فصل: سورة الأنبياء

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***


سورة الأنبياء

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ‏(‏1‏)‏ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ‏(‏2‏)‏ لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏اقترب للناس‏}‏ يعني‏:‏ أهل مكَّة ‏{‏حسابهم‏}‏ وقت محاسبة الله إيَّاهم على أعمالهم‏.‏ يعني‏:‏ القيامة ‏{‏وهم في غفلة‏}‏ عن التَّأهُّب لذلك ‏{‏معرضون‏}‏ عن الإِيمان‏.‏

‏{‏ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث‏}‏ يعني‏:‏ ما يحدث الله تعالى من تنزيل شيءٍ من القرآن يُذكِّرهم ويعظهم به ‏{‏إلاَّ استمعوه وهم يلعبون‏}‏ يستهزئون به‏.‏

‏{‏لاهية‏}‏ غافلةً ‏{‏قلوبهم وأسروا النجوى‏}‏ قالوا سرّاً فيما بينهم ‏{‏الذين ظلموا‏}‏ أشركوا، وهم أنَّهم قالوا‏:‏ ‏{‏هل هذا‏}‏ يعنون محمَّداً ‏{‏إلاَّ بشرٌ مثلكم‏}‏ لحمٌ ودمٌ ‏{‏أفتأتون السحر‏}‏ يريدون‏:‏ إنَّ القرآن سحرٌ ‏{‏وأنتم تبصرون‏}‏ أنَّه سحر، فلمَّا أطلع الله سبحانه نبيَّه صلى الله عليه وسلم على هذا السِّرِّ الذي قالوه، أخبر أنَّه يعلم القول في السَّماء والأرض‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 8‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏4‏)‏ بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآَيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ ‏(‏5‏)‏ مَا آَمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ ‏(‏6‏)‏ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏7‏)‏ وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏قل ربي يعلم القول‏}‏ أَيْ‏:‏ ما يقال ‏{‏في السماء والأرض وهو السميع‏}‏ للأقوال ‏{‏العليم‏}‏ بالأفعال، ثمَّ أخبر انَّ المشركين اقتسموا القول في القرآن، وأخذوا ينقضون أقوالهم بعضها ببعض، فيقولون مرَّةً‏:‏

‏{‏أضغاث أحلام‏}‏ أَيْ‏:‏ أباطيلها‏.‏ يعنون أنَّه يرى ما يأتي به في النَّوم رؤيا باطلة، ومرَّةً هو مفترىً، ومرَّةً هو شعرٌ، ومحمَّد شاعرٌ ‏{‏فليأتنا بآية كما أرسل الأولون‏}‏ بالآيات، مثل‏:‏ النَّاقة، والعصا، واليد، فاقترحوا الآيات التي لا يقع معها إمهالٌ إذا كُذِّب بها، فقال الله تعالى‏:‏

‏{‏ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها‏}‏ بالآيات التي اقترحوها ‏{‏أفهم يؤمنون‏}‏ يريد‏:‏ إنَّ اقتراح الآيات كان سبباً للعذاب والاستئصال للقرون الماضية، وكذلك يكون لهؤلاء‏.‏

‏{‏وما أرسلنا قبلك إلاَّ رجالاً نوحي إليهم‏}‏ ردّاً لقولهم ‏{‏هل هذا إلاَّ بشر مثلكم‏}‏‏.‏ ‏{‏فاسألوا‏}‏ يا أهل مكَّة ‏{‏أهل الذكر‏}‏ مَنْ آمن من أهل الكتاب ‏{‏إن كنتم لا تعلمون‏}‏ أنَّ الرُّسل بشر‏.‏

‏{‏وما جعلناهم‏}‏ أي‏:‏ الرُّسل ‏{‏جسداً‏}‏ أَيْ‏:‏ أجساداً ‏{‏لا يأكلون الطعام‏}‏ وهذا ردٌّ لقولهم‏:‏ ‏{‏ما لهذا الرسول يأكل الطعام‏}‏ فأُعلموا أنَّ الرُّسل جميعاً كانوا يأكلون الطَّعام، وأنَّهم يموتون، وهو قوله‏:‏ ‏{‏وما كانوا خالدين‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 15‏]‏

‏{‏ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ ‏(‏9‏)‏ لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏10‏)‏ وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِينَ ‏(‏11‏)‏ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ ‏(‏12‏)‏ لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ ‏(‏13‏)‏ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ‏(‏14‏)‏ فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏ثم صدقناهم الوعد‏}‏ ما وعدناهم من عذاب مَنْ كفر بهم، وإنجائهم مع مَنْ تابعهم، وهو قوله‏:‏ ‏{‏فأنجيناهم ومَنْ نشاء وأهلكنا المسرفين‏}‏ المشركين‏.‏

‏{‏لقد أنزلنا إليكم‏}‏ يا معشر قريش ‏{‏كتاباً فيه ذكركم‏}‏ شرفكم ‏{‏أفلا تعقلون‏}‏ ما فضَّلكم به على غيركم‏؟‏‏!‏

‏{‏وكم قصمنا‏}‏ أهلكنا ‏{‏من قرية كانت ظالمة‏}‏ يعني‏:‏ إنَّ أهلها كانوا كفَّاراً ‏{‏وأنشأنا‏}‏ أحدثنا ‏{‏بعدها‏}‏ بعد إهلاك أهلها ‏{‏قوماً آخرين‏}‏ نزلت في أهل قرىً باليمن كذَّبوا نبيَّهم وقتلوه، فسلَّط الله سبحانه عليهم بختنصَّر حتى أهلكهم بالسَّيف، فذلك قوله‏:‏

‏{‏فلما أحسوا بأسنا‏}‏ رأوا عذابنا ‏{‏إذا هم منها‏}‏ من قريتهم ‏{‏يركضون‏}‏ يسرعون هاربين‏.‏ وتقول لهم الملائكة‏.‏

‏{‏لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه‏}‏ نَعِمْتُم فيه ‏{‏لعلكم تسألون‏}‏ من دنياكم شيئاً‏.‏ قالت الملائكة لهم هذا على سبيل الاستهزاء بهم، كأنَّهم قيل لهم‏:‏ ارجعوا إلى ما كنتم فيه من المال والنِّعمة لعلكم تُسألون، فإنَّكم أغنياء تملكون المال، فلمَّا رأَوا ذلك أقرُّوا على أنفسهم حيث لم ينفعهم، فقالوا‏:‏

‏{‏يا ويلنا إنا كنا ظالمين‏}‏ لأنفسنا بتكذيب الرُّسل‏.‏

‏{‏فما زالت‏}‏ هذه المقالة ‏{‏دعواهم‏}‏ يدعون بها، ويقولون‏:‏ يا ويلنا ‏{‏حتى جعلناهم حصيداً‏}‏ بالسُّيوف كما يحصد الزَّرع ‏{‏خامدين‏}‏ ميِّتين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 23‏]‏

‏{‏وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ ‏(‏16‏)‏ لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ ‏(‏17‏)‏ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ‏(‏18‏)‏ وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ ‏(‏19‏)‏ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ ‏(‏20‏)‏ أَمِ اتَّخَذُوا آَلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ ‏(‏21‏)‏ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ‏(‏22‏)‏ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين‏}‏ عبثاً وباطلاً، أَيْ‏:‏ ما خلقتهما إلاَّ لأُجازي أوليائي، وأُعذِّب أعدائي‏.‏

‏{‏لو أردنا أن نتخذ لهواً‏}‏ امرأةً‏.‏ وقيل‏:‏ ولداً ‏{‏لاتخذناه من لدنا‏}‏ بحيث لا يظهر لكم، ولا تطَّلعون عليه ‏{‏إن كنا فاعلين‏}‏ ما كنَّا فاعلين، ولسنا ممَّن يفعله‏.‏

‏{‏بل نقذف بالحق على الباطل‏}‏ نُلقي القرآن على باطلهم ‏{‏فيدمغه‏}‏ فيذهبه ويكسره ‏{‏فإذا هو زاهقٌ‏}‏ ذاهبٌ ‏{‏ولكم الويل‏}‏ يا معشر الكفَّار ‏{‏مما تصفون‏}‏ الله تعالى بما لا يليق به‏.‏

‏{‏وله من في السموات والأرض‏}‏ عبيداً وملكاً ‏{‏ومَنْ عنده‏}‏ يعني‏:‏ الملائكة ‏{‏لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون‏}‏ لا يملُّون ولا يعيون‏.‏

‏{‏يسبحون الليل والنهار لا يفترون‏}‏ لا يضعفون‏.‏

‏{‏أم اتخذوا آلهةً من الأرض‏}‏ يعني‏:‏ الأصنام ‏{‏هم ينشرون‏}‏ يحيون الأموات، والمعنى‏:‏ أَتنشر آلهتهم التي اتَّخذوها‏؟‏

‏{‏لو كان فيهما‏}‏ في السَّماء والأرض ‏{‏آلهةٌ إلاَّ اللَّهُ‏}‏ غير الله ‏{‏لفسدتا‏}‏ لخربتا وهلك مَنْ فيهما بوقوع التَّنازع بين الآلهة‏.‏

