فصل: فصل شَرَائِط أَرْكَانِ الصلاة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع ***


فصل شَرَائِط أَرْكَانِ الصلاة

وَأَمَّا شَرَائِطُ الْأَرْكَانِ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ في الشَّرَائِطِ أنها نَوْعَانِ نَوْعٌ يَعُمُّ الْمُنْفَرِدَ وَالْمُقْتَدِيَ جميعا وهو شَرَائِطُ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَنَوْعٌ يَخُصُّ الْمُقْتَدِيَ وهو شَرَائِطُ جَوَازِ الِاقْتِدَاءِ بِالْإِمَامِ في صَلَاتِهِ أَمَّا شَرَائِطُ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ فَمِنْهَا الطَّهَارَةُ بِنَوْعَيْهَا من الْحَقِيقِيَّةِ وَالْحُكْمِيَّةِ وَالطَّهَارَةُ الْحَقِيقِيَّةُ هِيَ طَهَارَةُ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ وَمَكَانِ الصَّلَاةِ عن النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ وَالطَّهَارَةُ الْحُكْمِيَّةُ هِيَ طَهَارَةُ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ عن الْحَدَثِ وَطَهَارَةُ جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ عن الْجَنَابَةِ أَمَّا طَهَارَةُ الثَّوْبِ وَطَهَارَةُ الْبَدَنِ عن النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ‏}‏ وإذا وَجَبَ تَطْهِيرُ الثَّوْبِ فَتَطْهِيرُ الْبَدَنِ أَوْلَى وَأَمَّا الطَّهَارَةُ عن الْحَدَثِ وَالْجَنَابَةِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ‏}‏ إلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لِيُطَهِّرَكُمْ‏}‏ وَقَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلم لَا صَلَاةَ إلَّا بِطَهُورٍ وَقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا صَلَاةَ إلَّا بِطَهَارَةٍ وَقَوْلِهِ مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطَّهُورُ وقَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا‏}‏ وَقَوْلِهِ تَحْتَ كل شَعْرَةٍ جَنَابَةٌ أَلَا فَبِلُّوا الشَّعْرَ وَأَنْقُوا الْبَشَرَةَ‏.‏

وَالْإِنْقَاءُ هو التَّطْهِيرُ فَدَلَّتْ النُّصُوصُ على أَنَّ الطَّهَارَةَ الْحَقِيقِيَّةَ عن الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ وَالْحُكْمِيَّةَ شَرْطُ جَوَازِ الصَّلَاةِ وَالْمَعْقُولُ كَذَا يَقْتَضِي من وُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّ الصَّلَاةَ خِدْمَةُ الرَّبِّ وَتَعْظِيمُهُ جَلَّ جَلَالُهُ وَعَمَّ نَوَالُهُ وَخِدْمَةُ الرَّبِّ وَتَعْظِيمُهُ بِكُلِّ الْمُمْكِنِ فَرْضٌ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقِيَامَ بين يَدَيْ اللَّهِ تَعَالَى بِبَدَنٍ طَاهِرٍ وَثَوْبٍ طَاهِرٍ على مَكَان طَاهِرٍ يَكُونُ أَبْلَغَ في التَّعْظِيمِ وَأَكْمَلَ في الْخِدْمَةِ من الْقِيَامِ بِبَدَنٍ نَجِسٍ وَثَوْبٍ نَجِسٍ وَعَلَى مَكَان نَجِسٍ كما في خِدْمَةِ الملوك ‏[‏المملوك‏]‏ في الشَّاهِدِ وَكَذَلِكَ الْحَدَثُ وَالْجَنَابَةُ وَإِنْ لم تَكُنْ نَجَاسَةً مَرْئِيَّةً فَهِيَ نَجَاسَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ تُوجِبُ اسْتِقْذَارَ ما حَلَّ بِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُصَافِحَ حُذَيْفَةَ بن الْيَمَانِ رضي اللَّهُ عنه امْتَنَعَ وقال إنِّي جُنُبٌ يا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكَانَ قِيَامُهُ مُخِلًّا بِالتَّعْظِيمِ على أَنَّهُ إنْ لم يَكُنْ على أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ نَجَاسَةٌ رَأْسًا فَإِنَّهَا لَا تَخْلُو عن الدَّرَنِ وَالْوَسَخِ لِأَنَّهَا أَعْضَاءٌ بَادِيَةٌ عَادَةً فَيَتَّصِلُ بها الدَّرَنُ وَالْوَسَخُ فَيَجِبُ غَسْلُهَا تَطْهِيرًا لها من الْوَسَخِ وَالدَّرَنِ فَتَتَحَقَّقُ الزِّينَةُ وَالنَّظَافَةُ فَيَكُونُ أَقْرَبَ إلَى التَّعْظِيمِ وَأَكْمَلَ في الْخِدْمَةِ‏.‏ فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَقُومَ بين يَدَيْ الْمُلُوكِ لِلْخِدْمَةِ في الشَّاهِدِ أَنَّهُ يَتَكَلَّفُ لِلتَّنْظِيفِ وَالتَّزْيِينِ وَيَلْبَسُ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ تَعْظِيمًا لِلْمَلِكِ وَلِهَذَا كان الْأَفْضَلُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُصَلِّيَ في أَحْسَنِ ثِيَابِهِ وَأَنْظَفِهَا التي أَعَدَّهَا لِزِيَارَةِ الْعُظَمَاءِ وَلِمَحَافِلِ الناس وَكَانَتْ الصَّلَاةُ مُتَعَمِّمًا أَفْضَلَ من الصَّلَاةِ مَكْشُوفَ الرَّأْسِ لِمَا أَنَّ ذلك أَبْلَغُ في الِاحْتِرَامِ‏.‏

