فصل: تفسير الآيات (106- 108):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (106- 108):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآَثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآَخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)}
{يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم} نزلت هذه الآيات في قصّة تميمٍ وعديٍّ وبُديلٍ، خرجوا تجاراً إلى الشَّام، فمرض بُديل ودفع إليهما متاعه، وأَوصى إليهما أن يدفعاه إلى أهله إذا رجعا، فأخذا من متاعه إناءً من فِضَّة، وردَّا الباقي إلى أهله فعلموا بخيانتهما ورفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى هذه الآيات، ومعنى الآية: ليشهدكم {إذا حضر أحدكم الموت} وأردتم الوصية {اثنان ذوا عدل منكم} من أهل ملَّتكم تشهدونهما على الوصية {أو آخران من غيركم} من غير دينكم إذا {ضربتم} سافرتم {في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت} علم الله أنَّ من النَّاس مَنْ يسافر فيصحبُهُ في سفره أهل الكتاب دون المسلمين، ويحضره الموت فلا يجد مَنْ يُشهده على وصيته من المسلمين، فقال: {أو آخران من غيركم} فالذِّميان في السَّفر خاصَّة إذا لم يوجد غيرهما تُقبل شهادتهما في ذلك، وقوله: {تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتُمْ لا نشتري به ثمناً} أَيْ: أن ارتبتم في شهادتهما وشككتم، وخشيتم أن يكونا قد خانا حبستموهما على اليمين بعد صلاة العصر، فيحلفان بالله ويقولان في يمينهما: لا نبيع الله بعرضٍ من الدُّنيا، ولا نُحابي أحداً في شهادتنا {ولو كان ذا قربى} ولو كان المشهود له ذا قربى {ولا نكتم شهادة الله} أَيْ: الشَّهادة التي أمر الله بإقامتها {إنا إذاً لمن الآثمين} إنْ كتمناها، ولمًّا رفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلت هذه الآية أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستحلفوهما، وذلك أنَّهما كانا نصرانيين، وبُديل كان مسلماً، فحلفا أنَّهما ما قبضا غير ما دفعا إلى الورثة، ولا كتما شيئاً، وخلَّى سبيلهما ثمَّ اطُّلِع على الإِناء في أيديهما، فقالا: اشتريناه منه، فارتفعوا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فنزل قوله: {فإن عثر} أَيْ: ظهر واطلع {على أنهما استحقا إثماً} أَيْ: استوجباه بالخيانة والحنث في اليمين {فآخران يقومان مقامهما} من الورثة، وهم الذين {استحق عليهم} أَيْ: استحق عليهم الوصية، أو الإِيصاء، وذلك أنَّ الوصية تستحق على الورثة {الأوليان} بالميت، أَيْ: الأقربان إليه، والمعنى: قام في اليمين مقامهما رجلان من قرابة الميت، فيحلفان بالله: لقد ظهرنا على خيانة الذِّميِّيْن وكذبهما وتبديلهما، وهو قوله: {فيقسمان بالله لشهادتنا أحقٌّ من شهادتهما} أَيْ: يميننا أحقُّ من يمينهما {وما اعتدينا} فيما قلنا، فلمَّا نزلت هذه الآية قام اثنان من ورثة الميِّت فحلفا بالله أنَّهما خانا وكذبا، فدفع الإناء إلى أولياء الميت.
{ذلك} أَيْ: ما حَكم به في هذه القصَّة، وبيَّنه من ردِّ اليمين {أدنى} إلى الإِتيان بالشَّهادة على ما كانت {أو يخافوا} أَيْ: أقرب إلى أن يخافوا {أن ترد أيمان} على أولياء الميِّت بعد أيمان الأوصياء، فيحلفوا على خيانتهم وكذبهم فيفتضحوا {واتقوا الله} أن تحلفوا أيماناً كاذبةً، أو تخونوا أمانةً {واسمعوا} الموعظة {والله لا يهدي القوم الفاسقين} لا يرشد مَنْ كان على معصيته.