‏{‏لا يُسأل عما يفعل‏}‏ عن حكمه في عباده ‏{‏وهم يُسألون‏}‏ عمَّا عملوا سؤال توبيخ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 35‏]‏

‏{‏أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏24‏)‏ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ‏(‏25‏)‏ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ ‏(‏26‏)‏ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ‏(‏27‏)‏ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ‏(‏28‏)‏ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ‏(‏29‏)‏ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏30‏)‏ وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ‏(‏31‏)‏ وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آَيَاتِهَا مُعْرِضُونَ ‏(‏32‏)‏ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ‏(‏33‏)‏ وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ‏(‏34‏)‏ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

‏{‏أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم‏}‏ حجَّتكم على أن مع الله تعالى معبوداً غيره‏.‏ ‏{‏هذا ذكر مَنْ معي‏}‏ يعني‏:‏ القرآن ‏{‏وذكر مَنْ قبلي‏}‏ يعني‏:‏ التَّوراة والإِنجيل، فهل في واحدٍ من هذه الكتب إلاَّ توحيد الله سبحانه وتعالى‏؟‏ ‏{‏بل أكثرهم لا يعلمون الحق‏}‏ فلا يتأمَّلون حجَّة التَّوحيد، وهو قوله‏:‏ ‏{‏فهم معرضون‏}‏‏.‏

‏{‏وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ يريد‏:‏ لم يُبعثْ رسولٌ إلاَّ بتوحيد الله سبحانه، ولم يأتِ رسولٌ أُمّته بأنَّ لهم إلهاً غير الله‏.‏

‏{‏وقالوا اتخذ الرحمن ولداً‏}‏ يعني‏:‏ الذين قالوا‏:‏ الملائكة بنات الله، والمعنى وقالوا‏:‏ اتَّخذ الرحمن ولداً من الملائكة ‏{‏سبحانه‏}‏ ثمَّ نزَّه نفسه عمَّا يقولون ‏{‏بل‏}‏ هم ‏{‏عباد مكرمون‏}‏ يعني‏:‏ الملائكة مكرمون بإكرام الله إيَّاهم‏.‏

‏{‏لا يسبقونه بالقول‏}‏ لا يتكلَّمون إلاَّ بما يأمرهم به ‏{‏وهم بأمره يعملون‏}‏‏.‏

‏{‏يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم‏}‏ ما عملوا، وما هم عاملون ‏{‏ولا يشفعون إلاَّ لمن ارتضى‏}‏ لمن قال‏:‏ لا إله إلاَّ الله ‏{‏وهم من خشيته مشفقون‏}‏ خائفون؛ لأنَّهم لا يأمنون مكر الله‏.‏

‏{‏ومَنْ يقل منهم‏}‏ من الملائكة ‏{‏إني إلهٌ من دونه‏}‏ من دون الله تعالى ‏{‏فذلك نجزيه جهنم‏}‏ يعني‏:‏ إبليس حيث ادَّعى الشِّركة في العبادة، ودعا إلى عبادة نفسه ‏{‏كذلك نجزي الظالمين‏}‏ المشركين الذين يعبدون غير الله تعالى‏.‏

‏{‏أَوَلَمْ يَر‏}‏ أولم يعلم ‏{‏الذين كفروا أنَّ السموات والأرض كانتا رتقاً‏}‏ مسدودةً ‏{‏ففتقناهما‏}‏ بالماء والنَّبات، كانت السَّماء لا تُمطر، والأرض لا تُنبت، ففتحهما الله سبحانه بالمطر والنَّبات ‏{‏وجعلنا من الماء‏}‏ وخلقنا من الماء ‏{‏كلَّ شيء حي‏}‏ يعني‏:‏ إنَّ جميع الحيوانات مخلوقةٌ من الماء، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله خلق كلَّ دابَّةٍ من ماءٍ‏}‏ ثمَّ بكَّتهم على ترك الإيمان، فقال‏:‏ ‏{‏أفلا يؤمنون‏}‏‏.‏ وقوله‏:‏

‏{‏وجعلنا فيها‏}‏ في الرَّواسي ‏{‏فجاجاً سبلاً‏}‏ طرقاً مسلوكةً حتى يهتدوا‏.‏

‏{‏وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً‏}‏ بالنُّجوم من الشَّياطين ‏{‏وهم عن آياتها‏}‏ شمسها وقمرها ونجومها ‏{‏معرضون‏}‏ لا يتفكَّرون فيها‏.‏ وقوله‏:‏

‏{‏كلٌّ في فلك يسبحون‏}‏ يجرون ويسيرون، والفَلَكُ‏:‏ مدار النُّجوم‏.‏

‏{‏وما جَعَلْنا لبشر من قبلك الخلد‏}‏ دوام البقاء ‏{‏أفإن مت فهم الخالدون‏}‏ نزل حين قالوا‏:‏ ‏{‏نتربَّصُ به ريَب المنون‏}‏ وقوله‏:‏

‏{‏ونبلوكم‏}‏ نختبركم ‏{‏بالشر‏}‏ بالبلايا والفقر ‏{‏والخير‏}‏ المال والصِّحة ‏{‏فتنة‏}‏ ابتلاءً لننظر كيف شكركم وصبركم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 40‏]‏

‏{‏وَإِذَا رَآَكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آَلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ ‏(‏36‏)‏ خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ ‏(‏37‏)‏ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏38‏)‏ لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ‏(‏39‏)‏ بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏وإذا رآك الذين كفروا‏}‏ يعني‏:‏ المستهزئين ‏{‏إن يتخذونك‏}‏ ما يتَّخذونك ‏{‏إلاَّ هزواً‏}‏ مهزوءاً به، قالوا‏:‏ ‏{‏أهذا الذي يذكر آلهتكم‏}‏ يعيب أصنامكم ‏{‏وهم بذكر الرحمن هم كافرون‏}‏ جاحدون إلهيَّته، يريد أنَّهم يعيبون مَنْ جحد إلهيَّة أصنامهم وهم جاحدون إلهية الرَّحمن، وهذا غاية الجهل‏.‏

‏{‏خلق الإنسانُ من عجل‏}‏ يريد‏:‏ إنَّ خلقته على العجلة، وعليها طُبع ‏{‏سَأُرِيكم آياتي‏}‏ يعني‏:‏ ما توعدون به من العذاب ‏{‏فلا تستعجلون‏}‏‏.‏

‏{‏ويقولون متى هذا الوعد‏}‏ وعد القيامة‏.‏

‏{‏لو يعلم الذين كفروا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ وجواب ‏"‏ لو ‏"‏ محذوف، على تقدير‏:‏ لآمنوا ولما أقاموا على الكفر‏.‏

‏{‏بل تأتيهم‏}‏ القيامة ‏{‏بغتة‏}‏ فجأةً ‏{‏فتبهتهم‏}‏ تُحيِّرهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 43‏]‏

‏{‏قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏42‏)‏ أَمْ لَهُمْ آَلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

‏{‏قل مَنْ يَكْلَؤُكُمْ‏}‏ يحفظكم ‏{‏بالليل والنهار من الرحمن‏}‏ إن أنزل بكم عذابه ‏{‏بل هم عن ذكر ربهم‏}‏ كتاب ربِّهم ‏{‏معرضون‏}‏‏.‏

‏{‏أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا لا يستطعيون نصر أنفسهم‏}‏ فيكف تنصرتهم وتمنعهم‏؟‏‏!‏ ‏{‏ولا هم منا يصحبون‏}‏ لا يُجارون من عذابنا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏44- 50‏]‏

‏{‏بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ ‏(‏44‏)‏ قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ ‏(‏45‏)‏ وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ‏(‏46‏)‏ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ‏(‏47‏)‏ وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏48‏)‏ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ ‏(‏49‏)‏ وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

‏{‏بل متَّعنا هؤلاء‏}‏ الكفَّار ‏{‏وآباءهم حتى طال عليهم العمر‏}‏ أَيْ‏:‏ متَّعناهم بما أعطيناهم من الدُّنيا زماناً طويلاً، فقست قلوبهم ‏{‏أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرفاها‏}‏ بالفتح على محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏أفهم الغالبون‏}‏ أم النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه‏؟‏‏.‏

‏{‏قل إنما أنذركم‏}‏ أُخوِّفكم ‏{‏بالوحي‏}‏ بالقرآن الذي أوحي إليَّ، وأُمرت فيه بإنذاركم ‏{‏ولا يسمع الصم الدُّعاء إذا ما ينذرون‏}‏ كذلك أنتم يا معشر المشركين‏.‏ ‏{‏ولئن مستهم‏}‏ أصابتهم ‏{‏نفحة من عذاب ربك‏}‏ قليلٌ وأدنى شيءٍ لأقرّوا على أنفسهم بسوء صنيعهم، وهو قوله‏:‏ ‏{‏ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين‏}‏‏.‏

‏{‏ونضع الموازين القسط‏}‏ ذوات القسط، أي‏:‏ العدل ‏{‏فلا تظلم نفسٌ شيئاً‏}‏ لا يزاد على سيئاته ولا ينقص من ثواب حسناته ‏{‏وإن كان‏}‏ ذلك الشَّيء ‏{‏مثقال حبة‏}‏ وزن حبَّةٍ ‏{‏من خردل أتينا بها‏}‏ جئنا بها ‏{‏وكفر بنا حاسبين‏}‏ مُجازين، وفي هذا تهديد‏.‏

