فصل: تفسير الآيات (59- 60):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (59- 60):

{فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59) وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)}
{فبدَّل الذين ظلموا قولاً} منهم {غير الذي قيل لهم} أَيْ: غيَّروا تلك الكلمة التي أُمروا بها، وقالوا: حنطةٌ {فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً} ظلمةً وطاعوناً، فهلك منهم في ساعة واحدة سبعون ألفاً جزاءً لفسقهم بتبديل ما أُمروا به من الكلمة.
{وإذ استسقى موسى لقومه} في التِّيه {فقلنا اضرب بعصاك الحجر} وكان حجراً خفيفاً مربَّعاً مثل رأس الرَّجل {فانفجرت} أيْ: فضربَ، فانفجرت، يعني: فانشقَّت {منه اثنتا عشرة عيناً} فكان يأتي كلُّ سبط عينَهم التي كانوا يشربون منها، فذلك قوله تعالى: {قد علم كلُّ أناسٍ مشربهم} وقلنا لهم: {كلوا} من المنِّ والسَّلوى {واشربوا} من الماء، فهذا كلُّه {من رزق الله} {ولا تعثوا في الأرض مفسدين} أَيْ: لا تسعوا فيها بالفساد، فَمَلُّوا ذلك العيش، وذكروا عيشاً كان لهم بمصر.

.تفسير الآيات (61- 63):

{وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63)}
فقالوا: {يا موسى لن نصبر على طعام واحد} يعني: المنَّ الذي كانوا يأكلونه والسَّلوى، فكانا طعاماً واحداً {فادع لنا ربك} سله وقل له: أَخرِجْ {يُخرجْ لنا مما تنبت الأرض من بقلها} وهو كلُّ نباتٍ لا يبقى له ساقٌ {وقثائها} وهو نوعٌ من الخضروات {وفومها} وهو الحنطة، فقال لهم موسى عليه السَّلام: {أتستبدلون الذي هو أدنى} أَيْ: أخسُّ وأوضع {بالذي هو خيرٌ} أَي: أرفع وأجلُّ؟ فدعا موسى عليه السَّلام فاستجبنا له وقلنا لهم: {اهبطوا مصراً}: أنزلوا بلدةً من البلدان {فإنَّ لكم ما سألتم} أَيْ: فإنَّ الذي سألتم لا يكون إلاَّ في القرى والأمصار {وضُربت عليهم} أَيْ: على اليهود الذين كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم {الذلَّة} يعني: الجزيةَ وزيَّ اليهوديَّة، ومعنى ضرب الذِّلة: إلزامهم إيَّاها إلزاماً لا يبرح {والمسكنة} زي الفقر وأثر البؤس {وباؤوا} احتملوا وانصرفوا {بغضب من الله ذلك} أَيْ: ذلك الضَّرب والغضب {بأنّهم كانوا يكفرون بآيات الله} التي أُنزلت على محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم {ويقتلون النَّبيين} أَيْ: يتولَّون أولئك الذين فعلوا ذلك {بغير حق} أَيْ: قتلاً بغير حقٍّ، يعني: بالظُّلم {ذلك} الكفر والقتل بشؤم ركوبهم المعاصي وتجاوزهم أمر الله تعالى.
{إن الذين آمنوا} أَيْ: بالأنبياء الماضين ولم يؤمنوا بك {والذين هادوا} دخلوا في دين اليهوديَّة {والنصارى والصابئين} الخارجين من دين إلى دين، وهم قومٌ يعبدون النُّجوم {مَنْ آمن} من هؤلاء {بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً} بالإيمان بمحمَّدٍ عليه السَّلام؛ لأنَّ الدليل قد قام أنَّ مَنْ لم يؤمن به لا يكون عمله صالحاً {فلهم أجرهم عند ربِّهم ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون}.
{وإذ أخذنا ميثاقكم} بالطَّاعة لله تعالى والإيمان بمحمَّدٍ عليه السَّلام في حال رفع الطُّور فوقكم، يعني: الجبل، وذلك لأنَّهم أبوا قبول شريعة التَّوراة، فأمر الله سبحانه جبلاً فانقلع من اصله حتى قام على رؤوسهم، فقبلوا خوفاً من أن يُرضخوا على رؤوسهم بالجبل، وقلنا لكم: {خذوا ما آتيناكم} اعملوا بما أُمرتم به {بقوَّةٍ} بجدٍّ ومواظبةٍ على طاعة الله عزَّ وجلَّ {واذكروا ما فيه} من الثَّواب والعقاب {لعلكم تتقون}.