وَالثَّانِي أَنَّهُ أَمْرٌ بِغَسْلِ هذه الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ من الْحَدَثِ وَالْجَنَابَةِ تَذْكِيرًا لِتَطْهِيرِ الْبَاطِنِ من الْغِشِّ وَالْحَسَدِ وَالْكِبْرِ وَسُوءِ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِينَ وَنَحْوِ ذلك من أَسْباب الْمَآثِمِ فَأَمَرَ لَا لِإِزَالَةِ الْحَدَثِ تَطْهِيرًا لِأَنَّ قِيَامَ الْحَدَثِ لَا يُنَافِي الْعِبَادَةَ وَالْخِدْمَةَ في الْجُمْلَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَدَاءُ الصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ مع قِيَامِ الْحَدَثِ وَالْجَنَابَةِ وَأَقْرَبُ من ذلك الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ تَعَالَى الذي هو رَأْسُ الْعِبَادَاتِ وَهَذَا لِأَنَّ الْحَدَثَ ليس بِمَعْصِيَةٍ وَلَا سَبَبِ مَأْثَمٍ وما ذَكَرْنَا من الْمَعَانِي التي في بَاطِنِهِ أَسْباب الْمَآثِمِ فَأَمَرَ بِغَسْلِ هذه الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ دَلَالَةً وَتَنْبِيهًا على تَطْهِيرِ الْبَاطِنِ من هذه الْأُمُورِ وَتَطْهِيرُ النَّفَسِ عنها وَاجِبٌ بِالسَّمْعِ وَالْعَقْلِ‏.‏

وَالثَّالِثُ أَنَّهُ وَجَبَ غَسْلُ هذه الْأَعْضَاءِ شُكْرًا للنعمة ‏[‏لنعمة‏]‏ وَرَاءَ النِّعْمَةِ التي وَجَبَتْ لها الصَّلَاةُ وَهِيَ أَنَّ هذه الْأَعْضَاءَ وَسَائِلُ إلَى اسْتِيفَاءِ نِعَمٍ عَظِيمَةٍ بَلْ بها تُنَالُ جُلُّ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى فَالْيَدُ بها يَتَنَاوَلُ وَيَقْبِضُ ما يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَالرِّجْلُ يَمْشِي بها إلَى مَقَاصِدِهِ وَالرَّأْسُ والوجه مَحَلُّ الْحَوَاسِّ وَمَجْمَعُهَا التي بها يُعْرَفُ عِظَمُ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى من الْعَيْنِ وَالْأَنْفِ وَالْفَمِ وَالْأُذُنِ التي بها الْبَصَرُ وَالشَّمُّ وَالذَّوْقُ وَالسَّمْعُ التي بها يَكُونُ التَّلَذُّذُ وَالتَّشَهِّي وَالْوُصُولُ إلَى جَمِيعِ النِّعَمِ فَأَمَرَ بِغَسْلِ هذه الْأَعْضَاءِ شُكْرًا لِمَا يُتَوَسَّلُ بها إلَى هذه النِّعَمِ‏.‏

وَالرَّابِعُ أَمَرَ بِغَسْلِ هذه الْأَعْضَاءِ تَكْفِيرًا لِمَا ارْتَكَبَ بِهَذِهِ الْأَعْضَاءِ من الْإِجْرَامِ إذْ بها يَرْتَكِبُ جُلَّ الْمَآثِمِ من أَخْذِ الْحَرَامِ وَالْمَشْيِ إلَى الْحَرَامِ وَالنَّظَرِ إلَى الْحَرَامِ وَأَكْلِ الْحَرَامِ وَسَمَاعِ الْحَرَامِ من اللَّغْوِ وَالْكَذِبِ فَأَمَرَ بِغَسْلِهَا تَكْفِيرًا لِهَذِهِ الذُّنُوبِ وقد وَرَدَتْ الْأَخْبَارُ بِكَوْنِ الْوُضُوءِ تَكْفِيرًا لِلْمَآثِمِ فَكَانَتْ مُؤَيِّدَةً لِمَا قُلْنَا وَأَمَّا طَهَارَةُ مَكَانِ الصَّلَاةِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ‏}‏ وقال في مَوْضِعٍ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّلَاةَ خِدْمَةُ الرَّبِّ تَعَالَى وَتَعْظِيمُهُ وَخِدْمَةُ الْمَعْبُودِ الْمُسْتَحِقِّ لِلْعِبَادَةِ وَتَعْظِيمُهُ بِكُلِّ الْمُمْكِنِ فَرْضٌ وَأَدَاءُ الصَّلَاةِ على مَكَان طَاهِرٍ أَقْرَبُ إلَى التَّعْظِيمِ فَكَانَ طَهَارَةُ مَكَانِ الصَّلَاةِ شَرْطًا‏.‏ وقد رُوِيَ عن أبي هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عنه عن رسول الله أَنَّهُ نهى عن الصَّلَاةِ في الْمَزْبَلَةِ وَالْمَجْزَرَةِ وَمَعَاطِنِ الْإِبِلِ وَقَوَارِعِ الطرق ‏[‏الطريق‏]‏ وَالْحَمَّامِ وَالْمَقْبَرَةِ وَفَوْقَ ظَهْرِ بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى‏.‏

أَمَّا مَعْنَى النَّهْيِ عن الصَّلَاةِ في الْمَزْبَلَةِ وَالْمَجْزَرَةِ فَلِكَوْنِهِمَا مَوْضِعَ النَّجَاسَةِ وَأَمَّا مَعَاطِنُ الْإِبِلِ فَقَدْ قِيلَ إنَّ مَعْنَى النَّهْيِ فيها أنها لَا تَخْلُو عن النَّجَاسَاتِ عَادَةً لَكِنَّ هذا يُشْكِلُ بِمَا رُوِيَ من الحديث صَلُّوا في مَرَابِضِ الْغَنَمِ وَلَا تُصَلُّوا في مَعَاطِنِ الْإِبِلِ مع أَنَّ الْمَعَاطِنَ وَالْمَرَابِضَ في مَعْنَى النَّجَاسَةِ سَوَاءٌ وَقِيلَ مَعْنَى النَّهْيِ أَنَّ الْإِبِلَ رُبَّمَا تَبُولُ على الْمُصَلِّي فَيُبْتَلَى بِمَا يُفْسِدُ صَلَاتَهُ وَهَذَا لَا يُتَوَهَّمُ في الْغَنَمِ وَأَمَّا قَوَارِعُ الطُّرُقِ فَقِيلَ أنها لَا تَخْلُو عن الْأَرْوَاثِ وَالْأَبْوَالِ عَادَةً فَعَلَى هذا لَا فَرْقَ بين الطَّرِيقِ الْوَاسِعِ وَالضَّيِّقِ وَقِيلَ مَعْنَى النَّهْيِ فيها أَنَّهُ يَسْتَضِرُّ بِهِ الْمَارَّةُ وَعَلَى هذا إذَا كان الطَّرِيقُ وَاسِعًا لَا يُكْرَهُ وَحَكَى ابن سماعه أَنَّ مُحَمَّدًا كان يُصَلِّي على الطَّرِيقِ في الْبَادِيَةِ وَأَمَّا الْحَمَّامُ فَمَعْنَى النَّهْيِ فيه أَنَّهُ مَصَبُّ الْغُسَالَاتِ وَالنَّجَاسَاتِ عَادَةً فَعَلَى هذا لو صلى في مَوْضِعِ الْحَمَّامِيِّ لَا يُكْرَهُ وَقِيلَ مَعْنَى النَّهْيِ فيه أَنَّ الْحَمَّامَ بَيْتُ الشَّيْطَانِ فَعَلَى هذا تُكْرَهُ الصَّلَاةُ في كل مَوْضِعٍ منه سَوَاءٌ غُسِلَ ذلك الْمَوْضِعُ أو لم يُغْسَلْ وَأَمَّا الْمَقْبَرَةُ فَقِيلَ إنَّمَا نهى عن ذلك لِمَا فيه من التَّشْبِيهِ بِالْيَهُودِ كما رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ فَلَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي بَعْدِي مَسْجِدًا‏.‏

وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي بِاللَّيْلِ إلَى قَبْرٍ فَنَادَاهُ الْقَبْرَ الْقَبْرَ فَظَنَّ الرَّجُلُ أَنَّهُ يقول الْقَمَرَ الْقَمَرَ فَجَعَلَ يَنْظُرُ إلَى السَّمَاءِ فما زَالَ بِهِ حتى تَنَبَّهَ فَعَلَى هذا تَجُوزُ الصَّلَاةُ وَتُكْرَهُ وَقِيلَ مَعْنَى النَّهْيِ أَنَّ الْمَقَابِرَ لَا تَخْلُو عن النَّجَاسَاتِ لِأَنَّ الْجُهَّالَ يَسْتَتِرُونَ بِمَا شَرُفَ من الْقُبُورِ فَيَبُولُونَ وَيَتَغَوَّطُونَ خَلْفَهُ فَعَلَى هذا لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ لو كان في مَوْضِعٍ يَفْعَلُونَ ذلك لِانْعِدَامِ طَهَارَةِ الْمَكَانِ وَأَمَّا فَوْقَ بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى فَمَعْنَى النَّهْيِ عِنْدَنَا أَنَّ الْإِنْسَانَ مَنْهِيٌّ عن الصُّعُودِ على سَطْحِ الْكَعْبَةِ لِمَا فيه من تَرْكِ التَّعْظِيمِ وَلَا يُمْنَعُ جَوَازُ الصَّلَاةِ عليه‏.‏

وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هذا النَّهْيُ لِلْإِفْسَادِ حتى لو صلى على سَطْحِ الْكَعْبَةِ وَلَيْسَ بين يَدَيْهِ سُتْرَةٌ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ عِنْدَهُ وَسَنَذْكُرُ الْكَلَامَ فِيمَا بَعْدُ‏.‏وَلَوْ صلى في بَيْتٍ فيه تَمَاثِيلُ فَهَذَا على وَجْهَيْنِ أَمَّا إنْ كانت التَّمَاثِيلُ مَقْطُوعَةَ الرؤوس أو لم تَكُنْ مَقْطُوعَةَ الرؤوس فَإِنْ كانت مَقْطُوعَةَ الرؤوس فَلَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ فيه لِأَنَّهَا بِالْقَطْعِ خَرَجَتْ من أَنْ تَكُونَ تَمَاثِيلَ وَالْتَحَقَتْ بِالنُّقُوشِ وَالدَّلِيلُ عليه ما رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُهْدِيَ إلَيْهِ تُرْسٌ فيه تِمْثَالُ طَيْرٍ فَأَصْبَحُوا وقد مُحِيَ وَجْهُهُ‏.‏

وَرُوِيَ أَنَّ جِبْرِيلَ عليه السَّلَامُ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَذِنَ له فقال كَيْفَ أَدْخُلُ وفي الْبَيْتِ قِرَامٌ فيه تَمَاثِيلُ خُيُولٍ وَرِجَالٍ فَإِمَّا أَنْ تُقْطَعَ رؤوسها ‏[‏رءوسها‏]‏ أو تُتَّخَذُ وَسَائِدَ فَتُوطَأُ وَإِنْ لم تَكُنْ مَقْطُوعَةَ الرؤوس فَتُكْرَهُ الصَّلَاةُ فيه سَوَاءٌ كانت في جِهَةِ الْقِبْلَةِ أو في السَّقْفِ أو عن يَمِينِ الْقِبْلَةِ أو عن يَسَارِهَا فَأَشَدُّ ذلك كَرَاهَةً أَنْ تَكُونَ في جِهَةِ الْقِبْلَةِ لِأَنَّهُ تَشَبُّهٌ بِعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَلَوْ كانت في مُؤْخِرِ الْقِبْلَةِ أو تَحْتَ الْقَدَمِ لَا يُكْرَهُ لِعَدَمِ التَّشَبُّهِ في الصَّلَاةِ بِعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ‏.‏

وَكَذَا يُكْرَهُ الدُّخُولُ إلَى بَيْتٍ فيه صُوَرٌ على سَقْفِهِ أو حِيطَانِهِ أو على السُّتُورِ وَالْأُزُرِ وَالْوَسَائِدِ الْعِظَامِ لِأَنَّ جِبْرِيلَ عليه السَّلَامُ قال إنَّا لَا نَدْخُلُ بَيْتًا فيه كَلْبٌ أو صُورَةٌ وَلَا خَيْرَ في بَيْتٍ لَا تَدْخُلُهُ الْمَلَائِكَةُ وَكَذَا نَفْسُ التَّعْلِيقِ لِتِلْكَ السُّتُورِ وَالْأُزُرِ على الْجِدَارِ وَوَضْعُ الْوَسَائِدِ الْعِظَامِ عليه مَكْرُوهٌ لِمَا في هذا الصَّنِيعِ من التشبه ‏[‏التشبيه‏]‏ بِعُبَّادِ الصُّوَرِ لِمَا فيه من تَعْظِيمِهَا‏.‏

وَرُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أنها قالت دخل رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في بَيْتِي وأنا مُسْتَتِرَةٌ بِسِتْرٍ فيه تَمَاثِيلُ فَتَغَيَّرَ لَوْنُ وَجْهِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حتى عَرَفْتُ الْكَرَاهَةَ في وَجْهِهِ فَأَخَذَهُ مِنِّي وَهَتَكَهُ بيده فَجَعَلْنَاهُ نُمْرُقَةً أو نُمْرُقَتَيْنِ وَإِنْ كانت الصُّوَرُ على الْبُسُطِ وَالْوَسَائِدِ الصِّغَارِ وَهِيَ تُدَاسُ بِالْأَرْجُلِ لَا تُكْرَهُ لِمَا فيه من إهَانَتِهَا وَالدَّلِيلُ عليها حَدِيثُ جِبْرِيلَ وَعَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها‏.‏

وَلَوْ صلى على هذا الْبِسَاطِ فَإِنْ كانت الصُّورَةُ في مَوْضِعِ سُجُودِهِ يُكْرَهُ لِمَا فيه من التَّشَبُّهِ بِعِبَادَةِ الصُّوَرِ وَالْأَصْنَامِ وَكَذَا إذَا كانت أَمَامَهُ في مَوْضِعٍ لِأَنَّ مَعْنَى التَّعْظِيمِ يَحْصُلُ بِتَقْرِيبِ الْوَجْهِ من الصُّورَةِ فَأَمَّا إذَا كانت في مَوْضِعِ قَدَمَيْهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِمَا فيه من الْإِهَانَةِ دُونَ التَّعْظِيمِ هذا إذَا كانت الصُّورَةُ كَبِيرَةً فَأَمَّا إذَا كانت صَغِيرَةً لَا تَبْدُو لِلنَّاظِرِ من بَعِيدٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّ من يَعْبُدُ الصَّنَمَ لَا يَعْبُدُ الصَّغِيرَ منها جِدًّا وقد رُوِيَ أَنَّهُ كان على خَاتَمِ أبي مُوسَى ذُبابتَانِ‏.‏

وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا وُجِدَ خَاتَمُ دَانْيَالَ على عَهْدِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه كان على فَصِّهِ أَسَدَانِ بَيْنَهُمَا رَجُلٌ يَلْحَسَانِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذلك في ابْتِدَاءِ حَالِهِ أو لِأَنَّ التِّمْثَالَ في شَرِيعَةِ من قَبْلَنَا كان حَلَالًا قال اللَّهُ تَعَالَى في قِصَّةِ سُلَيْمَانَ‏:‏ ‏{‏يَعْمَلُونَ له ما يَشَاءُ من مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ‏}‏ ثُمَّ ما ذَكَرْنَا من الْكَرَاهَةِ في صُورَةِ الْحَيَوَانِ‏.‏

فَأَمَّا صُورَةُ ما لَا حَيَاةَ له كَالشَّجَرِ وَنَحْوِ ذلك فَلَا يُوجِبُ الْكَرَاهَةَ لِأَنَّ عَبَدَةَ الصورة ‏[‏الصور‏]‏ لَا يَعْبُدُونَ تِمْثَالَ ما ليس بِذِي رُوحٍ فَلَا يَحْصُلُ التَّشَبُّهُ بِهِمْ وَكَذَا النَّهْيُ إنَّمَا جاء عن تَصْوِيرِ ذِي الرُّوحِ لِمَا رُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال من صَوَّرَ تِمْثَالَ ذِي الرُّوحِ كُلِّفَ يوم الْقِيَامَةِ أَنْ يَنْفُخَ فيه الرُّوحَ وَلَيْسَ بِنَافِخٍ فَأَمَّا لَا نَهْيَ عن تَصْوِيرِ ما لَا رُوحَ له لِمَا رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ نهى مُصَوِّرًا عن التَّصْوِيرِ فقال كَيْفَ أَصْنَعُ وهو كَسْبِي فقال إنْ لم يَكُنْ بُدٌّ فَعَلَيْكَ بِتِمْثَالِ الْأَشْجَارِ‏.‏

وَيُكْرَهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَةُ الْمَسْجِدِ إلَى حَمَّامٍ أو قَبْرٍ أو مَخْرَجٍ لِأَنَّ جِهَةَ الْقِبْلَةِ يَجِبُ تَعْظِيمُهَا وَالْمَسَاجِدُ كَذَلِكَ قال اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏في بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فيها اسْمُهُ يُسَبِّحُ له فيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ‏}‏ وَمَعْنَى التَّعْظِيمِ لَا يَحْصُلُ إذَا كانت قِبْلَةُ الْمَسْجِدِ إلَى هذه الْمَوَاضِعُ لِأَنَّهَا لَا تَخْلُو عن الْأَقْذَارِ وَرَوَى أبو يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ رحمهما الله تعالى أَنَّهُ قال هذا في مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ فَأَمَّا مَسْجِدُ الرَّجُلِ في بَيْتِهِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَكُونَ قِبْلَتُهُ إلَى هذه الْمَوَاضِعِ لِأَنَّهُ ليس له حُرْمَةُ الْمَسَاجِدِ حتى يَجُوزَ بَيْعُهُ وَكَذَا لِلنَّاسِ فيه بَلْوَى بِخِلَافِ مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ وَلَوْ صلى في مِثْلِ هذا الْمَسْجِدِ جَازَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعَلَى قَوْلِ بِشْرِ بن غِيَاثٍ الْمَرِيسِيِّ لَا تَجُوزُ وَعَلَى هذا إذا ‏[‏المصلي‏]‏ صلى في أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ أو صلى وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ مَغْصُوبٌ لَا تَجُوزُ عِنْدَهُ‏.‏

وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَتَأَدَّى بِمَا هو مَنْهِيٌّ عنه وَلَنَا أَنَّ النَّهْيَ ليس لِمَعْنًى في الصَّلَاةِ فَلَا يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ وَهَذَا إذَا لم يَكُنْ بين الْمَسْجِدِ وَبَيْنَ هذه الْمَوَاضِعِ حَائِلٌ من بَيْتٍ أو جِدَارٍ أو نَحْوِ ذلك فَإِنْ كان بَيْنَهُمَا حَائِلٌ لَا يُكْرَهُ لِأَنَّ مَعْنَى التَّعْظِيمِ حَاصِلٌ فَالتَّحَرُّزُ عنه غَيْرُ مُمْكِنٍ وَمِنْهَا سَتْرُ الْعَوْرَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كل مَسْجِدٍ‏}‏ قِيلَ في التَّأْوِيلِ الزِّينَةُ ما يُوَارِي الْعَوْرَةَ وَالْمَسْجِدُ الصَّلَاةُ فَقَدْ أَمَرَ بِمُوَارَاةِ الْعَوْرَةِ في الصَّلَاةِ وقال النبي صلى الله عليه وسلم لَا صَلَاةَ لِلْحَائِضِ إلَّا بِخِمَارٍ كَنَى بِالْحَائِضِ عن الْبَالِغَةِ لِأَنَّ الْحَيْضَ دَلِيلُ الْبُلُوغِ فذكر الْحَيْضَ وَأَرَادَ بِهِ الْبُلُوغَ لِمُلَازَمَةٍ بَيْنَهُمَا وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأَمَةِ وَلِأَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ حَالَ الْقِيَامِ بين يَدَيْ اللَّهِ تَعَالَى من باب التَّعْظِيمِ وَأَنَّهُ فُرِضَ عَقْلًا وَشَرْعًا‏.‏

وإذا كان السَّتْرُ فَرْضًا كان الِانْكِشَافُ مَانِعًا جَوَازَ الصَّلَاةِ ضَرُورَةً وَالْكَلَامُ في بَيَانِ ما يَكُونُ عَوْرَةً وما لَا يَكُونُ مَوْضِعُهُ كتاب الِاسْتِحْسَانِ وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ هَهُنَا إلَى بَيَانِ الْمِقْدَارِ الذي يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ فَنَقُولُ قَلِيلُ الِانْكِشَافِ لَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ لِمَا فيه من الضَّرُورَةِ لِأَنَّ الثِّيَابَ لَا تَخْلُو عن قَلِيلِ خَرْقٍ عَادَةً وَالْكَثِيرُ يَمْنَعُ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ وَاخْتُلِفَ في الْحَدِّ الْفَاصِلِ بين الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فَقَدَّرَ أبو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ الْكَثِيرَ بِالرُّبْعِ وقالا ‏[‏فقالا‏]‏ الرُّبْعُ وما فَوْقَهُ من الْعُضْوِ كَثِيرٌ وما دُونَ الرُّبْعِ فيه قَلِيلٌ وأبو يُوسُفَ جَعَلَ الْأَكْثَرَ من النِّصْفِ كَثِيرًا وما دُونَ النِّصْفِ قَلِيلًا وَاخْتَلَفْت الرِّوَايَةُ عنه في النِّصْفِ فَجَعَلَهُ في حُكْمِ الْقَلِيلِ في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وفي حُكْمِ الْكَثِيرِ في الْأَصْلِ وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ من الْمُتَقَابِلَاتِ فَإِنَّمَا تَظْهَرُ بِالْمُقَابَلَةِ فما كان مقابلة أَقَلَّ منه فَهُوَ كَثِيرٌ وما كان مُقَابِلُهُ أَكْثَرَ منه فَهُوَ قَلِيلٌ‏.‏

