فصل: تفسير الآيات (60- 64):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (60- 64):

{وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62) قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)}
{وهو الذي يتوفاكم بالليل} يقبض أرواحكم في منامكم {ويعلم ما جرحتم} ما كسبتم من العمل {بالنهار ثمَّ يبعثكم فيه} يردُّ إليكم أرواحكم في النَّهار {ليقضى أجل مسمى} يعني: أجل الحياة إلى الموت، أَيْ: لتستوفوا أعماركم المكتوبة.
{وهو القاهر فوق عباده} مضى هذا {ويرسل عليكم حفظة} من الملائكة يحصون أعمالكم {حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا} أعوان ملك الموت {وهم لا يفرطون} لا يعجزون ولا يُضيِّعون.
{ثم ردوا} يعني: العباد. يُردُّون بالموت {إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم} أَي: القضاء فيهم {وهو أسرع الحاسبين} أقدر المجازين.
{قل من ينجيكم} سؤال توبيخٍ وتقريرٍ. أَيْ: إنَّ الله يفعل ذلك {من ظلمات البر والبحر} أهوالهما وشدائدهما {تدعونه تضرعاً وخفية} علانيَةً وسرَّاً {لئن أنجانا من هذه} أَيْ: من هذه الشَّدائد {لنكوننَّ من الشاكرين} من المؤمنين الطَّائعين، وكانت قريش تسافر في البر والبحر، فإذا ضلُّوا الطَّريق وخافوا الهلاك دعوا الله مخلصين فأنجاهم، وهو قوله: {قل الله ينجيكم منها...} الآية. أعلم الله سبحانه أنَّ الله الذي دعوه هو ينجِّيهم، ثمَّ هم يشركون معه الأصنام التي قد علموا أنَّها من صَنعتهم، وأنَّها لا تضرُّ ولا تنفع. والكرب أشدُّ الغمِّ، ثمَّ أخبر أنَّه قادر على تعذيبهم.

.تفسير الآيات (65- 69):

{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)}
{قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم} كالصَّيحة، والحجارة، والماء {أو من تحت أرجلكم} كالخسف والزَّلزلة {أو يلبسكم شيعاً} يخلطكم فرقاً بأن يبثَّ فيكم الأهواء المختلفة، فتخالفون وتقاتلون، وهو معنى قوله: {ويذيق بعضكم بأس بعض. انظر كيف نصرِّف} نُبيِّن لهم {الآيات} في القرآن {لعلهم يفقهون} لكي يعلموا.
{وكذَّب به} بالقرآن {قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل} بمسلَّط أَيْ: إنَّما أدعوكم إلى الله، ولم أُومر بحربكم، ولا أَخْذكم بالإِيمان، وهذا منسوخٌ بآية القتال.
{لكلِّ نبأ مستقر} لكلِّ خبرٍ يخبره الله وقتٌ ومكانٌ يقع فيه من غير خلف {وسوف تعلمون} ما كان منه في الدُّنيا فستعرفونه، وما كان منه في الآخرة فسوف يبدو لكم. يعني: العذاب الذي كان يعدهم في الدُّنيا والآخرة.
{وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا} بالتَّكذيب والاستهزاء {فأعرض عنهم} أمر الله تعالى رسوله عليه السَّلام فقال: إذا رأيت المشركين يُكذِّبون بالقرآن، وبك، ويستهزئون فاترك مجالستهم {حتى يخوضوا في حديث غيره} حتى يكون خوضهم في غير القرآن {وإمَّا ينسينَّك الشيطان} إنْ نسيت فقعدت {فلا تقعد بعد الذكرى} فقم إذا ذكرت، فقال المسلمون: لئن كنَّا كلَّما استهزأ المشركون بالقرآن وخاضوا فيه قمنا عنهم، لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام، وأن نطوف بالبيت، فرخَّص للمؤمنين في القعود معهم يُذكِّرونهم فقال: {وما على الذين يتقون} الشِّرك والكبائر {من حسابهم} آثامهم {من شيء ولكن ذكرى} يقول: ذكِّروهم بالقرآن وبمحمَّد، فرخَّص لهم بالقعود بشرط التَّذكير والموعظة {لعلَّهم يتقون} لِيُرجى منهم التَّقوى.

