فصل: سورة القلم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***


سورة القلم

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ‏(‏1‏)‏ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ‏(‏2‏)‏ وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏ن‏}‏ أقسم بالحوت الذي على ظهره الأرضُ‏.‏ ‏{‏والقلم‏}‏ يعني‏:‏ القلم الذي خلقه الله تعالى، فجرى بالكائنات إلى يوم القيامة ‏{‏وما يسطرون‏}‏ أَيْ‏:‏ وما تكتب الملائكة‏.‏

‏{‏ما أنت بنعمة ربك‏}‏ بإنعامه عليك بالنُّبوِّة ‏{‏بمجنون‏}‏ أَيْ‏:‏ إِنَّك لا تكون مجنوناً وقد أنعم الله عليك بالنُّبوَّة، وهذا جوابٌ لقولهم‏:‏ ‏{‏وقالوا يا أيها الذي نُزِّل عليه الذِّكر إنَّك لمجنونٌ‏}‏ ‏{‏وإنَّ لك لأجراً غير ممنون‏}‏ غير مقطوعٍ ولا منقوصٍ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 16‏]‏

‏{‏وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ‏(‏4‏)‏ فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ ‏(‏5‏)‏ بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ ‏(‏6‏)‏ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ‏(‏7‏)‏ فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ ‏(‏8‏)‏ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ‏(‏9‏)‏ وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ ‏(‏10‏)‏ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ ‏(‏11‏)‏ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ‏(‏12‏)‏ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ ‏(‏13‏)‏ أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ ‏(‏14‏)‏ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏15‏)‏ سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏وإنك لعلى خلق عظيم‏}‏ أَيْ‏:‏ أنت على الخُلُقِ الذي أمرك الله به في القرآن‏.‏

‏{‏فستبصر‏}‏ يا محمد ‏{‏ويبصرون‏}‏ أَيْ‏:‏ المشركون الذي رموه بالجنون‏.‏

‏{‏بأييكم المفتون‏}‏ الفتنة، أَبِكَ أم بهم‏.‏

‏{‏فلا تطع المكذبين‏}‏ فيما دعوك إليه من دينهم‏.‏

‏{‏وَدُّوا لو تدهن فيدهنون‏}‏ تلين فيلينون لك‏.‏

‏{‏ولا تطع كلَّ حلاَّفٍ‏}‏ كثير الحلف بالباطل، أَيْ‏:‏ الوليد بن المغيرة ‏{‏مهين‏}‏ حقير‏.‏

‏{‏همَّاز‏}‏ عيَّابٍ ‏{‏مشَّاء بنميم‏}‏ سَاعٍ بين النَّاسِ بالنَّميمة‏.‏

‏{‏مناع للخير‏}‏ بخيلٍ بالمال عن الحقوق ‏{‏معتد‏}‏ مجاوزٍ في الظُّلم ‏{‏أثيم‏}‏ آثمٍ‏.‏

‏{‏عتل‏}‏ جافٍ غليظٍ ‏{‏بعد ذلك‏}‏ مع ما ذكرنا من أوصافه ‏{‏زنيم‏}‏ مُلحَقٍ بقومه وليس منهم‏.‏

‏{‏إن كان‏}‏ لأن كان ‏{‏ذا مال وبنين‏}‏ يُكذِّب بالقرآن‏.‏ وهو قوله‏:‏

‏{‏إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين‏}‏ والمعنى‏:‏ أَيجعل مُجازاة نعمة الله عليه بالمال والبنين الكفر بآياتنا‏؟‏

‏{‏سنسمه على الخرطوم‏}‏ سنجعل على أنفه علامةً باقيةً ما عاش، نخطم أنفه بالسَّيف يوم بدرٍ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 27‏]‏

‏{‏إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ ‏(‏17‏)‏ وَلَا يَسْتَثْنُونَ ‏(‏18‏)‏ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ ‏(‏19‏)‏ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ ‏(‏20‏)‏ فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ ‏(‏21‏)‏ أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ ‏(‏22‏)‏ فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ ‏(‏23‏)‏ أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ ‏(‏24‏)‏ وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ ‏(‏25‏)‏ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ ‏(‏26‏)‏ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

‏{‏إنا بلوناهم‏}‏ امتحنا أهل مكَّة بالقحط والجوع ‏{‏كما بلونا أصحاب الجنة‏}‏ كما امتحنَّا أصحاب البستان بإحراقها وذهاب قوتهم منها، وكانوا قوماً بناحية اليمن، وكان لهم أبٌ وله جنَّةٌ كان يتصدَّق فيها على المساكين، فلمَّا مات قال بنوه‏:‏ نحن جماعةٌ، وإنْ فعلنا ما كان يفعل أبونا ضاق علينا الأمر، فحلفوا ليقطعنَّ ثمرها بسدفةٍ من اللَّيل كيلا يشعر المساكين فيأتوهم، وهو قوله‏:‏ ‏{‏إذْ أقسموا ليصرمنها مصبحين‏}‏‏.‏

‏{‏ولا يستثنون‏}‏ ولا يقولون إن شاء الله‏.‏

‏{‏فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون‏}‏ أَيْ‏:‏ أنزل الله عليها ناراً أحرقتها‏.‏

‏{‏فأصبحت كالصريم‏}‏ كاللَّيل المُظلم سوداء‏.‏

‏{‏فتنادوا مصبحين‏}‏ نادى بعضهم بعضاً لمَّا أصبحوا ليخرجوا إلى الصِّرام، وهو قوله‏:‏

‏{‏أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين‏}‏ قاطعين الثَّمر‏.‏

‏{‏فانطلقوا‏}‏ ذهبوا إليها ‏{‏وهم يتخافتون‏}‏ يتسارُّون الكلام بينهم‏.‏

ب ‏{‏ألا يدخلنها اليوم عليكم مسكين‏}‏‏.‏

‏{‏وغدوا على حرد‏}‏ قصدٍ وجدٍّ ‏{‏قادرين‏}‏ عند أنفسهم على ثمر الجنَّة‏.‏

‏{‏فلما رأوها‏}‏ سوداء محترقةً ‏{‏قالوا إنَّا لضالون‏}‏ مُخطئون طريقنا، وليست هذه جنَّتنا، ثمَّ علموا أنَّها عقوبةٌ من الله تعالى فقالوا‏:‏

‏{‏بل نحن محرومون‏}‏ حُرمنا ثمر جنَّتنا بمنعنا المساكين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 44‏]‏

‏{‏قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ ‏(‏28‏)‏ قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ‏(‏29‏)‏ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ ‏(‏30‏)‏ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ ‏(‏31‏)‏ عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ ‏(‏32‏)‏ كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ‏(‏33‏)‏ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ‏(‏34‏)‏ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ‏(‏35‏)‏ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ‏(‏36‏)‏ أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ ‏(‏37‏)‏ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ ‏(‏38‏)‏ أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ ‏(‏39‏)‏ سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ ‏(‏40‏)‏ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ ‏(‏41‏)‏ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ ‏(‏42‏)‏ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ ‏(‏43‏)‏ فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

‏{‏قال أوسطهم‏}‏ أعدلهم وأفضلهم‏:‏ ‏{‏ألم أقل لكم لولا تسبحون‏}‏ هلاَّ تستثنون، ومعنى التَّسبيح ها هنا الاستثناء بإنْ شاء الله؛ لأنَّه تعظيمٌ لله، وكلُّ تعظيمٍ لله فهو تسبيحٌ له‏.‏

‏{‏قالوا سبحان ربنا‏}‏ نزَّهوه عن أن يكون ظالماً، وأقرُّوا على أنفسهم بالظُّلم فقالوا‏:‏ ‏{‏إنا كنا ظالمين‏}‏‏.‏

‏{‏فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون‏}‏ يلوم بعضهم بعضاً بما فعلوا من الهرب من المساكين ومنع حقهم‏.‏

‏{‏قالوا يا ويلتنا إنا كنا طاغين‏}‏ بمنع حقِّ الفقراء وترك الاستثناء‏.‏

‏{‏عسى ربنا أن يُبْدِلَنا خيراً منها‏}‏ من هذه الجنَّة ‏{‏إنا إلى ربنا راغبون‏}‏‏.‏

‏{‏كذلك العذاب‏}‏ كما فعلنا بهم نفعل بمَنْ خالف أمرنا، ثمَّ بيَّن ما عند الله للمؤمنين فقال تعالى‏:‏

‏{‏إنَّ للمتقين عند ربهم جنات النعيم‏}‏ فلمَّا نزلت قال بعض قريش‏:‏ إنْ كان ما تذكرون حقَّاً فإنَّ لنا في الآخرة أكثرَ ممَّا لكم، فنزل‏:‏

‏{‏أفنجعل المسلمين كالمجرمين‏}‏‏.‏ ‏{‏ما لكم كيف تحكمون‏}‏‏.‏

‏{‏أم لكم كتاب‏}‏ نزل من عند الله ‏{‏فيه‏}‏ ما تقولون ‏{‏تدرسون‏}‏ تُقرُّون ما فيه‏.‏

‏{‏إنَّ لكم فيه‏}‏ في ذلك الكتاب ‏{‏لما تخيرون‏}‏ تختارون‏.‏

‏{‏أم لكم أيمان‏}‏ عهودٌ ومواثيق ‏{‏علينا بالغة‏}‏ محكمةٌ لا ينقطع عهدها ‏{‏إلى يوم القيامة إنَّ لكم لما تحكمون‏}‏ تقضون‏.‏ وكسرت ‏"‏ إنَّ ‏"‏ في الآيتين لمكان اللام في جوابها، وحقُّها الفتح لو لم تكن اللام‏.‏

ف ‏{‏سلهم‏}‏ يا محمد ‏{‏أيهم بذلك‏}‏ الذي يقولون من أنَّ لهم في الآخرة حظّاَ ‏{‏زعيم‏}‏ كفيلٌ لهم‏.‏

‏{‏أم لهم شركاء‏}‏ آلهةٌ تكفل لهم بما يقولون ‏{‏فليأتوا بشركائهم‏}‏ لتكفل لهم ‏{‏إن كانوا صادقين‏}‏ فيما يقولون‏.‏

‏{‏يوم يكشف عن ساق‏}‏ عن شدَّةٍ من الأمر، وهو يوم القيامة‏.‏ قال ابنُ عبَّاس رضي الله عنه‏:‏ أشدُّ ساعةٍ في القيامة، فصار كشف السَّاق عبارةً عن شدَّة الأمر ‏{‏ويدعون إلى السجود‏}‏ أَيْ‏:‏ الكافرون والمنافقون ‏{‏فلا يستطيعون‏}‏ يصير ظهرهم طبقاً واحداً كلَّما أراد أن يسجد واحدٌ منهم خرَّ على قفاه‏.‏

‏{‏خاشعة أبصارهم‏}‏ ذليلةً لا يرفعونها ‏{‏ترهقهم‏}‏ تغشاهم ‏{‏ذلَّة وقد كانوا يدعون إلى السجود‏}‏ في الدُّنيا ‏{‏وهم سالمون‏}‏ فيأبون ولا يسجدون لله‏.‏

‏{‏فذرني ومَنْ يكذب بهذا الحديث‏}‏ دعني والمُكذِّبين بهذا القرآن، أَيْ‏:‏ كِلْهُمْ إليَّ ولا تشغل قلبك بهم، فإنِّي أكفيك أمرهم‏.‏ ‏{‏سنستدرجهم من حيث لا يعلمون‏}‏ أَيْ‏:‏ نأخذهم قليلاً قليلاً ولا نباغتهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 52‏]‏

‏{‏وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ‏(‏45‏)‏ أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ ‏(‏46‏)‏ أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ‏(‏47‏)‏ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ ‏(‏48‏)‏ لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ ‏(‏49‏)‏ فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏50‏)‏ وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ‏(‏51‏)‏ وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

‏{‏وأملي لهم‏}‏ أُمهلهم كي يزدادوا تمادياً في الشِّرك ‏{‏إنَّ كيدي متين‏}‏ شديدٌ لا يطاق‏.‏

‏{‏أم تسألهم‏}‏ بل أتسألهم على ما آتيتهم به من الرِّسالة ‏{‏أجراً فهم من مغرم‏}‏ ممَّا يعطونك ‏{‏مُثقلون‏}‏‏.‏

‏{‏أم عندهم الغيب‏}‏ علم ما في غدٍ ‏{‏فهم يكتبون‏}‏ يحكمون‏.‏ وقوله‏:‏

‏{‏ولا تكن كصاحب الحوت‏}‏ كيونس في الضَّجر والعجلة ‏{‏إذ نادى‏}‏ دعا ربَّه ‏{‏وهو مكظوم‏}‏ مملوءٌ غمَّاً‏.‏

‏{‏لولا أن تداركه‏}‏ أدركه ‏{‏نعمة‏}‏ رحمةٌ ‏{‏من ربه لنبذ‏}‏ لطرح حين ألقاه الحوت ‏{‏بالعراء‏}‏ بالأرض الفضاء الواسعة؛ لأنَّها خاليةٌ من البناء والإِنسان والأشجار ‏{‏وهو مذموم‏}‏ مجرم‏.‏

‏{‏فاجتباه ربه‏}‏ فاختاره ‏{‏فجعله من الصالحين‏}‏ بأن رحمه وتاب عليه‏.‏

‏{‏وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر‏}‏ أَيْ‏:‏ إنَّهم لشدَّة إبغاضهم وعداوتهم لك إذا قرأت القرآن ينظرون إليك نظراً شديداً يكاد يصرعك ويسقطك عن مكانك ‏{‏ويقولون إنه لمجنون‏}‏‏.‏

