فصل: تفسير الآيات (51- 54):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: النكت والعيون المشهور بـ «تفسير الماوردي»



.تفسير الآيات (51- 54):

{وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54)}
قوله تعالى: {فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ} يعني إلى ما يدعونك إليه: إما من تعظيم آلهتهم، وإما من موادعتهم.
{وَجَاهِدْهُم بِهِ} فيه وجهان:
أحدهما: بالقرآن.
الثاني: بالإِسلام.
{جِهَاداً كَبِيراً} فيه وجهان:
أحدهما: بالسيف.
الثاني: بالغلظة.
قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَينِ} فيه وجهان:
أحدهما: هو إرسال أحدهما إلى الآخر، قاله الضحاك.
الثاني: هو تخليتها، حكاه النقاش وقال الأخفش مأخوذ من مَرَجْتَ الشيء إذا خليته، وَمَرَجَ الوالي الناس إذا تركهم، وأمرجت الدابّة إذا خليتها ترعى، ومنه قول العجاج.
رَعى بها مَرْج ربيع ممرجاً **

وفي البحرين ثلاثة أقاويل:
أحدها: بحر السماء وبحر الأرض، وهو قول سعيد، ومجاهد.
الثاني: بحر فارس والروم، وهو قول الحسن.
الثالث: بحر العذب وبحر المالح. {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} قال عطاء:
الفرات: العذب، وقيل هو أعذب العذب.
وفي الأجاج: ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنه المالح، وهو قول عطاء، وقيل: هو أملح المالح.
الثاني: أنه المر، وهو قول قتادة.
والثالث: أنه الحار المؤجج، مأخوذ من تأجج النار، وهو قول ابن بحر.
{وََجَعلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً} فيه ثلاثة أقويل:
أحدها: حاجز من البر، وهو قول الحسن، ومجاهد.
الثاني: أن البرزخ: التخوم، وهو قول قتادة.
والثالث: أنه الأجل ما بين الدنيا والآخرة، وهو قول الضحاك.
{وَحِجْراً مَّحْجُوراً} أي مانعاً لا يختلط العذب بالمالح، ومنه قول الشاعر:
فَرُبّ في سُرادقٍ محجورِ ** سرت إليه من أعالي السور

محجور أي ممنوع.
وتأول بعض المتعمقين في غوامض المعاني أن مرج البحرين قلوب الأبرار مضيئة بالبر، وهو العذب، وقلوب الفجار مظلمة بالفجور وهو الملح الأجاج، وهو بعيد.
قوله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً} يعني من النطفة إنساناً.
{فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً} فالنسب مِن تناسُب كل والد وولد، وكل شيء أضفته إلى شيء عرفته به فهو مناسِبُهُ.
وفي الصهر وجهان:
أحدهما: أنه الرضاع وهو قول طاووس.
الثاني: أنه المناكح وهو معنى قول قتادة، وقال الكلبي: النسب من لا يحل نكاحه من القرابة، والصهر من يحل نكاحه من القرابة وغير القرابة.
وأصل الصهر الاختلاط، فسميت المناكح صهراً لاختلاط الناس بها، ومنه قوله تعالى: {يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُوِهِم} [الحج: 20] وقيل إن أصل الصهر الملاصقة.

.تفسير الآيات (55- 60):

{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60)}
قوله عز وجل: {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبّهِ ظَهِيراً} فيه وجهان:
أحدهما: عوناً، مأخوذ من المظاهر وهي المعونة، ومعنى قوله {عَلَى رَبِّهِ} أي على أولياء ربه.
الثاني: هيناً، مأخوذ من قولهم ظهر فلان بحاجتي إذا تركها واستهان بها قال تعالى: {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُم ظِهْريّاً} [هود: 92] أي هيناً، ومنه قول الفرزدق:
تميم بن زيد لا تكونن حاجتي ** بظهرٍ فلا يعيا عَلَيّ جوابها

قيل إنها نزلت في أبي جهل.
قوله عز وجل: {وَإِذَا قِيل لَهُمُ اسْجُدُواْ لِلرَّحْمَن قَالُواْ وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأَمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً} فيه ثلاثة أقاويل:
أحدها: أن العرب لم تكن تعرف الرحمن في أسماء الله تعالى: وكان مأخوذاً من الكتاب فلما دعوا إلى السجود لله تعالى بهذا الاسم سألواْ عنه مسألة الجاهل به فقالواْ {وَمَا الرَّحْمَن أَنَسْجُدُ لِمَا تَأَمْرُنَا}.
الثاني: أن مسيلمة الكذاب كان يسمى الرحمن، فلما سمعوا هذا الاسم في القرآن حسبوه مسيلمة، فأنكروا ما دعوا إليه من السجود له.
والثالث: أن هذا قول قوم كانواْ يجحدون التوحيد ولا يقرون بالله تعالى، فلما أمروا أن يسجدوا للرحمن ازدادوا نفوراً مع هواهم بما دعوا إليه من الإيمان، وإلا فالعرب المعترفون بالله الذين يعبدون الأصنام لتقربهم إلى الله زلفى كانوا يعرفون الرحمن في أسمائه وأنه اسم مسمى من الرحمة يدل على المبالغة في الوصف، وهذا قول ابن بحر.

