فصل: تفسير الآيات (216- 219):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (216- 219):

{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)}
{كتب عليكم القتال} فُرض وأوجب عليكم الجهاد {وهو كرهٌ لكم} أَيْ: مشقَّةٌ عليكم لما يدخل منه على النَّفس والمال {وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم} لأنَّ في الغزو إحدى الحسنيين؛ إمَّا الظفر والغنيمة؛ وإمَّا الشَّهادة والجنَّة {وعسى أن تحبُّوا شيئاً} أَيْ: القعود عن الغزو {وهو شرٌّ لكم} لما فيه من الذُّل والفقر، وحرمان الغنيمة والأجر {والله يعلم} ما فيه مصالحكم، فبادروا إلى ما يأمركم به وإنْ شقَّ عليكم.
{يسألونك عن الشهر الحرام} نزلت في سريةٍ بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتلوا المشركين وقد أهلَّ هلال رجب وهم لا يعلمون ذلك، فاستعظم المشركون سفك الدِّماء في رجب، فأنزل الله تعالى: {يسألونك} يعني: المشركين. وقيل: هم المسلمون {عن الشهر الحرام قتالٍ فيه} أَيْ: وعن قتالٍ فيه {قل قتالٌ فيه كبير} ثمَّ ابتدأ فقال: {وصد} ومنعٌ {عن سبيل الله} أَيْ: طاعته. يعني: صدَّ المشركين رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن البيت الحرام عام الحديبية {وكفر به} بالله {والمسجد الحرام} أَيْ: وصدٌّ عن المسجد الحرام {وإخراج أهله} أَيْ: أهل المسجد. يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين أُخرجوا من مكَّة {منه أكبرُ} وأعظم وِزْراً {عند الله والفتنة} أَيْ: والشِّرك {أكبر من القتل} يعني: قتل السِّرية المشركين في رجب {ولا يزالون} يعني: المشركين {يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم} إلى الكفر {إن استطاعوا ومن يَرْتَدِدْ منكم عن دينه} الإِسلام، أَيْ: يرجع فيموت على الكفر {فأولئك حبطت أعمالهم...} الآية. بطلت أعمالهم. فقال هؤلاء السَّرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أصبنا القوم في رجب، أنرجو أن يكون لنا أجر المجاهدين في سبيل الله؟ فأنزل الله تعالى: {إنَّ الذين آمنوا والذين هاجروا} فارقوا عشائرهم وأوطانهم {وجاهدوا} المشركين {في سبيل الله} في نصرة دين الله {أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم} غفر لهؤلاء السِّرية ما لم يعلموا ورحمهم، والإِجماعُ اليوم منعقدٌ على أنَّ قتال المشركين يجوز في جميع الأشهر حلالها وحرامها.
{يسألونك عن الخمر والميسر} نزلت في عُمَر، ومعاذٍ، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أفتنا في الخمر والميسر؛ فإنَّهما مَذْهَبةٌ للعقل، مَسْلَبةٌ للمال، فنزلت قوله عزَّ وجلَّ {يسألونك عن الخمر} وهو كلُّ مسكرٍ مخالطٍ للعقل مُغطٍّ عليه {والميسر}: القمار {قل فيهما إثم كبير} يعني: الإِثم بسببهما لما فيهما من المخاصمة والمشاتمة وقول الفحش والزُّور وغير ذلك {ومنافع للناس} ما كانوا يصيبونه من المال في بيع الخمر والتِّجارة فيها، واللَّذَّة عند شربها، ومنفعةُ الميسر ما يُصاب من القمار، ويرتفق به الفقراء، ثمَّ بيَّن أنَّ ما يحصل بسببهما من الإِثم أكبر من نفعهما، فقال {وإثمهما أكبر من نفعهما}، وليست هذه الآيةُ المُحرِّمةَ للخمر والميسر، إنَّما المُحرِّمةُ التي في سورة المائدة، وهذه الآية نزلت قبل تحريمها.
{ويسألونك ماذا ينفقون} نزلت في سؤال عمرو بن الجموح لمَّا نزل قوله: {فللوالدين والأقربين} في سؤاله أعاد السّؤال، وسأل عن مقدار ما ينفق؟ فنزل قوله: {قل العفو} أَيْ: ما فضل من المال عن العيال، وكان الرَّجل بعد نزول هذه الآية يأخذ من كسبه ما يكفيه، وينفق باقيه إلى أن فُرضت الزَّكاة، فنسخت آية الزَّكاة التي في براءة هذه الآية وكلَّ صدقةٍ أُمروا بها قبل الزَّكاة {كذلك} أَيْ: كبيانه في الخمر والميسر، أو في الإِنفاق {يبين الله لكم الآيات} لتتفكَّروا في أمر الدُّنيا والآخرة، فتعرفوا فضل الآخرة على الدُّنيا.