‏{‏وما هو‏}‏ أَيْ‏:‏ القرآن ‏{‏إلاّ ذكر‏}‏ عظةٌ ‏{‏للعالمين‏}‏‏.‏

سورة الحاقة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 6‏]‏

‏{‏الْحَاقَّةُ ‏(‏1‏)‏ مَا الْحَاقَّةُ ‏(‏2‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ ‏(‏3‏)‏ كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ ‏(‏4‏)‏ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ ‏(‏5‏)‏ وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏الحاقة‏}‏ أَيْ‏:‏ القيامة؛ لأنَّها حقَّت فلا كاذبة لها‏.‏

‏{‏ما الحاقة‏}‏ استفهامٌ معناه التَّعظيم لشأنها، كقولك‏:‏ زيدٌ ما هو‏؟‏

‏{‏وما أدراك ما الحاقة‏}‏ أَيٌّ شيء أعلمك ما ذلك اليوم‏؟‏ ثمَّ ذكر أمر مَنْ كذَّب بالقيامة، فقال‏:‏

‏{‏كذبت ثمود وعادٌ بالقارعة‏}‏ بالقيامة التي تقرع القلوب‏.‏

‏{‏فأمَّا ثمود فأهلكوا بالطاغية‏}‏ أَيْ‏:‏ بالصَّيحة الطَّاغية، وهي التي جاوزت المقدار‏.‏

‏{‏وأمَّا عادٌ فأهلكوا بريح صرصر عاتية‏}‏ عتت على خُزَّانها فلم تُطعهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 14‏]‏

‏{‏سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ‏(‏7‏)‏ فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ ‏(‏8‏)‏ وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ ‏(‏9‏)‏ فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً ‏(‏10‏)‏ إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ ‏(‏11‏)‏ لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ‏(‏12‏)‏ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ ‏(‏13‏)‏ وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏سخرها عليهم‏}‏ استعملها عليهم كما شاء‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏حسوماً‏}‏ أَيْ‏:‏ دائمةً مُتتابعةً، والمعنى‏:‏ تحسمهم حسوماً، أَيْ‏:‏ تذهبهم وتفنيهم ‏{‏فترى القوم‏}‏ ‏[‏أيْ‏:‏ أهل القرى‏]‏ ‏{‏فيها‏}‏ أَيْ‏:‏ في تلك الأيَّام ‏{‏صرعى‏}‏ جمع صريعٍ ‏{‏كأنهم أعجاز‏}‏ أصول ‏{‏نخل خاوية‏}‏ ساقطةٍ‏.‏

‏{‏فهل ترى لهم من باقية‏}‏ أَيْ‏:‏ هل ترى منهم باقياً‏.‏

‏{‏وجاء فرعون ومِنْ قِبَلِه‏}‏ أَيْ‏:‏ تُبَّاعه‏.‏ ومَنْ قرأ‏:‏ ‏{‏ومَنْ قَبْلَه‏}‏ فمعناه‏:‏ مَنْ تقدَّمه من الأمم ‏{‏والمؤتفكات‏}‏ أَيْ‏:‏ أهل قرى قوم لوط ‏{‏بالخاطئة‏}‏ بالخطأ العظيم، وهو الكفر‏.‏

‏{‏فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية‏}‏ زائدةً تزيد على الأخذات‏.‏

‏{‏إنَّا لما طغى الماء‏}‏ جاوز حدَّه‏.‏ يعني‏:‏ أيَّام الطُّوفان ‏{‏حملناكم‏}‏ أَيْ‏:‏ حملنا آباءكم ‏{‏في الجارية‏}‏ وهي السَّفينة‏.‏

‏{‏لنجعلها‏}‏ لنجعل تلك الفعلة التي فعلنا من إغراق قوم نوحٍ وإنجاء مَنْ معه ‏{‏لكم تذكرة‏}‏ تتذكَّرونها فتتَّعظون بها ‏{‏وتعيها أذن واعية‏}‏ لتحفظها كلُّ أذنٍ تحفظ ما سمعت‏.‏

‏{‏فإذا تفخ في الصور نفخة واحدة‏}‏ أَيْ‏:‏ النِّفخة الأولى لقيام السَّاعة‏.‏

‏{‏وحملت الأرض والجبال فدكتا‏}‏ كُسرتا ‏{‏دكَّة واحدة‏}‏ فصارت هباءً منبثاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 21‏]‏

‏{‏فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ‏(‏15‏)‏ وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ ‏(‏16‏)‏ وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ‏(‏17‏)‏ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ ‏(‏18‏)‏ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ ‏(‏19‏)‏ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ ‏(‏20‏)‏ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏فيومئذٍ وقعت الواقعة‏}‏ قامت القيامة‏.‏

‏{‏وانشقت السماء فهي يومئذٍ واهية‏}‏ أَيْ‏:‏ مُتَشَقِّقةٌ‏.‏

‏{‏والملك‏}‏ يعني‏:‏ الملائكة ‏{‏على أرجائها‏}‏ نواحيها ‏{‏ويحمل عرش ربك فوقهم‏}‏ فوق الملائكة ‏{‏يومئذٍ ثمانية‏}‏ أملاك‏.‏

‏{‏يومئذٍ تعرضون‏}‏ على ربِّكم ‏{‏لا تخفى منكم خافية‏}‏ كقوله‏:‏ ‏{‏لا يخفى على الله منهم شيءٌ‏}‏ ‏{‏فأمَّا مَنْ أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرؤوا كتابيه‏}‏ خذوا فاقرؤوا كتابي، وذلك لما يرى فيه من الحسنات‏.‏

‏{‏إني ظننت أني ملاق حسابيه‏}‏ أَيْ‏:‏ أيقنت أنِّي أُحاسب‏.‏

‏{‏فهو في عيشة راضية‏}‏ ذات رضىً، أَيْ‏:‏ يرضى بها صاحبها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 24‏]‏

‏{‏قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ ‏(‏23‏)‏ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏قطوفها دانية‏}‏ ثمارها قريبةٌ من مريدها على أيِّ حالٍ كان‏.‏ يقال لهم‏:‏ ‏{‏كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم‏}‏ قدَّمتم لآخرتكم من الأعمال الصَّالحة ‏{‏في الأيام الخالية‏}‏ الماضية في الدُّنيا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

‏{‏يا ليتها كانت القاضية‏}‏ يقول‏:‏ ليت الموتة التي مُتها لم أَحْيَ بعدها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 32‏]‏

‏{‏هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ‏(‏29‏)‏ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ‏(‏30‏)‏ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ‏(‏31‏)‏ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏هلك عني سلطانية‏}‏ ذهب عني حجَّتي، وزال عني ملكي وقوَّتي، فيقول الله لخزنة جهنَّم‏.‏

‏{‏خذوه فغلُّوه‏}‏‏.‏ ‏{‏ثم الجحيم صلُّوه‏}‏ أدخلوه‏.‏

‏{‏ثمَّ في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه‏}‏ أَيْ‏:‏ أدخلوه في تلك السِّلسلة، فتدخل في دبره وتخرج من فيه، وهي سلسلةٌ لو جُمع حديد الدُّنيا ما وزن حلقةً منها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 47‏]‏

‏{‏وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ‏(‏34‏)‏ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ ‏(‏35‏)‏ وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ ‏(‏36‏)‏ لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ ‏(‏37‏)‏ فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ ‏(‏38‏)‏ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ ‏(‏39‏)‏ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ‏(‏40‏)‏ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ ‏(‏41‏)‏ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏42‏)‏ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏43‏)‏ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ ‏(‏44‏)‏ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ‏(‏45‏)‏ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ‏(‏46‏)‏ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ‏(‏47‏)‏‏}‏

‏{‏ولا يحض على طعام المسكين‏}‏ لا يأمر بالصَّدقة على الفقراء‏.‏

‏{‏فليس له اليوم هاهنا حميم‏}‏ قريبٌ ينفعه‏.‏

‏{‏ولا طعام إلاَّ عن غسلين‏}‏ وهو صديد أهل النَّار‏.‏

‏{‏لا يأكله إلاَّ الخاطئون‏}‏ وهم الكافرون‏.‏

‏{‏فلا أقسم‏}‏ ‏{‏لا‏}‏ زائدة ‏{‏بما تبصرون‏}‏ ما ترون من المخلوقات‏.‏

‏{‏وما لا تبصرون‏}‏ ما لا ترون منها‏.‏

‏{‏إنه‏}‏ إنَّ القرآن ‏{‏لقول‏}‏ لتلاوةُ ‏{‏رسول كريم‏}‏ على الله‏.‏ يعني‏:‏ محمَّداً صلوات الله عليه‏.‏

‏{‏وما هو بقول شاعر‏}‏ أَيْ‏:‏ ليس هو شاعراً ‏{‏قليلاً ما تؤمنون‏}‏ ‏{‏ما‏}‏ لغوٌ مؤكِّدة‏.‏

‏{‏ولا بقول كاهن‏}‏ وهو الذي يُخبر عن المُغيَّبات من جهة النُّجوم كذباً وباطلاً، ثمَّ بيَّن أنَّ ما يتلوه تنزيلٌ من الله تعالى، فقال‏:‏

‏{‏تنزيل من رب العالمين‏}‏‏.‏

‏{‏ولو تقول علينا بعض الأقاويل‏}‏ يعني‏:‏ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لو قال ما لم يُؤمر به، وأتى بشيءٍ مِنْ قِبَل نفسه‏.‏ ‏{‏لأخذنا منه باليمين‏}‏ ‏{‏مِنْ‏}‏ صلةٌ، والمعنى‏:‏ لأخذناه بالقوَّة والقدرة‏.‏

‏{‏ثمَّ لقطعنا منه الوتين‏}‏ وهو نياط القلب، أَيْ‏:‏ لأهلكناه‏.‏

‏{‏فما منكم من أحد عنه حاجزين‏}‏ أَيْ‏:‏ لم يحجزنا عنه أحدٌ منكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏50- 52‏]‏

‏{‏وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ ‏(‏50‏)‏ وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ ‏(‏51‏)‏ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ‏(‏52‏)‏‏}‏

‏{‏وإنَّه‏}‏ أَيْ‏:‏ القرآن ‏{‏لحسرة على الكافرين‏}‏ يوم القيامة إذا رأوا ثواب متابعيه‏.‏

‏{‏وإنه لحق اليقين‏}‏ أَيْ‏:‏ وإنَّه اليقين حقُّ اليقين‏.‏

‏{‏فسبح باسم ربك العظيم‏}‏ نزِّهه عن السُّوء‏.‏

سورة المعارج

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 13‏]‏

‏{‏سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ‏(‏1‏)‏ لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ‏(‏2‏)‏ مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ ‏(‏3‏)‏ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ‏(‏4‏)‏ فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا ‏(‏5‏)‏ إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا ‏(‏6‏)‏ وَنَرَاهُ قَرِيبًا ‏(‏7‏)‏ يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ ‏(‏8‏)‏ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ ‏(‏9‏)‏ وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا ‏(‏10‏)‏ يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ ‏(‏11‏)‏ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ ‏(‏12‏)‏ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏سأل سائل‏}‏ دعا داعٍ ‏{‏بعذاب واقع‏}‏‏.‏

‏{‏للكافرين‏}‏ على الكافرين، وهو النَّضر بن الحارث حين قال‏:‏ ‏{‏اللَّهم إن كانَ هذا هو الحقَّ من عندكَ‏}‏ الآية‏.‏ ‏{‏ليس له دافع‏}‏ ليس لذلك العذاب الذي يقع بهم دافعٌ‏.‏

‏{‏من الله‏}‏ أَيْ‏:‏ ذلك العذاب يقع بهم من الله ‏{‏ذي المعارج‏}‏ ذي السَّموات‏.‏

‏{‏تعرج الملائكة والروح‏}‏ يعني‏:‏ جبريل عليه السَّلام ‏{‏إليه‏}‏ إلى محل قربته وكرامته، وهو السَّماء ‏{‏في يوم‏}‏ ‏{‏في‏}‏ صلةُ ‏"‏ واقعٍ ‏"‏، أَيْ‏:‏ عذابٌ واقعٌ في يومٍ ‏{‏كان مقداره خمسين ألف سنة‏}‏ وهو يوم القيامة‏.‏

‏{‏فاصبر صبراً جميلاً‏}‏ وهذا قبل أن أُمر بالقتال‏.‏ ‏{‏إنهم‏}‏ يعني‏:‏ المشركين ‏{‏يرونه‏}‏ يرون ذلك اليوم ‏{‏بعيداً‏}‏ مُحالاً لا يكون‏.‏

‏{‏ونراه قريباً‏}‏ لأنَّ ما هو آتٍ قريبٌ، ثمَّ ذكر متى يكون ذلك اليوم فقال‏:‏

‏{‏يوم تكون السماء كالمهل‏}‏ كدرديِّ الزَّيت‏.‏ وقيل‏:‏ كالقار المُذاب، وقد مَّر هذا‏.‏

‏{‏وتكون الجبال‏}‏‏:‏ ‏[‏الجواهر‏.‏ وقيل‏:‏ الذَّهب والفضَّة والنُّحاس‏]‏ ‏{‏كالعهن‏}‏ كالصُّوف المصبوغ‏.‏

‏{‏ولا يسأل حميم حميماً‏}‏ لا يسأل قريبٌ عن قريبٍ لاشتغاله بما هو فيه‏.‏

‏{‏يبصرونهم‏}‏ يُعرَّف بعضهم بعضاً، أَيْ‏:‏ إنَّ الحميم يرى حميمه ويعرفه، ولا يسأل عن شأنه‏.‏ ‏{‏يودُّ المجرم‏}‏ يتمنَّى الكافر ‏{‏لو يفتدي من عذاب يومئذٍ ببنيه‏}‏‏.‏

