فصل: تفسير الآيات (75- 76):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: النكت والعيون المشهور بـ «تفسير الماوردي»



.تفسير الآيات (75- 76):

{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76)}
قوله تعالى: {وَمِن أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّه إِلَيكَ} اختلفوا في دخول الباء على القنطار والدينار على قولين:
أحدهما: أنها دخلت لإلصاق الأمانة كما دخلت في قوله تعالى: {وَلِيَطَّوَّفُوا بِالْبَيتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29].
والثاني: أنها بمعنى (على) وتقديره: ومن أهل الكتاب من إن تأمنه على قنطار.
{إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيهِ قَائِماً} فيه ثلاثة تأويلات:
أحدها: إلا ما دمت عليه قائماً بالمطالبة والإقتضاء، وهذا قول قتادة، ومجاهد.
والثاني. بالملازمة.
والثالث: قائماً على رأسه، وهو قول السدي.
{ذَلِكَ بِأَنَّهُم قَالُوا لَيسَ عَلَينَا فِي الأُمِّيِينَ سَبِيلٌ} يعني في أموال العرب، وفي سبب استباحتهم له قولان:
أحدهما: لأنهم مشركون من غير أهل الكتاب، وهو قول قتادة، والسدي.
والثاني: لأنهم تحولوا عن دينهم الذي عاملناهم عليه، وهذا قول الحسن وابن جريج، وقد روى سعيد بن جبير قال: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كَذَّبَ اللهُ أَعْدَاءَ اللهِ، مَا مِن شَيءٍ كَانَ في الجَاهِليَّةِ إلاَّ وَهُوَ تَحتَ قَدَميَّ إلاَّ الأمَانَةَ فَإنَّها مُؤَدَّاةٌ إِلَى الَبرِّ وَالفَاجِرِ».

.تفسير الآية رقم (77):

{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)}
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيمَانِهِم ثَمَناً قَلِيلاً} وفي العهد قولان:
أحدهما: ما أوجب الله تعالى على الإنسان من طاعته وكَفَّه عن معصيته.
والثاني: ما في عقل الإنسان من الزجر عن الباطل والانقياد إلى الحق.
{أَولَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُم فِي الآخِرةِ}. وفي أصل الخلاق قولان:
أحدهما: أن أصله من الخّلق بفتح الخاء وهو النفس، وتقدير الكلام لا نصيب لهم.
والثاني: أن أصله الخُلق بضم الخاء لأنه نصيب مما يوجبه الخُلُق الكريم.
{وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ} فيه قولان:
أحدهما: لا يكلمهم الله بما يسرهم، لكن يكلمهم بما يسوءهم وقت الحساب لأنه قال: {ثُمَّ إِنَّ عَلَينَا حِسَابَهُم}.
والثاني: لا يكلمهم أصلاً ولكن يرد حسابهم إلى الملائكة.
{وَلاَ يَنظُرُ إِلَيهِم يَومَ الْقِيَامَةِ} فيه قولان:
أحدهما: لا يراهم.
والثاني: لا يَمِنُ عليهم.
{وَلاَ يُزَكِّيهِم} أي لا يقضي بزكاتهم.
واختلف أهل التفسير في سبب نزول هذه الآية على ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنها نزلت في قوم من أحبار اليهود: أبي رافع وكنانة بن أبي الحقيق، وكعب بن الأشرف، وحيي بن أخطب كتبوا كتاباً بأيديهم، ثم حلفوا أنه من عند الله فيما ادعوا به ليس عليهم في الأميين سبيل، وهو قول الحسن، وعكرمة.
والثاني: أنها نزلت في الأشعث وخصيم له تنازعاً في أرض، فقام ليحلف، فنزلت هذه الآية، فنكل الأشعث واعترف بالحق.
والثالث: أنها نزلت في رجل حلف يميناً فاجرة في تنفيق سلعته في البيع، وهذا قول عامر، ومجاهد.

