فصل: تفسير الآيات (256- 258):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (256- 258):

{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)}
{لا إكراه في الدِّين} بعد إسلام العرب؛ لأنهم أُكرهوا على الإِسلام فلم يُقبل منهم الجزية؛ لأنَّهم كانوا مشركين، فلمَّا أسلموا أنزل الله تعالى هذه الآية. {قد تبين الرشد من الغي} ظهر الإِيمان من الكفر، والهدى من الضَّلالة بكثرة الحجج {فمن يكفر بالطاغوت} بالشَّيطان والأصنام {ويؤمن بالله} واليوم الآخر {فقد استمسك} أَيْ: تمسَّك {بالعروة الوثقى} عقد لنفسه عقداً وثيقاً، وهو الإِيمان وكلمة الشَّهادتين {لا انفصام لها} أي: لا انقطاع لها {والله سميع} لدعائك يا محمَّدُ أيَّايَ بإسلام أهل الكتاب، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبُّ إسلام أهل الكتاب الذين حول المدينة، ويسأل الله ذلك {عليم} بحرصك واجتهادك.
{والله وليُّ الذين آمنوا} أَيْ: ناصرهم ومتولِّي أمورهم {يخرجهم من الظلمات} من الكفر والضَّلالة إلى الإِيمان والهداية {والذين كفروا} أي: اليهود {أولياؤهم الطاغوت} يعني: رؤساءهم كعب بن الأشرف وحُيي بن أخطب {يخرجونهم من النور} يعني: ممَّا كانوا عليه من الإِيمان بمحمدٍ عليه السَّلام قبل بعثه {إلى الظلمات} إلى الكفر به بعد بعثه.
{ألم تر إلى الذي حاجَّ} جادل وخاصم {إبراهيم في ربه} حين قال له: مَنْ ربُّك؟ {أن آتاه الله الملك} أي: الملك الذي آتاه الله. يريد: بطرُ الملك حمله على ذلك، وهو نمروذ بن كنعان {إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت} فقال عدو الله: {أنا أحيي وأميت} فعارضه بالاشتراك في العبارة من غير فعل حياةٍ ولا موتٍ، فلما لبَّس في الحجَّة بأنْ قال: أنا أفعل ذلك احتجَّ إبراهيم عليه بحجَّةٍ لا يمكنه فيها أن يقول: أنا أفعل ذلك، وهو قوله: {قال إبراهيم فإنَّ الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر} أي: انقطع وسكت.

.تفسير الآيات (259- 260):

{أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)}
{أو كالذي مرَّ على قرية} عطفٌ على المعنى لا على اللفظ، كأنه قال: أرأيت الذي حاجَّ، أو كالذي مرَّ وهو عزيرٌ {على قرية} وهي إيليا {وهي خاوية} ساقطةٌ مُتهدِّمةٌ {على عروشها} أي: سقوفها {قال أنى يحيي هذه الله} أَيْ: من أين يُحيي هذه الله {بعد موتها} يعمرها بعد خرابها؟! استبعد أَنْ يفعل الله ذلك، فأحبَّ الله أن يُريه آيةً في نفسه في إحياء القرية {فأماته الله مائة عام} وذلك أنه مرَّ بهذه القرية على حمارٍ ومعه ركوة عصيرٍ، وسلةُ تينٍ، فربط حماره، وألقى الله عزَّ وجلَّ عليه النَّوم، فلمَّا نام نزع الله عزَّ وجلَّ روحه مائة سنةٍ، فلمَّا مضت مائة سنةٍ أحياه الله تعالى، وذلك قوله: {ثمَّ بعثه} {قال كم لبثت} كم أقمت ومكثت ها هنا؟ {قال لبثت يوماً أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك} أَي: التِّين {و} إلى {شرابك} أي: العصير {لم يتسنَّه} أَيْ: لم يتغيَّر ولم ينتن بعد مائة سنةٍ، وأراه علامة مكثه مائة سنةٍ. ببلى عظام حماره، فقال: {وانظر إلى حمارك} فرأى حماره ميتاً، عظامه بيضٌ تلوح {ولنجعلك آية للناس} الواو زائدة، والمعنى: لبثتَ مائة عامٍ لنجعلك آيةً للنَّاس، وكونه آيةً أَنْ بعثه شابّاً أسود الرَّأس واللِّحية، وبنو بنيه شِيبٌ {وانظر إلى العظام} أَيْ: عظام حماره {كيف نُنْشِزُها} أَيْ: نحييها، يقال: أَنشرَ اللَّهُ الموتى، وقرئ: {ننشزها} أَيْ: نرفعها من الأرض، ونشوز كلِّ شيءٍ: ارتفاعه {ثم نكسوها لحماً فلما تبيَّن له} شاهدَ ذلك {قال أعلم أنَّ الله على كلِّ شيء قدير} أَيْ: أعلم العلم الذي لا يعترض عليه الإِشكال، وتأويله: إنِّي قد علمت مُشاهدةً ما كنت أعلمه غيباً. {وإذ قال إبراهيم ربِّ أرني كيف تحيي الموتى} وذلك أنَّه رأى جيفةً ساحل البحر يتناولها سباع الطير والوحش ودوابُّ البحر، ففكَّر كيف يجتمع ما قد تفرَّق منها، وأحبَّ أن يرى ذلك، فسأل الله تعالى أن يُريه إحياء الموتى، فقال الله تعالى: {أو لم تؤمن} ألست آمنت بذلك؟ {قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} بالمُعاينة بعد الإِيمان بالغيب {قال فخذ أربعة من الطير} طاوُساً ونسراً وغراباً وديكاً {فصرهنَّ إليك} أَيْ: قطِّعهنَّ، كأنَّه قال: خذ إليك أربعة من الطَّير فقطعهنَّ {ثمَّ اجعل على كلِّ جبلٍ منهنَّ جزءاً} ثمَّ أُمر أن يخلط ريشها ولحومها، ثمَّ يفرِّق أجزاءها بأن يجعلها على أربعة أجبلٍ ففعل ذلك إبراهيم، وأمسك رؤوسهنَّ عنده، ثمَّ دعاهنَّ فقال: تعالين بإذن الله، فجعلت أجزاء الطُّيور يطير بعضها إلى بعض حتى تكاملت أجزاؤها، ثمَّ أقبلن على رؤوسهنّ فذلك قوله: {ثم ادعهنَّ يأتينك سعياً واعلم أنّ الله عزيز} لا يمتنع عليه ما يريد {حكيم} فيما يدبِّر، فلمَّا ذكر الدَّلالة على توحيده بما أتى الرُّسل من البيِّنات حثٍّ على الجهاد والإِنفاق فيه.

.تفسير الآيات (261- 265):

{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)}
{مثلُ الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله...} الآية، أَيْ: مَثلُ صدقاتهم وإنفاقهم {كمثل حبَّةٍ أنبتت سبع سنابل...} الآية، يريد أنَّه يضاعف الواحد بسبع مائةٍ، وجعله كالحبَّة تنبت سبع مائة حبَّةٍ، ولا يشترط وجود هذا؛ لأنَّ هذا على ضرب المثل.
{الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منَّاً...} الآية، وهو أن يقول: أحسنتُ إلى فلانٍ ونعشته، وجبرت خلله، يمنُّ بما فعل {ولا أذىً} وهو أن يذكر إحسانه لمن لا يحبُّ الذي أُحسن إليه وقوفه عليه.
{قول معروفٌ} كلامٌ حسنٌ وردٌّ على السَّائل جميل {ومغفرة} أَيْ: تجاوزٌ عن السَّائل إذا استطال عليه عند ردِّه {خيرٌ من صدقةٍ يتبعها أذى} أَيْ: مَنٌّ وتعييرٌ للسَّائل بالسُّؤال، {والله غنيٌّ} عن صدقة العباد {حليم} إذ لم يعجِّل بالعقوبة على مَنْ يمنُّ.
{يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم} أَيْ: ثوابها {بالمنِّ} وهو أنْ يمنَّ بما أعطى {والأذى} وهو أن يوبِّخ المُعطي المُعطى له {كالذي ينفق} أَيْ: كإبطاله رياء النَّاس، وهو المُنافق يعطي ليوهم أنَّه مؤمنٌ {فمثله} أَيْ: مَثلُ هذا المنافق {كمثل صفوانٍ} وهو الحجر الأملس {عليه ترابٌ فأصابه وابل} مطرٌ شديدٌ {فتركه صلداً} برَّاقاً أملس. وهذا مَثلٌ ضربه الله تعالى للمانِّ والمنافق، يعني: إنَّ النَّاس يرون في الظَّاهر أنَّ لهؤلاء أعمالاً كما يُرى التُّراب على هذا الحجر، فإذا كان يوم القيامة اضمحلَّ كلُّه وبطل، كما أذهب الوابل ما كان على الصفوان، فلا يقدر أحدٌ من الخلق على ذلك التُّراب، كذلك هؤلاء إذا قدموا على ربِّهم لم يجدوا شيئاً، وهو قوله جلَّ وعزَّ: {لا يقدرون على شيء} أَيْ: على ثواب شيءٍ {مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين} لا يجعل جزاءهم على كفرهم أن يهديهم، ثمَّ ضرب مثلاً لمن ينفق يريد ما عند الله ولا يمنُّ ولا يؤذي فقال: {ومَثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتاً} أَيْ: يقيناً وتصديقاً {من أنفسهم} بالثَّواب لا كالمنافق الذي لا يؤمن بالثَّواب {كمثل جنة بربوةٍ} وهي ما ارتفع من الأرض، وهي أكثر ريعاً من المستفل {أصابها وابلٌ} وهو أشدُّ المطر {فآتت} أعطت {أكلها} ما يؤكل منها {ضِعْفَيْن} أَيْ: حملت في سنة من الرَّيع ما يحمل غيرها في سنتين {فإن لم يصبها وابلٌ} وهو أشدُّ المطر، وأصابها طلٌّ وهو المطر الضعيف، فتلك حالها في البركة، يقول: كما أنَّ هذه الجنَّة تُثمر في كلِّ حالٍ ولا يخيب صاحبها قلَّ المطر أو كَثُر، كذلك يضعف الله ثواب صدقة المؤمن قلَّت نفقته أم كثرت، ثمَّ قرَّر مَثَل المُرائي في النَّفقة والمُفرِّط في الطَّاعة إلى أَنْ يموت.