‏{‏وصاحبته‏}‏ وزوجته ‏{‏وأخيه‏}‏‏.‏

‏{‏وفصيلته‏}‏ عشيرته التي فُصِلَ منها ‏{‏التي تؤويه‏}‏ تضمُّه إليها في النَّسب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 23‏]‏

‏{‏وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ ‏(‏14‏)‏ كَلَّا إِنَّهَا لَظَى ‏(‏15‏)‏ نَزَّاعَةً لِلشَّوَى ‏(‏16‏)‏ تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى ‏(‏17‏)‏ وَجَمَعَ فَأَوْعَى ‏(‏18‏)‏ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ‏(‏19‏)‏ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ‏(‏20‏)‏ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ‏(‏21‏)‏ إِلَّا الْمُصَلِّينَ ‏(‏22‏)‏ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏ومَنْ في الأرض جميعاً ثم ينجيه‏}‏ ذلك الافتداء‏.‏

‏{‏كلا‏}‏ ليس الأمر كذلك، لا ينجيه شيءٌ‏.‏ ‏{‏إنها لظى‏}‏ وهي من أسماء جهنَّم‏.‏

‏{‏نزاعة للشوى‏}‏ يعني‏:‏ جلود الرَّأس تقشيرها عنه‏.‏

‏{‏تدعو‏}‏ الكافر باسمه والمنافق، فتقول‏:‏ إليَّ إليَّ يا ‏{‏مَنْ أدبر‏}‏ عن الإِيمان ‏{‏وتولى‏}‏ أعرض‏.‏

‏{‏وجمع‏}‏ المال ‏{‏فأوعى‏}‏ فأمسكه في وعائه، ولم يُؤدِّ حقَّ الله منه‏.‏

‏{‏إنَّ الإِنسان خُلق هلوعاً‏}‏ وتفسير الهلوع ما ذكره في قوله‏:‏

‏{‏إذا مسَّه الشر جزوعاً‏}‏ يجزع من الشَّرِّ ولا يستمسك‏.‏

‏{‏وإذا مسَّه الخير منوعاً‏}‏ إذا أصاب المال منع حقَّ الله‏.‏

‏{‏إلاَّ المصلين‏}‏ أَيْ‏:‏ المؤمنين‏.‏

‏{‏الذين هم على صلاتهم دائمون‏}‏ لا يلتفتون في الصَّلاة عن سمت القبلة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

‏{‏والذين هم بشهاداتهم قائمون‏}‏ يقيمونها ولا يكتمونها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 44‏]‏

‏{‏فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ ‏(‏36‏)‏ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ ‏(‏37‏)‏ أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ ‏(‏38‏)‏ كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ ‏(‏39‏)‏ فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ ‏(‏40‏)‏ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ‏(‏41‏)‏ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ‏(‏42‏)‏ يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ ‏(‏43‏)‏ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

‏{‏فما للذين كفروا‏}‏ ما بالهم ‏{‏قبلك مهطعين‏}‏ يُديمون النَّظر إليك، ويتطلّعون نحوك‏.‏

‏{‏عن اليمين وعن الشمال‏}‏ عن جوانبك ‏{‏عزين‏}‏ جماعاتٍ حلقاً حلقاً، وذلك أنَّهم كانوا يجتمعون عنده، ويستهزئون به وبأصحابه، ويقولون‏:‏ لئن دخل هؤلاء الجنَّة فلندخلنَّها قبلهم‏.‏ قال الله تعالى‏:‏

‏{‏أيطمع كلُّ امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم كلا‏}‏ لا يدخلونها‏.‏ ‏{‏إنا خلقناهم مما يعلمون‏}‏ من ترابٍ ومن نطفةٍ، فلا يستوجب أحدٌ الجنة بشرفه وماله؛ لأنَّ الخلق كلَّهم من أصلٍ واحدٍ، بل يستوجبونها بالطَّاعة‏.‏

‏{‏فلا أقسم‏}‏ ‏"‏ لا ‏"‏ صلة‏.‏ يعني‏:‏ أُقسم‏.‏ وقوله‏:‏

‏{‏وما نحن بمسبوقين‏}‏ أَيْ‏:‏ بمغلوبين، نظيره قد تقدَّم في سورة الواقعة‏.‏

‏{‏فذرهم يخوضوا‏}‏ في باطلهم ‏{‏ويلعبوا‏}‏ في دنياهم ‏{‏حتى يُلاقوا يومهم الذي يوعدون‏}‏ نسختها آية القتال‏.‏

‏{‏يوم يخرجون من الأجداث‏}‏ القبور ‏{‏سراعاً كأنهم إلى نصب‏}‏ إلى شيءٍ منصوبٍ من علمٍ أو رايةٍ ‏{‏يوفضون‏}‏ يُسرعون‏.‏

‏{‏خاشعة أبصارهم‏}‏ ذليلةً خاضعةً لا يرفعونها لذلَّتهم ‏{‏ترهقهم ذلة‏}‏ يغشاهم هوان ‏{‏ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون‏}‏ يعني‏:‏ يوم القيامة‏.‏

سورة نوح

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏1‏)‏ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏2‏)‏ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ ‏(‏3‏)‏ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏إنا أرسلنا نوحاً إلى قومه أن أنذر قومك‏}‏ أَيْ‏:‏ بأن خوِّفهم عذاب الله ‏{‏من قبل أن يأتيهم عذابٌ أليم‏}‏‏.‏

‏{‏قال يا قوم إني لكم نذير مبين‏}‏‏.‏ ‏{‏أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون‏}‏‏.‏

‏{‏يغفر لكم من ذنوبكم‏}‏ ‏{‏مِنْ‏}‏ صلة ‏{‏ويؤخركم‏}‏ عن العذاب ‏{‏إلى أجل مسمىً‏}‏ وهو أجل الموت، فتموتوا غيرَ ميتة مَنْ يهلك بالعذاب ‏{‏إنَّ أجل الله إذا جاء لا يؤخر‏}‏ إذا جاء الأجل في الموت لا يُؤخَّر ‏{‏لو كنتم تعلمون‏}‏ ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 14‏]‏

‏{‏فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا ‏(‏6‏)‏ وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ‏(‏7‏)‏ ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ‏(‏8‏)‏ ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا ‏(‏9‏)‏ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا ‏(‏10‏)‏ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ‏(‏11‏)‏ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ‏(‏12‏)‏ مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا ‏(‏13‏)‏ وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏إلاَّ فراراً‏}‏ أَيْ‏:‏ نفاراً عن طاعتك وإدباراً عني‏.‏

‏{‏وإني كلما دعوتهم‏}‏ إلى الإِيمان بك ‏{‏لتغفر لهم‏}‏ ما قد سلف من ذنوبهم ‏{‏جعلوا أصابعهم في آذانهم‏}‏ لئلا يسمعوا صوتي ‏{‏واستغشوا ثيابهم‏}‏ غطُّوا بها وجوههم مبالغةً في الإِعراض عني كيلا يروني ‏{‏وأصروا‏}‏ أَقاموا على كفرهم ‏{‏واستكبروا‏}‏ عن اتِّباعي ‏{‏استكباراً‏}‏ لأنَّهم قالوا‏:‏ ‏{‏أَنؤمنُ لك واتَّبعكَ الأَرْذَلون‏}‏ ‏{‏ثم إني دعوتهم جهاراً‏}‏ أظهرتُ لهم الدَّعوة‏.‏

‏{‏ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسراراً‏}‏ أَيْ‏:‏ خلطتُ دعاءَهم العلانيَة بدعاءِ السِّرِّ‏.‏

‏{‏فقلت استغفروا ربكم إنه غفاراً‏}‏‏.‏ ‏{‏يرسل السماء عليكم مدراراً‏}‏‏.‏

‏{‏ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً‏}‏ وذلك أنَّهم لما كذَّبوه حبس الله عنهم المطر وأعقم نساءَهم، فهلكت أموالهم ومواشيهم، فوعدهم نوحٌ إنْ آمنوا أَنْ يردَّ الله عليهم ذلك، فقال‏:‏ ‏{‏يرسل السماء عليكم مدراراً‏}‏ كثيرة الدرِّ، أَيْ‏:‏ كثيرة المطر، ‏{‏ويمددكم بأموالٍ وبنين‏}‏‏:‏ يعطكم زينة الدُّنيا، وهي المال والبنون‏.‏

‏{‏ما لكم لا تَرْجُون لله وقاراً‏}‏ لا تخافون لله عظمةً‏.‏

‏{‏وقد خلقكم أطواراً‏}‏ حالاً بعد حالٍ‏.‏ نطفةً، ثمَّ علقةً، ثمَّ مضغةً، إلى تمام الخلق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 18‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا ‏(‏15‏)‏ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا ‏(‏16‏)‏ وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا ‏(‏17‏)‏ ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقاً‏}‏ بعضها فوق بعض‏.‏

‏{‏وجعل القمر فيهن نوراً‏}‏ أَيْ‏:‏ في إحداهنَّ ‏{‏وجعل الشمس سراجاً‏}‏ تُضِيءُ لأهل الأرض‏.‏

‏{‏والله أنبتكم من الأرض نباتاً‏}‏ جعلكم تنبتون من الأرض نباتاً، وذلك أنَّه خلق آدم من الأرض وأولاده ‏[‏أحياءً‏]‏ منه‏.‏

‏{‏ثم يعيدكم فيها‏}‏ أمواتاً ‏{‏ويخرجكم‏}‏ منها إخراجاً‏.‏ وقوله‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 28‏]‏

‏{‏لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا ‏(‏20‏)‏ قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا ‏(‏21‏)‏ وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا ‏(‏22‏)‏ وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا ‏(‏23‏)‏ وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا ‏(‏24‏)‏ مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا ‏(‏25‏)‏ وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ‏(‏26‏)‏ إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا ‏(‏27‏)‏ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏سبلاً فجاجاً‏}‏ أَيْ‏:‏ طرقاً بيِّنةً‏.‏ وقوله‏:‏

‏{‏واتبعوا مَنْ لم يزده ماله وولده إلاَّ خساراً‏}‏ أَيْ‏:‏ اتَّبعوا أشرافهم الذين لا يزيدون بإنعام الله تعالى عليهم بالمال والولد إلاَّ طغياناً وكفراً‏.‏

‏{‏ومكروا مكراً كباراً‏}‏ أفسدوا في الأرض فساداً عظيماً بالكفر وتكذيب الرُّسل‏.‏

‏{‏وقالو‏}‏ لسفلتهم‏:‏ ‏{‏لا تذرنَّ آلهتكم ولا تَذَرُنَّ ودَّاً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً‏}‏ وفي أسماء أوثانهم‏.‏

‏{‏وقد أضلوا كثيراً‏}‏ أَيْ‏:‏ ضلَّ كثيرٌ من النَّاس بسببها، كقوله‏:‏ ‏{‏إنهنَّ أضللْنَ كثيراً من النَّاس‏}‏ ‏{‏ولا تزد الظالمين إلاَّ ضلالاً‏}‏ دعاءٌ من نوحٍ عليهم بأن يزيدهم الله ضلالاً، وذلك أن الله تعالى أخبره أنه لن يؤمن من قومه إلاَّ من قد آمن، فلما أيس نوح من إيمانهم دعا عليهم بالضَّلال والهلاك‏.‏ قال الله تعالى‏:‏

‏{‏ممَّا خطيئاتهم‏}‏ ‏{‏ما‏}‏ صلة، أَيْ‏:‏ مِن خطيئاتهم التي ارتكبوها ‏{‏أغرقوا‏}‏ بالطُّوفان ‏{‏فأدخلوا ناراً‏}‏ بعد الغرق، أَيْ‏:‏ أُدخلوا جهنَّم ‏{‏فلم يجدوا لهم من دون الله أنصاراً‏}‏ لم يجدوا مَنْ يمنعهم من عذاب الله‏.‏

‏{‏وقال نوحٌ ربِّ لا تذر على الأرض من الكافرين ديَّاراً‏}‏ أَيْ‏:‏ نازل دار، أَيْ‏:‏ أحداً‏.‏

‏{‏إنك إن تذرهم‏}‏ فلا تهلكهم ‏{‏يضلوا عبادك‏}‏ بدعوتهم إلى الضَّلال ‏{‏ولا يلدوا إلاَّ فاجراً كفاراً‏}‏ إلاَّ مَنْ يفجر ويكفر، وذلك أنَّ الله أخبره أنَّهم لا يلدون مؤمناً‏.‏

‏{‏ربِّ اغفر لي ولوالدي‏}‏ وكانا مؤمنين ‏{‏ولمن دخل بيتي‏}‏ مسجدي ‏{‏مؤمناً للمؤمنين والمؤمنات‏}‏ إلى يوم القيامة ‏{‏ولا تزد الظالمين إلاَّ تباراً‏}‏ هلاكاً ودماراً‏.‏

سورة الجن

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا ‏(‏1‏)‏‏}‏

‏{‏قل أوحي إليَّ‏}‏ أَيْ‏:‏ أُخبرت بالوحي من الله إليَّ ‏{‏أنَّه استمع نفرٌ من الجن‏}‏ وذلك أنَّ الله تعالى بعث نفراً من الجنِّ ليَستمعوا قراءة النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو يُصلِّي الصُّبح ببطن نخلة، وهؤلاء الذين ذكرهم الله في سورة الأحقاف في قوله‏:‏ ‏{‏وإذ صرفنا إليك نفراً‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ فلما رجعوا إلى قومهم قالوا‏:‏ ‏{‏إنا سمعنا قرآناً عجباً‏}‏ في فصاحته وبيانه وصدق إخباره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏3- 11‏]‏

