فصل: تفسير الآية رقم (30):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: النكت والعيون المشهور بـ «تفسير الماوردي»



.تفسير الآية رقم (30):

{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)}
قوله تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ} وفي {مِنْ} في هذا الموضع ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنها صلة وزائدة وتقدير الكلام: قل للمؤمنين يغضوا أبصارهم، قاله السدي.
الثاني: أنها مستعملة في مضمر وتقديره، يغضوا أبصارهم عما لا يحل من النظر، وهذا قول قتادة.
الثالث: أنها مستعملة في المظهر، لأن غض البصر عن الحلال لا يلزم وإنما يلزم غضها عن الحرام فلذلك دخل حرف التبعيض في غض الأبصار فقال: من أبصارهم، قاله ابن شجرة.
ويحرم من النظر ما قصد، ولا تحرم النظرة الأولى الواقعة سهواً. روى الحسن البصري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ابنُ آدَمَ لَكَ النَّظْرَةُ الأَولَى وَعَلَيكَ الثَّانِيَة».
{وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ} فيه قولان:
أحدهما: أنه يعني بحفظ الفرج عفافه، والعفاف يكون عن الحرام دون المباح ولذلك لم يدخل فيه حرف التبعيض كما دخل غض البصر.
الثاني: قاله أبو العالية الرياحي المراد بحفظ الفروج في هذا الموضع سترها عن الأبصار حتى لا ترى، وكل موضع في القرآن ذكر فيه الفرج فالمراد به الزنى إلا في هذا الموضع فإن المراد به الستر، وسميت فروجاً لأنها منافذ الأجواف ومسالك الخارجات.

.تفسير الآية رقم (31):

{وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)}
قوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} والزينة ما أدخلته المرأة على بدنها حتى زانها وحسنها في العيون كالحلي والثياب والكحل والخضاب، ومنه قوله تعالى: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} قال الشاعر:
يأخذ زينتهن أحسن ما ترى ** وإذا عطلن فهن غير عواطل

