فصل: تفسير الآيات (103- 107):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (103- 107):

{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وَآَخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107)}
{خذ من أموالهم صدقة} فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلث أموالهم، وكانت كفَّارةً للذُّنوب التي أصابوها، وهو قوله: {تطهرهم} يعني: هذه الصَّدقة تطهِّرهم من الذُّنوب {وتزكيهم بها} أَيْ: ترفعهم أنت يا محمَّدُ بهذه الصَّدقة من منازل المنافقين {وصل عليهم} ادع لهم {إنَّ صلاتك سكن لهم} إنَّ دعواتك ممَّا تسكن نفوسهم إليه بأن قد تاب الله عليهم {والله سميع} لقولهم {عليم} بندامتهم، فلمَّا نزلت توبة هؤلاء قال الذين لم يتوبوا من المتخلِّفين: هؤلاء كانوا بالأمس معنا لا يُكلَّمون ولا يُجالسون، فما لهم؟ وذلك أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لمَّا رجع إلى المدينة نهى المؤمنين عن مكالمة المنافقين ومجالستهم، فأنزل الله سبحانه: {ألم يعلموا أنَّ الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات} يقبلها {وأنَّ الله هو التواب الرحيم} يرجع على مَنْ يرجع إليه بالرَّحمة والمغفرة.
{وقل اعملوا} يا معشر عبادي، المحسن والمسيء {فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون} أَيْ: إنَّ الله يُطلعهم على ما في قلوب إخوانهم من الخير والشَّرِّ، فيحبُّوب المحسن ويبغضون المسيء بإيقاع الله ذلك في قلوبهم، وباقي الآية سبق تفسيره.
{وآخرون مرجون لأمر الله} مُؤخَّرون ليقضي الله فيهم ما هو قاضٍ، وهم كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، كانوا تخلَّفوا من غير عذر، ثمَّ لم يبالغوا في الاعتذار، كما فعل أولئك الذين تصدَّقوا بأموالهم، فوقف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أمرهم، وهم مهجورون حتَّى نزل قوله: {وعلى الثلاثة الذين خُلِّفوا...} الآيات. {إمَّا يعذبهم} بعقابه جزاءً لهم {وإمَّا يتوب عليهم} بفضله {والله عليم} بما يؤول إليه حالهم {حكيم} فيما يفعله بهم.
{والذين اتخذوا} ومنهم الذين اتَّخذوا مسجداً، وكانوا اثني عشر رجلاً من المنافقين، بنوا مسجداً يضارُّون به مسجد قباء، وهو قوله: {ضراراً وكفراً} بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم وما جاء به {وتفريقاً بين المؤمنين} يفرِّقون به جماعتهم، لأنَّهم كانوا يصلُّون جميعاً في مسجد قباء، فبنوا مسجد الضِّرار ليصلِّي فيه بعضهم، فيختلفوا بسبب ذلك {وإرصاداً} وانتظاراً {لمن حارب الله ورسوله من قبل} يعني: أبا عامرٍ الرَّاهب، كان قد خرج إلى الشَّام ليأتي بجندٍ يحارب بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرسل إلى المنافقين أن ابنوا لي مسجداً {وليحلفنَّ إن أردنا} ببنائه {إلاَّ} الفعلة {الحسنى} وهي الرِّفق بالمسلمين، والتَّوسعة عليهم، فلمَّا بنوا ذلك المسجد سألوا النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم فيصلِّي بهم في ذلك المسجد، فنهاه الله عزَّ وجلَّ.

.تفسير الآيات (108- 113):

{لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)}
{لا تقم فيه أبداً لمسجدٌ أسس على التقوى} بُنيت جُدُره، ورُفعت قواعده على طاعة الله تعالى {من أول يوم} بُني وحَدث بناؤه، وهو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: هو مسجد قباء {أحقُّ أن تقوم فيه} للصَّلاة {فيه رجال} يعني: الأنصار {يحبون أن يتطهروا} يعني: غسل الأدبار بالماء، وكان من عادتهم في الاستنجاء استعمال الماء بعد الحجر {والله يحب المطهرين} من الشِّرك والنِّفاق.
{أفمن أسس بنيانه} أَيْ: بناءه الذي بناه {على تقوى من الله} مخافة الله، ورجاء ثوابه، وطلب مرضاته {خيرٌ أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار} على حرف مهواةٍ {فانهار به} أُوقع بنيانه {في نار جهنم} وهذا مَثَل. والمعنى: إنَّ بناء هذا المسجد كبناءٍ على حرفِ جهنَّم يتهوَّر بأهله فيها، لأنَّه معصيةٌ وفعلٌ لما كرهه الله من الضِّرار.
{لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبه في قلوبهم} شكَّاً في قلوبهم {إلاَّ أن تقطَّع قلوبهم} بالموت، والمعنى: لا يزالون في شكٍّ منه إلى الموت، يحسبون أنَّهم كانوا في بنائه محسنين {والله عليم} بخلقه {حكيم} فيما جعل لكلِّ أحدٍ.
{إنَّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم...} الآية. نزلت في بيعة العقبة، «لمَّا بايعت الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئاً، وأن يمنعوه ممَّا يمنعون أنفسهم. قالوا: فإذا فعلنا ذلك يا رسول الله، فماذا لنا؟ قال: الجنَّة. قالوا: ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل»، فنزلت هذه الآية ومعنى: {اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنَّ لهم الجنة} أنَّ المؤمن إذا قاتل في سبيل الله حتى يُقتل، وأنفق ماله في سبيل الله أخذ من الله الجنَّة في الآخرة جزاءً لما فعل، وقوله: {وعداً} أَيْ: وعدهم اللَّهُ الجنَّة وعداً {عليه حقاً} لا خلف فيه {في التوراة والإِنجيل والقرآن} أَيْ: إنَّ الله بيَّن في الكتابين أنَّه اشترى من أمة محمَّدٍ أنفسهم وأموالهم بأنَّ لهم الجنَّة، كما بيَّن في القرآن {ومَنْ أوفى بعهده من الله} أَيْ: لا أحدٌ أوفى بما وعد من الله، ثمًّ مدحهم فقال: {التائبون} أَيْ: هم التَّائبون من الشِّرك {العابدون} يرون عبادة الله واجبةً عليهم {الحامدون} الله على كلِّ حال {السائحون} الصًّائمون {الراكعون الساجدون} في الفرائض {الآمرون بالمعروف} بالإِيمان بالله وفرائضه وحدوده {والناهون عن المنكر} الشِّرك وترك فرائض الله {والحافظون لحدود الله} العاملون بما افترض الله عليهم.
{ما كان للنبيِّ...} الآية. نزلت في استغفار النبيِّ عليه السَّلام لعمِّه أبي طالب، وأبيه، وأُمِّه، واستغفار المسلمين لآبائهم المشركين، نُهوا عن ذلك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال: «لأستغفرنَّ لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه»، فبيَّن الله سبحانه كيف كان ذلك.

.تفسير الآيات (114- 115):

{وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115)}
{وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلاَّ عن موعدة وعدها إياه} وذلك أنَّه كان قد وعده أن يستغفر له رجاء إسلامه، وأن ينقله الله باستغفاره إيَّاه من الكفر إلى الإِسلام، وهذا ظاهر في قوله: {سأستغفر لك ربي} وقوله: {لأستغفرنَّ لك} فلمَّا مات أبوه مشركاً تبرَّأ منه وقطع الاستغفار {إنَّ إبراهيم لأوَّاهٌ} دَعَّاءٌ كثير البكاء {حليم} لم يعاقب أحداً إلاََ في الله، ولم ينتصر من أحدٍ إلاَّ لله، فلمَّا حرَّم الاستغفار للمشركين بيَّن أنَّه لا يأخذهم بما فعلوا؛ لأنَّه لم يكن قد بيَّن لهم أنَّه لا يجوز ذلك، فقال: {وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم} ليوقع الضَّلالة في قلوبهم بعد الهدى {حتى يبيِّن لهم ما يتقون} فلا يتَّقوه، فعند ذلك يستحقُّون الإِضلال.

.تفسير الآيات (117- 119):

{لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)}
{لقد تاب الله على النبيِّ} مِنْ إذنه للمنافقين في التَّخلُّف عنه، وهو ما ذُكر في قوله: {عفا الله عنك...} الآية {والمهاجرين والأنصار الذين اتَّبعوه في ساعة العسرة} في زمان عسرة الظَّهر، وعسرة الماء، وعسرة الزَّاد {من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم} من بعد ما همَّ بعضهم بالتَّخلُّف عنه والعصيان، ثمَّ لحقوا به {ثم تاب عليهم} ازداد عنهم رضا.
{وعلى الثلاثة الذين خلفوا} أَي: عن التَّوبة عليهم. يعني: مَنْ ذكرناهم في قوله: {وأخرون مرجون لأمر الله} {حتى إذا ضاقت عليهم الأرض} لأَنَّهم كانوا مهجورين لا يُعاملون ولا يُكلَّمون {وضاقت عليهم أنفسهم} بالهمِّ الذي حصل فيها {وظنوا} أيقنوا {أن لا ملجأ من الله إلاَّ إليه} أن لا مُعتَصَم من عذاب الله إلاَّ به {ثمَّ تاب عليهم ليتوبوا} أَيْ: لطف بهم في التَّوبة ووفَّقهم لها.
{يا أيها الذين آمنوا} يعني: أهل الكتاب {اتقوا الله} بطاعته {وكونوا مع الصادقين} محمدٍ وأصحابه، يأمرهم أن يكونوا معهم في الجهاد والشِّدَّة والرَّخاء.