.تفسير الآيات (109- 116):

{يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آَمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آَمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآَخِرِنَا وَآَيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115) وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)}
{يوم يجمع الله الرسل} أَيْ: اذكروا ذلك اليوم {فيقول} لهم: {ماذا أُجِبْتُمْ} ما أجابكم قومكم في التَّوحيد؟ {قالوا لا علم لنا} من هول ذلك اليوم يذهلون عن الجواب، ثمَّ يجيبون بعدما تثوب إليهم عقولهم، فيشهدون لمن صدَّقهم، وعلى مَنْ كذَّبهم.
{إذ قال الله يا عيسى ابن مريم} مضى تفسير الآية إلى قوله: {وإذ كففت بني إسرائيل عنك} أَيْ: عن قتلك.
{وإذ أوحيت إلى الحواريين} أَيْ: ألهمتهم.
{إذ قال الحواريون يا عيسى ابنَ مريم هل يستطيع ربك} لم يشكُّوا في قدرته، ولكنْ معناه، هل يقبل ربُّك دعاءَك، وهل يسهل لك إنزال مائدة علينا من السَّماء، عَلَماً لك ودلالةً على صدقك؟ فقال عيسى: {اتقوا الله} أن تسألوه شيئاً لم تسأله الأمم من قبلكم.
{قالوا نريد أن نأكل منها} أَيْ: نريد السُّؤال من أجل هذا {وتطمئن قلوبنا} نزداد يقيناً بصدقك {ونكون عليها من الشاهدين} لله بالتَّوحيد، ولك بالنُّبوة. وقوله: {تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا} أَيْ: نتّخذ اليوم الذي تنزل فيه عيداً نُعظِّمه نحن ومَنْ يأتي بعدنا {وآيةً منك} دلالةً على توحيدك وصدق نبيِّك {وارزقنا} عليها طعاماً نأكله، وقوله: {فمن يكفر بعد منكم} أَيْ: بعد إنزال المائدة {فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين} أراد: جنساً من العذاب لا يُعذَّب به غيرهم من عالمي زمانهم.
{وإذْ قال الله يا عيسى ابن مريم} واذكر يا مُحمَّدُ حين يقول الله تعالى يوم القيامة لعيسى: {أأنت قلت للناس اتخذوني وأمِّي إلهين من دون الله} هذا استفهامٌ معناه التُّوبيخ لمن ادَّعى ذلك على المسيح؛ ليكِّذبهم المسيح، فتقوم عليهم الحجَّة {قال سبحانك} أَيْ: براءتك من السُّوء. {تعلم ما في نفسي} أَيْ: ما في سرِّي وما أضمره {ولا علم ما في نفسك} أَيْ: ما تخفيه أنت، وما عندك علمه ولم تُطلعنا عليه.

.تفسير الآيات (117- 120):

{مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)}
{وكنتُ عليهم شهيداً} أَيْ: كنت أشهد على ما يفعلون ما كنتُ مقيماً فيهم {فلما توفيتني} يعني: رفعتني إلى السَّماء {كنت أنت الرقيب} الحفيظ {عليهم وأنت على كلِّ شيء شهيد} أَيْ: شهدت مقالتي فيهم، وبعد ما رفعتني شهدتَ ما يقولون من بعدي.
{إن تعذبهم} أَيْ: من كفر بك {فإنهم عبادك} وأنت العادل فيهم {وإن تغفر لهم} أَيْ: مَنْ تاب منهم وآمن فأنت عزيرٌ لا يمتنع عليك ما تريد، حيكمٌ في ذلك.
{قال الله هذا يوم} يعني: يوم القيامة {ينفع الصادقين} في الدُّنيا {صدقهم} لأنَّه يوم الإِثابة والجزاء {رضي الله عنهم} بطاعته {ورضوا عنه} بثوابه {ذلك الفوز العظيم} لأنهم فازوا بالجنَّة.
{لله ملك السموات والأرض} عظَّم نفسه عمَّا قالت النصارى: إنَّ معه إلهاً.