.تفسير الآيات (78- 80):

{وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)}
قوله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللَّهِ} سبب نزولها ما روى ابن عباس أن قوماً من اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أتدعونا إلى عبادتك كما دعا المسيح النصارى، فنزلت هذه الآية.
{وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} فيه ثلاثة تأويلات:
أحدها: فقهاء علماء، وهو قول مجاهد.
والثاني: حكماء أتقياء، وهو قول سعيد بن جبير.
والثالث: أنهم الولاة الذين يربّون أمور الناس، وهذا قول ابن زيد.
وفي أصل الرباني قولان:
أحدها: أنه الذي يربُّ أمور الناس بتدبيره، وهو قول الشاعر:
وكنت امرءَاً أفضت إليك ربابتي ** وقبلك ربتني- فضعت- ربوبُ

فسمي العالم ربّانياً لأنه بالعلم يدبر الأمور.
والثاني: أنه مضاف إلى عالم الرب، وهو علم الدين، فقيل لصاحب العلم الذي أمر به الرب ربّاني.

.تفسير الآيات (81- 82):

{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82)}
قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَآ ءَاتَيْتُكُم مِن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} في الميثاق قولان:
أحدهما: أنه أخذ ميثاق النبيين أن يأخذوا على قومهم بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا قول علي، وابن عباس، وقتادة، والسدي.
والثاني: أنه أخذ ميثاقهم ليؤمنن بالآخرة، وهذا قول طاووس.
{ثُمَّ جَآءَكُم رَسُولٌ} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم.
{مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ} يعني من التوارة، والإنجيل.
{لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ ءَأَقْرَرْتُم وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي} والإصر: العهد، وفيه تأويلان:
أحدهما: معناه: قبلتم على ذلك عهدي.
والثاني: أخذتم على المُتَّبِعِين لكم عهدي.
{قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ} يعني على أممكم بذلك.
{وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} عليكم، وعليهم.

.تفسير الآيات (83- 85):

{أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)}
قوله تعالى: {وَلَهُ أَسَلَمَ مَن فِي السَّموَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً} فيه ستة أقاويل:
أحدها: أن المؤمن أسلم طوعاً والكافر أسلم عند الموت كَرْهاً، وهذا قول قتادة.
والثاني: أنه الإقرار بالعبودية وإن كان فيه من أشرك في العبادة، وهذا قول مجاهد.
والثالث: أنه سجود المؤمن طائعاً وسجود ظل الكافر كرهاً، وهو مروي عن مجاهد أيضاً.
والرابع: طوعاً بالرغبة والثواب. وكرهاً بالخوف من السيف، وهو قول مطر.
والخامس: أن إسلام الكاره حين أخذ منه الميثاق فأقر به، وهذا قول ابن عباس.
والسادس: معناه أنه أسلم بالانقياد والذلة، وهو قول عامر الشعبي، والزجاج.

.تفسير الآيات (86- 91):

{كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91)}
قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَن تُقْبَلَ تَوبَتُهُمْ} فيه أربعة تأويلات:
أحدها: أنهم اليهود كفروا بالمسيح ثم ازدادوا كفراً بمحمد لن تقبل توبتهم عند موتهم، وهذا قول قتادة.
والثاني: أنهم أهل الكتاب لن تقبل توبتهم من ذنوب ارتكبوها مع الإقامة على كفرهم، وهذا أبي العالية.
والثالث: أنهم قوم ارتدوا ثم عزموا على إظهار التوبة على طريق التورية، فأطلع الله نبيهَّ وعلى سريرتهم، وهذا قول ابن عباس.
والرابع: أنهم اليهود والنصارى كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد إيمانهم به قبل مبعثه، ثم ازدادوا كفراً إلى حضور آجالهم، وهذا قول الحسن.

.تفسير الآية رقم (92):

{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)}
قوله تعالى: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّون} في البر ثلاثة تأويلات:
أحدهما: أن البر ثواب الله تعالى.
والثاني: أنه فعل الخير الذي يستحق به الثواب.
والثالث: أن البر الجنة، وهو قول السدي.
وفي قوله تعالى: {حَتَّى تُنفِقُواْ} ثلاثة أقاويل:
أحدها: في الصدقات المفروضات، وهو قول الحسن.
والثاني: في جميع الصدقات فرضاً وتطوعاً، وهو قول ابن عمر.
والثالث: في سبيل الخير كلها من صدقة وغيرها.
وروى عمرو بن دينار قال: لما نزلت هذه الآية {لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} جاء زيد بن حارثة بفرس له يقال لها (سَبَل) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: تَصَدَّقْ بهذه يا رسول الله، فأعطاها ابنه أسامة، فقال: يا رسول الله إنما أردت أن أتصدق بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قَدْ قُبِلَتْ صَدَقَتُك».

