فصل: تفسير الآيات (45- 47):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (45- 47):

{وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آَمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47)}
{والله أعلم بأعدائكم} فهو يُعْلِمكم ما هم عليه {وكفى بالله ولياً وكفى بالله نصيراً} أَيْ: إنَّ ولايته ونصرته إيَّاكم تُغنيكم عن غيره من اليهود، ومَنْ جرى مجراهم.
{ومن الذين هادوا} أَيْ: قومٌ {يحرِّفون الكلم عن مواضعه} أَيْ: يُغيِّرون صفة محمَّد صلى الله عليه وسلم وزمانه، ونبوَّته في كتابهم {ويقولون سمعنا} قولك {وعصينا} أمرك {واسمع غير مسمع} كانوا يقولون للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: اسمع، ويقولون في أنفسهم: لا سمعت {وراعنا ليَّاً بألسنتهم} أَيْ: ويقولون راعنا، ويوجِّهونها إلى شتم محمَّد عليه السَّلام بالرُّعونة، وذكرنا أنَّ هذا كان سبَّاً بلُغتهم {ولو أنَّهم قالوا سمعنا وأطعنا} مكان قولهم: سمعنا وعصينا وقالوا {واسمع وانظرنا} أَيْ: انظر إلينا؛ بدل قولهم: راعنا {لكان خيراً لهم} عند الله {ولكن لَعَنَهُمُ الله بكفرهم} فلذلك لا يقولون ما هو خيرٌ لهم {فلا يؤمنون إلاَّ قليلاً} أَيْ: إيماناً قليلاً، وهو قولهم: اللَّهُ ربُّنا، والجنَّةُ حقٌّ، والنَّارُ حقٌّ، وهذا القليل ليس بشيءٍ مع كفرهم بمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وليس بمدحٍ لهم.
{يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقاً لما معكم من قبل أن نطمس وجوهاً} أَيْ: نمحو ما فيها من عينٍ، وفم، وأنفٍ ومارن، وحاجب، فنجعلها كخفِّ البعير، أو كَحَافِرِ الدَّابة {فنردها على أدبارها} نُحوِّلها قبل ظهورهم {أو نلعنهم} أو نجعلهم قردة وخنازير كما فعلنا بأوائلهم {وكان أمر الله مفعولاً} لا رادَّ لحكمه ولا ناقض لأمره.

.تفسير الآيات (48- 55):

{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آَتَيْنَا آَلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآَتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55)}
{إنَّ الله لا يغفر أن يشرك به...} الآية. وعد الله تعالى في هذه الآية مغفرة ما دون الشِّرك، فيعفو عن مَنْ يشاء، ويغفر لمِنْ يشاء إلاَّ الشِّرك؛ تكذيباً للقدريَّة، وهو قوله: {ويغفر ما دون ذلك} أَيْ: الشِّرك {لمن يشاء ومَنْ يشرك بالله فقد افترى إثماً عظيماً} أَيْ: اختلق ذنباً غير مغفور.
{ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم} أَيْ: اليهود قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، وما عملناه باللَّيل كُفِّر عنَّا بالنَّهار، وما عملناه بالنَّهار كُفِّر عنَّا باللَّيل {بل الله يزكِّي من يشاء} أَيْ: يجعل مَنْ يشاء زاكياً طاهراً نامياً في الصَّلاح. يعني: أهل التَّوحيد {ولا يُظلمون فتيلاً} لا ينقصون من الثواب قدر الفتيل، وهو القشرة الرَّقيقة التي حول النَّواة، ثمَّ عجَّب نبيَّه عليه السَّلام من كذبهم، فقال: {انظر كيف يفترون على الله الكذب} يعني: قولهم: يكفِّر عنَّا ذنوبنا {وكفى به} بافترائهم {إثماً مبيناً} أَيْ: كفى ذلك في التَّعظيم.
{ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب} يعني: علماء اليهود {يؤمنون بالجبت} أَيْ: الأصنام {والطاغوت} سدنتها وتراجمتها، وذلك أنَّهم حالفوا قريشاً على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسجدوا لأصنام قريش، وقالوا لهم: أنتم أهدى من محمَّدٍ عليه السَّلام، وأقوم طريقةً وديناً، وهو قوله: {ويقولون للذين كفروا} يعني: قريشاً {هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً}، وقوله: {أم لهم نصيبٌ} أَيْ: بل أَلهم نصيب من الملك؟ يعني: ليس لليهود ملك، ولو كان إذاً لهم لم يُؤتوا أحداً شيئاً، وهو قوله: {فإذاً لا يؤتون الناس نقيراً} أَيْ: لضنُّوا بالقليل. وصفهم الله بالبخل في هذه الآية، والنَّقير يُضرب مثلاً للشَّيء القليل، وهو نقرةٌ في ظهر النَّواة منها تنبت النَّخلة.
{أم يحسدون الناس} يعني: محمَّداً عليه السَّلام {على ما آتاهم الله من فضله} حسدت اليهود محمَّداً عليه السَّلام على ما آتاه الله من النُّبوَّة، وما أباح له من النِّساء، وقالوا: لو كان نبيَّاً لشغله أمر بالنُّبوَّة عن النِّساء، فقال الله تعالى: {فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة} يعني: النُّبوَّة {وآتيناهم ملكاً عظيماً} يعني: ملك داود وسليمان عليهما السَّلام، وما أُوتوا من النِّساء، فكان لداود تسعٌ وتسعون، ولسليمان ألفٌ من بين حُرَّةٍ ومملوكةٍ، والمعنى: أيحسدون النَّبيَّ عليه السَّلام على النُّبوَّة وكثرة النِّساء وقد كان ذلك في آله؛ لأنَّه من آل إبراهيم عليه السَّلام.
{فمنهم} من أهل الكتاب {من آمن به} بمحمَّدٍ عليه السَّلام {ومنهم مَن صدَّ عنه} أعرض عنه فلم يؤمن {وكفى بجهنَّم سعيراً} عذاباً لمَنْ لا يؤمن.

