فصل: تفسير الآيات (47- 51):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (47- 51):

{وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47) وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)}
{وليحكم أهل الإِنجيل} أَيْ: وقلنا لهم: ليحكموا بهذا الكتاب في ذلك الوقت.
{وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه} أَيْ: شاهداً وأميناً، وحفيظاً ورقيباً على الكتب التي قبله، فما أخبر أهل الكتاب بأمرٍ؛ فإنْ كان في القرآن فصدِّقوا، وإلأَّ فكذِّبوا {فاحكم بينهم} بين اليهود {بما أنزل الله} بالقرآن والرَّجم {ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق} يقول: لا تتَّبعهم عمَّا عندك من الحقِّ، فتتركه وتتَّبعهم {لكلٍّ جعلنا منكم} من أُمَّة موسى وعيسى ومحمَّد صلَّى الله عليهم أجمعين {شرعة ومنهاجاً} سبيلاً وسنَّة، فللتَّوراة شريعة، وللإِنجيل شريعة، وللقرآن شريعة {ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة} على أمرٍ واحدٍ ملَّة الإِسلام {ولكن ليبلوكم} ليختبركم {فيما آتاكم} أعطاكم من الكتاب والسُّنن {فاستبقوا الخيرات} سارعوا إلى الأعمال الصَّالحة الزَّاكية {إلى الله مرجعكم جميعاً} أنتم وأهل الكتاب {فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} من الدِّين والفرائض والسُّنن. يعني: إنَّ الأمر سيؤول إلى ما يزول معه الشُّكوك بما يحصل من اليقين.
{واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك} أَيْ: يَسْتَزِلُّوكَ عن الحقِّ إلى أهوائهم. نزلت حين قال رؤساء اليهود بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى محمد لعلَّنا نفتنه، فنزدَّه عمَّا هو عليه، فأتوه وقالوا له: قد علمت أنَّا إن اتَّبعناك اتَّبعك النَّاس، ولنا خصومةٌ فاقض لنا على خصومنا إذا تحاكمنا إليك، ونحن نؤمن بك، فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله هذه الآية: {فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم} أي: فإن أعرضوا عن الإِيمان، والحكم بالقرآن فاعلم أنَّ ذلك من أجل أنَّ الله يريد أن يعجِّل لهم العقوبة في الدنيا ببعض ذنوبهم ويجازيهم في الآخرة بجميعها، ثمَّ كان تعذيبهم في الدُّنيا الجلاء والنَّفي {وإنَّ كثيراً من الناس لفاسقون} يعني: اليهود.
{أفحكم الجاهلية يبغون} أَيْ: أيطلب اليهود في الزَّانيين حكماً لم يأمر الله به، وهم أهل كتاب، كما فعل أهل الجاهليَّة؟! {ومَنْ أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون} أَي: مَنْ أيقن تبيَّن عدل الله في حكمه، ثمَّ نهى المؤمنين عن موالاة اليهود، وأوعد عليها بقوله: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء...} الآية.

.تفسير الآيات (52- 54):

{فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)}
{فترى الذين في قلوبهم مرض} يعني: عبد الله بن أُبيٍّ وأصحابه {يسارعون فيهم} في مودَّة أهل الكتاب ومعاونتهم على المسلمين بإلقاء أخبارهم إليهم {يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة} أَيْ: يدور الأمر عن حاله التي يكون عليها. يعنون: الجدب فتنقطع عنا الميرة والقرض {فعسى الله أن يأتي بالفتح} يعني: لمحمدٍ على جميع مَنْ خالفه {أو أمرٍ من عنده} بقتل المنافقين، وهتك سترهم {فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم} يعني: أهل النِّفاق على ما أضمروا من ولاية اليهود، ودسِّ الأخبار إليهم {نادمين}.
{ويقول الذين آمنوا} المؤمنون إذا هتك الله ستر المنافقين: {أهؤلاء} يعنون: المنافقين {الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم} حلفوا بأغلظ الأيمان {إنهم لمعكم} إنَّهم مؤمنون وأعوانكم على مَنْ خالفكم {حبطت أعمالهم} بطل كلُّ خيرٍ عملوه بكفرهم {فأصبحوا خاسرين} صاروا إلى النَّار، وورث المؤمنون منازلهم من الجنَّة.
{يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه} علم الله تعالى أنَّ قوماً يرجعون عن الإِسلام بعد موت نبيِّهم صلى الله عليه وسلم، فأخبرهم تعالى أنَّه س {يأتي اللَّهُ بقوم يحبهم ويحبونه} وهم أبو بكر رضي الله عنه وأصحابه الذين قاتلوا أهل الرِّدة {أذلة على المؤمنين} كالولد لوالده، والعبد لسيِّده {أعزة على الكافرين} غلاظٍ عليهم، كالسَّبع على فريسته {يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم} كالمنافقين الذين كانوا يرقبون الكافرين، ويخافون لومهم في نصرة الدِّين {ذلك فضل الله} أَيْ: محبَّتهم لله عزَّ وجلَّ، ولين جانبهم للمسلمين، وشدَّتهم على الكفَّار بفضلٍ من الله عليهم.

