فصل: تفسير الآيات رقم (57- 60)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏57- 60‏]‏

‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا ‏(‏57‏)‏ وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا ‏(‏58‏)‏ وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا ‏(‏59‏)‏ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ‏(‏60‏)‏‏}‏

‏{‏ومن أظلم ممن ذكّر‏}‏ وُعظ ‏{‏بآيات ربه فأعرض عنها‏}‏ فتهاون بها ‏{‏ونسي ما قدَّمت يداه‏}‏ ما سلف من ذنوبه، وباقي الآية سبق تفسيره‏.‏ وقوله‏:‏

‏{‏بل لهم موعد‏}‏ يعني‏:‏ البعث والحساب ‏{‏لن يجدوا من دونه مَوْئِلاً‏}‏ ملجأ‏.‏

‏{‏وتلك القرى‏}‏ يريد‏:‏ القرى التي أهلكها بالعذاب ‏{‏أهلكناهم‏}‏ أهلكنا أهلها ‏{‏لما ظلموا‏}‏ أشركوا وكذَّبوا الرُّسل ‏{‏وجعلنا لمهلكهم‏}‏ لإِهلاكهم ‏{‏موعداً‏}‏‏.‏

‏{‏وإذ قال موسى‏}‏ واذكر إذ قال موسى، لما في قصَّته من العبرة ‏{‏لفتاه‏}‏ يوشع بن نون‏:‏ ‏{‏لا أبرح‏}‏ لا أزال أسير ‏{‏حتى أبلغ مجمع البحرين‏}‏ حيث يلتقي بحر الروم وبحر فارس ‏{‏أو أمضي‏}‏ إلى أن أمضي ‏{‏حقباً‏}‏ دهراً طويلاَ، وذلك أنَّ رجلاً أتى إلى موسى عليه السَّلام، فقال‏:‏ هل تعلم أحداً أعلم منك‏؟‏ فقال‏:‏ لا، فأوحى الله تعالى إليه‏:‏ بلى عبدنا خضر، فسأل موسى عليه السَّلام السبيل إلى لُقيِّه، فجعل الله تعالى له الحوت آيةً، وقيل له‏:‏ إذا فقدت الحوت فارجع فإنَّك ستلقاه، فانطلق هو وفتاه حتى أتيا الصَّخرة التي عند مجمع البحرين، فقال لفتاه‏:‏ امكث حتى آتيك، وانطلق موسى لحاجته، فجرى الحوت حتى وقع في البحر، فقال فتاه‏:‏ إذا جاء نبيُّ الله حدَّثته، فأنساه الشَّيطان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏61- 66‏]‏

‏{‏فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا ‏(‏61‏)‏ فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آَتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ‏(‏62‏)‏ قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا ‏(‏63‏)‏ قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آَثَارِهِمَا قَصَصًا ‏(‏64‏)‏ فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ‏(‏65‏)‏ قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ‏(‏66‏)‏‏}‏

‏{‏فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حُوْتَهُما‏}‏ أراد‏:‏ نسي أحدهما، وهو يوشع ابن نون ‏{‏فاتخذ سبيله‏}‏ اتَّخذ الحوت سبيله ‏{‏في البحر سرباً‏}‏ ذهاباً، والمعنى‏:‏ سرب سرباً، والآية على التّقديم والتَّأخير؛ لأنَّ ذهاب الحوت كان قد تقدَّم على النِّسيان‏.‏

‏{‏فلما جاوزا‏}‏ ذلك المكان الذي ذهب الحوت عنه ‏{‏قال لفتاه ءاتنا غداءنا‏}‏ ما نأكله بالغداة ‏{‏لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً‏}‏ عناءً وتعباً، ولم يجد النَّصب في جميع سفره حتى جاوز الموضع الذي يريده، فقال الفتى‏:‏

‏{‏أرأيت إذْ أوينا إلى الصخرة‏}‏ يعني‏:‏ حيث نزلا ‏{‏فإني نسيت الحوت‏}‏ نسيت قصَّة الحوت أن أُحدِّثكها، ثمَّ اعتذر بإنساء الشَّيطان إيَّاه؛ لأنَّه لو ذكر ذلك لموسى عليه السَّلام ما جاوز ذلك الموضع، وما ناله النَّصب، ثمَّ ذكر قصَّته فقال‏:‏ ‏{‏واتخذ سبيله في البحر عجباً‏}‏ أَي‏:‏ أعجب عجباً، أخبر عن تعجُّبه من ذلك، فقال موسى عليه السَّلام‏:‏

‏{‏ذلك ما كنا نبغي‏}‏ نطلب ونريد من العلامة ‏{‏فارتدا على آثارهما‏}‏ رجعا من حيث جاءا ‏{‏قصصاً‏}‏ يقصَّان آثارهما حتى انتهيا إلى الصَّخرة التي فعل الحوت عندها ما فعل‏.‏

‏{‏فوجدا عبداً من عبادنا‏}‏ يعني‏:‏ الخضر عليه السَّلام ‏{‏آتيناه رحمة من عندنا‏}‏ نبوَّة ‏{‏وعلمناه من لدنا علماً‏}‏ أعطيناه علماً من علم الغيب‏.‏ وقوله‏:‏

‏{‏رشداً‏}‏ أَيْ‏:‏ علماً ذا رشدٍ، والتَّقدير‏:‏ على أن تعلِّمني علماً ذا رشدٍ ممَّا عُلِّمته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏67- 74‏]‏

‏{‏قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ‏(‏67‏)‏ وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ‏(‏68‏)‏ قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ‏(‏69‏)‏ قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا ‏(‏70‏)‏ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ‏(‏71‏)‏ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ‏(‏72‏)‏ قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا ‏(‏73‏)‏ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا ‏(‏74‏)‏‏}‏

‏{‏قال إنك لن تستطيع معي صبراً‏}‏ لن تصبر على صنيعي؛ لأنِّي عُلِّمت غيب ربِّي، ثمَّ أعلمه العلَّة في ترك الصَّبر، فقال‏:‏

‏{‏وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً‏}‏ أَيْ‏:‏ على ما لم تعلمه من أمرٍ ظاهره منكرٌ‏.‏

‏{‏قال‏}‏ له موسى‏:‏ ‏{‏ستجدني إن شاء الله صابراً‏}‏ لا أسألك عن شيءٍ حتى تكون أنت تحدِّثني به ‏{‏ولا أعصي لك أمراً‏}‏ ولا أخالفك في شيء‏.‏

‏{‏قال‏}‏ له الخضر عليه السَّلام‏:‏ ‏{‏فإن اتبعتني‏}‏ صحبتني ‏{‏فلا تسألني عن شيء‏}‏ ممَّا أفعله ‏{‏حتى أحدث لك منه ذكراً‏}‏ حتى أكون أنا الذي أُفسِّره لك‏.‏

‏{‏فانطلقا‏}‏ ذهبا يمشيان ‏{‏حتى إذا ركبا‏}‏ البحر ‏{‏في السفينة خرقها‏}‏ شقَّها الخضر وقلع لوحين ممَّا يلي الماء، ف ‏{‏قال‏}‏ موسى منكراً عليه‏:‏ ‏{‏أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئاً إمراً‏}‏ أَيْ‏:‏ عظيماً منكراً،

ف ‏{‏قال‏}‏ الخضر‏:‏ ‏{‏ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبراً‏}‏ ‏!‏ فقال موسى‏:‏

‏{‏لا تؤاخذني بما نسيت‏}‏ أَيْ‏:‏ تركت من وصيتك ‏{‏ولا ترهقني من أمري عسراً‏}‏ لا تضيِّيق عليَّ الأمر في صحبتي إيَّاك‏.‏

‏[‏‏{‏فانطلقا حتى إذا لقيا غلاماً فقتله‏}‏ أَيْ‏:‏ ضربه فقضى عليه،‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏نفساً زاكية‏}‏ أَيْ‏:‏ طاهرةً لم تبلغ حدَّ التَّكليف ‏{‏بغير نفس‏}‏ بغير قودٍ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏76- 79‏]‏

‏{‏قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا ‏(‏76‏)‏ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ‏(‏77‏)‏ قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ‏(‏78‏)‏ أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ‏(‏79‏)‏‏}‏

‏{‏إن سألتك‏}‏ سؤال توبيخٍ وإنكارٍ ‏{‏عن شيء بعدها‏}‏ بعد النَّفس المقتولة ‏{‏فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذراً‏}‏ أعذرت فيما بيني وبينك حيث أخبرتني أنِّي لا أستطيع معك صبراً‏.‏

‏{‏فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية‏}‏ وهي أنطاكية ‏{‏استطعما أهلها‏}‏ سألاهم الطَّعام ‏{‏فأبوا أن يضيفوهما‏}‏ فلم يطعموهما ‏{‏فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقص‏}‏ قَرُبَ أَن يسقط لميلانه ‏{‏قأقامه‏}‏ فسوَّاه، فقال موسى‏:‏ ‏{‏لو شئت لاتخذت‏}‏ على إقامته ‏{‏أجراً‏}‏ جُعلاً حيث أبوا أن يطعمونا‏.‏

‏{‏قال‏}‏ الخضر‏:‏ ‏{‏هذا‏}‏ وقت ‏{‏فراق بيني وبينك‏}‏ إنِّي لا أصحبك بعد هذا، وأخبرك بتفسير ما لم تصبر عليه وأنكرته عليَّ‏.‏

‏{‏أمَّا السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها‏}‏ أجعلها ذات عيب ‏{‏وكان وراءهم‏}‏ أمامهم ‏{‏ملك يأخذ كلَّ سفينة‏}‏ صالحةٍ ‏{‏غصباً‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏80- 85‏]‏

‏{‏وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا ‏(‏80‏)‏ فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا ‏(‏81‏)‏ وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ‏(‏82‏)‏ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا ‏(‏83‏)‏ إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا ‏(‏84‏)‏ فَأَتْبَعَ سَبَبًا ‏(‏85‏)‏‏}‏

‏{‏وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا‏}‏ فكرهنا ‏{‏أن يرهقهما‏}‏ يُكلِّفهما ‏{‏طغياناً وكفراً‏}‏ ويحملهما حبُّه على أن يتَّبعاه، ويدينا بدينه، وكان الغلام كافراً‏.‏

‏{‏فأردنا أن يبدلهما ربهما خيراً منه زكاة‏}‏ صلاحاً ‏{‏وأقرب رحماً‏}‏ وأبرَّ بوالديه وأوصل للرَّحم‏.‏

‏{‏وإمَّا الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة‏}‏ يعني‏:‏ في تلك القرية ‏{‏وكان تحته كنز لهما‏}‏ من ذهبٍ وفضَّةٍ، ولو سقط الجدار أُخذ الكنز ‏{‏فأراد ربك أن يبلغا أشدهما‏}‏ أراد الله سبحانه أن يبقى ذلك الكنز إلى بلوغ الغلامين حتى يستخرجاه‏.‏ ‏{‏وما فعلته عن أمري‏}‏ أي‏:‏ انكشف لي من الله سبحانه علمٌ فعملت به، ولم أعمل من عند نفسي‏.‏

‏{‏ويسألونك‏}‏ يعني‏:‏ اليهود، وذلك أنَّهم سألوه عن رجلٍ طوَّافٍ بلغ شرق الأرض وغربها‏.‏

‏{‏إنا مكنا له في الأرض‏}‏ سهَّلنا عليه السَّير فيها، وذلَّلنا له طرقها ‏{‏وآتيناه من كلِّ شيء‏}‏ يحتاج إليه ‏{‏سبباً‏}‏ علماً يتسبَّب به إلى ما يريد‏.‏

‏{‏فأتبع سبباً‏}‏ طريقاً يوصله إلى مغيب الشَّمس‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏86- 93‏]‏

‏{‏حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا ‏(‏86‏)‏ قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا ‏(‏87‏)‏ وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا ‏(‏88‏)‏ ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا ‏(‏89‏)‏ حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا ‏(‏90‏)‏ كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا ‏(‏91‏)‏ ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا ‏(‏92‏)‏ حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا ‏(‏93‏)‏‏}‏

‏{‏حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة‏}‏ ذات حمأةٍ، وهو الطِّين الأسود ‏{‏ووجد عندها‏}‏ عند العين ‏{‏قوماً قلنا‏:‏ يا ذا القرنين إما أن تعذب‏}‏ إمَّا أن تقتلهم إن أبوا ما تدعوهم إليه ‏{‏وإمَّا أن تتخذ فيهم حسناً‏}‏ تأسرهم فتعلِّمهم الهدى، خيَّره الله تعالى بين القتل والأسر، فقال‏:‏

‏{‏أما من ظلم‏}‏ أشرك ‏{‏فسوف نعذبه‏}‏ نقتله إذا لم يرجع عن الشِّرك ‏{‏ثم يرد إلى ربه‏}‏ بعد القتل ‏{‏فيعذبه عذاباً نكراً‏}‏ يعني‏:‏ في النَّار‏.‏