.تفسير الآيات (70- 71):

{وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70) قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71)}
{وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً} يعني: الكفَّار الذين إذا سمعوا آيات الله استهزؤوا بها وتلاعبوا عند ذكرها {وذكِّر به} وعِظْ بالقرآن {أن تبسل نَفْسٌ بما كسبت} تُسلم للهلكة، وتحبس في جهَّنم فلا تقدر على التَّخلص، ومعنى الآية: وذكرِّهم بالقرآن إسلام الجانين بجناياتهم لعلَّهم يخافون فيتَّقون {وإن تعدل كل عدل} يعني: النَّفس المُبسلة. تفدِ كلَّ فداء. يعني: تفدِ بالدُّنيا وما فيها {لا يؤخذ منها أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا} أُسْلِموا للهلاك {لهم شرابٌ من حميم} وهو الماء الحارُّ.
{قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا} أنعبد ما لا يملك لنا نفعاً ولا ضرَّاً؛ لأنَّه جماد؟ {ونردُّ على أعقابنا بعد إذ هدانا الله} نردُّ وراءنا إلى الشِّرك بالله، فيكون حالنا كحال {الذي استهوته الشياطين في الأرض} استغوته واستفزَّته الغِيلان في المهامة {حيران} متردِّداً لا يهتدي إلى المحجَّة {له أصحابٌ يدعونه إلى الهدى ائتنا} هذا مثَلُ مَنْ ضلَّ بعد الهدى، يجيب الشَّيطان الذي يستهويه في المفازة، فيصبح في مضلَّة من الأرض يهلك فيها، ويعصي مَنْ يدعوه إلى المحجَّة، كذلك مَنْ ضلَّ بعد الهدى {قل إنَّ هدى الله هو الهدى} ردٌّ على مَنْ دعا إلى عبادة الأصنام، أَيْ: لا نفعل ذلك؛ لأنَّ هدى الله هو الهدى لا هدى غيره.

.تفسير الآية رقم (73):

{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)}
{وهو الذي خلق السموات والأرض بالحق} أَيْ: بكمال قدرته، وشمول علمه، وإتقان صنعه، وكلُّ ذلك حقٌّ {ويوم يقول} واذكر يا محمَّد يوم يقول للشَّيء {كن فيكون} يعني: يوم القيامة، يقول للخلق انتشروا فينتشرون.

.تفسير الآيات (75- 79):

{وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)}
{وكذلك نُرِي إبراهيم...} الآية. أَيْ: وكما أرينا إبراهيم استقباح ما كان عليه أبوه من عبادة الأصنام نريه {ملكوت السموات والأرض} يعني: ملكهما، كالشَّمس، والقمر، والنُّجوم، والجبال، والشَّجر، والبحار. أراه الله تعالى هذه الأشياء حتى نظر إليها مُعتبراً مُستدلاًّ بها على خالقها، وقوله: {وليكون من الموقنين} عطفٌ على المعنى. تقديره: ليستدلَّ بها وليكون من الموقنين.
{فلما جنَّ} أَيْ: ستر وأظلم {عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي} أَيْ: في زعمكم أيُّها القائلون بحكم النَّجم، وذلك أنَّهم كانوا أصحاب نجومٍ يرون التَّدبير في الخليقة لها {فلما أفل} أَيْ: غاب {قال لا أحبُّ الآفلين} عرَّفهم جهلهم وخطأهم في تعظيم النُّجوم، ودلَّ على أنَّ مَنْ غاب بعد الظُّهور كان حادثاً مُسخَّراً، وليس بربٍّ.
{فلما رأى القمر بازغاً} طالعاً، فاحتجَّ عليهم في القمر والشَّمس بمثل ما احتجَّ به عليهم في الكوكب، وقوله: {لئن لم يهدني ربي} أَيْ: لئن لم يُثبِّتني على الهدى. وقوله للشَّمس: {هذا ربي} ولم يقل هذه؛ لأنَّ لفظ الشَّمس مذكَّرٌ، ولأنَّ الشَّمس بمعنى الضياء والنُّور، فحمل الكلام على المعنى {هذا أكبر} أَي: من الكوكب والقمر، فلمَّا توجَّهت الحجَّة على قومه قال: {إني بريء مما تشركون}.
{إني وجهت وجهي} أَيْ: جعلت قصدي بعبادتي وتوحيدي لله عزَّ وجلَّ، وباقي الآية مفسَّر فيما مضى.