.تفسير الآيات (93- 95):

{كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)}
{كلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَآئِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَآئِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} سبب نزول هذه الآية أن اليهود أنكروا تحليل النبي صلى الله عليه وسلم لحوم الإبل، فأخبر الله تعالى بتحليلها لهم حين حرَّمها إسرائيل على نفسه، لأنه لما أصابه وجع العرق الذي يقال له عرق النسا، نذر تحريم العروق على نفسه، وأحب الطعام إليه، وكانت لحوم الإبل من أحب الطعام إليه.
واختلفوا في تحريم إسرائيل على نفسه هل كان بإذن الله تعالى أم لا؟ على اختلافهم في اجتهاد الأنبياء على قولين:
أحدهما: لم يكن إلا بإذنه وهو قول من زعم أن ليس لنبي أن يجتهد.
والثاني: باجتهاده من غير إذن، وهو قول من زعم أن للنبي أن يجتهد.
واختلفوا في تحريم اليهود ذلك على أنفسهم على قولين:
أحدهما: أنهم حرموه على أنفسهم اتباعاً لإسرائيل.
والثاني: أن التوراة نزلت بتحريمها فحرموها بعد نزولها، والأول أصح.

.تفسير الآيات (96- 97):

{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)}
{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً} لا اختلاف بين أهل التفسير أنه أول بيت وضع للعبادة، وإنما اختلفوا هل كان أول بيت وضع لغيرها على قولين:
أحدهما: أنه قد كانت قْبْله بيوت كثيرة، وهو قول الحسن.
والثاني: أنه لم يوضع قبله بيت، وهذا قول مجاهد، وقتادة.
وفي {بَكَّة} ثلاثة أقاويل:
أحدها: أن بكة المسجد، ومكة: الحرم كله، وهذا قول ابن شهاب، وضمرة بن ربيعة.
والثاني: أن بكة هي مكة، وهو قول أبي عبيدة.
والثالث: أن بكة موضع البيت، ومكة غيره في الموضع يريد القرية، وروي ذلك عن مالك.
وفي المأخوذ منه بكة قولان:
أحدهما: أنه مأخوذ من الزحمة، يقال تَبَاّك القوم بعضهم بعضاً إذا ازدحموا، فبكة مُزْدَحَمُ الناس للطواف.
والقول الثاني: أنها سميت بكة، لأنها تَبُكُّ أعناق الجبابرة، إذ ألحدواْ فيها بظلم لم يهملواْ.
وفي قوله: {مُبَارَكاً} تأويلان:
أحدهما: أن بركته ما يستحق من ثواب القصد إليه.
والثاني: أنه آمن لمن دخله حتى الوحش، فيجتمع فيه الصيد والكلب. {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ} الآية في مقام إبراهيم أثر قدميه وهو حجر صلد؟ والآية في غير المقام: أمن الخائف، وهيبة البيت وامتناعه من العلو عليه، وتعجيل العقوبة لمن عتا فيه، وما كان في الجاهلية من أصحاب الفيل.
{وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} معناه أنه عطَّف عليه قلوب العرب في الجاهلية فكان الجاني إذا دخله أمِنَ.
وأما في الإسلام ففيه قولان:
أحدهما: أنه من النار، وهذا قول يحيى بن جعدة.
والثاني: من القتال بحظر الإيجال على داخليه، وأما الحدود فتقام على من جنى فيه.
واختلفواْ في الجاني إذ دخله في إقامة الحد عليه فيه قولان:
أحدهما: تقام عليه، وهو مذهب الشافعي.
والثاني: لا تقاوم حتى يُلجأ إلى الخروج منه، وهو مذهب أبي حنيفة.
{وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيهِ سَبِيلاً} وفي الاستطاعة ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنها بالمال، وهي الزاد والراحلة، وهو قول الشافعي.
والثاني: أنها بالبدن، وهو قول مالك.
والثالث: أنها بالمال والبدن، وهو قول أبي حنيفة.
{وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} وفيه ثلاثة تأويلات:
أحدها: يعني (من كفر) بفرض الحج فلم يره واجباً، وهو قول ابن عباس.
والثاني: هو لا يرى حَجَّهُ براً ولا تركه مأثماً، وهو قول زيد بن أسلم.
والثالث: اليهود، لأنه لما نزل قوله تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنهُ} فقالواْ نحن مسلمون فأُمِرُوا بالحج فلم يحجوا، فأنزل الله هذه الآية.