.تفسير الآيات (61- 62):

{تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)}
قوله عز وجل: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَآءِ بُرُوجاً} فيها أربعة أوجه:
أحدها: أنها النجوم العظام، وهو قول أبي صالح.
الثاني: أنها قصور في السماء فيها الحرس، وهو قول عطية العوفي.
الثالث: أنها مواضع الكواكب.
والرابع: أنها منازل الشمس، وقرئ بُرجاً، قرأ بذلك قتادة، وتأوله النجم.
{وَقَمَراً مُّنِيراً} يعني مضيئاً، ولذا جعل الشمس سراجاً والقمر منيراً، لأنه لما اقترن بضياء الشمس وهَّج حرّها جعلها لأجل الحرارة سراجاً، ولما كان ذلك في القمر معدوماً جعله نوراً.
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَار خِلْفَةً} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أنه جعل ما فات من عمل أحدهما خلفة يقضي في الآخر، قاله عمر ابن الخطاب والحسن.
الثاني: أنه جعل كل واحد منهما مخالفاً لصاحبه فجعل أحدهما أبيض والآخر أسود، قاله مجاهد.
الثالث: أن كل واحد منهما يخلف صاحبه إذا مضى هذا جاء هذا، قاله ابن زيد ومنه قول زهير:
بها العين والآرام يمشين خلفة ** وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم

{لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ} أي يصلي بالنهار صلاة الليل ويصلي بالليل صلاة النهار.
{أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} هو النافلة بعد الفريضة، وقيل نزلت هذه الآية في عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

.تفسير الآيات (63- 67):

{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)}
قوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً} فيه أربعة أقاويل:
أحدها: علماء وكلماء، قاله ابن عباس.
الثاني: أعفاء أتقياء، قاله الضحاك.
الثالث: بالسكينة والوقار، قاله مجاهد.
الرابع: متواضعين لا يتكبرون، قاله ابن زيد.
{وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً} الجاهلون فيهم قولان:
أحدهما: أنهم الكفار.
الثاني: السفهاء.
{قَالُواْ سَلاَماً} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: قالوا سداداً، قاله مجاهد لأنه قول سليم.
الثاني: قالوا وعليك السلام، قاله الضحاك.
الثالث: أنه طلب المسالمة، قاله ابن بحر.
قوله تعالى: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} فيه أربعة أوجه:
أحدها: لازماً، قاله ابن عيسى، ومنه الغريم لملازمته وأنشد الأعشى:
إن يعاقب يكن غَراماً وإن يع ** طر جزيلاً فإنه لا يبالي

الثاني: شديداً، قاله ابن شجرة، ومنه سميت شدة المحنة غراماً قال بشر بن أبي خازم:
ويوم الجفار ويوم النسا ** ر، كانا عذاباً، وكان غراما

الثالث: ثقيلاً، قاله قطرب، ومنه قوله تعالى: {فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ} [القلم: 46].
الرابع: أنهم أغرموا بالنعيم في الدنيا عذاب النار، قال محمد بن كعب: إن الله سأل الكفار عن فأغرمهم فأدخلهم جهنم.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ} فيه أربعة أوجه:
أحدها: لم ينفقواْ في معصية الله، والإِسراف النفقة في المعاصي، قاله ابن عباس.
الثاني: لم ينفقوا كثيراً فيقول الناس قد أسرفوا، قاله إبراهيم.
الثالث: لا يأكلون طعاماً يريدون به نعيماً ولا يلبسون ثوباً يريدون به جمالاً، قاله يزيد بن أبي حبيب، قال: هؤلاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانت قلوبهم على قلب رجل واحد.
الرابع: لم ينفقوا نفقة في غير حقها فإن النفقة في غير حقها إسراف، قاله ابن سيرين.
{وَلَمْ يَقْتُرُواْ} فيه أربعة أوجه:
أحدها: لم يمنعوا حقوق الله فإن منع حقوق الله إقتار، قاله ابن عباس.
الثاني: لا يعريهم ولا يجيعهم، قاله إبراهيم.
الثالث: لم يمسكوا عن طاعة الله، قاله ابن زيد.
الرابع: لم يقصروا في الحق، قاله الأعمش.
روى معاذ بن جبل قال: لما نزلت هذه الآية سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النفقة في الإسراف والإقتار ما هو، فقال: من منع من حق فقد قتر، ومن أعطى في غير حق فقد أسرف.
{وَكَانَ بَيْنَ ذلِكَ قَوَامَاً} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يعني عدلاً، قاله الأعمش.
الثاني: أن القوام: أن يخرجوا في الله شطر أموالهم، قاله وهب.
الثالث: أن القوام: أن ينفق في طاعة الله ويكف عن محارم الله.
ويحتمل رابعاً: أن القوام ما لم يمسك فيه عزيز ولم يقدم فيه على خطر، والفرق بين القَوام بالفتح والقِوام بالكسر، ما قاله ثعلب: أنه بالفتح الاستقامة والعدل، وبالكسر ما يدوم عليه الأمر ويستقر.

