فصل: فصل آدَاب الْوُضُوءِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع ***


مبحث الْأُذُنَيْنِ

وَمِنْهَا أَنْ يَمْسَحَ الْأُذُنَيْنِ ظَاهِرَهُمَا وَبَاطِنَهُمَا بِمَاءِ الرَّأْسِ وقال الشَّافِعِيُّ السُّنَّةُ أَنْ يَأْخُذَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَاءً جَدِيدًا وَجْهُ قَوْلِهِ إنهما عُضْوَانِ مُنْفَرِدَانِ وَلَيْسَا من الرَّأْسِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا أَمَّا الْحَقِيقَةُ فإن الرَّأْسَ مَنْبَتُ الشَّعْرِ وَلَا شَعْرَ عَلَيْهِمَا وَأَمَّا الْحُكْمُ فَلِأَنَّ الْمَسْحَ عَلَيْهِمَا لَا يَنُوبُ عن مَسْحِ الرَّأْسِ كَسَائِرِ أَجْزَاءِ الرَّأْسِ وَلَنَا ما رُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَسَحَ أُذُنَيْهِ بِمَاءٍ مَسَحَ بِهِ رَأْسَهُ وَرُوِيَ عن أَنَسِ بن مَالِكٍ رضي اللَّهُ عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال الْأُذُنَانِ من الرَّأْسِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ ما أَرَادَ بِهِ بَيَانَ الْخِلْقَةِ بَلْ بَيَانَ الْحُكْمِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَنُوبُ الْمَسْحُ عَلَيْهِمَا عن مَسْحِ الرَّأْسِ لِأَنَّ وُجُوبَ مَسْحِ الرَّأْسِ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ وَكَوْنُ الْأُذُنَيْنِ من الرَّأْسِ ثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَأَنَّهُ يُوجِبُ الْعَمَلَ دُونَ الْعِلْمِ فَلَوْ نَابَ الْمَسْحُ عَلَيْهِمَا عن مَسْحِ الرَّأْسِ لَجَعَلْنَاهُمَا من الرَّأْسِ قَطْعًا وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَصَارَ هذا كَقَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلم الْحَطِيمُ من الْبَيْتِ فَالْحَدِيثُ يُفِيدُ كَوْنَ الْحَطِيمِ من الْبَيْتِ حتى يُطَافَ بِهِ كما يُطَافُ بِالْبَيْتِ ثُمَّ لَا يَجُوزُ أَدَاءُ الصَّلَاةِ إلَيْهِ لِأَنَّ وُجُوبَ الصَّلَاةِ إلَى الْكَعْبَةِ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ وَكَوْنُ الْحَطِيمِ من الْبَيْتِ ثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْعَمَلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ إنَّمَا يَجِبُ إذَا لم يَتَضَمَّنْ إبْطَالَ الْعَمَلِ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ وأما إذَا تَضَمَّنَ فَلَا كَذَلِكَ هَهُنَا وَأَمَّا تَخْلِيلُ اللِّحْيَةِ فَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ من الْآدَابِ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ سُنَّةٌ هَكَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ في كِتَابِ الْآثَارِ لِأَبِي يُوسُفَ ما رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ في لِحْيَتِهِ كَأَنَّهَا أَسْنَانُ الْمِشْطِ وَلَهُمَا أَنَّ الَّذِينَ حَكَوْا وُضُوءَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ما خَلَّلُوا لِحَاهُمْ وما رَوَاهُ أبو يُوسُفَ فَهُوَ حِكَايَةُ فِعْلِهِ ذلك اتِّفَاقًا لَا بِطَرِيقِ الْمُوَاظَبَةِ وَهَذَا لَا يَدُلُّ على السُّنَّة‏.‏

مبحث مَسْحِ الرَّقَبَةِ

وَأَمَّا مَسْحُ الرَّقَبَةِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه قال أبو بَكْرٍ الْأَعْمَشُ أنه سُنَّةٌ وقال أبو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ أنه أَدَبٌ‏.‏

فصل آدَاب الْوُضُوءِ

وَأَمَّا آدَابُ الْوُضُوءِ فَمِنْهَا أَنْ لَا يَسْتَعِينَ المتوضىء ‏(‏المتوضئ‏)‏‏]‏ على وُضُوئِهِ بِأَحَدٍ لِمَا رُوِيَ عن أبي الْجَنُوبِ أَنَّهُ قال رأيت عَلِيًّا يَسْتَقِي ماءا ‏[‏ماء‏]‏ لِوُضُوئِهِ فَبَادَرْتُ أَسْتَقِي له فقال مَهْ يا أَبَا الْجَنُوبِ فَإِنِّي رأيت عُمَرَ يَسْتَقِي مَاءً لِوُضُوئِهِ فَبَادَرْتُ أَسْتَقِي له فقال مَهْ يا أَبَا الْحَسَنِ فَإِنِّي رأيت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَقِي مَاءً لِوُضُوئِهِ فَبَادَرْتُ أَسْتَقِي له فقال مَهْ يا عُمَرُ إنِّي لَا أُرِيدُ أَنْ يُعِينَنِي على صَلَاتِي أَحَدٌ وَمِنْهَا أَنْ لَا يُسْرِفَ في الْوُضُوءِ وَلَا يُقَتِّرَ وَالْأَدَبُ فِيمَا بين الْإِسْرَافِ وَالتَّقْتِيرِ إذْ الْحَقُّ بين الْغُلُوِّ وَالتَّقْصِيرِ قال النبي صلى الله عليه وسلم خَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا وَمِنْهَا دَلْكُ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ خُصُوصًا في الشِّتَاءِ لِأَنَّ الْمَاءَ يَتَجَافَى عن الْأَعْضَاءِ وَمِنْهَا أَنْ يَدْعُوَ عِنْدَ كل فِعْلٍ من أَفْعَالِ الْوُضُوءِ بِالدَّعَوَاتِ الْمَأْثُورَةِ الْمَعْرُوفَةِ وَأَنْ يَشْرَبَ فَضْلَ وُضُوئِهِ قَائِمًا إذَا لم يَكُنْ صَائِمًا ثُمَّ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ وَيَقُولَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَيَمْلَأَ الْآنِيَةَ عِدَّةً لِوُضُوءٍ آخَرَ وَيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ لِأَنَّ كُلَّ ذلك مِمَّا وَرَدَ في الْأَخْبَارِ أَنَّهُ فَعَلَهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَلَكِنْ لم يُوَاظِبْ عليه وَهَذَا هو الْفَرْقُ بين السُّنَّةِ وَالْأَدَبِ أَنَّ السُّنَّةَ ما وَاظَبَ عليه رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ولم يَتْرُكْهُ إلَّا مَرَّةً أو مَرَّتَيْنِ لِمَعْنًى من الْمَعَانِي وَالْأَدَبُ ما فَعَلَهُ مَرَّةً أو مَرَّتَيْنِ ولم يُوَاظِبْ عليه‏.‏

فصل بَيَانِ ما يَنْقُضُ الْوُضُوءَ

وَأَمَّا بَيَانُ ما يَنْقُضُ الْوُضُوءَ فَاَلَّذِي يَنْقُضُهُ الْحَدَثُ وَالْكَلَامُ في الْحَدَثِ في الْأَصْلِ في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في بَيَانِ مَاهِيَّتِه وَالثَّانِي في بَيَانِ حُكْمِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْحَدَثُ نَوْعَانِ حَقِيقِيٌّ وَحُكْمِيٌّ أَمَّا الْحَقِيقِيُّ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فيه قال أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ هو خُرُوجُ النَّجَسِ من الْآدَمِيِّ الْحَيِّ سَوَاءٌ كان من السَّبِيلَيْنِ الدُّبُرِ وَالذَّكَرِ أو فَرْجِ الْمَرْأَةِ أو من غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ الْجُرْحِ وَالْقُرْحِ وَالْأَنْفِ والفم من الدَّمِ وَالْقَيْحِ وَالرُّعَافِ وَالْقَيْءِ وَسَوَاءٌ كان الْخَارِجُ من السَّبِيلَيْنِ مُعْتَادًا كَالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَالْمَنِيِّ وَالْمَذْيِ وَالْوَدْيِ وَدَمِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ أو غير مُعْتَادٍ كَدَمِ الِاسْتِحَاضَةِ وقال زُفَرُ ظُهُورُ النَّجَسِ من الْآدَمِيِّ الْحَيِّ وقال مَالِكٌ في قَوْلٍ هو خُرُوجُ النَّجَسِ الْمُعْتَادِ من السَّبِيلِ الْمُعْتَادِ فلم يَجْعَلْ دَمَ الِاسْتِحَاضَةِ حَدَثًا لِكَوْنِهِ غير مُعْتَادٍ وقال الشَّافِعِيُّ هو خُرُوجُ شَيْءٍ من السَّبِيلَيْنِ فَلَيْسَ بِحَدَثٍ وهو أَحَدُ قَوْلَيْ مَالِكٍ أما قَوْلُ مَالِكٍ فَمُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ وهو قَوْلُهُ الْمُسْتَحَاضَةُ تَتَوَضَّأُ لِوَقْتِ كل صَلَاةٍ ‏.‏

وَقَوْلُهُ لِلْمُسْتَحَاضَةِ تَوَضَّئِي وَصَلِّي وَإِنْ قَطَرَ الدَّمُ على الْحَصِيرِ قَطْرًا وَقَوْلُهُ تَوَضَّئِي فإنه دَمُ عِرْقٍ انْفَجَرَ وَلِأَنَّ الْمَعْنَى الذي يَقْتَضِي كَوْنَ الْخُرُوجِ من السَّبِيلَيْنِ حَدَثًا لَا يُوجِبُ الْفصل بين الْمُعْتَادِ وَغَيْرِ الْمُعْتَادِ لِمَا يُذْكَرُ فَالْفصل يَكُونُ تَحَكُّمًا على الدَّلِيلِ وَأَمَّا الْكَلَامُ مع الشَّافِعِيِّ فَهُوَ احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَاءَ فَغَسَلَ فَمَهُ فَقِيلَ له أَلَا تَتَوَضَّأُ وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ فقال هَكَذَا الْوُضُوءُ من الْقَيْءِ‏.‏

وَعَنْ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ حين طُعِنَ كان يُصَلِّي وَالدَّمُ يَسِيلُ منه وَلِأَنَّ خُرُوجَ النَّجَسِ من الْبَدَنِ زَوَالُ النَّجَسِ عن الْبَدَنِ وَزَوَالُ النَّجَسِ عن الْبَدَنِ كَيْفَ يُوجِبُ تَنْجِيسَ الْبَدَنِ مع أَنَّهُ لَا نَجَسَ على أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ حَقِيقَةً وَهَذَا هو الْقِيَاسُ في السَّبِيلَيْنِ إلَّا أَنَّ الْحُكْمَ هُنَاكَ عُرِفَ بِالنَّصِّ غَيْرُ مَعْقُولٍ فَيُقْتَصَرُ على مَوْرِدِ النَّصِّ

وَلَنَا ما رُوِيَ عن أبي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال دَخَلْتُ على رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَغَرَفْتُ له غَرْفَةً فَأَكَلَهَا فَجَاءَ الْمُؤَذِّنُ فقلت الْوُضُوءَ يا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقال إنَّمَا عَلَيْنَا الْوُضُوءُ مِمَّا يَخْرُجُ ليس مِمَّا يَدْخُلُ علق ‏[‏وعلق‏]‏ الْحُكْمَ بِكُلِّ ما يَخْرُجُ أو بِمُطْلَقِ الْخَارِجِ من غَيْرِ اعْتِبَارِ الْمَخْرَجِ إلَّا أَنَّ خُرُوجَ الطَّاهِرِ ليس بِمُرَادٍ فَبَقِيَ خُرُوجُ النَّجَسِ مُرَادًا‏.‏

وَرُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها عن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال من قَاءَ أو رَعَفَ في صَلَاتِهِ فَلْيَنْصَرِفْ وَلْيَتَوَضَّأْ وَلْيَبْنِ على صَلَاتِهِ ما لم يَتَكَلَّمْ وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ على الشَّافِعِيِّ في فصليْنِ في وُجُوبِ الْوُضُوءِ بِخُرُوجِ النَّجَسِ من غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ وفي جَوَازِ الْبِنَاءِ عِنْدَ سَبْقِ الْحَدَثِ في الصَّلَاةِ وَرُوِيَ أَنَّهُ قال لِفَاطِمَةَ بِنْتِ حُبَيْشٍ توضيء ‏[‏توضئي‏]‏ فإنه دَمُ عِرْقٍ انْفَجَرَ أَمَرَهَا بِالْوُضُوءِ وَعَلَّلَ بِانْفِجَارِ دَمِ الْعِرْقِ لَا بِالْمُرُورِ على الْمَخْرَجِ وَعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ عن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال الْوُضُوءُ من كل دَمٍ سَائِلٍ‏.‏

وَالْأَخْبَارُ في هذا الْباب وَرَدَتْ مَوْرِدَ الِاسْتِفَاضَةِ حتى رُوِيَ عن عَشَرَةٍ من الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ قالوا مِثْلَ مَذْهَبِنَا وَهُمْ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وابن مَسْعُودٍ وابن عَبَّاسٍ وابن عُمَرَ وَثَوْبَانُ وأبو الدَّرْدَاءِ وَقِيلَ في التَّاسِعِ وَالْعَاشِرِ أنهما زَيْدُ بن ثَابِتٍ وأبو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَهَؤُلَاءِ فُقَهَاءُ الصَّحَابَةِ مُتَّبِعٌ لهم في فَتْوَاهُمْ فَيَجِبُ تَقْلِيدُهُمْ وَقِيلَ أنه مَذْهَبُ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرِينَ بِالْجَنَّةِ وَلِأَنَّ الْخُرُوجَ من السَّبِيلَيْنِ إنَّمَا كان حَدَثًا لِأَنَّهُ يُوجِبُ تَنْجِيسَ ظَاهِرِ الْبَدَنِ لِضَرُورَةِ تَنَجُّسِ مَوْضِعِ الْإِصَابَةِ فنزول ‏[‏فتزول‏]‏ الطَّهَارَةُ ضَرُورَةً إذْ النَّجَاسَةُ وَالطَّهَارَةُ ضِدَّانِ فَلَا يَجْتَمِعَانِ في مَحَلٍّ وَاحِدٍ في زَمَانٍ وَاحِدٍ وَمَتَى زَالَتْ الطَّهَارَةُ عن ظَاهِرِ الْبَدَنِ خَرَجَ من أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلصَّلَاةِ التي هِيَ مُنَاجَاةٌ مع اللَّهِ تَعَالَى فَيَجِبُ تَطْهِيرُهُ بِالْمَاءِ لِيَصِيرَ أَهْلًا لها وما رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ محمول ‏[‏محتمل‏]‏ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ قَاءَ أَقَلَّ من مِلْءِ الْفَمِ وَكَذَا اسْمُ الْوُضُوءِ يَحْتَمِلُ غَسْلَ الْفَمِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مع الِاحْتِمَالِ أو نحمله ‏[‏محمله‏]‏ على ما قُلْنَا تَوْفِيقًا بين الدَّلَائِلِ وَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ فَلَيْسَ فيه أَنَّهُ كان يُصَلِّي بَعْدَ الطَّعْنِ من غَيْرِ تَجْدِيدِ الْوُضُوءِ بَلْ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَوَضَّأَ بَعْدَ الطَّعْنِ مع سَيَلَانِ الدَّمِ وَصَلَّى وَبِهِ نَقُولُ كما في الْمُسْتَحَاضَةِ وَقَوْلُهُ أن خُرُوجَ النَّجَسِ عن الْبَدَنِ زَوَالُ النَّجَسِ عن الْبَدَنِ فَكَيْفَ يُوجِبُ تَنَجُّسَهُ مُسَلَّمٌ أَنَّهُ يَزُولُ بِهِ شَيْءٌ من نَجَاسَةِ الْبَاطِنِ لَكِنْ يَتَنَجَّسُ بِهِ الظَّاهِرُ لِأَنَّ الْقَدْرَ الذي زَالَ إلَيْهِ أَوْجَبَ زَوَالَ الطَّهَارَةِ عنه وَالْبَدَنُ في حُكْمِ الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ لَا يتجرأ ‏[‏يتجزأ‏]‏ وَالْعَزِيمَةُ هِيَ غَسْلُ كل الْبَدَنِ إلَّا أَنَّهُ أُقِيمَ غَسْلُ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ مَقَامَ غَسْلِ كل الْبَدَنُ رُخْصَةً وَتَيْسِيرًا وَدَفْعًا لِلْحَرَجِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْحُكْمَ في الْأَصْلِ مَعْقُولٌ فَيَتَعَدَّى إلَى الْفَرْعِ وَقَوْلُهُ لَا نَجَاسَةَ على أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ حقيقية ‏[‏حقيقة‏]‏ مَمْنُوعٌ بَلْ عليها نَجَاسَةٌ حَقِيقِيَّةٌ مَعْنَوِيَّةٌ وَإِنْ كان الْحِسُّ لَا يُدْرِكُهَا وَهِيَ نَجَاسَةُ الْحَدَثِ على ما عُرِفَ في الْخِلَافِيَّاتِ‏.‏