‏{‏ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان‏}‏ البرهان الذي فرَّق به ‏[‏بين‏]‏ حقّه وباطل فرعون‏.‏ ‏{‏وضياء‏}‏ يعني‏:‏ التَّوراة الذي كان ضياءً، يُضيء هدى ونوراً ‏{‏وذكراً‏}‏ وعِظَةً ‏{‏للمتقين‏}‏ من قومه‏.‏

‏{‏الذين يخشون ربهم بالغيب‏}‏ يخافونه ولم يروه‏.‏

‏{‏وهذا ذكر مبارك‏}‏ يعني‏:‏ القرآن ‏{‏أفأنتم له منكرون‏}‏ جاحدون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 53‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ‏(‏51‏)‏ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ‏(‏52‏)‏ قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

‏{‏ولقد آتينا إبراهيم رشده‏}‏ هُداه وتوفيقه ‏{‏من قبل‏}‏ من قبل موسى وهارون ‏{‏وكنا به عالمين‏}‏ أنَّه أهلٌ لما آتيناه‏.‏

‏{‏إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل‏}‏ الأصنام ‏{‏التي أنتم لها عاكفون‏}‏ على عبادتها مقيمون‏!‏‏.‏

‏{‏قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين‏}‏ فاقتدينا بهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏55- 60‏]‏

‏{‏قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ ‏(‏55‏)‏ قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ‏(‏56‏)‏ وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ ‏(‏57‏)‏ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ ‏(‏58‏)‏ قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏59‏)‏ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ ‏(‏60‏)‏‏}‏

‏{‏قالوا أجئتنا بالحق‏}‏ يعنون‏:‏ أَجادٌّ أنت فيما تقول أم لاعبٌ‏؟‏

‏{‏قال بل ربكم رب السموات والأرض الذي فطرهنَّ وأنا على ذلكم من الشاهدين‏}‏ أي‏:‏ أشهد على أنَّه خالقها‏.‏

‏{‏وتالله لأكيدنَّ أصنامكم‏}‏ لأمكرنَّ بها ‏{‏بعد أن تولوا مدبرين‏}‏ قال ذلك في يوم عيدٍ لهم، وهم يذهبون إلى الموضع الذي يجتمعون فيه‏.‏

‏{‏فجعلهم جذاذاً‏}‏ حطاماً ودقاقاً ‏{‏إلاَّ كبيراً لهم‏}‏ عظيم الآلهة فإنَّه لم يكسره ‏{‏لعلهم إليه‏}‏ إلى إبراهيم ودينه ‏{‏يرجعون‏}‏ إذا قامت الحُجَّة عليهم، فلمَّا انصرفوا

‏{‏قالوا من فعل هذا بآلهتنا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ قال الذين سمعوا قوله‏:‏ ‏{‏لأكيدن أصنامكم‏}‏‏:‏

‏{‏سمعنا فتى يذكرهم‏}‏ يعيبهم ‏{‏يقال له إبراهيم‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏61- 69‏]‏

‏{‏قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ ‏(‏61‏)‏ قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ ‏(‏62‏)‏ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ ‏(‏63‏)‏ فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏64‏)‏ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ ‏(‏65‏)‏ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ ‏(‏66‏)‏ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏67‏)‏ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ‏(‏68‏)‏ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ‏(‏69‏)‏‏}‏

‏{‏قالوا فأتوا به على أعين الناس‏}‏ على رؤوس النَّاس بمرأىً منهم ‏{‏لعلَّهم يشهدون‏}‏ عليه أنَّه الذي فعل ذلك، وكرهوا أن يأخذوه بغير بيِّنةٍ، فلمَّا أتوا به، ‏{‏قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم‏}‏‏؟‏

‏{‏قال بل فعله كبيرهم هذا‏}‏ غضب من أن يعبدوا معه الصِّغار، وأراد إقامه الحجَّة عليهم ‏{‏فاسألوهم‏}‏ مَنْ فعل بهم هذا ‏{‏إن كانوا ينطقون‏}‏ إن قدروا على النُّطق‏.‏

‏{‏فرجعوا إلى أنفسهم‏}‏ تفكَّروا ورجعوا إلى عقولهم ‏{‏فقالوا إنكم أنتم الظالمون‏}‏ هذا الرجل بسؤالكم إيَّاه، وهذه آلهتكم حاضرةٌ فاسألوها‏.‏

‏{‏ثم نكسوا على رؤوسهم‏}‏ أطرقوا لما لحقهم من الخجل، وأقرُّوا بالحجَّة عليهم فقالوا‏:‏ ‏{‏لقد علمت ما هؤلاء ينطقون‏}‏ فلمَّا اتَّجهت الحجَّة عليهم قال إبراهيم‏:‏

‏{‏أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئاً ولا يضركم‏}‏‏.‏

‏{‏أفٍ لكم‏}‏ أَيْ‏:‏ نتناً لكم، فلمَّا عجزوا عن الجواب‏.‏

‏{‏قالوا حرّقوه‏}‏ بالنَّار ‏{‏وانصروا آلهتكم‏}‏ بإهلاك مَنْ يعيبها ‏{‏إن كنتم فاعلين‏}‏ أمراً في أهلاكه، فلمَّا ألقوه في النَّار‏.‏

‏{‏قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم‏}‏ ذات بردٍ وسلامةٍ، لا يكون فيها بردٌ مضرٌّ، ولا حرٌّ مُؤذٍ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏70- 74‏]‏

‏{‏وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ ‏(‏70‏)‏ وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ‏(‏71‏)‏ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ ‏(‏72‏)‏ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ‏(‏73‏)‏ وَلُوطًا آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ ‏(‏74‏)‏‏}‏

‏{‏وأرادوا به‏}‏ بإبراهيم ‏{‏كيداً‏}‏ مكراً في إهلاكه ‏{‏فجعلناهم الأخسرين‏}‏ حين لم يرتفع مرادهم في الدُّنيا، ووقعوا في العذاب في الآخرة‏.‏

‏{‏ونجيناه‏}‏ من نمروذ وقومِه ‏{‏ولوطاً‏}‏ ابن أخيه ‏{‏إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين‏}‏ وهي الشَّام، وذلك أنَّه خرج مهاجراً من أرض العراق إلى الشَّام‏.‏

‏{‏ووهبنا له إسحاقَ‏}‏ ولداً لصلبه ‏{‏ويعقوب نافلة‏}‏ ولد الولد ‏{‏وكلاً جعلنا صالحين‏}‏ يعني‏:‏ هؤلاء الثَّلاثة‏.‏

‏{‏وجعلناهم أئمة‏}‏ يُقتدى بهم في الخير ‏{‏يهدون‏}‏ يدعون النَّاس إلى ديننا ‏{‏بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات‏}‏ أن يفعلوا الطَّاعات، ويقيموا الصَّلاة، ويؤتوا الزَّكاة‏.‏

‏{‏ولوطاً آتيناه حكماً‏}‏ فصلاً بين الخصوم بالحقِّ ‏{‏ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث‏}‏ يعني‏:‏ أهلها، كانوا يأتون الذُّكران في أدبارهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏76- 77‏]‏

‏{‏وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ‏(‏76‏)‏ وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏77‏)‏‏}‏

‏{‏ونوحاً إذ نادى من قبل‏}‏ من قبل إبراهيم ‏{‏فنجيناه وأهله من الكرب العظيم‏}‏ الغمِّ الذي كان فيه من أذى قومه‏.‏

‏{‏ونصرناه‏}‏ منعناه من أن يصلوا إليه بسوءٍ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏78- 82‏]‏

‏{‏وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ‏(‏78‏)‏ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ ‏(‏79‏)‏ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ ‏(‏80‏)‏ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ ‏(‏81‏)‏ وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

‏{‏إذ يحكمان في الحرث‏}‏ قيل‏:‏ كان ذلك زرعاً‏.‏ وقيل‏:‏ كان كرماً ‏{‏إذ نفشت‏}‏ رعت ليلاً ‏{‏فيه غنم القوم‏}‏ ‏[‏بلا راعٍ‏]‏ ‏{‏وكنا لحكمهم شاهدين‏}‏ لم يغبْ عن علمنا‏.‏

‏{‏ففهمناها سليمان‏}‏ ففهمنا القضيَّة سليمان دون داود عليهما السَّلام، وذلك أنَّ داود حكم لأهل الحرث برقاب الغنم، وحكم سليمان بمنافعها إلى أن يعود الحرث كما كان‏.‏ ‏{‏وسخرنا مع داود الجبال يسبحن‏}‏ يجاوبنه بالتَّسبيح ‏{‏و‏}‏ كذلك ‏{‏الطير وكنا فاعلين‏}‏ ذلك‏.‏

‏{‏وعلمناه صنعة لبوس لكم‏}‏ عمل ما يلبسونه من الدُّروع ‏{‏لتحصنكم‏}‏ لتحرزكم ‏{‏من بأسكم‏}‏ من حربكم ‏{‏فهل أنتم شاكرون‏}‏ نعمتنا عليكم‏؟‏‏.‏