.تفسير الآيات (64- 68):

{ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68)}
{ثمَّ توليتم بعد ذلك} أعرضتم عن أمر الله تعالى وطاعته من بعد أخذ الميثاق {فلولا فضل الله عليكم ورحمته} بتأخير العذاب عنكم {لكنتم من الخاسرين} الهالكين في العذاب.
{ولقد علمتم} عرفتم حال {الذين اعتدوا} جاوزوا ما حُدَّ لهم من ترك الصَّيد في السَّبت {فقلنا لهم كونوا} بتكويننا إيَّاكم {قردةً خاسئين} مطرودين مبعدين.
{فجعلناها} أَيْ: تلك العقوبة والمسخة {نكالاً} عبرةً {لما بين يديها} للأمم التي ترى الفرقة الممسوخة {وما خلفها} من الأمم التي تأتي بعدها {وموعظة} عبرةً {للمتقين} للمؤمنين الذين يتقون من هذه الأمَّة.
{وإذ قال موسى لقومه إنَّ الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} وذلك أنَّه وُجد قتيلٌ في بني إسرائيل ولم يدروا قاتله، فسألوا موسى عليه السَّلام أن يدعو الله تعالى ليبيِّن لهم ذلك، فسأل موسى ربَّه فأمرهم بذبح بقرةٍ، فقال لهم موسى عليه السَّلام: إنَّ الله يأمركم أن تذبحوا بقرة {قالوا أتتخذنا هزواً} أتستهزئ بنا حين نسألك عن القتيل فتأمرنا بذبح البقرة؟! {قال أعوذ بالله} أمتنع به أن أكون من المستهزئين بالمؤمنين، فلمَّا علموا أنَّ ذلك عزمٌ من الله عزَّ وجلَّ سألوه الوصف، فقالوا: {ادع لنا ربك} أَيْ: سله بدعائك إيَّأه {يبين ما هي} ما تلك البقرة، وكيف هي، وكم سنُّها؟ وهذا تشديدٌ منهم على أنفسهم {قال إنَّه يقولُ إنها بقرةٌ لا فارضٌ} مُسِنَّةٌ كبيرةٌ {ولا بكرٌ} فتيةٌ صغيرةٌ {عوانٌ} نَصَفٌ بين السِّنَّينِ {فافعلوا ما تؤمرون} فيه تنبيهٌ على منعهم.

.تفسير الآيات (69- 73):

{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)}
{فاقعٌ لونها} أَيْ: شديد الصُّفرة {تسرُّ الناظرين} تعجبهم بحسنها.
{قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي} أَسائمةٌ أم عاملةٌ؟ {إنَّ البقر} جنس البقر {تشابه} اشتبه وأشكل {علينا وإنَّا إنْ شاء الله لمهتدون} إلى وصفها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وايمُ اللَّهِ، لو لم يستثنوا لما بُيِّنت لهم آخر الأبد.
{قال إنَّه يقول إنها بقرةٌ لا ذلولٌ} مُذلَّلةٌ بالعمل {تثير الأرض} تُقلبها للزراعة، أَيْ: ليستْ تقلِّب؛ لأنَّها ليست ذلولاً {ولا تسقي الحرث} الأرض المهيَّأة للزِّراعة {مسلَّمة} من العيوب وآثار العمل {لاشية فيها} لا لون فيها يُفارق سائر لونها {قالوا الآن جئت بالحقّ} بالوصف التّام الذي تتميَّز به من أجناسها، فطلبوها فوجدوها {فذبحوها وما كادوا يفعلون} لغلاء ثمنها.
{وإذ قتلتم نفساً} هذا أوَّل القصَّة، ولكنَّه مؤخرَّ في الكلام {فادَّارأتم} فاختلفتم وتدافعتم {والله مخرجٌ} مُظهرٌ {ما كنتم تكتمون} من أمر القتيل.
{فقلنا اضربوه ببعضها} بلسانها فيحيى، فَضرب فحييَ {كذلك يُحْيِ الله الموتى} أَيْ: كما أحيا هذا القتيل {ويريكم آياته} آيات قدرته في خلق الحياة في الأموات، كما خلق في عاميل.