.تفسير الآيات (120- 127):

{مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121) وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127)}
{ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه} لا يرضوا لأنفسهم بالخفض والدَّعَة، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الحرِّ والمشقَّة {ذلك} أَيْ: ذلك النَّهي عن التَّخلُّف {بأنهم لا يصيبهم ظمأ} وهو شدَّة العطش {ولا نصب} إعياء من التَّعب {ولا مخمصة} مجاعةٌ {ولا يطؤون موطئاً} ولا يقفون موقفاً {يغيظ الكفار} يُغضبهم {ولا ينالون من عدو نيلاً} أسراً وقتلاً إلاَّ كان ذلك قُربةً لهم عند الله.
{ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة} تمرةً فما فوقها {ولا يقطعون وداياً} يُجاوزونه في سيرهم {إلاَّ كتب لهم} آثارهم وخُطاهم {ليجزيهم الله أحسن} بأحسن {ما كانوا يعملون} فلمَّا عِيبَ مَنْ تخلَّف عن غزوة تبوك قال المسلمون: والله لا نتخلَّف عن غزوةٍ بعد هذا، ولا عن سرية أبداً، فلمَّا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسَّرايا إلى العدُّو، نفر المسلمون جميعاً إلى الغزو، وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده بالمدينة، فأنزل الله عزَّ وجلَّ: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة} ليخرجوا جميعاً إلى الغزو {فلولا نفر من كلِّ فرقة منهم طائفة} فهلاَّ خرج إلى الغزو من كل قبيلةٍ جماعةٌ {ليتفقهوا في الدين} ليتعلَّموا القرآن والسُّنن والحدود. يعني: الفرقة القاعدين {ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم} وليعلِّموهم ما نزل من القرآن ويخوّفوهم به {لعلهم يحذرون} فلا يعملون بخلاف القرآن.
{يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم} يقربون منكم. أُمروا بقتال الأدنى فالأدنى من عدوِّهم من المدينة {وليجدوا فيكم غلظة} شدَّةً وعُنفاً.
{وإذا ما أنزلت سورة فمنهم} من المنافقين {مَنْ يقول أيكم زادته هذه إيماناً} يقوله المنافقون بعضهم لبعض هزؤاً، فقال الله تعالى: {فأمَّا الذين آمنوا فزادتهم إيماناً} تصديقاً، لأنَّهم صدَّقوا بالأولى والثَّانية {وهم يستبشرون} يفرحون بنزول السُّورة.
{وأما الذين في قلوبهم مرض} شكٌّ ونفاقٌ {فزادتهم رجساً إلى رجسهم} كفراً إلى كفرهم؛ لأنَّهم كلَّما كفروا بسورةٍ ازداد كفرهم.
{أَوَلاَ يرون أنهم يفتنون في كلِّ عام مرَّة أو مرتين} يُمتحنون بالأمراض والأوجاع، وهنَّ روائد الموت {ثمَّ لا يتوبون} من النِّفاق، ولا يتَّعظون كما يتَّعظ المؤمن بالمرض.
{وإذا ما أنزلت سورة} كان إذا نزلت سورةٌ فيها عيبُ المنافقين، وتلا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم شقَّ ذلك عليهم، و{نظر بعضهم إلى بعض} يريدون الهرب من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم لبعض: {هل يراكم من أحد} إنْ قمتم، فإن لم يرهم أحدٌ خرجوا من المسجد، وإنْ علموا أنَّ أحداً يراهم ثبتوا مكانهم حتى يفرغ من خطبته {ثم انصرفوا} على عزم الكفر والتَّكذيب {صرف الله قلوبهم} عن كلِّ رشدٍ وهدى {بأنهم قومٌ لا يفقهون} جزاءً على فعلهم، وهو أنَّهم لا يفقهون عن الله دينه وما دعاهم الله إليه.

.تفسير الآيات (128- 129):

{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)}
{لقد جاءكم رسول من أنفسكم} من العرب من بني إسماعيل ليفهموا منه {عزيز عليه ما عنتم} شديدٌ عليه مشقَّتكم وكلُّ مضرَّة تُصيبكم {حريص عليكم} أن تؤمنوا. وهذا خطابٌ للكفَّار ومَنْ لم يؤمن به، ثمَّ ذكر أنَّه {بالمؤمنين رؤوف رحيم}.
{فإن تولوا} أعرضوا عن الإِيمان. يعني: المشركين والمنافقين {فقل حسبي الله} أَيْ: الذي يكفيني الله {لا إله إلاَّ هو عليه توكلت} وبه وثقت {وهو رب العرش العظيم} خصَّ بالذِّكر لأنه أعظم ما خلق الله عزَّ وجلَّ.