‏{‏ولسليمان الريح‏}‏ وسخَّرنا له الرِّيح ‏{‏عاصفة‏}‏ شديدة الهبوب ‏{‏تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها‏}‏ يعني‏:‏ الشَّام، وكان منزل سليمان عليه السَّلام بها‏.‏

‏{‏ومن الشياطين‏}‏ وسخَّرنا له من الشَّياطين ‏{‏من يغوصون له‏}‏ يدخلون تحت الماء لاستخراج جواهر البحر ‏{‏ويعملون عملاً دون ذلك‏}‏ سوى الغوص ‏{‏وكنا لهم حافظين‏}‏ من أن يُفسدوا ما عملوا، وليصيروا تحت أمره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏83- 85‏]‏

‏{‏وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ‏(‏83‏)‏ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ‏(‏84‏)‏ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ ‏(‏85‏)‏‏}‏

‏{‏وأيوب إذ نادى ربه‏}‏ دعا ربَّه ‏{‏أني مسني الضرُّ‏}‏ أصابني الجهد‏.‏ وقوله‏:‏

‏{‏وآتيناه أهله ومثلهم معهم‏}‏ وهو أنَّ الله تعالى أحيا مَنْ أمات من بنيه وبناته، ورزقه مثلهم من الولد ‏{‏رحمة‏}‏ نعمةً ‏{‏من عندنا وذكرى للعابدين‏}‏ عظةً لهم ليعلموا بذلك كمال قدرتنا‏.‏ وقوله‏:‏

‏{‏وذا الكفل‏}‏ هو رجلٌ من بني إسرائيل تكفَّل بخلافه نبيٍّ في أُمَّته، فقام بذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏87- 89‏]‏

‏{‏وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏87‏)‏ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏88‏)‏ وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ ‏(‏89‏)‏‏}‏

‏{‏وذا النون‏}‏ واذكر صاحب الحوت، وهو يونس عليه السَّلام ‏{‏إذ ذهب‏}‏ من بين قومه ‏{‏مغاضباً‏}‏ لهم قبل أمرنا له بذلك ‏{‏فظن أن لن نقدر عليه‏}‏ أن لن نقضي عليه ما قضينا من حبسه في بطن الحوت ‏{‏فنادى في الظلمات‏}‏ ظلمة بطن الحوت، وظلمة البحر، وظلمة اللَّيل ‏{‏أن لا إله إلاَّ أنت سبحانك إني كنت من الظالمين‏}‏ حيث غاضبت قومي وخرجت من بينهم قبل الإذن‏.‏

‏{‏وكذلك‏}‏ وكما نجيناه ‏{‏ننجي المؤمنين‏}‏ من كربهم إذا استغاثوا بنا ودعونا‏.‏ وقوله‏:‏

‏{‏لا تذرني فرداً‏}‏ أَيْ‏:‏ وحيداً لا ولد لي ولا عقب، ‏{‏وأنت خير الوارثين‏}‏ خير من يبقى بعد مَنْ يموت‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏90- 96‏]‏

‏{‏فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ‏(‏90‏)‏ وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ ‏(‏91‏)‏ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ‏(‏92‏)‏ وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ ‏(‏93‏)‏ فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ ‏(‏94‏)‏ وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ‏(‏95‏)‏ حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ ‏(‏96‏)‏‏}‏

‏{‏وأصلحنا له زوجه‏}‏ بأن جعلناها ولوداً بعد أن صارت عقيماً ‏{‏إنهم كانوا يسارعون في الخيرات‏}‏ يُبادرون في عمل الطَّاعات ‏{‏ويدعوننا رغباً‏}‏ في رحمتنا ‏{‏ورهباً‏}‏ من عذابنا ‏{‏وكانوا لنا خاشعين‏}‏ عابدين في تواضع‏.‏

‏{‏والتي أحصنت‏}‏ واذكر التي منعت ‏{‏فرجها‏}‏ من الحرام ‏{‏فنفخنا فيها من روحنا‏}‏ أمرنا جبريل عليه السَّلام حتى نفخ في جيب درعها، والمعنى‏:‏ أجرينا فيها روح المسيح المخلوقة لنا ‏{‏وجعلناها وابنها آية للعالمين‏}‏ دلالةً لهم على كمال قدرتنا، وكانت الآيةُ فيهما جميعاً واحدةً، لذلك وُحِّدت‏.‏

‏{‏إنَّ هذه أمتكم‏}‏ دينكم وملَّتكم ‏{‏أمة واحدة‏}‏ ملَّة واحدة وهي الإِسلام‏.‏

‏{‏وتقطعوا أمرهم بينهم‏}‏ اختلفوا في الدّين فصاروا فرقاً ‏{‏كلٌّ إلينا راجعون‏}‏ فنجزيهم بأعمالهم‏.‏

‏{‏فمن يعمل من الصالحات‏}‏ الطَّاعات ‏{‏وهو مؤمنٌ‏}‏ مصدِّق بمحمَّدٍ عليه السَّلام ‏{‏فلا كفران لسعيه‏}‏ لا نُبطل عمله بل نُثيبه ‏{‏وإنا له كاتبون‏}‏ ما عمل حتى نجازيه‏.‏

‏{‏وحرام على قرية‏}‏ يعني‏:‏ قريةً كافرةً ‏{‏أهلكناها‏}‏ أهلكناها بعذاب الاستئصال أن يرجعوا إلى الدُّنيا، و‏"‏ لا ‏"‏ زائدةٌ في الآية، ومعنى ‏"‏ حرامٌ ‏"‏ عليهم أنَّهم ممنوعون من ذلك؛ لأنَّ الله تعالى قضى على مَنْ أُهلك أن يبقى في البرزخ إلى يوم القيامة‏.‏

‏{‏حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج‏}‏ من سدِّها ‏{‏وهم من كلِّ حدب‏}‏ نَشَز وتلٍّ ‏{‏ينسلون‏}‏ ينزلون مسرعين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏97- 99‏]‏

‏{‏وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ ‏(‏97‏)‏ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ‏(‏98‏)‏ لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آَلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏99‏)‏‏}‏

‏{‏واقترب الوعد الحق‏}‏ يعني‏:‏ القيامة، والواو زائدة؛ لأنَّ ‏"‏ اقترب ‏"‏ جواب ‏"‏ حتى ‏"‏‏.‏ ‏{‏فإذا هي شاخصة‏}‏ ذاهبةٌ لا تكاد تطرف من هول ذلك اليوم‏.‏ يقولون‏:‏ ‏{‏يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا‏}‏ في الدُّنيا عن هذا اليوم ‏{‏بل كنا ظالمين‏}‏ بالشِّرك وتكذيب الرُّسل‏.‏

‏{‏إنكم‏}‏ أيُّها المشركون ‏{‏وما تعبدون من دون الله‏}‏ يعني‏:‏ الأصنام ‏{‏حصب جهنم‏}‏ وقودها ‏{‏أنتم لها واردون‏}‏ فيها داخلون‏.‏

‏{‏لو كان هؤلاء‏}‏ الأصنام ‏{‏آلهة‏}‏ على الحقيقة ما دخلوا النَّار ‏{‏وكلٌّ‏}‏ من العابدين والمعبودين في النَّار ‏{‏خالدون‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏101- 103‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ‏(‏101‏)‏ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ ‏(‏102‏)‏ لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ‏(‏103‏)‏‏}‏

‏{‏إنَّ الذين سبقت لهم منا الحسنى‏}‏ السَّعادة والرَّحمة ‏{‏أولئك عنها‏}‏ عن النَّار ‏{‏مبعدون‏}‏‏.‏

‏{‏لا يسمعون حسيسها‏}‏ صوتها‏.‏

‏{‏لا يحزنهم الفزع الأكبر‏}‏ يعني‏:‏ الإِطباق على النَّار‏.‏ وقيل‏:‏ ذبح الموت بمرأىً من الفريقين ‏{‏وتتلقاهم الملائكة‏}‏ تستقبلهم، فيقولون لهم‏:‏ ‏{‏هذا يومكم الذي كنتم توعدون‏}‏ للثَّواب ودخول الجنَّة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏104- 107‏]‏

‏{‏يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ‏(‏104‏)‏ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ‏(‏105‏)‏ إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ ‏(‏106‏)‏ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ‏(‏107‏)‏‏}‏

‏{‏يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب‏}‏ وهو مَلَكٌ يطوي كتب بني آدم‏.‏ وقيل‏:‏ السِّجلُّ‏:‏ الصَّحيفة، والمعنى‏:‏ كطيِّ السِّجل على ما فيه من المكتوب‏.‏ ‏{‏كما بدأنا أوَّل خلق نعيده‏}‏ كما خلقناكم ابتداءً حُفاةً عُراةً غُرلاً، كذلك نُعيدكم يوم القيامة ‏{‏وعداً علينا‏}‏ أَيْ‏:‏ وعدناه وعداً ‏{‏إنا كنَّا فاعلين‏}‏ يعني‏:‏ الإِعادة والبعث‏.‏