‏{‏وإمَّا مَنْ آمن وعمل صالحاً فله جزاءً الحسنى‏}‏ الجنَّة ‏{‏وسنقول له من أمرنا يسراً‏}‏ نقول له قولاً جميلاً‏.‏

‏{‏ثم أتبع سبباً‏}‏ سلك طريقاً آخر يوصله إلى المشرق‏.‏

‏{‏حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم‏}‏ عُراةٍ ‏{‏لم نجعل لهم من‏}‏ دون الشمس ‏{‏ستراً‏}‏ سقفاً ولا لباساً‏.‏

‏{‏كذلك‏}‏ القبيل الذين كانوا عند مغرب الشَّمس في الكفر ‏{‏وقد أحطنا بما لديه‏}‏ من الجنود والعدَّة ‏{‏خبراً‏}‏ علماً؛ لأنَّا أعطيناه ذلك‏.‏

‏{‏ثم أتبع سبباً‏}‏ ثالثاً يُبلِّغه قطراً من أقطار الأرض‏.‏

‏{‏حتى إذا بلغ بين السدين‏}‏ وهما جبلان سدَّ بينهما ذو القرنين ‏{‏وجد من دونهما‏}‏ عندهما ‏{‏قوماً لا يكادون يفقهون قولاً‏}‏ لا يفهمون كلاماً، فاشتكوا إليه فساد يأجوج ومأجوج، وأذاهم إيَّاهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏94- 99‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا ‏(‏94‏)‏ قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا ‏(‏95‏)‏ آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا ‏(‏96‏)‏ فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا ‏(‏97‏)‏ قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا ‏(‏98‏)‏ وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا ‏(‏99‏)‏‏}‏

‏{‏إنَّ يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض‏}‏ بالنَّهب والبغي ‏{‏فهل نجعل لك خرجاً‏}‏ جعلاً ‏{‏على أن تجعل بيننا وبينهم سدّاً‏}‏‏.‏

‏{‏قال‏:‏ ما مكني فيه ربي خيرٌ‏}‏ أَي‏:‏ الذي أعطاني وملكني أفضل من عطيتكم ‏{‏فأعينوني بقوة‏}‏ بعملٍ تعملون معي ‏{‏أجعل بينكم وبينهم ردماً‏}‏ سدَّاً حاجزاً‏.‏

‏{‏آتوني‏}‏ أعطوني ‏{‏زبر‏}‏ قطع ‏{‏الحديد‏}‏ فأتوه بها فبناه ‏{‏حتى إذا ساوى بين الصدفين‏}‏ جانبي الجبلين ‏{‏قال انفخوا‏}‏ على زُبر الحديد، قطع الحديد بالكير والنَّار ‏{‏حتى إذا جعله ناراً‏}‏ جعل الحديد ناراً، أَيْ‏:‏ كنارٍ ‏{‏قال آتوني‏}‏ قطراً‏:‏ وهو النُّحاس الذَّائب ‏{‏أفرغ عليه‏}‏ أصبُّ عليه، فأفرغ النُّحاس المذاب على الحديد المحمى حتى التصق بعضه ببعض‏.‏

‏{‏فما اسطاعوا أن يظهروه‏}‏ ما قدروا أن يعلوا عليه لارتفاعه وملاسته ‏{‏وما استطاعوا‏}‏ أن ينقبوه من أسلفه لصلابته‏.‏

‏{‏قال‏}‏ ذو القرنين لمَّا فرغ منه‏:‏ ‏{‏هذا رحمة من ربي‏}‏ يعني‏:‏ التَّمكين من ذلك البناء، والتَّقوية عليه ‏{‏فإذا جاء وعد ربي‏}‏ أجل ربي بخروج يأجوج ومأجوج ‏{‏جعله دكاً‏}‏ كِسَراً ‏{‏وكان وعد ربي‏}‏ بخروجهم ‏{‏حقاً‏}‏ كائناً‏.‏

‏{‏وتركنا بعضهم‏}‏ يعني‏:‏ الخلق من الإِنس والجنِّ ‏{‏يومئذ‏}‏ يوم القيامة ‏{‏يموج في بعض‏}‏ يدخل ويختلط‏.‏ ‏{‏ونفخ في الصور‏}‏ وهو القرن الذي يُنفخ فيه للبعث ‏{‏فجمعناهم‏}‏ في صعيدٍ واحدٍ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏100- 105‏]‏

‏{‏وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا ‏(‏100‏)‏ الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا ‏(‏101‏)‏ أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا ‏(‏102‏)‏ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا ‏(‏103‏)‏ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ‏(‏104‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ‏(‏105‏)‏‏}‏

‏{‏وعرضنا‏}‏ أظهرنا ‏{‏جهنم يومئذ للكافرين عرضاً‏}‏‏.‏

‏{‏الذين كانت أعينهم في غطاء‏}‏ في غشاوةٍ ‏{‏عن ذكري‏}‏ أَيْ‏:‏ كانوا لا يعتبرون بآياتي فيذكرونني بالتَّوحيد ‏{‏وكانوا لا يستطيعون سمعاً‏}‏ لعداوتهم النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يقدرون أن يسمعوا ما يتلوا عليهم‏.‏

‏{‏أفحسب‏}‏ أفظنّ ‏{‏الذين كفروا أن يتخذوا عبادي‏}‏ الشَّياطين ‏{‏من دوني أولياء‏}‏ نفعهم ذلك ودفعوا عنهم، كلا ‏{‏إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلاً‏}‏ منزلاً‏.‏

‏{‏قل هل ننبئكم‏}‏ نخبركم ‏{‏بالأخسرين أعمالاً‏}‏ بالذين هم أشدُّ الخلق وأعظمهم خسراناً فيما عملوا‏.‏

‏{‏الذين ضل سعيهم‏}‏ حبط عملهم ‏{‏في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً‏}‏ يظنُّون أنَّهم بعملهم مُطيعون، ثمَّ بيَّن مَنْ هم، فقال‏:‏

‏{‏أولئك الذين كفروا بآيات ربهم‏}‏ بدلائل توحيده من القرآن وغيره ‏{‏ولقائه‏}‏ يعني‏:‏ البعث ‏{‏فحبطت أعمالهم‏}‏ بطل اجتهادهم ‏{‏فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً‏}‏ أَيْ‏:‏ نهينهم بعذاب النَّار، ولا نعبأ بهم شيئاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏107- 110‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا ‏(‏107‏)‏ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا ‏(‏108‏)‏ قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ‏(‏109‏)‏ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ‏(‏110‏)‏‏}‏

‏{‏جنات الفردوس‏}‏ وهو وسط الجنَّة وأعلاها درجةً‏.‏ وقوله‏:‏

‏{‏لا يبغون عنها حولاً‏}‏ لا يريدون أن يتحوَّلوا عنها‏.‏

‏{‏قل لو كان البحر مداداً‏}‏ وهو ما يكتب به ‏{‏لكلمات ربي‏}‏ أَيْ‏:‏ لكتابتها، وهي حِكَمُه وعجائبه، والكلمات‏:‏ هي العبارات عنها ‏{‏لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله‏}‏ بمثل البحر ‏{‏مدداً‏}‏ زيادة على البحر‏.‏

‏{‏قل إنما أنا بشر مثلكم‏}‏ آدميٌّ مثلكم ‏{‏يوحى إليَّ أنما إلهكم إله واحدٌ فمن كان يرجو لقاء ربه‏}‏ ثواب ربه ‏{‏فليعمل عملاً صالحاً‏}‏ خالصاً ‏{‏ولا يشرك‏}‏ ولا يراءِ ‏{‏بعبادة ربه أحداً‏}‏ نزلت هذه الآية في النَّهي عن الرِّياء بالأعمال‏.‏

سورة مريم

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏كهيعص ‏(‏1‏)‏ ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا ‏(‏2‏)‏ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا ‏(‏3‏)‏ قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏كهيعص‏}‏ معناه‏:‏ الله كافٍ لخلقه، هادٍ لعباده، يده فوق أيديهم، عالمٌ ببريَّته، صادقٌ في وعده‏.‏

‏{‏ذكر‏}‏ هذا ذكر ‏{‏رحمة ربك عبده زكريا‏}‏ أَيْ‏:‏ هذا القول الذي أنزلت عليك ذكر رحمة الله سبحانه عبده بإجابة دعائه لمَّا دعاه، وهو قوله‏:‏

‏{‏إذ نادى ربه‏}‏ دعا ربَّه ‏{‏نداءاً خفياً‏}‏ سرَّاً لم يطَّلعْ عليه غير الله‏.‏

‏{‏قال رب إني وهن‏}‏ ضعف ‏{‏العظم مني‏}‏ أَيْ‏:‏ عظمي ‏{‏واشتعل الرأس شيباً‏}‏ وكثر شيب رأسي جداً ‏{‏ولم أكن بدعائك‏}‏ بدعائي إيَّاك ‏{‏ربي شقياً‏}‏ أَيْ‏:‏ كنت مستجاب الدَّعوة قد عوَّدتني الإِجابة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 10‏]‏

‏{‏وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا ‏(‏5‏)‏ يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ‏(‏6‏)‏ يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا ‏(‏7‏)‏ قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا ‏(‏8‏)‏ قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا ‏(‏9‏)‏ قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏وإني خفت الموالي‏}‏ الأقارب وبني العمِّ والعصبة ‏{‏من ورائي‏}‏ من بعدي ألاَّ يحسنوا الخلافة لي في دينك ‏{‏وكانت امرأتي‏}‏ فيما مضى من الزَّمان ‏{‏عاقراً‏}‏ لم تلد ‏{‏فهب لي من لدنك ولياً‏}‏ ابناً صالحاً‏.‏

‏{‏يرثني ويرث من آل يعقوب‏}‏ العلم والنُّبوَّة ‏{‏واجعله ربِّ رَضِيّاً‏}‏ مرضياً، فاستجاب الله تعالى دعاءه، وقال‏:‏

‏{‏يا زكريا إنا نبشرك بغلام‏}‏ ولدٍ ذكرٍ ‏{‏اسمه يحيى‏}‏ لأنَّه يحيا بالعلم والطَّاعة ‏{‏لم نجعل له من قبل سمياً‏}‏ لم يُسمَّ أحدٌ قبله بهذا الاسم، فأحبَّ زكريا أن يعلم من أيِّ جهةٍ يكون له الولد، ومثلُ امرأته لا تلد، ومثله لا يولد له فقال‏:‏ ‏{‏رب أَنّى يكون لي غلام‏}‏ ولدٌ‏.‏

‏{‏وكانت امرأتي عاقراً وقد بلغتُ من الكبر عتياً‏}‏ أَيْ‏:‏ يُبوساً وانتهاءً في السِّنِّ‏.‏

‏{‏قال‏}‏ جبريل عليه السَّلام‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏ أَيْ‏:‏ الأمر كما قيل لك‏.‏ ‏{‏قال ربك هو عليَّ هيَّنٌ‏}‏ أردُّ عليك قوَّتك حتى تقوى على الجماع، وأفتق رحم امرأتك بالولد ‏{‏وقد خلقتك من قبل‏}‏ يعني‏:‏ من قبل يحيى ‏{‏ولم تك شيئاً‏}‏‏.‏

‏{‏قال رب اجعل لي آية‏}‏ على حمل امرأتي ‏{‏قال آيَتُكَ أن لا تكلم الناس ثلاث ليالٍ سوياً‏}‏ أَيْ‏:‏ تمنع الكلام وأنت سويٌّ صحيحٌ سليمٌ، فتعلم بذلك أنَّ الله قد وهب لك الولد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 18‏]‏

‏{‏فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ‏(‏11‏)‏ يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ‏(‏12‏)‏ وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا ‏(‏13‏)‏ وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا ‏(‏14‏)‏ وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ‏(‏15‏)‏ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا ‏(‏16‏)‏ فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ‏(‏17‏)‏ قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏فخرج على قومه‏}‏ وذلك أنَّهم كانوا ينتظرونه، فخرج عليهم ولم يقدر أن يتكلَّم ‏{‏فأوحى إليهم‏}‏ أشار إليهم ‏{‏أن سبحوا‏}‏ صلُّوا لله تعالى ‏{‏بكرة وعشياً‏}‏ فوهبنا له يحيى، وقلنا‏:‏

‏{‏يا يحيى خذ الكتاب‏}‏ التَّوراة ‏{‏بقوة‏}‏ أعطيتكها وقوَّيتك على حفظها والعمل بما فيها ‏{‏وآتيناه الحكم صبياً‏}‏ النُّبوَّة في صباه‏.‏

‏{‏وحناناً‏}‏ وآتيناه حناناً‏:‏ رحمةً ‏{‏من لدنا وزكاةً‏}‏ تطهيراً‏.‏ وقوله‏:‏

‏{‏جباراً‏}‏ أيْ قتَّالاً مُتكبِّراً ‏{‏عصياً‏}‏ عاصياً لربِّه‏.‏

‏{‏وسلامٌ عليه‏}‏ سلامةٌ له منَّا في الأحوال التي ذكرها، يريد أنَّ الله سبحانه سلَّمه في هذه الأحوال‏.‏