‏{‏وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا ‏(‏3‏)‏ وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا ‏(‏4‏)‏ وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ‏(‏5‏)‏ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ‏(‏6‏)‏ وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا ‏(‏7‏)‏ وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا ‏(‏8‏)‏ وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا ‏(‏9‏)‏ وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ‏(‏10‏)‏ وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏وأنَّه تعالى جدُّ ربنا‏}‏ أي‏:‏ جلاله وعظمته عن أن يتَّخذ ولداً أو صاحبة‏.‏

‏{‏وأنَّه كان يقول سفيهنا‏}‏ جاهلنا ‏{‏على الله شططاً‏}‏ غلوَّاً في الكذب حتى يصفه بالولد والصاحبة‏.‏

‏{‏وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذباً‏}‏ أي‏:‏ كنَّا نظنُّهم صادقين في أنَّ لله صاحبةً وولداً حتى سمعنا القرآن، وكنَّا نظنُّ أنَّ أحداً لا يكذب على الله‏.‏ انقطع هاهنا قول الجن‏.‏ قال الله تعالى‏:‏

‏{‏وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن‏}‏ وذلك أنَّ الرَّجل في الجاهليَّة كان إذا سافر فأمسى في الأرض القفر‏.‏ قال‏:‏ أعوذ بسيِّد هذا الوادي من شرِّ سفهاء قومه، أَي‏:‏ الجنِّ‏.‏ يقول الله‏:‏ ‏{‏فزادوهم رهقاً‏}‏ أَيْ‏:‏ فزادوهم بهذا التَّعوُّذ طغياناً، وذلك أنَّهم قالوا‏:‏ سُدْنا الجنَّ والإِنس‏.‏

‏{‏وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحداً‏}‏ يقول‏:‏ ظنَّ الجنُّ كما ظننتم أيُّها الإِنس أن لا بعث يوم القيامة، وقالت الجنُّ‏:‏

‏{‏وأنا لمسنا السماء‏}‏ أَي‏:‏ رُمْنَا استراق السَّمع فيها ‏{‏فوجدناها ملئت حرساً شديداً‏}‏ من الملائكة ‏{‏وشهباً‏}‏ من النُّجوم‏.‏ يريدون‏:‏ حُرست بالنُّجوم من استماعنا‏.‏

‏{‏وأنا كنَّا‏}‏ قبل ذلك ‏{‏نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصداً‏}‏ أي‏:‏ كواكب حفظةً تمنع من الاستماع‏.‏

‏{‏وأنَّا لا ندري أشرٌّ أريد بمن في الأرض‏}‏ بحدوث رجم الكواكب ‏{‏أم أراد بهم ربهم رشداً‏}‏ أَيْ‏:‏ خيراً‏.‏

‏{‏وأنا منا الصالحون‏}‏ بعد استماع القرآن، أَيْ‏:‏ بررةٌ أتقياءُ ‏{‏ومنا دون ذلك‏}‏ دون البررة ‏{‏كنا طرائق قدداً‏}‏ أَيْ‏:‏ أصنافاً مختلفين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 14‏]‏

‏{‏وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا ‏(‏12‏)‏ وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آَمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا ‏(‏13‏)‏ وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض‏}‏ علمنا أن لا نفوته إِنْ أراد بنا أمراً ‏{‏ولن نعجزه هرباً‏}‏ إِنْ طلبنا‏.‏ وقوله‏:‏

‏{‏فلا يخاف بَخْساً‏}‏ أَيْ‏:‏ نقصاً ‏{‏ولا رهقاً‏}‏ أَيْ‏:‏ ظلماً، والمعنى‏:‏ لا نخاف أن ينقص من حسناته، ولا أن يُزاد في سيئاته‏.‏

‏{‏وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون‏}‏ الجائرون عن الحقّ ‏{‏فمن أسلم فأولئك تحروا رشداً‏}‏ قصدوا طريق الحقّ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 19‏]‏

‏{‏وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا ‏(‏16‏)‏ لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا ‏(‏17‏)‏ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ‏(‏18‏)‏ وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏وأن لو استقاموا على الطريقة‏}‏ لو آمنوا جميعاً، أَي‏:‏ الخلق كلُّهم أجمعون الجنُّ والإِنس ‏{‏لأسقيناهم ماءً غدقاً‏}‏ لوسَّعنا عليهم في الدُّنيا، وضرب المثل بالماء لأنَّ الخير كلَّه والرِّزق بالمطر، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو أنَّ أهل القرى آمنوا واتقوا‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

‏{‏لِنَفْتنهم فيه‏}‏ لنختبرهم فنرى كيف شكرهم ‏{‏ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه‏}‏ يدخله ‏{‏عذاباً صعداً‏}‏ شاقاً‏.‏

‏{‏وأنَّ المساجد لله‏}‏ يعني‏:‏ المواضع التي يُصلَّى فيها‏.‏ وقيل‏:‏ الأعضاء التي يسجد عليها‏.‏ وقيل‏:‏ يعني‏:‏ إنَّ السَّجدات لله، جمع مسجد بمعنى السُّجود ‏{‏فلا تدعوا مع الله أحداً‏}‏ أمرٌ بالتَّوحيد لله تعالى في الصَّلاة‏.‏

‏{‏وإنه لما قام عبد الله يدعوه‏}‏ أي‏:‏ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لمَّا قام ببطن نخلة يدعو الله ‏{‏كادوا يكونون عليه‏}‏ كاد الجنُّ يتراكبون ويزدحمون حرصاً على ما يسمعون، ورغبةً فيه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 28‏]‏

‏{‏قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا ‏(‏22‏)‏ إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ‏(‏23‏)‏ حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا ‏(‏24‏)‏ قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا ‏(‏25‏)‏ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا ‏(‏26‏)‏ إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ‏(‏27‏)‏ لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏ولن أجد من دونه ملتحداً‏}‏ أَيْ‏:‏ ملجأً‏.‏

‏{‏إلاَّ بلاغاً من الله ورسالاته‏}‏ لكن أُبلِّغ عن الله ما أُرسلت به، ولا أملك الكفر والإِيمان وهو قوله‏:‏ ‏{‏لا أملك لكم ضرّاً ولا رشداً‏}‏‏.‏ وقوله‏:‏

‏{‏حتى إذا رأوا‏}‏ أي‏:‏ الكفَّار ‏{‏ما يوعدون‏}‏ من العذاب والنَّار ‏{‏فسيعلمون‏}‏ حينئذٍ ‏{‏مَنْ أضعف ناصراً‏}‏ أنا أو هم ‏{‏وأقل عدداً‏}‏‏.‏

‏{‏قل إن أدري‏}‏ ما أدري ‏{‏أقريب ما توعدون‏}‏ من العذاب ‏{‏أم يجعل له ربي أمداً‏}‏ أجلاً وغايةً‏.‏

‏{‏عالم الغيب‏}‏ أي‏:‏ هو عالم الغيب ‏{‏فلا يظهر‏}‏ فلا يُطلع على ما غيَّبه عن العباد ‏{‏أحداً‏}‏‏.‏

‏{‏إلاَّ من ارتضى‏}‏ اصطفى ‏{‏من رسول‏}‏ فإنَّه يُطلعه على ما يشاء من الغيب معجزةً له ‏{‏فإنَّه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً‏}‏ أي‏:‏ يجعل من جميع جوانبه رصداً من الملائكة يحفظون الوحي من أن يسترقه الشَّياطين، فتلقيه إلى الكهنة، فيساوون الأنبياء‏.‏

‏{‏ليعلم‏}‏ الله ‏{‏أن قد أبلغوا رسالات ربهم‏}‏ أي‏:‏ ليُبلِّغوا رسالات ربِّهم، فإذا بلَّغوا علم الله ذلك، فصار كقوله‏:‏ ‏{‏ولمَّا يعلمِ اللَّهُ الذين جاهدوا منكم‏}‏ أي‏:‏ ولمَّا يجاهدوا‏.‏ ‏{‏وأحاط بما لديهم‏}‏ علم الله ما عندهم ‏{‏وأحصى كلَّ شيء عدداً‏}‏ أي‏:‏ علم عدد كلِّ شيء فلم يخف عليه شيءٌ‏.‏

سورة المزمل

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 10‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ‏(‏1‏)‏ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏2‏)‏ نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا ‏(‏3‏)‏ أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا ‏(‏4‏)‏ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ‏(‏5‏)‏ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا ‏(‏6‏)‏ إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا ‏(‏7‏)‏ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا ‏(‏8‏)‏ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا ‏(‏9‏)‏ وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏يا أيها المزمل‏}‏ أي‏:‏ المُتَلفِّف بثيابه‏.‏ نزل هذا على النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو مُتلَفِّفٌ بقطيفةٍ‏.‏

‏{‏قم الليل إلاَّ قليلاً‏}‏ أي‏:‏ صلِّ ‏[‏كلَّ‏]‏ اللَّيلِ إلاَّ شيئاً يسيراً تنام فيه، وهو الثُّلث، ثمَّ قال‏:‏

‏{‏نصفه‏}‏ أَيْ‏:‏ قم نصفه ‏{‏أو انقص منه‏}‏ من النِّصف ‏{‏قليلاً‏}‏ إلى الثُّلث‏.‏

‏{‏أو زد عليه‏}‏ على النِّصف إلى الثُّلثين، جعل له سعةً في مدَّة قيامه في اللَّيل، فكأنَّه قال‏:‏ قم ثلثي اللَّيل أو نصفه أو ثلثه، فلمَّا نزلت هذه الآية أخذ المسلمون أنفسهم بالقيام على هذه المقادير، وشقَّ ذلك عليهم؛ لأنَّهم لم يمكنهم أن يحفظوا هذه المقادير، وكانوا يقومون اللَّيل كلَّه انتفخت أقدامهم، ثمَّ خفَّف الله عنهم بآخر هذه السُّورة، وهو قوله‏:‏ ‏{‏إنَّ ربك يعلمُ أنَّك تقوم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، ثمَّ نسخ قيام اللَّيل بالصَّلوات الخمس، وكان هذا في صدر الإِسلام‏.‏ وقوله‏:‏

‏{‏ورتل القرآن ترتيلاً‏}‏ أَي‏:‏ بيِّنه تبييناً بعضُه على إثر بعضٍ في تُؤّدةٍ‏.‏

‏{‏قولاً ثقيلاً‏}‏ رصيناً رزيناً، ليس بالسفساف والخفيف؛ لأنَّه كلام الله‏.‏

‏{‏إنَّ ناشئة الليل‏}‏ ساعاته ‏{‏هي أشد وطأ‏}‏ أثقلُ على المُصلِّين من ساعات النَّهار، ومَنْ قرأ‏:‏ ‏"‏ وِطاء ‏"‏ فمعناه‏:‏ أشدُّ موافقةً بين القلب والسَّمع والبصر واللِّسان؛ لأنَّ اللَّيل تهدأ فيه الأصوات، وتنقطع الحركات، ولا تحول دون تسمُّعه وتفهُّمه شيءٌ‏.‏ ‏{‏وأقوم قيلاً‏}‏ وأصوب قراءةً‏.‏

‏{‏إنَّ لك في النهار سبحاً طويلاً‏}‏ أَيْ‏:‏ تصرُّفاً في حوائجك إقبالاً وإدباراً، وهذا حثٌ على القيام باللَّيل لقراءة القرآن‏.‏

‏{‏واذكر اسم ربك‏}‏ بالتَّعظيم والتَّنزيه ‏{‏وتبتل إليه تبتيلاً‏}‏ وانقطع إليه في العبادة‏.‏ وقوله‏:‏

‏{‏فاتخذوه وكيلاً‏}‏ أَيْ‏:‏ قيِّماً بأمورك مُفوَّضاً إليه‏.‏

‏{‏واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً‏}‏ وهو أن لا تتعرَّض لهم ولا تشتغل بمكافآتهم، وهذه الآية نسختها آية القتال‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 20‏]‏

‏{‏وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا ‏(‏11‏)‏ إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا ‏(‏12‏)‏ وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏13‏)‏ يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا ‏(‏14‏)‏ إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا ‏(‏15‏)‏ فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا ‏(‏16‏)‏ فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا ‏(‏17‏)‏ السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا ‏(‏18‏)‏ إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا ‏(‏19‏)‏ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏وذرني والمكذبين‏}‏ لا تهتمَّ لشأنهم فإني أكفيكهم، يعني‏:‏ رؤساء المشركين، كقوله‏:‏ ‏{‏فذرني ومَنْ يُكذِّب بهذا الحديث‏}‏ وقد مرَّ‏.‏ ‏{‏أولي النعمة‏}‏ ذوي التَّنعُّم والتًَّرفُّه ‏{‏ومهِّلهم قليلاًَ‏}‏ يعني‏:‏ إلى مدَّة آجالهم‏.‏

‏{‏إنَّ لدينا‏}‏ يعني‏:‏ في الآخرة ‏{‏أنكالاً‏}‏ قيوداً ‏{‏وجحيماً‏}‏ ناراً عظيمةً‏.‏

‏{‏وطعاماً ذا غُصَّةٍ‏}‏ يغصُّ في الحلوق ولا يسوغ، وهو الغِسلين والضَّريع والزَّقُّوم‏.‏