.تفسير الآيات (266- 269):

{أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)}
{أيودُّ أحدكم...} الآية، يقول: مثلُهم كمثل رجلٍ كانت له جنَّةٌ فيها من كلِّ الثمرات {وأصابه الكبر} فضعف عن الكسب، وله أطفال لا يجدون عليه ولا ينفعونه {فأصابها إعصار} وهي ريحٌ شديدةٌ {فيه نارٌ فاحترقت} ففقدها أحوج ما كان إليها عند كبر السِّنِّ وكثرة العيال وطفولة الولد، فبقي هو وأولاده عجزةً مُتحيِّرين {لا يقدرون على} حيلةٍ، كذلك يُبطل الله عمل المنافق والمرائي حتى لا توبة لهما ولا إقالة من ذنوبهما {كذلك يبين الله} كمثل بيان هذه الأقاصيص {يبين الله لكم الآيات} في أمر توحيده.
{يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم} نزلت في قومٍ كانوا يتصدَّقون بشرار ثمارهم ورذالة أموالهم، والمراد بالطَّيِّبات ها هنا الجياد الخيار ممَّا كسبتم، أَيْ: التِّجارة {وممَّا أخرجنا لكم من الأرض} يعني: الحبوب التي يجب فيها الزَّكاة {ولا تيمموا} أَيْ: لا تقصدوا {الخبيث منه تنفقون} أَيْ: تنفقونه {ولستم بآخذيه إلاَّ أن تغمضوا} أَيْ: بآخذي ذلك الخبيث لو أُعطيتم في حقٍّ لكم إلاَّ بالإِغماض والتَّساهل، وفي هذا بيانُ أنَّ الفقراء شركاء ربِّ المال، والشَّريك لا يأخذ الرَّديء من الجيِّد إلاَّ بالتَّساهل.
{الشيطانُ يعدكم الفقر} أَيْ: يُخوِّفكم به. يقول: أَمسك مالك؛ فإنَّك إنْ تصدَّقت افتقرت {ويأمركم بالفحشاء} بالبخل ومنه الزَّكاة {والله يعدكم} أَنْ يجازيكم على صدقتكم {مغفرة} لذنوبكم وأَنْ يُخلف عليكم.
{يؤتي الحكمة} علم القرآن والفهم فيه. وقيل: هي النُّبوَّة {من يشاء}. {وما يذكر إلاَّ أولوا الألباب} أَيْ: وما يتَّعظ إلاَّ ذوو العقول.