‏{‏واذكر‏}‏ يا محمَّد ‏{‏في الكتاب مريم إِذِ انتبذت‏}‏ تنحَّت من أهلها ‏{‏مكاناً شرقياً‏}‏ من جانب الشَّرق، وذلك أنَّها أرادت الغسل من الحيض فاعتزلت في ناحيةٍ شرقيةٍ من الدَّار‏.‏

‏{‏فاتخذت من دونهم حجاباً‏}‏ تتستَّر به عنهم ‏{‏فأرسلنا إليهم روحنا‏}‏ جبريل عليه السَّلام ‏{‏فتمثَّل‏}‏ فتصوَّر ‏{‏لها بشراً‏}‏ آدمياً ‏{‏سويَّاً‏}‏ تامَّ الخلق‏.‏

‏{‏قالت إني أعوذ بالرحمن منك‏}‏ أيُّها البشر ‏{‏إن كنت تقيّاً‏}‏ مُؤمناً مُطيعاً فستنتهي عني بتعوُّذي بالله سبحانه منك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 23‏]‏

‏{‏قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا ‏(‏19‏)‏ قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا ‏(‏20‏)‏ قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا ‏(‏21‏)‏ فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا ‏(‏22‏)‏ فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏قال‏}‏ جبريل عليه السَّلام‏:‏ ‏{‏إنَّما أنا رسول ربّك لأهب لك غلاماً زكياً‏}‏ ولداً صالحاً نبيَّاً‏.‏

‏{‏قالت أنَّى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر‏}‏ ليس لي زوجٌ ‏{‏ولم أك بغياً‏}‏ ولست بزانيةٍ‏.‏

‏{‏قال كذلك‏}‏ أَيْ‏:‏ الأمر كما وصفت لك‏.‏ ‏{‏قال ربك هو عليَّ هيِّن‏}‏ أن أهب لكِ غلاماً من غير أبٍ ‏{‏ولنجعله آية‏}‏ علامةً للنَّاس على قدرة الله تعالى ‏{‏ورحمةً منا‏}‏ لمّنْ تبعه على دينه ‏{‏وكان‏}‏ ذلك ‏{‏أمراً مقضيّاً‏}‏ قضيت به في سابق علمي، فرفع جبريل عليه السَّلام جانب درعها، فنفخ في جيبها، فحملت بعيسى عليه السَّلام، وذلك قوله سبحانه‏:‏

‏{‏فحملته فانتبذت به‏}‏ تباعدت بالحمل ‏{‏مكاناً قصياً‏}‏ بعيداً من أهلها في أقصى وادي بيت لحم، وذلك أنَّها لمَّا أحسَّت بالحمل، هربت من قومها مخافة اللائمة‏.‏

‏{‏فَأَجاءَها المخاض‏}‏ وجع الولادة ‏{‏إلى جذع النخلة‏}‏ وذلك أنَّها حين أخذها الطَّلق صعدت أكمة، فإذا عليها جذع نخلةٍ، وهو ساقها ولم يكن لها سعفٌ، فسارت إليها وقالت جزعاً ممَّا أصابها‏:‏ ‏{‏يا ليتني مت قبل هذا‏}‏ اليوم وهذا الأمر ‏{‏وكنت نسياً منسياً‏}‏ شيئاً متروكاً لا يُعرف ولا يُذكر، فلمَّأ رأى جبريل عليه السَّلام وسمع جزعها ناداها من تحت الأكمة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 35‏]‏

‏{‏فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ‏(‏24‏)‏ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ‏(‏25‏)‏ فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ‏(‏26‏)‏ فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا ‏(‏27‏)‏ يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ‏(‏28‏)‏ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ‏(‏29‏)‏ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ‏(‏30‏)‏ وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ‏(‏31‏)‏ وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ‏(‏32‏)‏ وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ‏(‏33‏)‏ ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ‏(‏34‏)‏ مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏35‏)‏‏}‏

‏{‏فناداها من تحتها ألاَّ تحزني قد جعل ربك تحتك سرياً‏}‏ نهر ماءٍ جارٍ، وكان تحت الأكمة نهرٌ قد انقطع الماء منه، فأرسل الله سبحانه الماء فيه لمريم‏.‏

‏{‏وهزي‏}‏ وحرِّكي ‏{‏إليك‏}‏ إلى نفسك ‏{‏بجذع النخلة تُسَاقط‏}‏ النَّخلة ‏{‏عليك رطباً جنياً‏}‏ غضَّاً ساعةَ جُني، وذلك أنَّ الله تعالى أحيا لها تلك النَّخلة بعد يبسها، فأورقت وأثمرت وأرطبت‏.‏

‏{‏فكلي‏}‏ من الرُّطب ‏{‏واشربي‏}‏ من الماء السَّري ‏{‏وقري عيناً‏}‏ بولدك ‏{‏فإمَّا ترينَّ من البشر أحداً‏}‏ فسألك عن ولدك، ولامَك عليه ‏{‏فقولي‏:‏ إني نذرت للرحمن صوماً‏}‏ صمتاً، أَيْ‏:‏ قولي له‏:‏ إني أوجبت على نفسي لله سبحانه أن لا أتكلَّم، وذلك أنَّ الله تعالى أراد أن يظهر براءتها من جهة عيسى عليه السَّلام يتكلَّم ببراءة أمِّه وهو في المهد، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏فلن أكلم اليوم إنسياً‏}‏‏.‏

‏{‏فأتت به‏}‏ بعيسى بعد ما طهرت من نفاسها ‏{‏قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئاً فرياً‏}‏ عظيماً منكراً، ولداً من غير أبٍ‏!‏

‏{‏يا أخت هارون‏}‏ كان لها أخٌ صالحٌ من جهة أبيها يسمَّى هارون‏.‏ وقيل‏:‏ هارون رجلٌ صالحٌ كان من أمثل بني إسرائيل، فقيل لمريم‏:‏ يا شبيهته في العفاف ‏{‏ما كان أبوك‏}‏ عمران ‏{‏امْرَأَ سوء‏}‏ زانٍ ‏{‏وما كانت أمك‏}‏ حنَّة ‏{‏بغياً‏}‏ زانيةً، فمن أين لك هذا الولد من غير زوجٍ‏؟‏

‏{‏فأشارت‏}‏ إلى عيسى بأن يجعلوا الكلام معه، فتعجَّبوا من ذلك وقالوا‏:‏ ‏{‏كيف نكلم من كان في المهد صبياً‏}‏ يعني‏:‏ رضيعاً في الحِجْر‏.‏

‏{‏قال‏}‏ عيسى عند ذلك‏:‏ ‏{‏إني عبد الله‏}‏ أقرَّ على نفسه بالعبوديَّة لله سبحانه ‏{‏آتاني الكتاب‏}‏ علَّمني التَّوراة‏.‏ وقيل‏:‏ الخطَّ‏.‏

‏{‏وجعلني نبياً وجعلني مباركاً‏}‏ معلِّماً للخير أدعو إلى الله تعالى ‏{‏أينما كنت وأوصاني بالصلاة‏}‏ أمرني بالصلاة ‏{‏والزَّكاة‏}‏ الطَّهارة ‏{‏ما دمت حيَّاً‏}‏‏.‏

‏{‏وبرَّاً‏}‏ لطيفاً ‏{‏بوالدتي‏}‏‏.‏

‏{‏والسلام عليَّ يوم ولدت‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ أَيْ‏:‏ السَّلامة عليَّ من الله تعالى في هذه الأحوال‏.‏

‏{‏ذلك عيسى ابنُ مريم‏}‏ أَيْ‏:‏ الذي قال‏:‏ ‏{‏إني عبد الله آتاني الكتاب‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، هو عيسى ابن مريم لا ما يقول النَّصارى مِنْ أنَّه إله، وإنَّه ابن الله، ‏{‏قول الحق‏}‏ أيْ‏:‏ هذا الكلام قول الحقِّ، والحقُّ‏:‏ هو الله سبحانه‏.‏ وقيل‏:‏ معنى قول الحقِّ‏:‏ أنَّه كلمةُ الله ‏{‏الذي فيه يمترون‏}‏ يشكُّون‏.‏ يعني‏:‏ اليهود، يقولون‏:‏ إنَّه لِزَنيةٍ، وإنَّه كذَّاب ساحر، ويقول النَّصارى‏:‏ إنَّه ابن الله‏.‏

‏{‏ما كان لله‏}‏ ما ينبغي له سبحانه ‏{‏أن يتخذ من ولد‏}‏ أَيْ‏:‏ ولداً ‏{‏سبحانه‏}‏ تنزيهاً له عن ذلك ‏{‏إذا قضى أمراً‏}‏ أراد كونه ‏{‏فإنَّما يقول له كن فيكون‏}‏ كما قال لعيسى‏:‏ كن فكان من غير أبٍ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 39‏]‏

‏{‏وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ‏(‏36‏)‏ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏37‏)‏ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏38‏)‏ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏39‏)‏‏}‏

‏{‏وإنَّ الله ربي وربكم‏}‏ هذا راجعٌ إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأوصاني بالصَّلاة‏}‏ وأوصاني بأنَّ الله ربِّي وربُّكم ‏{‏فاعبدوه‏}‏ ‏{‏هذا‏}‏ الذي ذكرت ‏{‏صراط مستقيم‏}‏‏.‏

‏{‏فاختلف الأحزاب‏}‏ يعني‏:‏ فرق النَّصارى ‏{‏من بينهم‏}‏ فيما بينهم، وهم النّسطورية واليعقوبيَّة والملكانية ‏{‏فويلٌ للذين كفروا من مشهد يوم عظيم‏}‏ يريد‏:‏ مشهدهم يوم القيامة‏.‏

‏{‏أسمع بهم وأبصر‏}‏ ما أبصرهم بالهدى يوم القيامة وأطوعهم أنَّ عيسى ليس الله، ولا ابن الله، سبحانه، ولا ثالث ثلاثة، ولكن لا ينفعهم ذلك مع ضلالتهم في الدُّنيا، وهو قوله‏:‏ ‏{‏لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين‏}‏ من أمرعيسى والقول فيه‏.‏

‏{‏وأنذرهم‏}‏ خوِّفهم يا محمَّد ‏{‏يوم الحسرة‏}‏ يوم القيامة حين يُذبح الموت بين الفريقين ‏{‏إذْ قضي الأمر‏}‏ أُحكم وفرغ منه ‏{‏وهم في غفلة‏}‏ في الدُّنيا من ذلك اليوم ‏{‏وهم لا يؤمنون‏}‏ لا يُصدِّقون به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏40- 42‏]‏

‏{‏إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ‏(‏40‏)‏ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا ‏(‏41‏)‏ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا ‏(‏42‏)‏‏}‏

‏{‏إنا نحن نرث الأرض‏}‏ لأنَّا نُميت سُكَّانها، ‏{‏و‏}‏ نرث ‏{‏مَنْ عليها‏}‏ لأنَّا نميتهم ‏{‏وإلينا يرجعون‏}‏ للثَّواب والعقاب‏.‏

‏{‏واذكر‏}‏ لقومك ‏{‏في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقاً‏}‏ مؤمناً مُؤقناً ‏{‏نبياً‏}‏ رسولاً رفيعاً‏.‏

‏{‏إذا قال لأبيه‏:‏ يا أبتِ لم تعبد ما لا يسمع‏}‏ الدُّعاء ‏{‏ولا يبصر‏}‏ العبادة ‏{‏ولا يغني‏}‏ ولا يدفع ‏{‏عنك‏}‏ من عذاب الله ‏{‏شيئاً‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏44- 46‏]‏

‏{‏يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا ‏(‏44‏)‏ يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا ‏(‏45‏)‏ قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ‏(‏46‏)‏‏}‏

‏{‏يا أبت لا تعبد الشيطان‏}‏ لا تُعطه ‏{‏إنَّ الشيطان كان للرحمن عصياً‏}‏ عاصياً‏.‏

‏{‏يا أبت إني أخاف‏}‏ إن متَّ على ما أنت عليه أن يصيبك ‏{‏عذابٌ من الرحمن فتكون للشيطان ولياً‏}‏ قريناً في النَّار‏.‏

‏{‏قال‏}‏ أبوه مُجيباً له‏:‏ ‏{‏أراغب أنت عن آلهتي‏}‏ أَزاهدٌ فيها وتارك لعبادتها‏؟‏‏!‏ ‏{‏لئن لم تنته‏}‏ لئن لم ترجع عن مقالتك في عيبها ‏{‏لأرجمنك‏}‏ لأشتمنَّك ‏{‏واهجرني ملياً‏}‏ زماناً طويلاً من الدَّهر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 53‏]‏

‏{‏قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا ‏(‏47‏)‏ وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا ‏(‏48‏)‏ فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا ‏(‏49‏)‏ وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا ‏(‏50‏)‏ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا ‏(‏51‏)‏ وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا ‏(‏52‏)‏ وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا ‏(‏53‏)‏‏}‏