.تفسير الآيات (74- 79):

{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74) أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)}
{ثم قست قلوبكم} يا معشر اليهود، أَي: اشتدَّت وصلبت {من بعد ذلك} من بعد هذه الآيات التي تقدَّمت من المسخ ورفع الجبل فوقهم، وانبجاس الماء من الحجرِ، وإحياء الميت بضرب عضوٍ، وهذه الآيات ممَّا يصدِّقون بها {فهي كالحجارة} في القسوة وعدم المنفعة؛ بل {أشد قسوة} وإنَّما عنى بهذه القسوة تركهم الإِيمان بمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بعد ما عرفوا صدقه، وقدرةَ الله تعالى على عقابهم بتكذيبهم إيَّاه، ثمَّ عذر الحجارة وفضَّلها على قلوبهم فقال: {وإنَّ من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإنَّ منها لما يشقَّق فيخرج منه الماء وإنَّ منها لما يهبط} ينزل من علوٍ إلى أسفلٍ {من خشية الله}. قال مجاهدٌ: كلُّ حجرٍ تفجَّر منه الماء، أو تشقَّق عن ماء، أو تردَّى من رأس جبلٍ فهو من خشية الله تعالى، نزل به القرآن. ثمَّ أوعدهم فقال: {وما الله بغافلٍ عمَّا تعملون} ثمَّ خاطب النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، فقطع طمعهم عن إيمانهم، فقال: {أفتطمعون أن يؤمنوا لكم} وحالهم أنَّ طائفةً منهم كانوا {يسمعون كلام الله} يعني التَّوراة {ثم يحرفونه} يُغيِّرونه عن وجهه. يعني: الذين غيَّروا أحكام التَّوراة، وغيَّروا آية الرَّجم، وصفة محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم {من بعد ما عقلوه} أَيْ: لم يفعلوا ذلك عن نسيانٍ وخطأٍ، بل فعلوه عن تعمُّدٍ {وهم يعلمون} أنَّ ذلك مَكْسَبةٌ للأوزار.
{وإذا لقوا الذين آمنوا} يعني: منافقي اليهود {قالوا آمنا} بمحمَّدٍ، وهو نبيٌّ صادقٌ نجده في كتبنا {وإذا خلا بعضهم إلى بعض} يعني: إذا رجع هؤلاء المنافقون إلى رؤسائهم لاموهم فقالوا: {أتحدثونهم} أتخبرون أصحاب محمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم- {بما فتح الله عليكم} من صفة النَّبيِّ المُبشَّر به {ليحاجُّوكم} ليجادلوكم ويخاصموكم {به} بما قلتم لهم {عند ربكم} في الآخرة، يقولون: كفرتم به بعد أن وقفتم على صدقة {أفلا تعقلون} أفليس لكم ذهن الإنسانيَّة؟ فقال الله تعالى: {أولا يعلمون أنَّ الله يعلم ما يسرون} من التَّكذيب، يعني: هؤلاء المنافقين {وما يعلنون} من التَّصديق.
{ومنهم} ومن اليهود {أميُّون} لا يكتبون ولا يقرؤون {لا يعلمون الكتاب إلاَّ أمانيّ} إلاَّ أكاذيب وأحاديثَ مُفتعلةً يسمعونها من كبرائهم {وإن هم إلاَّ يظنون} أَيْ: إلاَّ ظانِّين ظنَّاً وتوهُّماً، فيجحدون نُبُوَّتَكَ بالظَّنِّ.
{فويلٌ} فشدَّةُ عذابٍ {للذين يكتبون الكتاب بأيديهم} أَيْ: من قِبَلِ أنفسهم من غير أن يكون قد أُنزل {ثم يقولون هذا من عند الله} الآية. يعني اليهود، عمدوا إلى صفة محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وكتبوا صفته على غير ما كانت في التَّوراة، وأخذوا عليه الأموال فذلك قوله تعالى: {وويلٌ لهم ممَّا يكسبون} من حُطَام الدُّنيا فلمَّا أوعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنَّار عند تكذيبهم إيَّاه.