.تفسير الآيات (220- 221):

{فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)}
{ويسألونك عن اليتامى} كانت العرب في الجاهليَّة يُشدِّدون في أمر اليتيم ولا يُؤاكلونه، وكانوا يتشاءمون بملابسة أموالهم، فلمَّا جاء الإِسلام سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقوله: {قل إصلاح لهم خير} يعني: الإِصلاح لأموالهم من غير أجرةٍ خيرٌ وأعظم أجراً {وإن تخالطوهم} تشاركوهم في أموالهم وتخلطوها بأموالكم فتصيبوا من أموالهم عوضاً عن قيامكم بأمورهم {فإخوانكم} أَيْ: فهم إخوانكم، والإِخوانُ يُعين بعضهم بعضاً، ويُصيب بعضهم من مال بعضٍ، {والله يعلم المفسد} لأموالهم {من المصلح} لها، فاتقَّوا الله في مال اليتيم، ولا تجعلوا مخالطتكم إيَّاهم ذريعةً إلى إفساد أموالهم وأكلها بغير حقٍّ {ولو شاء الله لأعنتكم} لضيَّق عليكم وآثمكم في مخالطتكم. ومعناه: التَّذكير بالنِّعمة في التَّوسعة {إنَّ الله عزيزٌ} في ملكه {حكيم} فيما أمر به.
{ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنَّ} نزلت في أبي مرثد الغنويِّ، كانت له خليلةٌ مشركةٌ، فلمَّا أسلم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيحلُّ له أن يتزوَّج بها؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية، والمشركات ها هنا عامَّة في كلِّ مَنْ كفرت بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم. حرَّم الله تعالى بهذه الآية نكاحهنَّ، ثمَّ استثنى الحرائر الكتابيات بالآية التي في المائدة، فبقي نكاح الأَمَة الكتابية على التَّحريم {ولأَمةٌ مؤمنةٌ} نزلت في عبد الله بن رواحة كانت له أَمَةٌ مؤمنةٌ فأعتقها وتزوَّجها، فطعن عليه ناسٌ، وعرضوا عليه حُرَّةً مشركةً، فنزلت هذه الآية، وقوله: {ولو أعجبتكم} المشركة بمالها وجمالها {ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا} لا يجوز تزويج المسلمة من المشرك بحالٍ {أولئك} أَي: المشركون {يدعون إلى النَّار} أَي: الأعمال الموجبة للنَّار {والله يدعو إلى الجنة والمغفرة} أَيْ: العمل الموجب للجنَّة والمغفرة {بإذنه} بأمره. يعني: إنَّه بأوامره يدعوكم.

.تفسير الآيات (222- 227):

