فصل: تفسير الآيات (81- 84):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (81- 84):

{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)}
{وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب} {ما} ها هنا للشرط، والمعنى، لئن آتيتكم شيئاً من كتاب وحكمة، ومهما آتيتكم {ثمَّ جاءكم رسول مصدِّق لما معكم لتؤمننَّ به} ويريد بميثاق النَّبييِّن عهدهم ليشهدوا لمحمد عليه السَّلام أنَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قوله: {ثمَّ جاءكم رسولٌ مصدقٌ لما معكم} يريد محمداً {لتؤمننَّ به ولتنصرنَّه} أَيْ: إن أدركتموه ولم يبعث الله نبيَّاً إلاَّ أخذ عليه العهد في محمَّدٍ عليه السَّلام، وأمره بأنْ يأخذ العهد على قومه لَيُؤمننَّ به، ولئنْ بُعث وهم أحياءٌ لينصرنَّه، وهذا احتجاجٌ على اليهود، وقوله: {أأقررتم} أَيْ: قال الله للنَّبييِّن: أقررتم بالإِيمان به والنُّصرة له {وأخذتم على ذلكم إصري} أَيْ: قبلتم عهدي؟ {قالوا أقررنا قال فاشهدوا} أَي: على أنفسكم وعلى أتباعكم {وأنا معكم من الشاهدين} عليكم وعليهم.
{فَمَن تولى} أعرض من {بعد ذلك} بعد أخذ الميثاق وظهور آيات النبيِّ صلى الله عليه وسلم {فأولئك هم الفاسقون} الخارجون عن الإيمان.
{أفغير دين الله يبغون} بعد أخذ الميثاق عليهم بالتَّصديق بمحمَّد عليه السَّلام {وله أسلم مَنْ في السموات والأرض طوعاً} الملائكة والمسلمون {وكرهاً} الكفَّار في وقت البأس {وإليه يُرجعون} وعيدٌ لهم، أَيْ: أيبغون غير دين الله مع أنَّ مرجعهم إليه؟
{قل آمنا بالله} أُمِرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يقول: آمنَّا بالله وبجميع الرُّسل من غير تفريقٍ بينهم في الإِيمان كما فعلت اليهود والنَّصارى، ونظير هذه الآية قد مضى في سورة البقرة.

.تفسير الآيات (86- 91):

{كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91)}
{كيف يهدي الله} هذا استفهامٌ معناه الإِنكار، أَيْ: لا يهدي الله {قوماً كفروا بعد إيمانهم} أَي: اليهود كانوا مؤمنين بمحمَّدٍ عليه السَّلام قبل مبعثه، فلمَّا بُعث كفروا به، وقوله: {وشهدوا} أَيْ: وبعد أنْ شهدوا {أنَّ الرسول حقٌّ وجاءهم البينات} ما بيِّن في التَّوراة {والله لا يهدي القوم الظالمين} أَيْ: لا يرشد مَنْ نقض عهود الله بظلم نفسه.
{أولئك جزاؤهم أنَّ عليهم لعنة الله} مثل هذه الآية ذُكر في سورة البقرة.
{إلاَّ الذين تابوا من بعد ذلك} أَيْ: راجعوا الإِيمان بالله وتصديق نبيِّه {وأصلحوا} أعمالهم.
{إنَّ الذين كفروا بعد إيمانهم} وهم اليهود {ثم ازدادوا كفراً} بالإِقامة على كفرهم {لن تقبل توبتهم} لأنهم لا يتوبون إلاَّ عند حضور الموت، وتلك التَّوبة لا تُقبل.
{إنَّ الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً} وهو القدر الذي يملؤها. يقول: لو افتدى من العذاب بملء الأرض ذهباً لم يُقبل منه.