وإذا عرف ‏[‏عرفنا‏]‏ مَاهِيَّةَ الْحَدَثِ نُخَرِّجُ عليه الْمَسَائِلَ فَنَقُولُ إذَا ظَهَرَ شَيْءٌ من الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ على رَأْسِ الْمَخْرَجِ انْتَقَضَتْ الطَّهَارَةُ لِوُجُودِ الْحَدَثِ وهو خُرُوجُ النَّجَسُ وهو انْتِقَالُهُ من الْبَاطِنِ إلَى الظَّاهِرِ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَخْرَجِ عُضْوٌ ظَاهِرٌ وَإِنَّمَا انْتَقَلَتْ النَّجَاسَةُ إلَيْهِ من مَوْضِعٍ آخَرَ فإن مَوْضِعَ الْبَوْلِ الْمَثَانَةُ وَمَوْضِعَ الْغَائِطِ مَوْضِعٌ في الْبَطْنِ يُقَالُ له قُولُونٌ وَسَوَاءٌ كان الْخَارِجُ قَلِيلًا أو كَثِيرًا سَالَ عن رَأْسِ الْمَخْرَجِ أو لم يَسِلْ لِمَا قُلْنَا وَكَذَا الْمَنِيُّ وَالْمَذْيُ وَالْوَدْيُ وَدَمُ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسُ وَدَمُ الِاسْتِحَاضَةِ لِأَنَّهَا كُلَّهَا أَنْجَاسٌ لِمَا يُذْكَر في بَيَانِ أَنْوَاعِ الْأَنْجَاسِ وقد انْتَقَلَتْ من الْبَاطِنِ إلَى الظَّاهِرِ فَوَجَدَ خُرُوجَ النَّجَسِ من الْآدَمِيِّ الْحَيِّ فَيَكُونُ حَدَثًا إلَّا أَنَّ بَعْضَهَا يُوجِبُ الْغُسْلَ وهو الْمَنِيُّ وَدَمُ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسُ وَبَعْضُهَا يُوجِبُ الْوُضُوءَ وهو الْمَذْيُ وَالْوَدْيُ وَدَمُ الِاسْتِحَاضَةِ لِمَا يُذْكَرُ إن شاء الله تعالى‏.‏

وَكَذَلِكَ خُرُوجُ الْوَلَدِ وَالدُّودَةِ وَالْحَصَا وَاللَّحْمِ وَعُودِ الْحُقْنَةِ بَعْدَ غَيْبُوبَتِهَا لِأَنَّ هذه الْأَشْيَاءَ وَإِنْ كانت طَاهِرَةٌ في أَنْفُسِهَا لَكِنَّهَا لَا تَخْلُو عن قَلِيلِ نَجَسٍ يَخْرُجُ مَعَهَا وَالْقَلِيلُ من السَّبِيلَيْنِ خَارِجٌ لِمَا بَيَّنَّا وَكَذَا الرِّيحُ الْخَارِجَةُ من الدُّبُرِ لِأَنَّ الرِّيحَ وَإِنْ كانت جِسْمًا طَاهِرًا في نَفْسِهِ لَكِنَّهُ لَا يَخْلُو عن قَلِيلِ نَجَسٍ يَقُومُ بِهِ لِانْبِعَاثِهِ من مَحَلِّ الْأَنْجَاسِ وَرُوِيَ عن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال لَا وُضُوءَ إلَّا من صَوْتٍ أو رِيحٍ وَرُوِيَ عنه أَنَّهُ قال إنَّ الشَّيْطَانَ يَأْتِي أَحَدَكُمْ فَيَنْفُخُ بين إليتيه فيقول أَحْدَثْت أَحْدَثْت فَلَا يَنْصَرِفَنَّ حتى يَسْمَعَ صَوْتًا أو يَجِدَ رِيحًا وَأَمَّا الرِّيحُ الْخَارِجَةُ من قُبُلِ الْمَرْأَةِ أو ذَكَرِ الرَّجُلِ فلم يذكر حُكْمَهَا في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قال فيها الْوُضُوءُ

وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ لَا وُضُوءَ فيها إلَّا أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ مُفْضَاةً فَيَخْرُجُ منها رِيحٌ مُنْتِنَةٌ فَيُسْتَحَبُّ لها الْوُضُوءُ وَجْهُ رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَسْلَكُ النَّجَاسَةِ كَالدُّبُرِ فَكَانَتْ الرِّيحُ الْخَارِجَةُ مِنْهُمَا كَالْخَارِجَةِ من الدُّبُرِ فَيَكُونُ حَدَثًا‏.‏

وَجْهُ ما ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ أَنَّ الرِّيحَ لَيْسَتْ بِحَدَثٍ في نَفْسِهَا لِأَنَّهَا طَاهِرَةٌ وَخُرُوجُ الطَّاهِرِ لَا يُوجِبُ انْتِقَاضَ الطَّهَارَةِ وَإِنَّمَا انْتِقَاضُ الطَّهَارَةِ بِمَا يَخْرُجُ بِخُرُوجِهَا من أَجْزَاءِ النَّجَسِ وَمَوْضِعُ الْوَطْءِ من فَرْجِ الْمَرْأَةِ ليس بِمَسْلَكِ الْبَوْلِ فَالْخَارِجُ منه من الرِّيحِ لَا يُجَاوِرُهُ النَّجَسُ وإذا كانت مُفْضَاةً فَقَدْ صَارَ مَسْلَكُ الْبَوْلِ وَمَسْلَكُ الْوَطْءِ مَسْلَكًا وَاحِدًا فَيُحْتَمَلُ أَنَّ الرِّيحَ خَرَجَتْ من مَسْلَكِ الْبَوْلِ فَيُسْتَحَبُّ لها الْوُضُوءُ وَلَا يَجِبُ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ الثَّابِتَةَ بِيَقِينٍ لَا يُحْكَمُ بِزَوَالِهَا بِالشَّكِّ وَقِيلَ إنَّ خُرُوجَ الرِّيحِ من الذَّكَرِ لَا يُتَصَوَّرُ وَإِنَّمَا هو اخْتِلَاجٌ يَظُنُّهُ الْإِنْسَانُ رِيحًا هذا حُكْمُ السَّبِيلَيْنِ فَأَمَّا حُكْمُ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ من الْجُرْحِ وَالْقُرْحِ فَإِنْ سَالَ الدَّمُ وَالْقَيْحُ وَالصَّدِيدُ عن رَأْسِ الْجُرْحِ وَالْقُرْحِ يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ عِنْدَنَا لِوُجُودِ الْحَدَثِ وهو خُرُوجُ النَّجَسِ وهو انْتِقَالُ النَّجَسِ من الْبَاطِنِ إلَى الظَّاهِرِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُنْتَقَضُ لِانْعِدَامِ الْخُرُوجِ من السَّبِيلَيْنِ‏.‏

وَعِنْدَ زُفَرَ يُنْتَقَضُ سَوَاءٌ سَالَ أو لم يَسِلْ بِنَاءً على ما ذَكَرَ فَلَوْ ظَهَرَ الدَّمُ على رَأْسِ الْجُرْحِ ولم يَسِلْ لم يَكُنْ حَدَثًا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ يَكُونُ حَدَثًا سَالَ أو لم يَسِلْ بِنَاءً على ما ذَكَرْنَا أَنَّ الْحَدَثَ الْحَقِيقِيَّ عِنْدَهُ هو ظُهُورُ النَّجَسِ من الْآدَمِيِّ الْحَيِّ وقد ظَهَرَ وَجْهُ قَوْلِهِ أن ظُهُورَ النَّجَسِ اُعْتُبِرَ حَدَثًا في السَّبِيلَيْنِ سَالَ عن رَأْسِ الْمَخْرَجِ أو لم يَسِلْ فَكَذَا في غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ وَلَنَا أَنَّ الظُّهُورَ ما اُعْتُبِرَ حَدَثًا في مَوْضِعٍ ما وَإِنَّمَا اُنْتُقِضَتْ الطَّهَارَةُ في السَّبِيلَيْنِ إذَا طهر ‏[‏ظهر‏]‏ النَّجَسُ على رَأْسِ الْمَخْرَجِ لَا بِالظُّهُورِ بَلْ بِالْخُرُوجِ وهو الِانْتِقَالُ من الْبَاطِنِ إلَى الظَّاهِرِ على ما بَيَّنَّا كَذَا هَهُنَا وَهَذَا لِأَنَّ الدَّمَ إذَا لم يَسِلْ كان في مَحَلِّهِ لِأَنَّ الْبَدَنَ مَحَلُّ الدَّمِ وَالرُّطُوبَاتِ إلَّا أَنَّهُ كان مُسْتَتِرًا بِالْجَلْدَةِ وَانْشِقَاقُهَا يُوجِبُ زَوَالَ السُّتْرَةِ لَا زَوَالَ الدَّمِ عن مَحَلِّهِ وَلَا حُكْمَ لِلنَّجَسِ ما دَامَ في مَحَلِّهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَجُوزُ الصَّلَاةُ مع ما في الْبَطْنِ من الْأَنْجَاسِ فإذا سَالَ عن رَأْسِ الْجُرْحِ فَقَدْ انْتَقَلَ عن مَحَلِّهِ فيعطى له حُكْمَ النَّجَاسَةِ وفي السَّبِيلَيْنِ وُجِدَ الِانْتِقَالُ لِمَا ذَكَرْنَا وَعَلَى هذا خُرُوجُ الْقَيْءِ مِلْءَ الْفَمِ أَنَّهُ يَكُونُ حَدَثًا وَإِنْ كان أَقَلَّ من مِلْءِ الْفَمِ لَا يَكُونُ حَدَثًا وَعِنْدَ زُفَرَ يَكُونُ حَدَثًا قَلَّ أو كَثُرَ وَوَجْهُ الْبِنَاءِ على هذا الْأَصْلِ أَنَّ الْفَمَ له حُكْمُ الظَّاهِرِ عِنْدَهُ بِدَلِيلِ أَنَّ الصَّائِمَ إذَا تَمَضْمَضَ لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ فإذا وَصَلَ الْقَيْءُ إلَيْهِ فَقَدْ

طهر ‏[‏ظهر‏]‏ النَّجَسُ من الْآدَمِيِّ الْحَيِّ فَيَكُونُ حَدَثًا وَإِنَّا نَقُولُ له مع الظَّاهِرِ حُكْمُ الظَّاهِرِ كما ذَكَرَهُ زُفَرُ وَلَهُ مع الْبَاطِنِ حُكْمُ الْبَاطِنِ بِدَلِيلِ أَنَّ الصَّائِمَ إذَا ابْتَلَعَ رِيقَهُ لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ فَلَا يَكُونُ الْخُرُوجُ إلَى الْفَمِ حَدَثًا لِأَنَّهُ انْتِقَالٌ من بَعْضِ الْبَاطِنِ إلَى بَعْضٍ وَإِنَّمَا الْحَدَثُ هو الْخُرُوجُ من الْفَمِ لِأَنَّهُ انْتِقَالٌ من الْبَاطِنِ إلَى الظَّاهِرِ وَالْخُرُوجُ لَا يَتَحَقَّقُ في الْقَلِيلِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ رَدُّهُ وَإِمْسَاكُهُ فَلَا يَخْرُجُ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ بَلْ بِالْإِخْرَاجِ فَلَا يُوجَدُ السَّيَلَانُ وَيَتَحَقَّقُ في الْكَثِيرِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ رَدُّهُ وَإِمْسَاكُهُ فَكَانَ خَارِجًا بِقُوَّةِ نَفْسِهِ لَا بِالْإِخْرَاجِ فَيُوجَدُ السَّيَلَانُ‏.‏