.تفسير الآيات (80- 83):

{وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)}
قالوا: {لن تمسنا النَّارُ إلاَّ أياماً معدودةً} قليلةً، ويعنون الأيَّام التي عبد آباؤهم فيها العجل، فكذَّبهم الله سبحانه فقال: قل لهم يا محمَّدُ: {أَتَّخَذْتُمْ عند الله عهداً} أخذتم بما تقولون من الله ميثاقاً؟ {فلن يخلف الله عهده} والله لا ينقض ميثاقه {أم تقولون على الله} الباطلَ جهلاً منكم، ثمَّ ردَّ على اليهود قولهم: لن تمسَّنا النَّار، فقال: {بلى} أُعذِّب.
{مَنْ كسب سيئة} وهي الشِّرك {وأحاطت به خطيئته}: سدَّت عليه مسالك النَّجاة، وهو أّنْ يموت على الشِّرك {فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} الذين يُخلَّدون في النَّار. ثمَّ أخبر عن أخذ الميثاق عليهم بتبيين نعت محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فقال: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل} أَيْ: في التَّوراة {لا تعبدون} أَيْ: بأن لا تعبدوا {إلاَّ الله وبالوالدين إحساناً} أَيْ: ووصَّيناهم بالوالدين إحساناً {وذي القربى} أَي: القرابة في الرَّحم {واليتامى} يعني: الذين مات أبوهم قبل البلوغ {وقولوا للناس حسناً} أَيْ: صدقاً وحقَّاً في شأن محمَّدٍ عليه السَّلام، وهو خطابٌ لليهود، {ثم توليتم} أعرضتم عن العهد والميثاق، يعني: أوائلهم {إلاَّ قليلاً منكم} يعني: مَنْ كان ثابتاً على دينه، ثمَّ آمن بمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم {وأنتم معرضون} عمَّا عُهد إليكم كأوائلكم.

.تفسير الآيات (84- 86):

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)}
{وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم} بأن لا يقتل بعضكم بعضاً، ولا يُخرج بعضكم بعضاً من داره ولا يغلبه عليها، {ثم أقررتم} أَيْ: قبلتم ذلك {وأنتم} اليوم {تشهدون} على إقرار أوائلكم، ثمَّ أخبر أنَّهم نقضوا هذا الميثاق فقال: {ثم أنتم هؤلاء} أراد: يا هؤلاء {تقتلون أنفسكم} يقتل بعضكم بعضاً. {وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم تظاهرون عليهم} تتعاونون على أهل ملَّتكم {بالإثم والعدوان}: بالمعصية والظُّلم {وإن يأتوكم أسارى} مأسورين يطلبون الفداء فديتموهم {وهو محرَّم عليكم إخراجهم} أَيْ: وإخراجهم عن ديارهم محَّرمٌ عليكم {أفتؤمنون ببعض الكتاب} يعني: فداء الأسير {وتكفرون ببعض} يعني: القتل والإخراج والمظاهرة على وجه الإباحة؟ قال السُّدِّيُّ: أخذ الله تعالى عليهم أربعة عهودٍ: تركَ القتل، وترك الإِخراج، وترك المظاهرة، وفداء أُسرائهم فأعرضوا عن كلِّ ما أُمروا به إلاَّ الفداء. {فما جزاء مَنْ يفعل ذلك منكم إلا خزيٌ} فضيحةٌ وهوانٌ {في الحياة الدنيا}، وقوله: {فلا يخفف عنهم العذاب} معناه: في الدُّنيا والآخرة، وقيل: هذه الحالة مختصَّةٌ بالآخرة.