{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223) وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)}
{ويسألونك عن المحيض} ذكر المفسرون أنَّ العرب كانت إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها ولم يشاربوها، ولم يَسَّاكَنُوا معها في بيت، كفعل المجوس فسأل أبو الدَّحداح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، كيف نصنع بالنِّساء إذا حضن؟ فنزلت هذه الآية، والمحيض: الحيض {قل هو أذىً} أَيْ: قذرٌ ودمٌ {فاعتزلوا النساء في المحيض} أَيْ: مجامعتهنَّ إذا حضن {ولا تقربوهنَّ} أَيْ: ولا تجامعوهنَّ {حتى يَطَّهَّرْنَ} أي: يغتسلن، ومَنْ قرأ: {يَطْهُرْنَ} بالتَّخفيف، أَيْ: ينقطع عنهنَّ الدَّم، أَيْ: توجد الطَّهارة وهي الغسل {فإذا تطهَّرن} اغتسلن {فأتوهنَّ} أَيْ: جامعوهنَّ {من حيث أمركم الله} بتجنُّبه في الحيض- وهو الفرج- {إنَّ الله يحب التوابين} من الذُّنوب و{المتطهرين} بالماء من الأحداث والجنابات.
{نساؤكم حرثٌ لكم} أَيْ: مزرعٌ ومنبتٌ للولد {فأتوا حرثكم أنى شئتم} أَيْ: كيف شئتم ومن أين شئتم بعد أن يكون في صِمام واحدٍ، فنزلت هذه الآية تكذيباً لليهود، وذلك أنَّ المسلمين قالوا: إِنَّا نأتي النِّساء باركاتٍ وقائماتٍ ومستلقياتٍ، ومن بين أيديهنَّ، ومن خلفهنَّ بعد أن يكون المأتي واحداً، فقالت اليهود: ما أنتم إلاَّ أمثال البهائم، لكنَّا نأتيهنَّ على هيئةٍ واحدةٍ، وإنَّا لنجد في التَّوراة أنَّ كلَّ إِتيانٍ يؤتى النِّساء غير الاستلقاء دنسٌ عند الله، فأكذب الله تعالى اليهود {وقدموا لأنفسكم} أَي: العمل لله بما يحبُّ ويرضى {واتقوا الله} فيما حدَّ لكم من الجماع وأمرِ الحائض {واعلموا أنكم ملاقوه} أَيْ: راجعون إليه {وبشر المؤمنين} الذين خافوه وحذروا معصيته.
{ولا تجعلوا الله عرضةٌ لأيمانكم} أَيْ: لا تجعلوا اليمين بالله سبحانه علَّةً مانعةً من البرِّ والتَّقوى من حيث تتعمَّدون اليمين لتعتلُّوا بها. نزلت في عبد الله بن رواحة حلف أن لا يُكلِّم ختنه، ولا يدخل بينه وبين خصم له، جعل يقول: قد حلفتُ أَنْ لا أفعل فلا يحلُّ لي، وقوله: {أن تبروا} أَي: في أَنْ لا تبرُّوا، أو لدفع أن تبرُّوا، ويجوز أن يكون قوله: {أن تبروا} ابتداءً، وخبره محذوف على تقدير: أن تبرُّوا وتتقوا وتصلحوا بين النَّاس أولى، أَي: البرُّ والتُّقى أولى. {والله سيمعٌ عليمٌ} يسمع أيمانكم، ويعلم ما تقصدون بها.
{لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم} أَيْ: ما يسبق به اللِّسان من غير عقدٍ ولا قصدٍ، ويكون كالصِّلة للكلام، وهو مِثلُ قول القائل: لا والله، وبلى واللَّهِ. وقيل: لغو اليمين: اليمينُ المكفَّرة، سمِّيت لغواً لأنَّ الكفَّارة تُسقط الإِثم منه {ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} أَيْ: عزمتم وقصدتم، وعلى القول الثاني في لغو اليمين معناه: ولكن يؤاخذكم بعزمكم على ألا تبرُّوا وتعتلُّوا في ذلك بأيمانكم بأنَّكم حلفتم {والله غفورٌ حليم} يؤخِّر العقوبة عن الكفَّار والعُصاة.
{للذين يؤلون من نسائهم} أَيْ: يحلفون أن لا يطؤوهنَّ {تربص أربعة أشهر} جعل الله تعالى الأجل في ذلك أربعة أشهر، فإذا مضت هذه المدَّة فإمَّا أن يُطلِّق أو يطأ، فإن أباهما جميعاً طلَّق عليه الحاكم {فإن فاؤوا} رجعوا عمَّا حلفوا عليه، أَيْ: بالجماع {فإنَّ الله غفورٌ رحيم} يغفر له ما قد فعل، ولزمته كفَّارة اليمين.
{وإن عزموا الطلاق} أَيْ: طلَّقوا ولم يفيؤوا بالوطء {فإنَّ الله سميع} لما يقوله {عليمٌ} بما يفعله.