.سورة الأنعام:

.تفسير الآيات (1- 4):

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4)}
{الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور} وخلق اللَّيل والنَّهار {ثمًّ الذين كفروا} بعد قيام الدَّليل على وحدانيَّته بما ذكر من خلقه {بربهم يعدلون} الحجارةَ والأصنام فيعبدونها معه.
{هو الذي خلقكم من طين} يعني: آدم أبا البشر {ثمَّ قضى أجلاً} يعني: أجل الحياة إلى الموت {وأجل مسمى عنده} من الممات إلى البعث {ثم أنتم} أيُّها المشركون بعد هذا {تمترون} تشكُّون وتكذِّبون بالبعث. يريد: إنَّ الذي ابتدأ الخلق قادرٌ على إعادته.
{وهو الله} أَي: المعبود المعظَّم المتفرِّد بالتَّدبير {في السموات وفي الأرض}.
{وما تأتيهم من آية من آيات ربهم} الدَّالَّة على وحدانيَّته، كما ذكر من خلق آدم، وخلق اللَّيل والنَّهار {إلاَّ كانوا عنها معرضين} تاركين التًّفكُّر فيها.

.تفسير الآيات (5- 8):

{فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ (6) وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8)}
{فقد كذبوا} يعني: مشركي أهل مكة {بالحق لما جاءهم} يعني: القرآن {فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون} أَيْ: أخبار استهزائهم وجزاؤه.
{ألم يروا} يعني: هؤلاء الكفَّار {كم أهلكنا من قبلهم من قرن} من جيلٍ وأمَّةٍ {مكنَّاهم في الأرض ما لم نمكِّن لكم} أعطيناهم من المال والعبيد والأنعام ما لم نُعطكم {وأرسلنا السماء} المطر {عليهم مدراراً} كثير الدَّرِّ، وهو إقباله ونزوله بكثرة {فأهلكناهم بذنوبهم} بكفرهم {وأنشأنا} أوجدنا {من بعدهم قرناً آخرين} وهذا احتجاجٌ على منكري البعث.
{ولو نزلنا عليك...} الآية. قال مشركو مكَّة: لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من السَّماء جملةً واحدةً مُعانيةً، فقال الله: {ولو نزلنا عليك كتاباً} أَيْ: مكتوباً {في قرطاس} يعني: الصَّحيفة {فلمسوه بأيديهم} فعاينوا ذلك مُعاينةً، ومسُّوه بأيديهم {لقال الذين كفروا إن هذا إلاَّ سحر مبين} أخبر الله تعالى أنَّهم يدفعون الدَّليل حتى لو رأوا الكتاب ينزل من السَّماء لقالوا: سحر.
{وقالوا لولا أنزل عليه ملك} طلبوا ملكاً يرونه يشهد له بالرِّسالة، فقال الله عزَّ وجلَّ: {ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر} لأُهلكوا بعذاب الاستئصال، كسُنَّة مَنْ قبلهم ممَّن طلبوا الآيات فلم يؤمنوا {ثم لا ينظرون} لا يُمهلون لتوبةٍ ولا لغير ذلك.

.تفسير الآيات (9- 13):

{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)}
{ولو جعلناه ملكاً} أيْ: ولو جعلنا الرَّسول الذي ينزل عليهم ليشهدوا له بالرِّسالة مَلَكاً كما يطلبون {لجعلناه رجلاً} لأنَّهم لا يستطيعون أن يروا المَلَك في صورته، لأنَّ أعين الخلق تحار عن رؤية الملائكة، ولذلك كان جبريل عليه السَّلام يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبيِّ {وللبسنا عليهم ما يلبسون} ولخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم حتى يشكُّوا فلا يدروا أمَلَكٌ هو أم آدميٌّ، أَيْ: فإنَّما طلبوا حال لبسٍ لا حال بيانٍ، ثمَّ عزَّى الله نبيَّه عليه السَّلام بقوله: {ولقد استهزئ برسل من قبلك} وكُذِّبوا ونُسبوا إلى السّحر {فحاق} فحلَّ ونزل {بالذين سخروا} من الرُّسل {ما كانوا به يستهزئون} من العذاب وينكرون وقوعه.
{قل} لهم يا محمَّدُ: {سيروا في الأرض} سافروا في الأرض {ثم انظروا} فاعتبروا {كيف كان عاقبة} مُكذِّبي الرُّسل: يعني: إذا سافروا رأوا آثار الأمم الخالية المهلكة، يحذِّرهم مثلَ ما وقع بهم.
{قل لمن ما في السموات والأرض} فإن أجابوك وإلاَّ {قل لله كتب على نفسه الرحمة} أوجب على نفسه الرَّحمة، وهذا تلطُّفٌ في الاستدعاء إلى الإنابة {ليجمعنَّكم} أَيْ: والله ليجمعنَّكم {إلى يوم القيامة} أَيْ: ليضمنَّكم إلى هذا اليوم الذي أنكرتموه، وليجمعنَّ بينكم وبينه، ثمَّ ابتدأ فقال: {الذين خسروا أنفسهم} أهلكوها بالشِّرك {فهم لا يؤمنون}.
{وله ما سكن في الليل والنهار} أَيْ: ما حلَّ فيهما، واشتملا عليه. يعني: جميع المخلوقات.