وَلَهُمَا أَنَّ الشَّرْعَ أَقَامَ الرُّبْعَ مَقَامَ الْكُلِّ في كَثِيرٍ من الْمَوَاضِعِ كما في حَلْقِ ربع الرَّأْسِ في حَقِّ الْمُحْرِمِ وَمَسْحِ رُبْعِ الرَّأْسِ كَذَا هَهُنَا إذْ الْمَوْضِعُ مَوْضِعُ الِاحْتِيَاطِ وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ من أَسْمَاءِ الْمُقَابَلَةِ فَإِنَّمَا يُعْرَفُ ذلك بِمُقَابِلِهِ فَنَقُولُ الشَّرْعُ قد جَعَلَ الرُّبْعَ كَثِيرًا في نَفْسِهِ من غَيْرِ مُقَابَلَةٍ في بَعْضِ الْمَوَاضِعِ على ما بَيَّنَّا فَلَزِمَ الْأَخْذُ بِهِ في مَوْضِعِ الِاحْتِيَاطِ ثُمَّ كَثِيرُ الِانْكِشَافِ يَسْتَوِي فيه الْعُضْوُ الْوَاحِدُ وَالْأَعْضَاءُ الْمُتَفَرِّقَةُ حتى لو انْكَشَفَ من أَعْضَاءٍ مُتَفَرِّقَةٍ ما لو جُمِعَ لَكَانَ كَثِيرًا يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ وَيَسْتَوِي فيه الْعَوْرَةُ الْغَلِيظَةُ وَهِيَ الْقُبُلُ وَالدُّبُرُ وَالْخَفِيفَةُ كَالْفَخْذِ وَنَحْوِهِ وَمِنْ الناس من قَدَّرَ الْعَوْرَةَ الْغَلِيظَةَ بِالدِّرْهَمِ تَغْلِيظًا لِأَمْرِهَا وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الْعَوْرَةَ الْغَلِيظَةَ كُلُّهَا لَا تَزِيدُ على الدِّرْهَمِ فَتَقْدِيرُهَا بِالدِّرْهَمِ يَكُونُ تَخْفِيفًا لِأَمْرِهَا لَا تَغْلِيظًا له فَتَنْعَكِسُ الْقَضِيَّةُ وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الزِّيَادَاتِ ما يَدُلُّ على أَنَّ حُكْمَ الْغَلِيظَةِ وَالْخَفِيفَةِ وَاحِدٌ فإنه قال في امْرَأَةٍ صَلَّتْ فَانْكَشَفَ شَيْءٌ من شَعْرِهَا وَشَيْءٌ من ظَهْرِهَا وَشَيْءٌ من فَرْجِهَا وَشَيْءٌ من فَخْذِهَا إنه إنْ كان بِحَالٍ لو جُمِعَ بَلَغَ الرُّبْعَ مَنَعَ أَدَاءَ الصَّلَاةِ وَإِنْ لم يَبْلُغْ لَا يَمْنَعُ فَقَدْ جَمَعَ بين الْعَوْرَةِ الْغَلِيظَةِ وَالْخَفِيفَةِ وَاعْتَبَرَ فيها الرُّبْعَ فَثَبَتَ أَنَّ حُكْمَهَا لَا يَخْتَلِفُ وإن الْخِلَافَ فِيهِمَا وَاحِدٌ وَهَذَا في حَالَةِ الْقُدْرَةِ فَأَمَّا في حَالَةِ الْعَجْزِ فَالِانْكِشَافُ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ بِأَنْ حَضَرَتْهُ الصَّلَاةُ وهو عُرْيَانٌ لَا يَجِدُ ثَوْبًا لِلضَّرُورَةِ وَلَوْ كان معه ثَوْبٌ نَجِسٌ فَلَا يَخْلُو إمَّا إن كان الرُّبْعُ منه طَاهِرًا وأما إن كان كُلُّهُ نَجِسًا فَإِنْ كان رُبْعُهُ طَاهِرًا لم يُجْزِهِ أَنْ يُصَلِّيَ عُرْيَانًا بَلْ يَجِبُ عليه أَنْ يُصَلِّيَ في ذلك الثَّوْبِ لِأَنَّ الرُّبْعَ فما فَوْقَهُ في حُكْمِ الْكَمَالِ كما في مَسْحِ الرَّأْسِ وَحَلْقِ الْمُحْرِمِ رُبْعَ الرَّأْسِ وَكَمَا يُقَالُ رأيت فُلَانًا وَإِنْ عَايَنَهُ من إحْدَى جِهَاتِهِ الْأَرْبَعِ فَجُعِلَ كَأَنَّ الثَّوْبَ كُلَّهُ طاهرا ‏[‏طاهر‏]‏ وَإِنْ كان كُلُّهُ نَجِسًا أو الطَّاهِرُ منه أَقَلَّ من الرُّبْعِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ إنْ شَاءَ صلى عُرْيَانًا وَإِنْ شَاءَ مع الثَّوْبِ لَكِنَّ الصَّلَاةَ في الثَّوْبِ أَفْضَلُ وقال مُحَمَّدٌ لَا تُجْزِئُهُ إلَّا مع الثَّوْبِ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ تَرْكَ اسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ فَرْضٌ وَسَتْرَ الْعَوْرَةِ فَرْضٌ إلَّا أَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ أَهَمُّهُمَا وَآكَدُهُمَا لِأَنَّهُ فَرْضٌ في الْأَحْوَالِ أَجْمَعِ وَفَرْضِيَّةُ تَرْكِ اسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ مَقْصُورَةٌ على حَالَةِ الصَّلَاةِ فَيُصَارُ إلَى الْأَهَمِّ فَتُسْتَرُ الْعَوْرَةُ وَلَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ بِدُونِهِ وَيَتَحَمَّلُ اسْتِعْمَالَ النَّجَاسَةِ وَلِأَنَّهُ لو صلى عُرْيَانًا كان تَارِكًا فَرَائِضَ منها سَتْرُ الْعَوْرَةِ وَالْقِيَامُ وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ وَلَوْ صلى في الثَّوْبِ النَّجِسِ كان تَارِكًا فَرْضًا وَاحِدًا وهو تَرْكُ اسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ فَقَطْ فَكَانَ هذا الْجَانِبُ أَهْوَنَ وقد قالت عَائِشَةُ رضي اللَّهُ عنها ما خُيِّرَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بين شَيْئَيْنِ إلَّا اخْتَارَ أَهْوَنَهُمَا فَمَنْ اُبْتُلِيَ بِبَلِيَّتَيْنِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَخْتَارَ أَهْوَنَهُمَا‏.‏

وَلَهُمَا أَنَّ الْجَانِبَيْنِ في الْفَرْضِيَّةِ في حَقِّ الصَّلَاةِ على السَّوَاءِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ كما لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ حَالَةَ الِاخْتِيَارِ عُرْيَانًا لَا تَجُوزُ مع الثَّوْبِ الْمَمْلُوءِ نَجَاسَةً وَلَا يُمْكِنُ إقَامَةُ أَحَدِ الْفَرْضَيْنِ في هذه الْحَالَةِ إلَّا بِتَرْكِ الْآخَرِ فَسَقَطَتْ فَرْضِيَّتُهُمَا في حَقِّ الصَّلَاةِ فَيُخَيَّرُ فَيُجْزِئُهُ كيف ما فَعَلَ إلَّا أَنَّ الصَّلَاةَ في الثَّوْبِ أَفْضَلُ لِمَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ وَمِنْهَا اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ‏}‏ وَقَوْلُ النبي صلى الله عليه وسلم لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ امرىء حتى يَضَعَ الطَّهُورَ مَوَاضِعَهُ وَيَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ وَيَقُولَ اللَّهُ أَكْبَرُ وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ وَالْأَصْلُ أَنَّ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ لِلصَّلَاةِ شَرْطٌ زَائِدٌ لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الِاسْتِقْبَالُ فِيمَا هو رَأْسُ الْعِبَادَاتِ وهو الْإِيمَانُ وَكَذَا في عَامَّةِ الْعِبَادَاتِ من الزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَإِنَّمَا عُرِفَ شَرْطًا في باب الصَّلَاةِ شَرْعًا فَيَجِبُ اعْتِبَارُهُ بِقَدْرِ ما وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ وَفِيمَا وَرَاءَهُ يُرَدُّ إلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ ثُمَّ جُمْلَةُ الْكَلَامِ في هذا الشَّرْطِ أَنَّ الْمُصَلِّيَ لَا يَخْلُو إمَّا أن كان قَادِرًا على الِاسْتِقْبَالِ أو كان عَاجِزًا عنه فَإِنْ كان قَادِرًا يَجِبُ عليه التَّوَجُّهُ إلَى الْقِبْلَةِ إنْ كان في حَالِ مُشَاهَدَةِ الْكَعْبَةِ فَإِلَى عَيْنِهَا أَيْ أَيِّ جِهَةٍ كانت من جِهَاتِ الْكَعْبَةِ حتى لو كان مُنْحَرِفًا عنها غير مُتَوَجِّهٍ إلَى شَيْءٍ منها لم يَجُزْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ‏}‏ وفي وُسْعِهِ تَوْلِيَةُ الْوَجْهِ إلَى عَيْنِهَا فَيَجِبُ ذلك‏.‏