والزينة زينتان: ظاهرة وباطنة، فالظاهرة لا يجب سترها ولا يحرم النظر إليها لقوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} وفيها ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنها الثياب، قاله ابن مسعود.
الثاني: الكحل والخاتم، قاله ابن عباس، والمسور بن مخرمة.
الثالث: الوجه والكفان، قاله الحسن، وابن جبير، وعطاء.
وأما الباطنة فقال ابن مسعود: القرط والقلادة والدملج والخلخال، واختلف في السوار فروي عن عائشة أنه من الزينة الظاهرة، وقال غيرها هو من الباطنة، وهو أشبه لتجاوزه الكفين، فأما الخضاب فإن كان في الكفين فهو من الزينة الظاهرة، وإن كان في القدمين فهو من الباطنة، وهذا الزينة الباطنة يجب سترها عن الأجانب ويحرم عليها تعمد النظر إليها فأما ذوو المحارم فالزوج منهم يجوز له النظر والالتذاذ، وغيره من الآباء والأبناء والإخوة يجوز لهم النظر ويحرم عليهم الالتذاذ.
روى الحسن والحسين رضي الله عنهما [أنهما] كانا يدخلان على أختهما أم كلثوم وهي تمتشط.
وتأول بعض أصحاب الخواطر هذه الزينة بتأويلين:
أحدهما: أنها الدنيا فلا يتظاهر بما أوتي منها ولا يتفاخر إلا بما ظهر منها ولم ينستر.
الثاني: أنها الطاعة لا يتظاهر بها رياءً إلا ما ظهر منها ولم ينكتم، وهما بعيدان.
{وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهنَّ} الخمر المقانع أمِرن بإلقائها على صدورهن تغطية لنحورهن فقد كن يلقينها على ظهورهن بادية نحورهن، وقيل: كانت قمصهن مفروجة الجيوب كالدرعة يبدو منها صدروهن فأمرن بإلقاء الخمر لسترها. وكني عن الصدور بالجيوب لأنها ملبوسة عليها.
ثم قال: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ} يعني الزينة الباطنة إبداؤها للزوج استدعاء لميله وتحريكاً لشهوته ولذلك لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم السلتاء والمرهاء فالسلتاء التي لا تختضب، والمرهاء التي لا تكتحل تفعل ذلك لانصراف شهوة الزوج عنها فأمرها بذلك استدعاء لشهوته، ولعن صلى الله عليه وسلم المفشلة والمسوفة، المسوفة التي إذا دعاها للمباشرة قالت سوف أفعل، والمفشلة التي إذا دعاها قالت إنها حائض وهي غير حائض، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لُعِنَتِ الغَائِصَةُ وَالمُغَوِّصَةُ» فالغائصة التي لا تعلم زوجها بحيضها حتى يصيبها، والمغوصة التي تدعى أنها حائض ليمتنع زوجها من إصابتها وليست بحائض.
واختلف أصحابنا في تعمد كل واحد من الزوجين النظر إلى فرج صاحبه تلذذاً به على وجهين:
أحدهما: يجوز كما يجوز الاستمتاع به لقوله تعالى: {هن لباس لكم وأنتم لباس لهن} [البقرة: 187].
الثاني: لا يجوز لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لَعَنَ اللَّهُ النَّاظِرَ وَالمَنْظُورَ إِلَيهِ».
فأما ما سوى الفرجين منهما فيجوز لكل واحدٍ منهما أن يتعمد النظر إليه من صاحبه وكذلك الأمة مع سيدها.
{أَوْ ءَابَآئِهِنَّ أَوْ ءَابَآءِ بُعُولَتِهِنَّ} إلى قوله: {أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ} وهؤلاء كلهم ذوو محارم بما ذكر من الأسباب والأنساب يجوز أبداً نظر الزينة الباطنة لهم من غير استدعاء لشهوتهم، ويجوز تعمد النظر من غير تلذذ.
والذي يلزم الحرة أن تستر من بدنها مع ذوي محارمها ما بين سرتها وركبتها، وكذلك يلزم مع النساء كلهن أو يستتر بعضهن من بعض ما بين السرة والركبة وهو معنى قوله: {أو نِسَآئِهِنَّ} وفيهن وجهان:
أحدهما: أنهن المسلمات لا يجوز لمسلمة أن تكشف جسدها عند كافرة، قاله الكلبي.
والثاني: أنه عام في جميع النساء.
ثم قاله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} يعني عبيدهن، فلا يحل للحرة عبدها، وإن حل للرجل أمته، لأن البضع إنما يستحقه مالكه، وبضع الحرة لا يكون ملكاً لعبدها، وبضع الأمة ملك لسيدها.
واختلف أصحابنا في تحريم ما بطن من زينة الحرة على عبدها، على ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها تحل ولا تحرم، وتكون عورتها معه كعورتها مع ذوي محرمها، ما بين السرة والركبة لتحريمه عليها ولاستثناء الله تعالى له مع استثنائه من ذوي محرمها وهو مروي عن عائشة وأم سلمة.
والثاني: أنها تحرم ولا تحل وتكون عورتها معه كعورتها مع الرجال والأجانب وهو ما عدا الزينة الظاهرة من جميع البدن إلا الوجه والكفين، وتأول قائل هذا الوجه قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} على الإِماء دون العبيد، وتأوله كذلك سعيد بن المسيب، وعطاء، ومجاهد.
والثالث: أنه يجوز أن ينظر إليها فضلاء، كما تكون المرأة في ثياب بيتها بارزة الذراعين والساقين والعنق اعتباراً بالعرف والعادة، ورفعاً لما سبق، وهو قول عبد الله بن عباس، وأما غير عبدها فكالحر معها، وإن كان عبداً لزوجها وأمها.
ثم قال تعالى: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَة مِنَ الرِّجَالِ} فيه ثمانية أوجه:
أحدها: أنه الصغير لأنه لا إرب له في النساء لصغره، وهذا قول ابن زيد.
والثاني: أنه العنين لأنه لا إرب له في النساء لعجزه، وهذا قول عكرمة، والشبعي.
والثالث: أنه الأبله المعتوه لأنه لا إرب له في النساء لجهالته، وهذا قول سعيد بن جبير، وعطاء.
والرابع: أنه المجبوب لفقد إربه، وهذا قول مأثور.
والخامس: أنه الشيخ الهرم لذهاب إربه، وهذا قول يزيد بن حبيب.
والسادس: أنه الأحمق الذي لا تشتهيه المرأة ولا يغار عليه الرجل، وهذا قول قتادة.
والسابع: أنه المستطعم الذي لا يهمه إلا بطنه، وهذا قول مجاهد.
والثامن: أنه تابع القوم يخدمهم بطعام بطنه، فهو مصروف لا لشهوة، وهو قول الحسن.
وفيما أخذت منه الإربة قولان:
أحدها: أنها مأخوذة من العقل من قولهم رجل أريب إذا كان عاقلاً.
والثاني: أنها مأخوذة من الأرب وهو الحاجة، قاله قطرب.
ثم أقول: إن الصغير والكبير والمجبوب من هذه التأويلات المذكورة في وجوب ستر الزينة الباطنة منهم، وإباحة ما ظهر منها معهم كغيرهم، فأما الصغير فإن لم يظهر على عورات النساء ولم يميز من أحوالهن شيئاً فلا عورة للمرأة معه.
[فإِن كان مميزاً غير بالغ] لزم أن تستر المرأة منه ما بين سرتها وركبتها وفي لزوم ستر ما عداه وجهان:
أحدهما: لا يلزم لأن القلم غير جار عليه والتكليف له غير لازم.
والثاني: يلزم كالرجل لأنه قد يشتهي ويشتهى.
وفي معنى قوله تعالى: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} ثلاثة أوجه:
الأول: لعدم شهوتهم.
والثاني: لم يعرفوا عورات النساء لعدم تمييزهم.
والثالث: لم يطيقوا جماع النساء.
وأما الشيخ فإن بقيت فيه شهوة فهو كالشباب، فإن فقدها ففيه وجهان:
أحدهما: أن الزينة الباطنة معه مباحة والعورة معه ما بين السرة والركبة.
والثاني: أنها معه محرمة وجميع البدن معه عورة إلا الزينة الظاهرة، استدامة لحاله المتقدمة.
وأما المجبوب والخصي ففيهما لأصحابنا ثلاثة أوجه:
أحدها: استباحة الزينة الباطنة معهما.
والثاني: تحريمها عليهما.
والثالث: إباحتها للمجبوب وتحريمها على الخصي.
والعورة إنما سميت بذلك لقبح ظهورها وغض البصر عنها، مأخوذ من عور العين.
ثم قال تعالى: {وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ} قال قتادة: كانت المرأة إذا مشت تضرب برجلها ليسمع قعقعة خلخالها، فنهين عن ذلك.
ويحتمل فعلهن ذلك أمرين: فإما أن يفعلن ذلك فرحاً بزينتهن ومرحاً وإما تعرضاً للرجال وتبرجاً، فإن كان الثاني فالمنع منه حتم، وإن كان الأول فالمنع منه ندب.