.تفسير الآيات (80- 83):

{وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)}
{وحاجَّة قومه} جادلوه وخاصموه في تركه آلهتهم، وعبادة الله، وخوَّفوه أن تصيبه آلهتهم بسوء، فقال: {أتحاجوني في الله} أَيْ: في عبادته وتوحيده {وقد هدان} بيَّن لي ما به اهتديت {ولا أخاف ما تشركون به} من الأصنام أن تصيبني بسوء {إلاَّ أن يشاء ربي شيئاً} إني لا أخاف إلاَّ مشيئة الله أن يعذِّبني {وسع ربي كلَّ شيء علماً} علمه علماً تاماً {أفلا تتذكرون} تتعظون وتتركون عبادة الأصنام.
{وكيف أخاف ما أشركتم} يعني: الأصنام. أنكر أن يخافها {ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطاناً} ما ليس لكم في إشراكه بالله حجَّةٌ وبرهانٌ {فإيُّ الفريقين أحق بالأمن} بأن يأمن العذاب، الموحِّدُ أم المشرك؟
{الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} لم يخلطوا إيمانهم بشركٍ {أولئك لهم الأمن} من العذاب {وهم مهتدون} إلى دين الله.
{وتلك حجتنا} يعني: ما احتجَّ به عليهم {آتيناها إبراهيم} ألهمناها إبراهيم، فأرشدناه إليها {نرفع درجات مَنْ نشاء} مراتبهم بالعلم والفهم، ثمَّ ذكر نوحاً ومَنْ هدى من الأنبياء من أولاده.

.تفسير الآيات (86- 92):

{وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آَبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آَبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)}
{وكلاً} أَيْ: من المذكورين ها هنا {فضلنا على العالمين} عالمي زمانهم.
{ومن آبائهم} أَيْ: وهدينا بعض آبائهم {وذرياتهم وإخوانهم} فـ {مِنْ} ها هنا للتَّبعيض.
{ذلك هدى الله} دين الله الذي هم عليه {يهدي به مَنْ يشاء} يريد: يرشد إليه مَنْ يشاء {من عباده ولو أشركوا} عبدوا غيري {لحبط} بطل عملهم.
{أولئك الذين آتيناهم الكتاب} يعني: الكتب التي أنزلها عليهم {والحكم} العلم والفقه {فإن يكفر بها} أي: بآياتنا {هؤلاء} أهل مكَّة {فقد وكلنا بها} أَيْ: أرصدنا لها {قوماً} وفَّقناهم لها، وهم المهاجرون والأنصار.
{أولئك الذين هدى الله} يعني: النَّبيِّين الذين تقدَّم ذكرهم {فبهداهم اقتده} أَي: اصبر كما صبروا؛ فإنَّ قومهم كذَّبوهم فصبروا {قل لا أسألكم عليه} على القرآن وتبليغ الرِّسالة {أجراً} مالاً تعطونيه {إن هو} يعني: القرآن {إلاَّ ذكرى للعالمين} موعظة للخلق أجمعين.
{وما قدروا الله حق قدره} ما عظَّموا الله حقَّ عظمته، وما وصفوه حقَّ صفته {إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء} وذلك أنَّ اليهود أنكروا إنزال الله عزَّ وجلَّ من السَّماء كتاباً إنكاراً للقرآن {قل} لهم يا محمد: {مَنْ أنزل الكتاب الذي جاء به موسى} يعني: التَّوراة {تجعلونه قراطيس} مكتوبة وتودعونه إيَّاها {تبدونها} يعني: القراطيس يبدون ما يحبُّون، ويكتمون صفة محمَّد صلى الله عليه وسلم {وعُلِّمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم} في التَّوراة، فضيَّعتموه ولم تنتفعوا به {قل الله} أي: الله أنزله {ثم ذرهم في خوضهم} إفكهم وحديثهم الباطل {يلعبون} يعملون ما لا يُجدي عليهم.
{وهذا كتاب} يعني: القرآن {أنزلناه مبارك} كثيرٌ خيره، دائمٌ نفعه، يبشِّر بالثواب، ويزجر عن القبيح، إلى ما لا يحصى من بركاته {مصدق الذي بين يديه} موافقٌ لما قبله من الكتب {ولتنذر أم القرى} أَهل مكَّة {ومَنْ حولها} يعني: أهل سائر الآفاق {والذين يؤمنون بالآخرة} إيماناً حقيقياً {يؤمنون به} بالقرآن.