وَإِنْ كان نائبا ‏[‏نائيا‏]‏ عن الْكَعْبَةِ غَائِبًا عنها يَجِبُ عليه التَّوَجُّهُ إلَى جِهَتِهَا وَهِيَ الْمَحَارِيبُ الْمَنْصُوبَةُ بالأمارات الدَّالَّةِ عليها لَا إلَى عَيْنِهَا وَتُعْتَبَرُ الْجِهَةُ دُونَ الْعَيْنِ كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ وَالرَّازِي وهو قَوْلُ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ وقال بَعْضُهُمْ الْمَفْرُوضُ إصَابَةُ عَيْنِ الْكَعْبَةِ بِالِاجْتِهَادِ وَالتَّحَرِّي وهو قَوْلُ أبي عبد اللَّهِ الْبَصْرِيِّ حتى قالوا إنَّ نِيَّةَ الْكَعْبَةِ شَرْطٌ‏.‏

وَجْهُ قَوْلِ هَؤُلَاءِ قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ‏}‏ من غَيْرِ فصل بين حَالِ الْمُشَاهَدَةِ وَالْغَيْبَةِ وَلِأَنَّ لُزُومَ الِاسْتِقْبَالِ لِحُرْمَةِ الْبُقْعَةِ وَهَذَا الْمَعْنَى في الْعَيْنِ لَا في الْجِهَةِ وَلِأَنَّ قِبْلَتَهُ لو كانت الْجِهَةَ لَكَانَ يَنْبَغِي له إذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ الْجِهَةَ يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ لِظُهُورِ خَطَئِهِ في اجْتِهَادِهِ بِيَقِينٍ وَمَعَ ذلك لَا تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا فَدَلَّ أَنَّ قِبْلَتَهُ في هذه الْحَالَةِ عَيْنُ الْكَعْبَةِ بِالِاجْتِهَادِ وَالتَّحَرِّي‏.‏

وَجْهُ قَوْلِ الْأَوَّلَيْنِ أَنَّ الْمَفْرُوضَ هو الْمَقْدُورُ عليه وَإِصَابَةُ الْعَيْنِ غَيْرُ مَقْدُورٍ عليها فَلَا تَكُونُ مَفْرُوضَةً وَلِأَنَّ قِبْلَتَهُ لو كانت عَيْنَ الْكَعْبَةِ في هذه الْحَالَةِ بِالتَّحَرِّي وَالِاجْتِهَادِ لَتَرَدَّدَتْ صَلَاتُهُ بين الْجَوَازِ وَالْفَسَادِ لِأَنَّهُ إنْ أَصَابَ عَيْنَ الْكَعْبَةِ بِتَحَرِّيهِ جَازَتْ صَلَاتُهُ وَإِنْ لم يُصِبْ عَيْنَ الْكَعْبَةِ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ ظَهَرَ خطأه بِيَقِينٍ إلَّا أَنْ يُجْعَلَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا وأنه خِلَافُ الْمَذْهَبِ الْحَقِّ وقد عُرِفَ بُطْلَانُهُ في أُصُولِ الْفِقْهِ‏.‏

أَمَّا إذَا جُعِلَتْ قِبْلَتُهُ الْجِهَةَ وَهِيَ الْمَحَارِيبُ الْمَنْصُوبَةُ لَا يُتَصَوَّرُ ظُهُورُ الْخَطَأِ فَنَزَلَتْ الْجِهَةُ في هذه الْحَالَةِ مَنْزِلَةَ عَيْنِ الْكَعْبَةِ في حَالِ الْمُشَاهَدَةِ وَلِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَ أَيَّ جِهَةٍ شَاءَ قِبْلَةً لِعِبَادِهِ على اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَإِلَيْهِ وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ في قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ من الناس ما وَلَّاهُمْ عن قِبْلَتِهِمْ التي كَانُوا عليها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي من يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ‏}‏ وَلِأَنَّهُمْ جَعَلُوا عَيْنَ الْكَعْبَةِ قِبْلَةً في هذه الْحَالَةِ بِالتَّحَرِّي وَأَنَّهُ مَبْنِيٌّ على تَجَرُّدِ شَهَادَةِ الْقَلْبِ من غَيْرِ أَمَارَةٍ وَالْجِهَةُ صَارَتْ قِبْلَةً بِاجْتِهَادِهِمْ الْمَبْنِيِّ على الإمارات الدَّالَّةِ عليها من النُّجُومِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَغَيْرِ ذلك فَكَانَ فَوْقَ الِاجْتِهَادِ بِالتَّحَرِّي‏.‏