‏{‏قال‏}‏ إبراهيم‏:‏ ‏{‏سلام عليك‏}‏ أَيْ‏:‏ سلمتَ مني لا أصيبك بمكروه، وهذا جواب الجاهل، كقوله‏:‏ ‏{‏وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً‏}‏ ‏{‏سأستغفر لك ربي‏}‏ كان هذا قبل أن نُهي عن استغفاره، وعده ذلك رجاء أن يُجاب فيه ‏{‏إنه كان بي حفياً‏}‏ بارَّاً لطيفاً‏.‏

‏{‏وأعتزلكم وما تدعون‏}‏ أُفارقكم وأُفارق ما تعبدون من أصنامكم ‏{‏وأدعو ربي‏}‏ أعبده ‏{‏عسى أن لا أكون بدعاء ربي‏}‏ بعبادته ‏{‏شقياً‏}‏ كما شقيتم أنتم بعبادة الأصنام‏.‏ يريد‏:‏ إنَّه يتقبَّل عبادتي ويُثيبني عليها‏.‏

‏{‏فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله‏}‏ وذهب مهاجراً إلى الشَّام ‏{‏وهبنا له‏}‏ بعد الهجرة ‏{‏إسحق ويعقوب وكلاً‏}‏ منهما ‏{‏جعلنا‏}‏ هُ ‏{‏نبياً‏}‏‏.‏

‏{‏ووهبنا لهم من رحمتنا‏}‏ يعني‏:‏ النُّبوَّة والكتاب ‏{‏وجعلنا لهم لسان صدق علياً‏}‏ ثناءً حسناً رفيعاً في كلِّ أهل الأديان‏.‏

‏{‏واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصاً‏}‏ مُوحِّداً قد أخلص دينه لله‏.‏

‏{‏وناديناه من جانب الطور الأيمن‏}‏ حيث أقبل من مدين يريد مصر، فنودي من الشَّجرة، وكانت في جانب الجبل على يمين موسى ‏{‏وقرَّبناه نجيَّاً‏}‏ قرَّبة الله تعالى من السَّموات للمناجاة، حتى سمع صرير القلم يكتب له في الألواح‏.‏

‏{‏ووهبنا له من رحمتنا‏}‏ من نعمتنا عليه ‏{‏أخاه هارون نبيَّاً‏}‏ حين سأل ذلك ربَّه فقال‏:‏ ‏{‏واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏54- 58‏]‏

‏{‏وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا ‏(‏54‏)‏ وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا ‏(‏55‏)‏ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا ‏(‏56‏)‏ وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا ‏(‏57‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ‏(‏58‏)‏‏}‏

‏{‏واذكر في الكتاب إسماعيل إنَّه كان صادق الوعد‏}‏ إذا وعد وفَّى، وانتظر إنساناً في مكانٍ وعده عنده حتى حال الحول عليه‏.‏ ‏{‏وكان رسولاً نبيَّاً‏}‏ قد بُعث إلى جرهم‏.‏

‏{‏وكان يأمر أهله‏}‏ يعني‏:‏ قومه ‏{‏بالصلاة والزكاة‏}‏ المفروضة عليهم ‏{‏وكان عند ربِّه مرضياً‏}‏ لأنَّه قام بطاعته‏.‏

‏{‏واذكر في الكتاب‏}‏ القرآن ‏{‏إدريس‏}‏ وقصَّته ‏{‏إنَّه كان صديقاً نبيَّاً‏}‏‏.‏

‏{‏ورفعناه مكاناً علياً‏}‏ رُفع إلى السَّماء الرَّابعة‏.‏ وقيل‏:‏ إلى الجنَّة‏.‏

‏{‏أولئك الذين‏}‏ يعني‏:‏ الذين ذكرهم من الأنبياء كانوا ‏{‏من ذريَّة آدم وممن حملنا مع نوح‏}‏ ومن ذريَّة مَنْ حملنا مع نوح في سفينته ‏{‏ومن ذرية إبراهيم‏}‏ يعني‏:‏ إسحاق وإسماعيل ويعقوب ‏{‏وإسرائيل‏}‏ يعني‏:‏ موسى وهارون ‏{‏وممَّن هدينا‏}‏ أرشدنا ‏{‏واجتبينا‏}‏ اصطفينا ‏{‏إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خرُّوا سجداً وبكياً‏}‏ ‏[‏جمع باكٍ‏]‏ أخبر الله سبحانه أنَّ هؤلاء الأنبياء كانوا إذا سمعوا بآيات الله سبحانه سجدوا وبكوا من خشية الله تعالى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏59- 69‏]‏

‏{‏فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ‏(‏59‏)‏ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا ‏(‏60‏)‏ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا ‏(‏61‏)‏ لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ‏(‏62‏)‏ تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا ‏(‏63‏)‏ وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ‏(‏64‏)‏ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ‏(‏65‏)‏ وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا ‏(‏66‏)‏ أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا ‏(‏67‏)‏ فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ‏(‏68‏)‏ ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا ‏(‏69‏)‏‏}‏

‏{‏فَخَلفَ من بعدهم‏}‏ قفا بعد هؤلاء ‏{‏خلف‏}‏ قوم سوء، يعني‏:‏ اليهود والنَّصارى والمجوس ‏{‏أضاعوا الصلاة‏}‏ تركوا الصَّلاة المفروضة ‏{‏واتبعوا الشهوات‏}‏ اللَّذات من شرب الخمر والزِّنا ‏{‏فسوف يلقون غياً‏}‏ وهو وادٍ في جهنم‏.‏

‏{‏إلاَّ من تاب‏}‏ من الشِّرك ‏{‏وآمن‏}‏ وصدَّق النَّبيِّين ‏{‏وعمل صالحاً‏}‏ أدَّى الفرائض ‏{‏فأولئك يدخلون الجنَّة ولا يظلمون شيئاً‏}‏ لا يُنقصون من ثواب أعمالهم شيئاً‏.‏

‏{‏جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب‏}‏ بالمغيب عنهم ولم يروها ‏{‏إنَّه كان وعده مأتياً‏}‏ يؤتي ما وعده لا محالة، تأتيه أنت كما يأتيك هو‏.‏

‏{‏لا يسمعون فيها لغواً‏}‏ قبيحاً من القول ‏{‏إلاَّ‏}‏ لكن ‏{‏سلاماً‏}‏ قولاً حسناً يسلمون منه، والسَّلام‏:‏ اسمٌ جامعٌ للخير ‏{‏ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً‏}‏ على قدر ما يعرفون في الدُّنيا من الغداء والعشاء‏.‏

‏{‏تلك الجنة التي نورث‏}‏ نُعطي ونُنرل ‏{‏من عبادنا مَنْ كان تقياً‏}‏ يتَّقي الله بطاعته واجتناب معاصيه‏.‏

‏{‏وما نتنزل‏}‏ كان جبريل عليه السَّلام قد احتبس عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أيَّاماً، فلمَّا نزل قال له‏:‏ ألاَّ زرتنا، فأنزل الله سبحانه ‏{‏وما نتنزل إلاَّ بأمر ربك له ما بين أيدينا‏}‏ من أمر الآخرة ‏[‏‏{‏وما خلفنا‏}‏ ما مضى من أمر الدُّنيا‏]‏ ‏{‏وما بين ذلك‏}‏ ما يكون من هذا الوقت إلى قيام السَّاعة‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏له ما بين أيدينا‏}‏‏:‏ يعني‏:‏ الدُّنيا، ‏{‏وما خلفنا‏}‏ يعني‏:‏ السَّموات، ‏{‏وما بين ذلك‏}‏‏:‏ الهواء‏:‏ ‏{‏وما كان ربك نسياً‏}‏ تاركاً لك منذ أبطأ عنك الوحي‏.‏ وقوله‏:‏

‏{‏هل تعلم له سمياً‏}‏ هل تعلم أحداً يُسمَّى الله غيره‏؟‏

‏{‏ويقول الإِنسان‏}‏ يعني‏:‏ أُبيَّ بن خلف ‏{‏أإذا ما متُّ لسوف أخرج حياً‏}‏ يقول هذا استهزاءً وتكذيباً بالبعث، يقول‏:‏ لسوف أخرج حيَّاً من قبري بعد ما متُّ‏!‏‏؟‏

‏{‏أَوَلاَ يذكر‏}‏ يتذكَّر ويتفكَّر هذا ‏{‏الإنسان أنَّا خلقناه من قبل ولم يك شيئاً‏}‏ فيعلم أنَّ مَنْ قدر على الابتداء قدر على الإِعادة، ثمَّ أقسم بنفسه أنَّه يبعثهم فقال‏:‏

‏{‏فوربك لنحشرنَّهم‏}‏ يعني‏:‏ منكري البعث ‏{‏والشياطين‏}‏ قرناءهم الذين أضلُّوهم ‏{‏ثمَّ لنحضرنَّهم حول جهنم جثياً‏}‏ جماعات، جمع‏:‏ جُثوة‏.‏

‏{‏ثمَّ لننزعنَّ‏}‏ لنخرجنَّ ‏{‏من كلِّ شيعة‏}‏ أُمَّةٍ وفرقةٍ ‏{‏أيُّهم أشدُّ على الرحمن عتياً‏}‏ الأعتى فالأعتى منهم، وذلك أنَّه يبدأ في التعذيب بأشدهم عتيَّا، ثمَّ الذي يليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏70- 75‏]‏

‏{‏ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا ‏(‏70‏)‏ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ‏(‏71‏)‏ ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ‏(‏72‏)‏ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا ‏(‏73‏)‏ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا ‏(‏74‏)‏ قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا ‏(‏75‏)‏‏}‏

‏{‏ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صلياً‏}‏ أحقُّ بدخول النَّار‏.‏

‏{‏وإنْ منكم‏}‏ وما منكم من أحدٍ ‏{‏إلاَّ واردُها‏}‏ إلاَّ وهو يرد النَّار ‏{‏كان على ربك‏}‏ كان الورود على ربِّك ‏{‏حتماً مقضياً‏}‏ حتم بذلك وقضى‏.‏

‏{‏ثمَّ نُنَجِّي‏}‏ من النَّار ‏{‏الذين اتقوا‏}‏ الشِّرك ‏{‏ونذر الظالمين‏}‏ المشركين ‏{‏فيها جثياً‏}‏ ‏[‏أَيْ‏]‏‏:‏ جميعاً‏.‏

‏{‏وإذا تتلى عليهم آياتنا بَيِّناتٍ‏}‏ يعني‏:‏ القرآن وما بيَّن الله فيه ‏{‏قال الذين كفروا‏}‏ يعني‏:‏ مشركي قريش ‏{‏للذين آمنوا أَيُّ الفريقين‏}‏ منَّا ومنكم ‏{‏خيرٌ مقاماً‏}‏ منزلاً ومسكناً ‏{‏وأحسن ندياً‏}‏ مجلساً، وذلك أنَّهم كانوا أصحاب مالٍ وزينةٍ من الدُّنيا، وكان المؤمنون أصحاب فقرٍ ورَثَاثة، فقالوا لهم‏:‏ نحن أعظم شأناً، وأعزُّ مجلساً، وأكرم منزلاً أم أنتم‏؟‏ فقال الله تعالى‏:‏

‏{‏وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثاً‏}‏ متاعاً ‏{‏ورئياً‏}‏ منظراً من هؤلاء الكفَّار، فلم يُغن ذلك عنهم شيئاً‏.‏

‏{‏قل مَنْ كان في الضلالة‏}‏ الشِّرك والجهالة ‏{‏فليمدد له الرحمن مدَّاً‏}‏ فإنَّ الله تعالى يمدُّ له فيها ويمهله في كفره، وهذا لفظ أمرٍ معناه الخبر ‏{‏حتى إذا رأوا ما يوعدون إمَّا العذاب‏}‏ في الدُّنيا ‏{‏وإما الساعة فسيعلمون مَنْ هو شرٌّ مكاناً وأضعف جنداً‏}‏ أَهم أم المؤمنون‏؟‏ وذلك أنَّهم إن قُتلوا ونُصر المؤمنون عليهم علموا أنَّهم أضعف جنداً، وإن ماتوا فدخلوا النَّار علموا أنَّهم شرٌّ مكاناً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏76- 81‏]‏

‏{‏وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا ‏(‏76‏)‏ أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآَيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا ‏(‏77‏)‏ أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا ‏(‏78‏)‏ كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا ‏(‏79‏)‏ وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا ‏(‏80‏)‏ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا ‏(‏81‏)‏‏}‏

‏{‏ويزيد الله الذين اهتدوا هدىً‏}‏ يزيدهم في يقينهم ورشدهم ‏{‏والباقيات الصالحات‏}‏ الأعمال الصَّالحة ‏{‏خيرٌ عند ربك ثواباً‏}‏ ممَّا يملك الكفَّار من المال ‏{‏وخيرٌ مردَّاً‏}‏ أَيْ‏:‏ في المرَدِّ، وهو الآخرة‏.‏