.تفسير الآيات (92- 94):

{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94)}
{لن تنالوا البر} التقوى. وقيل: أَي: الجنَّة {حتى تنفقوا مما تحبون} أَيْ: تُخرجوا زكاة أموالكم.
{كلُّ الطعام كان حلاً لبني إسرائيل} أَيْ: حلالاً {إلاَّ ما حرَّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة} «وذلك أنَّ يعقوب عليه السَّلام مرض مرضاً شديداً، فنذر لئن عافاه الله تعالى لَيُحرِّمنَّ أحبَّ الطَّعام والشَّراب إليه، وكان أحبَّ الطَّعام والشَّراب إليه لحمانُ الإِبل وألبانها، فلمَّا ادَّّعى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّه علم دين إبراهيم عليه السَّلام قالت اليهود: كيف وأنت تأكل لحوم الإِبل وألبانها؟ فقال النَّبيُّ عليه السَّلام: كان ذلك حلالاً لإِبراهيم عليه السَّلام، فادَّعت اليهود أنَّ ذلك كان حراماً عليه»، فأنزل الله تعالى تكذيباً لهم، وبيَّن أنَّ ابتداء هذا التَّحريم لم يكن في التَّوراة، إنَّما كان قبل نزولها، وهو قوله: {من قبل أن تنزل التوراة قل فأتوا بالتَّوراة....} الآية.
{فمن افترى على الله الكذب} أَيْ: بإضافة هذا التَّحريم إلى الله عزَّ وجلَّ على إبراهيم في التَّوراة {من بعد ذلك} من بعد ظهور الحجَّة بأنَّ التَّحريم إنَّما كان من جهة يعقوب عليه السَّلام {فأولئك هم الظالمون} أنفسهم.

.تفسير الآيات (95- 99):

{قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)}
{قل صدق الله} في هذا وفي جميع ما أخبر به.
{إنَّ أوَّل بيتٍ وُضع للناس} يُحَجُّ إليه {للذي ببكة} مكَّة {مباركاً} كثير الخير، بأن جُعل فيه وعنده البركة {وهدىً} وذا هدىً {للعالمين} لأنَّه قِبلة صلاتهم، ودلالةٌ على الله بما جعل عنده من الآيات.
{فيه آياتٌ بيناتٌ} أَيْ: المشاعر والمناسك كلُّها، ثمَّ ذكر بعضها فقال: {مقام إبراهيم} أَيْ: منها مقام إبراهيم {ومَنْ دخله كان آمناً} أَيْ: مَنْ حجَّه فدخله كان آمناً من الذُّنوب التي اكتسبها قبل ذلك. وقيل: من النَّار {ولله على الناس حج البيت} عمَّم الإِيجاب ثمَّ خصَّ، وأبدل من النَّاس فقال: {من استطاع إليه سبيلاً} يعني: مَنْ قوي في نفسه، فلا تلحقه المشقَّة في الكون على الرَّاحلة، فمَنْ كان بهذه الصِّفة وملك الزَّاد والرَّاحلة وجب عليه الحج {ومَنْ كفر} جحد فرض الحجِّ {فإنَّ الله غنيٌّ عن العالمين}.
{قل يا أهل الكتاب لم تصدُّون عن سبيل الله مَنْ آمن} كان صدُّهم عن سبيل الله بالتَّكذيب بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأنَّ صفته ليست في كتابهم {تبغونها عوجاً} تطلبون لها عوجاً بالشُّبَه التي تلبسونها على سفلتكم {وأنتم شهداء} بما في التَّوراة أنَّ دين الله الإِسلام.