.تفسير الآيات (56- 58):

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)}
{كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها} يعني: أنَّ جلودهم إذا نضجت واحترقت جُدِّدت، بأن تُردَّ إلى الحال التي كانت عليها غير محترقة {ليذوقوا العذاب} ليقاسوه وينالوه {إنَّ الله كان عزيزاً} قوياً لا يغلبه شيء {حكيماً} فيما دبَّر، وقوله: {وندخلهم ظلاً ظليلاً} يعني: ظلَّ هواء الجنَّة، وهو ظليلٌ، أَيْ: دائمٌ لا تنسخه الشَّمس.
{إنَّ الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} نزلت في ردِّ مفتاح الكعبة على عثمان بن طلحة الحجبيِّ حين أُخذ منه قسراً يوم فتح مكة، فأمره الله تعالى بردِّه عليه، ثمَّ هذه الآية عامَّةٌ في ردِّ الأمانات إلى أصحابها كيف ما كانوا {إنَّ الله نِعِمَّا يعظكم به} أَيْ: نِعمَ شيئاً يعظكم به، وهو القرآن {إنَّ الله كان سميعاً} لمقالتكم في الأمانة والحكم {بصيراً} بما تعملون فيها، قال أبو روق: «قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لعثمان: أعطني المفتاح، فقال: هاكَ بأمانة الله، ودفعه إليه، فأراد عليه السَّلام أن يدفعه إلى العباس، فنزلت هذه الآية، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لعثمان: هاك بأمانة الله، خالدةً تالدةً، لا ينزعها عنكم إلاَّ ظالم، ثمَّ إنَّ عثمان هاجر ودفع إلى أخيه شيبة، فهو في ولده إلى اليوم».