ثُمَّ نَتَكَلَّمُ في الْمَسْأَلَةِ ابْتِدَاءً فَحُجَّةُ زُفَرَ ما رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال الْقَلْسُ حَدَثٌ من غَيْرِ فصل بين الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَلِأَنَّ الْحَدَثَ ‏(‏إن كان‏)‏ اسْمٌ لِخُرُوجِ النَّجَسِ وقد وُجِدَ لِأَنَّ الْقَلِيلَ خَارِجٌ نَجِسٌ كَالْكَثِيرِ فَيَسْتَوِي فيه الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ كَالْخَارِجِ من السَّبِيلَيْنِ وَلَنَا ما رُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه مَوْقُوفًا عليه وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ عَدَّ الْأَحْدَاثَ جُمْلَةً وقال فيها أو ‏[‏أود‏]‏ دسعة ‏[‏سعة‏]‏ تَمْلَأُ الْفَمَ وَلَوْ كان الْقَلِيلُ حَدَثًا لعده عِنْدَ عَدِّ الْأَحْدَاثِ كُلِّهَا وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَالْمُرَادُ منه الْقَيْءُ مِلْءُ الْفَمِ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ وهو الْقَيْءُ مِلْءُ الْفَمِ أو يُحْمَلُ على هذا تَوْفِيقًا بين الْحَدِيثَيْنِ صِيَانَةً لَهُمَا عن التَّنَاقُضِ وَقَوْلُهُ وُجِدَ خُرُوجُ النَّجَسِ في الْقَلِيلِ قُلْنَا إنْ سَلَّمْنَا ذلك فَفِي قَلِيلِ الْقَيْءُ ضَرُورَةٌ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَخْلُو منه خُصُوصًا حَالَ الِامْتِلَاءِ وَمِنْ صَاحِبِ السُّعَالِ وَلَوْ جُعِلَ حَدَثًا لَوَقَعَ الناس في الْحَرَجِ وَاَللَّهُ تَعَالَى ما جَعَلَ عَلَيْنَا في الدِّينِ من حَرَجٍ وَلَا ضَرُورَةَ في الْقَلِيلِ من السَّبِيلَيْنِ وَلَا فَرْقَ بين أَنْ يَكُونَ الْقَيْءُ مَرَّةً صَفْرَاءَ أو سَوْدَاءَ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ طَعَامًا أو مَاءً صَافِيًا لِأَنَّ الْحَدَثَ اسْمٌ لِخُرُوجِ النَّجَسِ وَالطَّعَامِ أو الْمَاءِ صار نَجَسًا لِاخْتِلَاطِهِ بِنَجَاسَاتِ الْمِعْدَةِ ولم يذكر في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ تَفْسِيرَ مِلْءِ الْفَمِ وقال أبو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ هو أَنْ يَمْنَعَهُ من الْكَلَامِ وَعَنْ الْحَسَنِ بن زِيَادٍ هو أَنْ يَعْجَزَ عن إمْسَاكِهِ وَرَدِّهِ وَعَلَيْهِ اعْتَمَدَ الشَّيْخُ أبو مَنْصُورٍ وهو الصَّحِيحُ لِأَنَّ ما قَدَرَ على إمْسَاكِهِ وَرَدِّهِ فَخُرُوجُهُ لَا يَكُون بِقُوَّةِ نَفْسِهِ بَلْ بِالْإِخْرَاجِ فَلَا يَكُونُ سَائِلًا وما عَجَزَ عن إمْسَاكِهِ وَرَدِّهِ فَخُرُوجُهُ يَكُونُ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ فَيَكُونُ سَائِلًا وَالْحُكْمُ مُتَعَلِّقٌ بِالسَّيَلَانِ وَلَوْ قَاءَ أَقَلَّ من مِلْءِ الْفَمِ مِرَارًا هل يُجْمَعُ وَيُعْتَبَرُ حَدَثًا لم يُذْكَرْ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ كان في مَجْلِسٍ وَاحِدٍ يُجْمَعُ وَإِلَّا فَلَا وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إنْ كان بِسَبَبِ غَثَيَانٍ وَاحِدٍ يُجْمَعُ وَإِلَّا فَلَا وقال أبو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ يُجْمَعُ كَيْفَمَا كان وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الْمَجْلِسَ جُعِلَ في الشَّرْعِ جَامِعًا لِأَشْيَاءَ مُتَفَرِّقَةٍ كما في باب الْبَيْعِ وَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ وَنَحْوِ ذلك وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ أَظْهَرُ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْمَجْلِسِ اعْتِبَارُ الْمَكَانِ وَاعْتِبَارَ الْغَثَيَانِ اعْتِبَارُ السَّبَبِ وَالْوُجُودُ يُضَافُ إلَى السَّبَبِ لَا إلَى الْمَكَانِ وَلَوْ سَالَ الدَّمُ إلَى ما لَانَ من الْأَنْفِ أو إلَى صِمَاخِ الْأُذُنِ يَكُونُ حَدَثًا لِوُجُودِ خُرُوجِ النَّجَسِ وهو انْتِقَالُ الدَّمِ من الْبَاطِنِ إلَى الظَّاهِرِ وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ في رَجُلٍ أَقْلَفَ خَرَجَ الْبَوْلُ أو الْمَذْيُ من ذَكَرِهِ حتى صَارَ في قُلْفَتِهِ فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمَرْأَةِ إذَا خَرَجَ الْمَذْي أو الْبَوْلُ من فَرْجِهَا ولم يَظْهَرْ وَلَوْ حَشَا الرَّجُلُ إحْلِيلَهُ بِقُطْنَةٍ فَابْتَلَّ الْجَانِبُ الدَّاخِلُ منها لم يُنْتَقَضْ وضوؤه لِعَدَمِ الْخُرُوجِ وَإِنْ تَعَدَّتْ الْبَلَّةُ إلَى الْجَانِبِ الْخَارِجِ يُنْظَرَ إنْ كانت الْقُطْنَةُ عَالِيَةً أو مُحَاذِيَةً لِرَأْسِ الْإِحْلِيلِ يُنْتَقَضُ وضوؤه لِتَحَقُّقِ الْخُرُوجِ وَإِنْ كانت ‏(‏مستفلة ‏[‏متسفلة‏]‏‏)‏ لم يُنْتَقَضْ لِأَنَّ الْخُرُوجَ لم يَتَحَقَّقْ وَلَوْ حَشَتْ الْمَرْأَةُ فَرْجَهَا بِقُطْنَةٍ فَإِنْ وَضَعَتْهَا في الْفَرْجِ الْخَارِجِ فَابْتَلَّ الْجَانِبُ الدَّاخِلُ من الْقُطْنَةِ كان حَدَثًا وَإِنْ لم يَنْفُذْ إلَى الْجَانِبِ الْخَارِجِ لَا يَكُونُ حَدَثًا لِأَنَّ الْفَرْجَ الْخَارِجَ منها بِمَنْزِلَةِ الإليتين من الدُّبُرِ فَوُجِدَ الْخُرُوجُ وَإِنْ وَضَعَتْهَا في الْفَرْجِ الدَّاخِلِ فَابْتَلَّ الْجَانِبُ الدَّاخِلُ من الْقُطْنَةِ لم يَكُنْ حَدَثًا لِعَدَمِ الْخُرُوجِ وَإِنْ تَعَدَّتْ الْبِلَّةُ إلَى الْجَانِبِ الْخَارِجِ فَإِنْ كانت الْقُطْنَةُ عَالِيَةً أو مُحَاذِيَةً ‏(‏لجوف ‏[‏لجانب‏]‏‏)‏ الْفَرْجِ كان حَدَثًا لِوُجُودِ الْخُرُوجِ وَإِنْ كانت مستفلة ‏[‏متسفلة‏]‏ لم يَكُنْ حَدَثًا لِعَدَمِ الْخُرُوجِ وَهَذَا كُلُّهُ إذَا لم تَسْقُطْ الْقُطْنَةُ فَإِنْ سَقَطَتْ الْقُطْنَةُ فَهُوَ حَدَثٌ وَحَيْضٌ في الْمَرْأَةِ سَوَاءٌ ابْتَلَّ الْجَانِبُ الْخَارِجُ أو الدَّاخِلُ لِوُجُودِ الْخُرُوجِ وَلَوْ كان في أَنْفِهِ قُرْحٌ فَسَالَ الدَّمُ عن رَأْسِ الْقُرْحِ يَكُونُ حَدَثًا وَإِنْ لم يَخْرُجُ من الْمَنْخَرِ لِوُجُودِ السَّيَلَانِ عن مَحَلِّهِ وَلَوْ بَزَقَ فَخَرَجَ معه الدَّمُ إنْ كانت الْغَلَبَةُ لِلْبُزَاقِ لَا يَكُونُ حَدَثًا لِأَنَّهُ ما خَرَجَ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ وَإِنْ كانت الْغَلَبَةُ لِلدَّمِ يَكُونُ حَدَثًا لِأَنَّ الْغَالِبَ إذَا كان هو الْبُزَاقُ لم يَكُنْ خَارِجًا بِقُوَّةِ نَفْسِهِ فلم يَكُنْ سَائِلًا وَإِنْ كان الْغَالِبُ هو الدَّمُ كان خُرُوجُهُ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ فَكَانَ سَائِلًا وَإِنْ كَانَا سَوَاءً فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونُ حَدَثًا وفي الِاسْتِحْسَانِ يَكُونُ حَدَثًا وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُمَا إذَا اسْتَوَيَا احْتَمَلَ أَنَّ الدَّمَ خَرَجَ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ وَاحْتَمَلَ أَنَّهُ خَرَجَ بِقُوَّةِ الْبُزَاقِ فَلَا يُجْعَلُ حَدَثًا بِالشَّكِّ وَلِلِاسْتِحْسَانِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُمَا إذَا اسْتَوَيَا تَعَارَضَا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ أَحَدَهُمَا تَبَعًا لِلْآخَرِ فيعطي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمَ نَفْسِهِ فَيُعْتَبَرُ خَارِجًا بِنَفْسِهِ فَيَكُونُ سَائِلًا‏.‏

وَالثَّانِي أَنَّ الْأَخْذَ بِالِاحْتِيَاطِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ وَاجِبٌ وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا وَلَوْ ظَهَرَ الدَّمُ على رَأْسِ الْجُرْحِ فَمَسَحَهُ مِرَارًا فَإِنْ كان بِحَالٍ لو تَرَكَهُ لَسَالَ يَكُونُ حَدَثًا وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّ الْحُكْمَ مُتَعَلِّقٌ بِالسَّيَلَانِ وَلَوْ أَلْقَى عليه الرَّمَادَ أو التُّرَابَ فَتَشَرَّبَ فيه أو رَبَطَ عليه رِبَاطًا فَابْتَلَّ الرِّبَاطُ وَنَفَذَ قالوا يَكُونُ حَدَثًا لِأَنَّهُ سَائِلُ وَكَذَا لو كان الرِّبَاطُ ذَا طَاقَيْنِ فَنَفَذَ إلَى أَحَدِهِمَا لِمَا قُلْنَا وَلَوْ سَقَطَتْ الدُّودَةُ أو اللَّحْمُ من ‏(‏القرح ‏[‏الفرج‏]‏‏)‏ لم يَكُنْ حَدَثًا وَلَوْ سَقَطَتْ من السَّبِيلَيْنِ يَكُونُ حَدَثًا وَالْفَرْقُ أَنَّ الدُّودَةَ الْخَارِجَةَ من السَّبِيلِ نَجِسَةٌ في نَفْسِهَا لِتَوَلُّدِهَا من الْأَنْجَاسِ وقد خَرَجَتْ بِنَفْسِهَا‏.‏

وَخُرُوجُ النَّجِسِ بِنَفْسِهِ حَدَثٌ بِخِلَافِ الْخَارِجَةِ من الْقُرْحِ لِأَنَّهَا طَاهِرَةٌ في نَفْسُهَا لِأَنَّهَا تَتَوَلَّدُ من اللَّحْمِ وَاللَّحْمُ طَاهِرٌ وَإِنَّمَا النَّجَسُ ما عليها من الرُّطُوبَاتِ وَتِلْكَ الرُّطُوبَاتُ خَرَجَتْ بِالدَّابَّةِ لَا بِنَفْسِهَا فلم يُوجَدْ خُرُوجُ النَّجَسِ فَلَا يَكُونُ حَدَثًا وَلَوْ خَلَّلَ أَسْنَانَهُ فَظَهَرَ الدَّمُ على رَأْسِ الْخِلَالِ لَا يَكُونُ حَدَثًا لِأَنَّهُ ما خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَكَذَا لو عَضَّ على شَيْءٍ فَظَهَرَ الدَّمُ على أَسْنَانِهِ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ سَعَطَ في أَنْفِهِ وَوَصَلَ السَّعُوطُ إلَى رَأْسِهِ ثُمَّ رَجَعَ إلَى الْأَنْفِ أو إلَى الْأُذُنِ لَا يَكُونُ حَدَثًا لِأَنَّ الرَّأْسَ ليس مَوْضِعَ الْأَنْجَاسِ وَلَوْ عَادَ إلَى الْفَمِ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ لَا يَكُونُ حَدَثًا لِمَا قُلْنَا وَرَوَى عَلِيُّ بن الْجَعْدِ عن أبي يُوسُفَ أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْقَيْءِ لِأَنَّ ما وَصَلَ إلَى الرَّأْسِ لَا يَخْرُجُ من الْفَمِ إلَّا بَعْدَ نُزُولِهِ في الْجَوْفِ

وَلَوْ قَاءَ بَلْغَمًا لم يَكُنْ حَدَثًا في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ‏.‏

وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يَكُونُ حَدَثًا فَمِنْ مَشَايِخِنَا من قال لَا خِلَافَ في الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّ جَوَابَ أبي يُوسُفَ في الصَّاعِدِ من الْمَعِدَةِ وهو حَدَثٌ عِنْدَ الْكُلِّ وَجَوَابُهُمَا في الْمُنْحَدِرِ من الرَّأْسِ وهو ليس بِحَدَثٍ عِنْدَ الْكُلِّ وَمِنْهُمْ من قال في الْمُنْحَدَرِ من الرَّأْسِ اتِّفَاقٌ أَنَّهُ ليس بِحَدَثٍ وفي الصَّاعِدِ من الْمَعِدَةِ اخْتِلَافٌ وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّهُ نَجَسٌ لِاخْتِلَاطَهِ بِالْأَنْجَاسِ لِأَنَّ الْمَعِدَةَ مَعْدِنُ الْأَنْجَاسِ فَيَكُونُ حَدَثًا كما لو قَاءَ طَعَامًا أو مَاءً وَلَهُمَا أَنَّهُ شَيْءٌ صَقِيلٌ لَا يَلْتَصِقُ بِهِ شَيْءٌ من الْأَنْجَاسِ فَكَانَ طَاهِرًا على أَنَّ الناس من لَدُنْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اعْتَادُوا أَخْذَ الْبَلْغَمِ بِأَطْرَافِ أَرْدِيَتِهِمْ وَأَكْمَامِهِمْ من غَيْرِ نَكِيرٍ فَكَانَ إجْمَاعًا منهم على طَهَارَتِهِ وَذَكَرَ أبو مَنْصُورٍ أَنَّهُ لَا خِلَافَ في الْمَسْأَلَةِ في الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ جَوَابَ أبي يُوسُفَ في الصَّاعِدِ من الْمَعِدَةِ وَأَنَّهُ حَدَثٌ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ نَجَسٌ وَجَوَابُهُمَا في الصَّاعِدِ من حَوَاشِي الْحَلْقِ وَأَطْرَافِ الرِّئَةِ وَأَنَّهُ ليس بِحَدَثٍ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ طاهر فَيُنْظَرُ إنْ كان صَافِيًا غير مَخْلُوطٍ بِشَيْءٍ من الطَّعَامِ وَغَيْرِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لم يَصْعَدْ من الْمَعِدَةِ فَلَا يَكُونُ نَجَسًا فَلَا يَكُونُ حَدَثًا وَإِنْ كان مَخْلُوطًا بِشَيْءٍ من ذلك تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَعِدَ منها فَكَانَ نَجِسًا فَيَكُونُ حَدَثًا وَهَذَا هو الْأَصَحُّ وَأَمَّا إذَا قَاءَ دَمًا فلم يُذْكَرْ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ نَصًّا وَذَكَرَ الْمُعَلَّى عن أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَكُونُ حَدَثًا قَلِيلًا كان أو كَثِيرًا جَامِدًا كان أو مَائِعًا وَرُوِيَ عن الْحَسَنِ بن زِيَادٍ عنهما أَنَّهُ إنْ كان مَائِعًا يَنْقُضُ قَلَّ أو كَثُرَ وَإِنْ كان جَامِدًا لَا يَنْقُضُ ما لم يَمْلَأْ الْفَمَ‏.‏

وَرَوَى ابن رُسْتُمَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يَكُونُ حَدَثًا ما لم يَمْلَأْ الْفَمَ كَيْفَمَا كان وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا صَحَّحُوا رِوَايَةَ مُحَمَّدٍ وَحَمَلُوا رِوَايَةَ الْحَسَنِ وَالْمُعَلَّى في الْقَلِيلِ من الْمَائِعِ على الرُّجُوعِ وَعَلَيْهِ اعْتَمَدَ شَيْخُنَا لِأَنَّهُ الْمُوَافِقُ لِأُصُولِ أَصْحَابِنَا في اعْتِبَارِ خُرُوجِ النَّجَسِ لِأَنَّ الْحَدَثَ اسْمٌ له وَالْقَلِيلُ ليس بِخَارِجٍ لِمَا مَرَّ وَإِلَيْهِ أَشَارَ في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ من غَيْرِ خِلَافٍ فإنه قال وإذا قَلَسَ أَقَلَّ من مِلْءِ الْفَمِ لم يُنْتَقَضْ الْوُضُوءُ من غَيْرِ فصل بين الدَّمِ وَغَيْرِهِ وَعَامَّةُ مَشَايِخِنَا حَقَّقُوا الِاخْتِلَافَ وَصَحَّحُوا قَوْلَهُمَا لِأَنَّ الْقِيَاسَ في الْقَلِيلِ من سَائِرِ أَنْوَاعِ الْقَيْءِ أَنْ يَكُونَ حَدَثًا لِوُجُودِ الْخُرُوجِ حَقِيقَةً وهو الِانْتِقَالُ من الْبَاطِنِ إلَى الظَّاهِرِ لِأَنَّ الْفَمَ له حُكْمُ الظَّاهِرِ على الْإِطْلَاقِ وَإِنَّمَا سَقَطَ اعْتِبَارُ الْقَلِيلِ لِأَجْلِ الْحَرَجِ لِأَنَّهُ يَكْثُرُ وُجُودُهُ وَلَا حَرَجَ في اعْتِبَارِ الْقَلِيلِ من الدَّمِ لِأَنَّهُ لَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ بَلْ يَنْدُرُ فَبَقِيَ على أَصْلِ الْقِيَاسِ والله أعلم‏.‏هذا الذي ذَكَرْنَا حُكْمُ الْأَصِحَّاءِ وَأَمَّا أَصْحَابُ الْأَعْذَارِ كَالْمُسْتَحَاضَةِ وَصَاحِبِ الْجُرْحِ السَّائِلِ وَالْمَبْطُونِ وَمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ وَمَنْ بِهِ رُعَافٌ دَائِمٌ أو رِيحٌ وَنَحْوُ ذلك مِمَّنْ لَا يَمْضِي عليه وَقْتُ صَلَاةٍ إلَّا وَيُوجَدُ ما اُبْتُلِيَ بِهِ من الْحَدَثِ فيه فَخُرُوجُ النَّجَسِ من هَؤُلَاءِ لَا يَكُونُ حَدَثًا في الْحَالِ ما دَامَ وَقْتُ الصَّلَاةِ قَائِمًا حتى أَنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ لو تَوَضَّأَتْ في أَوَّلِ الْوَقْتِ فَلَهَا أَنْ تُصَلِّيَ ما شَاءَتْ من الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ ما لم يَخْرُجْ الْوَقْتُ وَإِنْ دَامَ السَّيَلَانِ وَهَذَا عِنْدَنَا وقال الشَّافِعِيُّ إنْ كان الْعُذْرُ من أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ كَالِاسْتِحَاضَةِ وَسَلَسِ الْبَوْلِ وَخُرُوجِ الرِّيحِ يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ فَرْضٍ وَيُصَلِّي ما شَاءَ من النَّوَافِلِ وقال مَالِكٌ في أَحَدِ قَوْلَيْهِ يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ‏.‏

وَاحْتَجَّا بِمَا رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال أن الْمُسْتَحَاضَةُ تَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ فَمَالِكٌ عَمِلَ بِمُطْلَقِ اسْمِ الصَّلَاةِ وَالشَّافِعِيُّ قَيَّدَهُ بِالْفَرْضِ لِأَنَّهُ الصَّلَاةُ الْمَعْهُودَةَ وَلِأَنَّ طَهَارَةَ الْمُسْتَحَاضَةِ طَهَارَةٌ ضَرُورِيَّةٌ لِأَنَّهُ قَارَنَهَا ما يُنَافِيهَا أو طَرَأَ عليها وَالشَّيْءُ لَا يُوجَدُ وَلَا يَبْقَى مع الْمُنَافِي إلَّا أَنَّهُ لم يَظْهَرْ حُكْمُ الْمُنَافِي لِضَرُورَةِ الْحَاجَةِ إلَى الْأَدَاءِ وَالضَّرُورَةِ إلَى أَدَاءِ فَرْضِ الْوَقْتِ فإذا فَرَغَ من الْأَدَاءِ ارْتَفَعَتْ الضَّرُورَةُ فَظَهَرَ حُكْمُ الْمُنَافِي وَالنَّوَافِلُ اتِّبَاعُ الْفَرَائِضِ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ لِتَكْمِيلِ الْفَرَائِضِ جَبْرًا لِلنُّقْصَانِ للتمكن ‏[‏المتمكن‏]‏ فيها فَكَانَتْ مُلْحَقَةٌ بِأَجْزَائِهَا وَالطَّهَارَةُ الْوَاقِعَةُ لِصَلَاةٍ وَاقِعَةٌ لها بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا بِخِلَافِ فَرْضٍ آخَرَ لِأَنَّهُ ليس بِتَبَعٍ بَلْ هو أَصْلٌ بِنَفْسِهِ‏.‏

وَلَنَا ما رَوَى أبو حَنِيفَةَ بِإِسْنَادِهِ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال الْمُسْتَحَاضَةُ تَتَوَضَّأُ لِوَقْتِ كل صَلَاةٍ هذا نَصٌّ في الْباب وَلِأَنَّ الْعَزِيمَةَ شَغْلُ جَمِيعِ الْوَقْتِ بِالْأَدَاءِ شُكْرًا لِلنِّعْمَةِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ وَإِحْرَازًا لِلثَّوَابِ على الْكَمَالِ إلَّا أَنَّهُ جَوَّزَ تَرْكَ شَغْلِ بَعْضِ الْوَقْتِ بِالْأَدَاءِ رُخْصَةً وَتَيْسِيرًا فَضْلًا من اللَّهِ وَرَحْمَةً تَمْكِينًا من اسْتِدْرَاكِ الْفَائِتِ بِالْقَضَاءِ وَالْقِيَامِ بِمَصَالِحِ الْقِوَامِ وَجُعِلَ ذلك شَغْلًا لِجَمِيعِ الْوَقْتِ حُكْمًا فَصَارَ وَقْتُ الْأَدَاءِ شَرْعًا بِمَنْزِلَةِ وَقْتِ الْأَدَاءِ فِعْلًا ثُمَّ قِيَامُ الْأَدَاءِ مُبْقٍ لِلطَّهَارَةِ فَكَذَلِكَ الْوَقْتُ الْقَائِمُ مَقَامَهُ

وما رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فَهُوَ حُجَّةٌ عليه لِأَنَّ مُطْلَقَ الصَّلَاةِ يَنْصَرِفُ إلَى الصَّلَاةِ الْمَعْهُودَةِ وَالْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى الْمَعْهُودِ الْمُتَعَارَفِ كما في قَوْلِهِ الصَّلَاةُ عِمَادُ الدِّينِ وما رُوِيَ أَنَّهُ صلى صَلَوَاتٍ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ وَنَحْوُ ذلك والصلوات ‏[‏والصلاة‏]‏ الْمَعْهُودَةُ هِيَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ في الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ فَكَأَنَّهُ قال الْمُسْتَحَاضَةُ تَتَوَضَّأُ في الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ خَمْسَ مَرَّاتٍ فَلَوْ أَوْجَبْنَا عليها الْوُضُوءَ لِكُلِّ صَلَاةٍ أو لِكُلِّ فَرْضٍ تَقْضِي لَزَادَ على الْخَمْسِ بِكَثِيرٍ وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ تُذْكَرُ على إرَادَةِ وَقْتِهَا‏.‏

قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث التَّيَمُّمِ أَيْنَمَا أَدْرَكَتْنِي الصَّلَاةُ تَيَمَّمَتْ وَصَلَّيْت وَالْمُدْرَكُ هو الْوَقْتُ دُونَ الصَّلَاةِ التي هِيَ فِعْلُهُ وقال إنَّ لِلصَّلَاةِ أَوَّلًا وَآخِرًا أَيْ لِوَقْتِ الصَّلَاةِ وَيُقَالُ آتِيك لِصَلَاةِ الظُّهْرِ أَيْ لِوَقْتِهَا فَجَازَ أَنْ تُذْكَرَ الصَّلَاةُ وَيُرَادُ بها وَقْتُهَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُذْكَرَ الْوَقْتُ وَيُرَادُ بِهِ الصَّلَاةُ فَيُحْمَلُ الْمُحْتَمَلَ على الْمُحْكَمِ تَوْفِيقًا بين الدَّلِيلَيْنِ صِيَانَةً لَهُمَا عن التَّنَاقُضِ وَإِنَّمَا تَبْقَى طَهَارَةُ صَاحِبِ الْعُذْرِ في الْوَقْتِ إذَا لم يُحْدِثْ حَدَثًا آخَرَ أَمَّا إذَا أَحْدَثَ حَدَثًا آخَرَ فَلَا تَبْقَى لِأَنَّ الضَّرُورَةَ في الدَّمِ السَّائِلِ لَا في غَيْرِهِ فَكَانَ هو في غَيْرِهِ كَالصَّحِيحِ قبل الْوُضُوءِ وَكَذَلِكَ إذَا تَوَضَّأَ لِلْحَدَثِ أولا ثُمَّ سَالَ الدَّمُ فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ لِأَنَّ ذلك الْوُضُوءَ لم يَقَعْ لدم ‏[‏لعدم‏]‏ الْعُذْرِ فَكَانَ عَدَمًا في حَقِّهِ وَكَذَا إذَا سَالَ الدَّمُ من أَحَدِ مَنْخَرَيْهِ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ سَالَ من الْمَنْخَرِ الْآخَرَ فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ لِأَنَّ هذا حَدَثٌ جَدِيدٌ لم يَكُنْ مَوْجُودًا وَقْتَ الطَّهَارَةِ فلم تَقَعُ الطَّهَارَةُ له فَكَانَ هو وَالْبَوْلُ وَالْغَائِطُ سَوَاءً فَأَمَّا إذَا سَالَ مِنْهُمَا جميعا فَتَوَضَّأَ ثُمَّ انْقَطَعَ أَحَدُهُمَا فَهُوَ على وُضُوءٍ ما بَقِيَ الْوَقْتُ لِأَنَّ طَهَارَتَهُ حَصَلَتْ لَهُمَا جميعا وَالطَّهَارَةُ مَتَى وَقَعَتْ لِعُذْرٍ لَا يَضُرُّهَا السَّيَلَانُ ما بَقِيَ الْوَقْتُ فَبَقِيَ هو صَاحِبَ عُذْرٍ بِالْمَنْخَرِ الْآخَرِ وَعَلَى هذا حُكْمُ صَاحِبُ الْقُرُوحِ إذَا كان الْبَعْضُ سَائِلًا ثُمَّ سَالَ الْآخَرُ أو كان الْكُلُّ سَائِلًا فَانْقَطَعَ السَّيَلَانُ عن الْبَعْضِ ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في طَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ أنها تُنْتَقَضُ عِنْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ أَمْ عِنْدَ دُخُولِهِ أَمْ عند أَيَّهُمَا كان قال أبو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ تُنْتَقَضُ عِنْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ لَا غَيْرُ وقال زُفَرُ عِنْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ لَا غَيْرُ وقال أبو يُوسُفَ عِنْدَ أَيِّهِمَا كان وَثَمَرَةُ هذا الِاخْتِلَافِ لَا تَظْهَرُ إلَّا في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يُوجَدَ الْخُرُوجُ بِلَا دُخُولٍ كما إذَا تَوَضَّأَتْ في وَقْتِ الْفَجْرِ ثُمَّ طَلَعَتْ الشَّمْسُ فإن طَهَارَتَهَا تُنْتَقَضُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لِوُجُودِ الْخُرُوجِ وَعِنْدَ زُفَرَ لَا تُنْتَقَضُ لِعَدَمِ الدُّخُولِ وَالثَّانِي أَنْ يُوجَدَ الدُّخُولُ بِلَا خُرُوجٍ كما إذَا تَوَضَّأَتْ قبل الزَّوَالِ ثُمَّ زَالَتْ الشَّمْسُ فإن طَهَارَتَهَا لَا تُنْتَقَضُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لِعَدَمِ الْخُرُوجِ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَزُفَرَ تُنْتَقَضُ لِوُجُودِ الدُّخُولِ‏.‏

وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ سُقُوطَ اعْتِبَارِ الْمُنَافِي لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ قبل دُخُولِ الْوَقْتِ فَلَا يَسْقُطُ وَبِهِ يَحْتَجُّ أبو يُوسُفَ في جَانِبِ الدُّخُولِ وفي جَانِبِ الْخُرُوجِ بقول ‏[‏يقول‏]‏ كما لَا ضَرُورَةَ إلَى إسْقَاطِ اعْتِبَارِ الْمُنَافِي قبل الدُّخُولِ لَا ضَرُورَةَ إلَيْهِ بَعْدَ الْخُرُوجِ فَيَظْهَرُ حُكْمُ الْمُنَافِي وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ما ذَكَرْنَا أَنَّ وَقْتَ الْأَدَاءِ شَرْعًا أُقِيمَ مَقَامَ وَقْتِ الْأَدَاءِ فِعْلًا لِمَا بَيَّنَّا من الْمَعْنَى ثُمَّ لَا بُدَّ من تَقْدِيمِ وَقْتِ الطَّهَارَةِ على وَقْتِ الْأَدَاءِ حَقِيقَةً فَكَذَا لَا بُدَّ من تَقْدِيمِهَا على وَقْتِ الْأَدَاءِ شَرْعًا حتى يُمْكِنُهُ شَغْلُ جَمِيعِ الْوَقْتِ بِالْأَدَاءِ وَهَذِهِ الْحَالَةُ انْعَدَمَتْ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ فَظَهَرَ حُكْمُ الْحَدَثِ وَمَشَايِخُنَا أَدَارُوا الْخِلَافَ على الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ فَقَالُوا تُنْتَقَضُ طَهَارَتُهَا بِخُرُوجِ الْوَقْتِ أو بِدُخُولِهِ لِتَيْسِيرِ الْحِفْظِ على الْمُتَعَلِّمِينَ لَا لِأَنَّ لِلْخُرُوجِ أو الدُّخُولِ تَأْثِيرًا في انْتِقَاضِ الطَّهَارَةِ وَإِنَّمَا الْمَدَارُ على ما ذَكَرْنَا‏.‏

وَلَوْ تَوَضَّأَ صَاحِبُ الْعُذْرِ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ لِصَلَاةِ الْعِيدِ أو لِصَلَاةِ الضُّحَى وَصَلَّى هل يَجُوزُ له أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ بِتِلْكَ الطَّهَارَةِ أَمَّا على قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَزُفَرَ فَلَا يُشْكِلُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِوُجُودِ الدُّخُولِ وَأَمَّا على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه قال بَعْضُهُمْ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ هذه طَهَارَةً وَقَعَتْ لِصَلَاةٍ مَقْصُودَةٍ فَتُنْتَقَضُ بِخُرُوجِ وَقْتِهَا

وقال بَعْضُهُمْ يَجُوزُ لِأَنَّ هذه الطَّهَارَةَ إنَّمَا صَحَّتْ لِلظُّهْرِ لِحَاجَتِهِ إلَى تَقْدِيمِ الطَّهَارَةِ على وَقْتِ الظُّهْرِ على ما مَرَّ فَيَصِحُّ بها أَدَاءُ صَلَاةِ الْعِيدِ وَالضُّحَى وَالنَّفَلُ كما إذَا تَوَضَّأَ لِلظُّهْرِ قبل الْوَقْتِ ثُمَّ دخل الْوَقْتُ أَنَّهُ يَجُوزُ له أَنْ يُؤَدِّيَ بها الظُّهْرَ وَصَلَاةً أُخْرَى في الْوَقْتِ كَذَا هذا وَلَوْ تَوَضَّأَ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ وَصَلَّى ثُمَّ تَوَضَّأَ وُضُوءًا آخَرَ في وَقْتِ الظُّهْرِ لِلْعَصْرِ وَدَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ هل يَجُوزُ له أَنْ يُصَلِّيَ الْعَصْرَ بِتِلْكَ الطَّهَارَةِ على قَوْلِهِمَا اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه قال بَعْضُهُمْ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ طَهَارَتَهُ قد صَحَّتْ لِجَمِيعِ وَقْتِ الظُّهْرِ فَتَبْقَى ما بَقِيَ الْوَقْتُ فَلَا تَصِحُّ الطَّهَارَةُ الثَّانِيَةُ مع قِيَامِ الْأُولَى بَلْ كانت تَكْرَارًا لِلْأُولَى فَالْتَحَقَتْ الثَّانِيَةُ بِالْعَدَمِ فَتُنْتَقَضُ الْأَوْلَى بِخُرُوجِ الْوَقْتِ وقال بَعْضُهُمْ يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى تَقْدِيمِ الطَّهَارَةِ على وَقْتِ الْعَصْرِ حتى يَشْتَغِلَ جَمِيعَ الْوَقْتِ بِالْأَدَاءِ وَالطَّهَارَةُ الْوَاقِعَةُ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ عَدَمٌ في حَقِّ صَلَاةِ الْعَصْرِ وَإِنَّمَا تُنْتَقَضُ بِخُرُوجِ وَقْتِ الظُّهْرِ طَهَارَةُ الظُّهْرِ لَا طَهَارَةُ الْعَصْرِ‏.‏

وَلَوْ تَوَضَّأَتْ مُسْتَحَاضَةٌ وَدَمُهَا سَائِلٌ أو سَالَ بَعْدَ الْوُضُوءِ قبل خُرُوجِ الْوَقْتِ ثُمَّ خَرَجَ الْوَقْتُ وَهِيَ في الصَّلَاةِ فَعَلَيْهَا أَنْ تَسْتَقْبِلَ لِأَنَّ طَهَارَتَهَا تُنْتَقَضُ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ لِمَا بَيَّنَّا فإذا خَرَجَ الْوَقْتُ قبل فراغها ‏[‏الخروج‏]‏ من الصَّلَاةِ انْتَقَضَتْ طَهَارَتُهَا فَتُنْتَقَضُ صَلَاتُهَا وَلَا تَبْنِي لِأَنَّهَا صَارَتْ مُحْدِثَةً عِنْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ من حِينِ دُرُورِ الدَّمِّ كَالْمُتَيَمِّمِ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ قبل الْفَرَاغِ من الصَّلَاةِ‏.‏

وَلَوْ تَوَضَّأَتْ وَالدَّمُ مُنْقَطِعٌ وَخَرَجَ الْوَقْتُ وَهِيَ في خِلَالِ الصَّلَاةِ قبل سَيَلَانِ الدَّمِ ثُمَّ سَالَ الدَّمُ تَوَضَّأَتْ وَبَنَتْ لِأَنَّ هذا حَدَثٌ لَاحِقٌ وَلَيْسَ بِسَابِقٍ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ كانت صَحِيحَةً لِانْعِدَامِ ما يُنَافِيهَا وَقْتَ حُصُولِهَا وقد حَصَلَ الْحَدَثُ لِلْحَالِ مُقْتَصِرًا غير مُوجِبٍ ارْتِفَاعَ الطَّهَارَةِ من الْأَصْلِ‏.‏

وَلَوْ تَوَضَّأَتْ وَالدَّمُ سَائِلٌ ثُمَّ انْقَطَعَ ثُمَّ صَلَّتْ وهو مُنْقَطِعٌ حتى خَرَجَ الْوَقْتُ وَدَخَلَ وَقْتُ صَلَاةِ أُخْرَى ثُمَّ سَالَ الدَّمُ أَعَادَتْ الصَّلَاةَ الْأُولَى لِأَنَّ الدَّمَ لَمَّا انْقَطَعَ ولم يَسِلْ حتى خَرَجَ الْوَقْتُ لم تَكُنْ تِلْكَ الطَّهَارَةُ طَهَارَةَ عُذْرٍ في حَقِّهَا لِانْعِدَامِ الْعُذْرِ فَتَبَيَّنَ أنها صَلَّتْ بِلَا طَهَارَةٍ وَأَصْلُ هذه الْمَسَائِلِ في الْجَامِعِ الْكَبِيرِ وهذا الذي ذَكَرْنَاهُ حُكْمُ صَاحِبِ الْعُذْرِ وَأَمَّا حُكْمُ نَجَاسَةِ ثَوْبِهِ فَنَقُولُ إذَا أَصَابَ ثَوْبَهُ من ذلك أَكْثَرُ من قَدْرِ الدِّرْهَمِ يَجِبُ غَسْلُهُ إذَا كان الْغَسْلُ مُفِيدًا بِأَنْ كان لَا يُصِيبُهُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى حتى لو لم يَغْسِلْ وَصَلَّى لم يجزئه ‏[‏يجوز‏]‏ وَإِنْ لم يَكُنْ مُفِيدًا لَا يَجِبُ ما دَامَ الْعُذْرُ قَائِمًا وهو اخْتِيَارُ مَشَايِخِنَا وكان محمد بن مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ يقول يَجِبُ غَسْلُهُ في وَقْتِ كل صَلَاةٍ قِيَاسًا على الْوُضُوءِ‏.‏

وَالصَّحِيحُ قَوْلُ مَشَايِخِنَا لِأَنَّ حُكْمَ الْحَدَثِ عَرَفْنَاهُ بِالنَّصِّ وَنَجَاسَةُ الثَّوْبِ ليس في مَعْنَاهُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَلِيلَ منها عَفْوٌ فَلَا يُلْحَقُ بِهِ وَأَمَّا الْحَدَثُ الْحُكْمِيُّ فَنَوْعَانِ أَيْضًا أَحَدُهُمَا أَنْ يُوجَدَ أَمْرٌ يَكُونُ سَبَبًا لِخُرُوجِ النَّجَسِ الْحَقِيقِيِّ غَالِبًا فَيُقَامُ السَّبَبُ مَقَامَ الْمُسَبَّبِ احْتِيَاطًا وَالثَّانِي أَنْ لَا يُوجَدُ شَيْءٌ من ذلك لَكِنَّهُ جُعِلَ حَدَثًا شَرْعًا تَعَبُّدًا مَحْضًا

أَمَّا الْأَوَّلُ فَأَنْوَاعٌ منها الْمُبَاشَرَةُ الْفَاحِشَةُ وهو أَنْ يُبَاشِرَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ بِشَهْوَةٍ وَيَنْتَشِرَ لها وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا ثَوْبٌ ولم يَرَ بَلَلًا فَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يَكُونُ حَدَثًا اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ حَدَثًا وهو قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَهَلْ تُشْتَرَطُ مُلَاقَاةُ الْفَرْجَيْنِ وَهِيَ مُمَاسَّتُهُمَا على قَوْلِهِمَا لَا يُشْتَرَطُ ذلك في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عنهما وَشَرَطَهُ في النَّوَادِرِ

وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ مُلَاقَاةَ الْفَرْجَيْنِ أَيْضًا وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ السَّبَبَ إنَّمَا يُقَامُ مَقَامَ الْمُسَبِّبِ في مَوْضِعٍ لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ على الْمُسَبِّبِ من غَيْرِ حَرَجٍ وَالْوُقُوفُ على الْمُسَبَّبِ هَهُنَا مُمْكِنٌ بِلَا حَرَجٍ لِأَنَّ الْحَالَ حَالُ يَقِظَةٍ فَيُمْكِنُ الْوُقُوفُ على الْحَقِيقَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى إقَامَةِ السَّبَبِ مَقَامَهَا‏.‏

وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ ما رُوِيَ أَنَّ أَبَا الْيُسْرِ بَائِعُ الْعَسَلِ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقال إنِّي أَصَبْت من امْرَأَتِي كُلَّ شَيْءٍ إلَّا الْجِمَاعَ فقال تَوَضَّأْ وَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ وَلِأَنَّ الْمُبَاشَرَةَ على الصِّفَةِ التي ذَكَرْنَا لَا تَخْلُو عن خُرُوجِ الْمَذْيِ عَادَةً إلَّا أنه يُحْتَمَلُ أَنَّهُ جَفَّ لِحَرَارَةِ الْبَدَنِ فلم يَقِفْ عليه أو غَفَلَ عن نَفْسِهِ لِغَلَبَةِ الشَّبَقِ فَكَانَتْ سَبَبًا مُفْضِيًا إلَى الْخُرُوجِ وَإِقَامَةُ السَّبَبِ مَقَامَ الْمُسَبِّبِ طَرِيقَةٌ مَعْهُودَةٌ في الشَّرِيعَةِ خُصُوصًا في أَمْرٍ يُحْتَاطُ فيه كما يُقَامُ الْمَسُّ مَقَامَ الْوَطْءِ في حَقِّ ثُبُوتِ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ بَلْ يُقَامُ نَفْسُ النِّكَاحِ مَقَامَهُ وَيُقَامُ نَوْمُ الْمُضْطَجِعِ مَقَامَ الْحَدَثِ وَنَحْوَ ذلك كَذَا هَهُنَا‏.‏

وَلَوْ لَمَسَ امْرَأَتَهُ بِشَهْوَةٍ أو غَيْرِ شَهْوَةِ فَرْجِهَا أو سَائِرِ أَعْضَائِهَا من غَيْرِ حَائِلٍ ولم يُنْشَرْ لها لَا يُنْتَقَضُ وضوؤه عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وقال مَالِكٌ إنْ كان الْمَسُّ بِشَهْوَةٍ يَكُونُ حَدَثًا وَإِنْ كان بِغَيْرِ شَهْوَةٍ بِأَنْ كانت صَغِيرَةً أو كانت ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ منه لَا يَكُونُ حَدَثًا وهو أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وفي قَوْلٍ يَكُونُ حَدَثًا كَيْفَمَا كان بِشَهْوَةٍ أو بِغَيْرِ شَهْوَةٍ وَهَلْ تُنْتَقَضُ طَهَارَةُ الْمَلْمُوسَةِ لَا شَكَّ أنها لَا تُنْتَقَضُ عِنْدَنَا وَلِلشَّافِعِيِّ فيه قَوْلَانِ احتجاجا ‏[‏احتجا‏]‏ بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أو لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ‏}‏ وَالْمُلَامَسَةُ مُفَاعَلَةٌ من اللَّمْسِ وَاللَّمْسُ وَالْمَسُّ وَاحِدٌ لُغَةً قال اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ‏}‏ حقيقة ‏[‏وحقيقة‏]‏ المس ‏[‏اللمس‏]‏ بِالْيَدِ وَلِلْجِمَاعِ مَجَازٌ أو هو حَقِيقَةٌ لَهُمَا جميعا لِوُجُودِ الْمَسِّ فِيهِمَا جميعا وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ آلَةُ الْمَسِّ فَكَانَ الِاسْمُ حَقِيقَةً لَهُمَا لِوُجُودِ مَعْنَى الِاسْمِ فِيهِمَا وقد جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى اللَّمْسَ حَدَثًا حَيْثُ أَوْجَبَ بِهِ إحْدَى الطَّهَارَتَيْنِ وَهِيَ التَّيَمُّمُ‏.‏

وَلَنَا ما رُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أنها سُئِلَتْ عن هذه الْحَادِثَةِ فقالت كان رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُ بَعْضَ نِسَائِهِ ثُمَّ يَخْرُجُ إلَى الصَّلَاةِ وَلَا يَتَوَضَّأُ وَلِأَنَّ الْمَسَّ ليس بِحَدَثٍ بِنَفْسِهِ وَلَا سَبَبٌ لِوُجُودِ الْحَدَثِ غَالِبًا فَأَشْبَهَ مَسَّ الرَّجُلِ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةِ الْمَرْأَةَ وَلِأَنَّ مَسَّ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ صَاحِبَهُ مِمَّا يَكْثُرُ وُجُودُهُ فَلَوْ جُعِلَ حَدَثًا لَوَقَعَ الناس في الْحَرَجِ وَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ نُقِلَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّ الْمُرَادَ من اللَّمْسِ الْجِمَاعُ وهو تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ وَذَكَرَ ابن السِّكِّيتِ في إصْلَاحِ الْمَنْطِقِ أَنَّ اللَّمْسَ إذَا قُرِنَ بِالنِّسَاءِ يُرَادُ بِهِ الْوَطْءُ تَقُولُ الْعَرَبُ لَمَسْت الْمَرْأَةَ أَيْ جَامَعْتهَا على أَنَّ اللَّمْسَ يَحْتَمِلُ الْجِمَاعَ إمَّا حَقِيقَةً وإما مَجَازًا فَيُحْمَلُ عليه تَوْفِيقًا بين الدَّلَائِلِ وَلَوْ مَسَّ ذَكَرَهُ بِبَاطِنِ كَفِّهِ من غَيْرِ حَائِلٍ لَا يُنْتَقَضُ وضوؤه عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُنْتَقَضُ احْتَجَّ بِمَا رَوَتْ بُسْرَةُ بِنْتُ صَفْوَانَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال من مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ وَلَنَا ما رُوِيَ عن عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَزَيْدِ بن ثَابِتٍ وَعِمْرَانَ بن حُصَيْنٍ وَحُذَيْفَةَ بن الْيَمَانِ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لم يَجْعَلُوا مَسَّ الذَّكَرِ حَدَثًا حتى قال عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه لَا أُبَالِي مَسِسْته أو أَرْنَبَةَ أَنْفِي وقال بَعْضُهُمْ لِلرَّاوِي إنْ كان نَجَسًا فَاقْطَعْهُ وَلِأَنَّهُ ليس بِحَدَثٍ بِنَفْسِهِ وَلَا سَبَبٌ لِوُجُودِ الْحَدَثِ غَالِبًا فَأَشْبَهَ مَسَّ الْأَنْفِ وَلِأَنَّ مَسَّ الْإِنْسَانِ ذَكَرَهُ مِمَّا يَغْلِبُ وُجُودُهُ فَلَوْ جُعِلَ حَدَثًا يُؤَدِّي إلَى الْحَرَجِ وما رَوَاهُ فَقَدْ قِيلَ أَنَّهُ ليس بِثَابِتٍ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وهو ما ذَكَرْنَا وَالثَّانِي أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ هذه الْحَادِثَةَ وَقَعَتْ في زَمَنِ مَرْوَانَ بن الْحَكَمِ فَشَاوَرَ من بَقِيَ من الصَّحَابَةِ فَقَالُوا لَا نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا وَلَا سُنَّةَ نَبِيِّنَا بِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَا نَدْرِي أَصَدَقَتْ أَمْ كَذَبَتْ وَالثَّالِثُ أَنَّهُ خَبَرُ وَاحِدٍ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى فَلَوْ ثَبَتَ لَاشْتَهَرَ وَلَوْ ثَبَتَ فَهُوَ مَحْمُولٌ على غَسْلِ الْيَدَيْنِ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَسْتَنْجُونَ بِالْأَحْجَارِ دُونَ الْمَاءِ فإذا مَسُّوهُ بِأَيْدِيهِمْ كانت تَتَلَوَّثُ خُصُوصًا في أَيَّامِ الصَّيْفِ فَأَمَرَ بِالْغَسْلِ لِهَذَا والله أعلم‏.‏

وَمِنْهَا الْإِغْمَاءُ وَالْجُنُونُ وَالسُّكْرُ الذي يَسْتُرُ الْعَقْلَ أَمَّا الْإِغْمَاءُ فَلِأَنَّهُ في اسْتِرْخَاءِ الْمَفَاصِلِ وَاسْتِطْلَاقِ الْوِكَاءِ فَوْقَ النَّوْمِ مُضْطَجِعًا وَذَلِكَ حَدَثٌ فَهَذَا أَوْلَى وَأَمَّا الْجُنُونُ فَلِأَنَّ الْمُبْتَلَى بِهِ يُحْدِثُ حَدَثًا وَلَا يَشْعُرُ بِهِ فَأُقِيمَ السَّبَبُ مَقَامَ الْمُسَبِّبِ وَالسُّكْرُ الذي يَسْتُرُ الْعَقْلَ في مَعْنَى الْجُنُونِ في عَدَمِ التَّمْيِيزِ وقد انْضَافَ إلَيْهِ اسْتِرْخَاءُ الْمَفَاصِلِ وَلَا فَرْقَ في حَقِّ هَؤُلَاءِ بين الِاضْطِّجَاعِ وَالْقِيَامِ لِأَنَّ ما ذَكَرْنَا من الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ الْفصل بين حَالٍ وَحَالٍ وَمِنْهَا النَّوْمُ مُضْطَجِعًا في الصَّلَاةِ أو في غَيْرِهَا بِلَا خِلَافٍ بين الْفُقَهَاءِ

وَحُكِيَ عن النَّظَّامُ أَنَّهُ ليس بِحَدَثٍ وَلَا عِبْرَةَ بِخِلَافِهِ لِمُخَالَفَتِهِ الْإِجْمَاعَ وَخُرُوجِهِ عن أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَالدَّلِيلُ عليه ما رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نَامَ في صَلَاتِهِ حتى غَطَّ وَنَفَخَ ثُمَّ قال لَا وُضُوءَ على من نَامَ قَائِمًا أو قَاعِدًا أو رَاكِعًا أو سَاجِدًا إنَّمَا الْوُضُوءُ على من نَامَ مُضْطَجِعًا فإنه إذَا نَامَ مُضْطَجِعًا اسْتَرْخَتْ مَفَاصِلُهُ نَصَّ على الْحُكْمِ وَعَلَّلَ بِاسْتِرْخَاءِ الْمَفَاصِلِ وَكَذَا النَّوْمُ مُتَوَرِّكًا بِأَنْ نَامَ على أَحَدِ وِرْكَيْهِ لِأَنَّ مَقْعَدَهُ يَكُونُ مُتَجَافِيًا عن الْأَرْضِ فَكَانَ في مَعْنَى النَّوْمِ مُضْطَجِعًا في كَوْنِهِ سَبَبًا لِوُجُودِ الْحَدَثِ بِوَاسِطَةِ اسْتِرْخَاءِ الْمَفَاصِلِ وَزَوَالُ مَسْكَةُ الْيَقَظَةِ فَأَمَّا النَّوْمُ في غَيْرِ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ فإما إنْ كان في الصَّلَاةِ وإما إنْ كان في غَيْرِهَا فَإِنْ كان في الصَّلَاةِ لَا يَكُونُ حَدَثًا سَوَاءٌ غَلَبَهُ النَّوْمُ أو تَعَمَّدَ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ قال سَأَلْت أَبَا حَنِيفَةَ عن النَّوْمِ في الصَّلَاةِ فقال لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَلَا أَدْرِي سألته ‏[‏أسألته‏]‏ عن الْعَمْدِ أو الْغَلَبَةِ وَعِنْدِي أَنَّهُ إنْ نَامَ مُتَعَمِّدًا يُنْتَقَضُ وضوؤه‏.‏

وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ النَّوْمَ حَدَثٌ على كل حَالٍ إلَّا إذَا كان قَاعِدًا مُسْتَقِرًّا على الْأَرْضِ فَلَهُ فيه قَوْلَانِ احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن صَفْوَانَ بن عَسَّالٍ الْمُرَادِيِّ أَنَّهُ قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُنَا أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهَا إذَا كنا سَفْرًا إلَّا من جَنَابَةٍ لَكِنْ من نَوْمٍ أو بَوْلٍ أو غَائِطٍ فَقَدْ جُعِلَ النَّوْمُ حَدَثًا على الْإِطْلَاقِ وَرُوِيَ عنه أَنَّهُ قال الْعَيْنَانِ وِكَاءُ السه ‏[‏الاست‏]‏ فإذا نَامَتْ الْعَيْنَانِ اسْتَطْلَقَ الْوِكَاءَ أَشَارَ إلَى كَوْنِ النَّوْمِ حَدَثًا حَيْثُ جَعَلَهُ عِلَّةَ اسْتِطْلَاقِ الْوِكَاءِ وَلَنَا ما رَوَيْنَا عن ابْنِ عَبَّاسٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم حَيْثُ نَفَى الْوُضُوءَ في النَّوْمِ في غَيْرِ حَالِ الِاضْطِجَاعِ وَأَثْبَتَهُ فيها بِعِلَّةِ اسْتِرْخَاءِ الْمَفَاصِلِ وَزَوَالِ مَسْكَةِ الْيَقَظَةِ ولم يُوجَدْ في هذه الْأَحْوَالِ لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ فيها بَاقٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لم يَسْقُطْ وفي الْمَشْهُورِ من الْأَخْبَارِ عن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال إذَا نَامَ الْعَبْدُ في سُجُودِهِ يُبَاهِي اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مَلَائِكَتَهُ فيقول اُنْظُرُوا إلَى عَبْدِي رُوحُهُ عِنْدِي وَجَسَدُهُ في طَاعَتِي وَلَوْ كان النَّوْمُ في الصَّلَاةِ حَدَثًا لِمَا كان جَسَدُهُ في طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا حُجَّةَ له فِيمَا روى لِأَنَّ مُطْلَقَ النَّوْمِ يَنْصَرِفُ إلَى النَّوْمِ الْمُتَعَارَفِ وهو نَوْمُ الْمُضْطَجِعِ وَكَذَا اسْتِطْلَاقُ الْوِكَاءِ يَتَحَقَّقُ بِهِ لَا بِكُلِّ نَوْمٍ وَجْهُ رِوَايَةِ أبي يُوسُفَ إن الْقِيَاسَ في النَّوْمِ حَالَة الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أَنْ يَكُونَ حَدَثًا لِكَوْنِهِ سَبَبًا لِوُجُودِ الْحَدَثِ إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ حَالَةَ الْغَلَبَةِ لِضَرُورَةِ التَّهَجُّدِ نظرا ‏[‏نظر‏]‏ لِلْمُتَهَجِّدِينَ وَذَلِكَ عِنْدَ الْغَلَبَةِ دُونَ التَّعَمُّدِ وَلَنَا ما رَوَيْنَا من الْحَدِيثَيْنِ من غَيْرِ فصل وَلِأَنَّ الِاسْتِمْسَاكَ في هذه الْأَحْوَالِ بَاقٍ لِمَا بَيَّنَّا وَإِنْ كان خَارِجَ الصَّلَاةِ فَإِنْ كان قَاعِدًا مُسْتَقِرًّا على الْأَرْضِ غير مُسْتَنِدٍ إلَى شَيْءٍ لَا يَكُونُ حَدَثًا لِأَنَّهُ ليس بِسَبَبٍ لِوُجُودِ الْحَدَثِ غَالِبًا وَإِنْ كان قَائِمًا أو على هَيْئَةِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ غير مُسْتَنِدٍ إلَى شَيْءٍ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه وَالْعَامَّةُ على أَنَّهُ لَا يَكُونُ حَدَثًا لِمَا رَوَيْنَا من الحديث من غَيْرِ فصل بين حَالَةِ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا وَلِأَنَّ الِاسْتِمْسَاكَ فيها بَاقٍ على ما مَرَّ وَالْأَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ في النَّوْمِ على هَيْئَةِ السُّجُودِ خَارِجَ الصَّلَاةِ ما ذَكَرَهُ الْقُمِّيُّ أَنَّهُ لَا نَصَّ فيه وَلَكِنْ يُنْظَرُ فيه إنْ سَجَدَ على الْوَجْهِ الْمَسْنُونِ بِأَنْ كان رَافِعًا بَطْنَهُ عن فَخْذَيْهِ مُجَافِيًا عَضُدَيْهِ عن جَنْبَيْهِ لَا يَكُونُ حَدَثًا وَإِنْ سَجَدَ لَا على وَجْهِ السُّنَّةِ بِأَنْ أَلْصَقَ بَطْنَهُ بِفَخِذَيْهِ وَاعْتَمَدَ على ذِرَاعَيْهِ على الْأَرْضِ يَكُونُ حَدَثًا لِأَنَّ في الْوَجْهِ الْأَوَّلِ الِاسْتِمْسَاكَ بَاقٍ وَالِاسْتِطْلَاقَ مُنْعَدِمٌ وفي الْوَجْهِ الثَّانِي بِخِلَافِهِ إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا هذا الْقِيَاسَ في حَالَةِ الصَّلَاةِ بِالنَّصِّ وَلَوْ نَامَ مُسْتَنِدًا إلَى جِدَارٍ أو سَارِيَةٍ أو رَجُلٍ مُتَّكِئًا على يَدَيْهِ ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ إنْ كان بِحَالٍ لو زايل ‏[‏أزيل‏]‏ السَّنَدُ لَسَقَطَ يَكُونُ حَدَثًا وَإِلَّا فَلَا وَبِهِ أَخَذَ كَثِيرٌ من مَشَايِخِنَا‏.‏

وَرَوَى خَلَفُ بن أَيُّوبَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ قال سَأَلْت أَبَا حَنِيفَةَ عَمَّنْ اسْتَنَدَ إلَى سَارِيَةٍ أو رَجُلٍ فَنَامَ وَلَوْلَا السَّارِيَةُ وَالرَّجُلُ لم يَسْتَمْسِكْ قال إذَا كانت إليته مُسْتَوْثِقَةً من الْأَرْضِ فَلَا وُضُوءَ عليه وَبِهِ أَخَذَ عَامَّةُ مَشَايِخِنَا وهو الْأَصَحُّ لِمَا رَوَيْنَا من الحديث وَذَكَرْنَا من الْمَعْنَى وَلَوْ نَامَ قَاعِدًا مُسْتَقِرًّا على الْأَرْضِ فَسَقَطَ وَانْتَبَهَ فَإِنْ انْتَبَهَ بَعْدَمَا سَقَطَ على الْأَرْضِ وهو نَائِمٌ انْتَقَضَ وضوؤه بِالْإِجْمَاعِ لِوُجُودِ النَّوْمِ مُضْطَجِعًا وَإِنْ قَلَّ وَإِنْ انْتَبَهَ قبل أَنْ يَصِلَ جَنْبُهُ إلَى الْأَرْضِ رُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يُنْتَقَضُ وضوؤه لِانْعِدَامِ النَّوْمِ مُضْطَجِعًا ووعن ‏[‏وعن‏]‏ أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يُنْتَقَضُ وضوؤه لِزَوَالِ الِاسْتِمْسَاكِ بِالنَّوْمِ حَيْثُ سَقَطَ وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إنْ انْتَبَهَ قبل أَنْ يُزَايِلَ مَقْعَدُهُ الْأَرْضَ لم يُنْتَقَضُ وضوؤه وَإِنْ زَايَلَ مَقْعَدُهُ قبل أَنْ يَنْتَبِهَ اُنْتُقِضَ وضوؤه‏.‏

مبحث القهقهة في الصلاة

وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ الْقَهْقَهَةُ في صَلَاةٍ مُطْلَقَةٍ وَهِيَ الصَّلَاةُ التي لها رُكُوعٌ وَسُجُودٌ فَلَا يَكُونُ حَدَثًا خَارِجَ الصَّلَاةِ وَلَا في صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَكُونَ حَدَثًا وهو قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَلَا خِلَافَ في التَّبَسُّمِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ حَدَثًا‏.‏ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رَوَى جَابِرٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال الضَّحِكُ يَنْقُضُ الصَّلَاةَ وَلَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَلِأَنَّهُ لم يُوجَدْ الْحَدَثُ حَقِيقَةً وَلَا ما هو سَبَبُ وُجُودِهِ وَالْوُضُوءُ لَا يُنْتَقَضُ إلَّا بِأَحَدِ هَذَيْنِ وَلِهَذَا لم يُنْتَقَضْ بِالْقَهْقَهَةِ خَارِجَ الصَّلَاةِ وفي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَلَا يُنْقَضُ بِالتَّبَسُّمِ وَلَنَا ما رُوِيَ في الْمَشَاهِيرِ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كان يُصَلِّي فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ في عَيْنَيْهِ سَوْءٌ فَوَقَعَ في بِئْرٍ عليها خُصْفَةٌ فَضَحِكَ بَعْضُ من خَلْفِهِ فلما قَضَى النبي صلى الله عليه وسلم الصَّلَاةَ قال من قَهْقَهَ مِنْكُمْ فَلْيُعِدْ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ وَمِنْ تَبَسَّمَ فَلَا شَيْءَ عليه طَعَنَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ في الْحَدِيث من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ ليس في مَسْجِدِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِئْرٌ وَالثَّانِي أَنَّهُ لَا يُظَنُّ بِالصَّحَابَةِ الضَّحِكُ في الصلاة خُصُوصًا خَلْفَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهَذَا الطَّعْنُ فَاسِدٌ لِأَنَّا ما رَوَيْنَا أن الصَّلَاةَ كانت في الْمَسْجِدِ على أَنَّهُ كانت في الْمَسْجِدِ حَفِيرَةٌ يُجْمَعُ فيها مَاءُ الْمَطَرِ وَمِثْلُهَا يُسَمَّى بِئْرًا وَكَذَا ما رَوَيْنَا أَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ أو الْعَشَرَةَ الْمُبَشِّرِينَ أو الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ أو فُقَهَاءَ الصَّحَابَةِ وَكِبَارَ الْأَنْصَارِ هُمْ الَّذِينَ ضَحِكُوا بَلْ كان الضَّاحِكُ بَعْضُ الْأَحْدَاثِ أو الْأَعْرَابِ أو بَعْضُ الْمُنَافِقِينَ لِغَلَبَةِ الْجَهْلِ عليهم حتى رُوِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَالَ في مَسْجِدِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَحَدِيثُ جَابِرٍ مَحْمُولٌ على ما دُونِ الْقَهْقَهَةِ تَوْفِيقًا بين الدَّلَائِلِ مع أَنَّهُ قِيلَ إنَّ الضَّحِكَ ما يُسْمِعُ الرَّجُلُ نَفْسَهُ وَلَا يُسْمِعُ جِيرَانَهُ ‏(‏وَالْقَهْقَهَةُ ما يُسْمِعُ جِيرَانَهُ‏)‏ وَالتَّبَسُّمُ ما لَا يُسْمِعُ نَفْسَهُ وَلَا جِيرَانَهُ وَقَوْلُهُ لم يُوجَدْ الْحَدَثُ وَلَا سَبَبُ وُجُودِهِ مُسَلَّمٌ لَكِنْ هذا حُكْمُ عُرْفٍ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ وَالنَّصُّ وَرَدَ بِانْتِقَاضِ الْوُضُوءِ بِالْقَهْقَهَةِ في صَلَاةٍ مُسْتَتِمَّةِ الْأَرْكَانِ فَبَقِيَ ما وَرَاءَ ذلك على أَصْلِ الْقِيَاسِ‏.‏

وَرُوِيَ عن جَرِيرِ بن عبد اللَّهِ الْبَجَلِيِّ أَنَّهُ قال ما رَآنِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا تَبَسَّمَ وَلَوْ في الصَّلَاةِ وَرُوِيَ أَنَّهُ تَبَسَّمَ في صَلَاتِهِ فلما فَرَغَ سُئِلَ عن ذلك فقال أَتَانِي جِبْرِيلُ عليه السَّلَامُ وَأَخْبَرَنِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يقول من صلى عَلَيْك مَرَّةً صلى اللَّهُ عليه عَشْرًا وَلَوْ قَهْقَهَ الْإِمَامُ وَالْقَوْمُ جميعا فَإِنْ قهقهة ‏[‏قهقه‏]‏ الإمام أَوَّلًا انْتَقَضَ وضوؤه ‏[‏وضؤه‏]‏ دُونَ الْقَوْمِ لِأَنَّ قَهْقَهَتَهُمْ لم تُصَادِفْ تَحْرِيمَةَ الصَّلَاةِ لِفَسَادِ صَلَاتِهِمْ بِفَسَادِ صَلَاةِ الْإِمَامِ فَجَعَلْت قهقهتهم ‏[‏قهقهتم‏]‏ خَارِجَ الصَّلَاةِ وَإِنْ قَهْقَهَ الْقَوْمُ أَوَّلًا ثُمَّ الْإِمَامُ انْتَقَضَ طَهَارَةُ الْكُلِّ لِأَنَّ قَهْقَهَتَهُمْ حَصَلَتْ في الصَّلَاةِ أَمَّا الْقَوْمُ فَلَا إشْكَالَ وَأَمَّا الْإِمَامُ فَلِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ خَارِجًا من الصَّلَاةِ بِخُرُوجِ الْقَوْمِ وَكَذَلِكَ إنْ قَهْقَهُوا مَعًا لِأَنَّ قَهْقَهَةَ الْكُلِّ حَصَلَتْ في تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ وَأَمَّا تَغْمِيضُ الْمَيِّتِ وَغَسْلِهِ وَحَمْلُ الْجِنَازَةِ وَأَكْلُ ما مَسَّتْهُ النَّارُ وَالْكَلَامُ الْفَاحِشِ فَلَيْسَ شَيْءٌ من ذلك حَدَثًا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وقال بَعْضُهُمْ كُلُّ ذلك حَدَثٌ وَرَوَوْا في ذلك عن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال من غَمَّضَ مَيِّتًا فَلْيَتَوَضَّأْ وَمَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا فَلْيَغْتَسِلْ وَمَنْ حَمَلَ جِنَازَةً فَلْيَتَوَضَّأْ‏.‏

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أنها قالت لِلْمُتَسَابَّيْنِ إنَّ بَعْضَ ما أَنْتُمَا فيه لَشَرٌّ من الْحَدَثِ فَجَدِّدَا الْوُضُوءَ وَعَنْ أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال توضؤوا ‏[‏توضئوا‏]‏ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ وَمِنْهُمْ من أَوْجَبَ من لَحْمِ الْإِبِلِ خَاصَّةً وَرُوِيَ توضؤوا ‏[‏توضئوا‏]‏ من لُحُومِ الْإِبِلِ وَلَا تتوضؤوا ‏[‏تتوضئوا‏]‏ من لُحُومِ الْغَنَمِ وَلَنَا ما رَوَيْنَا عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال إنَّمَا عَلَيْنَا الْوُضُوءُ مِمَّا يَخْرُجُ ليس مِمَّا يَدْخُلُ وقال ابن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما الْوُضُوءُ مِمَّا يَخْرُجُ يَعْنِي الْخَارِجَ النَّجِسَ ولم يُوجَدْ وَالْمَعْنَى في الْمَسْأَلَةِ إن الْحَدَثَ هو خُرُوجُ النَّجَسِ حَقِيقَةً أو ما هو سَبَبُ الْخُرُوجِ ولم يُوجَدْ وَإِلَيْهِ أَشَارَ ابن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما حين بَلَغَهُ حَدِيثُ حَمْلِ الْجِنَازَةِ فقال أَنَتَوَضَّأُ من مَسِّ عِيدَانٍ يَابِسَةٍ وَلِأَنَّ هذه الْأَشْيَاءَ مِمَّا يَغْلِبُ وُجُودُهَا فَلَوْ جُعِلَ شَيْءٌ من ذلك حَدَثًا لَوَقَعَ الناس في الْحَرَجِ وما رَوَوْا أَخْبَارَ آحَادٍ وَرَدَتْ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى وَيَغْلِبُ وُجُودُهُ وَلَا يُقْبَلُ خَبَرُ الْوَاحِدِ في مِثْلِهِ لِأَنَّهُ دَلِيلُ عَدَمِ الثُّبُوتِ إذْ لو ثَبَتَ لَاشْتَهَرَ بِخِلَافِ خَبَرِ الْقَهْقَهَةِ فإنه من الْمَشَاهِيرِ مع ما أنه وَرَدَ فِيمَا لَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى لِأَنَّ الْقَهْقَهَةَ في الصَّلَاةِ مِمَّا لَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ وَلَوْ ثَبَتَ ما رَوَوْا فَالْمُرَادُ من الْوُضُوءِ بِتَغْمِيضِ الْمَيِّتِ غَسْلُ الْيَدِ لِأَنَّ ذلك الْمَوْضِعَ لَا يَخْلُو عن قَذَارَةٍ عَادَةً وَكَذَا بِأَكْلِ ما مَسَّتْهُ النَّارُ وَلِهَذَا خَصَّ لَحْمَ الْإِبِلِ في رِوَايَةٍ لِأَنَّ له من اللُّزُوجَةِ ما ليس لِغَيْرِهِ وَهَكَذَا رُوِيَ أَنَّهُ أَكَلَ طَعَامًا فَغَسَلَ يَدَيْهِ وقال هَكَذَا الْوُضُوءُ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ وَالْمُرَادُ من حديث الْغُسْلِ فَلْيَغْتَسِلْ إذَا أَصَابَتْهُ الْغَسَّالَاتُ النَّجِسَةُ وَقَوْلُهُ فَلْيَتَوَضَّأْ في حَمْلِ الْجِنَازَةِ لِلْمُحْدِثِ لِيَتَمَكَّنَ من الصَّلَاةِ عليه وَعَائِشَةُ رضي اللَّهُ عنها إنَّمَا نَدَبَتْ الْمُتَسَابَّيْنِ إلَى تَجْدِيدِ الْوُضُوءِ تَكْفِيرًا لِذَنْبِ سَبِّهِمَا وَمَنْ تَوَضَّأَ ثُمَّ جَزَّ شَعْرَهُ أو قَلَّمَ ظُفْرَهُ أو قَصَّ شَارِبَهُ أو نَتَفَ إبِطَيْهِ لم يَجِبْ عليه إيصَالُ الْمَاءِ إلَى ذلك الْمَوْضِعِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعِنْدَ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ يَجِبُ عليه في قَلْمِ الظُّفْرِ وَجَزِّ الشَّعْرِ وَقَصِّ الشَّارِبِ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ ما حَصَلَ فيه التَّطْهِيرُ قد زَالَ وما ظَهَرَ لم يَحْصُلْ فيه التَّطْهِيرُ فَأَشْبَهَ نَزْعَ الْخُفَّيْنِ وَلَنَا أَنَّ الْوُضُوءَ قد تَمَّ فَلَا يُنْتَقَضُ إلَّا بِالْحَدَثِ ولم يُوجَدْ وَهَذَا لِأَنَّ الْحَدَثَ على ‏[‏يحل‏]‏ ظَاهِرَ الْبَدَنِ وقد زَالَ الْحَدَثُ عن الظَّاهِرِ إمَّا بِالْغَسْلِ أو بِالْمَسْحِ وما بَدَا لم يَحِلَّهُ الْحَدَثُ السَّابِقُ وَبَعْدَ بُدُوِّهِ لم يُوجَدْ حَدَثٌ آخَرُ فَلَا تُعْقَلُ إزَالَتُهُ بِخِلَافِ الْمَسْحِ على الْخُفَّيْنِ لِأَنَّ هُنَاكَ الوضوء لم يَتِمَّ لِأَنَّ تَمَامَهُ بِغَسْلِ لقدمين ‏[‏القدمين‏]‏ ولم يُوجَدْ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَقَامَ الْمَسْحَ على الْخُفَّيْنِ مَقَامَ غَسْلِ الْقَدَمَيْنِ لِضَرُورَةِ تَعَذُّرِ النَّزْعِ في كل زَمَانٍ فإذا نَزَعَ زَالَتْ الضَّرُورَةُ فَوَجَبَ غَسْلُ الْقَدَمَيْنِ تَتْمِيمًا لِلْوُضُوءِ وَإِنَّمَا أَوْرَدَ نَتْفَ الْإِبِطِ وَإِنْ لم يَكُنْ ما يَظْهَرُ بِالنَّتْفِ مَحَلًّا لِحُلُولِ الْحَدَثِ فيه بِخِلَافِ قَلْمِ الْأَظْفَارِ لِأَنَّهُ رُوِيَ عن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال من مَسَحَ إبِطَيْهِ فَلْيَتَوَضَّأْ وَتَأْوِيلُهُ فَلْيَغْسِلْ يَدَيْهِ لِتَلَوُّثِهِمَا بِعَرَقِهِ وَلَوْ مَسَّ كَلْبًا أو خِنْزِيرًا أو وطىء نَجَاسَةً لَا وُضُوءَ عليه لِانْعِدَامِ الْحَدَثِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا إلَّا أَنَّهُ إذَا الْتَزَقَ بيده شَيْءٌ من النَّجَاسَةِ يَجِبُ غَسْلُ ذلك الْمَوْضِعِ وَإِلَّا فَلَا وَمَنْ أَيْقَنَ بِالطَّهَارَةِ وَشَكَّ في الْحَدَثِ فَهُوَ على الطَّهَارَةِ وَمَنْ أَيْقَنَ بِالْحَدَثِ وَشَكَّ في الطَّهَارَةِ فَهُوَ على الْحَدَثِ لِأَنَّ الْيَقِينَ لَا يَبْطُلُ بِالشَّكِّ وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قال المتوضىء ‏[‏المتوضئ‏]‏ إذَا تَذَكَّرَ أَنَّهُ دخل الْخَلَاءَ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ وَشَكَّ أَنَّهُ خَرَجَ قبل أَنْ يَقْضِيَهَا أو بَعْدَ ما قَضَاهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَوَضَّأَ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ ما خَرَجَ إلَّا بَعْدَ قَضَائِهَا وَكَذَلِكَ الْمُحْدِثُ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ جَلَسَ لِلْوُضُوءِ وَمَعَهُ الْمَاءُ وَشَكَّ في أَنَّهُ تَوَضَّأَ أو قام قبل أَنْ يَتَوَضَّأَ فَلَا وُضُوءَ عليه لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يَقُومُ ما لم يَتَوَضَّأْ وَلَوْ شَكَّ في بَعْضِ وُضُوئِهِ وهو أَوَّلُ ما شَكَّ غَسَلَ الْمَوْضِعَ الذي شَكَّ فيه لِأَنَّهُ على يَقِينٍ من الْحَدَثِ في ذلك الْمَوْضِعِ وفي شَكِّ من غَسَلَهُ وَالْمُرَادُ من قَوْلِهِ أَوَّلَ ما شَكَّ أَنَّ الشَّكَّ في مِثْلِهِ يَصِرْ عَادَةً له لَا أَنَّهُ لم يَبْتَلَّ بِهِ قَطُّ وَإِنْ كان يَعْرِضُ له ذلك كَثِيرًا لم يُلْتَفَتْ إلَيْهِ لِأَنَّ ذلك وَسْوَسَةٌ وَالسَّبِيلُ في الْوَسْوَسَةِ قَطْعُهَا لِأَنَّهُ لو اشْتَغَلَ بِذَلِكَ لَأَدَّى إلَى أَنْ لا ‏[‏يتفرع‏]‏ يتفرغ لِأَدَاءِ الصَّلَاةِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَلَوْ تَوَضَّأَ ثُمَّ رَأَى الْبَلَلَ سَائِلًا من ذَكَرِهِ أَعَادَ الْوُضُوءَ لِوُجُودِ الْحَدَثِ وهو سَيَلَانُ الْبَوْلِ وَإِنَّمَا قال رَآهُ سَائِلًا لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْبَلَلِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ من مَاءِ الطَّهَارَةِ فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ بَوْلٌ ظَهَرَ فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ وَإِنْ لم يَكُنْ سَائِلًا وَإِنْ كان الشَّيْطَانُ يُرِيه ذلك كَثِيرًا ولا ‏[‏ولم‏]‏ يَعْلَمْ أَنَّهُ بَوْلٌ أو مَاءٌ مَضَى على صَلَاتِهِ وَلَا يَلْتَفِتُ إلَى ذلك لِأَنَّهُ من باب الْوَسْوَسَةِ فَيَجِبُ قَطْعُهَا‏.‏

وقال النبي صلى الله عليه وسلم إنَّ الشَّيْطَانَ يَأْتِي أَحَدَكُمْ فَيَنْفُخُ بين إليتيه فيقول أَحْدَثْت أَحْدَثْت فَلَا يَنْصَرِفْ حتى يَسْمَعَ صَوْتًا أو يَجِدَ رِيحًا وَيَنْبَغِي أَنْ يَنْضَحَ فَرْجَهُ أو إزَارَهُ بِالْمَاءِ إذَا تَوَضَّأَ قَطْعًا لِهَذِهِ الْوَسْوَسَةِ حتى إذَا أَحَسَّ شيئا من ذلك أَحَالَهُ إلَى ذلك الْمَاءِ وقد رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كان يَنْضَحُ إزَارَهُ بِالْمَاءِ إذَا تَوَضَّأَ وفي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قال نَزَلَ عَلَيَّ جِبْرِيلُ صَلَوَاتُ عليه وَأَمَرَنِي بِذَلِكَ‏.‏

مبحث مَسِّ الْمُصْحَفِ

وَأَمَّا الثَّانِي وهو بَيَانُ حُكْمِ الْحَدَثِ فَلِلْحَدَثِ أَحْكَامٌ وَهِيَ أَنْ لَا يَجُوزَ لِلْمُحْدِثِ أَدَاءُ الصَّلَاةِ لِفَقْدِ شَرْطِ جَوَازِهَا وهو الْوُضُوءُ‏.‏قال لَا صَلَاةَ إلَّا بِوُضُوءٍ وَلَا مَسُّ الْمُصْحَفِ من غَيْرِ غُلَافٍ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُبَاحُ له مَسُّ الْمُصْحَفِ من غَيْرِ غُلَافٍ وَقَاسَ الْمَسَّ على الْقِرَاءَةِ فقال يَجُوزُ له الْقِرَاءَةُ فَيَجُوزُ له الْمَسُّ وَلَنَا قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَا يَمَسُّهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ‏}‏ وَقَوْلُ النبي صلى الله عليه وسلم لَا يَمَسُّ الْقُرْآنَ إلَّا طَاهِرٌ وَلِأَنَّ تَعْظِيمَ الْقُرْآنِ وَاجِبٌ وَلَيْسَ مَسُّ التعظيم من الْمُصْحَفِ بِيَدٍ حَلَّهَا حَدَثٌ واعتباره ‏[‏واعتبار‏]‏ الْمَسِّ بِالْقِرَاءَةِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ حُكْمَ الْحَدَثِ لم يَظْهَرْ في الْفَمِ وَظَهَرَ في الْيَدِ بِدَلِيلٍ أَنَّهُ افْتَرَضَ غَسْلَ الْيَدِ ولم يَفْتَرِضْ غَسْلَ الْفَمِ في الْحَدَثِ فَبَطَلَ الِاعْتِبَارُ وَلَا مَسُّ الدَّرَاهِمِ التي عليها الْقُرْآنُ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْمُصْحَفِ كَحُرْمَةِ ما كُتِبَ منه فَيَسْتَوِي فيه الْكِتَابَةُ في الْمُصْحَفِ وَعَلَى الدَّرَاهِمِ وَلَا مَسُّ كِتَابِ التَّفْسِيرِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِمَسِّهِ مَاسًّا لِلْقُرْآنِ وَأَمَّا مَسُّ كِتَابِ الْفِقْهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَالْمُسْتَحَبُّ له أَنْ لَا يَفْعَلَ وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَإِنْ طَافَ جَازَ مع النُّقْصَانِ لِأَنَّ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ شَبِيهٌ بِالصَّلَاةِ قال النبي صلى الله عليه وسلم الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ ليس بِصَلَاةٍ حقيقة ‏[‏حقيقية‏]‏ فَلِكَوْنِهِ طَوَافًا حَقِيقَةً يَحْكُمُ بِالْجَوَازِ وَلِكَوْنِهِ شَبِيهًا بِالصَّلَاةِ يُحْكَمَ بِالْكَرَاهَةِ ثُمَّ ذَكَرَ الْغِلَافَ ولم يذكر تَفْسِيرَهُ وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ في تَفْسِيرِهِ فقال بَعْضُهُمْ هو الْجِلْدُ الْمُتَّصِلُ بِالْمُصْحَفِ‏.‏

وقال بَعْضُهُمْ هو الْكُمُّ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ الْغِلَافُ الْمُنْفصل عن الْمُصْحَفِ وهو الذي يُجْعَلُ فيه الْمُصْحَفُ وقد يَكُونُ من الْجِلْدِ وقد يَكُونُ من الثَّوْبِ وهو الْخَرِيطَةُ لِأَنَّ الْمُتَّصِلَ بِهِ تَبَعٌ له فَكَانَ مَسُّهُ مَسًّا لِلْقُرْآنِ وَلِهَذَا لو بيع ‏[‏لبيع‏]‏ الْمُصْحَفُ دخل الْمُتَّصِلُ بِهِ في الْبَيْعِ وَالْكُمُّ تَبَعٌ لِلْحَامِلِ فَأَمَّا الْمُنْفصل فَلَيْسَ بِتَبَعٍ حتى لَا يَدْخُلَ في بَيْعِ الْمُصْحَفِ من غَيْرِ شَرْطٍ وقال بَعْضُ مَشَايِخِنَا إنَّمَا يُكْرَهُ مَسُّ الْمَوْضِعِ الْمَكْتُوبِ دُونَ الْحَوَاشِي لِأَنَّهُ لم يَمَسَّ الْقُرْآنَ حَقِيقَةً وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُكْرَهُ مَسُّ كُلِّهِ لِأَنَّ الْحَوَاشِيَ تَابِعَةٌ لِلْمَكْتُوبِ فَكَانَ مَسُّهَا مَسًّا لِلْمَكْتُوبِ وَيُبَاحُ له قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كان لَا يَحْجِزُهُ عن قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ شَيْءٌ إلَّا الْجَنَابَةُ وَيُبَاحُ له دُخُولُ الْمَسْجِدِ لِأَنَّ وُفُودَ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَأْتُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وهو في الْمَسْجِدِ فَيَدْخُلُونَ عليه ولم يَمْنَعْهُمْ من ذلك وَيَجِبُ عليه الصَّوْمُ وَالصَّلَاةُ حتى يَجِبَ قَضَاؤُهُمَا بِالتَّرْكِ لِأَنَّ الْحَدَثَ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ أَدَاءِ الصَّوْمِ فَلَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ وُجُوبِهِ وَلَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ وُجُوبِ الصَّلَاةِ أَيْضًا وَإِنْ كان يُنَافِي أَهْلِيَّةَ أَدَائِهَا لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ رَفْعُهُ بِالطَّهَارَةِ‏.‏

فصل الْغُسْل

وَأَمَّا الْغُسْلُ فَالْكَلَامُ فيه يَقَعُ في مَوَاضِعَ في تَفْسِيرِ الْغُسْلِ وفي بَيَانِ رُكْنِهِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وفي بَيَانِ سُنَنِ الْغُسْلِ وفي بَيَانِ آدَابِهِ وفي بَيَانِ مِقْدَارِ الْمَاءِ الذي يغتسل ‏[‏يغسل‏]‏ بِهِ وفي بَيَانِ صِفَة الْغُسْلِ أَمَّا تَفْسِيرُهُ فَالْغُسْلُ في اللُّغَةِ اسْمٌ لِلْمَاءِ الذي يُغْتَسَلُ بِهِ لَكِنْ في عُرْفِ الْفُقَهَاءِ يُرَادُ بِهِ غَسْلُ الْبَدَنِ وقد مَرَّ تَفْسِيرُ الْغَسْلِ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ الْإِسَالَةُ حتى لَا يَجُوزُ بِدُونِهَا وَأَمَّا رُكْنُهُ فَهُوَ إسَالَةُ الْمَاءِ على جَمِيعِ ما يُمْكِنُ إسَالَتُهُ عليه من الْبَدَنِ من غَيْرِ حَرَجٍ مَرَّةً وَاحِدَةً حتى لو بَقِيَتْ لُمْعَةٌ لم يُصِبْهَا الْمَاءُ لم يَجُزْ الْغُسْلُ وَإِنْ كانت يَسِيرَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا‏}‏ أَيْ طَهِّرُوا أَبْدَانَكُمْ وَاسْمُ الْبَدَنِ يَقَعُ على الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ فَيَجِبُ تَطْهِيرُ ما يُمْكِنُ تَطْهِيرُهُ منه بِلَا حَرَجٍ وَلِهَذَا وَجَبَتْ الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ في الْغُسْلِ لِأَنَّ إيصَالَ الْمَاءِ إلَى دَاخِلِ الْفَمِ وَالْأَنْفِ مُمْكِنٌ بِلَا حَرَجٍ وَإِنَّمَا لَا يَجِبَانِ في الْوُضُوءِ لَا لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إيصَالُ الْمَاءِ إلَيْهِ بَلْ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُنَاكَ غَسْلُ الْوَجْهِ وَلَا تَقَعُ الْمُوَاجِهَةُ إلَى ذلك رَأْسًا‏.‏

وَيَجِبُ إيصَالُ الْمَاءِ إلَى أَثْنَاءِ اللِّحْيَةِ كما يَجِبُ إلَى أُصُولِهَا وَكَذَا يَجِبُ على الْمَرْأَةِ إيصَالُ الْمَاءِ إلَى أَثْنَاءِ شَعْرِهَا إذَا كان مَنْقُوضًا كَذَا ذكره الْفَقِيهُ أبو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ إيصَالُ الْمَاءِ إلَى ذلك من غَيْرِ حَرَجٍ وَأَمَّا إذَا كان شَعْرُهَا ضَفِيرًا فَهَلْ يَجِبُ عليها إيصَالُ الْمَاءِ إلَى أَثْنَائِهِ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه قال بَعْضُهُمْ يَجِبُ لِقَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلم تَحْتَ كل شَعْرَةٍ جَنَابَةٌ أَلَا فَبُلُّوا الشَّعْرَ وَأَنْقُوا الْبَشَرَةَ‏.‏

وقال بَعْضُهُمْ لَا يَجِبُ وهو اخْتِيَارُ الشَّيْخِ الْإِمَامِ أبي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بن الْفَضْلِ الْبُخَارِيِّ وهو الْأَصَحُّ لِمَا رُوِيَ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ رضي اللَّهُ عنها سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقالت إنِّي أَشُدُّ ضَفْرَ رَأْسِي أَفَأَنْقُضُهُ إذَا اغْتَسَلْت فقال صلى اللَّهُ عليه وسلم‏:‏ «أَفِيضِي الْمَاءَ على رَأْسِك وَسَائِرِ جَسَدِك» وَيَكْفِيك إذَا بَلَغَ الْمَاءُ أصولع ‏[‏أصول‏]‏ شَعْرِك وَلِأَنَّ ضَفِيرَتَهَا إذَا كانت مَشْدُودَةً فَتَكْلِيفُهَا نَقْضُهَا يُؤَدِّي إلَى الْحَرَجِ وَلَا حَرَجَ حَالَ كَوْنِهَا مَنْقُوضَةٌ وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ على هذه الْحَالَةِ وَيَجِبُ إيصَالُ الْمَاءِ إلَى دَاخِلِ السُّرَّةِ لِإِمْكَانِ الْإِيصَالِ إلَيْهَا بِلَا حَرَجٍ وَيَنْبَغِي أَنْ يُدْخِلَ أُصْبُعَهُ فيها المبالغة ‏[‏للمبالغة‏]‏ وَيَجِبُ على الْمَرْأَةِ غَسْلُ الْفَرْجِ الْخَارِجِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ غَسْلُهُ بِلَا حَرَجٍ وَكَذَا الْأَقْلَفُ يحب ‏[‏يجب‏]‏ عليه إيصَالُ الْمَاءِ إلَى الْقُلْفَةِ‏.‏

وقال بَعْضُهُمْ لَا يَجِبُ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِإِمْكَانِ إيصَالُ الْمَاءِ إلَيْهِ من غَيْرِ حَرَجٍ وَأَمَّا شُرُوطُهُ فما ذَكَرْنَا في الْوُضُوءِ وَأَمَّا سُنَنُهُ فَهِيَ أَنْ يَبْدَأَ فَيَأْخُذَ الْإِنَاءَ بِشِمَالِهِ وَيَكْفِيهِ على يَمِينِهِ فَيَغْسِلُ يَدَيْهِ إلَى الرُّسْغَيْنِ ثَلَاثًا ثُمَّ يُفْرِغُ الْمَاءَ بِيَمِينِهِ على شِمَالِهِ فَيَغْسِلُ فَرْجَهُ حتى يُنَقِّيَهُ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا إلَّا أَنَّهُ لَا يَغْسِلُ رِجْلَيْهِ حتى يُفِيضَ الْمَاءَ على رَأْسِهِ وَسَائِرِ جَسَدِهِ ثَلَاثًا ثُمَّ يَتَنَحَّى فَيَغْسِلُ قَدَمَيْهِ وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ عن مَيْمُونَةَ زَوْجِ النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت وَضَعْتُ غُسْلًا لِرَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِيَغْتَسِلَ من الْجَنَابَةِ فَأَخَذَ الْإِنَاءَ بِشِمَالِهِ وَأَكْفَأَهُ على يَمِينِهِ فَغَسَلَ يَدَيْهِ ثَلَاثًا ثُمَّ أَنْقَى فَرْجَهُ‏.‏

بِالْمَاءِ ثُمَّ مَالَ بيده إلَى الْحَائِطِ فَدَلَّكَهَا بِالتُّرَابِ ثُمَّ تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ غير غَسْلِ الْقَدَمَيْنِ ثُمَّ أَفَاضَ الْمَاءَ على رَأْسِهِ وَسَائِرِ جَسَدِهِ ثَلَاثًا ثُمَّ تَنَحَّى فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ فَالْحَدِيثُ مُشْتَمِلٌ على بَيَانِ السُّنَّةِ وَالْفَرِيضَةِ جميعا وَهَلْ يَمْسَحُ رَأْسَهُ عِنْدَ تَقْدِيمِ الْوُضُوءِ على الْغُسْلِ ذُكِرَ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ يَمْسَحُ وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَمْسَحُ لِأَنَّ تَسْيِيلَ الْمَاءِ عليه بَعْدَ ذلك يُبْطِلُ مَعْنَى الْمَسْحِ فلم يَكُنْ فيه فَائِدَةٌ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ لِأَنَّ التَّسْيِيلَ من بَعْدُ لَا يُبْطِلُ التَّسْيِيلَ من قَبْلُ وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ السُّنَّةَ وَرَدَتْ بِتَقْدِيمِ الْوُضُوءِ على الْإِفَاضَةِ على جَمِيعِ الْبَدَنِ على ما رَوَيْنَا وَالْوُضُوءُ اسْمٌ لِلْمَسْحِ وَالْغُسْلِ جميعا إلَّا أَنَّهُ يُؤَخِّرُ غَسْلَ الْقَدَمَيْنِ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ في تَقْدِيمِ غَسْلِهِمَا لِأَنَّهُمَا يَتَلَوَّثَانِ بِالْغُسَالَاتِ من بَعْدُ حتى لو اغْتَسَلَ على مَوْضِعٍ لَا يَجْتَمِعُ الْغُسَالَةُ تَحْتَ قَدَمِهِ كَالْحَجَرِ وَنَحْوِهِ لَا يُؤَخِّرُ لِانْعِدَامِ مَعْنَى التَّلَوُّثِ وَلِهَذَا قالوا في غُسْلِ الْمَيِّتِ إنَّهُ يَغْسِلُ رِجْلَيْهِ عِنْدَ التَّوْضِئَةِ وَلَا يُؤَخِّرُ غَسْلَهُمَا لِأَنَّ الْغُسَالَةَ لَا تَجْتَمِعُ على التَّخْتِ‏.‏

وَمِنْ مَشَايِخِنَا من اسْتَدَلَّ بِتَأْخِيرِ النبي صلى الله عليه وسلم غَسْلَ الرِّجْلَيْنِ عِنْدَ تَقْدِيمِ الْوُضُوءِ على الْإِفَاضَةِ على أَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ نَجَسٌ إذْ لو لم يَكُنْ نَجَسًا لم يَكُنْ لِلتَّحَرُّجِ عن الظاهر ‏[‏الطاهر‏]‏ مَعْنَى فَجَعَلُوهُ حُجَّةَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ على مُحَمَّدٍ وَلَيْسَ فيه كَبِيرُ حُجَّةٍ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ كما يَتَحَرَّجُ عن النَّجَسِ يَتَحَرَّجُ عن الْقَذَرِ خُصُوصًا الْأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عليهم وَالْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ قد أُزِيلَ إلَيْهِ قَذَرُ الْحَدَثِ حتى تَعَافُهُ الطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ والله أعلم‏.‏