‏{‏أفرأيت الذي كفر بآياتنا‏}‏ يعني‏:‏ العاص بن وائل ‏{‏وقال لأوتين مالاً وولداً‏}‏ وذلك أنَّ خبَّاباً اقتضى ديناً له عليه، فقال‏:‏ ألستم تزعمون أنَّ في الجنَّة ذهباً وفضَّةً‏؟‏ ولئن كان ما تقولون حقَّاً فإنِّي لأفضلُ نصيباً منك، فأَخِّرني حتى أقضيك في الجنَّة، استهزاءً، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏لأوتين مالاً وولداً‏}‏ يعني‏:‏ في الجنَّة، فقال الله تعالى‏:‏

‏{‏أطلع الغيب‏}‏ أعلمَ علم الغيب حتى عرف أنَّه في الجنَّة ‏{‏أم اتخذ عند الرحمن عهداً‏}‏ أم قال‏:‏ لا إله إلاَّ الله حتى يستحقَّ دخول الجنَّة‏؟‏

‏{‏كلا‏}‏ ليس الأمر كما يقول‏:‏ ‏{‏سنكتب ما يقول‏}‏ سيحفظ عليه ما يقول من الكفر والاستهزاء لنجازيه به ‏{‏ونمدُّ له من العذاب مدَّاً‏}‏ نزيده عذاباً فوق العذاب‏.‏

‏{‏ونرثه ما يقول‏}‏ من أنَّ في الجنَّة ذهباً وفضةً، فنجعله لغيره من المسلمين ‏{‏ويأتينا فرداً‏}‏ خالياً من ماله وولده وخدمه‏.‏ ‏{‏واتخذوا من دون الله‏}‏ يعني‏:‏ أهل مكَّة ‏{‏آلهة‏}‏ وهي الأصنام ‏{‏ليكونوا لهم عزَّاً‏}‏ أعواناً يمنعونهم مني‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏82- 89‏]‏

‏{‏كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ‏(‏82‏)‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا ‏(‏83‏)‏ فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا ‏(‏84‏)‏ يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا ‏(‏85‏)‏ وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا ‏(‏86‏)‏ لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا ‏(‏87‏)‏ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا ‏(‏88‏)‏ لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا ‏(‏89‏)‏‏}‏

‏{‏كلا‏}‏ ليس الأمر على ما ظنُّوا ‏{‏سيكفرون بعبادتهم‏}‏ لأنَّهم كانوا جماداً لم يعرفوا أنَّهم يُعبدون ‏{‏ويكونون عليهم ضداً‏}‏ أعواناً، وذلك أنَّ الله تعالى يحشر آلهتهم فينطقهم، ويركِّب فيهم العقول فتقول‏:‏ يا ربِّ عذّب هؤلاء الذين عبدونا من دونك‏.‏

‏{‏الم تر‏}‏ يا محمَّد ‏{‏إنَّا أرسلنا الشياطين على الكافرين‏}‏ سلَّطناهم عليهم بالإِغواء ‏{‏تؤزهم أزَّاً‏}‏ تُزعجهم من الطَّاعة إلى المعصية‏.‏

‏{‏فلا تعجل عليهم‏}‏ بالعذاب ‏{‏إنما نعدُّ لهم‏}‏ الأيَّام واللَّيالي والأنفاس ‏{‏عدَّاً‏}‏ إلى انتهاء أجل العذاب‏.‏

‏{‏يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً‏}‏ ركباناً مُكرمين‏.‏

‏{‏ونسوق المجرمين إلى جهنم ورداً‏}‏ عطاشاً‏.‏

‏{‏لا يملكون الشفاعة إلاَّ من اتَّخذ‏}‏ لكم ‏{‏عند الرحمن عهداً‏}‏ اعتقد التَّوحيد وقال‏:‏ لا إله إلاَّ الله؛ فإنه يملك الشَّفاعة، والمعنى‏:‏ لا يشفع إلاَّ مَنْ شهد أن لا إله إلاَّ الله‏.‏

‏{‏وقالوا اتخذ الرحمن ولداً‏}‏ يعني‏:‏ اليهود والنَّصارى، ومَنْ زعم أنَّ الملائكة بنات الله‏.‏

‏{‏لقد جئتم شيئاً إدَّاً‏}‏ عظيماً فظيعاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏90- 98‏]‏

‏{‏تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا ‏(‏90‏)‏ أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا ‏(‏91‏)‏ وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا ‏(‏92‏)‏ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ‏(‏93‏)‏ لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا ‏(‏94‏)‏ وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ‏(‏95‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ‏(‏96‏)‏ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا ‏(‏97‏)‏ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا ‏(‏98‏)‏‏}‏

‏{‏تكاد السموات‏}‏ تقرب من أن ‏{‏يتفطرن‏}‏ يتشقَّقْن ‏{‏منه‏}‏ من هذا القول ‏{‏وتخرُّ‏}‏ وتسقط ‏{‏الجبال هدَّاً‏}‏ سقوطاً‏.‏

‏{‏أن دعوا‏}‏ لأنْ دعوا ‏{‏للرحمن ولداً‏}‏‏.‏

‏{‏وما ينبغي للرحمن أن يتَّخذ ولداً‏}‏ لأنَّه لا يليق به الولد، ولا مجانسة بينه وبين أحد‏.‏

‏{‏إن كلُّ‏}‏ ما كلُّ ‏{‏من في السموات والأض إلاَّ‏}‏ وهو يأتي الله سبحانه يوم القيامة مُقرَّاً له بالعبوديَّة‏.‏

‏{‏لقد أحصاهم وعدَّهم عدَّاً‏}‏ أَيْ‏:‏ علمهم كلَّهم، فلا يخفى عليه أحدٌ ولا يفوته‏.‏

‏{‏وكلهم آتيْهِ يوم القيامة فرداً‏}‏ من ماله وولده ليس معه أحدٌ‏.‏

‏{‏إنَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً‏}‏ محبَّةً في قلوب المؤمنين، قيل‏:‏ نزلت في عليّ بن أبي طالب‏.‏ وقيل‏:‏ في عبد الرَّحمن بن عوف‏.‏

‏{‏فإنما يسرناه‏}‏ سهَّلنا القرآن ‏{‏بلسانك‏}‏ بلغتك ‏{‏لتبشر به المتقين‏}‏ الذين صدَّقوا وتركوا الشِّرك ‏{‏وننذر به قوماً لداً‏}‏ شداد الخصومة‏.‏

‏{‏وكم أهلكنا من قبلهم‏}‏ قبل قومك ‏{‏من قرن‏}‏ جماعةٍ ‏{‏هل تحس‏}‏ تجد ‏{‏منهم من أحدٍ أو تسمع لهم رِكْزاً‏}‏ صوتاً‏.‏

سورة طه

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏طه ‏(‏1‏)‏ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى ‏(‏2‏)‏ إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى ‏(‏3‏)‏ تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا ‏(‏4‏)‏ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏طه‏}‏ يا رجل‏.‏

‏{‏وما أنزلنا عليك القرآن لتشقى‏}‏ لتتعب بكثرة الجهد، وذلك أنَّه كان يُصلِّي اللَّيل كلَّه بمكَّة حتى تورَّمت قدماه، وقال له الكفَّار‏:‏ إنَّك لتشقى بترك ديننا، فأنزل الله تعالى هذه الآية‏.‏

‏{‏إلاَّ تذكرة‏}‏ أي‏:‏ ما أنزلناه إلاَّ تذكرةً، موعظةً ‏{‏لمن يخشى‏}‏ يخاف الله عزَّ وجلَّ‏.‏

‏{‏تنزيلاَ ممَّن خلق الأرض والسموات العلى‏}‏ جمع العليا‏.‏

‏{‏الرحمن على العرش‏}‏ مع أنَّه أعظم المخلوقات ‏{‏استوى‏}‏ ‏[‏أي‏:‏ أقبل على خلقه، كقوله‏:‏ ‏{‏ثم استوى إلى السماء‏}‏ مع أنه أعظم المخلوقات‏]‏، أي‏:‏ استولى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 7‏]‏

‏{‏لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى ‏(‏6‏)‏ وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏وما تحت الثرى‏}‏ ما تحت الأرض، والثَّرى‏:‏ التُّراب النَّدي‏.‏

‏{‏وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر‏}‏ وهو ما أسررت لفي نفسك ‏{‏وأخفى‏}‏ وهو ما ستحدِّث به نفسك ممَّا لم يكن بعد، والمعنى‏:‏ إنَّه يعلم هذا، فكيف ما جُهِرَ به‏؟‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 14‏]‏

‏{‏وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى ‏(‏9‏)‏ إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى ‏(‏10‏)‏ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى ‏(‏11‏)‏ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ‏(‏12‏)‏ وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى ‏(‏13‏)‏ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏وهل أتاك‏}‏ يا محمَّد‏.‏ ‏{‏حديث موسى‏}‏ خبره وقصَّته‏.‏

‏{‏إذ رأى ناراً‏}‏ في طريقه إلى مصر لمَّا أخذ امرأته الطَّلْقُ ‏{‏فقال لأهله‏}‏ لامرأته‏:‏ ‏{‏امكثوا‏}‏ أقيموا مكانكم ‏{‏إني آنست‏}‏ أبصرت ‏{‏ناراً لعلي آتيكم منها بقبس‏}‏ شعلة نارٍ ‏{‏أو أجد على النار هدى‏}‏ مَنْ يهديني ويدلُّني على الطَّريق، وكان قد ضلَّ عن الطَّريق‏.‏

‏{‏فلما أتاها‏}‏ أي‏:‏ النَّار‏.‏

‏{‏نودي يا موسى إني أنا ربك فاخلع نعليك‏}‏ وكانتا من جلد حمارٍ ميِّتٍ غيرِ مدبوغٍ، لذلك أُمر بخلعها ‏{‏إنك بالواد المقدس‏}‏ المُطهَّر ‏{‏طوى‏}‏ اسم ذلك الوادي‏.‏

‏{‏وأنا اخترتك‏}‏ اصطفيتك للنُّبوَّة ‏{‏فاستمع لما يوحى‏}‏ إليك مني‏.‏

‏{‏وأقم الصلاة لذكري‏}‏ لتذكرني فيها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 18‏]‏

‏{‏إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ‏(‏15‏)‏ فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى ‏(‏16‏)‏ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى ‏(‏17‏)‏ قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏إنَّ الساعة‏}‏ القيامة ‏{‏آتية أكاد أخفيها‏}‏ أسترها للتَّهويل والتَّعظيم، و‏"‏ أكادُ ‏"‏ صلةٌ ‏{‏لتجزى‏}‏ في ذلك اليوم ‏{‏كل نفس بما تسعى‏}‏ تعمل‏.‏

‏{‏فلا يصدنك‏}‏ يمنعنَّك ‏{‏عنها‏}‏ عن الإِيمان بالسَّاعة ‏{‏مَنْ لا يؤمن بها واتبع هواه‏}‏ مراده ‏{‏فتردى‏}‏ فتهلك‏.‏

‏{‏وما تلك‏}‏ وما التي ‏{‏بيمينك‏}‏ في يدك اليمنى‏؟‏ ‏{‏قال هي عصاي أتوكأ عليها‏}‏ أتحامل عليها عند المشي والإِعياء ‏{‏وأهش‏}‏ أخبط الورق عن الشَّجر ‏{‏بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى‏}‏ حاجاتٌ أخرى سوى التَّوَكُّؤِ والهشِّ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 26‏]‏

‏{‏قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى ‏(‏21‏)‏ وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آَيَةً أُخْرَى ‏(‏22‏)‏ لِنُرِيَكَ مِنْ آَيَاتِنَا الْكُبْرَى ‏(‏23‏)‏ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ‏(‏24‏)‏ قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ‏(‏25‏)‏ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏سنعيدها سيرتها الأولى‏}‏ أَيْ‏:‏ نردُّها عصاً كما كانت‏.‏

‏{‏واضمم يدك إلى جناحك‏}‏ جناح الإِنسان‏:‏ عضده إلى أصل إبطه، يريد‏:‏ أدخلها تحت جناحك ‏{‏تخرج بيضاء من غير سوء‏}‏ برصٍ أو داءٍ ‏{‏آية أخرى‏}‏ لك سوى العصا‏.‏

‏{‏لنريك من آياتنا الكبرى‏}‏ وكانت يده أكبر آياته‏.‏

‏{‏اذهب إلى فرعون إنه طغى‏}‏ كفر بأنعمي، وتكبَّر عن عبادتي، فعند ذلك‏.‏

‏{‏قال‏}‏ موسى‏:‏ ‏{‏رب اشرح لي صدري‏}‏ وسِّعْ ولَيِّنْ لي قلبي بالإِيمان والنُّبوَّة‏.‏

‏{‏ويسِّر لي أمري‏}‏ وسهِّلْ عليَّ ما أمرتني به من تبليغ الرِّسالة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 43‏]‏

‏{‏وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي ‏(‏27‏)‏ يَفْقَهُوا قَوْلِي ‏(‏28‏)‏ وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي ‏(‏29‏)‏ هَارُونَ أَخِي ‏(‏30‏)‏ اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ‏(‏31‏)‏ وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ‏(‏32‏)‏ كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا ‏(‏33‏)‏ وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا ‏(‏34‏)‏ إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا ‏(‏35‏)‏ قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى ‏(‏36‏)‏ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى ‏(‏37‏)‏ إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى ‏(‏38‏)‏ أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ‏(‏39‏)‏ إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى ‏(‏40‏)‏ وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ‏(‏41‏)‏ اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآَيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي ‏(‏42‏)‏ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ‏(‏43‏)‏‏}‏