.تفسير الآيات (59- 64):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64)}
{يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} وهم العلماء والفقهاء. وقيل: الأمراء والسَّلاطين، وتجب طاعتهم فيما وافق الحقَّ. {فإن تنازعتم} اختلفتم وتجادلتم وقال كلُّ فريق: القولُ قولي: فَرُدُّوا الأمر في ذلك إلى كتاب الله وسنَّة رسوله {ذلك خيرٌ} أََيْ: ردُّكُمُ ما اختلفتم فيه إلى الكتاب والسنة، وردُّك التجادل {وأحسن تأويلاً} وأحمدُ عاقبةً.
{ألم تر إلى الذين يزعمون...} الآية. وقع نزاعٌ بين يهوديِّ ومنافق، فقال اليهوديُّ: بيننا أبو القاسم، وقال المنافق: لا بل نُحكِّم بيننا كعب بن الأشرف، فنزلت هذه الآية. وهو قوله: {يريدون أنْ يتحاكموا إلى الطاغوت} ومعناه: ذو الطُّغيان {وقد أمروا أن يكفروا به} أَيْ: أُمروا أن لا يوالوا غير أهل دينهم {ويريد الشيطان أن يضلَّهم ضلالاً بعيداً} لا يرجعون عنه إلى دين الله أبداً، وهذا تعجيبٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم من جهل مَنْ يعدل عن حكم الله إلى حكم الطَّاغوت مع زعمه بأنَّه يؤمن بالله ورسوله.
{وإذا قيل لهم} أَيْ: للمنافقين {تعالوا إلى ما أنزل الله} أَيْ: في القرآن من الحكم {وإلى الرسول} وإلى حكم الرَّسول {رأيت المنافقين يَصُدُّون عنك صدوداً} يُعرضون عنك إعراضاً إلى غيرك عداوةً للدِّين.
{فكيف} أَيْ: فكيف يصنعون ويحتالون {إذا أصابتهم مصيبة} مجازاةً لهم على ما صنعوا، وهو قوله: {بما قدَّمت أيديهم} وتمَّ الكلام ههنا، ثمَّ عطف على معنى ما سبق فقال: {ثم جاؤوك يحلفون بالله} أَيْ: تحاكموا إلى الطَّاغوت، وصدُّوا عنك، ثمَّ جاؤوك يحلفون، وذلك أنَّ المنافقين أتوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وحلفوا أنَّهم ما أرادوا بالعدول عنه في المحاكمة إلاَّ توفيقاً بين الخصوم، أَيْ: جمعاً وتأليفاً، وإحساناً بالتَّقريب في الحكم دون الحمل على مُرِّ الحقِّ، وكلُّ ذلك كذبٌ منهم؛ لأنَّ الله تعالى قال: {أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم} أَيْ: من الشِّرك والنِّفاق {فأعرض عنهم} أيْ: اصفح عنهم {وعظهم} بلسانك {وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً} أَيْ: خوِّفهم بالله، وازجرهم عمَّا هم عليه بأبلغ الزَّجر كيلا يستسِرُّوا الكفر.
{وما أرسلنا من رسولٍ إلاَّ ليطاع} فيما يأمرُ به ويحكم، لا ليُعصى ويُطلب الحكم من غيره، وقوله: {بإذن الله} أَيْ: لأنَّ الله أذن في ذلك، وأمر بطاعته {ولو أنهم} أَيْ: المنافقين {إذ ظلموا أنفسهم} بالتَّحاكم إلى الكفَّار {جاؤوك فاستغفروا الله} فزعوا وتابوا إلى الله.

.تفسير الآيات (65- 69):

{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)}
{فلا} أَيْ: ليس الأمر كما يزعمون أنَّهم آمنوا وهم يخالفون حكمك {وربك لا يؤمنون} حقيقة الإِيمان {حتَّى يحكموك فيما شجر} اختلف واختلط {بينهم ثمَّ لا يجدوا في أنفسهم حرجاً} ضيقاً وشكَّاً {ممَّا قضيت} أَيْ: أوجبتَ {ويسلموا} الأمر إلى الله وإلى رسوله من غير معارضةٍ بشيءٍ.
{ولو أنَّا كتبنا عليهم} أَيْ: على هؤلاء المنافقين من اليهود {أن اقتلوا أنفسكم} كما كتبنا ذلك على بني إسرائيل {أو اخرجوا من دياركم} كما كتبنا على المهاجرين {ما فعلوه إلاَّ قليلٌ منهم} للمشقَّة فيه مع أنَّه كان ينبغي أن يفعلوه {ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به} ما يُؤمرون به من أحكام القرآن {لكان خيراً لهم} في معاشهم وفي ثوابهم {وأشدَّ تثبيتاً} منهم لأنفسهم في الدِّين، وتصديقاً بأمر الله.
{وإذاً لآتيناهم من لدنَّا} أَيْ: ممَّا لا يقدر عليه غيرنا {أجراً عظيماً} أَيْ: الجنَّة.
{ولهديناهم} أرشدناهم {صراطاً مستقيماً} إلى دينٍ مستقيمٍ وهو دين الحنيفيَّة لا دين اليهوديَّة.
{ومَن يطع الله...} الآية. قال المسلمون للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: ما لنا منك إلاَّ الدُّنيا، فإذا كانت الآخرة رُفِعَت في الأعلى، فحزن وحزنوا، فنزلت {ومَنْ يطع الله} في الفرائض {والرسول} في السُّنن {فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النَّبيين} أَيْ: إنَّه يستمتع برؤيتهم وزيارتهم، فلا يتوهمنَّ أنَّه لا يراهم {والصديقين} أفاضل أصحاب الأنبياء {والشهداء} القتلى في سبيل الله {والصالحين} أَيْ: أهل الجنَّة من سائر المسلمين {وحسن أولئك} الأنبياء وهؤلاء {رفيقاً} أَيْ: أصحاباً ورفقاء.