‏{‏يوم ترجف الأرض والجبال‏}‏ تضطرب وتتحرَّك ‏{‏وكانت الجبال كثيباً مهيلاً‏}‏ رملاً سائلاً‏.‏

‏{‏إنا أرسلنا إليكم رسولاً‏}‏ محمداً صلى الله عليه وسلم ‏{‏شاهداً عليكم‏}‏ يشهد عليكم يوم القيامة بما فعلتم‏.‏ وقوله‏:‏

‏{‏فأخذناه أخذاً وبيلاً‏}‏ ثقيلاً غليظاً‏.‏

‏{‏فكيف تتقون إن كفرتم يوماً يجعل الولدان شيباً‏}‏ أَيْ‏:‏ فكيف تتحصَّنون من عذاب يومٍ يشيب الطِّفل لهوله وشدَّته إن كفرتم اليوم في الدُّنيا‏.‏

‏{‏السماء منفطر به‏}‏ متشقِّق في ذلك اليوم‏.‏

‏{‏إنَّ هذه‏}‏ الآيات ‏{‏تذكرة‏}‏ تذكيرٌ للخلق ‏{‏فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً‏}‏ بالطَّاعة والإِيمان‏.‏

‏{‏إنَّ ربك يعلم أنك تقوم‏}‏ للصَّلاة والقراءة ‏{‏أدنى‏}‏ أقلَّ ‏{‏من ثلثي الليل ونصفه وثلثه‏}‏ أي‏:‏ وتقوم نصفه وثلثه ‏{‏وطائفة من الذين معك، والله يقدِّر الليل والنهار‏}‏ فيعلم مقادير أوقاتهما ‏{‏علم أن لن تحصوه‏}‏ لن تُطيقوا قيام اللَّيل ‏{‏فتاب عليكم‏}‏ رجع لكم إلى التَّخفيف ‏{‏فاقرؤوا ما تيسر من القرآن‏}‏ رخَّص لهم أن يقوموا، فيقرؤوا ما أمكن وخفَّ بغير مقدارٍ معلومٍ من القراءة والمُدَّة‏.‏ ‏{‏علم أن سيكون منكم مرضى‏}‏ فيثقل عليهم قيام اللَّيل، وكذلك المسافرون للتِّجارة والجهاد، وهو قوله‏:‏ ‏{‏وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله‏}‏ يريد‏:‏ أنَّه خفف قيام اللَّيل لما علم من ثقله على هؤلاء ‏{‏فاقرؤوا ما تيسر منه‏}‏ قال المُفسِّرون‏:‏ وكان هذا في صدر الإِسلام، ثمَّ نُسخ بالصَّلوات الخمس، وقوله‏:‏ ‏{‏وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً وأعظم أجراً‏}‏ مما خلَّفتم وتركتم‏.‏ ‏{‏واستغفروا الله إن الله غفور‏}‏ ‏[‏لذنوب المؤمنين ‏{‏رحيم‏}‏ بهم‏]‏‏.‏

سورة المدثر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ‏(‏1‏)‏ قُمْ فَأَنْذِرْ ‏(‏2‏)‏ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ‏(‏3‏)‏ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ‏(‏4‏)‏ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏يا أيها المدثر‏}‏ ‏[‏أي‏:‏ المدثِّر‏]‏ في ثوبه‏.‏

‏{‏قم فأنذر‏}‏ النَّاس‏.‏

‏{‏وربك فكبر‏}‏ فصفه بالتَّعظيم‏.‏

‏{‏وثيابك فطهر‏}‏ لا تلبسها على معصيةٍ ولا على غدر؛ فإنَّ الغادر والفاجر يُسمَّى دنس الثِّياب‏.‏

‏{‏والرجز فاهجر‏}‏ أي‏:‏ الأوثان فاهجر ‏[‏عبادتها‏]‏، وكذلك كلَّ ما يؤدي إلى العذاب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 8‏]‏

‏{‏وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ‏(‏6‏)‏ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ‏(‏7‏)‏ فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏ولا تمنن تستكثر‏}‏ لا تُعطِ شيئاً لتأخذَ أكثر منه، وهذا خاصَّة للنبيِّ صلى الله عليه وسلم لأنَّه مأمورٌ بأجلِّ الأخلاق، وأشرفِ الآداب‏.‏

‏{‏ولربك فاصبر‏}‏ اصبر لله على أوامره ونواهيه وما يمتحنك به حتى يَكون هو الذي يُثيبك عليها‏.‏

‏{‏فإذا نقر في الناقور‏}‏ نُفخ في الصُّور‏.‏ الآية‏.‏ وقوله‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 19‏]‏

‏{‏ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا ‏(‏11‏)‏ وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا ‏(‏12‏)‏ وَبَنِينَ شُهُودًا ‏(‏13‏)‏ وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا ‏(‏14‏)‏ ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ ‏(‏15‏)‏ كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا ‏(‏16‏)‏ سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا ‏(‏17‏)‏ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ‏(‏18‏)‏ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏ذرني ومن خلقت وحيداً‏}‏ أَيْ‏:‏ لا تهتمَّ لشأنه فإني أكفيك أمره، أَي‏:‏ الوليد بن المغيرة، يقول‏:‏ خلقته وحيداً لا ولد له ولا مال‏.‏

‏{‏وجعلت له مالاً ممدوداً‏}‏ دائماً لا ينقطع عنه من الزَّرع والضَّرع والتّجارة‏.‏

‏{‏وبنين شهوداً‏}‏ حضوراً معه بمكَّة، وكانوا عشرةً‏.‏

‏{‏ومهدت له تمهيداً‏}‏ بسطت له في العيش والمال بسطاً‏.‏

‏{‏ثم يطمع أن أزيد‏}‏ يرجو أن أزيده مالاً وولداً‏.‏

‏{‏كلا‏}‏ قطعٌ لرجائه ‏{‏إنَّه كان لآياتنا عنيداً‏}‏ للقرآنِ معانداُ غير مطيعٍ‏.‏

‏{‏سأرهقه صعوداً‏}‏ سأغشيه مشقَّةً من العذاب‏.‏

‏{‏إنَّه فكر وقدَّر‏}‏ وذلك أنَّ قريشاً سألته ما تقول في محمَّد‏؟‏ فتفكَّر في نفسه وقدَّر القول في محمَّد عليه السَّلام والقرآن ماذا يمكنه أن يقول فيهما‏.‏

‏{‏فقتل‏}‏ لُعن وعُذِّب ‏{‏كيف قدَّر‏}‏‏؟‏ استفهامٌ على طريق التَّعجُّب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 27‏]‏

‏{‏ثُمَّ نَظَرَ ‏(‏21‏)‏ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ‏(‏22‏)‏ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ ‏(‏23‏)‏ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ‏(‏24‏)‏ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ‏(‏25‏)‏ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ‏(‏26‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ ‏(‏27‏)‏‏}‏

‏{‏ثم نظر‏}‏‏.‏ ‏{‏ثم عبس وبسر‏}‏ كلح وجهه‏.‏

‏{‏ثمَّ أدبر واستكبر‏}‏ عن الإِيمان‏.‏

‏{‏فقال إن هذا‏}‏ ما هذا الذي يقرؤه محمد ‏{‏إلاَّ سحرٌ يؤثر‏}‏ يُروى عن السَّحرة‏.‏

‏{‏إن هذا إلاَّ قول البشر‏}‏ كما قالوا‏:‏ ‏{‏إنَّما يُعلِّمه بشرٌ‏}‏ قال الله تعالى‏:‏

‏{‏سأصليه سقر‏}‏ سأُدخله جهنَّم، ثمَّ أعلم عظم شأن سقر من العذاب، فقال‏:‏

‏{‏وما أدراك ما سقر‏}‏ ما أعلمك أيُّ شيءٍ سقر‏.‏ ‏!‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 39‏]‏

‏{‏لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ ‏(‏29‏)‏ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ‏(‏30‏)‏ وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ ‏(‏31‏)‏ كَلَّا وَالْقَمَرِ ‏(‏32‏)‏ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ‏(‏33‏)‏ وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ ‏(‏34‏)‏ إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ ‏(‏35‏)‏ نَذِيرًا لِلْبَشَرِ ‏(‏36‏)‏ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ‏(‏37‏)‏ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ‏(‏38‏)‏ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ ‏(‏39‏)‏‏}‏

‏{‏لواحة للبشر‏}‏ محرّقةٌ للجلد حتى تُسوِّده‏.‏

‏{‏عليها تسعة عشر‏}‏ من الخزنة، الواحدة منهم يدفع بالدُّفعة الواحدة في جهنَّم أكثر من ربيعة ومضر، فلمَّا نزلت هذه الآية قال بعض المشركين‏:‏ أنا أكفيكم منهم سبعة عشر، فاكفوني اثنين، فأنزل الله‏:‏

‏{‏وما جعلنا أصحاب النار إلاَّ ملائكة‏}‏ لا رجالاً، فمن ذا يغلب الملائكة‏؟‏ ‏{‏وما جعلنا عدتهم‏}‏ عددهم في القلَّة ‏{‏إلاَّ فتنة للذين كفروا‏}‏ لأنَّهم قالوا‏:‏ ما أعوان محمَّدٍ إلاَّ تسعة عشر ‏{‏ليستيقن الذين أوتوا الكتاب‏}‏ ليعلموا أنَّ ما أتى به النبيُّ صلى الله عليه وسلم موافقٌ لما في كتبهم ‏{‏ويزداد الذين آمنوا‏}‏ لأنَّهم يُصدِّقون بما أتى به الرَّسول عليه السَّلام، وبعدد خزنة النَّار ‏{‏ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون‏}‏ أَيْ‏:‏ لا يشكُّون في أنَّ عددهم على ما أخبر به محمد عليه السَّلام ‏{‏وليقول الذين في قلوبهم مرض‏}‏ شكٌّ ‏{‏والكافرون‏:‏ ماذا أراد الله بهذا مثلاً‏}‏ أيُّ‏:‏ شيءٍ أراد الله بهذا العدد وتخصيصه‏؟‏ ‏{‏كذلك‏}‏ كما أضلَّهم الله بتكذيبهم ‏{‏يضلُّ الله مَنْ يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك إلاَّ هو‏}‏ هذا جوابٌ لقولهم‏:‏ ما أعوانه إلاَّ تسعة عشر ‏{‏وما هي‏}‏ أي‏:‏ النَّار ‏{‏إلاَّ ذكرى للبشر‏}‏ أَيْ‏:‏ إنَّها تُذكِّرهم في الدُّنيا النّار في الآخرة‏.‏

‏{‏كلا‏}‏ ليس الأمر على ما ذكروا من التَّكذيب له ‏{‏والقمرِ‏}‏ قسمٌ‏.‏

‏{‏والليل إذ أدبر‏}‏ جاء بعد النَّهار‏.‏

‏{‏والصبح إذا أسفر‏}‏ أضاء‏.‏

‏{‏إنها لإِحدى الكبر‏}‏ إنَّ سقر لإِِحدى الأمور العظام‏.‏

‏{‏نذيراً‏}‏ إنذاراً ‏{‏للبشر‏}‏‏.‏

‏{‏لمن شاء منكم أن يتقدَّم‏}‏ فيما أُمِرَ به ‏{‏أو يتأخر‏}‏ عنه، فقد أُنذرتم‏.‏

‏{‏كلُّ نفسٍ بما كسبت رهينةٌ‏}‏ مأخوذةٌ بعملها‏.‏

‏{‏إلاَّ أصحاب اليمين‏}‏ يعني‏:‏ أهل الجنَّة فهم لا يُرتهنون بذنوبهم، ولكنَّ الله يغفرها لهم‏.‏ وقيل‏:‏ أصحاب اليمين ها هنا أطفال المسلمين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

‏{‏ما سلككم في سقر‏}‏ أَيْ‏:‏ ما أدخلكم جهنَّم‏؟‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 47‏]‏

‏{‏وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ ‏(‏45‏)‏ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ ‏(‏46‏)‏ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ ‏(‏47‏)‏‏}‏

‏{‏وكنا نخوض مع الخائضين‏}‏ ندخل الباطل مع مَنْ دخله‏.‏

‏{‏وكنا نكذب بيوم الدين‏}‏ بيوم الجزاء‏.‏

‏{‏حتى أتانا اليقين‏}‏ الموت‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏49- 56‏]‏

‏{‏فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ‏(‏49‏)‏ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ ‏(‏50‏)‏ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ‏(‏51‏)‏ بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً ‏(‏52‏)‏ كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآَخِرَةَ ‏(‏53‏)‏ كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ ‏(‏54‏)‏ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ ‏(‏55‏)‏ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ‏(‏56‏)‏‏}‏

‏{‏فما لهم عن التذكرة معرضين‏}‏ ما لهم يُعرضون عن تذكيرك إيَّاهم‏.‏

‏{‏كأنَّهم حمر مستنفرة‏}‏ نافرةٌ مذعورة‏.‏

‏{‏فرَّت من قسورة‏}‏ أي‏:‏ الأسد‏.‏ وقيل‏:‏ الرُّماة الصَّيَّادون‏.‏

‏{‏بل يريد كلُّ امرئ منهم أن يؤتى صحفاً منتشرة‏}‏ وذلك أنَّهم قالوا‏:‏ إنْ سرَّك أن نتَّبعك فأت كلَّ واحدٍ منا بكتابٍ من ربِّ العالمين نؤمر فيه باتِّباعك، كما قالوا‏:‏ ‏{‏لن نُؤمنَ لرقيِّك حتى تنزِّلَ علينا كتاباً نقرؤه‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