‏{‏واحلل‏}‏ افتح ‏{‏عقدة من لساني‏}‏ وكانت في لسانه رُتَّة للجمرة التي وضعها على لسانه في صباه‏.‏

‏{‏يفقهوا قولي‏}‏ كي يفهموا كلامي‏.‏

‏{‏واجعل لي وزيراً‏}‏ معيناً ‏{‏من أهلي‏}‏ وهو،

‏{‏هارون‏}‏‏.‏

‏{‏اشدد به أزري‏}‏ قوِّ به ظهري‏.‏

‏{‏وأشركه في أمري‏}‏ اجعل ما أمرتني به من النُّبوَّة بيني وبينه‏.‏

‏{‏كي نسبحك‏}‏ نصلِّي لك ‏{‏كثيراً‏}‏‏.‏

‏{‏ونذكرك كثيراً‏}‏ باللسان على كلِّ حالٍ‏.‏

‏{‏إنك كنت بنا بصيراً‏}‏ عالماً، فاستجاب الله له، وقال تعالى‏:‏

‏{‏قد أوتيت سؤلك يا موسى‏}‏ أُعطيت مرادك، ثمَّ ذكر منَّته السالفة عليه بقوله تعالى‏:‏

‏{‏ولقد مننا عليك مرَّة أخرى‏}‏ قبل هذه، وهي‏:‏ ‏{‏إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى‏}‏ أَيْ‏:‏ ألهمناها ما يلهم الإِنسان من الصَّواب، وهو إلهام الله تعالى إيَّاها‏:‏

‏{‏أن اقذفيه‏}‏ اجعليه ‏{‏في التابوت فاقذفيه‏}‏ فاطرحيه ‏{‏في اليم‏}‏ يعني‏:‏ نهر النِّيل‏.‏

‏{‏فليلقه اليمُّ بالساحل‏}‏ فيردُّه الماء إلى الشَّطِّ ‏{‏يأخذه عدوٌّ لي وعدوٌّ له‏}‏ وهو فرعون ‏{‏وألقيت عليك محبة مني‏}‏ حتى لم يقتلك عدوُّك الذي أخذك من الماء، وهو أنَّه حبَّبه إلى الخلق كلِّهم، فلا يراه مؤمنٌ ولا كافرٌ إلاَّ أحبَّه‏.‏ ‏{‏ولتصنع‏}‏ ولتربى وتغذَّى ‏{‏على عيني‏}‏ على محبَّتي ومرادي‏.‏ يعني‏:‏ إذ ردَّه إلى أُمِّه حتى غذته، وهو قوله‏:‏

‏{‏إذ تمشي أختك‏}‏ مُتعرِّفةً خبرك وما يكون من أمرك بعد الطَّرح في الماء ‏{‏فتقول‏}‏ لكم‏:‏ ‏{‏هل أدلُّكم على مَنْ يكفله‏}‏ يرضعه ويضمُّه إليه، وذلك حين أبى موسى عليه السَّلام أن يقبل ثدي امرأةٍ، فلمَّا قالت لهم ذلك قالوا‏:‏ نعم، فجاءت بالأُمِّ، فَدُفع إليها، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏فرجعناك إلى أمك كي تقرَّ عينها‏}‏ بلقائك وبقائك ‏{‏ولا تحزن‏}‏ على فقدك ‏{‏وقتلت نفساً‏}‏ يعني‏:‏ القبطي الذي قتله ‏{‏فنجيناك من الغم‏}‏ من غمِّ أن تُقتل به ‏{‏وفتناك فتوناً‏}‏ اختبرناك اختباراً بأشياء قبل النَّبوَّة ‏{‏فلبثت‏}‏ مكثت ‏{‏سنين في أهل مدين‏}‏ عشر سنين في منزل شعيب ‏{‏ثم جئت على قدر‏}‏ على رأس أربعين سنة‏.‏ وهو القدر الذي يوحى فيه إلى الأنبياء عليهم السَّلام‏.‏

‏{‏واصطنعتك لنفسي‏}‏ اخترتك بالرِّسالة لكي تحبَّني وتقوم بأمري‏.‏

‏{‏اذهب أنت وأخوك بآياتي‏}‏ يعني‏:‏ بما أعطاهما من المعجزة ‏{‏ولا تنيا‏}‏ لا تَفتُرا‏.‏

‏{‏اذهبا إلى فرعون إنَّه طغى‏}‏ علا وتكبَّر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏44- 48‏]‏

‏{‏فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ‏(‏44‏)‏ قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى ‏(‏45‏)‏ قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ‏(‏46‏)‏ فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ‏(‏47‏)‏ إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ‏(‏48‏)‏‏}‏

‏{‏فقولا له قولاً ليّناً‏}‏ كنِّياه وعِداه على الإِيمان نعيماً وعمراً طويلاً في صحَّة، ومصيراً إلى الجنَّة ‏{‏لعله يتذكر‏}‏ يتَّعظ ‏{‏أو يخشى‏}‏ يخاف الله تعالى، ومعنى ‏"‏ لعلَّ ‏"‏ ها هنا يعود إلى حال موسى وهارون‏.‏ أَي‏:‏ اذهبا أنتما على رجائكما وطمعكما، وقد علم الله تعالى ما يكون منه‏.‏

‏{‏قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا‏}‏ ‏[‏يعجل علينا‏]‏ بالقتل والعقوبة ‏{‏أو أن يطغى‏}‏ يتكبَّر ويستعصي‏.‏

‏{‏قال لا تخافا إنني معكما‏}‏ بالعون والنُّصرة ‏{‏أسمع‏}‏ ما يقول ‏{‏وأرى‏}‏ ما يفعل‏.‏ وقوله‏:‏

‏{‏فأرسل معنا بني إسرائيل‏}‏ أَيْ‏:‏ خلِّ عنهم ولا تستسخرهم ‏{‏ولا تعذبهم‏}‏ ولا تتعبهم في العمل ‏{‏قد جئناك بآية من ربك‏}‏ يعني‏:‏ اليد البيضاء ‏[‏والعصا‏]‏ ‏{‏والسلام على من اتبع الهدى‏}‏ سَلِمَ مَنْ أسلم‏.‏

‏{‏إنا قد أوحي إلينا أنَّ العذاب على مَنْ كذَّب‏}‏ أنبياء الله ‏{‏وتولى‏}‏ أعرض عن الإِيمان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ‏(‏50‏)‏‏}‏

‏{‏ربنا الذي أعطى كلَّ شيء خلقه‏}‏ أَيْ‏:‏ أتقن كلَّ شيءٍ ممَّا خلق، وخلقه على الهيئة التي بها يُنتفع، والتي هي أصلح وأحكم لما يُراد منه ‏{‏ثم هدى‏}‏ أي‏:‏ هداه لمعيشته، ثمَّ سأله فرعون عن أعمال الأمم الماضية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 57‏]‏

‏{‏قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى ‏(‏51‏)‏ قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى ‏(‏52‏)‏ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى ‏(‏53‏)‏ كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى ‏(‏54‏)‏ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى ‏(‏55‏)‏ وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آَيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى ‏(‏56‏)‏ قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى ‏(‏57‏)‏‏}‏

‏{‏فما بال القرون الأولى‏}‏ الماضية‏؟‏ فأجابه موسى عليه السَّلام بأنَّ أعمالهم محفوظةٌ عند الله يُجازون بها، وهو قوله‏:‏

‏{‏علمها عند ربي في كتاب‏}‏ وهو اللَّوح المحفوظ ‏{‏لا يضل ربي‏}‏ لا يخطئ، ومعناه‏:‏ لا يترك مَنْ كفر به حتى ينتقم منه ‏{‏ولا ينسى‏}‏ مَنْ وحَّده حتى يجازيه‏.‏

‏{‏الذي جعل لكم الأرض مهاداً‏}‏ فراشاً ‏{‏وسلك لكم فيها سبلاً‏}‏ وسهَّل لكم فيها طُرُقاً ‏{‏وأنزل من السماء ماء‏}‏ يريد‏:‏ المطر، وتمَّ ها هنا جواب موسى، ثمَّ تلوَّن الخطاب، وقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فأخرجنا به أزواجاً‏}‏ أصنافاً ‏{‏من نبات شتى‏}‏ مختلفة الألوان والطُّعوم‏.‏

‏{‏كلوا‏}‏ منها ‏{‏وارعوا أنعامكم‏}‏ فيها، أَيْ‏:‏ أسيموها واسرحوها في نبات الأرض ‏{‏إنَّ في ذلك‏}‏ الذي ذكرت ‏{‏لآيات‏}‏ لعبرة ‏{‏لأولي النهي‏}‏ لذوي العقول‏.‏

‏{‏منها خلقناكم‏}‏ يعني‏:‏ آدم عليه السَّلام ‏{‏وفيها نعيدكم‏}‏ عند الموت ‏{‏ومنها نخرجكم‏}‏ عند البعث ‏{‏تارة‏}‏ مرَّةً ‏{‏أخرى‏}‏‏.‏

‏{‏ولقد أريناه‏}‏ يعني‏:‏ فرعون ‏{‏آياتنا كلَّها‏}‏ الآيات التِّسع ‏{‏فكذَّب‏}‏ بها، وزعم أنَّها سحرٌ ‏{‏وأبى‏}‏ أن يُسلم‏.‏

‏{‏قال‏}‏ لموسى‏:‏ ‏{‏أجئتنا لتخرجنا من أرضنا‏}‏ من أرض مصر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏58- 63‏]‏

‏{‏فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى ‏(‏58‏)‏ قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ‏(‏59‏)‏ فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى ‏(‏60‏)‏ قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى ‏(‏61‏)‏ فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى ‏(‏62‏)‏ قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ‏(‏63‏)‏‏}‏

‏{‏بسحرك يا موسى فلنأتينَّك بسحر مثله‏}‏ فلنعارضنَّ سحرك بسحرٍ مثله ‏{‏فاجعل بيننا وبينك موعداً‏}‏ لمعارضتنا إيَّاك، لا نُخلف ذلك الموعد ‏{‏نحن ولا أنت‏}‏ وأراد بالموعد ها هنا موضعاً يتواعدون للاجتماع هناك، وهو قوله‏:‏ ‏{‏مكاناً سوى‏}‏ أَيْ‏:‏ يكون النَّصف فيما بيننا وبينك‏.‏

‏{‏قال موعدكم يوم الزينة‏}‏ أَيْ‏:‏ وقتُ موعدكم يوم الزِّينة، وهو يوم عيدٍ كان لهم ‏{‏وأن يحشر الناس ضحى‏}‏ يريد‏:‏ يجمع أهل مصر في ذلك اليوم نهاراً، أراد موسى صلوات الله عليه أن يكون أبلغ في الحجَّة، وأشهر ذكراً في الجمع‏.‏

‏{‏فتولى‏}‏ فأدبر ‏{‏فرعون فجمع كيده‏}‏ حِيَله وسحرته ‏{‏ثم أتى‏}‏ الميعاد‏.‏

‏{‏قال لهم موسى‏}‏ للسَّحرة‏:‏ ‏{‏لا تفتروا على الله كذباً‏}‏ لا تشركوا مع الله أحداً ‏{‏فيسحتكم‏}‏ فيستأصلكم ‏{‏بعذاب وقد خاب من افترى‏}‏ خسر مَن ادَّعى مع الله تعالى إلهاً آخر‏.‏

‏{‏فتنازعوا أمرهم بينهم‏}‏ فتشاوروا بينهم، يعني‏:‏ السَّحرة ‏{‏وأسروا النجوى‏}‏ تكلَّموا فيما بينهم سرَّاً من فرعون، فقالوا‏:‏ إنْ غلَبَنا موسى اتَّبعناه‏.‏

‏{‏قالوا إنَّ هذين لساحران‏}‏ يعنون‏:‏ موسى وهارون عليهما السَّلام ‏{‏يريدان أن يخرجاكم من أرضكم‏}‏ من مصر ويغلبا عليها ‏{‏بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى‏}‏ بجماعتكم الأشراف، أَيْ‏:‏ يصرفا وجوههم إليهما‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏64- 70‏]‏

‏{‏فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى ‏(‏64‏)‏ قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى ‏(‏65‏)‏ قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى ‏(‏66‏)‏ فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى ‏(‏67‏)‏ قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى ‏(‏68‏)‏ وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ‏(‏69‏)‏ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى ‏(‏70‏)‏‏}‏

‏{‏فأجمعوا كيدكم‏}‏ أي‏:‏ اعزموا على الكيد من غير اختلافٍ بينكم فيه ‏{‏ثم ائتوا صفاً‏}‏ مُجتمعين مصطفِّين؛ ليكون أشدَّ لهيبتكم ‏{‏وقد أفلح اليوم من استعلى‏}‏ أَيْ‏:‏ قد سعد اليوم مَنْ غلب‏.‏

