ولذلك سُمِّي الزاهد ناسكاً لعبادة ربه، فسميت هذه مناسك لأنها عبادات.