.تفسير الآيات (32- 34):

{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)}
قوله تعالى: {وَأَنكِحُواْ الأَيَامَى مِنكُمْ} وهو جمع أيّم، وفي الأيم قولان:
أحدهما: أنها المتوفى عنها زوجها، قاله محمد بن الحسن.
الثاني: أنها التي لا زوج لها بكراً كانت أو ثيباً وهو قول الجمهور. يقال رجل أيّم إذا لم تكن له زوجة وامرأة أيّم إذا لم يكن لها زوج. ومنه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الأيمة يعني العزبة قال الشاعر:
فَإِن تَنْكَحِي أَنكِحْ وإن تَتَأَيَّمِي ** وإن كُنْتَ أَفْتَى منكُم أَتَأَيَّمُ

وروى القاسم قال: أمر بقتل الأيم يعني الحية.
وفي هذا الخطاب قولان:
أحدهما: أنه خطاب للأولياء أن ينكحوا آيامهم من أكفائهن إذا دعون إليه لأنه خطاب خرج مخرج الأمر الحتم فلذلك يوجه إلى الولي دون الزوج.
الثاني: أنه خطاب للأزواج أن يتزوجوا الأيامى عند الحاجة.
واختلف في وجوبه فذهب أهل الظاهر إليه تمسكاً بظاهر الأمر، وذهب جمهور الفقهاء إلى استحبابه للمحتاج من غير إيجاب وكراهته لغير المحتاج.
ثم قال: {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَآئِكُمْ} فيه وجهان:
أحدهما: أن معنى الكلام وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من رجالكم وأنكحوا إماءَكم.
الثاني: وهو الأظهر أنه أمر بإنكاح العبيد والإِيماء كما أمرنا بإنكاح الأيامى لاستحقاق السيد لولاية عبده وأمته فإن دعت الأمة سيدها أن يتزوجها لم يلزمه لأنها فراش له، وإن أراد تزويجها كان له خيراً وإن لم يختره ليكتسب رق ولدها ويسقط عنه نفقتها.
وإن أراد السيد تزويج عبد أو طلب العبد ذلك من سيده فهل للداعي إليه أن يجبر الممتنع فيهما عليه أم لا؟ على قولين.
{إِن يَكُونُوا فُقَرَآءَ يَغْنِهِمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} فيه وجهان:
أحدهما: إن يكونوا فقراء إلى النكاح يغنهم الله به عن السفاح.
الثاني: إن يكونوا فقراء إلى المال يغنهم الله إما بقناعة الصالحين، وإما باجتماع الرزقين، وروى عبد العزيز بن أبي رواد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اطْلُبُواْ الغِنَى فِي هذِهِ الآية» {إِن يَكُونَواْ فُقَرآءَ يُغْنهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ}.
{وَاللَّهُ وَاسَعٌ عَلِيمٌ} فيه وجهان:
أحدهما: واسع العطاء عليم بالمصلحة.
الثاني: واسع الرزق عليهم بالخلق.
قوله تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً} أي وليعف، والعفة في العرف الامتناع من كل فاحشة، قال رؤبة:
يعف عن أسرارها بعد الفسق

