فصل: تفسير الآيات (102- 107):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (102- 107):

{وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102) فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103) وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107)}
{وإذا كنت فيهم} أَيْ: إذا كنت أيُّها النبيُّ مع المؤمنين في غزواتهم وخوفهم {فأقمت لهم الصلاة} أَي: ابتدأت بها إماماً لهم {فلتقم طائفة منهم معك} نصفهم يصلُّون معك {وليأخذوا} أَيْ: وليأخذ الباقون أسلحتهم {فإذا سجدوا} فإذا سجدت الطَّائفة التي قامت معك {فليكونوا من ورائكم} أَي: الذين أمروا بأخذ السِّلاح {ولتأت طائفة أخرى} أَي: الذين كانوا من ورائهم يحرسونهم {لم يصلوا} معك الركعة الأولى {فليصلوا معك} الركعة الثانية {وليأخذوا حذرهم} من عدوهم {وأسلحتهم} سلاحهم معهم. يعني الذين صلَّوا أولَّ مرَّةٍ {وذّ الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم} في صلاتكم {فيميلون عليكم ميلة واحدة} بالقتال {ولا جناح عليكم إن كان بكم أذىً من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم} ترخيصٌ لهم في ترك حمل السِّلاح في الصَّلاة، وحملُه فرضٌ عند بعضهم، وسنة مؤكدة عند بعضهم، فرخص الله لهم في تركه لعذر المطر والمرض؛ لأنَّ السِّلاح يثقل على المريض، ويفسد في المطر {وخذوا حذركم} أَيْ: كونوا على حذرٍ في الصَّلاة كيلا يتغفَّلكم العدوُّ.
{فإذا قضيتُمُ الصلاة} فرغتم من صلاة الخوف {فاذكروا الله} بتوحيده وشكره في جميع أحوالكم {فإذا اطمأننتم} رجعتم إلى أهلكم وأقمتم {فأقيموا الصلاة} أتمُّوهها {إنَّ الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً} مفروضاً موقَّتاً فرضه.
{ولا تهنوا} أَيْ: لا تضعفوا {في ابتغاء القوم} يعني: أبا سفيان ومَنْ معه حين انصرفوا من أُحدٍ. أمر الله تعالى نبيَّه عليه السَّلام أن يسير في آثارهم بعد الوقعة بأيَّام، فاشتكى أصحابه ما بهم من الجراحات، فقال الله تعالى: {إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون} أَيْ: إنْ ألمتم من جراحكم فهم أيضاً في مثل حالتكم من ألم الجراح {وترجون من الله} من نصر الله إيَّاكم، وإظهار دينكم في الدنيا، وثوابه في العقبى {ما لا يرجون} هم {وكان الله عليماً} بخلقه {حكيماً} فيما حكم.
{إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق} هذه الآية وما بعدها نزلت في قصة طعمة بن أُبيرق؛ سرق درعاً، ثمَّ رمى بها يهودياً، فلما طُلبت منه الدِّرع أحال على اليهوديِّ، ورماه بالسَّرقة، فاجتمع قوم طعمة وقوم اليهوديِّ، وأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل قوم طعمة النبيَّ صلى الله عليه وسلم أنْ يجادل عن صاحبهم، وأن يُبرِّيَه، وقالوا: إنك إنْ لم تفعل افتضح صاحبنا وبرئ اليهوديُّ، فهمَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يفعل، فنزل قوله تعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق} في الحكم لا بالتَّعدي فيه {لتحكم بين الناس بما أراك الله} أَيْ: فيما علَّمك الله {ولا تكن للخائنين} طعمة وقومه {خصيماً} مخاصماً عنهم.
{واستغفر الله} من جدالك عن طعمة، وهمِّك بقطع اليهوديِّ.
{ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم} يخونونها بالمعصية؛ لأنَّ وبال خيانتهم راجعٌ عليه. يعني: طعمة وقومه {إنَّ الله لا يحبُّ مَنْ كان خوَّاناً أثيماً} أَيْ: طعمة، لأنَّه خان في الدِّرع، وأَثِم في رميه اليهوديَّ.