.تفسير الآيات (228- 230):

{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)}
{والمطلقات} أَيْ: المُخلَّيات من حبال الأزواج. يعني: البالغات المدخول بهنَّ غير الحوامل؛ لأنَّ في الآية بيان عدتهنَّ {يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} أَيْ: ثلاثة أطهار، يعني: ينتظرن انقضاء مدة ثلاثة أطهارٍ حتى تمرَّ عليهن ثلاثة أطهارٍ، وقيل: ثلاث حيضٍ. {ولا يحلُّ لهنَّ أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهنَّ} يعني: الولد؛ ليبطلن حقَّ الزوج من الرَّجعة {إن كنَّ يؤمنَّ بالله واليوم الآخر} وهذا تغليظٌ عليهنَّ في إِظهار ذلك {وبعولتهن} أَيْ: أزواجهنَّ {أحقُّ بردهنَّ} بمراجعتهنَّ {في ذلك} في الأجل الذي أُمرْنَ أن يتربصن فيه {إن أرادوا إصلاحاً} لا إضراراً {ولهنَّ مثل الذي عليهن بالمعروف} أَيْ: للنِّساء على الرَّجال مثلُ الذي للرِّجال عليهنَّ من الحقِّ بالمعروف، أَيْ: بما أمر الله من حقِّ الرَّجل على المرأة {وللرجال عليهن درجة} يعني: بما ساقوا من المهر، وأنفقوا من المال {والله عزيز حكيم} يأمر كما أراد ويمتحن كما أحبَّ.
{الطلاق مرتان} كان طلاقُ الجاهلية غير محصورٍ بعددٍ، فحصر الله الطلاق بثلاثٍ، فذكر في هذه الآية طلقتين، وذكر الثَّالثة في الآية الأخرى، وهي قوله: {فإن طلقها فلا تحلُّ له من بعد...} الآية، وقيل: المعنى في الآية: الطَّلاق الذي يُملك فيه الرَّجعة مرَّتان.
{فإمساك بمعروف} يعني: إذا راجعها بعد الطَّلقتين فعليه إمساكٌ بما أمر الله تعالى {أو تسريحٌ بإحسان} وهو أَنْ يتركها حتى تَبِينَ بانقضاء العِدَّة، ولا يراجعها ضراراً {ولا يحلُّ لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً} لا يجوز للزَّوج أن يأخذ من امرأته شيئاً ممَّا أعطاها من المهر ليطلِّقها إلاَّ في الخُلع، وهو قوله: {إلاَّ أن يخافا} أيْ: يعلما {ألا يُقيما حدود الله} والمعنى: إنَّ المرأة إذا خافت أن تعصي الله في أمر زوجها بُغضاً له، وخاف الزَّوج إذا لم تطعه امرأته أن يعتدي عليها حلَّ له أن يأخذ الفدية منها إذا دعت إلى ذلك {فإنْ خفتم} أيُّها الولاة والحكَّام {ألا يقيما حدود الله} يعني: الزَّوجين {فلا جناح عليهما فيما افتدت به} المرأة، لا جُناح عليها فيما أعطته، ولا على الرَّجل فيام أخذ {تلك حدود الله} يعني: ما حدَّه من شرائع الدِّين.
{فإن طلقها} يعني: الزوج المُطلِّق اثنتين {فلا تحلُّ له} المطلَّقة ثلاثاً {من بعد} أَيْ: من بعد التَّطليقة الثَّالثة {حتى تنكح زوجاً غيره} غير المُطلِّق ويجامعها {فإن طلقها} أَيْ: الزَّوج الثَّاني {فلا جناح عليهما أن يتراجعا} بنكاحٍ جديدٍ {إن ظنا} أَيْ: علما وأيقنا {أن يقيما حدود الله} ما بيَّن الله من حقِّ أحدهما على الآخر.

.تفسير الآيات (231- 234):

