فصل: تفسير الآيات (30- 32):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (30- 32):

{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)}
{وإذ قال ربك} واذكر لهم يا محمَّدُ إذ قال ربُّك {للملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفة} يعني: آدم، جعله خليفةً عن الملائكة الذين كانوا سكَّان الأرض بعد الجنِّ، والمراد بذكر هذه القصَّة ذكرُ بدءِ خلق النَّاس. {قالوا أتجعل فيها مَنْ يفسد فيها} كما فعل بنو الجانِّ، قاسوا الشَّاهد على الغائب {ونحن نسبح بحمدك} نُبرِّئُك من كلِّ سوءٍ، ونقول: سبحان الله وبحمده، {ونقدِّسُ لك} ونُنزِّهك عمَّا لا يليق بك {قال إني أعلم ما لا تعلمون} من إضمار إبليس العزم على المعصية، فلمَّا قال الله تعالى هذا للملائكة قالوا فيما بينهم: لن يخلق ربُّنا خلقاً هو أعلمُ منَّا، ففضَّل الله تعالى عليهم آدم بالعلم، وعلَّمه اسم كلِّ شيء حتى القصعة والقصيعة والمِغْرفة، وذلك قوله تعالى: {وعلَّم آدم الأسماءَ كلَّها} أَيْ: خلق في قلبه علماً بالأسماء على سبيل الابتداء {ثمَّ عرَضهم} أَيْ: عرض المسمَّيات بالأسماء من الحيوان والجماد وغير ذلك {على الملائكة فقال أنبئوني} أخبروني {بأسماء هؤلاء} وهذا أمرُ تعجيزٍ، أراد الله تعالى أن يُبيِّن عجزهم عن علم ما يرون ويُعاينون {إن كنتم صادقين} أنِّي لا أخلق خلقاً أعلمَ منكم، فقالت الملائكة إقراراً بالعجز واعتذاراً: {سبحانك} تنزيهاً لك عن الاعتراض عليك في حكمك {لا علم لنا إلاَّ ما علمتنا} اعترفوا بالعجز عن علم ما لم يُعلَّموه {إنَّك أنت العليم} العالم {الحكيم} الحاكم تحكم بالحقِّ وتقتضي به، فلمَّا ظهر عجز الملائكة قال الله تعالى لآدم: {يا آدم أنبئهم بأسمائهم}.

.تفسير الآيات (33- 36):

{قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)}
{يا آدم أنبئهم بأسمائهم} أخبرهم بتسمياتهم، فسمَّى كلَّ شيءٍ باسمه، وألحق كلَّ شيءٍ بجنسه {فلما أنبأهم بأسمائهم}: أخبرهم بمسمَّياتهم {قال} الله تعالى للملائكة: {ألم أقل لكم} وهذا استفهامٌ يتضمَّن التَّوبيخ لهم على قولهم: {أتجعل فيها مَنْ يفسد فيها}. {إني أعلم غيب السموات والأرض} أَيْ: ما غاب فيهما عنكم {وأعلم ما تبدون}: علانيتكم {وما كنتم تكتمون}: سرَّكم، لا يخفى عليَّ شيءٌ من أموركم.
{وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم} سجود تعظيمٍ وتسليمٍ وتحيَّةٍ، وكان ذلك انحناءاً يدلُّ على التَّواضع، ولم يكن وضعَ الوجه على الأرض، {فسجدوا إلاَّ إبليس أبى} امتنع {واستكبر وكان من الكافرين} في سابق علم الله عزَّ وجلَّ.
{وقلنا يا آدم اسكنْ أنت وزوجك الجنَّة} اتَّخذاها مأوىً ومنزلاً {وكلا منها رغداً} واسعاً {حيث شئتما} ما شئتما كيف شئتما {ولا تقربا هذه الشجرة} لا تحوما حولها بالأكل منها، يعني السُّنبلة {فتكونا} فتصيرا {من الظالمين}: العاصين الذين وضعوا أمر الله عزَّ وجلَّ غير موضعه.
{فأزلَّهما الشيطان} نحَّاهما وبعَّدهما {عنها فأخرجهما ممَّا كانا فيه} من الرُّتبة ولين العيش {وقلنا} لآدم وحواء وإبليس والحيَّة: {اهبطوا} أي: انزلوا إلى الأرض {بعضكم لبعض عدو} يعني: العداوة التي بين آدم وحواء والحيَّة. وبين ذرية آدم عليه السَّلام من المؤمنين وبين إبليس لعنه الله، {ولكم في الأرض مستقر} موضع قرارٍ {ومتاع إلى حين} ما تتمتَّعون به ممَّا تُنبته الأرض إلى حين الموت.