‏{‏ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر‏}‏ قيل‏:‏ في الكتب المنزلة بعد التَّوراة‏.‏ وقيل‏:‏ أراد بالذِّكر اللَّوح المحفوظ ‏{‏أنَّ الأرض‏}‏ يعني‏:‏ أرض الجنَّة ‏{‏يرثها عبادي الصالحون‏}‏ وقيل‏:‏ أرض الدُّنيا تصير للمؤمنين من أُمَّة محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم‏.‏

‏{‏إنَّ في هذا‏}‏ القرآن ‏{‏لبلاغاً‏}‏ لوصولاً إلى البغية ‏{‏لقوم عابدين‏}‏ مُطيعين لله تعالى‏.‏

‏{‏وما أرسلناك إلاَّ رحمة للعالمين‏}‏ للبَرِّ والفاجر، فمن أطاعه عُجِّلت له الرَّحمة، ومَنْ عصاه وكذَّبه لم يلحقه العذاب في الدُّنيا، كما لحق الأمم المكذِّبة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏109‏]‏

‏{‏فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آَذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ ‏(‏109‏)‏‏}‏

‏{‏فإن تولوا‏}‏ عن الإسلام ‏{‏فقل آذنتكم على سواءٍ‏}‏ أعلمتكم بما يوحى إليَّ على سواءٍ لتستووا في ذلك، يريد‏:‏ لم أُظهر لبعضكم شيئاً كتمته عن غيره‏.‏ ‏{‏وإن أدري‏}‏ ما أعلم ‏{‏أقريب أم بعيد ما توعدون‏}‏ يعني‏:‏ القيامة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏111- 112‏]‏

‏{‏وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ‏(‏111‏)‏ قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ‏(‏112‏)‏‏}‏

‏{‏وإن أدري لعله‏}‏ لعلَّ تأخير العذاب عنكم ‏{‏فتنة‏}‏ اختبارٌ لكم ‏{‏ومتاعٌ إلى حين‏}‏ إلى حين الموت‏.‏

‏{‏قال رب احكم بالحق‏}‏ اقض بيني وبين أهل مكَّة بالحقِّ، أُمر أن يقول كما قالت الرُّسل قبله من قولهم‏:‏ ‏{‏ربَّنا افتحْ بيننا وبينَ قومِنا بالحقِّ‏}‏‏.‏ ‏{‏وربنا‏}‏ أَيْ‏:‏ وقل ربُّنا ‏{‏الرحمن المستعان على ما تصفون‏}‏ من كذبكم وباطلكم‏.‏

سورة الحج

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ‏(‏1‏)‏ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ‏(‏2‏)‏ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏يا أيها الناس‏}‏ يا أهل مكَّة ‏{‏اتقوا ربَّكم‏}‏ أطيعوه ‏{‏إن زلزلة الساعة شيء عظيم‏}‏ وهي زلزلةٌ يكون بعدها طلوع الشَّمس من مغربها‏.‏

‏{‏يوم ترونها‏}‏ يعني‏:‏ الزَّلزلة ‏{‏تذهل كلُّ مرضعة عمَّأ أرضعت‏}‏ تترك كلُّ امرأةٍ تُرضع ولدها الرَّضيع اشتغالاً بنفسها وخوفاً ‏{‏وتَضَعُ كلُّ ذات حملٍ حملها‏}‏ تُسقط ولدها من هول ذلك اليوم ‏{‏وترى الناس سكارى‏}‏ من شدَّة الخوف ‏{‏وما هم بسكارى‏}‏ من الشَّراب ‏{‏ولكنَّ عذاب الله شديد‏}‏ فهم يخافونه‏.‏

‏{‏ومن الناس مَن يجادل في الله بغير علم‏}‏ نزلت في النَّضر بن الحارث وجماعةٍ من قريش كانوا يُنكرون البعث، ويقولون‏:‏ القرآن أساطير القرآن أساطير الأولين، ويجادلون النبيَّ صلى الله عليه وسلم ‏{‏ويتبع‏}‏ في جداله ذلك ‏{‏كلَّ شيطان مريد‏}‏ متمرِّدٍ عاتٍ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 6‏]‏

‏{‏كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ‏(‏4‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ‏(‏5‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏كُتب عليه‏}‏ قُضي على الشَّيطان ‏{‏أنَّه مَنْ تولاَّه‏}‏ اتَّبعه ‏{‏فإنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير‏}‏ يدعوه إلى النَّار بما يُزيِّن له من الباطل‏.‏

‏{‏يا أيها الناس‏}‏ يعني‏:‏ كفار مكَّة ‏{‏إن كنتم في ريب من البعث‏}‏ شكٍّ من الإِعادة ‏{‏فإنا خلقناكم‏}‏ خلقنا أباكم الذي أصل البشر ‏{‏من تراب ثمَّ‏}‏ خلقنا ذريَّته ‏{‏من نطفة ثمَّ من علقة‏}‏ وهي الدَّم الجامد ‏{‏ثمَّ من مضغة‏}‏ وهي لحمةٌ قليلةٌ قدر ما يُمضغ ‏{‏مُخَلَّقَةٍ‏}‏ مصوَّرةٍ تامَّة الخلق ‏{‏وغير مخلقة‏}‏ وهي ما تمجُّه الأرحام دماً، يعني‏:‏ السِّقط ‏{‏لنبيِّن لكم‏}‏ كمال قدرتنا بتصريفنا أطوار خلقكم ‏{‏ونقرُّ في الأرحام ما نشاء‏}‏ ننزل فيها ما لا يكون سقطاً ‏{‏إلى أجل مسمى‏}‏ إلى وقت خروجه ‏{‏ثم نخرجكم‏}‏ من بطون الأمهات ‏{‏طفلاً‏}‏ صغاراً ‏{‏ثمَّ لتبلغوا أَشدكم‏}‏ عقولكم ونهاية قوَّتكم ‏{‏ومنكم من يُتوفَّى‏}‏ يموت قبل بلوغ الأشدِّ ‏{‏ومنكم مَنْ يردُّ إلى أرذل العمر‏}‏ وهو الهرم والخرف حتى لا يعقل شيئاً، وهو قوله‏:‏ ‏{‏لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً‏}‏ ثمَّ ذكر دلالةً أخرى على البعث فقال‏:‏ ‏{‏وترى الأرض هامدة‏}‏ جافَّةً ذات ترابٍ ‏{‏فإذا أنزلنا عليها الماء‏}‏ المطر ‏{‏اهتزت‏}‏ تحرَّكت بالنَّبات ‏{‏وربت‏}‏ زادت ‏{‏وأنبتت من كلِّ زوج بهيج‏}‏ من كلِّ صنفٍ حسنٍ من النَّبات‏.‏

‏{‏ذلك‏}‏ الذي تقدَّم ذكره من اختلاف أحوال خلق الإِنسان، وإحياء الأرض بالمطر ‏{‏بأنَّ الله هو الحق‏}‏ الدَّائم الثَّابت الموجود ‏{‏وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شَئ قَدِير‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 12‏]‏

‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ ‏(‏8‏)‏ ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ ‏(‏9‏)‏ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ‏(‏10‏)‏ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ‏(‏11‏)‏ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏ومنَ الناس من يجادل في الله بغير علم‏}‏ نزلت في أبي جهلٍ ‏{‏ولا هدىً‏}‏ ليس معه من ربِّه رشادٌ ولا بيانٌ ‏{‏ولا كتابٍ‏}‏ له نورٌ‏.‏

‏{‏ثاني عطفه‏}‏ لاوي عنقه تكبُّراً ‏{‏ليضل‏}‏ الناس عن طاعة الله سبحانه باتِّباع محمَّد عليه السَّلام ‏{‏له في الدنيا خزي‏}‏ يعني‏:‏ القتل ببدرٍ‏.‏

‏{‏ذلك بما قدَّمت يداك‏}‏ هذا العذاب بما كسبْتَ ‏{‏وإنَّ الله ليس بظلام للعبيد‏}‏ لا يعاقب بغير جرمٍ‏.‏

‏{‏ومن الناس مَن يعبد الله على حرف‏}‏ على جانبٍ لا يدخل فيه دخول مُتمكِّنٍ ‏{‏فإن أصابه خير‏}‏ خِصبٌ وكثرةُ مالٍ ‏{‏اطمأنَّ به‏}‏ في الدِّين بذلك الخصب ‏{‏وإن أصابته فتنة‏}‏ اختبارٌ بجدبٍ وقلَّة مالٍ ‏{‏انقلب على وجهه‏}‏ رجع عن دينه إلى الكفر‏.‏