.تفسير الآيات (270- 272):

{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)}
{وما أنفقتم من نفقة} أدَّيتم من زكاة {أو نذرتم من نذر} في صدقة التَّطوُّع، أَيْ: نويتم أن تصَّدَّقوا بصدقة {فإن الله يعلمه} يجازي عليه {وما للظالمين من أنصار} وعيدٌ لمَنْ أنفق في غير الوجه الذي يجوز له من رياءٍ أو معصيةٍ، أو من مال مغصوبٍ.
{إنْ تبدوا الصدقات...} الآية. سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: صدقة السرِّ أفضلُ أم صدقة العلانيَة؟ فنزلت هذه الآية، والمفسرون على أنَّ هذه الآية في التَّطوُّع لا في الفرض، فإِنَّ الفرضَ إظهاره أفضل، وعند بعضهم الآية عامَّةٌ في كلِّ صدقةٍ، وقوله: {ويكفر عنكم من سيئاتكم} أَيْ: يغفرها لكم، و{مِنْ} للصلة والتأكيد.
{ليس عليك هداهم} نزلت حين سألت قُتيلة أمُّ أسماء بنت أبي بكر ابنتها أن تعطيها شيئاً وهي مشركةٌ، فأبت وقالت: حتى أستأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية. والمعنى: ليس عليك هُدى مَن خالفك فمنعهم الصَّدقة ليدخلوا في الإسلام {وما تنفقوا من خيرٍ} أَيْ: مالٍ: {فلأنفسكم} ثوابه {وما تنفقون إلاَّ ابتغاء وجه الله} خبرٌ والمراد به الأمر. وقيل: هو خاصٌّ في المؤمنين، أَي: قد علم الله ذلك منكم {وما تنفقوا من خيرٍ} من مالٍ على فقراء أصحاب الصُّفَّة. {يوفَّ لكم} أًيْ: يوفَّر لكم جزاؤه {وأنتم لا تظلمون} أَيْ: لا تنقصون من ثواب أعمالكم شيئاً.

.تفسير الآيات (273- 276):

{لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274) الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)}
{للفقراء} أَيْ: هذه الصَّدقات والإِنفاق التي تقدَّم ذكرها {للفقراء الذين أحصروا} أَيْ: حُبسوا، أَيْ: هم فعلوا ذلك. حبسوا أنفسهم {في سبيل الله} في الجهاد. يعني: فقراء المهاجرين {لا يستطيعون ضرباً} أَيْ: سيراً {في الأرض} لا يتفرَّغُون إلى طلب المعاش؛ لأنهم قد ألزموا أنفسهم أمر الجهاد، فمنعهم ذلك من التَّصرُّف، حثَّ الله تعالى المؤمنين على الإِنفاق عليهم {يحسبهم الجاهل} يخالهم {أغنياء من التعفف} عن السُّؤال {تعرفهم بسيماهم} بعلامتهم، التَّخشُّع والتَّواضع وأثر الجهد {لا يسألون الناس إلحافاً} أَيْ: إلحاحاًً. إذا كان عندهم غداءٌ لم يسألوا عشاءً، وإذا كان عندهم عَشاءٌ لم يسألوا غداءً.
{الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار...} الآية. نزلت في عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه كان عنده أربعة دراهم لا يملك غيرها، فَتَصدَّق بدرهمٍ سرَّاً، ودرهمٍ علانيةً، ودرهمٍ ليلاً، ودرهمٍ نهاراً.
{الذين يأكلون الربا} أيْ: يُعاملون به، فَنَبَّه بالأكل على غيره {لا يقومون} من قبورهم يوم القيامة {إلاَّ كما يقوم الذي يتخبَّطه الشيطان} يصيبه بجنونٍ {من المس} من الجنون، وذلك أنَّ آكل الرِّبا يُبعث يوم القيامة مجنوناً {ذلك} أَيْ: ذلك الذي نزل بهم {بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا} وهو أنَّ المشركين قالوا: الزِّيادة على رأس المال بعد مَحِلِّ الدَّين كالزِّيادة بالرِّبح في أوَّل البيع، فكذَّبهم الله تعالى فقال: {وأحلَّ الله البيع وحرَّم الربا فمن جاءه موعظة من ربه} أَيْ: وُعظ {فانتهى} عن أكل الرِّبا {فله ما سلف} أَّيْ: ما أكل من الرِّبا، ليس عليه ردُّ ما أخذ قبل النَّهي {وأمره إلى الله} والله وليُّ أمره {ومَنْ عاد} إلى استحلال الرِّبا {فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}.
{يمحق الله الربا} أَيْ: ينقصه ويذهب بركته وإن كان كثيراً، كما يمحق القمر {ويربي الصدقات} يربيها لصاحبها كما يُربي أحدكم فصيله {والله لا يحبُّ كل كفار} بتحريم الرِّبا مستحلٍّ له {أثيم} فاجر بأكله مُصِرٍّ عليه.