.تفسير الآيات (37- 39):

{فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)}
{فتلقى آدم من ربه} أخذ وتلقَّن {كلماتٍ} وهو أنَّ الله تعالى ألهم آدم عليه السَّلام حين اعترف بذنبه وقال: {ربنا ظلمنا أنفسنا} الآية {فتاب عليه} فعاد عليه بالمغفرة حين اعترف بالذَّنب واعتذر {إنَّه هو التواب} يتوب على عبده بفضله إذا تاب إليه من ذنبه.
{قلنا اهبطوا منها جميعاً} كرَّر الأمر بالهبوط للتَّأكيد {فإمَّا يأتينَّكم مني هدىً} أَيْ: فإنْ يأتكم مني شريعةٌ ورسولٌ وبيانٌ ودعوةٌ {فمن تبع هداي} أَيْ: قَبِل أمري، واتَّبع ما آمره به {فلا خوف عليهم} في الآخرة ولا حزن، والخطاب لآدم وحوَّاء، وذرِّيتهما، أعلمهم الله تعالى أنَّه يبتليهم بالطَّاعة، ويجازيهم بالجنَّة عليها، ويعاقبهم بالنَّار على تركها، وهو قوله تعالى: {والذين كفروا وكذبوا بآياتنا} أَيْ: بأدلتنا وكتبنا {أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}.

.تفسير الآيات (40- 43):

{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)}
{يا بني إسرائيل} أولاد يعقوب عليه السَّلام {اذكروا} اشكروا، وذكر النِّعمة هو شكرها {نعمتي} يعني: نعمي {التي أنعمت عليكم} يعني: فلق البحر، والإِنجاء من فرعون، وتظليل الغمام، إلى سائر ما أنعم الله تعالى به عليهم، والمراد بقوله تعالى: {عليكم} أَيْ: على آبائكم، والنِّعمة على آبائهم نعمةٌ عليهم، وشكر هذه النِّعم طاعتُه في الإِيمان بمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، ثمَّ صرَّح بذلك، فقال: {وأوفوا بعهدي} أَيْ: في محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم {أُوف بعهدكم} أدخلكم الجنَّة {وإيَّاي فارهبون} فخافوني في نقض العهد.
{وآمنوا بما أنزلت} يعني: القرآن {مصدقاً لما معكم} موافقاً للتَّوراة في التَّوحيد والنُّبوَّة {ولا تكونوا أوَّل كافر به} أَيْ: أوَّل مَنْ يكفر به من أهل الكتاب؛ لأنَّكم إذا كفرتم كفر أتباعكم، فتكونوا أئمةً في الضَّلالة، والخطابُ لعلماء اليهود. {ولا تشتروا} ولا تستبدلوا {بآياتي} ببيان صفة محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ونعته {ثمناً قليلاً} عوضاً يسيراً من الدُّنيا، يعني: ما كانوا يُصيبونه من سفلتهم، فخافوا إنْ هم بيَّنوا صفة محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَنْ تفوتهم تلك المآكل والرِّياسة، {وإيايَّ فاتقون} فاخشوني في أمر محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لا ما يفوتكم من الرِّياسة.
{ولا تلبسوا الحق بالباطل} أَيْ: لا تخلطوا الحقَّ الذي أنزلتُ عليكم من صفة محمَّدٍ عليه السَّلام بالباطل الذي تكتبونه بأيديكم من تغيير صفته، وتبديل نعته، {وتكتموا الحق} أَيْ: ولا تكتموا الحقَّ، فهو جزمٌ عُطِفَ على النَّهي، {وأنتم تعلمون} أنَّه نبيٌّ مرسلٌ قد أُنزل عليكم ذكره في كتابكم، فجحدتم نبوَّته مع العلم به.
{وأقيموا الصلاة} المفروضة {وآتوا الزكاة} الواجبة في المال {واركعوا مع الراكعين} وصلُّوا مع المصلِّين محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وأصحابه في جماعةٍ.