.تفسير الآيات (55- 61):

{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61)}
{إنما وليكم الله ورسوله} نزلت لمَّا هجر اليهود مَنْ أسلم منهم، فقال عبد الله بن سلام: يا رسول الله، إنَّ قومنا قد هجرونا، وأقسموا ألا يجالسونا، فنزلت هذه الآية، فقال: رضينا بالله وبرسوله وبالمؤمنين أولياء، وقوله: {وهم راكعون} يعني: صلاة التَّطوع.
{ومن يَتَوَلَّ الله ورسوله} يتولَّى القيام بطاعته ونصرة رسوله والمؤمنين {فإنَّ حزب الله} جند الله وأنصار دينه {هم الغالبون} غلبوا اليهود فأجلوهم من ديارهم، وبقي عبد الله بن سلام وأصحابه الذين تولَّوا اللَّهَ ورسوله.
{يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا...} الآية. نزلت في رجالٍ كانوا يوادُّون منافقي اليهود، ومعنى قوله: {اتَّخذوا دينكم هزواً ولعباً} إظهارهم ذلك باللِّسان، واستبطانهم الكفر تلاعباً واستهزاءً {والكفار} يعني: مشركي العرب وكفَّار مكَّة {واتقوا الله} فلا تتَّخذوا منهم أولياء {إن كنتم مؤمنين} بوعده ووعيده.
{وإذا ناديتم إلى الصلاة} دعوتم النَّاس إليها بالأذان {اتخذوها هزواً ولعباً} تضاحكوا فيما بينهم وتغامزوا على طريق السُّخف والمجون تجهيلاً لأهلها {ذلك بأنهم قوم لا يعقلون} ما لهم في إجابتها لو أجابوا إليها، وما عليهم في استهزائهم بها.
{قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا...} الآية. أي: هل تنكرون وتكرهون. أتي نفرٌ من اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه عمَّن يُؤمن به من الرُّسل؟ فقال: «أؤمنُ بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرِّق بين أحدٍ منهم ونحن له مسلمون»، فلمَّا ذكر عيسى جحدوا نبوَّته، وقالوا: ما نعلم ديناً شرَّاً من دينكم، فأنزل الله تعالى: {هل تنقمون} أَي: هل تكرهون وتنكرون منا إلاَّ إيماننا وفسقكم، أَيْ: إنَّما كرهتم إيماننا وأنتم تعلمون أننا على حقٍّ، لأنَّكم قد فسقتم، بأن أقمتم على دينكم لمحبَّتكم الرِّئاسة، وكسبكم بها الأموال، وتقدير قوله: {وأنًّ أكثركم فاسقون} ولأنَّ أكثركم، والواو زائدةٌ، والمعنى: لفسقكم نقمتم علينا الإِيمان، قوله: {قل هل أنبئكم} أخبركم، جوابٌ لقول اليهود: ما نعرف أهل دين شراً منكم، فقال الله: {هل أنبئكم} أخبركم {بشرٍّ من} ذلكم المسلمين الذين طعنتم عليهم {مثوبة} جزاءً وثواباً {عند الله مَنْ لعنه الله} أَيْ: هو مَنْ لعنه الله: أبعده عن رحمته {وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير} يعني: أصحاب السَّبت {وعبد الطاغوت} نسقٌ على {لعنه الله} وعبد الطاغوت: أطاع الشَّيطان فيما سوَّله له. {أولئك شر مكاناً} لأنَّ مكانهم سَقَر {وأضل عن سواء السبيل} قصد الطَّريق، وهو دين الحنيفيَّة، فلمَّا نزلت هذه الآية عيَّر المسلمون اليهود، وقالوا: يا إخوان القردة والخنازير، فسكتوا وافتضحوا.
{وإذا جاؤوكم قالوا آمنا} يعني: منافقي اليهود {وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به} أَيْ: دخلوا وخرجوا كافرين، والكفر معهم في كِلْتي حالهم.