.تفسير الآيات (108- 114):

{يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113) لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)}
{يستخفون} يستترون بخيانتهم {من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم} عالم بما يخفون {إذ يبيِّتون} يُهيِّئون ويُقدِّرون ليلاً {ما لا يرضى من القول} وهو أنَّ طعمة قال: أرمي اليهوديَّ بأنَّه سارق الدِّرع، وأحلف أنِّي لم أسرق فيقبل يميني؛ لأنِّي على دينهم {وكان الله بما يعملون محيطاً} عالماً، ثمَّ خاطب قوم طعمة فقال: {ها أنتم هؤلاء جادلتم} خاصمتم {عنهم} عن طعمة وذويه {في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة} أَيْ: لا أحد يفعل ذلك، ولا يكون في ذلك اليوم عليهم وكيلٌ يقوم بأمرهم ويخاصم عنهم، ثمَّ عرض التَّوبة على طعمة وقومه بقوله: {ومَنْ يعمل سوءاً} معصيةً كما عمل قوم طعمة {أو يظلم نفسه} بذنبٍ كفعل طعمة {ثم يستغفر الله...} الآية. ثمَّ ذكر أنَّ ضرر المعصية إنَّما يلحق العاصي، ولا يلحق الله من معصيته ضررٌ، فقال: {ومَنْ يكسب إثماً فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليماً} بالسَّارق {حكيماً} حكم بالقطع على طعمة.
{ومَنْ يكسب خطيئةً} ذنباً بينه وبين الله تعالى. يعني: يمينه الكاذبة أنَّه ما سرق {أو إثماً} ذنباً بينه وبين النَّاس. يعني: سرقته {ثمَّ يرمِ به} أَيْ: بإثمه {بريئاً} كما فعل طعمة حين رمى اليهوديَّ بالسَّرقة {فقد احتمل بهتاناً} برمي البريء {وإثماً مبيناً} باليمين الكاذبة والسَّرقة.
{ولولا فضلُ الله عليك ورحمته} بالنبوَّة والعصمة {لهمَّت} لقد همَّت {طائفة منهم} من قوم طعمة {أن يضلوك} أَيْ: يُخطِّئوك في الحكم، وذلك أنَّهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجادل عنهم ويقطع اليهوديَّ {وما يضلون إلاَّ أنفسهم} بتعاونهم على الإِثم والعدوان وشهادتهم الزُّور والبهتان {وما يضرونك من شيء} لأنَّ الضَّرر على مَنْ شهد بغير حقٍّ، ثمَّ منَّ الله عليه فقال: {وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة} أَي: القضاء بالوحي، وبيَّن لك ما فيه الحكمة، فلمَّا بان أنَّ السَّارق طعمة تناجى قومه في شأنه، فأنزل الله تعالى: {لا خير في كثير من نجواهم} أَيْ: مسارَّتهم {إلاَّ مَنْ أمر} أَيْ: إلاَّ في نجوى من أمر {بصدقةٍ} وقال مجاهد: هذه الآية عامَّةٌ للناس. يريد: أنَّه لا خير فيما يتناجى فيه النَّاس، ويخوضون فيه من الحديث إلاَّ ما كان من أعمال البرِّ، ثمَّ بيَّن أنَّ ذلك ينفع مَن ابتغى به ما عند الله، فقال: {ومَنْ يفعل ذلك...} الآية. ثمَّ حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم على طعمة بالقطع، فخاف على نفسه الفضيحة، فهرب إلى مكة ولحق بالمشركين.