.تفسير الآيات (44- 47):

{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47)}
{أتأمرون الناس بالبرِّ} كانت اليهود تقول لأقربائهم من المسلمين: اثبتوا على ما أنتم عليه، ولا يؤمنون به، فأنزل الله تعالى توبيخاً لهم: {أتأمرون الناس بالبر} بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم {وتنسون} وتتركون {أنفسكم} فلا تأمرونها بذلك {وأنتم تتلون الكتاب} تقرؤون التَّوراة وفيها صفة محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ونعته {أفلا تعقلون} أنَّه حقٌّ فتتَّبعونه؟! ثمَّ أمرهم الله تعالى بالصَّوم والصَّلاة؛ لأنَّهم إنَّما كان يمنعهم عن الإسلام الشَّره، وخوف ذَهاب مأكلتهم، وحب الرِّياسة، فأُمروا بالصَّوم الذي يُذهب الشَّرَه، وبالصًَّلاة التي تُورث الخشوع، وتَنفي الكبر، وأُريدَ بالصَّلاةِ الصَّلاةُ التي معها الإيمان بمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فقال: {واستعينوا بالصبر} يعني بالصَّوم، {والصلاة} لأنَّها تنهى عن الفحشاء والمنكر {وإنها لكبيرةٌ} لثقيلةٌ يعني: وإنَّ الإستعانةَ بالصبر والصلاة لثقيلةٌ {إلاَّ على الخاشعين} السَّاكنين إلى الطَّاعة. وقال بعضهم: رجع بهذا القول إلى خطاب المسلمين، فأمرهم أَنْ يستعينوا على ما يطلبونه من رضاءِ الله تعالى ونيل جنَّتِهِ بالصَّبر على أداء فرائضه وهو الصَّوم والصَّلاة.
{الذين يظنون} يستيقنون {أنهم ملاقو ربِّهم} أنَّهم مبعوثون وأنَّهم محاسبون وأنَّهم راجعون إلى الله تعالى، أَيْ: يُصدِّقون بالبعث والحساب.
{يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم} مضى تفسيره، {وأني فضلتكم} أعطيتكم الزِّيادة {على العالمين}: على عالمي زمانكم، وهو ما ذكره في قوله تعالى: {إذ جعل فيكم أنبياء...} الآية، والمراد بهذا التَّفضيل سلفهم، ولكن تفضيل الآباء شرف الأبناء.

.تفسير الآيات (48- 50):

{وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)}
{واتقوا يوماً} واحذروا واجتنبوا عقاب يومٍ {لا تجزي} لا تقضي ولا تُغني {نفسٌ عن نفس شيئاً ولا يقبل منها شفاعة} أَيْ: لا يكون شفاعةٌ فيكون لها قبول، وذلك أنَّ اليهود كانوا يقولون: يشفع لنا آباؤنا الأنبياء، فآيسهم الله تعالى عن ذلك {ولا يؤخذ منها عدل} فِداءٌ {ولا هم ينصرون} يُمنعون من عذاب الله تعالى.
{وإذ نجيناكم} واذكروا ذلك {من آل فرعون} أتباعه ومَنْ كان على دينه {يسومونكم}: يُكلِّفونكم {سوء العذاب} شديد العذاب، وهو قوله تعالى: {يذبحون}: يُقتِّلون {أبناءكم ويستحيون نساءكم} يستبقونهنَّ أحياءً لقول بعض الكهنة له: إنَّ مولوداً يُولد في بني إسرائيل يكون سبباً له ذهابُ ملكك. {وفي ذلكم} الذي كانوا يفعلونه بكم {بلاءٌ}: ابتلاءٌ واختبارٌ وامتحانٌ {من ربكم عظيم} وقيل: وفي تنجيتكم من هذه المحن نعمةٌ عظيمة، والبلاء: النِّعمة، والبلاء: الشِّدَّة.
{وإذ فرقنا بكم البحر} فجعلناه اثني عشر طريقاً حتى خاض فيه بنو إسرائيل. {فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون} إلى انطباق البحر عليهم وإنجائكم منهم.