.تفسير الآيات (68- 71):

{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)}
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً ءَاخَرَ} يعني لا يجعلون لله تعالى شريكاً، ولا يجعلون بينهم وبينه في العبادة وسيطاً.
{وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ} يعني حرم قتلها، وهي نفس المؤمن والمعاهد.
{إِلاَّ بِالْحَقِّ} والحق المستباح به قتلها، ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِئ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِِإِحْدَى ثَلاَثٍ: كُفرٍ بَعْدَ إِيمَانٍ، أَوْ زِنىً بَعْدَ إِحْصَانٍ، أَوْ قَتْل نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ».
{وَلاَ يَزْنُونَ} والزنى إتيان النساء المحرمات في قبل أو دبر، واللواط زنى في أحد القولين وهو في القول الثاني موجب لقتل الفاعل والمفعول به،
وفي إتيان البهائم ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنه كالزنى في الفرق بين البكر والثيب.
الثاني: أنه يوجب قتل البهيمة ومن أتاها للخبر المأثور فيه.
الثالث: أنه يوجب التعزير. فجمع في هذه الآية بين ثلاث من الكبائر الشرك وقتل النفس والزنى، روى عمرو بن شرحبيل عن ابن مسعود قال: قلت: يا رسول الله (أو قال غيري): أي ذنب أعظم عند الله؟ قال: «أَن تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدّاً وَهُوَ خَلَقَكَ» قال: ثم أي؟ قال: «أَن تَقْتُلَ وَلَدَكَ خِيفَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ» قال: ثم أيّ.؟ قال: «أَنْ تُزَانِي حَلِيلَةَ جَارِكَ» قال فأنزل الله ذلك.
{وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ} يعني هذه الثلاثة أو بعضها.
{يَلْقَ أَثَاماً} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الأثام العقوبة قاله بلعام بن قيس:
جزى اللَّه ابن عروة حيث أمسى ** عقوقاً والعقوق له أثام

الثاني: أن الأثام اسم واد في جهنم، قاله ابن عمر، وقتادة، ومنه قول الشاعر:
لقيت المهالك في حربنا ** وبعد المهالك تلقى أثاما

الثالث: الجزاء، قاله السدي، وقال الشاعر:
وإن مقامنا ندعو عليكم ** بأبطح ذي المجاز له أثامُ

{يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن المضاعفة عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، قاله قتادة.
الثاني: أنها الجمع بين عقوبات الكبائر المجتمعة.
الثالث: أنها استدامة العذاب بالخلود.
{وَيَخْلُدْ فِيهِ} أي يخلد في العذاب بالشرك.
{مُهَاناً} بالعقوبة.
{إِلاَّ مَن تَابَ} يعني من الزنى.
{وَءَامَنَ} يعني من الشرك.
{وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً} يعني بعد السيئات.
{فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} فيه ثلاثة أقاويل:
أحدها: في الدنيا يبدلهم بالشرك إيماناً، وبالزنى إحصاناً وبذكر الله بعد نسيانه، وبطاعته بعد عصيانه، وهذا معنى قول الحسن، وقتادة.
الثاني: أنه في الآخرة فيمن غلبت حسناته على سيئاته فيبدل الله السيئات حسنات، قاله أبو هريرة.
الثالث: أنه يبدل الله عقاب سيئاته إذا تاب منها بثواب حسناته إذا انتقل إليها، قاله ابن بحر.
{وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً} لما تقدم قبل التوبة.
{رَحِيماً} لما بعدها.
وحكى الكلبي أن وحشياً وهو عبد عتبة بن غزوان كتب بعد وقعة أحد وقَتْلِ حمزة إلى النبي صلى الله عليه وسلم: هل من توبة؟ فإن الله أنزل بمكة إياسي من كل خير {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً ءَاخَرَ} الآية وإن وحشياً قد فعل هذا كله، وقد زنى وأشرك وقتل النفس التي حرم الله، فأنزل الله {إلاَّ مَن تَابَ} أي من الزنى وآمن بعد الشرك وعمل صالحاً بعد السيئات، فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه فقال وحشي: هذا شرط شديد ولعلي لا أبقى بعد التوبة حتى أعمل صالحاً، فكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هل من شيء أوسع من هذا؟ فأنزل الله: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 48، 116]، فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وحشي. فأرسل وحشي إلى النبي صلى الله عليه وسلم: إنى لأخاف أن لا أكون في مشيئة الله، فأنزل الله في وحشي وأصحابه {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرًُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر: 53] الآية. فبعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وحشي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم.