فصل: الفصل الموفى عشرين

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بحر الدموع **


الفصل التاسع عشر

يا أخي، لا يبيع الباقي بالفاني إلا خاسر، وإياك والأنس بمن ترحل عنه، فتبقى كالحائر، رفيق التقوى رفيق صادق، ورفيق المعاصي غادر، مهر الآخرة يسير، قلب مخلص، ولسان ذاكر، إذا شبت ولم تنتبه، فاعلم أنك سائر، فديت أهل التهجد بلسان باك وجفن ساهر، كم لهم على باب تتجافى جنوبهم من تلمق ودمع قاطر، إذا تنسّموا نسيم السحر أغناهم عن نسيم العذيب وحناجر، عصفت بهم رواشق الاستغفار البواكر، عمروا منازل الخدمة، ومنزل الغفلة خراب داثر‏.‏

قال ذا النون المصري رضي الله عنه‏:‏ رأيت شابًا في بعض السواحل مصفرّ اللون على وجهه نور القبول، وآثار القرب وعز الأنس، فقلت‏:‏ السلام عليك يا أخي، فقال‏:‏ وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، فقلت له‏:‏ ما علامة المحبة، فقال‏:‏ التشتت في البلاد، والتهتك في العباد، وتحريم الرّقاد، وخشية البعاد‏.‏

وأنشدوا‏:‏

أبليت من أحببت يا حسن البلا *** وخصصت بالبلوى رجالًا خشعا

أحببت بلواهم وطول حنينهم *** وأطلت ضرّهم لكي يتخضعا

إخواني‏:‏ كم إلى دير المحبة من موارد ومصادر، نبهوا رواهب الشوق لتكون إليهم سائر، طلبوا منه شرابًا عتيقًا جلّ عن معاصرة العاصر، فتح لهم دنان التوله، فانفض منه رحيق التحقيق له شعاع يملأ البصائر، أدار عليهم أقداح الوجد، فحنّوا إلى المزيد حنين الذاكر، خامرهم سكر التولة، فبدا لهم كل غائب وحاضر، استزادوا من هذا الشراب الطيّب الطاهر، بذلوا فيه النفوس والأوطان والغائب والحاضر، أطربهم تلحين أهل دير المحبة، فتواجدوا تواجد كابر عن كابر، محبوبهم ساقيهم، ومجلس أنسهم منضدّ بأنواع الأزاهر، ملوك في وقت السكر، عبيد في وقت الصحوة، فهم بين غائب وحاضر‏.‏

شربة من هذا المدام رخيصة ببذل الكون والأوائل والأواخر، لا يتركه إلا سيفه ليس لتيه شقائه من آخر، اقبل نصحي وبادر قبل غلق بابه وباكر، يغنيك عن كل مطعوم ومشروب، وعن كل نسيم عاطر‏.‏

منها شرب آدم، وناح عليها نوح، ونشر زكريا بالمناشر، وعرض الخليل على النار، فما أحسّ بما هو إليه سائر، وعاجل الشوق موسى فقال‏:‏ أرني لعلي أرى المنظور في الناظر، وكم لداود منكسر وأشواق وتلحين مزامر، وهام عيسى في البراري لا يأوي على باد ولا حاضر، شربها شربًا نبينا محد صلى الله عليه وسلم يوم السبت، فألقت فيه بقيّة أوجبت المدائح والمفاخر‏.‏

لك انفتح الكون، فاختر هذا الشراب الطيب الطاهر، قطرة منها نهر الكوثر، تروى منها في ظمأ الهواجر، دارت على الصدّيق والفاروق والسعيد إلى العاشر‏.‏ اجتمعوا لشربها في الأول، واجتمعوا لشربها في الآخر، أبقوا في أدنان المعاني بقايا الكرام فعل الأكابر، صفت لأهل الصفة، فصفت بشربها السرائر‏.‏

فاخلع في شربها العذار، فما لك إن خلعت من عاذل، وإن لم تخلعه فما لك من عاذر، وزمزم وأطرب وارقص، فالكون كونك، ومحبوبك حاضر‏.‏ صن موضع السر عن سواه، وإياك والخاطر الخاطر، إن نظرت لغيره، أبعدك وما لك إن بعدت من ناصر‏.‏

يا معشر الفقراء، هذه أسماعكم، فأين من هو معي حاضر، يا أرباب الأحوال، معكم أتحدث، ولكم أصف، ولركبكم أساير، يا معشر التائبين، أما يهون عليكم بذل المعصية لنيل هذا الجوهر الفاخر، إن فاتك هذا السماع ولم تطرب، فأنت في بريّة الحرمان حائر‏.‏

قال أبو بكر الوراق رضي الله عنه‏:‏ حقيقة المحبة مشاهدة المحبوب على كل حال، فإن الاشتغال بالغير حجاب، وأصله التسليم واليقين، فإنهما يبلغان إلى درجات المتقين في جنات النعيم‏.‏

وأنشدوا‏:‏

أحبّ الصالحين ولست منهم *** وأطلب أن أنال بهم شفاعة

وأكره من بضاعته المعاصي *** ولو كنا سواء في البضاعة

ويروى عن ذي النون المصري رضي الله عنه أنه قال‏:‏ بينما أنا في بعض الفيافي والقفار، أطوف، وإذا بغلام قد انتقع لونه ونحل جسمه، يتلألأ نور الخدمة بين عينيه، وينطق آثار القبول من بين وجنتيه، وعلى وجهه سمت الطاعة والمجاهدة، وهيأة المؤانسة والمشاهدة، وعليه طمران، وعلى بدنه جبّة صوف متفتقة الأكمام والذيول، وعلى أحد كميّه مكتوب‏:‏ ‏{‏إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء36‏]‏‏.‏ وعلى الكم الآخر مكتوب‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏النور 24‏]‏‏.‏ وعلى أذيالها مكتوب‏:‏ ‏{‏وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ‏}‏ ‏[‏ق 16‏]‏‏.‏ وعلى ظهرها مكتوب‏:‏ ‏{‏يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ‏}‏ ‏[‏الحاقة 18‏]‏‏.‏

وعلى رأسه مكتوب‏:‏

حبّ مولاي بلائي *** حيث مولاي دوائي

فما رأيت أنظف من طمرين كانا عليه، فتهيأت لخطابه، ثم دنوت منه بعد ساعة، فقلت‏:‏ السلام عليك يا عبد الله، فقال‏:‏ السلام عليك يا ذا النون، فقلت له‏:‏ ومن أين عرفتني يا أخي‏؟‏‏!‏ فقال‏:‏ اطلعت حقائق الحق من ضميري على مكنون ضميرك، فشاهد صفاء معرفتك في غياهب غيوب همتك، فتناطقا وتعانقا، فعرّفني أنك ذو النون المصري‏.‏

فقلت له‏:‏ يا أخي ما هي ابتداء المحبة‏؟‏?

فقال‏:‏ الاعتبار بهذه الآية التي تراها وتسمعها، وأشار إلى المكتوبة على طمريه، فقلت له يا أخي وما انتهاء المحبة، فقال‏:‏ يا ذا النون محبوب بلا انتهاء ومحبته بانتهاء محال، فقلت له‏:‏ يا أخي الزهد في الدنيا طلب للعقبى، أم طلب للمولى‏؟‏

فقال‏:‏ يا ذا النون، الزهد في مخلوق لطلب مخلوق آخر خسران، وإنما يصلح الزهد في الدنيا المخلوقة لطلب المولى الخالق‏.‏

يا ذا النون، صغرت همة عبد رضيت من محبوب قديم بجنة مخلوقة‏.‏ إنما معنى الزهد‏:‏ التجنّب عن الأغيار، وتتبع الأخيار، ومشاهدة الآثار لوجود الملك الجبار، فمن طلب الأغيار، فمطلوبه مشهوده، ومن طلب الجبار، فمطلوبه محبوبه، فالمخلوق إذا رضي بمخلوق مثله، فالمشاكلة مقصودة‏.‏

يا أخي ذا النون‏:‏ الدّون كل الدّون والمغبون كل المغبون من هجر لذة الكرى والهوى، وأبغض طيب الدنيا، ثم رضي بدون المولى، وكدّ نفسه وهجر دنياه، رهبة أن تكون النار مثواه، أو رغبة أن تكون الجنة مأواه‏.‏

فقلت له‏:‏ يا أخي‏:‏ تصبرون في هذه الفيافي والمهالك المقحطة بلا زاد‏؟‏‏.‏

فغضب، وقال‏:‏ يا بطّال، ما هذا الاعتراض على من لم يطلعك على حاله، ولا يأتمنك على سره، أما أمرنا في حال المأكول والمشروب، فهكذا، فوكز برجله اليمنى الأرض، فإذا بعين من سمن وعسل، فأكل وأكلت معه، ثم وكز الأرض برجله اليسرى فإذا بعين من الماء أحلى من العسل، وأبرد من الثلج، فشرب وشربت معه، وردّ الرمل عليهما، فعادت الأرض كما كانت، كأن لم يكن بها شيء قط، ثم ولى عني وتركني، فبقيت باكيًا، ومما عاينت متعجبًا، رضي الله عنه ونفعنا بأمثاله‏.‏

الفصل الموفى عشرين

يا أسيرًا في قبضة الغفلة، يا صريعًا في سكرة المهلة، يا ناقض العهد، انظر لمن عاهدت في الزمن الأول، أكثر العمر قد مضى، وانت تتعلل، يا مدعوّا إلى نجاته وهو يتوانى، ما هذا الفتور والعمر قد تدانى، كأنك بالدمع يجري عند الموت هتانا‏.‏

يا أخي ما أحسن ما كنت فتغيّرت، ما أقوم جادتك، فكيف تعثرت‏؟‏ يا معاشر المطرود عن رفاق التائبين ‏{‏وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ‏}‏ ‏[‏النمل 75‏]‏‏.‏

كان بعض الأغنياء كثير الشكر فطال عليه الأمد، فبطر وعصى، فما زالت نعمته ولا تغيّرت حالته، فقال‏:‏ يا رب، تغيّرت طاعتي، وما تغيّرت نعمتي، فهتف به هاتف يقول‏:‏ يا هذا‏:‏ إن لأيام الوصال عندنا حرمة وذمام، حفظناها نحن لك، وضيّعتها أنت لنا‏.‏

وأنشدوا‏:‏

سأترك ما بيني وبينك واقفا *** فإن عدت عدنا والوداد سليم

تواصل قومًا لا وفاء بعهدهم *** وتترك مثلي والحفاظ قديم

قال رجل لحاتم الأصم رضي الله عنه‏:‏ أوصني بشيء أتصل به إلى باب الله سبحانه وتعالى، فقد عزمت على سفر الحج‏.‏

فقال‏:‏ يا أخي، إن أردت أنيسًا، فاجعل القرآن أنيسك، وإن أردت رفيقًا، فاجعل الملائكة رفقاءك، وإن أردت حبيبًا، فالله سبحانه يتولى قلوب أحبابه، وإن أردت الزاد، فاليقين بالله سبحانه وتعالى نعم الزاد، واجعل البيت قبلة وجهك، وطف بسرّك حوله‏.‏

وقال عطاء السليمي لعمر بن يزيد السلمي‏:‏ أوصني‏:‏

فقال‏:‏ يا أحمد، الدنيا بلاء في بلاء مع هوى النفس ومقارنة الشيطان، والآخرة بلاء في بلاء مع الموافقة والحساب‏.‏ فيا لها من نفوس مضمحلة فيما بينهما، فحتى متى تسهو وتلعب وملك الموت في طلبك لا يغفل عنك، والملائكة يكتبون عليك أنفاسك‏.‏

قال‏:‏ فخرّ مغشيًا عليه‏.‏

يا من صحيفته سوداء، اغسلها بالدموع، وتعرّض لمجال المتهجدين، وقل‏:‏ ضالٌ ضل عن الطريق مقطوع، وهذا مأتم الأحزان، إلى أي وقت تدّخر الدموع، هذا مجلس الشكوى، هذا وقت الرجوع‏.‏

فبادروا إخوتي، وافهموا أسرار المراد‏:‏ ‏{‏فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ‏}‏ ‏[‏غافر 44‏]‏‏.‏

وأنشدوا‏:‏

ما الذنب لي فيما مضى سالفًا *** الذنب للدهر وسوء القضا

فامنن وجد بالصفح عن مذنب *** معترف بالذنب فيما مضى

قد ظل من خوفك في حيرة *** في قلبه منك لهيب الفضا

إن كان لي ذنب فلي حرمة *** توجب لي منك جميل الرضا

ومن كتاب لوامع أنوار القلوب، قال الأصمعي‏:‏ كنت مارًا في البادية، وإذا أنا بامرأة كأنها فلقة قمر، فدنوت منها، وسلمت عليها، فأحسنت إليّ الرد، ثم قلت‏:‏ يا جارية، كلّي بكلّك مشغول، فقالت في الحال‏:‏ كلّي لكلّك مبذول، ولكن إن أعجبك حسني فانظر خلفك فإنك ترى من هي أحسن مني، فنظرت خلفي، فما رأيت أحدًا، فصرخت علي وقالت‏:‏ إليك عني يا بطّال، لما رأيتك من بعيد حسبتك عارفًا، فلما تكلمت حسبتك وامقًا، وإذا بك يا مسكين لا عارفًا ولا وامقًا، تدّعي محبتي وتنظر إلى غيري، وأنت لم تصل إلى قربي، ثم ولّت عني، ورمقت إلى السماء بطرفها، ونادت، آه‏.‏‏.‏ آه، حب الوصال شرّدني، آه آه، خوف القطيعة أزعجني، آه من الانفصال قبل الاتصال، وجعلت تقول‏:‏

حبي في ذي القفار شرّدني *** آه من الحب ثم آه

خوف فراق الحبيب أزعجني *** آه من الخوف ثم آه

شبه حالي بتاجر غرق *** نجا من البحر ثم تاه

ومن الكتاب المذكور‏:‏ قال سالم‏:‏ بينما أنا سائر مع ذي النون المصري في جبل لبنان، إذ قال مكانك يا سالم حتى أعود إليك، فغاب عني ثلاثة أيام في الجبل، وأنا أطعم نفسي من نبات الأرض، وأسقيها من غدرانها إذا طالبتني بشيء من القوت‏.‏

فلما كان بعد ثلاثة أيام، عاد إليّ وهو متغيّر اللون، ذاهب العقل‏.‏

فقلت له‏:‏ هل عارضك السبع يا أبا الفيض‏؟‏‏.‏

فقال‏:‏ دعني من تخويف البشرية، إني دخلت كهفًا من كهوف هذا الجبل، فرأيت فيه رجلًا أبيض الرأس واللحية، أشعث أغبر، نحيفًا، كأنه خرج من قبره، ذا منظر يهول وهو يصلي، فسلمت عليه فردّ عليّ السلام، وقال لي‏:‏ الصلاة، وقام إلى الصلاة، فلم يزل راكعًا ساجدًا حتى صلى العصر واستند إلى حجر كان بإزاء محرابه، وهو لا يكلمني، فبدأته الكلام، وقلت له‏:‏ يرحمك الله أوصني بشيء أنتفع به، وادع لي بدعوة‏.‏

فقال لي‏:‏ يا بني، من آنسه الله سبحانه بقربه، أعطاه أربع خصال‏:‏ عزا من غير عشيرة، وعلمًا من غير تعلّم، وغنى من غير مال، وأنسًا من غير جماعة، ثم شهق شهقة لم يفق منها إلا بعد ثلاثة أيام، حتى ظننت أنه ميّت، فلما أفاق قام وتوضأ من عين كانت إلى جنبه وسألني عما فاته من الصلاة، فأخبرته، فقضاه، ثم قال لي‏:‏

إن ذكر الحبيب هيّج قلبي *** ثم حب الحبيب أذهل عقلي

وقد استوحشت من ملاقاة المخلوقين‏.‏ وأنست بذكر رب العالمين، انصرف عني بسلام‏.‏

فقلت‏:‏ يرحمك الله، وقفت عليك ثلاثة أيام رجاء الزيادة منك‏.‏ فقال‏:‏ أحبّ مولاك ولا تحب غيره، ولا ترد بحبّه بدلا، فالمحبون لله سبحانه هم تيجان العبّاد، وأعلام الزهاد، وهم أصفياء الله وأحباؤه‏.‏

ثم صرخ صرخة ووقع فحرّكته، فإذا هو ميّت، فما كان إلا هنيهة، وإذا بجماعة من العباد قد انحدروا من الجبل فغسلوه وكفنوه وصلوا عليه ودفنوه، فسألتهم ما اسم هذا الشيخ الصالح‏؟‏ فقالوا‏:‏ شيبان المصاب‏.‏

قال سالم‏:‏ فسألت عنه أهل الشام فقالوا نعم، رجل مجنون، خرج من أذى الصبيان، فقلت لهم‏:‏ هل تعرفون من كلامه شيئًا‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم كان إذا ضجر يقول‏:‏ إذا أنا بك لم أجن سيدي فبمن أجن‏.‏ رحمه الله ونفعنا به‏.‏

الفصل الحادي والعشرون

يا أخي، لله درّ أقوام نعمّهم مولاهم بقربه، فحجبهم عن خطرات الوسواس‏.‏ حمى إقليم قلوبهم من غبار الشهوات من حمايته بحراس، قبلوا أمره بالقبول، وقاموا به على العينين والرأس، قدّموا زاد الأعمال لسفر الموت وظلمة الأرماس، يا بطّال، أبطال ميدان الدّجى لله درّهم من أبطال وأفراس، خلع عليهم خلعة الرضا، ونادهم مرحبًا بالأحباب الأكياس، ‏{‏كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ‏}‏ ‏[‏آل عمران 110‏]‏‏.‏

وأنشدوا‏:‏

أيا نفس توبي قبل أن ينكشف الغطا *** وأدعى إلى يوم النشور وأجزع

فلله عبد خائف من ذنوبه *** تكاد حشاه من أسى تتقطع

إذا جنّه الليل البهيم رأيته *** وقد قام في محرابه يتضرّع

ينادي بذل يا إلهي وسيدي*** ومن يهرب العاصي إليه ويفزع

قصدتك يا سؤلي ومالي مشفع *** سوى حسن ظني حين أرجو وأطمع

فجد لي بعفو وامح ذنبي ونجّني *** من النار يا مولى يضرّ وينفع

بهذا ينال الملك والفوز في غد *** ويجزى نعيمًا دائمًا ليس يقطع

وقف الفضل الجوهري العالم في الحرم متوجهًا إلى الكعبة وهو محرم ثم قال بأعلى صوته‏:‏

يا تلفى بحتوف المراقبة والمعرفة، يا قتلى بسيوف المؤانسة والمحبة، يا حرقى بنار الخوف والاشتياق، ويا غرقى في بحر المشاهدة والتلاق، هذه ديار المحبوب، فأين المحبون‏؟‏ هذه أسرار القرب، فأين المشتاقون‏؟‏ هذه آثار الديار والربوع فأين القاصدون‏؟‏ هذه ساعة العرض والاطلاع على الدموع فأين الباكون‏؟‏‏.‏

ثم شهق شهقة عظيمة وغشي عليه، فأفاق بعد ساعة وهو يقول‏:‏

مذ تبدى لناظري *** بلبل الشوق وخاطري

حاضر غير غائب *** ساكن في الضمائر

هو كنزي الذي بدا *** في الرسوم والدوائر

قال الراوي‏:‏ فدنوت منه وقلت له‏:‏ يا سيدي ما علامة المحبين لله‏؟‏‏.‏

قال‏:‏ إن المحبين عند ظلام الليل عند الله سبحانه وتعالى نشاطا، وبينهم وبينه انبساطًا، شغلهم الأنس بمعبودهم عن لذة الكرى، وقطعهم الشغل به عن جميع الورى، ولا يؤثرون على مناجاته منامًا، ولا يختارون على كلامه كلامًا، عرفه من عرفه، وذاقه من ذاقه، واستأنس به من استطابه‏.‏

سبحان من حكم بالفناء على الخلائق، فتساوى عنده الملوك والعبيد، تفرّد بالبقاء، وتوحّد بالقدم، وصرف أقداره في الملك بما يريد، ظهر افتقار الكل إليه، الصالح والطالح والغويّ والرشيد، ‏{‏يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ‏}‏ ‏[‏الرحمن 29‏]‏‏.‏

جواد غمر الكل عطاؤه، فأين يفر العاصي ومن يجبر الفقيد‏؟‏ كم جدّل القضاء من زعيم، وكم أدخل للحضر من طريد، ما أغفل أهل المعاصي عن قسمة العباد، فمنهم شقي ومنهم سعيد‏.‏

وأنشدوا‏:‏

إحدى وستون لو مرّت على حجر *** لكان من حكمها أن يخلَق الحجر

تؤمّل النفس آمالًا لتبلغها *** كأنها لا ترى ما يصنع القدر

قال أبو اسحاق الجبيلي‏:‏ قدمت على علي بن عبد الحميد الغضائري، فوجدته أفضل خلق الله عبادة، وأكثرهم مجاهدة، وكان لا يتفرّغ من صلاته آناء ليله ونهاره، فانتظرت فراغه‏.‏ فلم أصبه ولا وجدته‏.‏

فقلت له‏:‏ إنّا قد تركنا الآباء والأمهات والأهلين والأوطان والبنين والبنات بالراحلة إليك، فلو تفرّغت ساعة تحدثنا بما آتاك الله من العلم‏.‏

فقال‏:‏ أدركني دعاء الشيخ الصالح سريّ السّقطي رضي الله عنه، جئت إليه وقرعت عليه الباب، فسمعته يقول قبل أن يخرج إليّ مناجيًا‏:‏ اللهم من جاءني يشغلني عن مناجاتك، فأشغله بك عني، فما رجعت من عنده، حتى حبّبت إليّ الصلاة والشغل بذكر الله تعالى، فلا أتفرّغ إلى شيء سواه، ببركة ذلك الشيخ‏.‏

قال أبو اسحاق‏:‏ فرأيت كلامه يخرج من قلب حزين، وهم كمين، والدمع يسابقه رضي الله عنه‏.‏

سبحان من ألّف بحكمته بين لطائف الأرواح، وكثائف الأشباح، جعل الليل والنهار جناحي الأعمال، يطيران للفناء بلا ريش ولا جناح، سقى أرواح المحبين شراب المحبة، فلله ما أحلاه من راح، غنى لهم في مجلس أنسهم معبد الوجد، فشربوا بالدّنان، لا بالأقداح، زيّنوا روضة الدجى بأزهار التهجد، واصطبحوا على الأذكار أي اصطباح، فهم بين صبوح وغبوق وبين ريحان وراح، قلوبهم في قالب الابتلاء، تنادي بلسان تصبّرهم‏:‏ لا براح‏.‏ خلع عليهم خلعة الرضا، وأجلسهم بين أفراح من الشوق وافتراح‏.‏ انظروا إلى الكون، فما رأوا سواه، فليس عليهم في هيمانهم جناح‏.‏ غشي بصائرهم نور معرفته، فترنّم عارفهم بألسنة من التوحيد، فصاح‏.‏

وأنشدوا‏:‏

يا أعز الناس عندي *** كيف حتى خنت عهدي

سوف أشكو لك حالي *** فعسى شكواي تجدي

أنت مولاي تراني *** ودموعي فوق خدي

أقطع الليل أقاسي *** ما أقاسي فيه وحدي

قال ذو النون المصري رضي الله عنه‏:‏ عطشت في بعض أسفاري عطشا شديدًا، فعدلت إلى بعض السواحل أريد الماء، فإذا أنا بشخص قد ائتزر بالحياء والاحسان، وتدرّع بدراع البكاء والأحزان، قائم على ساحل البحر يصلي، فلما سلّم دنوت منه، وسلمت عليه قال‏:‏ وعليك السلام يا ذا النون‏.‏

قال‏:‏ فقلت له‏:‏ يرحمك الله، من أين عرفتني‏؟‏‏!‏‏.‏

قال‏:‏ اطّلع شعاع أنوار المعرفة من قلبي على صفاء نور المحبة من قلبك، فعرفت روحي روحك بحقائق الأسرار، وألف سريّ سرّك في محبة العزيز الجبار‏.‏

قال‏:‏ فقلت‏:‏ ما أراك إلا وحيدا‏!‏‏.‏

قال‏:‏ ما الأنس بغير الله إلا وحشة، وما التوكل بغيره إلا ذل‏.‏

فقلت له‏:‏ أما تنظر إلى تغطغط هذا البحر، وتلاطم هذه الأمواج‏؟‏‏.‏

فقال‏:‏ ما بك من العطش أكثر من ذلك‏.‏

فقلت‏:‏ نعم، فدلني على الماء بقرب منه فشربت، ورجعت إليه، فوجدته يبكي بشهيق وزفير‏.‏

فقلت له‏:‏ يرحمك الله، ما يبكيك‏؟‏ّ‏.‏

فقال‏:‏ يا أبا الفيض، إن لله عبادًا سقاهم بكأس محبته شربة أذهبت عنهم لذة الكرى‏.‏

قال‏:‏ فقلت له‏:‏ دلني على أهل ولاية الله يرحمك الله‏.‏

قال‏:‏ هم الذين أخلصوا في الخدمة، فاستخصّوا بالولاية، وراقبوا مولاهم، ففتح لهم في نور القلوب‏.‏

قال‏:‏ فقلت له‏:‏ ما علامة المحبة‏؟‏‏.‏

فقال‏:‏ المحب لله غريق في بحر الحزن إلى قرار التحيّر‏.‏

قال‏:‏ فقلت له‏:‏ ما علامة المعرفة‏؟‏‏.‏

قال‏:‏ العارف بالله لم يطلب مع معرفته جنّة، ولا يستعيذ من نار، فعرفه له ولم يعظم سواه معه‏.‏

ثم شهق شهقة عظيمة، فخرجت روحه، فواريته في الموضع الذي مات فيه، وانصرفت عنه، رحمه الله ونفعنا ببركاته‏.‏

الفصل الثاني والعشرون

يا أخي لا تغسل أدناس الذنوب إلا بماء المدامع، لا ينجو من قتار المعصية إلا من يسارع، أحضر قلبك ساعة، عساه بنائحة الموعظة يراجع، كم لي أتلو عليك صحف الموعظة، وما أظنك سامع‏.‏

لكن يوم المعصية ما أنحسه من طالع، ويوم الطاعة مختار وكل سعد فيه طالع، أطلب، ويحك، رفاق التائبين، وجدد رسائلك للحبيب وطالع، مصباح التقوى يدل على الجادة، وكم في ظلمة الغفلة من قاطع، ابك، ويحك، على موت قلبك وعمى بصيرتك، وكثرة الموانع‏.‏ إذا لم يعظك الدهر والشيب والضعف، فما أنت صانع، فبالله يا إخواني بادروا بالمتاب، وراجعوا أنفسكم قبل يوم الحساب‏.‏

ما اعتذاري وأمر ربي عصيت *** حين تبدي صحائفي ما أتيت

ما اعتذاري إذا وقفت ذليلا *** قد نهاني ما أراني انتهيت

يا غنيًا عن العباد جميعًا *** وعليمًا بكل ما قد سعيت

ليس لي حجة ولا لي عذر *** فاعف عن زلتي وما قد جنيت

قال علي بن يحيى في كتاب لوامع أنوار القلوب‏:‏ صحبت شيخًا من عسقلان سريع الدمعة، حسن الخدمة، كامل الأدب، متهجدًا بالليل متنسكًا في النهار، وكنت أسمع أكثر دعائه الاعتذار والاستغفار، فدخل يومًا في بعض كهوف جبل اللكام وغيرانه، فلما أمسى رأيت أهل الجبل وأصحاب الصوامع يهرولون إليه، ويتبركون بدعائه، فلما أصبح وعزم على الخروج، قام أحدهم، وقال‏:‏ عظني، قال‏:‏ عليك بالاعتذار، فإنه إن قبل عذرك وفزت بالمغفرة، سلك بك إلى درجات المقامات، فوجدتها أمانيك، ثم بكى وشهق وخرج من الموضع، فلم يلبث إلا قليلًا حتى مات‏.‏

قال‏:‏ فرأيته في المنام، فقلت له‏:‏ ما فعل الله بك‏؟‏ فقال‏:‏ حبيبي أكرم من إن يعتذر إليه مذنب، فيخيب ظنه ولم يقبل عذره‏.‏ قبل الله عذري وغفر ذنبي، وشفّعني في أصحاب اللكام‏.‏

لا شيء أعظم من ذنبي سوى أملي *** في حسن عفوك عن جرمي وعن عملي

فإن يكن ذا وذا فالذنب قد عظما *** فأنت أعظم من ذنبي ومن زللي

ويروى عن يوسف بن عاصم أنه ذكر له عن حاتم الأصم أنه كان يتكلم على الناس في الزهد، والاخلاص، فقال يوسف لأصحابه‏:‏ اذهبوا بنا إليه نسأله عن صلاته إن كان يكملها، وإن لم يكن يكملها، نهيناه عن ذلك‏.‏

قال‏:‏ فأتوه وقال له يوسف‏:‏ يا حاتم، جئنا نسألك عن صلاتك، فقال له حاتم‏:‏ عن أي شيء تسألني عافاك الله‏؟‏ عن معرفتها أو عن تأديتها‏؟‏

فالتفت يوسف إلى أصحابه، وقال لهم‏:‏ زادنا حاتم ما لم نحسن أن نسأله عنه‏.‏ ثم قال لحاتم‏:‏ نبدأ بتأديتها‏.‏

فقال لهم‏:‏ تقوم بالأمر‏.‏ وتقف بالاحتساب وتدخل بالسنة، وتكبّر بالتعظيم، وتقرأ بالترتيل، وتركع بالخشوع، وتسجد بالخضوع، وترفع بالسكينة، وتتشهد بالاخلاص، وتسلم بالرحمة‏.‏

قال يوسف‏:‏ هذا التأديب فما المعرفة‏؟‏‏.‏

قال‏:‏ إذا قمت إليها فاعلم أن الله مقبل عليك، فأقبل على من هو مقبل عليك، واعلم أن جهة التصديق لقلبك، أنه قريب منك، قادر عليك، فإذا ركعت‏:‏ فلا تؤمّل أن تقوم‏.‏ ومثل الجنة عن يمينك، والنار عن يسارك، والصراط تحت قدميك، فإذا فعلت فأنت مصل‏.‏ فالتفت يوسف إلى أصحابه، وقال‏:‏ قوموا نعيد الصلاة التي مضت من أعمارنا‏.‏

يا من مات قلبه، أي شيء تنفع حياة البدن إذا لم تفرّق بين القبيح والحسن‏.‏

سلبك المشيب من الشباب، فأين البكاء، وأين الحزن‏؟‏ إذا كان القلب خرابًا من التقوى، فما ينفع البكاء في الدّمن‏.‏ يا قتيل الهجران، هذا أوان الصلح بادر عسى يزول الحون‏.‏

وقال عاصم بن محمد في كتاب لوامع أنوار القلوب‏:‏ كان لي معامل يهودي، فرأيته بمكة متضرعًا مبتهلًا فأعجبني حسن إسلامه‏.‏ فسألته عن سبب إسلامه‏.‏

فقال‏:‏ تقدّمت إلى أبي اسحاق إبراهيم الآجري النيسابوري، وهو يوقد في تنّور الآجر، أطلب دينا كان لي عليه، فقال لي‏:‏ أسلم، واحذر نارًا وقودها الناس والحجارة، فقلت‏:‏ لا بأس عليك يا أبا اسحاق، فأنت أيضًا فيها‏.‏ قال‏:‏ فعسى تعني قوله سبحانه ‏{‏وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا‏}‏ ‏[‏مريم 71‏]‏‏.‏ فقلت‏:‏ نعم‏.‏ فقال لي‏:‏ أعطني ثوبك، فأعطيته ثوبي، ثم لف ثوبي في ثوبه، ثم رمى بهما في التنور، وصبر ساعة طويلة ثم قام واجدًا شاهقا، باكيًا ودخل في الأتون، يعني مستوقد النار وهي تتأجج لهيبًا وزفيرًا، وأخذ الثياب من وسط النار، وخرج على الباب الآخر، فهالني ذلك من فعله، فهرولت إليه متعجبًا، وإذا بالرزمة صحيحة كما كانت، فحلها، وإذا بثيابي قد احترقت كأنها فحمة في وسط ثيابه، وثيابه صحيحة لم تمسها النار‏.‏

ثم قال‏:‏ يا مسكين، هكذا يكون ‏{‏وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا‏}‏ ‏[‏مريم 71‏]‏‏.‏

فأسلمت على يديه في الحال، وهذا ما رأيت من أحوال الرجال‏.‏

لله درّ قوم ملأ قلوبهم بأنوار الحكمة والرشاد، حرّك ساكنًا وجدهم، فتمايلهم كالغصن الميّاد، صفت زجاجة أرواحهم ورقّ لهم شراب وجدهم، وطاب لهم سماع الإنشاد‏.‏

إدرأ عليهم حميًا الحماية، فألفت عيونهم السهاد، فمنهم سكران ونشوان، وكل أيامكم هم بمحبوبهم أعياد‏.‏

مدّ عليهم أطناب ليل الخلوة غيرة من رقيب الرقاد، فهم يتشاكون الشواق بنفس تلف في محبة أو كاد‏.‏

والمحروم نهاره في الشقا وليله في النوم، وعمره في نفاد ركب مركب القضاء للمحنة، ففي أصل تركيبة فساد‏.‏ ضيّع أيامه في الغفلة، وفي الكبر يبكي على فائت لا يعاد‏.‏

فيا معشر المذنبين جدّوا قبل الرحيل عن الأجساد‏.‏

قال يوسف بن الحسن‏:‏ كنت أسير في طريق الشام، إذ عرض لي عارض، فعدلت عن الطريق فهالتني المفازة، فبدت لي صومعة، فدنوت منها، وإذا براهب فيها قد أخرج رأسه منها، فأنست به، فلما دنوت منه، قال لي‏:‏ يا هذا، أتريد موضع صاحبكم‏؟‏‏.‏

قال‏:‏ رجل في هذا الوادي على دينكم، متخل عن فتنة الأقران، منفرد بنفسه في ذلك المكان، واشوقاه إلى حديثه‏!‏‏.‏

فقلت له‏:‏ وما الذي يمنعك عنه، وأنت على قرب منه‏؟‏‏.‏

فقال‏:‏ أصحابي أقعدوني في هذا الموضع، وأنا أخشى على نفسي القتل منهم، ولكن إذا مضيت إليه فأقرئه مني السلام، واسأله لي في الدعاء‏.‏

قال‏:‏ فمضيت إليه، وإذا برجل قد اجتمعت إليه الوحوش، فلما رآني قرب مني وكنت أسمع جلبة عظيمة للقوم، ولا أرى أحدًا منهم، فسمعت قائلًا يقول‏:‏ من هذا البطال الذي وطيء محل العاملين‏؟‏‏.‏

فرأيت رجلًا منكّسا رأسه مسترسلًا في كلامه، تعلوه هيبة ووقار شديد‏.‏ فسمعته يقول‏:‏ لك الحمد على ما وهبت من معرفتك، وخصصتني به من محبتك، لك الحمد على آلائك، وعلى جميع بلائك‏.‏ اللهم ارفع درجتي إلى درجات الأبرار للرضا بحكمك، وانقلني إلى درجة الأخيار‏.‏

ثم صاح صيحة عظيمة، ثم قال‏:‏ آه من لي بهم، وخرّ مغشيًا عليه، فلم يتحرّك لساني هيبة له، فلما أفاق من غشيته، قال لي‏:‏ سر زودّك الله التقوى، وسار عني وتركني‏.‏

نفعنا الله به، وبأمثاله‏.‏‏.‏‏.‏ آمين‏.‏

الفصل الثالث والعشرون

يا من سوّف بالمتاب حتى شاب، يا من ضيّع في الغفلة أيام الشباب، يا مطرودًا بذنوبه عن الباب، إذا كنت في الشباب غافلًا، في المشيب مسوّفًا، متى تقف بالباب‏؟‏ كم عوملت على الوفاء‏؟‏ ما هكذا فعل الأحباب، الظاهر منك عامر، والباطن ويحك، خراب، كم عصيان كم مخالفة، كم رياء‏,‏ كم حجاب‏؟‏ ولّى طيب العمر في الخطايا، يا ترى تعود إلى الصواب‏؟‏‏.‏

ما بعد الشيب لهو، كيف يجمل بالشيخ التصاب‏؟‏ أنت لو قدمت في متقادم عمرك الطاعة، لخفف عنك الحساب‏.‏ كيف والعمر ولى في الغفلة وفي طلب الأسباب‏؟‏ إذا أنذرك المشيب بالرحلة، ولم تقدّم الزاد ماذا يكون الجواب‏.‏

ليت شعري أهل المعاصي كيف عيشهم يطيب ‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ‏}‏ ‏[‏سبأ 51‏]‏‏.‏

يروى أن محمد بن واسع رأى شبابًا في المسجد، قد خاضوا في بحر الغيبة والضلالة، فقال لهم‏:‏ أيجمل بأحدكم أن يكون له حبيب، فيخالفه ليفوز به غيره‏؟‏ فقالوا‏:‏ لا‏.‏ فقال‏:‏ أنتم قعود في بيت الله تخالفون أمره، وتغتابون الناس‏.‏ فقالوا‏:‏ قد تبنا‏.‏ فقال‏:‏ يا أولادي، هو ربكم وحبيبكم، وإذا عصيتموه، وأطاعه غيركم، خسرتموه‏.‏ وربحه غيركم، أفلا يضرّكم ذلك‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم‏.‏ فقال‏:‏ ومن خالفه، وربما يعاقبه لو عاقبه، أفلا تغيرون على شبابكم كيف يعاقب بالنار والعذاب وغيركم يفوز بالجنة والثواب‏.‏ قالوا‏:‏ نعم وحسن رجوعهم إلى الله تعالى‏.‏

وأنشوا‏:‏

ألا فاسلك إلى المولى سبيلا *** ولا تطلب سوى التقوى دليلا

وسر فيها بجد وانتهاض *** تجد فيها المنى عرضًا وطولا

ولا تركن إلى الدنيا وعوّل *** على مولاك واجعله وكيلا

وإن أحببت أن تعتزّ عزًا *** يدوم فكن له عبدًا ذليلا

وواصل من أناب إليه واقطع *** وصال المسرفين تكن نبيلا

ولا تفني شبابك واغتنمه *** ومثل بين عينيك الرحيلا

ولا تصل الدنيا واهجر بنيها *** على طبقاتهم هجرًا جميلا

وعامل فيهم المولى بصدق *** يضع لك في قلوبهم القبولا

ومن كتاب أنس المريدين وقدوة الزاهدين‏:‏ قال يزيد بن الحباب‏:‏ مررت بحمدونه المجنونة وهي قاعدة على قارعة الطريق وعليها جبّة صوف مكتوب بين كتفيها، بمداد هذا البيت المفرد‏:‏

سلب الرقاد عن الجفون تشوقي *** فمتى اللقا يا وارث الأموات

قال‏:‏ فسلمت عليها، فردت السلام، فقالت‏:‏ ألست أنت يزيد بن الحباب‏؟‏ قلت‏:‏ لها، نعم، فبم عرفتيني‏؟‏‏!‏ قالت‏:‏ اتصلت المعرفة في الأسرار، فعرفتك بتعريف الملك الجبار، ثم قالت‏:‏ أسألك‏.‏ قلت‏:‏ أسألي‏.‏ قالت‏:‏ ما هو السخاء في الدين‏؟‏ قلت لها‏:‏ المسارعة إلى طاعة المولى‏.‏ قالت‏:‏ يا يزيد‏.‏ آه آه، ليس هذا مسارعة، إنما المسارعة إلى طاعة الله أن لا يطلع على قلبك وأنت تريد منه شيئًا بشيء، ثم أنشأت تقول هذين البيتين‏:‏

حسب من الحبيب بعلمه *** أن المحب ببابه مطروح

فإذا تقلب في الدنا ففؤاده *** بسهام لوعات الهوى مجروح

ويروى عن الحسن البصري رضي الله عنه أنه قرأ ‏{‏وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة 281‏]‏، فقال‏:‏ هذه موعظة وعظ الله بها المسلمين، وذلك أن الحور العين تقول لولي الله، وهو متكئ على نهر العسل وهي تعطيه الكأس، وهما في سرور ونعيم‏:‏ أتدري يا حبيب الله متى زوجنيك الله ربي‏؟‏ فيقول‏:‏ لاأدري‏.‏ فتقول‏:‏ نظر إليك في يوم صائف بعيد ما بين الطرفين وأنت في ظمأ الهواجر، فتباهى بك الملائكة، وقال‏:‏ أنظروا يا ملائكتي إلى عبدي، ترك شهوته ولذته، وزوجته وطعامه وشرابه رغبة فيما عندي، أشهدكم أني قد غفرت له، فغفر لك يومئذ وزوجنيك‏.‏

لله درّ أقوام لاطفهم بأنسه، فتقرّبوا إليه بقلب سليم، أذاقهم حلاوة مناجاته، فكل منهم بحبه يهيم، أسكن قلوبهم حبه، فليلهم بالأشواق ليل سليم، طهرها من الهوى، فحب الدنيا عنها راحل، وحب الآخرة مقيم على كل حال لا يعرفون سواه، فأهلا به من تنعّم، وأهلا به من نعيم‏.‏

للصالحين كرامات وأسرار *** لهم من الله تخصيص وآثار

صفت قلوبهم لله واتصفت *** بالصدق واكتنفت بالنور أنوار

واستغرقت كل وقت من زمانهم *** في طاعة الله أوراد وأذكار

صاموا النهار وقاموا الليل ما سئموا *** حتى تعرّفت على الظلماء أسحار

خلو به وراق الليل منسدل *** حتى لهم قد تجلت منه أنوار

طوبى لهم فلقد طابت حياتهم *** وشرّفت لهم في الناس أقدار

فازوا من الله بالزلفى وأسكنهم *** جنات عدن فنعم الدار والجار

ويروى عن إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه أنه كان على بعض جبال مكة يحدّث أصحابه، فقال‏:‏ لو أن وليًا من أولياء الله تعالى قال لهذا الجبل‏:‏ زل، لزال فتحرّك الجبل، فضربه إبراهيم برجله، وقال له اسكن، إنما ضربتك مثلًا لأصحابي‏.‏

وروي عنه أيضا أنه ركب البحر فتحرك ريح عاصف فوضع إبراهيم رأسه ونام، فقال أصحابه‏:‏ أما ترى ما نحن فيه من الشدة، فقال‏:‏ أوهذه شدة‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم، قال‏:‏ لا، وإنما الشدة الحاجة للناس، ثم قال‏:‏ إلهي، أريتنا قدرتك، فأرنا عفوك، فصار البحر كأنه قدح زيت‏.‏

وعنه أيضًا أنه كان في بعض الطرق مع أصحابه، فتعرّض لهم أسد، فقال له أصحابه‏:‏ يا إبراهيم، هذا السبُع قد ظهر لنا، فقال‏:‏ أرونيه، فلما نظر إليه إبراهيم، قال‏:‏ يا قسورة، إن كنت أمرت فينا بشيء فامض لما أمرت به، وإلا فتنحّ عنا‏.‏

قال‏:‏ فضرب الأسد بذنبه، وولى هاربًا، فتعجبنا منه حين فقه كلام إبراهيم، رضي الله عنه ونفعنا به‏.‏

الفصل الرابع والعشرون

يا راحلًا بلا زاد والسفر بعيد، العين جامدة والقلب أقسى من الحديد‏.‏ من أولى منك بالضراء وأنت تغرق في بحر المعاصي في كل يوم جديد‏.‏ ما أيقظك الشباب ولا أنذرك الاكتهال، ولا نهاك المشيب، ما أرى صلاحك إلا بعيد، فديت أهل العزائم، لقد نالوا من الفضل المزيد، طووا فراش النوم، فلهم بكاء وتعديد، دموعهم تجري على خدودهم، خدّدت في الخدود أي تخديد، ما أنت من أهل المحبة ولا من العشاق يا قليل الهمة يا طريد‏.‏

لأمر ما تغيرا الليالي *** وأنت على البطالة لا تبالي

تبيت منعّمًا في خفض عيش *** وتصبح في هواك رخيّ بال

ألم تر أن أثقال الخطايا *** على كتفيك أمثال الجبال

أتكسب ما اكتسبت ولا تبالي *** هل هو من حرام أو من حلال

اذا ما كنت في الدنيا بصيرًا *** كففت النفس عن طرق الضلال

ألا بأبي خليل بات يحيى *** طويل الليل بالسبع الطوال

بقلب لا يفيق عن اضطراب *** وجفن لا يكف عن انهمال

أرى الأيام تنقلنا وشيكًا *** إلى الأجداث حالًا بعد حال

سأقنع ما حييت بشطر بر *** أشيّعه بريّ من زلال

إذا كان المصير إلى هلاك *** فما لي والتنعّم ثم ما لي

أما لي عبرة فيمن تفانى *** على الأيام من عم وخال

كأنِ بنسوتي قد قمن خلفي *** ونعشي فوق أعناق الرجال

يعجلن المسير ولست أدري *** لدار الفوز أم دار النكال

يبيد الكل منا دون شك *** ويبقى الله بري ذو الجلال

يروى عن رجل من أصحاب داود الطائي أنه قال‏:‏ دخلت على داود، فقال لي‏:‏ ما حاجتك‏؟‏ قلت‏:‏ زيارتك، فقال‏:‏ أما أنت، فقد عملت خيرًا حين زرتنا، ولكن انظر ما ينزل بي إذا قيل لي‏:‏ من أنت فتزار، أمن العبّاد أنت‏؟‏ لا والله‏.‏ أمن الزهاد أنت‏؟‏ لا والله، ثم أقبل يوبّخ نفسه ويقول‏:‏ كنت في الشباب فاسقًا، وفي الكهولة مداهنًا، فلما شخت صرت مرائيًا‏.‏ لا والله، ألا المرائي أشد من الفاسق، وجعل يقول‏:‏ يا إله السماوات والأرض، هب لي رحمة من عندك تصلح شبابي وتقيني من كل سوء، وتعلى في أعلى مقامات الصالحين مكاني‏.‏

اسمع يا أخي مقامات الرجال، وكرامات ذوي الأحوال، الذين اختصهم مولاهم وحباهم بالأفضال‏.‏

وعن عبد الله بن عبد الرحمن قال‏:‏ حج سفيان الثوري مع شيبان الراعي، فعرض لهم أسد في بعض الطرق، فقال له سفيان‏:‏ أم ترى كيف قطع علينا الطريق، وأخاف الناس‏.‏ قال شيبان‏:‏ لا تخف، فلما سمع الأسد كلام شيبان، بصبص إليه، وأخذ شيبان بأذنه وفركها، فبصبص وحرك ذنبه وولى هاربا، فقال سفيان‏:‏ ما هذه الشهرة يا شيبان‏؟‏ قال‏:‏ أو هذه شهرة يا سفيان‏؟‏ لولا مكان الشهرة لوضعت زادي على ظهره حتى أتيت مكة‏.‏

يروى عن عبد الرحمن بن أبي عباد المكّي أنه قال‏:‏ قدم علينا شيخ يكنى بأبي عبد الله‏.‏ قال‏:‏ أقبلت في السحر إلى بئر زمزم، وإذا بشيخ قد سدل ثوبه على وجهه، وأتى البئر واستسقى، قال‏:‏ فقمت إلى فضلته، فشربت منها‏.‏ فإذا هو ماء مضروب بعسل لم أذق ماء أطيب منه‏.‏ فالتفتّ فإذا بالشيخ قد ذهب، فلما كان في السحر في الليلة الثانية أتيت البئر وإذا بالشيخ دخل من باب المسجد قد سدل ثوبه على وجهه، فأتى البئر واستسقى، فشرب وخرج، فقمت إلى فضلته، فإذا هو سويق ألذ ما يكون، فلما كان في الليلة الثالثة، أتى البئر أيضًا، واستسقى‏.‏ فأخذت طرف ملحفته، ولففته على يدي، ثم شربت فضلته، فإذا هو لبن مضروب بسكر لم أذق قط أطيب منه، فقلت يا شيخ، بحق هذا البيت عليك، من أنت‏؟‏ قال‏:‏ تكتم عليّ‏.‏ قلت‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ سفيان الثوري‏.‏

لله درّ أقوام أفناهم شهوده عن وجودهم، فحالهم لشوقه مستديم، أقطعهم إقليم الكرى ما أبعده من إقليم، حماهم عن الأغيار غيرة عليهم، وخلع عليهم حلل الرضا والتسليم، سقاهم مدام الإلهام، فيا له من مدام، ويا له من نديم، أسبل على المعاصي ستره، ليعود إلى بابه الكريم، تقرّب برحمته للمذنبين، ليسكن روع المفلس من الطاعة العديم، أرسل إليه رسائل اللطف على يدي رسول كريم‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ‏}‏ ‏[‏الزمر 53‏]‏‏.‏

وأنشدوا‏:‏

ألا قف بباب الجود واقرعه نادمًا *** تجده متى جئته غير مرتج

وقل عبد سوء خوّفته ذنوبه *** فمدّ إليكم ضارعًا كف مرتجي

ويروى عن أبي ريحانة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ركب البحر، فكان يخيط في السفينة، فسقطت إبرته، فقال‏:‏ أعزم عليك يا ربّ إلا رددت عليّ إبرتي، فظهرت له حتى أخذها بيده‏.‏

قال‏:‏ واشتد عليهم البحر، فقال له‏:‏ اسكن، إنما أنت عبد حبشيّ، فسكن حتى صار مثل الزيت، رضي الله عنه، ونفعنا ببركاته‏.‏