.تفسير الآيات (100- 108):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108)}
{يا أيها الذين آمنوا إنْ تطيعوا فريقاً...} الآية. نزلت في الأوس والخزرج حين أغرى قومٌ من اليهود بينهم ليفتنوهم عن دينهم، ثمَّ خاطبهم فقال: {وكيف تكفرون} أَيْ: على أيِّ حالٍ يقع منكم الكفر وآياتُ الله التي تدلُّ على توحيده تُتلى عليكم {وفيكم رسوله ومَنْ يعتصم بالله} يؤمن بالله.
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حقَّ تقاته} وهو أَنْ يُطاع فلا يُعصى، ويُذكر فلا يُنسى، ويُشكر فلا يُكفر، فلما نزل هذا قال أصحابُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: ومَنْ يقوى على هذا؟ وشقَّ عليهم، فأنزل الله تعالى: {فاتَّقوا الله ما استطعتم} فنسخت الأولى {ولا تموتنَّ إلاَّ وأنتم مسلمون} أَيْ: كونوا على الإِسلام حتى إذا أتاكم الموت صادفكم عليه، وهو في الحقيقةِ نهيٌ عن ترك الإِسلام.
{واعتصموا بحبل الله جميعاً} أَيْ: تمسَّكوا بدين الله، والخطاب للأوس والخزرج {ولا تفرقوا} كما كنتم في الجاهليَّة مُقتتلين على غير دين الله {واذكروا نعمة الله عليكم} بالإِسلام {إذ كنتم أعداءً} يعني: ما كان بين الأوس والخزرج من الحرب إلى أن ألَّفَ الله بين قلوبهم بالإِسلام، فزالت تلك الأحقاد، وصاروا إخواناً مُتوادِّين، فذلك قوله: {فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار} أَيْ: طرف حفرةٍ من النَّار لو متم على ما كنتم عليه {فأنقذكم} فنجَّاكم {منها} بالإِسلام وبمحمد عليه السَّلام {كذلك} أَيْ: مثل هذا البيان الذي تُلي عليكم {يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون}.
{ولتكن منكم أمة...} الآية. أَيْ: وليكن كلُّكم كذلك، ودخلت (مِنْ) لتخصيص المخاطبين من غيرهم.
{ولا تكونوا كالذين تفرَّقوا} أَي: اليهود والنَّصارى {واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات} أَيْ: إنَّ اليهود اختلفوا بعد موسى، فصاروا فرقاً، وكذلك النَّصارى.
{يومَ تبيض وجوه} أَيْ: وجوه المهاجرين والأنصار ومَنْ آمنَ بمحمدٍ عليه السَّلام، {وتسودّ وجوه} اليهود والنَّصارى ومَنْ كفر به {فأمَّا الذين اسودَّت وجوههم} فيقال لهم: {أكفرتم بعد إيمانكم} لأنَّهم شهدوا لمحمدٍ عليه السَّلام بالنُّبوَّة، فلمَّا قدم عليهم كذَّبوه وكفروا به.
{وأمَّا الذين ابيضَّت وجوههم ففي رحمة الله} أَيْ: جنَّته.
{تلك آيات الله} أَي: القرآن {نتلوها عليك} نُبيِّنها {بالحقِّ} بالصِّدق {وما الله يريد ظلماً للعالمين} فيعاقبهم بلا جرمٍ.

.تفسير الآيات (110- 113):

{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112) لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113)}
{كنتم خير أمة} عند الله في اللَّوح المحفوظ. يعني: أمَّة محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم {أُخرجت للناس} أُظهرت لهم، وما أَخرج الله تعالى للنَّاس أُمَّة خيراً من أُمَّة محمَّد عليه السَّلام، ثمَّ مدحهم بما فيهم من الخصال فقال: {تأمرون بالمعروف...} الآية.
{لن يضرُّوكم} أَي: اليهود {إلاَّ أذىً} إلاَّ ضرراً يسيراً باللِّسان، مثل الوعيد والبهت {وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار} منهزمين. وعد الله نبيَّه والمؤمنين النُّصرة على اليهود، فصدق وعده فلم يقاتل يهود المدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاًّ انهزموا.
{ضربت عليهم الذلة} ذكرناه {أينما ثقفوا} وُجدوا وصُودفوا {إلاَّ بحبل من الله} أَيْ: لكن قد يعتصمون بالعهد إذا أعطوه، والمعنى: أنَّهم إذلاء في كلِّ مكان إلاَّ أنَّهم يعتصمون بالعهد، والمراد: {بحبلٍ من الله وحبلٍ من الناس} العهد والذِّمَّة والأمان الذي يأخذونه من المؤمنين بإذن الله، وباقي الآية ذُكر في سورة البقرة، ثمَّ أخبر أنَّهم غير متساوين في دينهم فقال: {ليسوا سواء} وأخبر أنَّ منهم المؤمنين فقال: {من أهل الكتاب أمة قائمة} أَيْ: على الحقِّ {يتلون} يقرؤون {آيات الله} كتاب الله {آناء الليل} ساعاته. يعني: عبد الله بن سلام ومَنْ آمن معه من أهل الكتاب {وهم يسجدون} أَيْ: يُصلُّون.