.تفسير الآيات (115- 119):

{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119)}
{ومَنْ يشاقق الرسول} أَيْ: يخالفه {من بعد ما تبيَّن له الهدى} الإِيمان بالله ورسوله، وذلك أنَّه ظهر له من الآية ما فيه بلاغ بما أطلع الله سبحانه على أمره، فعادى النبيَّ صلى الله عليه وسلم بعد وضوح الحجَّة وقيام الدليل {ويتبع غير سبيل المؤمنين} غير دين الموحِّدين {نوله ما تولى} ندعه وما اختار لنفسه {ونصله جهنم} ندخله إيَّاها ونلزمه النَّار، ثمَّ أشرك بالله طعمة فكان يعبد صنماً إلى أن مات، فأنزل الله فيه: {إنَّ الله لا يغفر أن يشرك به...} الآية. ثمَّ نزل في أهل مكة: {إن يدعون من دونه} أَيْ: ما يعبدون من دون الله {إلاَّ إناثاً} أَيْ: أصنامهم اللاَّت والعزَّى ومناة {وإن يدعون إلاَّ شيطاناً مريداً} ما يعبدون بعبادتهم لها إلاَّ شيطاناً خارجاً عن طاعة الله تعالى. يعني: إبليس؛ لأنَّهم أطاعوه فيما سوَّل لهم من عبادتها.
{لعنه الله} دحره وأخرجه من الجنَّة {وقال} يعني إبليس: {لأتخذنَّ من عبادك} بإغوائي وإضلالي {نصيباً مفروضاً} معلوماً، أَيْ: مَن اتَّبعه وأطاعه.
{ولأُضلنَّهم} عن الحقِّ {ولأمنينَّهم} أن لا جنَّة ولا نار. وقيل: ركوب الأهواء. {ولآمرنَّهم فليبتكنَّ آذان الأنعام} أي: فليقطعنَّها يعني: البحائر، وسيأتي بيان ذلك فيما بعد في سورة المائدة. {ولآمرنهم فليغيرن خلق الله} أَيْ: دينه. يكفرون ويحرِّمون الحلال، ويحلون الحرام {ومَنْ يتخذ الشيطان ولياً من دون الله} أيْ: مَنْ يُطعه فيما يدعو إليه من الضَّلال {فقد خسر خسراناً مبيناً} خسر الجنَّة ونعيمها.

.تفسير الآيات (120- 126):

{يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122) لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126)}
{يعدهم} طول العمر في الدُّنيا {ويمنيهم} نيل المراد منها {وما يعدهم الشيطان إلاَّ غروراً} أَيْ: إلاَّ ما يغرُّهم من إيهام النَّفع فيما فيه الضِّرر.
{أولئك} أَي: الذين اتَّخذوا الشَّيطان وليَّاً {مأواهم} مرجعهم ومصيرهم {جهنم ولا يجدون عنها محيصاً} معدلاً.
{والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار...} الآية.
{ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب} نزلت في كفَّار قريش واليهود. قالت قريش: لا نُبعث ولا نُحاسب، وقالت اليهود: {لن تمسَّنَا النَّارُ إلاَّ إيَّاماً معدودةً} فنزلت هذه الآية. أَيْ: ليس الأمر بأمانيِّ اليهود والكفَّار {مَنْ يعمل سوءاً} كفراً وشركاً {يُجزَ به ولا يجد له من دون الله ولياً} يمنعه {ولا نصيراً} ينصره، ثمَّ بيَّن فضيلة المؤمنين على غيرهم بقوله: {ومن يعمل من الصالحات...} الآية. وبقوله: {ومَنْ أحسن ديناً ممَّن أسلم وجهه} أَيْ: توجَّه بعبادته إلى الله خاضعاً له {وهو محسنٌ} مُوَحِّدٌ {واتَّبع ملَّة إبراهيم حنيفاً} ملَّةُ إبراهيم داخلةٌ في ملَّة محمد عليهما السَّلام، فمَنْ أقرَّ بملَّة محمَّدٍ فقد اتَّبع ملَّة إبراهيم عليه السَّلام {واتخذ الله إبراهيم خليلاً} صفيَّاً بالرِّسالة والنُّبوَّة، مُحبَّاً له خالص الحبِّ.