{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232) وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آَتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)}
{وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهنَّ} أَيْ: قاربن انقضاء عدتهنَّ {فأمسكوهنَّ بمعروف} أَيْ: راجعوهنّ بإشهادٍ على الرَّجعة وعقد لها لا بالوَطْء كما يقول أبو حنيفة {أو سرحوهنَّ بمعروف} أَي: اتركوهنَّ حتى تنقضي عدتهنَّ ويكنَّ أملك بأنفسهنَّ {ولا تمسكوهنَّ ضراراً} أَيْ: لا تُراجعوهنَّ مضارَّةً وأنتم لا حاجة بكم إليهنَّ {لتعتدوا} عليهنَّ بتطويل العِدَّة {ومن يفعل ذلك} الاعتداء {فقد ظلم نفسه} ضرَّها وأثم فيما بينه وبين الله عزَّ وجلَّ {ولا تتخذوا آيات الله هزواً} كان الرَّجل يُطلِّق في الجاهليَّة ويقول: إنَّما طلَّقت وأنا لاعبٌ، فيرجع فيها، فأنزل الله تعالى هذه الآية. {واذكروا نعمة الله عليكم} بالإِسلام {وما أنزل عليكم من الكتاب} يعني: القرآن {والحكمة} مواعظ القرآن.
{وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهنَّ} انقضت عدتهنَّ {فلا تعضلوهنَّ} لا تمنعوهنَّ {أن ينكحن أزواجهنَّ} بنكاحٍ جديدٍ، أَي: الذين كانوا أزواجاً لهنَّ. نزلت في أخت معقل بن يسار طلَّقها زوجها، فلمَّا انقضت عدَّتها جاء يخطبها، فأبى معقلٌ أن يُزوِّجها ومنعها بحقِّ الولاية {إذا تراضوا بينهم بالمعروف} بعقدٍ حلالٍ ومهرٍ جائزٍ {ذلك} أَيْ: أَمْرُ اللَّهِ بتَرْكِ العضل {يوعظ به مَنْ كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ذلكم أزكى} أَيْ: ترك العضل خير {لكم} وأفضلُ {وأطهر} لقلوبكم من الرِّيبة، وذلك أنَّهما إذا كان في قلب كلِّ واحدٍ منهما علاقةُ حبِّ لم يُؤمن عليهما {والله يعلم} ما لكم فيه من الصَّلاح.
{والوالداتُ يرضعن أولادهن} لفظه لفظ الخبر ومعناه الأمر، وهو أمر استحبابٍ لا أمر إيجابٍ. يريد: إنهنَّ أحقُّ بالإِرضاع من غيرهنَّ إذا أردن ذلك {حولين} سنتين {كاملين} تامين، وهذا تحديدٌ لقطع التَّنازع بين الزَّوجين إذا اشتجرا في مدَّة الرَّضاع. يدلُّ على هذا قوله: {لمن أراد} أَيْ: هذا التَّقدير والبيان {لمن أراد أن يتمَّ الرضاعة}، {وعلى المولود له} أَي: الأب {رزقهن وكسوتهنَّ} رزق الوالدات ولباسهنَّ. قال المفسرون: وعلى الزَّوج رزق المرأة المُطلَّقة وكسوتها إذا أرضعت الولد {بالمعروف} بما يعرفون أنَّه عدلٌ على قدر الإِمكان، وهو معنى قوله: {لا تكلف نفس إلاَّ وسعها} لا تلزم نفسٌ إلاَّ ما يسعها {لا تضار والدة بولدها} لا ينزع الولد منها إلى غيرها بعد أَنْ رضيت بإرضاعه، وألفها الصَّبيُّ، ولا تُلقيه هي إلى أبيه بعدما عرفها تُضَارُّه بذلك، وهو قوله: {ولا مولودةٌ له بولده}، {وعلى الوارث مثل ذلك} هذا نسقٌ على قوله: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهنَّ} بمعنى: على وارث الصبيِّ- الذي لو مات الصبيُّ وله مالٌ ورثه- مثل الذي كان على أبيه في حياته، وأراد بالوارث مَنْ كان من عصبته كائناً من كان من الرِّجال {فإن أرادا} يعني: الأبوين {فصالاً} فطاماً للولد {عن تراضٍ منهما} قبل الحولين {وتشاور} بينهما {فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم} مراضع غير الوالدة {فلا جناح عليكم} فلا إثم عليكم {إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف} أَيْ: إذا سلَّمتم إلى الأُمِّ أجرتها بمقدار ما أرضعت.
{والذين يتوفون منكم} أَيْ: يموتون {ويذرون} ويتركون ويُخَلِّفُون {أزواجاً} نساءً {يتربصن بأنفسهنَّ} خبرٌ في معنى الأمر {أربعة أشهر وعشرا} هذه المدَّة عدَّة المُتوفَّى عنها زوجها إلاَّ أن تكون حاملاً {فإذا بلغن أجلهنَّ} انقضت عدَّتهنَّ {فلا جناح عليكم} أيُّها الأولياء {فيما فعلن في أنفسهنَّ بالمعروف} أَيْ: مِنْ تزوُّج الأكفاء بإذن الأولياء. هذا تفسير المعروف ها هنا، لأنَّ التي تُزَوِّج نفسها سمَّاها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم زانية، وهذه الآية ناسخةٌ لقوله تعالى: {متاعاً إلى الحول غير إخراج} الآية.