فصل: الفصل السابع

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بحر الدموع **


الفصل الخامس

إخواني‏:‏ قيّدوا هذه النفوس بزمام، وازجروا، هذه القلوب عن الآثام، واقرؤوا صحف العبر بألسنة الأفهام‏.‏

يا مَن أجله خلفه وأمله قدّام، يا مقتحمًا على الجرائم أيّ اقتحام، انتبهوا يا نوّام، كم ضيّعتم من أعوام، الدنيا كلها منام، وأحلى ما فيها أضغاث أحلام، غير أن عقل الشيخ فيها الغلام، فكل من قهر نفسه فهو الهمام‏.‏ هذه الغفلة قد تناهت، والمصائب قد تدانت، فإنّا لله وإنا إليه راجعون، والسلام‏.‏

مرّ عيسى عليه السلام على قرية، فوجد كل من فيها أمواتا، وهم مطروحون على وجوههم في الأزقّة، فتعجّب عيسى عليه السلام من ذلك، وقال‏:‏ يا معشر الحواريين، إن هؤلاء القوم قد ماتوا على سخط وغضب، ولو ماتوا على رضا من الله، لدفن بعضهم بعضًا‏.‏ فقالوا‏:‏ يا روح الله، وددنا أن نعرف قضيّتهم وخبرهم‏.‏

قال‏:‏ فسأل الله عز وجل في ذلك، فأوحى الله إليه‏:‏ إذا كان الليل نادهم، فإنهم يجيبونك‏.‏

فلما كان من الليل، صعد عيسى على شرف ونادى‏:‏ يا أهل القرية، فأجابه مجيب من بينهم‏:‏ لبيّك يا روح الله، فقال‏:‏ ما قضيتكم‏,‏ وما خبلاكم‏؟‏ فقال‏:‏ يا روح الله، بتنا في عافية، وأصبحنا في هاوية‏.‏ قال‏:‏ ولم ذلك‏؟‏ قال‏:‏ لحبنا في الدنيا، وطاعة لأهل المعاصي، ولم نأمر بالمعروف، ولم ننه عن المنكر‏.‏ فقال له عيسى عليه السلام‏:‏ كيف كان حبكم للدنيا‏؟‏ قال‏:‏ كحبّ الصبي لأمه؛ إذا أقبلت فرحنا، وإذا أدبرت جزنّا وبكينا‏.‏ فقال له عيسى عليه السلام‏:‏ يا هذا‏:‏ ما بال أصحابك لم يجيبوني‏؟‏ قال‏:‏ إنهم ملجمون بلجام من النار بأيدي ملائكة غلاظ شداد‏.‏ قال‏:‏ وكيف أجبتني أنت من بينهم‏؟‏ قال‏:‏ إني كنت فيهم، ولم أكن منهم، فلما نزل بهم العذاب لحقني معهم، فأنا الآن معلّق على شفير جهنّم، لا أدري‏:‏ أنجو منها، أم أكبّ فيها‏.‏

أعاذنا الله منها‏.‏

يا من يسير بعمره وقد تعدّى الحدود، إبك على معصيتك فلعلك مطرود‏.‏ يا من عمره ينتهب وليس الماضي يعود، قد أسمعتك المواعظ من أرشادها نصحًا، وأخبرك الشيب أنك بالموت تقصد وتنحّا، وناداك لسان الاعتبار‏:‏ ‏{‏ يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا ‏}‏ ‏[‏الانشقاق 6‏]‏‏.‏

وأنشدوا‏:‏

لما تقضى زمن التواصل والرضا *** قد صرت تطلب ردّ أمر قد مضى

هلا أتيت ووقت وصلك ممكن *** وبياض شيبك في العوارض ما أضا

يا أخي‏:‏ هذا أوان الرجوع والاستغفار والاقلاع عن الذنوب والأوزار‏.‏

‏(‏من بلغ أربعين سنة ولم يغلب خيره على شره، فليتجهز إلى النار‏)‏‏.‏

وأنشدوا‏:‏

أتيتك راجيًا يا ذا الجلال *** ففرّج ما ترى من سوء حالي

عصيتك سيّدي ويلي بجهلي *** وعيب الذنب لم يخطر ببالي

إلى من يشتكي المملوك إلا *** إلى مولاه يا مولى الموالي

فويلي ليت أمي لم تلدني *** ولا أعصيك في ظلم الليالي

وها أنا ذا عبيدك عبد سوء *** ببابك واقف يا ذا الجلال

فإن عاقبت يا ربي فإني *** محق بالعذاب وبالنكال

وإن تعفو فعفوك أرتجيه *** ويحسن إن عفوت قبيح حالي

يقول الله عز وجل‏:‏ يا عبادي، أما علمتم أني جعلت الدنيا دار تكليف وامتحان، وأني لا أخص بمنازل الفضل والإحسان إلا من تاب إليّ فيها عن مواطن الزلات والعصيان، فما لكم ما أتيتم لبابي‏؟‏ ولا رغبتم في جزيل فضلي وثوابي، ولا خفتم من أخذي وعقابي‏؟‏‏.‏

فيا من جلّت غفلته، وطالت سكرته، تأمّل عطف الموالي عليك، وإحسانه إليك‏.‏ فبالله عليكم، حطّوا بالتوبة عن ظهوركم، واغسلوا وجوهكم بقطرات الدموع، واشتملوا بأردية التذلل والخضوع‏.‏

وأنشدوا‏:‏

ركبت مآثمي فلقيت ذلًا *** وسالت عبرتي طلًا ووبلًا

وصرت أعاتب القلب المبلا *** إلى من يشتكي المملوك إلًا

إلى مولاه يا مولى الموالي *** فلطفك بي إله العرش أولى

الفصل السادس

إخواني، انتبهوا من غفلتكم، فنوم الغفلة ثقيل، وشمّروا لآخرتكم، فإنما الدنيا منزل، وفي طريقها مقيل‏.‏

جاء في بعض الأخبار، أن الله تعالى أوحى إلى بعض أنبيائه عليهم السلام‏:‏ يا نبيي، شتان بين من عصاني وخالف أمري، وبين من قطع عمره في معاملتي، وذكري ولزوم الوقوف ببابي، ومرّغ خده على أعتابي، فيا خجلة الخاطئين، ويا ندامة البطالين‏.‏

وأنشدوا‏:‏

اخلوا بنفسك إن أردت تقرّبا *** ودع الأنام بمعزل يا عاني

واعمل على قطع العلائق جملة *** في العيش في خرق الحجاب الفاني

وفي الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم لأصحابه‏:‏ ‏(‏يا أصحابي، أتدرون من المفلس‏؟‏‏)‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله، المفلس عندنا من ليس له دينار ولا درهم‏.‏ فقال لهم‏:‏ ‏(‏ليس هو ذلك، إنما المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة وصدقة، ثم يأتي وقد شتم هذا، ولطم هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا كذلك، حتى تفنى حسناته قبل أن يؤدي ما عليه، فتؤخذ خطاياهم، فتحمل على خطاياه، ويقذف به في النار، فهذا هو المفلس‏)‏‏.‏ نعوذ بالله من الحرمان‏.‏

قال بعض الصالحين رضي الله عنهم‏:‏ أتيت إبراهيم بن أدهم لأزوره، فطلبته في المسجد، فلم أجده، فقيل لي‏:‏ إنه خرج الآن من المسجد، فخرجت في طلبه، فوجدته في بطن وادٍ نائمًا في زمان الحر، وحيّة عظيمة عند رأسه، وفي فم الحيّة غصن من الياسمين، وهي تشرّد عنه الذباب، فبقيت متعجبًا من ذلك، وإذا بالحية قد أنطقها الله الذي أنطق كل شيء، فقالت لي‏:‏ مم تتعجب أيها الرجل‏؟‏ فقلت لها، من فعلك هذا‏,‏ وأكثر تعجبي من كلامك وأنت عدوة لبني آدم‏.‏ فقالت لي‏:‏ والله العظيم، ما جعلنا الله أعداء إلا للعاصين، وأما أهل طاعته، فنحن لهم منقادون‏.‏

وأنشدوا‏:‏

فعالي قبيح وظني حسن *** وربي غفور كثير المنن

تبارز مولاك يا من عصى *** وتخشى من الجار لما فطن

ركبت المعاصي وشيبي معي *** فوالله يا نفس ما ذا حسن

فقومي الدياجي له وارغبي *** وقولي له يا عظيم المنن

وقولي له يا عظيم الرجا *** إذا أنت لم تعف عني فمن

بحقّ النبي هو المصطفى *** بحق الحسين بحق الحسن

أيدفع مثلي إلى مالك *** وتعلم أني ضعيف البدن

جلس الحسن البصري ذات يوم يعظ الناس، فجعلوا يزدحمون عليه ليقربوا منه، فأقبل عليهم، وقال‏:‏ يا إخوتاه، تزدحمون عليّ لتقربوا مني‏؟‏ فكيف بكم غدًا في القيامة إذا قرّبت مجالس المتقين، وأبعدت مجالس الظالمين، وقيل للمخفين جوزوا، وللمثقلين حطوا‏؟‏ فيا ليت شعري‏:‏ أمع المثقلين أحط، أم مع المخفين أجوز‏؟‏ ثم بكى حتى غشي عليه، وبكى من حوله، فأقبل عليهم وناداهم، يا إخوتاه، ألا تبكون خوفًا من النار‏؟‏ ألا من بكى خوفًا من النار نجاه الله منها يوم يجرّ الخلائق بالسلاسل والأغلال‏.‏

يا إخوتاه، ألا تبكون شوقًا إلى الله‏.‏ ألا وإن من بكى شوقًا إلى الله، لم يحرم من النظر غدًا إلى الله إذا تجلى بالرحمة، واطّلع بالمغفرة، واشتدّ غضبه على العاصين‏.‏

يا إخوتاه، ألا تبكون من عطش يوم القيامة‏؟‏ يوم يحشر الخلائق وقد ذبلت شفاههم، ولم يجدوا ماء إلا حوض المصطفى صلى الله عليه وسلم، فيشرب قوم، ويمنع آخرون‏.‏ ألا وإن من بكى من خوف عطش ذلك اليوم سقاه الله من عيون الفردوس‏.‏

قال‏:‏ ثم نادى الحسن رضي الله عنه‏:‏ واذلاه إذا لم يرو عطشي يوم القيامة من حوض النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

ثم بكى وجعل يقول‏:‏ والله لقد مررت ذات يوم بامرأة من المتعبدات، وهي تقول‏:‏ إلهي، قد سئمت الحياة شوقًا ورجاء فيك‏.‏ فقلت لها‏:‏ يا هذه، أتراك على يقين من عملك‏؟‏ فقالت‏:‏ حبي فيه وحرصي على لقائه بسطني‏.‏ أتراه يعذبني وأنا أحب‏؟‏‏.‏

فبينما أنا كذلك أخاطبها، إذ مرّ بي صبيّ صغير من بعض أهلي، فأخذته في ذراعي، وضممته إلى صدري، ثم قبلته‏.‏ فقالت لي‏:‏ أتحب هذا الصبي‏؟‏ قلت‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ فبكت، وقالت‏:‏ لو يُعلم الله الخلائق ما يستقبلون غدًا، ما قرّت أعينهم، ولا التذّت قلوبهم بشيء من الدنيا أبدًا‏.‏

قال‏:‏ فبينما أنا كذلك، إذ أقبل لها ولد يقال له‏:‏ ضيغم، فقالت‏:‏ يا ضيغم، أتراني أراك غدًا يوم القيامة في المحشر أو يحال بيني وبينك‏؟‏ قال‏:‏ فصاح الصبي صيحة ظننت أنه قد انشق قلبه، ثم خرّ مغشيًا عليه، فجعلت تبكي عليه، وبكيت لبكائها‏.‏

فلما أفاق من غشيته، قالت له‏:‏ يا ضيغم، قال لها لبيك يا أماه‏.‏ قالت‏:‏ أتحب الموت‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قالت‏:‏ ولم يا بنيّ‏؟‏ قال لها‏:‏ لأصير إلى من هو خير منك، وهو أرحم الراحمين، إلى من غذاني في ظلمة أحشائك، وأخرجني من أضيق المسالك، ولو شاء لأماتني عند الخروج من ضيق ذلك المسلك حتى تموتي أنت من شدة أوجاعك، لكنه برحمته ولطفه، سهّل ذلك عليّ وعليك‏.‏ أما سمعتيه عز وجل يقول‏:‏ ‏{‏نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ‏}‏ ‏[‏الحجر 49ـ50‏]‏ وجعل يبكي وينادي‏:‏ أواه أواه، إن لم أنج غدًا من عذاب الله، ولم يزل يبكي حتى غشي عليه، وسقط على الأرض، فدنت منه أمه، فلمسته بيدها، فإذا هو ميّت رحمه الله‏.‏

فجعلت تبكي وتقول‏:‏ يا ضيغماه، يا قتيلًا في حبّ مولاه‏.‏ ولم تزل كذلك حتى صاحت صيحة عظيمة، ووقعت في الأرض، قال‏:‏ فحرّكتها، فإذا هي قد ماتت‏.‏ رحمة الله عليه وعليها، ورحمنا الله بهما‏.‏

الفصل السابع

إخواني، الدنيا سموم قاتلة، والنفوس عن مكائدها غافلة، كم من نظرة تحلو في العاجلة، ومرارتها لا تطاق في العاقبة الآجلة‏.‏ يا ابن آدم، قلبك قلب ضعيف، ورأيك في إطلاق الطرف وأى وهم سخيف‏.‏ عينك مطلوقة، ولسانك يجني الآثام، وجسدك يتعب في كسب الحطام، كم من نظرة محتقرة زلت بها الأقدام‏.‏

عاتبت قلبي لما *** رأيت جسمي نحيلا

فلام قلبي طرفي *** وقال كنت الرسولا

فقال طرفي لقلبي *** بل كنت أنت الدليلا

فقلت كفا جميعًا *** تركتماني قتيلا

كان عيسى عليه السلام يقول‏:‏ النظرة تزرع في القلب الشهوة‏.‏

وقال الحسن‏:‏ من أطلق طرفه، كثر ألمه‏.‏

قال إبراهيم بن العباس بن محمد بن صول‏:‏

ومن كان يؤتى من عدو وحاسد *** فإني من عيني أوتى ومن قلبي

وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنه أن رجلًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتسلسل دمًا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما بالك‏؟‏‏)‏ فقال‏:‏ مرّت بي امرأة، فنظرت إليها، فلم يزل يتبعها بصري، فاستبقني جدار فضربني، فصنع بي ما ترى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله إذا أراد بعبد خيرًا، عجّل له عقوبته في الدنيا‏)‏ ‏[‏راه الحاكم في المستدرك‏]‏‏.‏

قال أبو بعقوب النهرجوري‏:‏ رأيت في الطواف رجلًا بفرد عيم، وهو يقول في طوافه‏:‏ أعوذ بك منك، فقلت له‏:‏ ما هذا الدعاء، فقال‏:‏ إني مجاور منذ خمسين سنة، فنظرت إلى شخص يومًا فاستحسنته، وإذا بلطمة قد وقعت على عيني، فسالت على خدي، فقلت‏:‏ آه، فوقعت أخرى، وقائل يقول‏:‏ لوزدت لزدناك‏.‏

دعوني أناجي مولى جليلًا *** إذا الليل أرخى على السدولا

نظرت إليك بقلب ذليل *** لأرجو به يا إلهي القبولا

لك الحمد والمجد والكبرياء *** وأنت الإله الذي لن يزولا

وأنت الإله الذي لم يزل *** حميدًا كريمًا عظيمًا جليلا

تميت الأنام وتحيي العظام *** وتنشى الخلائق جيلًا فجيلا

عظيم الجلال كريم الفعال *** جزيل النوال تنيل السؤولا

حبيب القلوب غفور الذنوب *** تواري العيوب تقيل الجهولا

وتعطي الجزيل وتولي الجميل *** وتأخذ من ذا وذاك القليلا

خزائن جودك لا تنقضي*** تعمّ الجواد بها والبخيلا

قال بعض العارفين‏:‏ خرجنا من أرض العراق نريد مكة ومدينة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وكنا في رفقة كثيرة من الناس، فإذا نحن برجل من أهل العراق، وقد خرج معنا رجل به أدمة في شقرة وهو مصفرّ اللون، قد ذهب الدم من وجهه مما بلغت فيه العبادة، وعليه ثياب خلقة من رقاع شتى، وبيده عصا ومعه مزود فيه شيء من الزاد‏.‏

قال‏:‏ وكان ذلك الرجل العابد الزاهد أُويسًا القرني، فلما نظر إليه أهل القافلة على تلك الحالة، أنكروه، وقالوا له‏:‏ نظن أنك عبد‏.‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قالوا‏:‏ نظن أنك عبد سوء هربت من مولاك‏.‏ قال لهم‏:‏ نعم‏.‏ قالوا‏:‏ كيف رأيت نفسك حين هربت من مولاك، وما صار حالك إليه‏؟‏ أما إنك لو أقمت عنده، ما كانت هذه حالتك، وإنما أنت عبد سوء مقصّر‏.‏ فقال لهم‏:‏ نعم والله، أنا عبد سوء، ونعم المولى مولاي، ومن قبلي التقصير، وليتني أطعته وطلبت رضاه، ما كان من أمري هذا، وجعل يبكي حتى كادت نفسه أن تزهق‏.‏

قال‏:‏ فرحمه القوم، وظنوا أنه يعني مولى من موالي الدنيا، وهو ما كان يريد بذلك إلا رب العزة‏.‏

فقال له رجل من أهل القافلة‏:‏ لا تخف، أنا آخذ لك من مولاك الأمان، فارجع إليه وتب‏.‏ فقال‏:‏ إني راجع إليه، وراغب فيما لديه‏.‏

قال‏:‏ وكان خرج زائرًا إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم‏[‏زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم مستحبة لمن دخل المدينة وزار مسجده أما قصد السفر إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فذمه كثير من السلف حتى قال مالك أنه سفر معصية لا قصر فيه‏]‏، فسارت القافلة ذلك اليوم، وسار معهم، وجدّوا في السير، فلما كان في الليل نزلوا في فلاة من الأرض، وكانت ليلة شاتية باردة كثيرة المطر‏.‏ قال‏:‏ وقد كان إلى على نفسه ألا يسأل من أمور الدنيا لمخلوق، وإنما تكون حوائجه إلى الله سبحانه وتعالى، فبلغ به البرد تلك الليلة مبلغًا شديدًا، حتى اضطربت جوارحه من شدة البرد، واشتد عليه سلطان البرد حتى مات في جوف الليل‏.‏

فلما أصبحوا وأرادوا الرحيل نادوه‏:‏ قم أيها الرجل، فإن الناس قد رحلوا، فلم يجبهم، فأتاه رجل قريب منه، فحرّكه فوجده ميتًا رحمه الله، فنادى‏:‏ يا أهل القافلة، إن العبد الهارب من سيده قد مات، ولا ينبغي لكم الرحيل حتى تدفنوه‏.‏ قالوا‏:‏ وما الحيلة في أمره‏؟‏‏.‏

فقال لهم رجل صالح كان معهم‏:‏ إن هذا العبد كان عبدًا تائبًا راجعًا إلى مولاه نادمًا على ما صنع، ونحن نرجو أن ينفعنا الله به، وقد قبل توبته، ونخاف أن نسأل عنه إن تركناه غير مدفون، ولا بدّ لكم أن تصبروا حتى تحفروا له قبرا وتدفنوه فيه‏.‏

فقالوا‏:‏ هذا موضع ليس فيه ماء، فقال بعضهم لبعض‏:‏ اسألوا الدليل، فسألوه، فقال‏:‏ إن بينكم وبين الماء ساعة، ولكن أرسلوا معي واحدًا وأنا آتيكم بالماء‏.‏

فأخذ الدليل دلوًا، وساروا إلى الماء، فلما خرج من القافلة، إذا هو بغدير من الماء، فقال الدليل‏:‏ هذا هو العجب الذي لم أر مثله هذا موضع ليس فيه ماء، ولا على قرب منه‏!‏‏.‏

فرجع إليهم، وقال لهم‏:‏ قد كفيتم المؤنة‏.‏ عليكم بالحطب، فجمعوه ليسخنوا به الماء من شدة البرد، ثم أتوا إلى الماء ليأخذوه، فوجوده ساخنًا يغلي، فازدادوا تعجبًا، وفزعوا من ذلك الرجل، وقالوا إن لهذا العبد قصة وشأنًا‏.‏

قال‏:‏ فأخذوا في حفر قبره، فوجدوا التراب ألين من الزبد، والأرض تفوح مثل المسك الأذفر، وملؤا رعبًا وفزعًا، وكانوا إذا نظروا إلى التراب الذي يخرج من القبر، وجدوه صفة التراب، وإذا شمّوه، وجدوا رائحة كرائحة المسك‏.‏

فضربوا له خباء وأدخلوه فيه، وتنافسوا في كفنه، فقال رجل من القوم‏:‏ أنا أكفنه، وقال آخر، أنا أكفنه‏.‏ فاتفق رأيهم على أن يجعل كل واحد منهم ثوبًا‏.‏

ثم إنهم أخذوا إداوة وقرطاسًا، وكتبوا صفته ونعته، وقالوا‏:‏ إذا وصلنا، إن شاء الله، المدينة، فلعل من يعرفه، وجعلوا الكتاب في أوعيتهم‏.‏

فلما غسّلوه، وأرادوا أن يكفنوه، كشفوا الثوب الذي كان عليه، فوجدوه مكفنًا بكفن من الجنة، لم ير الراؤون مثله، ووجدوا على كفنه مسكًا وعنبرًا، وقد ملأت رائحة حنوطه الدنيا، وعلى جبينه خاتم من المسك، وعلى قدميه كذلك‏.‏

فقالوا‏:‏ لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم‏.‏ إن الله عز وجل قد كفّنه وأغناه عن أكفان العباد، ونرجو الله تعالى أنه قد أوجب لنا الجنة ورحمنا بهذا العبد الصالح، وندموا ندامة شديدة على تركه تلك الليلة حتى مات بالبرد‏.‏

ثم لإنهم حملوه ليدفنوه، ووضعوه في بقعة سهلة ليصلّوا عليه، فلما كبّروا، سمعوا أصوات التكبير من السماء إلى الأرض، ومن المشرق إلى المغرب وانخلعت أفئدتهم وأبصارهم، ولم يدروا كيف صلوا عليه من شدة الجزع، وعظم رعبهم مما سمعوا فوق رؤوسهم، فحملوه يريدون قبره، فكأنه يخطف من بينهم ولا يجدون له ثقلًا، حتى أتوا به إلى القبر ليدفنوه، فدفنوه، ورجع القوم وقد تعجبوا من أمره‏.‏

فلما قضوا سفرهم، وأتوا إلى مسجد الكوفة، وأخبروا بخبره، وما كان من صفته، فعند ذلك عرفه الناس، وارتفعت الأصوات بالبكاء في مسجد الكوفة، ولولا ذلك ما عرف أحد بموته، ولا بمكان قبره، لاختفائه عن الناس وهروبه منهم رضي الله عنه، ونفعنا ببركاته‏.‏

الفصل الثامن

إخواني، إلى كم هذه الغفلة وأنتم مطالبون بغير مهلة‏؟‏ فبالله عليكم، تعاهدوا أيامكم بتحصيل العدد، وأصلحوا من أعمالكم ما فسد، وكونوا من آجالكم على رصد، فقد آذنتكم الدنيا بالذهاب، وأنتم تلعبون بالأجل وبين أيديكم يوم الحساب‏.‏ آه من ثقل الحمل‏.‏‏.‏ آه من قلة الزاد وبعد الطريق‏.‏

فيا أيها المغرور بإقباله، المفتون بكواذب آماله، الذي غاب عن الصواب، وهو في فعله كذاب‏.‏

يا بطال، إلى كم تؤخر التوبة وما أنت في التأخير بمعذور‏؟‏ إلى متى يقال عنك‏:‏ مفتون ومغرور‏؟‏ يا مسكين، قد انقضت أشهر الخير وأنت تعد الشهور‏؟‏ أترى مقبول أنت أم مطرود‏؟‏ أترى مواصل أنت أم مهجور‏؟‏ أترى تركب النجب غدًا أم أنت على وجهك مجرور‏؟‏ أترى من أهل الجحيم أنت أم من أرباب النعيم والقصور‏.‏ فاز والله المخفون، وخسر هنالك المبطلون، ألا إلى الله تصير الأمور‏.‏

وأنشدوا‏:‏

مالي أراك على الذنوب مواظبًا *** أأخذت من سوء الحساب أمانا

لا تغفلن كأن يومك قد أتى *** ولعل عمرك قد دنا أو حانا

ومضى الحبيب لحفر قبره مسرعًا *** وأتى الصديق فأنذر الجيرانا

وأتو بغسّال وجاؤوا نحوه *** وبدا بغسلك ميتًا عريانا

فغسلت ثم كسيت ثوبا للبلى *** ودعوا لحمل سريرك الإخوانا

وأتاك أهلك للوداع فودّعوا *** وجرت عليك دموعهم غدرانا

فخف الاله فإنه من خافه *** سكن الجنان مجاورًا رضوانا

جنات عدن لا يبيد نعيمها *** أبدًا يخالط روحه ريحانا

ولمن عصا نار يقال لها لظى *** تشوى الوجوه وتحرق الأبدانا

نبكي وحق لنا البكاء يا قومنا *** كي لا يؤاخذنا بما قد كانا

قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا كان ابن آدم في سياق الموت، بعث الله إليه خمسة من الملائكة‏:‏

أما الملك الأول، فيأتيه وروحه في الحلقوم، فيناديه‏:‏ يا ابن آدم، أين بدنك القوي‏؟‏ ما أضعفه اليوم‏؟‏ أين لسانك الفصيح‏؟‏ ما أسكته اليوم‏؟‏ أين أهلك وقرابتك‏؟‏ ما أوحشك منهم اليوم‏!‏‏.‏

ويأتيه الملك الثاني إذا قبض روحه، ونشر عليه الكفن، فيناديه‏:‏ يا ابن آدم، أين ما أعددت من الغنى للفقر‏؟‏ أين ما أعددت من الخراب للعمران‏؟‏ أين ما أعددت من الأنس للوحشة‏؟‏‏.‏

ويأتيه الملك الثالث إذا حمل على الأعناق، فيناديه‏:‏ يا ابن آدم، اليوم تسافر سفرًا بعيدًا لم تسافر سفرًا أبعد منه، اليوم تزور قومًا لم تزورهم قبل هذا قط، اليوم تدخل مدخلًا ضيقًا لم تدخل أضيق منه، فطوبى لك إن فزت برضوان الله، وويل لك إن رجعت بسخط الله‏.‏

ويأتيه الملك الرابع إذا ألحد في قبره فيناديه‏:‏ يا ابن آدم، بالأمس كنت على ظهرها ماشيا، واليوم صرت في بطنها مضطجعًا‏.‏ بالأمس كنت على ظهرها ضاحكًا، واليوم أصبحت في بطنها باكيًا‏.‏ بالأمس كنت على ظهرها مذنبًا، واليوم أمسيت في بطنها نادمًا‏.‏

ويأتيه الملك الخامس إذا سويّ عليه التراب، وانصرف عنه الأهل والجيران والأصحاب، فيناديه‏:‏ يا ابن آدم، دفنوك وتركوك، ولو أقاموا عندك ما نفعوك‏.‏ جمعت المال وتركته لغيرك‏.‏ اليوم تصير إما لجنة عالية، أو إلى نار حامية‏)‏‏.‏

ويروى عن بعض المتعبدين أنه قال‏:‏ إلهي عصيتك قويًا، وأطعتك ضفيفًا، وأسخطتك جلدًا، وخدمتك نحيفًا، فيا ليت شعري، هل قبلتني على لؤمي، أم صرفتني على جرمي‏؟‏ قال‏:‏ ثم غشي عليه ووقع على الأرض وانسلخت جبهته‏.‏

فقامت إليه أمه، وقبّلته بين عينيه، ومسحت جبهته وهي تبكي وتقول‏:‏ قرّة عيني في الدنيا، وثمرة فؤادي في الآخرة، كلم عجوزك الثكلى، وردّ جواب أمك الحريّ‏.‏

قال‏:‏ فأفاق الفتى من غشيته، ويده قابضة على كبده، وروحه تتردد في جسده، ودموعه تنسكب على خده ولحيته، فقال لها‏:‏ يا أماه، هذا اليوم الذي كنت تحذريني منه، وهذا هو المصرع الذي كنت تخوّفيني منه، هذا مصرع الأهوال، وسقوط عثرة الأثقال، فيا أسفًا على الأيام الخالية، ويا جزعي من الأيام الطوال التي لم أعرّج فيها على الاقبال‏.‏

يا أماه أنا خائف على نفسي أن يطول في النار سجني وحبسي‏.‏ يا حزناه إن رميت فيها على رأسي، ويا أسفاه إن قطعت فيها أنفاسي‏.‏

يا أماه، افعلي ما أقول لك‏.‏

فقالت له‏:‏ يا بنيّ، فدتك نفسي، ماذا تريد‏؟‏‏.‏

قال لها‏:‏ ضعي خدي على التراب، وطئيه بقدمك حتى أذوق طعم الذل في الدنيا، والتلذذ للسيّد المولى، عسى أن يرحمني وينجيني من نار لظى‏.‏ قالت أمه‏:‏ فقمت إليه في الحال، وقد ألصق خده بالتراب، والدموع تجري من عينيه كالميزاب، فوطئت خده بقدمي، فإذا هو ينادي بصوت ضعيف‏:‏ هذا جزاء من أذنب وعصى، وهذا جزاء من أخطأ وأساء، هذا جزاء من لم يقف بباب المولى، هذا جزاء من لم يراقب العلي الأعلى‏.‏

قالت‏:‏ ثم تحوّل إلى القبلة، وقال‏:‏ لبيّك لبيّك، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين‏.‏

قال‏:‏ ثم مات في مكانه، فرأته أمه في المنام كأن وجهه فلقة قمر تجلى من سحاب، فقالت له‏:‏ يا بنيّ، ما فعل بك مولاك‏؟‏ قال‏:‏ رفع درجتي، وقرّبني من محمد صلى الله عليه وسلم، فقالت له أمه‏:‏ يا بنيّ، ما الذي سمعت منك تقوله عند وفاتك‏؟‏ فقال لها‏:‏ يا أماه، هتف بي هاتف وقال لي‏:‏ يا عمران، أجب داعي الله، فأجبته، ولبيّت ربي عز وجل‏.‏ رحمه الله تعالى‏.‏

الفصل التاسع

إخواني، السفر مكتوب علينا، فما لنا أن نطلب الاقامة في دار ليست لنا دار مقامة‏؟‏ السنون منازل، والشهور مراحل، والأيام أميال، والأنفاس خطوات، والمعاصي قطاع، والربح الجنة، والخسران النار‏.‏

خلقنا نتقلب في ستة أسفار إلى أن يستقر بنا القرار‏:‏ فالسفر الأول‏:‏ سفر السلابة من طين، والثاني من الصلب إلى الرحم، والثالث‏:‏ من الرحم إلى ظهر الأرض، والرابع‏:‏ من ظهر الأرض إلى القبر، والخامس‏:‏ من القبر إلى موقف العرض، والسادس‏:‏ من موقف العرض إلى دار الإقامة‏:‏ إما إلى الجنة أوالنار، وقد قطعنا نصف الطريق، وبقي الأصعب‏.‏

يا من يضجّ في الكرب ويصيح، خلّ التدبير لغيرك فتستريح، تكثر النحيب والعويل، وتنسى ما سلف من الفعل الوبيل‏.‏ لو رجعت إليه بقلبك، لعجّل عليك بتفريج همّك وكربك‏.‏

يا أخي، إياك والدنيا، فإن حبل الدنيا مبتوت، واقنع منها بالقوت، واعلم أنك تموت‏.‏

قال ابن المبارك‏:‏ قدمت مكة، فإذا الناس قد قحطوا من المطر، وهم يستسقون في المسجد الحرام، وكنت في الناس من باب بني شيبة، إذ أقبل غلام أسود قطعتاه خيش، قد ائتزر بإحداهما، وألقى الأخرى على عاتقيه، فصار في موضع خفي إلى جانبي، فسمعته يقول‏:‏ إلهي، أخلقت الوجوه كثرة الذنوب ومساوئ العيوب، وقد منعتنا غيث السماوات لتؤدب الخليقة بذلك، فأسألك يا حليم، يا من لا يعرف عباده منه إلا الجميل، اسقهم الساعة الساعة‏.‏

قال ابن المبارك‏:‏ فلم يزل يقول‏:‏ اسقهم الساعة الساعة، حتى انسدّ الجو بالغمام، وأقبلت قطرات الركام تهطل كأفواه القرب، وجلس مكانه يسبّح الله تعالى، فأخذت في البكاء، حتى قام فاتبعته حتى عرفت موضعه‏.‏

فجئت إلى الفضيل بن عيّاض، فقال لي‏:‏ ما لي أراك كئيبًا‏؟‏ فقلت له‏:‏ سبقنا إليه غيرنا، فولاه دوننا‏.‏ قال‏:‏ وما ذلك‏؟‏ فقصصت عليه القصة وسقط في الأرض، وقال‏:‏ ويحك ابن المبارك، خذني إليه، فقلت‏:‏ قد ضاق الوقت، سأبحث عن شأنه‏.‏

فلما كان من الغد، صليت الغداة، وخرجت أريد الموضع، فإذا بشيخ على باب، وقد بسط له وهو جالس، فلما رآني عرفني، وقال‏:‏ مرحبًا بك يا أبا عبد الرحمن، ما حاجتك‏؟‏ فقلت‏:‏ احتجت إلى غلام، فقال‏:‏ نعم عندي عدّة، اختار أيهم شئت، فصاح يا غلام، فقال‏:‏ هذا محمود العاقبة، أرضاه لك، فقلت‏:‏ ليس هذا حاجتي، فما زال يخرج واحدًا بعد واحد، حتى أخرج إلى الغلام، فلما أبصرته بدرت عيناي بالدموع، فقال‏:‏ هذا‏؟‏ فقلت‏:‏ نعم، فقال‏:‏ ليس لي إلى بيعه سبيل‏.‏ فقلت‏:‏ ولم‏؟‏‏!‏‏.‏ قال‏:‏ قد تبرّكت بموضعه في هذه الدار، فقلت له‏:‏ ومن أين طعامه‏؟‏ فقال‏:‏ يكسب من فتل الشريط نصف دانق أو أقل أو أكثر، فهو قوته إن باعه في يومه، وإلا طوى ذلك اليوم‏.‏

وأخبرني الغلمان عنه أنه لا ينام في الليل الطويل ولا يختلط بأحد منهم، مهتم بنفسه، وقد أحبه قلبي‏.‏

فقلت له‏:‏ انصرف إلى الفضيل بن عياض وسفيان الثوري بغير قضاء حاجة، ثم رجعت إليه، وسألت فيه بإلحاح، فقال‏:‏ إن ممشاك عندي كبير، خذه بما شئت‏.‏

قال‏:‏ فاشتريته، وسرت معه نحو دار الفضيل، فمشيت ساعة فقال لي‏:‏ يا مولاي‏.‏

فقلت له‏:‏ لبيك‏.‏

فقال‏:‏ لا تقل لبيك، فإن العبد أولى بأن يلبي من المولى‏.‏

قلت‏:‏ وما حاجتك يا حبيبي‏.‏

قال‏:‏ أنا ضعيف البدن، لا أطيق الخدمة، وقد كان لك في غيري سعة، قد أخرج لك من هو أجلد مني وأثبت‏.‏ فقلت له‏:‏ لا يراني الله تعالى أستخدمك، ولا كان اشترائي لك إلا أنزلك منزلة الأولاد، ولأزوّجك، وأخدمك أنا بنفسي‏.‏ قال‏:‏ فبكى، فقلت له‏:‏ وما يبكيك‏؟‏‏.‏

قال لي‏:‏ أنت لم تفعل هذا، إلا وقد رأيت بعض اتصلاتي بالله تعالى، وإلا، فلم أخذتني من أولئك الغلمان‏؟‏‏.‏

فقلت له‏:‏ ليس لي بك حاجة إلا هذا‏.‏

فقال لي‏:‏ سألت بالله إلا أخبرتني‏.‏

فقلت له‏:‏ بإجابة دعوتك‏.‏

فقال لي‏:‏ إني أحسبك إن شاء الله رجلًا صالحًا، إن لله عز وجل خيرة من خلقه، لا يكشف شأنهم إلا لمن أحب من عباده، ولا يظهر عليهم إلا من ارتضى‏.‏

ثم قال لي‏:‏ ترى أن تقف عليّ قليلا، فإنه قد بقي عليّ ركعات من البارحة‏.‏

قلت‏:‏ هذا منزل الفضيل‏.‏

قال‏:‏ لا هاهنا أحبّ إليّ‏.‏ إن أمر الله تعالى لا يؤخر، فدخل المسجد، فما زال يصلي حتى أتى على ما أراد، فالتفت إليّ وقال‏:‏ يا أبا عبدالرحمن، هل لك من حاجة‏؟‏‏.‏

قلت‏:‏ ولم‏.‏

قال‏:‏ لأني أريد الانصراف‏.‏

قلت‏:‏ إلى أين‏.‏

قال‏:‏ إلى الآخرة‏.‏

قلت‏:‏ لا تفعل دعني أنتفع بك‏.‏

فقال لي‏:‏ إنما كانت تطيب الحياة حيث كانت المعاملة بيني وبين الله تعالى، فأما إذا اطلعت عليها أنت، سيطّلع عليها غيرك، فلا حاجة لي في ذلك، ثم خرّ على وجهه، وجعل يقول‏:‏ إلهي اقبضني الساعة الساعة، فدنوت منه، فإذا هو قد مات‏.‏ فوالله ما ذكرته قط إلا طال حزني، وصغرت الدنيا في عيني، وحقرت عملي‏.‏

رحمه الله ورحمنا به‏.‏

الفصل العاشر

يا هذا، كم تتزيّا بزيّ العبّاد والزهّاد وحال قلبك في الغفلة ما حال، الظاهر منك نقيّ، والباطن منك متسخ بطول الآمال‏.‏ لا تصلح المحبة لمن يميله حب المال، ولولا مكابدة المجاهدة لم يسمم القوم رجال‏.‏

يا ميت القلب، وعدك في الدنيا صحيح، وفي الآخرة محال، إن لم تبادر في الشباب، فبادر في الاكتهال، وما بعد شيب الرأس لهو، وما أبعد عثرة الشيخ أن تقال‏.‏ ضيّعت زمان الشباب في الغفلة، وفي الكبر تبكي على التفريط في الأعمال، لو علمت ما أحصي عليك، لكنت من الباكين طول الليال‏.‏