.تفسير الآيات (93- 96):

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آَيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94) إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)}
{ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً} نزلت في مسيلمة والأسود العنسي؛ ادَّعيا النُّبوَّة، وأنَّ الله أوحى إليهما، وهذا معنى قوله: {أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومَنْ قال سأنزل مثل ما أنزل الله} يعني: المستهزئين الذين قالوا: {لو نشاء لقلنا مثل هذا} {ولو ترى} يا محمد {إذ الظالمون} يعني: الذين ذكرهم {في غمرات الموت} شدائده، وأهواله {والملائكة باسطوا أيديهم} إليهم بالضَّرب والتَّعذيب {أخرجوا أنفسكم} أَيْ: يقولون ذلك ونفس الكافر تخرج بمشقةٍ وكُرهٍ، لأنَّها تصير إلى أشدِّ العذاب، والملائكة يكرهونهم على نزع الرُّوح، ويقولون: {أخرجوا أنفسكم} كرهاً {اليوم تجزون عذاب الهون} أَي: العذاب الذي يقع به الهوان الشَّديد {بما كنتم تقولون على الله غير الحق} من أنَّه أوحي إليكم ولم يوح {وكنتم عن آياته تستكبرون} عن الإِيمان بها تتعظَّمون.
{ولقد جئتمونا فرادى} يقال للكفَّار في الآخرة: جئتمونا فرادى بلا أهل، ولا مالٍ، ولا شيءٍ قدَّمتموه {كما خلقناكم أوَّل مرَّة} كما خرجتم من بطون أُمَّهاتكم {وتركتم ما خوَّلناكم} ملَّكناكم وأعطيناكم من المال والعبيد والمواشي {وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنَّهم فيكم شركاء} وذلك أنَّ المشركين كانوا يعبدون الأصنام على أنَّهم شركاء الله وشفعاؤهم عنده {لقد تقطع بينكم} وصلكم ومودتكم {وضلَّ عنكم} ذهب عنكم {ما كنتم تزعمون} تُكذِّبون في الدُّنيا.
{إنَّ الله فالق الحبّ} شاقُّة بالنَّبات {والنوى} بالنَّخلة {يخرج الحي من الميت} يخرج النُّطفة بشراً حيّاً {ومُخرج الميت} النُّطفة {من الحيّ} وقيل: يخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن {ذلكم الله} الذي فعل هذه الأشياء التي تشاهدونها ربكم {فأنى تؤفكون} فمن أين تُصرفون عن الحقِّ بعد البيان!.
{فالق الإِصباح} شاقُّ عمود الصُّبح عن ظلمة اللَّيل وسواده، على معنى أنَّه خالقه ومُبديه {وجاعل الليل سكناً} للخلق يسكنون فيه سكون الرَّاحة {والشمس والقمر حسباناً} وجعل الشَّمس والقمر بحسبانٍ لا يجاوزانه فيما يدوران في حسابٍ {ذلك تقدير العزيز} في ملكه يصنع ما أراد {العليم} بما قدَّر من خلقهما.