.تفسير الآيات (115- 121):

{وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121)}
{وما يفعلوا من خيرٍ فلن يكفروه} لن تُجحدوا جزاءه.
{إنَّ الذين كفروا...} الآية. سبقت في أوَّل هذه السورة.
{مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا} يعني: نفقة سفلة اليهود على علمائهم {كمثل ريح فيها صرٌّ} بردٌ شديدٌ {أصابت حرث قومٍ ظلموا أنفسهم} بالكفر والمعصية. أعلم الله تعالى أنَّ ضرر نفقتهم عليهم كضرر هذه الرِّيح على هذا الزَّرع {وما ظلمهم الله} لأنَّ كلَّ ما فعله بخلقه فهو عدلٌ منه {ولكن أنفسهم يظلمون} بالكفر والعصيان، ثمَّ نهى المؤمنين عن مباطنتهم فقال: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة} أَيْ: دخلاً وخواصَّ {من دونكم} من غير أهل ملَّتكم {لا يألونكم خبالاً} أَيْ: لا يدعون جهدهم في مضرَّتكم وفسادكم {ودُّوا ما عنتم} تمنَّوا ضلالكم عن دينكم {قد بدت البغضاء} أَيْ: ظهرت العداوة {من أفواههم} بالشَّتيمة والوقيعة في المسلمين {وما تخفي صدورهم} من العداوة والخيانة {أكبر قد بيّنا لكم الآيات} أَيْ: علامات اليهود في عداوتهم. {إن كنتم تعقلون} موقع نفع البيان.
{ها أنتم} {ها} تنبيهٌ دخل على {أنتم} {أولاء} بمعنى: الذين. كأنَّه قيل: الذين {تحبُّونهم ولا يحبُّونكم} أَيْ: تريدون لهم الإِسلام، وهم يريدونكم على الكفر {وتؤمنون بالكتاب كلِّه} أَيْ: بالكتب، وهو اسم جنس {وإذا خلوا عضُّوا عليكم الأنامل} أَيْ: أطراف الأصابع {من الغيظ} التَّقدير: عضُّوا الأنامل من الغيظ عليكم، وذلك لما يرون من ائتلاف المؤمنين واجتماع كلمتهم {قل موتوا بغيظكم} أمر الله تعالى نبيَّه أن يدعو عليهم بدوام غيظهم إلى أن يموتوا {إنَّ الله عليمٌ بذات الصدور} بما فيها من خيرٍ وشرٍّ.
{إن تمسسكم حسنةٌ} نصرٌ وغنيمةٌ {تسؤهم} تحزنهم {وإنْ تصبكم سيئة} ضد ذلك، وهو كسرٌ وهزيمةٌ {يفرحوا بها وإن تصبروا} على ما تسمعون من آذاهم {وتتقوا} مقاربتهم ومخالطتهم {لا يضرُّكم كيدهم} عداوتهم {شيئاً إنَّ الله بما يعملون محيط} عالمٌ به فلن تعدموا جزاءه.
{وإذ غدوت} يعني: يوم أُحدٍ {من أهلك} من منزل عائشة رضي الله عنها {تبوِّئ} تُهيِّئ للمؤمنين {مقاعد} مراكز ومثابت {للقتال والله سميع} لقولكم {عليم} بما في قلوبكم.