‏{‏كلا‏}‏ ردٌّ لما قالوا ‏{‏بل لا يخافون الآخرة‏}‏ حيث يقترحون أن يُؤتوا صحفاً منشرة‏.‏

‏{‏كلا إنه تذكرة‏}‏ إنَّ القرآن تذكيرٌ للخلق، وليس بسحرٍ‏.‏

‏{‏فمن شاء ذكره‏}‏‏.‏

‏{‏وما يذكرون إلاَّ أن يشاء الله هو أهل التقوى‏}‏ أهلٌ أن يُتَّقى عقابه ‏{‏وأهل المغفرة‏}‏ أهلٌ أنْ يعمل بما يُؤدِّي إلى مغفرته‏.‏

سورة القيامة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ‏(‏1‏)‏ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ‏(‏2‏)‏ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ ‏(‏3‏)‏ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ‏(‏4‏)‏ بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏لا أقسم‏}‏ ‏"‏ لا ‏"‏ صلةٌ، معناه‏:‏ أقسم، وقيل‏:‏ ‏"‏ لا ‏"‏ ردٌّ لإِنكار المشركين البعث، ثمّ قال‏:‏ أقسم ‏{‏بيوم القيامة‏}‏‏.‏

‏{‏ولا أقسم بالنفس اللوامة‏}‏ وهي نفس ابن آدم تلومه يوم القيامة إنْ كان عمل شرَّاً لِمَ عمله، وإنْ كان عمل خيراً لأمته على ترك الاستكثار منه، وجواب هذا القسم مضمرٌ على تقدير‏:‏ إنَّكم مبعوثون، ودلَّ عليه ما بعده من الكلام، وهو قوله‏:‏

‏{‏أيحسب الإِنسان‏}‏ أي‏:‏ الكافر ‏{‏أن لن نجمع عظامه‏}‏ للبعث والإِحياء بعد التَّفرقة والبلى‏!‏

‏{‏بلى قادرين‏}‏ بلى نقدر على جمعها و‏{‏على أن نسوي بنانه‏}‏ نجعله كخفِّ البعير، فلا يمكنه أن يعمل بها شيئاً، وقيل‏:‏ نُسوِّي بنانه على ما كانت وإنْ دقَّت عظامها وصغرت‏.‏

‏{‏بل يريد الإِنسان ليفجر أمامه‏}‏ يُؤخِّر التَّوبة ويمضي في معاصي الله تعالى قُدُماً قُدُماً، فيقدّم الأعمال السَّيِّئة‏.‏ وقيل‏:‏ معناه ليكفر بما قدَّامه، يدلُّ على هذا قوله‏:‏ ‏{‏يسأل أيان‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 16‏]‏

‏{‏يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ‏(‏6‏)‏ فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ ‏(‏7‏)‏ وَخَسَفَ الْقَمَرُ ‏(‏8‏)‏ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ‏(‏9‏)‏ يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ ‏(‏10‏)‏ كَلَّا لَا وَزَرَ ‏(‏11‏)‏ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ‏(‏12‏)‏ يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ‏(‏13‏)‏ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ‏(‏14‏)‏ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ‏(‏15‏)‏ لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏يسأل أيان‏}‏ متى ‏{‏يوم القيامة‏}‏ تكذيباً به واستبعاداً لوقوعه‏.‏

‏{‏فإذا برق البصر‏}‏ فزع وتحيَّر‏.‏

‏{‏وخسف القمر‏}‏ أظلم وذهب ضوءه‏.‏

‏{‏وجمع الشمس والقمر‏}‏ أَيْ‏:‏ جُمعا في ذهاب نورهما‏.‏

‏{‏يقول الإنسان يومئذٍ أين المفر‏}‏ أَي‏:‏ الفرار‏؟‏

‏{‏كلا‏}‏ لا مفرَّ ذلك اليوم و‏{‏لا وزر‏}‏ ولا ملجأ ولا حِرز‏.‏

‏{‏إلى ربك يومئذٍ المستقر‏}‏ المنتهى والمصير‏.‏

‏{‏ينبأ الإِنسان‏}‏ يُخبر ‏{‏بما قدَّم وأخر‏}‏ بأوَّل عمله وآخره‏.‏

‏{‏بل الإِنسان على نفسه بصيرة‏}‏ أَيْ‏:‏ شاهدٌ عليها بعملها، يشهد عليه جوارحه، وأُدخلت الهاء في البصيرة للمبالغة‏.‏ وقيل‏:‏ لأنَّه أراد بالإِنسان الجوارح‏.‏

‏{‏ولو ألقى معاذيره‏}‏ ولو اعتذر وجادل فعليه من نفسه من يُكذِّب عذره، وقيل‏:‏ معناه‏:‏ ولو أرخى السُّتور وأغلق الأبواب، والمِعذار‏:‏ السِّتر بلغة اليمين‏.‏

‏{‏لا تحرّك به‏}‏ بالوحي ‏{‏لسانك لتعجل به‏}‏ كان جبريل عليه السَّلام إذا نزل بالقرآن تلاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم قبل فراغ جبريل كراهيةَ أن ينفلت منه، فأعلم الله تعالى أنَّه لا يُنسيه إيَّاه، وأنَّه يجمعه في قلبه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 29‏]‏

‏{‏إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ ‏(‏17‏)‏ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ ‏(‏18‏)‏ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ‏(‏19‏)‏ كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ ‏(‏20‏)‏ وَتَذَرُونَ الْآَخِرَةَ ‏(‏21‏)‏ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ‏(‏22‏)‏ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ‏(‏23‏)‏ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ ‏(‏24‏)‏ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ‏(‏25‏)‏ كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ ‏(‏26‏)‏ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ ‏(‏27‏)‏ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ ‏(‏28‏)‏ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ‏(‏29‏)‏‏}‏

‏{‏إنَّ علينا جمعه وقرآنه‏}‏ قراءته عليك حتى تعيه‏.‏

‏{‏فإذا قرأناه فاتبع قرآنه‏}‏ أَي‏:‏ لا تعجل بالتِّلاوة إلى أن يقرأ عليك‏.‏

‏{‏ثم إنَّ علينا بيانه‏}‏ أَيْ‏:‏ علينا أن ننزِّله قرآناً فيه بيانٌ للنَّاس‏.‏

‏{‏كلا‏}‏ زجرٌ وتنبيهٌ‏.‏ ‏{‏بل تحبون العاجلة‏}‏‏.‏

‏{‏وتذرون الآخرة‏}‏ أي‏:‏ تختارون الدُّنيا على العقبى‏.‏

‏{‏وجوهٌ يومئذٍ‏}‏ يوم القيامة ‏{‏ناضرة‏}‏ مُضِيئةٌ حسنةٌ‏.‏ ‏{‏إلى ربها ناظرة‏}‏ تنظر إلى خالقها عياناً‏.‏

‏{‏ووجوه يومئذ باسرة‏}‏ كالحةٌ‏.‏

‏{‏تظن‏}‏ توقن ‏{‏أن يفعل بها فاقرة‏}‏ داهيةٌ عظيمةٌ من العذاب‏.‏

‏{‏كلا إذا بلغت التراقي‏}‏ يعني‏:‏ النَّفس‏.‏ بلغت عظام الحلق‏.‏

‏{‏وقيل مَنْ راق‏}‏ مال مَنْ حضر ذلك الذي قارب الموت‏:‏ هل من طبيبٍ يداويه، وراقٍ يرقيه فيشفى برقيته‏؟‏

‏{‏وظن‏}‏ أيقن الذي نزل به الموت ‏{‏أنَّه الفراق‏}‏ من الدُّنيا والأهل والمال‏.‏

‏{‏والتفت الساق بالساق‏}‏ التفَّت ساقاه لشدَّة النَّزع‏.‏ وقيل‏:‏ تتابعت عليه الشَّدائد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 40‏]‏

‏{‏إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ‏(‏30‏)‏ فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى ‏(‏31‏)‏ وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ‏(‏32‏)‏ ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى ‏(‏33‏)‏ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ‏(‏34‏)‏ ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ‏(‏35‏)‏ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ‏(‏36‏)‏ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ‏(‏37‏)‏ ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى ‏(‏38‏)‏ فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ‏(‏39‏)‏ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏إلى ربك يومئذ المساق‏}‏ المنتهى والمرجع بسوق الملائكة الرُّوح إلى حيث أمر الله سبحانه‏.‏

‏{‏فلا صدَّق ولا صلى‏}‏ يعني‏:‏ أبا جهلٍ لعنه الله‏.‏

‏{‏ولكن كذب وتولى‏}‏ عن الإِيمان‏.‏

‏{‏ثمَّ ذهب إلى أهله يتمطى‏}‏ يتبختر‏.‏

‏{‏أولى لك فأولى‏}‏‏.‏ ‏{‏ثم أولى لك فأولى‏}‏ هذا تهديدٌ ووعيدٌ له، والمعنى‏:‏ وليك المكروه يا أبا أجهل، ‏[‏أي‏:‏ لزمك المكروه‏]‏‏.‏

‏{‏أيحسب الإنسان أن يترك سدى‏}‏ مُهملاً غير مأمورٍ ولا منهيٍّ‏.‏

‏{‏ألم يك نطفة من مني يمنى‏}‏ يصبُّ في الرَّحم‏.‏

‏{‏ثمَّ كان علقة فخلق فسوى‏}‏ فخلقه الله فسوَّى خلقه، حتى صار إنساناً بعد أن كان علقةً‏.‏

‏{‏فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى‏}‏ فخلق من الإِنسان صنفين الرَّجل والمرأة‏.‏

‏{‏أليس ذلك‏}‏ الذي فعل هذا ‏{‏بقادر على أن يحيي الموتى‏}‏‏؟‏ ‏[‏بلى، وهو على كلِّ شيءٍ قدير‏]‏‏.‏

سورة الإنسان

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ‏(‏1‏)‏ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ‏(‏2‏)‏ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏هل أتى على الإنسان‏}‏ قد أتى على آدم ‏{‏حين من الدَّهر‏}‏ أربعون سنةً ‏{‏لم يكن شيئاً مذكوراً‏}‏ لأنَّه كان جسداً مُصوَّراً من طينٍ، لا يُذكر ولا يُعرف، ويجوز أن يريد جميع النَّاس، لأنَّ كلَّ أحدٍ يكون عدماً إلى أَنْ يصير شيئاً مذكوراً‏.‏

‏{‏إنا خلقنا الإِنسان‏}‏ يعني‏:‏ ابن آدم ‏{‏من نطفة أمشاج‏}‏ أخلاطٍ، يعني‏:‏ ماء الرَّجل وماء المرأة واختلاف ألوانهما ‏{‏نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً‏}‏ أَيْ‏:‏ خلقناه كذلك لنختبره بالتَّكليف والأمر والنَّهي‏.‏

‏{‏إنَّا هديناه السبيل‏}‏ بيَّنا له الطَّريق ‏{‏إمَّا شاكراً وإمَّا كفوراً‏}‏ إنْ شكر أو كفر، يعني‏:‏ أعذرنا إليه في بيان الطَّريق ببعث الرَّسول آمن أو كفر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 13‏]‏

‏{‏إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا ‏(‏5‏)‏ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا ‏(‏6‏)‏ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا ‏(‏7‏)‏ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ‏(‏8‏)‏ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ‏(‏9‏)‏ إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ‏(‏10‏)‏ فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا ‏(‏11‏)‏ وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا ‏(‏12‏)‏ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏إنَّ الأبرار‏}‏ المُطيعين لربِّهم‏.‏ ‏{‏يشربون من كأس‏}‏ إناءٍ فيه شرابٌ ‏{‏كان مزاجها كافوراً‏}‏ يُمزج لهم بالكافور‏.‏

‏{‏عيناً‏}‏ من عينٍ ‏{‏يشرب بها‏}‏ بتلك العين ‏{‏عباد الله يفجرونها تفجيراً‏}‏ يقودونها حيث شاؤوا من منازلهم‏.‏

‏{‏يوفون بالنذر‏}‏ إذا نذروا في طاعة الله وفوا به ‏{‏ويخافون يوماً كان شرُّه مستطيراً‏}‏ منتشراً فاشياً‏.‏

‏{‏ويطعمون الطعام على حبّه‏}‏ على قلَّته وحبِّهم إيَّاه ‏{‏مسكيناً‏}‏ فقيراً ‏{‏ويتيماً‏}‏ لا أب له ‏{‏وأسيراً‏}‏ أي‏:‏ المملوك والمحبوس في حقٍّ من المسلمين، ويقولون لهم‏:‏

‏{‏إنما نطعمكم لوجه الله‏}‏ لطلب ثواب الله ‏{‏لا نريد منكم‏}‏ بما نُطعمكم ‏{‏جزاءً‏}‏ مكافأةً منكم ‏{‏لا شكوراً‏}‏ شكراً‏.‏

‏{‏إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً‏}‏ كريه المنظر لشدَّته ‏{‏قمطريراً‏}‏ صعباً شديداً طويل الشَّر‏.‏

‏{‏فوقاهم الله شرَّ ذلك اليوم‏}‏ الذي يخافون ‏{‏ولقَّاهم نضرة‏}‏ ‏[‏ضياءً‏]‏ في وجوههم ‏{‏وسروراً‏}‏ في قلوبهم‏.‏

‏{‏وجزاهم بما صبروا‏}‏ على طاعة الله وعن معصيته ‏{‏جنة وحريراً‏}‏‏.‏

‏{‏متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً‏}‏ حرَّاً ولا برداً، صيفاً ولا شتاءً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 21‏]‏