قال رجل لذي النون وهو يعظ الناس‏:‏ يا شيخ، ما الذي أصنع‏؟‏ كلما وقفت على باب من أبواب المولى صرفني عنه قاطع المحن والبلوى‏.‏

قال له‏:‏ يا أخي، كن على باب مولاك كالصبي الصغير مع أمه، كلما ضربته أمه ترامى عليها، وكلما طردته، تقرّب إليها، فلا يزال كذلك حتى تضمه إليها‏.‏

يروى أن عيسى عليه السلام كان يسبح في الأرض، ويقول‏:‏ دابتي رجلاي، ولباسي الشعر، وشعاري خوف الله، وريحاني عشب الأرض، وطعامي خبز الشعير، وظلي ظلمات الليل، ومسكني حيث أواني الليل، وهذا لمن يموت كثير‏.‏

ويروى عن الشبلي رضي الله عنه أنه قال‏:‏ رأيت بدوي بمكة، حرسها الله تعالى، وهو يخدم الصوفية، فسألته عن سبب ذلك، فقال لي‏:‏ كنت بالبادية، وإذا بغلام حاف مكشوف الرأس ما معه زاد ولا ركوة ولا عصا، فقلت في نفسي‏:‏ أدرك هذا الفتى، فإذا كان جائعًا أطعمته، وإن كان عطشان سقيته‏.‏

قال‏:‏ فبادرت إليه حتى بقي بيني وبينه مقدار ذراع، وإذا به بعد عني حتى غاب عن عيني، فقلت‏:‏ هذا شيطان وإذا به ينادي‏:‏ لا بل سكران‏.‏

فناديته‏:‏ يا هذا بالذي بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بالحق إلا ما وقفت عليّ‏.‏

فقال لي‏:‏ يا فتى أتعبتني وأتعبت نفسك‏.‏

فقلت له‏:‏ رأيتك وحدك، فأردت أن أخدمك‏.‏

قال لي‏:‏ من يكن الله معه، كيف يكون وحده‏؟‏‏!‏‏.‏

فقلت له‏:‏ ما أرى معك زادًا‏.‏

فقال لي‏:‏ إذا جعت فذكره زادي، وإن عطشت فمشاهدته سؤلي ومرادي‏.‏

فقلت له‏:‏ أنا جائع أطعمني‏.‏

فقال‏:‏ أولم تؤمن بكرامات الأولياء‏.‏

فقلت‏:‏ بلى، ولكن ليطمئن قلبي، فضرب بيده الأرض، وكانت أرض رملة، ثم قبض قبضة، وقال‏:‏ كل يا مخدوع، وإذا هو سويق ألذ ما يكون‏.‏

فقلت‏:‏ ما ألذه‏!‏‏.‏

فقال لي‏:‏ في البادية عند الأولياء من هذا كثير لو عقلت‏.‏

فقلت له اسقني، فركض برجله الأرض، فإذا هو بعين من عسل وماء، فجلست لأشرب من تلك العين، ثم رفعت رأسي، فلم أره، ولم أدر كيف غاب، ولا أين ذهب، فأنا أخدم الفقراء من ذلك اليوم إلى الآن، لعلي أرى مثل ذلك الولي‏.‏

يا هذا، إلى متى تسمع أخبارهم ولا تقفو آثارهم، اطلب رفقة التائبين عساك لطريقهم ترشد، اندب على بعادك يا مطرود، فمثلك من بكى وعدد، اعتذر يا مهجور، عساك بالذل تسعد، وقل بلسان التذلل والأسف والكمد‏:‏

كم ذا التلوّم لا إقلاع يصحبه *** ولا عزيمة هذا العجز والكسل

وكم أردّد أقوال ملفقة *** ما ينفع القول إن لم يصدق العمل

واعجبًا‏!‏ كم لي أعاتب المهجور والعتب ما ينفع، كم لي أنادي أطروش الغفلة لو كان النداء يسمع، كم لي أحدّث قلبك وفي سماعك أطمع‏.‏ واها عليك يا جامد العين قط ما تدمع، من علامة الخذلان قلب لا يخشع، قلبك ذهب في حبّ الفاني، وأنت للحرام تجمع‏.‏ عليك يا غافل في جمعه الحساب، وتخلفه لمن لا ينفع، بينما أنت في بستان اللهو إذ قيل‏:‏ فلان سافر وليس في رجوعه مطمع‏.‏

ويروى عن علي بن أبي صالح أنه قال‏:‏ كنت أدور في جبّ اللكام أطلب الزهاد والعباد، فرأيت رجلًا عليه مرقّعة، هو جالس على صخرة مطرق إلى الأرض‏.‏

فقلت له‏:‏ يا شيخ ما تصنع هاهنا‏؟‏‏.‏

قال لي‏:‏ انظر وأرعى‏.‏

قلت له‏:‏ ما أرى بين يديك إلا الحجارة، فما الذي تنظر وترعى‏.‏ قال‏:‏ أنظر خواطر قلبي، وأرعى أوامر ربي، فبحق الذي أظهرك عليّ إلا ما تركتني، فإنك شغلتني عن مولاي‏.‏

فقلت له‏:‏ من لازم الباب، أثبت في الخدمة، ومن أكثر من الذنوب، أكثر من الندم، ومن استغنى بالله، لم يخف العدم‏.‏ ثم تركني ومضى، رضي الله تعالى عنه‏.‏

الفصل الحادي عشر

يا من رواحله في طلب الدنيا لها اسراع، متى تحل عنها نطاق الأمل، فيكون الانقطاع‏؟‏ إذا طلبت الآخرة، تمشي رويدًا، فمتى يكون الانتفاع‏؟‏ عجبًا كيف تشدّ الرحال في طلب الفاني وفي طريقه قطاع‏!‏ العمر أمانة أتلفت شبابه في الخيانة، وكهولته في البطالة، وفي الشيخوخة تبكي وتقول‏:‏ عمري قد ضاع‏.‏ متى أفلح الخائن فيما اشترى أو باع‏؟‏ أنت في طلب الدنيا صحيح الجسم، وفي طلب الآخرة بك أوجاع‏.‏ كم تعرج عن سبل التقوى يا أعرج الهمة، يا من يبقى في القاع‏.‏ يا من على عمره ليل الغفلة طلع الفجر المشيب بين الأضلاع‏.‏ رافق رفاق التائبين قبل أن تنقطع مع المنقطعين ‏{‏وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ‏}‏ ‏[‏النمل 75‏]‏‏.‏