‏{‏يدعو من دون الله ما لا يضرُّه‏}‏ إن عصاه ‏{‏ولا ينفعه‏}‏ إن أطاعه ‏{‏ذلك هو الضلال البعيد‏}‏ الذَّهاب عن الحقِّ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏يدعو لمَنْ ضرُّه أقرب من نفعه‏}‏ ضرره بعبادته أقرب من نفعه، ولا نفع عنده، والعرب تقول لما لا يكون‏:‏ هو بعيدٌ، والمعنى في هذا أنَّه يضرُّ ولا ينفع ‏{‏لبئس المولى‏}‏ الناصر ‏{‏ولبئس العشير‏}‏ الصَّاحب والخليط‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏مَنْ كان يظن أن لن ينصره الله‏}‏ لن ينصر الله محمَّداً صلى الله عليه وسلم حتى يُظهره على الدِّين كلِّه فليمت غيظاً، وهو تفسير قوله‏:‏ ‏{‏فليمدد بسبب إلى السماء‏}‏ أَيْ‏:‏ فليشدد حبلاً في سقفه ‏{‏ثمَّ ليقطع‏}‏ أَيْ‏:‏ ليَمُدَّ الحبل حتى ينقطع فيموت مختنقاً ‏{‏فلينظر هل يُذْهِبَنَّ كيده ما يغيظ‏}‏ غيظه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 18‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ‏(‏17‏)‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏إنَّ الله يفصل بينهم يوم القيامة‏}‏ أَيْ‏:‏ يحكم ويقضي، بأن يدخل المؤمنين الجنَّة، وغيرهم من هؤلاء الفرق النَّار‏.‏ ‏{‏إنَّ الله على كلِّ شيء شهيد‏}‏ يريد‏:‏ إنَّ اللَّهَ عالمٌ بما في قلوبهم‏.‏

‏{‏ألم تر أنَّ الله يسجد له‏}‏ يذلُّ له، وينقاد له ‏{‏من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حقَّ عليه العذاب‏}‏ وذلك أنَّ كلَّ شيءٍ منقادٌ لله عزَّ وجلَّ على ما خلقه، وعلى ما رزقه، وعلى ما أصحَّه وعلى ما أسقمه، فالبَرُّ والفاجر، والمؤمن والكافر في هذا سواءٌ ‏{‏ومَنْ يهن الله‏}‏ يذلَّه بالكفر ‏{‏فما له من مكرم‏}‏ أحدٌ يكرمه ‏{‏إنَّ الله يفعل ما يشاء‏}‏ يُهين من يشاء بالكفر، ويكرم مَنْ يشاء بالإِيمان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 24‏]‏

‏{‏هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ ‏(‏19‏)‏ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ ‏(‏20‏)‏ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ ‏(‏21‏)‏ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ‏(‏22‏)‏ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ‏(‏23‏)‏ وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏هذا خصمان‏}‏ يعني‏:‏ المؤمنين والكافرين ‏{‏اختصموا في ربهم‏}‏ في دينه ‏{‏فالذين كفروا قطعت لهم ثيابٌ من نار‏}‏ يلبسون مقطَّعات النِّيران ‏{‏ويصبُّ من فوق رؤوسهم الحميم‏}‏ ماءٌ حارٌّ، لو سقطت منه نقطٌ على جبال الدُّنيا أذابتها‏.‏

‏{‏يصهر‏}‏ يُذاب ‏{‏به‏}‏ بذلك الماء ‏{‏ما في بطونهم‏}‏ من الأمعاء ‏{‏والجلود‏}‏ وتنشوي جلودهم فتسَّاقط‏.‏

‏{‏ولهم مقامع‏}‏ سياطٌ ‏{‏من حديد‏}‏‏.‏

‏{‏كلما أرادوا أن يخرجوا منها‏}‏ من جهنَّم ‏{‏من غمّ‏}‏ يصيبهم ‏{‏أعيدوا فيها‏}‏ ردُّوا إليها بالمقامع، ‏{‏و‏}‏ تقول لهم الخزنة‏:‏ ‏{‏ذوقوا عذاب الحريق‏}‏ النَّار، وقال في الخصم الذين هم المؤمنون‏:‏

‏{‏إنَّ الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، وهي مفسَّرةٌ في سورة الكهف‏.‏

‏{‏وهدوا‏}‏ أُرشدوا في الدُّنيا ‏{‏إلى الطيب من القول‏}‏ وهو شهادة أن لا إله إلا الله ‏{‏وهدوا إلى صراط الحميد‏}‏ دين اللَّهِ المحمود في أفعاله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 32‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏25‏)‏ وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ‏(‏26‏)‏ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ‏(‏27‏)‏ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ‏(‏28‏)‏ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ‏(‏29‏)‏ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ‏(‏30‏)‏ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ‏(‏31‏)‏ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏إنَّ الذين كفروا ويصدُّون عن سبيل الله‏}‏ يمنعون عن طاعة الله تعالى‏.‏ ‏{‏والمسجد الحرام‏}‏ يمنعون المؤمنين عنه ‏{‏الذي جعلناه للناس‏}‏ خلقناه وبنيناه للنَّاس كلِّهم لن نخصَّ به بعضاً دون بعض ‏{‏سواءً العاكف فيه والباد‏}‏ سواءٌ في تعظيم حرمته وقضاء النُّسك به الحاضر، والذي يأتيه من البلاد، فليس أهل مكَّة بأحقَّ به من النَّازع إليه ‏{‏ومَن يرد فيه بإلحادٍ بظلمٍ‏}‏ أَيْ‏:‏ إلحاداً بظلمٍ، وهو أن يميل إلى الظُّلم، ومعناه‏:‏ صيد حمامة وقطع شجرة، ودخوله غير مُحرمٍ، وجميع المعاصي؛ لأنَّ السَّيئات تُضاعف بمكَّة كما تُضاعف الحسنات‏.‏

‏{‏وإذْ بؤَّأنا لإبراهيم مكان البيت‏}‏ بيَّنا له أين يُبنى ‏{‏أن لا تشرك‏}‏ يعني‏:‏ وأمرناه أن لا تشرك ‏{‏بي شيئاً وطهر بيتي‏}‏ مفسَّرٌ في سورة البقرة‏.‏

‏{‏وأذن في الناس‏}‏ نادِ فيهم ‏{‏بالحج يأتوك رجالاً‏}‏ مُشاةً على أرجلهم، ‏{‏و‏}‏ ركباناً ‏{‏على كلّ ضامر‏}‏ وهو البعير المهزول ‏{‏يأتين من كلِّ فج عميق‏}‏ طريق بعيدٍ‏.‏

‏{‏ليشهدوا‏}‏ ليحضروا ‏{‏منافع لهم‏}‏ من أمر الدُّنيا والآخرة ‏{‏ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام‏}‏ يعني‏:‏ التَّسمية على ما ينحر في يوم النَّحر وأيَّامِ التَّشريق ‏{‏فكلوا منها‏}‏ أمر إباحةٍ، وكان أهل الجاهليَّة لا يأكلون من نَسائكم، فأمر المسلمون أن يأكلوا ‏{‏وأطعموا البائس الفقير‏}‏ الشَّديد الفقر‏.‏

‏{‏ثم ليقضوا تفثهم‏}‏ يعني‏:‏ ما يخرجون به من الإحرام، وهو أخذ الشَّارب، وتقليم الظُّفر، وحلق العانة، ولبس الثَّوب ‏{‏وليوفوا نذورهم‏}‏ يعني‏:‏ ما نذروه من برٍّ وهدي في أيَّام الحجِّ ‏{‏وليطوفوا بالبيت العتيق‏}‏ القديم‏.‏ وقيل‏:‏ المُعتق من أن يتسلَّط عليه جبَّار‏.‏ يعني‏:‏ الكعبة‏.‏

‏{‏ذلك‏}‏ أَيْ‏:‏ الأمر ذلك الذي ذكرت ‏{‏ومن يعظم حرمات الله‏}‏ فرائض الله وسننه‏.‏ ‏{‏وأحلت لكم الأنعام‏}‏ أن تأكلوها ‏{‏إلاَّ ما يتلى عليكم‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏حُرِّمت عليكم الميتة‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ ومعنى هذا النَّهي تحريمُ ما حرَّمه أهل الجاهليَّة من البحيرة والسَّائبة وغير ذلك ‏{‏فاجتنبوا الرجس من الأوثان‏}‏ يعني‏:‏ عبادتها ‏{‏واجتنبوا قول الزور‏}‏ يعني‏:‏ الشِّرك بالله‏.‏

‏{‏حنفاء لله‏}‏ مسلمين عادلين عن كلِّ دينٍ سواه‏.‏ ‏{‏ومن يشرك بالله فكأنما خرَّ‏}‏ سقط ‏{‏من السماء‏}‏ فاختطفته الطَّير من الهواء، أو ألقته الرِّيح في ‏{‏مكان سحيق‏}‏ بعيدٍ‏.‏ يعني‏:‏ إنَّ مَنْ أشرك فقد هلك وبَعُدَ عن الحقِّ‏.‏

‏{‏ذلك ومن يعظم شعائر الله‏}‏ يستسمن البُدن ‏{‏فإنَّ ذلك من‏}‏ علامات التَّقوى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 34‏]‏

‏{‏لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ‏(‏33‏)‏ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

‏{‏لكم فيها منافع‏}‏ الرُّكوب والدَّرُّ والنَّسل ‏{‏إلى أجل مسمى‏}‏ وهو أن يُسمِّيها هدياً ‏{‏ثمَّ محلها‏}‏ حيث يحلُّ نحرها عند ‏{‏البيت العتيق‏}‏ يعني‏:‏ الحرم كلَّه‏.‏