‏{‏وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا ‏(‏14‏)‏ وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ ‏(‏15‏)‏ قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا ‏(‏16‏)‏ وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا ‏(‏17‏)‏ عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا ‏(‏18‏)‏ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا ‏(‏19‏)‏ وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا ‏(‏20‏)‏ عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏ودانية عليهم ظلالُها‏}‏ أَيْ‏:‏ قريبةً منهم ظلال أشجارها ‏{‏وذللت قطوفها تذليلاً‏}‏ أُدنيت منهم ثمارها، فهم ينالونها قعوداً كانوا أو قياماً‏.‏

‏{‏ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قواريرا‏}‏ أَيْ‏:‏ لها بياض الفضَّة وصفاء القوارير وهو قوله‏:‏

‏{‏قوارير من فضة قدروها تقديراً‏}‏ أي‏:‏ جُعلت الأكواب على قدر رِيِّهِمْ، وهو ألذُّ الشَّراب‏.‏

‏{‏ويسقون فيها كأساً كان مزاجها زنجبيلاً‏}‏ والزَّنجبيل‏:‏ شيءٌ تستلذُّه العرب، فوعدهم الله ذلك في الجنَّة‏.‏

‏{‏عيناً‏}‏ من عينٍ ‏{‏فيها‏}‏ في الجنَّة ‏{‏تسمى‏}‏ تلك العين ‏{‏سلسبيلاً‏}‏

‏{‏ويطوف عليهم ولدان‏}‏ أي‏:‏ غلمانٌ ‏{‏مخلَّدون‏}‏ لا يشيبون ‏{‏إذا رأيتهم حسبتهم‏}‏ في بياضهم وصفاء ألوانهم ‏{‏لؤلؤاً منثوراً‏}‏‏.‏

‏{‏وإذا رأيت ثمَّ‏}‏ إذا رميت ببصرك في الجنَّة ‏{‏رأيت نعيماً وملكاً كبيراً‏}‏ وهو أنَّ أدناهم منزلاً ينظر في ملكه في مسيرة ألف عامٍ‏.‏

‏{‏عاليهم‏}‏ فوقهم ‏{‏ثياب سندس‏}‏ أي‏:‏ الحرير‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏شراباً طهوراً‏}‏ طاهراً من الأقذاء والأقذار، ليس بنجس كخمر الدُّنيا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏ولا تطع منهم آثماً‏}‏ يعني‏:‏ عتبة بن ربيعة ‏{‏أو كفوراً‏}‏ يعني‏:‏ الوليد بن المغيرة، وذلك أنَّهما ضمنا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم المال والتَّزويج إِنْ ترك دعوتهم إلى الإِسلام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 31‏]‏

‏{‏إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا ‏(‏27‏)‏ نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا ‏(‏28‏)‏ إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا ‏(‏29‏)‏ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏30‏)‏ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏31‏)‏‏}‏

‏{‏إنَّ هؤلاء يحبُّون العاجلة‏}‏ يعني‏:‏ الدُّنيا ‏{‏ويذرون وراءهم يوماً ثقيلاً‏}‏ ويتركون العمل ليومٍ شديدٍ أمامهم، وهو يوم القيامة‏.‏

‏{‏نحن خلقناهم وشددنا أسرهم‏}‏ خلقهم وخلق مفاصلهم‏.‏

‏{‏إنَّ هذه‏}‏ السُّورة ‏{‏تذكرة‏}‏ تذكيرٌ للخلق ‏{‏فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً‏}‏ وسيلةً بالطَّاعة‏.‏

‏{‏وما تشاؤون إلاَّ أن يشاء الله‏}‏ أَيْ‏:‏ لستم تشاؤون شيئاً إلاَّ بمشيئة الله تعالى؛ لأنَّ الأمر إليه‏.‏

‏{‏يدخل من يشاء في رحمته‏}‏ جنَّته، وهم المؤمنون، ‏{‏والظالمين‏}‏ الكافرين الذين عبدوا غيره ‏{‏أعدَّ لهم عذاباً أليماً‏}‏‏.‏

سورة المرسلات

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 9‏]‏

‏{‏وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا ‏(‏1‏)‏ فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا ‏(‏2‏)‏ وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا ‏(‏3‏)‏ فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا ‏(‏4‏)‏ فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا ‏(‏5‏)‏ عُذْرًا أَوْ نُذْرًا ‏(‏6‏)‏ إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ ‏(‏7‏)‏ فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ ‏(‏8‏)‏ وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏والمرسلات عرفاً‏}‏ أي‏:‏ الرِّياح التي أُرسلت مُتتابعةً كعُرْف الفرس‏.‏

‏{‏فالعاصفات عصفاً‏}‏ أي‏:‏ الرِّياح الشَّديدة الهبوب‏.‏

‏{‏والناشرات نشراً‏}‏ الرِّياح التي تأتي بالمطر‏.‏

‏{‏فالفارقات فرقاً‏}‏ يعني‏:‏ آي القرآن فرَّقت بين الحلال والحرام‏.‏

‏{‏فالملقيات ذكراً‏}‏ أي‏:‏ الملائكة التي تنزل بالوحي‏.‏

‏{‏عذراً أو نذراً‏}‏ للإِعذار والإِنذار من الله تعالى‏.‏

‏{‏إنَّ ما توعدون‏}‏ من البعث والثَّواب والعقاب ‏{‏لواقع‏}‏‏.‏

‏{‏فإذا النجوم طمست‏}‏ مُحي نورها‏.‏

‏{‏وإذا السماء فُرِجَتْ‏}‏ شُقَّت‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 24‏]‏

‏{‏وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ ‏(‏10‏)‏ وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ ‏(‏11‏)‏ لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ ‏(‏12‏)‏ لِيَوْمِ الْفَصْلِ ‏(‏13‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ ‏(‏14‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏15‏)‏ أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ‏(‏16‏)‏ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآَخِرِينَ ‏(‏17‏)‏ كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ‏(‏18‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏19‏)‏ أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ‏(‏20‏)‏ فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ‏(‏21‏)‏ إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ ‏(‏22‏)‏ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ ‏(‏23‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏وإذا الجبال نسفت‏}‏ قُلعت من أماكنها، فأُذهبت بسرعةٍ‏.‏

‏{‏وإذا الرسل أقتت‏}‏ جُمعت لوقتٍ، وهو يوم القيامة‏.‏

‏{‏لأيِّ يومٍ أجِّلت‏}‏ أُخِّرت وأُمهلت‏.‏

‏{‏ليوم الفصل‏}‏ القضاء بين النَّاس‏.‏

‏{‏وما أدراك ما يوم الفصل‏}‏ على التَّعظيم لذلك اليوم‏.‏ ‏{‏ويلٌ يومئذٍ للمكذبين‏}‏‏.‏

‏{‏ألم نهلك الأولين‏}‏ من الأمم المكذِّبة‏.‏

‏{‏ثم نتبعهم الآخرين‏}‏ ممَّن سلكوا سبيلهم في الكفر والتَّكذيب‏.‏

‏{‏كذلك‏}‏ مثل الذي فعلنا بهم ‏{‏نفعل بالمجرمين‏}‏ بالمُكذِّبين من قومك‏.‏

‏{‏ألم نخلقكم من ماء مهين‏}‏ أي‏:‏ النُّطفة‏.‏

‏{‏فجعلناه في قرار مكين‏}‏ أي‏:‏ الرَّحم‏.‏

‏{‏إلى قدر معلوم‏}‏ وهو وقت الولادة‏.‏

‏{‏فقدرنا‏}‏ أَيْ‏:‏ قدَّرنا وقت الولادة ‏{‏فنعم القادرون‏}‏ فنعم المُقدِّرون نحن، وقُرئت بالتَّشديد والتَّخفيف، لغتان بمعنى واحدٍ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 36‏]‏

‏{‏أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا ‏(‏25‏)‏ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا ‏(‏26‏)‏ وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا ‏(‏27‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏28‏)‏ انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ‏(‏29‏)‏ انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ ‏(‏30‏)‏ لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ ‏(‏31‏)‏ إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ ‏(‏32‏)‏ كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ ‏(‏33‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏34‏)‏ هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ ‏(‏35‏)‏ وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

‏{‏ألم نجعل الأرض كفاتاً‏}‏ وعاءً‏.‏ وقيل‏:‏ ذات كفات، أَيْ‏:‏ ضمٍّ وجمعٍ تَكْفِتُ الخلق أحياءً على ظهرها، وأمواتاً في بطنها‏.‏

‏{‏وجعلنا فيها رواسي‏}‏ جبالاً ثوابت ‏{‏شامخات‏}‏ مرتفعاتٍ‏.‏ ‏{‏وأسقيناكم ماءً فراتاً‏}‏ عذباً‏.‏

‏{‏ويل يومئذ للمكذبين‏}‏ ويُقال لهم ذلك اليوم‏.‏

‏{‏انطلقوا‏}‏ اذهبوا‏.‏ ‏{‏إلى ما كنتم به تكذبون‏}‏ في الدنُّيا‏.‏

‏{‏انطلقوا إلى ظل‏}‏ إلى دُخان جهنَّم ‏{‏ذي ثلاث شعب‏}‏ إذا ارتفع انْشَعَبَ ثلاث شُعَبٍ، فيقف على رؤوس الكافرين‏.‏

‏{‏لا ظليل‏}‏ باردٍ ‏{‏لا يغني من اللهب‏}‏ ولا يدفع من لهب النَّار شيئاً‏.‏

‏{‏إنها ترمي بشرر‏}‏ وهو ما يتطاير من النَّار ‏{‏كالقصر‏}‏ من البناء في العظم‏.‏

‏{‏كأنه جُمالاتٌ‏}‏ جمع جمالٍ ‏{‏صفر‏}‏ سود‏.‏

‏{‏هذا يوم لا ينطقون‏}‏‏.‏

‏{‏ولا يؤذن لهم فيعتذرون‏}‏ يعني‏:‏ في بعض ساعات ذلك اليوم يُؤمرون بالسُّكوت‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏37- 39‏]‏

‏{‏وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏37‏)‏ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ ‏(‏38‏)‏ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ ‏(‏39‏)‏‏}‏

‏{‏هذا يوم الفصل‏}‏ بين أهل الجنَّة والنَّار ‏{‏جمعناكم والأولين‏}‏‏.‏

‏{‏فإن كان لكم كيدٌ فكيدون‏}‏ إنْ كان عندكم حيلةٌ فاحتالوا لأنفسكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏46- 50‏]‏

‏{‏كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ ‏(‏46‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏47‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ ‏(‏48‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏49‏)‏ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

‏{‏كلوا وتمتعوا‏}‏ في الدُّنيا ‏{‏قليلاً إنكم مجرمون‏}‏ مشركون‏.‏

‏{‏وإذا قيل لهم اركعوا‏}‏ صلُّوا ‏{‏لا يركعون‏}‏ لا يصلُّون‏.‏

‏{‏فبأيّ حديث بعده‏}‏ بعد القرآن الذي آتاهم فيه البيان ‏{‏يؤمنون‏}‏ إذا لم يؤمنوا به‏.‏

سورة النبأ

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 7‏]‏

‏{‏عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ ‏(‏1‏)‏ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ‏(‏2‏)‏ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ ‏(‏3‏)‏ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ‏(‏4‏)‏ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ‏(‏5‏)‏ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا ‏(‏6‏)‏ وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏عمَّ يتساءلون‏}‏ ‏[‏عمَّا يتساءلون‏]‏ والمعنى‏:‏ عن أيِّ شيءٍ يتساءلون‏.‏ يعني‏:‏ قريشاً، وهذا لفظ استفهامٍ معناه تفخيم القصَّة، وذلك أنَّهم اختلفوا واختصموا فيما أتاهم به الرَّسول صلى الله عليه وسلم فمن مصدِّق ومكذِّبٍ، ثمَّ بيَّن فقال‏:‏

‏{‏عن النبأ العظيم‏}‏ ‏[‏يعني‏:‏ البعث‏]‏‏.‏

‏{‏الذي هم في مختلفون‏}‏ لا يُصدِّقون به‏.‏

‏{‏كلا‏}‏ ليس الأمر على ما ذكروا من إنكارهم البعث ‏{‏سيعلمون‏}‏ حقيقة وقوعه‏.‏

‏{‏ثم كلا سيعلمون‏}‏ تأكيدٌ وتحقيقٌ، ثمَّ دلَّهم على قدرته على البعث، فقال‏:‏

‏{‏ألم نجعل الأرض مهاداً‏}‏ أَيْ‏:‏ فرشناها لكم حتى سكنتموها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 23‏]‏

‏{‏وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا ‏(‏8‏)‏ وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا ‏(‏9‏)‏ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا ‏(‏10‏)‏ وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا ‏(‏11‏)‏ وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا ‏(‏12‏)‏ وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا ‏(‏13‏)‏ وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا ‏(‏14‏)‏ لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا ‏(‏15‏)‏ وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا ‏(‏16‏)‏ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا ‏(‏17‏)‏ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا ‏(‏18‏)‏ وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا ‏(‏19‏)‏ وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا ‏(‏20‏)‏ إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا ‏(‏21‏)‏ لِلطَّاغِينَ مَآَبًا ‏(‏22‏)‏ لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏وخلقناكم أزواجاً‏}‏ ذكوراً وإناثاً‏.‏