.تفسير الآية رقم (14):

{قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14)}
{قل أغير الله أتخذ ولياً فاطر السموات والأرض} خالقهما ابتداءً {وهو يطعم ولا يطعم} يَرزق ولا يُرزق.

.تفسير الآيات (16- 24):

{مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آَلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)}
{من يصرف عنه} أَي: العذاب {يومئذ} يوم القيامة {فقد رحمه} فقد أوجب الله له الرَّحمة لا محالة.
{وإن يمسسك الله بضر...} الآية. أيْ: إنْ جعل الضُّرَّ وهو المرض والفقر يمسُّك.
{وهو القاهر} القادر الذي لا يعجزه شيء {فوق عباده} أَيْ: إنَّ قهره قد استعلى عليهم، فهم تحت التَّسخير.
{قل أي شيء أكبر شهادة} قال أهل مكة للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: ائتنا بمَنْ يشهد لك بالنُّبوَّة، فإنَّ أهل الكتاب ينكرونك، فنزلت هذه الآية، أمر الله تعالى محمداً عليه السَّلام أن يسألهم، ثمَّ أمر أن يخبرهم فيقول: {الله شهيد بيني وبينكم} أَي: الله الذي اعترفتم بأنَّه خالق السَّموات والأرض، والظُّلمات والنُّور يشهد لي بالنُّبوَّة بإقامة البراهين، وإنزال القرآن عليَّ. {وأوحي إلي هذا القرآن} المُعجز بلفظه ونظمه وأخباره، عمَّا كان ويكون {لأنذركم} لأخوِّفكم {به} عقاب الله على الكفر {ومَنْ بلغ} يعني: ومَنْ بلغه القرآن من بعدكم، فكلُّ مَنْ بلغه القرآن فكأنَّما رأى محمداً عليه السَّلام. قل: {أإنكم لتشهدون أنَّ مع الله آلهة أخرى} استفهام معناه الجحد والإِنكار {قل لا أشهد...} الآية.
{الذين آتيناهم الكتاب} مفسَّرة في سورة البقرة.
{ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً} أَيْ: لا أحد أظلم ممَّن اختلق على الله كذباً. يعني: الذين ذكرهم في قوله: {وإذا فعلوا فاحشة...} الآية. {أو كذَّب بآياته} بالقرآن وبمحمد عليه السَّلام {إنَّه لا يفلح الظالمون} لا يسعد مَنْ جحد ربوبيَّة ربِّه، وكذَّب رسله، وهم الذين ظلموا أنفسهم بإهلاكها بالعذاب.
{ويوم} واذكروا يوم {نحشرهم جميعاً ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم} أصنامكم وآلهتكم {الذين كنتم تزعمون} أنَّها تشفع لكم، وهذا سؤال توبيخ.
{ثم لم تكن فتنتهم} أَيْ: لم تكن عاقبة افتتانهم بالأوثان وحبِّهم لها {إلاَّ أن} تبرَّؤوا منها ف {قالوا والله ربنا ما كنا مشركين}.
{انظر} يا محمد {كيف كذبوا على أنفسهم} بجحد شركهم في الآخرة {وضلَّ} وكيف ضلَّ ذلك: زال وبطل {عنهم ما كانوا يفترون} بعبادته من الأصنام.