.تفسير الآيات (51- 56):

{وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)}
{وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة} أَي: انقضاءَها وتمامَها للتَّكلُّم معه {ثمَّ اتخذتم العجل} معبوداً وآلهاً {من بعده} من بعد خروجه عنكم للميقات {وأنتم ظالمون} واضعون العبادةَ في غير موضعها، وهذا تنبيه على أنَّ كفرهم بمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ليس بأعجب من كفرهم وعبادتهم العجل في زمن موسى عليه السَّلام.
{ثمَّ عفونا} محونا ذنوبكم {عنكم من بعد ذلك} من بعد عبادة العجل {لعلكم تشكرون} لكي تشكروا نعمتي بالعفو.
{وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان} عطف تفسيري يعني: التَّوراة الفارق بين الحق والباطل والحلال والحرام {لعلكم تهتدون} لكي تهتدوا بذلك الكتاب من الضلال.
{وإذ قال موسى لقومه} الذين عبدوا العجل {يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل} إلهاً {فتوبوا إلى بارئكم} يعني: خالقكم. قالوا: كيف نتوب؟ قال: {فاقتلوا أنفسكم} أَيْ: ليقتلِ البريءُ منكم المجرمَ {ذلكم} أَي: التَّوبة {خيرٌ لكم عند بارئكم} من إقامتكم على عبادة العجل، ثم فعلتم ما أُمرتم به {فتاب عليكم}: قبل توبتكم. {إنَّه هو التواب الرحيم}.
{وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك} يعني: الذين اختارهم موسى عليه السَّلام ليعتذروا إلى الله سبحانه من عبادة العجل، فلمَّا سمعوا كلام الله تعالى، وفرغ موسى من مناجاة الله عزَّ وجلَّ قالوا له: {لن نؤمن لك} لن نصدِّقك {حتى نرى الله جهرةً} أَيْ: عِياناً لا يستره عنا شيءٌ {فأخذتكم الصاعقة} وهي نارٌ جاءت من السَّماء فأحرقتهم جميعاً {وأنتم تنظرون} إليها حين نزلت، وإنَّما أخذتهم الصَّاعقة؛ لأنَّهم امتنعوا من الإِيمان بموسى عليه السَّلام بعد ظهور معجزته حتى يُريهم ربَّهم جهرةً، والإيمانُ بالأنبياء واجبٌ بعد ظهور معجزتهم، ولا يجوز اقتراح المعجزات عليه، فلهذا عاقبهم الله تعالى، وهذه الآية توبيخٌ لهم على مخالفة الرَّسول صلى الله عليه وسلم مع قيام معجزته، كما خالف أسلافهم موسى مع ما أَتى به من الآيات الباهرة.
{ثم بعثناكم} نشرناكم وأَعدْناكم أَحياءً {من بعد موتكم لعلكم تشكرون} نعمة البعث.

.تفسير الآيات (57- 58):

{وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58)}
{وظللنا عليكم الغمام} سترناكم عن الشَّمس في التِّيه بالسَّحاب الرَّقيق {وأنزلنا عليكم المنَّ} الطُّرَنْجبين كان يقع على أشجارهم بالأسحار {والسَّلوى} وهي طير أمثال السُّمانى، وقلنا لهم: {كلوا من طيبات} من حلالات {ما رزقناكم وما ظلمونا} بإبائهم على موسى عليه السَّلام دخول قرية الجبَّارين، ولكنَّهم ظلموا أنفسهم حين تركوا أمرنا فحبسناهم في التِّيه، فلمَّا انقضت مدَّة حبسهم وخرجوا من التِّيه قال الله تعالى لهم: {ادخلوا هذه القرية} وهي أريحا {وادخلوا الباب} يعني: باباً من أبوابها {سجداً} منحنين متواضعين {وقولوا حطة} وذلك أنَّهم أصابوا خطيئةً بإبائهم على موسى عليه السَّلام دخول القرية، فأراد الله تعالى أَنْ يغفرها لهم فقال لهم: قولوا حطَّةٌ، أَيْ: مسألتنا حطَّةٌ، وهو أن تحط عنا ذنوبنا، {وسنزيد المحسنين} الذين لم يكونوا من أهل تلك الخطيئة إحساناً وثواباً.