‏{‏وجعلنا نومكم سباتاً‏}‏ راحةً لأبدانكم‏.‏

‏{‏وجعلنا الليل لباساً‏}‏ يلبس كلَّ شيءٍ بسواده‏.‏

‏{‏وجعلنا النهار معاشاً‏}‏ سبباً للمعاش‏.‏

‏{‏وبنينا فوقكم سبعاً شداداً‏}‏ سبع سمواتٍ شدادٍ محكمةٍ‏.‏

‏{‏وجعلنا سراجاً‏}‏ أي‏:‏ الشَّمس ‏{‏وهَّاجاً‏}‏ وقَّاداً حارَّاً‏.‏

‏{‏وأنزلنا من المعصرات‏}‏ السَّحاب ‏{‏ماء ثجاجاً‏}‏ صبَّاباً‏.‏

‏{‏لنخرج به حبَّاً‏}‏ ممَّا يأكله النَّاس ‏{‏ونباتاً‏}‏ ممَّا ترعاه النَّعم‏.‏

‏{‏وجنات ألفافاً‏}‏ مُلتفَّةً مُجتمعةً‏.‏

‏{‏إنَّ يوم الفصل كان ميقاتاً‏}‏ لما وعده الله من الجزاء والثَّواب‏.‏

‏{‏يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجاً‏}‏ زُمراً وجماعاتٍ‏.‏

‏{‏وفتحت السماء‏}‏ شُقِّقت ‏{‏فكانت أبواباً‏}‏ حتى يصير فيها أبواب‏.‏

‏{‏وسيِّرت الجبال‏}‏ عن وجه الأرض ‏{‏فكانت سراباً‏}‏ في خفَّة سيرها‏.‏

‏{‏إنَّ جهنم كانت مرصاداً‏}‏ ترصد أهل الكفر، فلا يجاوزونها‏.‏

‏{‏للطاغين‏}‏ للكافرين ‏{‏مآباً‏}‏ مرجعاً‏.‏

‏{‏لابثين‏}‏ ماكثين ‏{‏فيها أحقاباً‏}‏ جمع حقب، وهو ثمانون سنة، كلُّ سنةٍ ثلثمائة وستون يوماً‏.‏ كلُّ يومٍ كألف سنةٍ من أيَّام الدُّنيا، فإذا مضى حقبٌ عاد حقبٌ إلى ما لا يتناهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 29‏]‏

‏{‏لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا ‏(‏24‏)‏ إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا ‏(‏25‏)‏ جَزَاءً وِفَاقًا ‏(‏26‏)‏ إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا ‏(‏27‏)‏ وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كِذَّابًا ‏(‏28‏)‏ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا ‏(‏29‏)‏‏}‏

‏{‏لا يذوقون فيها برداً‏}‏ نوماً وراحةً ‏{‏ولا شراباً‏}‏‏.‏

‏{‏إلاَّ حميماً‏}‏ ماءً حارَّاً من حميم جهنَّم ‏{‏وغسَّاقاً‏}‏ وهو ما سال من جلود أهل النَّار‏.‏

‏{‏جزاءً وفاقاً‏}‏ أَيْ‏:‏ جُوزوا وفق أعمالهم، فلا ذنب أعظم من الشِّرك، ولا عذاب أعظم من النَّار‏.‏

‏{‏إنهم كانوا لا يرجون حساباً‏}‏ لا يخافون أن يحاسبهم الله‏.‏

‏{‏وكذبوا بآياتنا كذاباً‏}‏ تكذيباً‏.‏

‏{‏وكلَّ شيء‏}‏ من أعمالهم ‏{‏أحصيناه‏}‏ كتبناه ‏{‏كتاباً‏}‏ لنحاسبهم عليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا ‏(‏31‏)‏‏}‏

‏{‏إنَّ للمتقين مفازاً‏}‏ فوزاً بالجنَّة ونجاةً من النَّار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 34‏]‏

‏{‏وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا ‏(‏33‏)‏ وَكَأْسًا دِهَاقًا ‏(‏34‏)‏‏}‏

‏{‏وكواعب‏}‏ جواري قد تكعَّبت ثُدُيّهن‏.‏ ‏{‏أتراباً‏}‏ مُستوياتٍ في السِّنِّ‏.‏

‏{‏وكأساً دهاقاً‏}‏ ممتلئةً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 40‏]‏

‏{‏جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا ‏(‏36‏)‏ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا ‏(‏37‏)‏ يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا ‏(‏38‏)‏ ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآَبًا ‏(‏39‏)‏ إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏عطاءً حساباً‏}‏ كثيراً كافياً، وقوله‏:‏

‏{‏لا يملكون منه خطاباً‏}‏ أَيْ‏:‏ لا يمكلون أن يخاطبوه إلاَّ بإذنه، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تكلَّمُ نفسٌ إلاَّ بإذنه‏}‏ وقد فُسِّر هذا فيما قبل‏.‏ وقوله‏:‏

‏{‏يوم يقوم الروح‏}‏ قيل‏:‏ هو جبريل عليه السَّلام‏.‏ وقيل‏:‏ هو مَلَكٌ يقوم صفاً‏.‏ وقيل‏:‏ الرُّوح جندٌ من جنود الله ليسوا من الملائكة ولا من النَّاس يقومون ‏{‏والملائكة صفاً‏}‏ صفوفاً‏.‏ ‏{‏لا يتكلمون إلاَّ من أذن له الرحمن وقالوا صواباً‏}‏ حقاً في الدُّنيا‏.‏ يعني‏:‏ لا إله إلاَّ الله‏.‏

‏{‏ذلك اليوم الحقُّ فمن شاء اتخذ إلى ربه مآباً‏}‏ مرجعاً إلى طاعته‏.‏

‏{‏إنا أنذرناكم عذاباً قريباَ‏}‏ يعني‏:‏ يوم القيامة، ‏{‏يوم ينظر المرء ما قدَّمت يداه‏}‏ ما عمل من خيرٍ وشرٍّ ‏{‏ويقول الكافر‏}‏ في ذلك اليوم‏:‏ ‏{‏يا ليتني كنت تراباً‏}‏ ولك حين يقول الله تعالى للبهائم والوحوش‏:‏ كوني تراباً، فيتمنَّى الكافر أن لفو كان تراباً فلا يُعذَّب‏.‏

سورة النازعات

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 6‏]‏

‏{‏وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا ‏(‏1‏)‏ وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا ‏(‏2‏)‏ وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا ‏(‏3‏)‏ فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا ‏(‏4‏)‏ فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا ‏(‏5‏)‏ يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏والنازعات‏}‏ أي‏:‏ الملائكة التي تنزع أرواح الكفَّار ‏{‏غرقاً‏}‏ إغراقاً كما يُغرق النَّازع في القوس‏.‏ يعني‏:‏ المبالغة في النَّزع‏.‏

‏{‏والناشطات نشطاً‏}‏ يعني‏:‏ الملائكة تقبض نفس المؤمن كما ينشط العقال من يد البعير، أَيْ‏:‏ يُفتح‏.‏

‏{‏والسابحات سبحاً‏}‏ أي‏:‏ النُّجوم تسبح في الفلك‏.‏

‏{‏فالسابقات سبقاً‏}‏ أرواح المؤمنين تسبق إلى الملائكة شوقاً إلى لقاء الله عزَّ وجلَّ‏.‏ وقيل‏:‏ النُّجوم يسبق بعضها بعضاً في السَّير‏.‏

‏{‏فالمدبرات أمراً‏}‏ يعني‏:‏ جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت عليهم السلام، يُدبِّر أمر الدُّنيا هؤلاء الأربعة من الملائكة، وجواب هذه الأقسام مضمرٌ على تقدير‏:‏ لَتُبعَثُنَّ‏.‏

‏{‏يوم ترجف الراجفة‏}‏ تضطرب الأرض وتتحرَّك حركةً شديدةً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 18‏]‏

‏{‏تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ ‏(‏7‏)‏ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ ‏(‏8‏)‏ أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ ‏(‏9‏)‏ يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ ‏(‏10‏)‏ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً ‏(‏11‏)‏ قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ ‏(‏12‏)‏ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ ‏(‏13‏)‏ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ ‏(‏14‏)‏ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى ‏(‏15‏)‏ إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ‏(‏16‏)‏ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ‏(‏17‏)‏ فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏تتبعها الرادفة‏}‏ يعني‏:‏ نفخة البعث تأتي بعد الزَّلزلة‏.‏

‏{‏قلوب يومئذٍ واجفة‏}‏ قلقةٌ زائلةٌ عن أماكنها‏.‏

‏{‏أبصارها خاشعة‏}‏ ذليلةٌ‏.‏

‏{‏يقولون‏}‏ يعني‏:‏ منكري البعث ‏{‏أإنا لمردودون في الحافرة‏}‏ أَيْ‏:‏ إلى أوَّل الأمر من الحياة بعد الموت، وهو قوله‏:‏

‏{‏أإذا كنا عظاماً نخرة‏}‏ أَيْ‏:‏ باليةً‏.‏

‏{‏قالوا تلك إذاً كرَّة خاسرة‏}‏ رجعةٌ يُخسر فيها، فأعلم الله تعالى سهولة البعث عليه فقال‏:‏

‏{‏فإنما هي زجرة واحدة‏}‏ أي‏:‏ صيحةٌ ونفخةٌ‏.‏

‏{‏فإذا هم بالساهرة‏}‏ يعني‏:‏ وجه الأرض بعد ما كانوا في بطنها‏.‏

‏{‏هل أتاك‏}‏ يا محمَّد ‏{‏حديث موسى‏}‏‏.‏

‏{‏إذ ناداه ربُّه بالوادي المقدس طوى‏}‏ طوى اسم ذلك الوادي‏.‏

‏{‏اذهب إلى فرعون إنَّه طغى‏}‏ جاوز الحدَّ في الكفر‏.‏

‏{‏فقل هل لك إلى أن تزكى‏}‏ أترغب في أن تتطهَّر من كفرك بالإِيمان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 25‏]‏

‏{‏فَأَرَاهُ الْآَيَةَ الْكُبْرَى ‏(‏20‏)‏ فَكَذَّبَ وَعَصَى ‏(‏21‏)‏ ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى ‏(‏22‏)‏ فَحَشَرَ فَنَادَى ‏(‏23‏)‏ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ‏(‏24‏)‏ فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآَخِرَةِ وَالْأُولَى ‏(‏25‏)‏‏}‏

‏{‏فأراه الآية الكبرى‏}‏ اليد البيضاء‏.‏

‏{‏فكذَّب‏}‏ فرعون موسى ‏{‏وعصى‏}‏ أمره‏.‏

‏{‏ثم أدبر‏}‏ أعرض عنه ‏{‏يسعى‏}‏ في الأرض يعمل فيها بالفساد‏.‏

‏{‏فحشر‏}‏ فجمع السَّحرة وقومه ‏{‏فنادى‏}‏‏.‏

‏{‏فقال أنا ربكم الأعلى‏}‏ ليس ربٌّ فوقي‏.‏

‏{‏فأخذه الله نكال الآخرة والأولى‏}‏ أَيْ‏:‏ نكَّل الله به في الآخرة بالعذاب في النَّار، وفي الدُّنيا بالغرق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 34‏]‏

‏{‏أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا ‏(‏27‏)‏ رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا ‏(‏28‏)‏ وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا ‏(‏29‏)‏ وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ‏(‏30‏)‏ أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا ‏(‏31‏)‏ وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ‏(‏32‏)‏ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ‏(‏33‏)‏ فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى ‏(‏34‏)‏‏}‏

‏{‏أأنتم‏}‏ أيُّها المنكرون للبعث ‏{‏أشدُّ خلقاً أم السماء بناها‏}‏‏.‏

‏{‏رفع سمكها‏}‏ سقفها ‏{‏فسوَّاها‏}‏ بلا شقوقٍ ولا فطورٍ‏.‏

‏{‏وأغطش‏}‏ أَظلم ‏{‏ليلها وأخرج ضحاها‏}‏ أظهر نورها بالشَّمس‏.‏

‏{‏والأرض بعد ذلك دحاها‏}‏ بسطها، وكانت مخلوقةً غير مدحوَّةٍ‏.‏

‏{‏أخرج منها ماءها ومرعاها‏}‏ ما ترعاه النَّعم من الشَّجر والعشب‏.‏

‏{‏والجبال أرساها‏}‏‏.‏ ‏{‏متاعاً‏}‏ منفعةً ‏{‏لكم ولأنعامكم‏}‏‏.‏

‏{‏فإذا جاءت الطامة الكبرى‏}‏ يعني‏:‏ صيحة القيامة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 46‏]‏

‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ‏(‏42‏)‏ فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا ‏(‏43‏)‏ إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا ‏(‏44‏)‏ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا ‏(‏45‏)‏ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا ‏(‏46‏)‏‏}‏

‏{‏يسألونك عن الساعة‏}‏ يعني‏:‏ القيامة‏.‏ ‏{‏أيَّان مرساها‏}‏ متى وقوعها وثبوتها‏؟‏ قال الله تعالى‏:‏

‏{‏فيم أنت‏}‏ يا محمد ‏{‏من ذكراها‏}‏ أي‏:‏ ليس عندك علمها‏.‏

‏{‏إلى ربك منتهاها‏}‏ منتهى علمها‏.‏

‏{‏إنما أنت منذر مَنْ يخشاها‏}‏ إنَّما ينفع إنذارك من يخشاها‏.‏

‏{‏كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا‏}‏ في قبورهم ‏{‏إلاَّ عَشِيَّةً أو ضحاها‏}‏ أَيْ‏:‏ نهارها‏.‏

استقصروا مدَّة لبثهم في القبور لما عاينوا من الهول‏.‏