.تفسير الآيات (62- 69):

{وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63) وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66) يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)}
{وترى كثيراً منهم يسارعون في الإثم والعدوان} يجترئون على الخطأ والظُّلم، ويبادرون إليه {وأكلهم السُّحت} ما كانوا يأخذونه من الرَّشا على كتمان الحقِّ، ثمَّ ذمَّ فعلهم بقوله: {لبئس ما كانوا يعملون}.
{لولا} هلاَّ {ينهاهم} عن قبح فعلهم {الربانيون والأحبار} علماؤهم وفقهاؤهم {لبئس ما كانوا يصنعون} حين تركوا النَّكير عليهم.
{وقالت اليهود يد الله مغلولة} مقبوضةٌ عن العطاء وإسباغ النِّعم علينا. قالوا هذا حين كفَّ الله تعالى عنهم بكفرهم بمحمَّد عليه السَّلام ما كان يسلِّط عليهم من الخِصب والنِّعمة، فقالوا- لعنهم الله على جهة الوصف بالبخل-: {يد الله مغلولة} وقوله: {غلت أيديهم} أَيْ: جعلوا بخلاء وأُلزموا البخل، فهم أبخل قوم {ولعنوا بما قالوا} عُذِّبوا في الدُّنيا بالجِزية والذلَّة والصَّغار، والقحط والجلاء، وفي الآخرة بالنَّار {بل يداه مبسوطتان} قيل: معناه: الوصف بالمبالغة في الجود والإِنعام. وقيل: معناه: نِعمُه مبسوطةٌ، ودلَّت التَّثنية على الكثرة، كقولهم: لبيك وسعديك. وقيل: نعمتاه، أَيْ: نعمة الدُّنيا، ونعمة الآخرة {مبسوطتان ينفق كيف يشاء} يرزق كما يريد؛ إن شاء قتَّر، وإنْ شاء وسَّع {وليزيدَّن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً} كلَّما أنزل عليك شيءٌ من القرآن كفروا به، فيزيد كفرهم {وألقينا بينهم العداوة والبغضاء} بين طوائف اليهود، وجعلهم الله مختلفين متباغضين، كما قال: {تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتَّى} {كلما أَوْقَدُوا ناراً للحرب أطفأها الله} كلَّما أرادوا محاربتك ردَّهم الله، وألزمهم الخوف {ويسعون في الأرض فساداً} يعني: يجتهدون في دفع الإِسلام، ومحو ذكر النبيِّ صلى الله عليه وسلم من كتبهم.
{ولو أنَّ أهل الكتاب آمنوا} بمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم {واتقوا} اليهوديَّة والنصرانيَّة {لكفَّرنا عنهم سيئاتهم} كلَّ ما صنعوا قبل أن تأتيهم.
{ولو أنهم أقاموا التوراة والإِنجيل} عملوا بما فيهما من التَّصديق بك {وما أنزل إليهم} من كتب أنبيائهم {لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم} لأنزلتُ عليهم القطر، وأخرجتُ لهم من نبات الأرض كلَّما أرادوا {منهم أمة مقتصدة} مؤمنةٌ.
{يا أيها الرسول بلِّغ ما أنزل إليك من ربك} أَيْ: لا تراقبنَّ أحداً، ولا تتركنَّ شيئاً ممَّا أُنزل إليك تخوُّفاً مِنْ أَنْ ينالك مكروهٌ. بلِّغ الجميع مجاهراً به {وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} إنْ كتمت آية ممَّا أنزلتُ إليك لم تبلِّغ رسالتي. يعني: إنَّه إنْ ترك بلاغ البعض كان كمَنْ لم يُبلِّغ {والله يعصمك من الناس} أن ينالوك بسوء. قال المفسرون: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يشفق على نفسه غائلة اليهود والكفَّار، وكان لا يُجاهرهم بعيب دينهم وسبِّ آلهتهم، فأنزل الله تعالى: {يا أيها الرسول بلِّغ ما أنزل إليك من ربك} فقال: يا ربِّ، كيف أصنع وأنا واحدٌ أخاف أن يجتمعوا عليَّ؟ فأنزل الله تعالى: {وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إنَّ الله لا يهدي القوم الكافرين} لا يرشد مَنْ كذَّبك.
{قل يا أهل الكتاب لستم على شيء} من الدِّين {حتى تُقيموا} حتى تعملوا بما في الكتابين من الإِيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبيان نعته، وباقي الآية مضى تفسيره إلى قوله: {فلا تأس على القوم الكافرين} يقول: لا تحزن على أهل الكتاب إنْ كذَّبوك.
{إنَّ الذين آمنوا والذين هادوا} سبق تفسيره في سورة البقرة.

.تفسير الآية رقم (71):

{وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)}
{وحسبوا ألا تكون فتنة} ظنُّوا وقدَّروا إلا تقع بهم عقوبة، وعذابٌ في الإِصرار على الكفر بقتل الأنبياء، وتكذيب الرُّسل {فعموا وصموا} عن الهدى فلم يعقلوه {ثمَّ تاب الله عليهم} بإرساله محمداً صلى الله عليه وسلم داعياً إلى الصِّراط المستقيم {ثمَّ عموا وصموا كثيرٌ منهم} بعد تبيُّن الحقِّ لهم بمحمَّد عليه السَّلام {والله بصيرٌ بما يعملون} من قتل الأنبياء وتكذيب الرُّسل.