وأنشدوا‏:‏

إذا أنا لم أصبر على من أحبه *** وإن حال عن وصلي فما أنا صانع

أأتركه والقلب من فرط حبه *** أسير بما تطوي عليه الأضالع

أأسمع فيه العذل والوجد حاكم *** فما يغنني بالعذل ما أنا سامع

أأسلوه والشوق يمنع سلوتي *** وأكتم ما قد أظهرته المدامع

ويعتبني قلبي إذا زاد وجده *** فأضرب صفحًا دونه وأمانع

وإن زاد بي أشتكيه فحسبه *** على كل حال عند شكواي شافع

فلا عشة تصفو ولا موعد يفي *** ولا نظر يسلي ولا الصبر نافع

أرى الدهر يمضي برهة بعد برهة *** ولم ألف ما مالت إليه المطامع

فإن ضقت ذرعًا بالذي قد لقيته *** فكل مضيق فهو في الحب واسع

قال ذا النون المصري رضي الله عنه‏:‏ رأيت امرأة متعبدة، فلما دنوت منها، ودنت مني، سلمت عليّ، فرددت عليها السلام، فقالت لي‏:‏ من أين أقبلت‏؟‏ فقلت من عند حكيم لا يوجد مثله، فصاحت صيحة شديدة، ثم قالت‏:‏ ويحك كيف وجدت معه وحشة الغربة حتى فارقته، وهو أنيس الغرباء، ومعين الضعفاء، ومولى الموالي‏؟‏‏!‏ أم كيف سمحت نفسك بمفارقته‏؟‏‏.‏

فأبكاني كلامها‏.‏ فقالت لي‏:‏ مم بكاؤك‏؟‏ فقلت لها‏:‏ وقع الدواء على الجرح، فأسرع في نجاحه، فقالت لو كنت صادقًا، فلم بكيت‏؟‏ فقلت لها‏:‏ فالصادق لا يبكي‏؟‏ قالت‏:‏ لا‏.‏ قلت‏:‏ ولم‏؟‏ قالت‏:‏ لأن البكاء راحة للقلب‏.‏ وهو نقص عند ذوي العقول‏.‏

قلت لها‏:‏ علميني شيئًا ينفعني الله به‏.‏

قالت‏:‏ اخدم مولاك شوقًا إلى لقائه، فإن له يومًا يتجلى فيه إلى أوليائه، لأنه سبحانه سقاهم في الدنيا من محبته كأسًا لا يظمؤون بعدها أبدًا‏.‏

ثم أقبت تبكي وتقول‏:‏ إلهي وسيدي، إلى كم تدعني في دار لا أجد لي فيها أنيسًا يساعدني على بلائي، ثم جعلت تقول‏:‏

إذا كان داء العبد حب مليكه *** فمن دونه يرجى طبيبًا مداويا

يا أخي، إذا طردك مولاك عن بابه‏؟‏ فإلى باب من ترجع، وإلى أي طريق تذهب، وإلى أي جهة تقصد‏؟‏ لازم باب مولاك، فلعل وعسى يثمر عودك‏.‏

وأنشدوا‏:‏

حنين قلوب العارفين إلى الذكر *** وتذكارهم عن المناجاة بالسر

وأجسامهم في الأرض سكرى بحبه *** وأرواحهم في ليل حجب العلى تسرى

عباد عليهم رحمة الله أنزلت *** فظلوا عكوفًا في الفيافي وفي القفر

وراعوا نجوم الليل لا يرقدونه *** بإدمان تثبيت اليقين مع الصبر

فهذا نعيم القوم إن كنت فاهمًا *** وتعقل عن مولاك آداب من يدري

فما عرسوا لا بقرب حبيبهم *** ولا عرّجوا عن مسّ بؤس ولا ضرّ

أديرت كؤوس للمنايا عليهم *** فغفوا عن الدنيا كإعفاء ذي سكر

همومهم جالت لدى حجب العلى *** وهم أهل ودّ الله كالأنجم الزهر

فلا عيش إلا مع أناس قلوبهم *** تحنّ إلى التقوى وترتاح للذكر

ويروى عن بعض العبّاد رضي الله عنه أنه قال‏:‏ بينما أنا في الطريق أسير، وكنت صائمًا، فرأيت نهرًا جاريًا، فانغمست فيه، فإذا أنا بسفرجلة على وجه الماء، فأخذتها لأفطر عليها‏.‏

قال‏:‏ فلما أفطرت عليها ندمت، وقلت‏:‏ أفطرت على ما ليس لي، فلما أصبحت سرت، فضربت على باب البستان الذي كان النهر يخرج منه، فخرج إليّ شيخ كبير، فقلت له‏:‏ يا شيخ، إنه خرج من بستانكم هذا بالأمس سفرجلة، فأخذتها وأكلتها، وقد ندمت على ذلك، فعسى أن تجعلني في حل‏.‏

فقال لي‏:‏ أنا في هذا البستان أجير، ولي فيه منذ أربعين سنة ما ذقت من فاكهته شيئًا قط، وليس لي في البستان شيء‏.‏ قلت‏:‏ لمن هو‏:‏ قال‏:‏ لأخوين بالموضع الفلاني‏.‏

قال‏:‏ فأتيت الموضع، فوجدت أحدهما، فقصيت عليه القصة، فقال‏:‏ نصف البستان لي، وأنت حل من نصيبي في تلك السفرجلة‏.‏ فقلت له‏:‏ وأين أجد أخاك‏؟‏ قال‏:‏ بموضع كذا وكذا‏.‏

فمضيت إليه، وقصيت عليه القصة، فقال لي‏:‏ والله لا أجعلك في حل إلا بشرط‏.‏

فقلت‏:‏ وما الشرط‏؟‏ قال‏:‏ أزوّجك ابنتي وأعطيك مائة دينار‏.‏ قال له العابد‏:‏ ويحك أنا في شغل عن هذا‏.‏ أما رأيت ما أصابني لأجل سفرجلتك‏؟‏ فاجعلني في حل‏.‏ فقال له‏:‏ والله ما فعلت إلا بالشرط المذكور‏.‏

فلما رأى العابد منه الجد، امتثل، وقال افعل، فأعطاه مائة دينار، ثم قال له‏:‏ اعطني منها ما شئت مهر ابنتي، فرمى بها كلها إليه، فقال له‏:‏ لا، إلا البعض‏.‏

قال‏:‏ فزوّجه ابنته، فلامه الناس على ذلك، وقالوا له‏:‏ خطب ابنتك أرباب الدولة وكبراء الناس، ولم تعطها لهم، فكيف أعطيتها لفقير لا مال له‏؟‏ فقال لهم‏:‏ يا قوم إنما رغبت في الورع والدين، ولأن هذا الرجل من عباد الله الصالحين، رضي الله عنهم أجمعين‏.‏