‏{‏قالوا يا موسى إمَّا أن تلقي‏}‏ عصاك من يدك إلى الأرض ‏{‏وإمَّا أن نكون أوَّل من ألقى‏}‏‏.‏

‏{‏قال بل ألقوا‏}‏ أنتم، فألقوا ‏{‏فإذا حبالهم وعصيهم‏}‏ جمع العصا ‏{‏يخيل إليه‏}‏ يُشبَّه لموسى ‏{‏أنها تسعى‏}‏ وذلك أنَّها تحرَّكت بنوع حيلةٍ وتمويهٍ، وظن موسى أنَّها تسعى نحوه‏.‏

‏{‏فأوجس‏}‏ فأضمر ‏{‏في نفسه خيفة‏}‏ خوفاً، خاف أن لا يفوز ولا يغلب فلا يُصدَّق، حتى قال الله تعالى له‏:‏

‏{‏لا تخف إنك أنت الأعلى‏}‏ الغالب‏.‏

‏{‏وألق ما في يمينك تلقف‏}‏ تبتلع ‏{‏ما صنعوا إنّ ما صنعوا‏}‏ أي‏:‏ الذي صنعوه ‏{‏كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى‏}‏ ولا يسعد السَّاحر حيث ما كان‏.‏ فألقى موسى عصاه فتلقَّفت كلَّ الذي صنعوه، وعند ذلك أُلقي‏.‏

‏{‏السحرة سجداً‏}‏ خرُّوا ساجدين لله تعالى ‏{‏قالوا آمنا برب هارون وموسى‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏71- 76‏]‏

‏{‏قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى ‏(‏71‏)‏ قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ‏(‏72‏)‏ إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ‏(‏73‏)‏ إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى ‏(‏74‏)‏ وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا ‏(‏75‏)‏ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى ‏(‏76‏)‏‏}‏

‏{‏قال آمنتم له‏}‏ صدّقتموه ‏{‏قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم‏}‏ معلّمكم ‏{‏الذي علمكم السحر فلأقطعنَّ أيديكم وأرجلكم من خلاف‏}‏ اليد اليمنى والرِّجل اليسرى ‏{‏ولأصلبنكم في جذوع النخل‏}‏ على رؤوس النَّخل ‏{‏ولتعلمن أينا أشد عذاباً‏}‏ أنا أو ربُّ موسى ‏{‏وأبقى‏}‏ وأدوم‏.‏

‏{‏قالوا لن نؤثرك‏}‏ لن نختار دينك ‏{‏على ما جاءنا من البينات‏}‏ اليقين والهدى ‏{‏والذي فطرنا‏}‏ ولا نختارك على الذي خلقنا ‏{‏فاقض ما أنت قاض‏}‏ فاصنع ما أنت صانعٌ من القطع والصَّلب ‏{‏إنما تقضي هذه الحياة الدنيا‏}‏ إنَّما سلطانك وملكك في هذه الحياة الدُّنيا‏.‏

‏{‏إنَّا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا‏}‏ الشِّرك الذين كنَّا فيه ‏{‏وما أكرهتنا عليه من السحر‏}‏ وإكراهك إيانا على تعلُّم السِّحر ‏{‏والله خير‏}‏ لنا منك ‏{‏وأبقى‏}‏ لأنَّك فانٍ هالكٌ‏.‏

‏{‏إنَّه مَنْ يأت ربَّه مجرماً‏}‏ مات على الشِّرك ‏{‏فإنَّ له جهنم لا يموت فيها‏}‏ فيستريح بالموت ‏{‏ولا يحيا‏}‏ حياةً تنفعه‏.‏

‏{‏ومَنْ يأته مؤمناً‏}‏ مات على الإيمان ‏{‏قد عمل الصالحات‏}‏ قد أدَّى الفرائض ‏{‏فأولئك لهم الدرجات العلى‏}‏ في الجنَّة‏.‏ وقوله‏:‏

‏{‏جزاء من تزكى‏}‏ تطهَّر من الشِّرك بقول‏:‏ لا إله إلاَّ الله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏77- 82‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى ‏(‏77‏)‏ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ ‏(‏78‏)‏ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى ‏(‏79‏)‏ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى ‏(‏80‏)‏ كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى ‏(‏81‏)‏ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ‏(‏82‏)‏‏}‏

‏{‏ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي‏}‏ سِرْ بهم ليلاً من أرض مصر ‏{‏فاضرب لهم‏}‏ بعصاك ‏{‏طريقاً في البحر يبساً‏}‏ يابساً ‏{‏لا تخاف دركاً‏}‏ من فرعون خلفك ‏{‏ولا تخشى‏}‏ غرقاً في البحر‏.‏

‏{‏فأتبعهم‏}‏ فلحقهم ‏{‏فرعون بجنوده فغشيهم من اليم‏}‏ فعلاهم من البحر ‏{‏ما غشيهم‏}‏ ما غرَّقَهم‏.‏

‏{‏وأضل فرعون قومه وما هدى‏}‏ ردَّ عليه حيث قال‏:‏ ‏{‏وما أهديكم إلاَّ سبيل الرشاد‏}‏ ثمَّ ذكر مِننه على بني إسرائيل فقال‏:‏

‏{‏قد أنجيناكم من عدوكم‏}‏ فرعون ‏{‏وواعدناكم‏}‏ لإِيتاء الكتاب ‏{‏جانب الطور الأيمن‏}‏ وذلك أنَّ الله سبحانه وعد موسى أن يأتي هذا المكان، فيؤتيه كتاباً فيه الحلال والحرام والأحكام، ووعدهم موسى أن يأتي هذا المكان عند ذهابه عنهم ‏{‏ونزلنا عليكم المنَّ والسلوى‏}‏ يعني‏:‏ في التِّيه‏.‏

‏{‏كلوا‏}‏ أيْ‏:‏ وقلنا لهم‏:‏ كلوا ‏{‏من طيبات‏}‏ حلالات ‏{‏ما رزقناكم ولا تطغوا‏}‏ ولا تكفروا النِّعمة ‏{‏فيه فيحلَّ‏}‏ فيجب ‏{‏عليكم غضبي ومن يحلل‏}‏ ‏[‏يجب‏]‏ ‏{‏عليه غضبي فقد هوى‏}‏ هلك وصار إلى الهاوية‏.‏

‏{‏وإني لغفار لمن تاب‏}‏ من الشِّرك ‏{‏وآمن‏}‏ وصدَّق بالله ‏{‏وعمل صالحاً‏}‏ بطاعة الله ‏{‏ثمَّ اهتدى‏}‏ أقام على ذلك حتى مات عليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏83- 87‏]‏

‏{‏وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى ‏(‏83‏)‏ قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ‏(‏84‏)‏ قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ ‏(‏85‏)‏ فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي ‏(‏86‏)‏ قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ ‏(‏87‏)‏‏}‏

‏{‏وما أعجلك عن قومك‏}‏ يعني‏:‏ السَّبعين الذين اختارهم، وذلك أنَّه سبقهم شوقاً إلى ميعاد الله، وأمرهم أن يتَّبعوه، فذلك قوله‏:‏

‏{‏قال‏:‏ هم أولاء على أثري‏}‏ يجيئون بعدي ‏{‏وعجلت إليك‏}‏ بسبقي إيَّاهم ‏{‏لترضى‏}‏ لتزداد عني رضىً‏.‏

‏{‏قال فإنا فد فتنا قومك‏}‏ أَيْ‏:‏ ألقيناهم في الفتنة واختبرناهم ‏{‏من بعدك‏}‏ من بعد خروجك من بينهم ‏{‏وأضلهم السامريُّ‏}‏ بدعائهم إلى عبادة العجل‏.‏

‏{‏فرجع موسى إلى قومه غضان أسفاً‏}‏ شديد الحزن‏.‏ ‏{‏قال‏:‏ يا قوم ألم يعدكم ربكم وعداً حسناً‏}‏ أنَّه يعطيكم التَّوراة ‏[‏صدقاً‏]‏ لذلك الموعد‏.‏ ‏{‏أفطال عليكم العهد‏}‏ مدَّة مفارقتي إيَّاكم ‏{‏أم أردتم أن يحل‏}‏ أن يجب ‏{‏عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي‏}‏ باتِّخاذ العجل ولم تنظروا رجوعي إليكم‏.‏

‏{‏قالوا‏:‏ ما أخلفنا موعدك بملكنا‏}‏ ‏[‏باختيارنا‏]‏ ونحن نملك من أمرنا شيئاً، ولكنَّ السَّامريَّ استغوانا وهو معنى قوله‏:‏ ‏{‏ولكنا حملنا أوزاراً‏}‏ أثقالاَ ‏{‏من زينة القوم‏}‏ من حُلي آل فرعون ‏{‏فقذفناها‏}‏ ألقيناها في النَّار بأمر السَّامِرِيَّ، وذلك أنَّه قال‏:‏ اجمعوها وألقوها في النَّار ليرجع موسى، فيرى فيها رأيه ‏{‏فكذلك ألقى السامري‏}‏ ما معه من الحُلِّي في النَّار، وهو قوله‏:‏ ‏{‏فكذلك ألقى السامري‏}‏ ثمَّ صاغ لهم عجلاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏88- 94‏]‏

‏{‏فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ ‏(‏88‏)‏ أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا ‏(‏89‏)‏ وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي ‏(‏90‏)‏ قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى ‏(‏91‏)‏ قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا ‏(‏92‏)‏ أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ‏(‏93‏)‏ قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ‏(‏94‏)‏‏}‏

‏{‏فأخرج لهم عجلاً جسداً‏}‏ لحماً ودماً ‏{‏له خوار‏}‏ صوت، فسجدوا له، وافتتنوا به، وقالوا‏:‏ ‏{‏هذا إلهكم وإله موسى فنسي‏}‏ فتركه ها هنا وخرج يطلبه‏.‏ قال الله تعالى احتجاجاً عليهم‏:‏

‏{‏أفلا يرون ألا يرجع‏}‏ أنَّه لا يرجع ‏{‏إليهم قولاً‏}‏ لا يُكلِّمهم العجل ولا يجيبهم ‏{‏ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً‏}‏‏.‏

‏{‏ولقد قال لهم هارون من قبل‏}‏ من قبل رجوع موسى‏:‏ ‏{‏يا قوم إنما فتنتم به‏}‏ ابتليتم بالعجل ‏{‏وإنَّ ربكم الرحمن‏}‏ لا العجل ‏{‏فاتبعوني‏}‏ على ديني ‏{‏وأطيعوا أمري‏}‏‏.‏

‏{‏قالوا لن نبرح عليه عاكفين‏}‏ على عبادته مقيمين ‏{‏حتى يرجع إلينا موسى‏}‏ فلمَّا رجع موسى‏.‏

‏{‏قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا‏}‏ أخطأوا الطَّريق بعبادة العجل ‏{‏أن لا تتبعني‏}‏ أن تتبعني وتلحق بي وتخبرني‏؟‏ ‏{‏أفعصيت أمري‏}‏ حيث أقمتَ فيما بينهم وهم يعبدون غير الله‏!‏‏؟‏ ثمَّ أخذ شعر رأسه بيمينه ولحيته بشماله غضباً وإنكاراً عليه، فقال‏:‏

‏{‏يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرَّقت بين بني إسرائيل‏}‏ خشيت إن فارقتهم واتَّبعتك أن يصيروا حزبين يقتل بعضهم بعضاً، فتقول‏:‏ أوقعتَ الفرقة فيما بينهم ‏{‏ولم ترقب قولي‏}‏ لم تحفظ وصيتي في حسن الخلافة عليهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏95- 98‏]‏

‏{‏قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ ‏(‏95‏)‏ قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ‏(‏96‏)‏ قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا ‏(‏97‏)‏ إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ‏(‏98‏)‏‏}‏

ثمَّ أقبل موسى على السَّامري فقال‏:‏

‏{‏فما خطبك‏}‏ فما قصَّتك وما الذي تخاطب به فيما صنعت‏؟‏

‏{‏وقال‏:‏ بصرت بما لم يبصروا به‏}‏ علمت ما لم يعلمه بنو إسرائيل‏.‏ قال موسى‏:‏ وما ذلك‏؟‏ قال‏:‏ رأيت جبريل عليه السَّلام على فرس الحياة، فأُلقي في نفسي أن أقبض من أثرها، فما ألقيته على شيءٍ إلاَّ صار له روحٌ ولحمٌ ودمٌ، فحين رأيتُ قومك سألوك أن تجعل لهم إلهاً زيَّنت لي نفسي ذلك، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها‏}‏ طرحتها في العجل ‏{‏وكذلك سوَّلت لي نفسي‏}‏ حدَّثتني نفسي‏.‏