‏{‏ولكلِّ أمة‏}‏ جماعةٍ سلفت قبلكم ‏{‏جعلنا منسكاً‏}‏ ذبحاً للقرابين ‏{‏ليذكروا اسم الله‏}‏ عند الذَّبح ‏{‏على ما رزقهم من بهيمة الأنعام‏}‏ يعني‏:‏ الأنعام ‏{‏فإلهكم إله واحد‏}‏ أَيْ‏:‏ لا تذكروا على ذبائحكم إلاَّ الله وحده ‏{‏فله أسلموا‏}‏ أخلصوا العبادة ‏{‏وبشر المخبتين‏}‏ المتواضعين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 40‏]‏

‏{‏وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏36‏)‏ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏37‏)‏ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ‏(‏38‏)‏ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ‏(‏39‏)‏ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏والبدن‏}‏ الإبل والبقر ‏{‏جعلناها لكم من شعائر الله‏}‏ أعلام دينه ‏{‏لكم فيها خيرٌ‏}‏ النَّفع في الدُّنيا، والأجر في العقبى ‏{‏فاذكروا اسم الله‏}‏ وهو أن يقول عند نحرها‏:‏ الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر ‏{‏صواف‏}‏ قائمةً معقولة اليد اليسرى ‏{‏فإذا وجبت جنوبها‏}‏ سقطت على الأرض ‏{‏فكلوا منها وأطعموا القانع‏}‏ الذي يسألك ‏{‏والمعتر‏}‏ الذي يتعرَّض لك ولا يسألك‏.‏ ‏{‏كذلك‏}‏ الذي وصفنا ‏{‏سخرناها لكم‏}‏ يعني‏:‏ البدن ‏{‏لعلَّكم تشكرون‏}‏ لكي تطيعوني‏.‏

‏{‏لن ينال الله لحومها ولا دماؤها‏}‏ كان المشركون يُلطِّخون جدار الكعبة بدماء القرابين، فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏لن ينال الله لحومها ولا دماؤها‏}‏ أَيْ‏:‏ لن يصل إلى الله لحومها ولا دماؤها ‏{‏ولكن يناله التقوى منكم‏}‏ أَيْ‏:‏ النِّيَّةُ والإِخلاص وما أريد به وجه الله تعالى‏.‏ ‏{‏لتكبروا الله على ما هداكم‏}‏ إلى معالم دينه ‏{‏وبشر المحسنين‏}‏ المُوحِّدين‏.‏

‏{‏إن الله يدفع‏}‏ غائلة المشركين عن المؤمنين ‏{‏إنَّ الله لا يحب كل خوَّانٍ‏}‏ في أمانته ‏{‏كفور‏}‏ لنعمته، وهم الذين تقرَّبوا إلى الأصنام بذبائحهم‏.‏

‏{‏أُذِنَ للذين يقاتلون‏}‏ يعني‏:‏ المؤمنين، وهذه أوَّلُ آيةٍ نزلت في الجهاد والمعنى‏:‏ أُذن لهم أن يُقاتلوا ‏{‏بأنهم ظلموا‏}‏ بظلم الكافرين إيَّاهم ‏{‏وإنَّ الله على نصرهم لقدير‏}‏ وعدٌ من الله تعالى بالنَّصر‏.‏

‏{‏الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق‏}‏ يعني‏:‏ المهاجرين ‏{‏إلاَّ أن يقولوا ربنا الله‏}‏ أَيْ‏:‏ لم يُخرجوا إلاَّ بأن وحَّدوا الله تعالى ‏{‏ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض‏}‏ لولا أن دفع الله بعض النَّاس ببعض ‏{‏لهدِّمت صوامع وبيعٌ‏}‏ في زمان عيسى عليه السَّلام ‏{‏وصلوات‏}‏ في أيَّام شريعة موسى عليه السَّلام، يعني‏:‏ كنائسهم وهي بالعبرانيَّة صلوتا ‏{‏ومساجد‏}‏ في أيام شريعة محمَّد صلى الله عليه وسلم ‏{‏ولينصرنَّ الله من ينصره‏}‏ يعني‏:‏ مَنْ نصر دين الله نصره الله على ذلك ‏{‏إن الله لقوي‏}‏ على خلقه ‏{‏عزيز‏}‏ منيعٌ في سلطانه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 46‏]‏

‏{‏الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ‏(‏41‏)‏ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ ‏(‏42‏)‏ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ ‏(‏43‏)‏ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ‏(‏44‏)‏ فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ ‏(‏45‏)‏ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ‏(‏46‏)‏‏}‏

‏{‏الذين إن مكناهم في الأرض‏}‏ يعني‏:‏ هذه الأمَّة إذا فتح الله عليهم الأرض ‏{‏أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور‏}‏ أَيْ‏:‏ آخر أمور الخلق ومصيرهم إليه، ثمَّ عزَّى نبيَّه فقال‏:‏

‏{‏وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعادٌ وثمود‏}‏‏.‏

‏{‏وقوم إبراهيم وقوم لوط‏}‏‏.‏

‏{‏وأصحاب مدين وكُذِّب موسى فأمليت للكافرين‏}‏ أَيْ‏:‏ أمهلتهم ‏{‏ثم أخذتهم‏}‏ عاقبتهم ‏{‏فكيف كان نكير‏}‏ إنكاري عليهم ما فعلوا بالعذاب‏.‏

‏{‏فكأين من قرية‏}‏ وكم من قريةٍ ‏{‏أهلكناها وهي ظالمة‏}‏ بالكفر ‏{‏فهي خاوية‏}‏ ساقطةٌ ‏{‏على عروشها‏}‏ سقوفها ‏{‏وبئر مُعَطَّلَةٍ‏}‏ متروكةٍ بموت أهلها ‏{‏وقصر مشيد‏}‏ رفيعٍ طويلٍ‏.‏

‏{‏أفلم يسيروا في الأرض‏}‏ يعني‏:‏ كفَّار مكَّة ‏{‏فينظروا‏}‏ إلى مصارع الأمم المكذبة، وهو قوله‏:‏ ‏{‏فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها‏}‏ فيتفكَّروا ويعتبروا، ثم ذكر أن الأبصار لا تعمى عن رؤية الآيات، ولكن القلوب تعمى، فلا يتفكروا ولا يعتبروا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 48‏]‏

‏{‏وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ‏(‏47‏)‏ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ ‏(‏48‏)‏‏}‏

‏{‏ويستعجلونك بالعذاب‏}‏ كانوا يقولون له‏:‏ ‏{‏فَأْتِنا بما وعدتنا إن كنت من الصَّادقين‏}‏ فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ولن يخلف الله وعده‏}‏ الذي وعدك من نصرك وإهلاكهم، ثمَّ ذكر أنَّ لهم مع عذاب الدُّنيا في الآخرة عذاباً طويلاً، وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإنَّ يوماً عند ربك‏}‏ أَيْ‏:‏ من أيَّام عذابهم ‏{‏كألف سنة مما تعدون‏}‏ وذلك أن يوماً من أيَّام الآخرة كألفِ سنةٍ في الدُّنيا، ثمَّ ذكر سبحانه أنَّه قد أخذ قوماً بعد الإِمهال فقال‏:‏

‏{‏وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمةٌ ثمَّ أخذتها وإليَّ المصير‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 55‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ‏(‏51‏)‏ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏52‏)‏ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ‏(‏53‏)‏ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏54‏)‏ وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ ‏(‏55‏)‏‏}‏

‏{‏والذين سعوا في آياتنا‏}‏ عملوا في إبطالها ‏{‏معاجزين‏}‏ مُقدِّرين أنَّهم يُعجزوننا ويفوتوننا‏.‏

‏{‏وما أرسلنا من قبلك من رسول‏}‏ وهو الذي يأتيه جبريل عليه السًّلام بالوحي عياناً ‏{‏ولا نبيّ‏}‏ وهو الذي تكون نبوَّته إلهاماً ومناماً ‏{‏إلاَّ إذا تمنى‏}‏ قرأ ‏{‏ألقى الشيطان‏}‏ في قراءته ما ليس ممَّا يقرأ، يعني‏:‏ ما جرى على لسان النبيِّ صلى الله عليه وسلم حين قرأ سورة ‏"‏ والنجم ‏"‏ في مجلس من قريش، فلما بلغ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومناة الثَّالثة الأخرى‏}‏ جرى على لسانه‏:‏ تلك الغرانيق العلى، وإنَّ شفاعتهنَّ لترتجى ثمَّ نبَّهه جبريل عليه السَّلام على ذلك، فرجع وأخبرهم أنَّ ذلك كان من جهة الشَّيطان، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثمَّ يحكم الله آياته‏}‏ يُبيِّنها حتى لا يجد أحدٌ سبيلاً إلى إبطالها ‏{‏والله عليم‏}‏ بما أوحى إلى نبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏حكيم‏}‏ في خلقه، ثمَّ ذكر أنَّ ذلك ليفتن الله به قوماً، فقال‏:‏