.تفسير الآيات (70- 76):

{ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73) فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74) وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75) الَّذِينَ آَمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)}
{ذلك} أَيْ: ذلك الثَّواب، وهو الكون مع النَّبييِّن {الفضل من الله} تفضَّل به على مَنْ أطاعه {وكفى بالله عليماً} بخلقه، أَيْ: إنَّه علامٌ لا يخفى عليه شيء، ولا يضيع عنده عمل، ثمَّ حثَّ عباده المؤمنين على الجهاد، فقال: {يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم} سلاحكم عند لقاء العدوِّ {فانفروا} أَيْ: فانهضوا إلى لقاء العدوِّ {ثباتٍ} جماعاتٍ مُتفرِّقين إذا لم يكن معكم الرَّسول {أو انفروا جميعاً} إذا خرج الرَّسول إلى الجهاد.
{وإنَّ منكم لَمَنْ ليُبطئنَّ} أَيْ: ليتخلفنَّ ويتثاقلنَّ عن الجهاد، وهم المنافقون، وجعلهم من المؤمنين من حيث إنَّهم أظهروا كلمة الإِسلام، فدخلوا تحت حكمهم في الظَّاهر {فإن أصابتكم مصيبةٌ} من العدوِّ، وجهدٌ من العيش {قال قد أنعم الله عليَّ} بالقعود حيث لم أحضر فيصيبني ما أصابكم.
{ولئن أصابكم فضلٌ من الله} فتحٌ وغنيمة {ليقولنَّ} هذا المنافق قولَ نادمٍ حاسدٍ: {يا ليتني كنتُ معهم فأفوز فوزاً عظيماً} أَيْ: لأسعدَ مثل ما سعدوا به من الغنيمة، وقوله: {كأن لم تكن بينكم وبينه مودَّة} متصلٌ في المعنى بقوله: {قد أنعم الله عليَّ إذا لم أكن معهم}، {كأن لم تكن بينكم وبينه مودَّة}. أَيْ: كأنْ لم يعاقدكم على الإِسلام ويعاضدكم على قتال عدوٍّكم، ولم يكن بينكم وبينه مودة في الظَّاهر، ثمَّ أمر المؤمنين بالقتال فقال: {فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون} أَيْ: يبيعون {الحياة الدُّنيا بالآخرة} أَيْ: بالجنَّة، أَيْ: يختارون الجنَّة على البقاء في الدُّنيا {ومَنْ يُقاتل في سبيل الله فيقتل} فيستشهد {أو يغلب} فيظفر، فكلاهما سواءٌ، وهو معنى قوله: {فسوف نؤتيه أجراً عظيماً} ثواباً لا صفة له، ثمَّ حضَّ المؤمنين على الجهاد في سبيله لاستنقاذ ضعفة المؤمنين من أيدي المشركين، فقال: {وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والوِلدان} وهم قومٌ بمكَّة استُضعفوا فَحُبسوا وعُذِّبوا {الذين يقولون ربنا أخرجنا} إلى دار الهجرة {من هذه القرية} مكَّة {الظالم أهلها} أَيْ: جعلوا لله شركاء {واجعل لنا من لَدُنْكَ ولياً} أَيْ: ولِّ علينا رجلاً من المؤمنين يوالينا {واجعل لنا من لدنك نصيراً} ينصرنا على عدوِّك، فاستجاب الله دعاءَهم، وولَّى عليهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عتَّابَ بن أسيد، وأعانهم الله به، فكانوا أعزَّ بها من الظَّلمة قبل ذلك.
{الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله} في طاعة الله {والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت} أَيْ: في طاعة الشَّيطان {فقاتلوا أولياء الشيطان} عبدة الأصنام {إنَّ كيد الشيطان كان ضعيفاً} يعني: خذلانه إيَّاهم يوم قُتلوا ببدرٍ.