‏{‏قال‏}‏ له موسى صلوات الله عليه‏:‏ ‏{‏فاذهب فإنَّ لك في الحياة‏}‏ يعني‏:‏ ما دمت حيَّاً ‏{‏أن تقول لا مساس‏}‏ لا تخالط أحداً ولا يخالطك، وأمر موسى بني إسرائيل ألا يخالطوه، وصار السَّامريُّ بحيث لو مسَّه أحدٌ أو مسَّ هو أحداً حُمَّ كلاهما ‏{‏وإن لك موعداً‏}‏ لعذابك ‏{‏لن تخلفه‏}‏ لن يُخلفكه الله ‏{‏وانظر إلى إلهك‏}‏ معبودك ‏{‏الذي ظلت عليه عاكفاً‏}‏ دمتَ عليه مقيماً تعبده ‏{‏لنحرقنَّه‏}‏ بالنَّار ‏{‏ثمَّ لننسفنَّه‏}‏ لنذرينَّه في البحر‏.‏

‏{‏إنما إلهكم الله الذي لا إله إلاَّ هو‏}‏ لا العجل ‏{‏وسع كلَّ شيء علماً‏}‏ علم كلَّ شيء علماً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏99- 107‏]‏

‏{‏كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آَتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا ‏(‏99‏)‏ مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا ‏(‏100‏)‏ خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا ‏(‏101‏)‏ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا ‏(‏102‏)‏ يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا ‏(‏103‏)‏ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا ‏(‏104‏)‏ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا ‏(‏105‏)‏ فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا ‏(‏106‏)‏ لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا ‏(‏107‏)‏‏}‏

‏{‏كذلك‏}‏ كما قصصنا عليك هذه القصَّة ‏{‏نقص عليك من أنباءِ ما قد سبق‏}‏ من الأمور ‏{‏وقد آتيناك من لدنا ذكراً‏}‏ يعني‏:‏ القرآن‏.‏

‏{‏من أعرض عنه‏}‏ فلم يؤمن به ‏{‏فإنه يحمل يوم القيامة وزراً‏}‏ حملاً ثقيلاً من الكفر‏.‏

‏{‏خالدين فيه‏}‏ لا يغفر ربك لهم ذلك، ولا يكفِّر عنهم شيء ‏{‏وساء لهم يوم القيامة حملاً‏}‏ بئس ما حملوا على أنفسهم من المآثم كفراً بالقرآن‏.‏

‏{‏يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين‏}‏ الذين اتَّخذوا مع الله إلهاً آخر ‏{‏يؤمئذ زرقاً‏}‏ زرق العيون سود الوجوه‏.‏

‏{‏يتخافتون‏}‏ يتساررون ‏{‏بينهم إن لبثهم‏}‏ ما لبثتم في قبوركم إلاَّ عشر ليالٍ يريدون‏:‏ ما بين النَّفختين، وهو أربعون سنة يُرفع العذاب في تلك المدَّة عن الكفَّار، فيستقصرون تلك المدَّة إذا عاينوا هول القيامة، قال الله تعالى‏:‏

‏{‏نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة‏}‏ أعدلهم قولاً ‏{‏إن لبثتم إلاَّ يوماً‏}‏‏.‏

‏{‏ويسألونك عن الجبال‏}‏ سألوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم كيف تكون الجبال يوم القيامة‏؟‏ ‏{‏فقل ينسفها ربي نسفاً‏}‏ يصيِّرها كالهباء المنثور حتى تستوي مع الأرض، وهو قوله‏:‏

‏{‏فيذرها قاعاً صفصفاً‏}‏ مكاناً مستوياً‏.‏

‏{‏لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً‏}‏ انخفاضاً وراتفاعاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏108- 113‏]‏

‏{‏يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا ‏(‏108‏)‏ يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا ‏(‏109‏)‏ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ‏(‏110‏)‏ وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا ‏(‏111‏)‏ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا ‏(‏112‏)‏ وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا ‏(‏113‏)‏‏}‏

‏{‏يومئذ يتبعون الداعي‏}‏ الذي يدعوهم إلى موقف القيامة، ولا يقدرون ألا يتَّبعوا ‏{‏وخشعت‏}‏ سكنت ‏{‏الأصوات للرحمن فلا تسمع إلاَّ همساً‏}‏ وَطْءَ الأقدام في نقلها إلى المحشر‏.‏

‏{‏يومئذ‏}‏ يوم القيامة ‏{‏لا تنفع الشفاعة‏}‏ أحداً ‏{‏إلاَّ مَنْ أذن له الرحمن‏}‏ في أن يُشفَع له، وهم المسلمون الذين رضي الله قولهم؛ لأنَّهم قالوا‏:‏ لا إله إلاَّ الله، وهذا معنى قوله‏:‏ ‏{‏ورضي له قولاً‏}‏‏.‏

‏{‏يعلم ما بين أيديهم‏}‏ من أمر الآخرة ‏{‏وما خلفهم‏}‏ في أمر الدُّنيا‏.‏ وقيل‏:‏ ما قدَّموا وما خلَّفوا من خيرٍ وشرٍّ ‏{‏ولا يحيطون به علماً‏}‏ وهم لا يعلمون ذلك‏.‏

‏{‏وعنت الوجوه‏}‏ خضعت وذلَّت ‏{‏للحيّ القيوم وقد خاب مَنْ حمل ظلماً‏}‏ خسر مَنْ أشرك بالله‏.‏

‏{‏ومَنْ يعمل من الصالحات‏}‏ الطَّاعات لله ‏{‏وهو مؤمن‏}‏ مصدِّق بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏فلا يخاف ظلماً ولا هضماً‏}‏ لا يخاف أن يزاد في سيئاته، ولا ينقص من حسناته‏.‏

‏{‏وكذلك‏}‏ وهكذا ‏{‏أنزلناه قرآناً عربياً وصرَّفنا‏}‏ بيَّنا ‏{‏فيه من الوعيد لعلَّهم يتقون أو يحدث لهم‏}‏ القرآن ‏{‏ذكراً‏}‏ وموعظة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏114- 115‏]‏

‏{‏فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ‏(‏114‏)‏ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ‏(‏115‏)‏‏}‏

‏{‏ولا تعجل بالقرآن‏}‏ كان إذا نزل جبريل عليه السَّلام بالوحي يقرؤه مع جبريل عليه السَّلام مخافة النِّسيان، فأنزل الله سبحانه‏:‏ ‏{‏ولا تعجل بالقرآن‏}‏ أَيْ‏:‏ بقراءته ‏{‏من قبل أن يقضى إليك وحيه‏}‏ من قبل أن يفرغ جبريل ممَّا يريد من التَّلاوة ‏{‏وقل رب زدني علماً‏}‏ بالقرآن، وكان كلمة نزل عليه شيء من القرآن ازداد به علماً‏.‏

‏{‏ولقد عهدنا إلى آدم‏}‏ أمرنا وأوصينا إليه ‏{‏من قبل‏}‏ هؤلاء الذين تركوا أمري، ونقضوا عهدي في تكذيبك ‏{‏فنسي‏}‏ فترك ما أمر به ‏{‏ولم نجد له عزماً‏}‏ حفظاً لما أُمر به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏119- 122‏]‏

‏{‏وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى ‏(‏119‏)‏ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى ‏(‏120‏)‏ فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ‏(‏121‏)‏ ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ‏(‏122‏)‏‏}‏

‏{‏ولا تضحى‏}‏ أَيْ‏:‏ لا يؤذيك حرُّ الشَّمس‏.‏ وقوله‏:‏

‏{‏شجرة الخلد‏}‏ يعني‏:‏ مَنْ أكل منها لم يمت‏.‏ وقوله‏:‏

‏{‏فغوى‏}‏ فأخطأ ولم ينل مراده ممَّا أكل‏.‏ ويقال‏:‏ لم يرشد‏.‏

‏{‏ثم اجتباه‏}‏ اختاره ‏{‏ربه فتاب عليه‏}‏ عاد عليه بالرَّحمة والمغفرة ‏{‏وهدى‏}‏ أي‏:‏ هداه إلى التَّوبة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏124- 125‏]‏

‏{‏وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ‏(‏124‏)‏ قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا ‏(‏125‏)‏‏}‏

‏{‏من أعرض عن ذكري‏}‏ موعظتي، وهي القرآن ‏{‏فإنَّ له معيشة ضنكاً‏}‏ ضيقى‏.‏

يعني‏:‏ في جهنَّم وقيل‏:‏ يعني عذاب القبر‏.‏ ‏{‏ونحشره يوم القيامة أعمى‏}‏ البصر‏.‏ ‏{‏قال ربِّ لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏126- 131‏]‏

‏{‏قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ‏(‏126‏)‏ وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآَيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى ‏(‏127‏)‏ أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى ‏(‏128‏)‏ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى ‏(‏129‏)‏ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى ‏(‏130‏)‏ وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ‏(‏131‏)‏‏}‏

‏{‏قال كذلك أتتك آياتنا‏}‏ يقول‏:‏ كما أتتك آياتي ‏{‏فنسيتها‏}‏ فتركتها ولم تؤمن بها ‏{‏وكذلك اليوم تنسى‏}‏ تُترك في جهنَّم‏.‏

‏{‏وكذلك‏}‏ وكما نجزي مَنْ أعرض عن القرآن ‏{‏نجزي مَنْ أسرف‏}‏ أشرك‏.‏

‏{‏ولعذاب الآخرة أشدُّ‏}‏ ممَّا يُعذِّبهم به في الدُّنيا والقبر ‏{‏وأبقى‏}‏ وأدوم‏.‏

‏{‏أفلم يهد لهم‏}‏ أفلم يتبيَّن لهم بياناً يهتدون به ‏{‏وكم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون‏}‏ هؤلاء إذا سافروا في مساكن أولئك الذين أهلكناهم بتكذيب الأنبياء ‏{‏إنَّ في ذلك لآيات‏}‏ لعبراً ‏{‏لأولي النهى‏}‏ لذوي العقول‏.‏

‏{‏ولولا كلمة سبقت من ربك‏}‏ في تأخير العذاب عنهم ‏{‏لكان لزاماً‏}‏ لكان العذاب لازماً لهم في الدُّنيا ‏{‏وأجل مسمى‏}‏ وهو القيامة‏.‏ وقوله‏:‏

‏{‏وسبح بحمد ربك‏}‏ صلِّ لربِّك ‏{‏قبل طلوع الشمس‏}‏ صلاة الفجر ‏{‏وقبل غروبها‏}‏ صلاة العصر ‏{‏ومن آناء الليل فسبح‏}‏ فصلِّ المغرب والعشاء الآخرة ‏{‏وأطراف النهار‏}‏ صلِّ صلاة الظُّهر في طرف النِّصف الثاني، وسمَّى الواحد باسم الجمع ‏{‏لعلك ترضى‏}‏ لكي ترضى من الثَّواب في المعاد‏.‏

‏{‏ولا تمدنَّ عينيك‏}‏ مُفسَّر في سورة الحجر‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏زهرة الحياة الدنيا‏}‏ أَي‏:‏ زينتها وبهجتها ‏{‏لنفتنهم فيه‏}‏ لتجعل ذلك فتنةً لهم ‏{‏ورزق ربك‏}‏ لك في المعاد ‏{‏خير وأبقى‏}‏ أكثر وأدوم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏132- 135‏]‏

‏{‏وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ‏(‏132‏)‏ وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى ‏(‏133‏)‏ وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى ‏(‏134‏)‏ قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى ‏(‏135‏)‏‏}‏

‏{‏وأمر أهلك بالصلاة‏}‏ يعني‏:‏ قريشاً‏.‏ وقيل‏:‏ أهل بيته ‏{‏لا نسألك رزقاً‏}‏ لخلقنا ولا لنفسك ‏{‏نحن نرزقك والعاقبة‏}‏ الجنَّة ‏{‏للتقوى‏}‏ لأهل التَّقوى‏.‏ يعني‏:‏ لك ولمن صدَّقك، ونزلت هذه الآيات لمَّا استسلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهوديٍّ وأبى أن يعطيه إلاَّ برهنٍ، وحزن لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

‏{‏وقالوا‏}‏ يعني‏:‏ المشركين ‏{‏لولا‏}‏ هلاَّ ‏{‏يأتينا‏}‏ محمَّد عليه السَّلام ‏{‏بآية من ربه‏}‏ ممَّا كانوا يقترحون من الآيات‏.‏ قال الله‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ تأتهم بيِّنة‏}‏ بيان ‏{‏ما في الصحف الأولى‏}‏ يعني‏:‏ في القرآن بيان ما في التَّوراة والإِنجيل والزَّبور‏.‏

‏{‏ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله‏}‏ من قبل نزول القرآن‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏من قبل أن نذل‏}‏ بالعذاب ‏{‏ونخزى‏}‏ في جهنَّم‏.‏

‏{‏قل‏}‏ يا محمَّد لهم‏:‏ ‏{‏كلٌّ متربص‏}‏ منتظرٌ دوائر الزَّمان، ولمَنْ يكون النَّصر ‏{‏فتربصوا فستعلمون‏}‏ في القيامة ‏{‏من أصحاب الصراط السويّ‏}‏ المسقيم ‏{‏ومن اهتدى‏}‏ من الضَّلالة نحن أم أنتم‏.‏