يعني عن الزنى بها.
{حَتَّى يَغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} يحتمل وجهين:
أحدهما يغنيهم الله عنه بقلة الرغبة فيه.
الثاني: يغني بمال حلال يتزوجون به.
{وَالَّذيَنَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِم خَيْراً} أما الكتاب المبتغى هنا هو كتابة العبد والأمة على مال إذا أدياه عتقا به وكانا قبله مالكين للكسب ليؤدي في العتق، فإن تراضى السيد والعبد عليها جاز، وإن دعا السيد إليها لم يجبر العبد عليها.
وإن دعا العبد إليها ففي إجبار السيد عليها إذ علم فيه خيراً مذهبان:
أحدهما: وهو قول عطاء، وداود، يجب على السيد مكاتبته ويجبر إن أبى.
الثاني: وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وجمهور الفقهاء أنه يستحب له ولا يجبر عليه فإذا انعقدت الكتابة لزمت من جهة السيد وكان المكاتب فيها مخيراً بين المقام والفسخ.
{إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} خمسة تأويلات:
أحدها: أن الخير، القدرة على الاحتراف والكسب، قاله ابن عمر وابن عباس.
الثاني: أن الخير: المال، قاله عطاء ومجاهد.
الثالث: أنه الدين والأمانة، قاله الحسن.
الرابع: أنه الوفاء والصدق، قاله قتادة وطاووس.
الخامس: أنه الكسب والأمانة، قاله الشافعي.
{وءَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي ءَاتَاكُمْ} فيه قولان:
أحدهما: يعني من مال الزكاة من سهم الرقاب يعطاه المكاتب ليستعين به في أداء ما عليه للسيد. ولا يكره للسيد أخذه وإن كان غنياً، قاله الحسن، وإبراهيم وابن زيد.
الثاني: من مال المكاتبة معونة من السيد لمكاتبه كما أعانه غيره من الزكاة.
واختلف من ذهب إلى هذا التأويل في وجوبه فذهب أبو حنيفة إلى أنه مستحب وليس بواجب، وذهب الشافعي إلى وجوبه وبه قال عمر وعلي وابن عباس.
واختلف من قال بوجوبه في هذا التأويل في تقديره فحكي عن علي أنه قدره بالربع من مال الكتابة، وذهب الشافعي إلى أنه غير مقدر، وبه قال ابن عباس.
وإن امتنع السيد منه طوعاً قضى الحاكم به عليه جبراً واجتهد رأيه في قدره، وحكم به في تركته إن مات، وحاص به الغرماء إن أفلس.
والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم في قول الشافعي وأصحابه، وإذا عجز عن أداء نجم عند محله كان السيد بالخيار بين إنظاره وتعجيزه وإعادته رقاً، ولا يرد ما أخذه منه أو من زكاة أعين بها أو مال كسبه.
قال الكلبي وسبب نزول قوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُم فِيهِمْ خَيْراً} الآية؛ أن عبداً اسمه صبح لحويطب بن عبد العزى سأله أن يكاتبه فامتنع حويطب فأنزل الله ذلك فيه.
قوله تعالى: {وَلاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} الفتيات الإماء، البغاء الزنى، والتحصن التعفف، ولا يجوز أن يكرهها ولا يمكنها سواء أرادت تعففاً أو لم تُرِدْ.
وفي ذكر الإِكراه هنا وجهان:
أحدهما: لأن الإِكراه لا يصح إلا فيمن أراد التعفف، ومن لم يرد التعفف فهو مسارع إلى الزنى غير مكره عليه.
الثاني: أنه وارد على سبب فخرج النهي على صفة السبب وإن لم يكن شرطاً فيه، وهذا ما روى جابر بن عبد الله أن عبد الله بن أبي بن سلول كانت له أمة يقال لها مسيكة وكان يكرهها على الزنى فزنت ببُرْدٍ فأعطته إياه فقال: ارجعي فازني على آخر: فقال: لا والله ما أنا براجعة وجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن سيدي يكرهني على البغاء فأنزل الله هذه الآية، وكان مستفيضاً من أفعال الجاهلين طلباً للولد والكسب.
{لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي لتأخذوا أجورهن على الزنى.
{وَمَن يُكْرِههُّنَّ} يعني من السادة.
{فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} يعني للأمة المكرهة دون السيد المكرِه.