.تفسير الآيات (127- 134):

{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127) وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآَخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133) مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)}
{ويستفتونك} يطلبون منك الفتوى {في النساء} في توريثهنَّ: كانت العرب لا تورث النِّساء والصِّبيان شيئاً من الميراث {قل الله يفتيكم فيهنَّ وما يتلى عليكم} أَي: القرآن يُفتيكم أيضاً. يعني: آية المواريث في أوَّل هذه السورة {في} ميراث {يتامى النساء}؛ لأنَّها نزلت في قصَّة أم كجَّة، وكانت لها بنات {اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهنَّ} أَيْ: فُرض لهن من الميراث {وترغبون} عن {أن تنكحوهنَّ} لدمامتهنَّ. قالت عائشة رضي الله عنها: نزلت في اليتيمة يرغب وليها عن نكاحها، ولا يُنكحها فيعضلها طمعاً في ميراثها، فنُهي عن ذلك {والمستضعفين من الولدان} أَيْ: يُفتيكم في الصِّغار من الغلمان والجواري أن تعطوهنَّ حقهنَّ {وأن تقوموا} أَيْ: وفي أن تقوموا {لليتامى بالقسط} أَي: بالعدل في مهورهنَّ ومواريثهنَّ {وما تفعلوا من خير} من حسنٍ فيما أمرتكم به {فإنَّ الله كان به عليماً} يجازيكم عليه.
{وإن امرأة خافت} علمت {من بعلها} زوجها {نشوزاً} ترفُّعاً عليها لبغضها، وهو أن يترك مجامعتها {أو إعراضاً} بوجهه عنها {فلا جناح عليهما أن يصالحا بينهما صلحاً} في القسمة والنَّفقة، وهي أن ترضى هي بدون حقِّها، أو تترك من مهرها شيئاً ليسوِّي الزَّوج بينها وبين ضرَّتها في القسمة، وهذا إذا رضيت بذلك لكراهة فراق زوجها، ولا تجبر على هذا لأنَّها إنْ لم ترض بدون حقِّها كان الواجب على الزَّوج أن يوفيها حقَّها من النَّفقة والمبيت {والصلحُ خيرٌ} من النُّشوز والإِعراض. أَيْ: إنْ يتصالحا على شيءٍ خيرٌ من أن يُقيما على النُّشوز والكراهة بينهما {وأحضرت الأنفس الشح} أَيْ: شحَّت المرأة بنصيبها من زوجها، وشحَّ الرَّجل على المرأة بنفسه إذا كان غيرها أحبَّ إليه منها {وإن تحسنوا} العشرة والصُّحبة {وتتقوا} الجور والميل {فإنَّ الله كان بما تعملون خبيراً} لا يضيع عنده شيء.
{ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم} لن تقدروا على التَّسوية بينهنَّ في المحبَّة ولو اجتهدتم {فلا تميلوا كلَّ الميل} إلى التي تحبُّون في النَّفقة والقسمة {فتذروها كالمعلقة} فتدعوا الأخرى كأنَّها معلَّقةٌ لا أيِّماً ولا ذات بعل {وإن تصلحوا} بالعدل في القسم {وتتقوا} الجور {فإنَّ الله كان غفوراً رحيماً} لما ملت إلى التي تحبُّها بقلبك، ولمَّا ذكر جواز الصُّلح بينهما إنْ أحبَّا أن يجتمعا ذكر بعده الافتراق، فقال: {وإن يتفرقا} أَيْ: إنْ أبت المرأة الكبيرة الصُّلْح، وأبت إلاَّ التَّسوية بينها وبين الشَّابَّة فتفرَّقا بالطَّلاق، فقد وعد الله لهما أن يُغني كلَّ واحدٍ منهما عن صاحبه بعد الطَّلاق من فضله الواسع بقوله: {يغن الله كُلاً من سعته وكان الله واسعاً} لجميع خلقه في الرِّزق والفضل {حكيماً} فيما حكم ووعظ.
{إنْ يشأ يذهبكم أيها الناس} يعني: المشركين والمنافقين {ويأت بآخرين} أمثل وأطوع لله منكم.
{مَنْ كان يريد ثواب الدنيا} أَيْ: متاعها {فعند الله ثواب الدنيا والآخرة} أَيْ: خير الدُّنيا والآخرة عنده، فليطلب ذلك منه، وهذا تعريضٌ بالكفَّار الذين كانوا لا يؤمنون بالبعث، وكانوا يقولون: ربنا آتنا في الدنيا، وما لهم في الآخرة من خَلاق.