‏{‏ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة‏}‏ ضلالةً ‏{‏للذين في قلوبهم مرض‏}‏ وهم أهل النِّفاق ‏{‏والقاسية قلوبهم‏}‏ المشركين ‏{‏وإنَّ الظالمين‏}‏ الكافرين ‏{‏لفي شقاق بعيد‏}‏ خلافٍ طويلٍ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين‏.‏

‏{‏وليعلم الذين أوتوا العلم‏}‏ التَّوحيد والقرآن ‏{‏أنه الحق‏}‏ أَيْ‏:‏ الذي أحكم الله سبحانه من آيات القرآن، وهو الحقُّ ‏{‏فتخبت له قلوبهم‏}‏ فتخشع‏.‏

‏{‏ولا يزال الذين كفروا في مرية‏}‏ في شكٍّ ‏{‏منه‏}‏ ممَّا أُلقي على لسان الرَّسول صلى الله عليه وسلم ‏{‏حتى تأتيهم الساعة‏}‏ القيامة ‏{‏بغتة‏}‏ فجأة ‏{‏أو يأتيهم عذاب يوم عقيم‏}‏ يعين‏:‏ يوم بدرٍ، وكان عقيماً عن أني كون للكافرين فيه فرحٌ أو راحةٌ، والعقيم معناه‏:‏ التي لا تلد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏56- 66‏]‏

‏{‏الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ‏(‏56‏)‏ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏57‏)‏ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ‏(‏58‏)‏ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ ‏(‏59‏)‏ ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ‏(‏60‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ‏(‏61‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ‏(‏62‏)‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ‏(‏63‏)‏ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ‏(‏64‏)‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏65‏)‏ وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ ‏(‏66‏)‏‏}‏

‏{‏الملك يومئذ‏}‏ يعني‏:‏ يوم القيامة ‏{‏لله‏}‏ وحده من غير مُنازعٍ ولا مُدَّعٍ ‏{‏يحكم بينهم‏}‏ ثمَّ بيَّن حكمه فقال‏:‏ ‏{‏فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم‏}‏‏.‏

‏{‏والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين‏}‏‏.‏

‏{‏والذين هاجروا‏}‏ فارقوا أوطانهم وعشائرهم ‏{‏في سبيل الله‏}‏ في طاعة الله ‏{‏ثمَّ قتلوا أو ماتوا لَيَرْزُقّنَّهُمُ الله رزقاً حسناً‏}‏ في الجنَّة‏.‏

‏{‏لَيُدْخِلَنَّهُمْ مدخلاً‏}‏ أَيْ‏:‏ إدخالاً وموضعاً ‏{‏يرضونه‏}‏ وهو الجنة‏.‏

‏{‏ذلك‏}‏ أَيْ‏:‏ الأمر ذلك قصصنا عليك ‏{‏ومَنْ عاقب بمثل ما عوقب به‏}‏ أَيْ‏:‏ جازى العقوبة بمثلها ‏{‏ثم بغي عليه‏}‏ ظُلم ‏{‏لينصرنَّه الله‏}‏ يعني‏:‏ المظلوم‏.‏

‏{‏ذلك‏}‏ أَيْ‏:‏ ذلك النَّصر للمظلوم بأنَّه القادر على ما يشاء، فمن قدرته أنَّه ‏{‏يولج الليل في النهار‏}‏ يزيد من هذا في ذلك، ومن ذلك في هذا، والباقي ظاهرٌ إلى قوله‏:‏

‏{‏إنَّ الإنسان لكفور‏}‏ يعني‏:‏ إنَّ الكافر لجاحدٌ لآيات الله تعالى الدَّالة على توحيده‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏67- 68‏]‏

‏{‏لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ ‏(‏67‏)‏ وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏68‏)‏‏}‏

‏{‏لكلّ أمة جعلنا منسكاً هم ناسكوه‏}‏ شريعةً هم عاملون بها ‏{‏فلا يُنازِعُنَّكَ‏}‏ يُجادِلُنَّكَ ‏{‏في الأمر‏}‏ نزلت في الذين جادلوا المؤمنين فقالوا‏:‏ ما لكم تأكلون ما تقتلون، ولا تأكلون ممَّا قتله الله‏؟‏

‏{‏وإن جادلوك‏}‏ بباطلهم مِراءً وتعنُّتاً فادفعهم بقولك‏:‏ ‏{‏الله أعلم بما تعملون‏}‏ من التَّكذيب والكفر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏70- 76‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ‏(‏70‏)‏ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ‏(‏71‏)‏ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏72‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ‏(‏73‏)‏ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ‏(‏74‏)‏ اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ‏(‏75‏)‏ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ‏(‏76‏)‏‏}‏

‏{‏ألم تعلم أنَّ الله يعلم ما في السماء والأرض إنَّ ذلك‏}‏ كلَّه ‏{‏في كتاب‏}‏ يعني‏:‏ اللَّوح المحفوظ ‏{‏إن ذلك‏}‏ يعني‏:‏ علمه بجميع ذلك ‏{‏على الله يسير‏}‏‏.‏

‏{‏ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به‏}‏ بعبادته ‏{‏سلطاناً‏}‏ حجَّةً وبرهاناً ‏{‏وما ليس لهم من به علم‏}‏ لم يأتهم به كتابٌ ولا نبيٌّ ‏{‏وما للظالمين‏}‏ المشركين ‏{‏من نصير‏}‏ مانعٍ من عذاب الله تعالى‏.‏

‏{‏وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات‏}‏ يعني‏:‏ القرآن ‏{‏تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر‏}‏ الإِنكار بالعبوس والكراهة ‏{‏يكادون يسطون‏}‏ يقعون ويبطشون ‏{‏بالذين يتلون عليهم آياتنا قل أفأنبئكم بشر من ذلكم‏}‏ بِشَرٍ لكم وأكره إليكم من هذا القرآن الذي تسمعون ‏{‏النار‏}‏ أَيْ‏:‏ هي النَّار‏.‏

‏{‏يا أيها الناس‏}‏ يعني‏:‏ يا أهل مكَّة ‏{‏ضرب مثل‏}‏ بُيِّن لكم ولمعبودكم شَبَهٌ ‏{‏فاستمعوا له إنَّ الذين تدعون من دون الله‏}‏ من الأصنام ‏{‏لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا‏}‏ كلُّهم لخلقه ‏{‏وإن يسلبهم الذباب شيئاً‏}‏ ممَّا عليهم من الطَّيب ‏{‏لا يستنقذوه منه‏}‏ لا يستردُّوه منه لعجزهم ‏{‏ضعف الطالبُ والمطلوب‏}‏ يعني‏:‏ العابد والمعبود، والطَّالب‏:‏ الذُّباب يطلب من الصَّنم ما لطِّخ به من الزَّعفران والطِّيب، وهو مَثَلٌ لعابده يطلب منه الشَّفاعة والنُّصرة، والمطلوب‏:‏ الصنم‏.‏

‏{‏ما قدروا الله حق قدره‏}‏ ما عظَّموه حقَّ تعظيمه إذ أشركوا به ما لا يمتنع من الذُّباب ولا ينتصر منه‏.‏

‏{‏الله يصطفي من الملائكة رسلاً‏}‏ مثل جبريل وميكائيل وإسرافيل عليهم السَّلام ‏{‏ومن الناس‏}‏ يعني‏:‏ النبيِّين عليهم السَّلام ‏{‏إنَّ الله سميع‏}‏ لقول عباده ‏{‏بصير‏}‏ بمَنْ يختاره‏.‏

‏{‏يعلم ما بين أيديهم‏}‏ ما عملوه ‏{‏وما خلفهم‏}‏ وما هم عاملون ممَّا لم يعلموه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

‏{‏وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ‏(‏78‏)‏‏}‏

‏{‏وجاهدوا في الله‏}‏ في سبيل الله ‏{‏حق جهاده‏}‏ بنيَّةٍ صادقةٍ ‏{‏هو اجبتاكم‏}‏ اختاركم لدينه ‏{‏وما جعل عليكم في الدين من حرج‏}‏ ضيقٍ؛ لأنَّه سهَّل الشَّريعة بالتَّرخيص ‏{‏ملَّة أبيكم‏}‏ اتبعوا ملَّة أبيكم ‏{‏إبراهيم‏}‏ كان هو في الحرمة كالأب صلى الله عليه وسلم، ولذلك جُعل أبا المسلمين ‏{‏هو سماكم‏}‏ أَيْ‏:‏ الله تعالى سمَّاكم ‏{‏المسلمين من قبل‏}‏ ‏[‏أي‏:‏ من قبل القرآن‏]‏ في سائر الكتب ‏{‏وفي هذا‏}‏ يعني‏:‏ القرآن ‏{‏ليكون الرسول شهيداً عليكم‏}‏ وذلك أنَّه يشهد لمَنْ صدَّقه، وعلى مَنْ كذَّبه ‏{‏وتكونوا شهداء على الناس‏}‏ تشهدون عليهم أنَّ رسلهم قد بلَّغتهم، وقوله‏:‏ ‏{‏واعتصموا بالله‏}‏ أَيْ‏:‏ تمسَّكوا بدينه ‏{‏هو مولاكم‏}‏ ناصركم ومتولي أموركم ‏{‏فنعم المولى ونعم النصير‏}‏‏.‏