وَلِهَذَا إنَّ من دخل بَلْدَةً وَعَايَنَ الْمَحَارِيبَ الْمَنْصُوبَةَ فيها يَجِبُ عليه التَّوَجُّهُ إلَيْهَا وَلَا يَجُوزُ له التَّحَرِّي وَكَذَا إذَا دخل مَسْجِدًا لَا مِحْرَابَ له وَبِحَضْرَتِهِ أَهْلُ الْمَسْجِدِ لَا يَجُوزُ له التَّحَرِّي بَلْ يَجِبُ عليه السُّؤَالُ من أَهْلِ الْمَسْجِدِ لِأَنَّ لهم عِلْمًا بِالْجِهَةِ الْمَبْنِيَّةِ على الْأَمَارَاتِ فَكَانَ فَوْقَ الثَّابِتِ بِالتَّحَرِّي وَكَذَا لو كان في الْمَفَازَةِ وَالسَّمَاءُ مصحبة ‏[‏مصحية‏]‏ وَلَهُ عِلْمٌ بِالِاسْتِدْلَالِ بِالنُّجُومِ على الْقِبْلَةِ لَا يَجُوزُ له التَّحَرِّي لِأَنَّ ذلك فَوْقَ التَّحَرِّي وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ نِيَّةَ الْكَعْبَةِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ بَلْ الْأَفْضَلُ أَنْ لَا يَنْوِيَ الْكَعْبَةَ لِاحْتِمَالِ أَنْ لَا تُحَاذِيَ هذه الْجِهَةُ الْكَعْبَةَ فَلَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ وَلَا حُجَّةَ لهم في الْآيَةِ لِأَنَّهَا تَنَاوَلَتْ حَالَةَ الْقُدْرَةِ وَالْقُدْرَةَ حَالَ مُشَاهَدَةِ الْكَعْبَةِ لَا حَالَ الْبُعْدِ عنها وهو الْجَوَابُ عن قَوْلِهِمْ أن الِاسْتِقْبَالَ لِحُرْمَةِ الْبُقْعَةِ أَنَّ ذلك حَالَ الْقُدْرَةِ على الِاسْتِقْبَالِ إلَيْهَا دُونَ حَالِ الْعَجْزِ عنه وَأَمَّا إذَا كان عَاجِزًا فَلَا يَخْلُو إمَّا إن كان عَاجِزًا بِسَبَبِ عُذْرٍ من الْأَعْذَارِ مع الْعِلْمِ بِالْقِبْلَةِ وَأَمَّا إنْ كان عَجْزُهُ بِسَبَبِ الِاشْتِبَاهِ فَإِنْ كان عَاجِزًا لِعُذْرٍ مع الْعِلْمِ بِالْقِبْلَةِ فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ إلَى أَيِّ جِهَةٍ كانت وَيَسْقُطَ عنه الِاسْتِقْبَالُ نحو أَنْ يَخَافَ على نَفْسِهِ من الْعَدُوِّ في صَلَاةِ الْخَوْفِ أو كان بِحَالٍ لو اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ يَثِبُ عليه الْعَدُوُّ أو قُطَّاعُ الطَّرِيقِ أو السَّبْعُ أو كان على لَوْحٍ من السَّفِينَةِ في الْبَحْرِ لو وَجَّهَهُ إلَى الْقِبْلَةِ يَغْرَقُ غَالِبًا أو كان مَرِيضًا لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ بِنَفْسِهِ إلَى الْقِبْلَةِ وَلَيْسَ بِحَضْرَتِهِ من يُحَوِّلَهُ إلَيْهَا وَنَحْوَ ذلك لِأَنَّ هذا شَرْطٌ زَائِدٌ فَيَسْقُطُ عِنْدَ الْعَجْزِ وَإِنْ كان عَاجِزًا بِسَبَبِ الِاشْتِبَاهِ وهو أَنْ يَكُونَ في الْمَفَازَةِ في لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ أو لَا عِلْمَ له الإمارات الدَّالَّةِ على الْقِبْلَةِ‏.‏

فَإِنْ كان بِحَضْرَتِهِ من يَسْأَلُهُ عنها لَا يَجُوزُ له التَّحَرِّي لِمَا قُلْنَا بَلْ يَجِبُ عليه السُّؤَالُ فَإِنْ لم يَسْأَلْ وَتَحَرَّى وَصَلَّى فَإِنْ أَصَابَ جَازَ وَإِلَّا فَلَا وإن لم يَكُنْ بِحَضْرَتِهِ أَحَدٌ جَازَ له التَّحَرِّي لِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِحَسَبِ الْوُسْعِ وَالْإِمْكَانِ وَلَيْسَ في وُسْعِهِ إلَّا التَّحَرِّي فَتَجُوزُ له الصَّلَاةُ بِالتَّحَرِّي لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ‏}‏ وَرُوِيَ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَحَرَّوْا عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ وَصَلَّوْا ولم يُنْكِرْ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

فَدَلَّ على الْجَوَازِ فإذا صلى إلَى جِهَةٍ من الْجِهَاتِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ صلى إلَى جهة ‏[‏الجهة‏]‏ بِالتَّحَرِّي أو بِدُونِ التَّحَرِّي فَإِنْ صلى بِدُونِ التَّحَرِّي فَلَا يَخْلُو من أَوْجُهٍ أَمَّا إنْ كان لم يَخْطُرْ بِبَالِهِ شَيْءٌ ولم يَشُكَّ في جِهَةِ الْقِبْلَةِ أو خَطَرَ بِبَالِهِ وَشَكَّ في جِهَةِ الْقِبْلَةِ وَصَلَّى من غَيْرِ تَحَرٍّ أو تَحَرَّى وَوَقَعَ تَحَرِّيهِ على جِهَةٍ فصلى إلَى جِهَةٍ أُخْرَى لم يَقَعْ عليها التَّحَرِّي‏.‏

أَمَّا إذَا لم يَخْطُرْ بِبَالِهِ شَيْءٌ ولم يَشُكَّ وَصَلَّى إلَى جِهَةٍ من الْجِهَاتِ فَالْأَصْلُ هو الْجَوَازُ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْجِهَةِ قِبْلَةٌ بِشَرْطِ عَدَمِ دَلِيلٍ يُوَصِّلُهُ إلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ من السُّؤَالِ أو التَّحَرِّي ولم يُوجَدْ لِأَنَّ التَّحَرِّيَ لَا يَجِبُ عليه إذَا لم يَكُنْ شَاكًّا فإذا مَضَى على هذه الْحَالَةِ ولم يَخْطُرْ بِبَالِهِ شَيْءٌ صَارَتْ الْجِهَةُ التي صلى إلَيْهَا قِبْلَةً له ظَاهِرًا فَإِنْ ظَهْرَ أنها جِهَةُ الْكَعْبَةِ تَقَرَّرَ الْجَوَازُ‏.‏

فَأَمَّا إذَا ظَهَرَ خطأه بِيَقِينٍ بِأَنْ انْجَلَى الظَّلَامُ وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ صلى إلَى غَيْرِ جِهَةِ الْكَعْبَةِ أو تَحَرَّى وَوَقَعَ تَحَرِّيهِ على غَيْرِ الْجِهَةِ التي صلى إلَيْهَا إنْ كان بَعْدَ الْفَرَاغِ من الصَّلَاةِ يُعِيدُ وَإِنْ كان في الصَّلَاةِ يَسْتَقْبِلُ لِأَنَّ ما جُعِلَ حُجَّةً بِشَرْطِ عَدَمِ الْأَقْوَى يَبْطُلُ عِنْدَ وُجُودِهِ كَالِاجْتِهَادِ إذَا ظَهَرَ نَصٌّ بِخِلَافِهِ وَأَمَّا إذَا شَكَّ ولم يَتَحَرَّ وَصَلَّى إلَى جِهَةٍ من الْجِهَاتِ فَالْأَصْلُ هو الْفَسَادُ فإذا ظَهَرَ أَنَّ الصَّوَابَ في غَيْرِ الْجِهَةِ التي صلى إلَيْهَا أما بِيَقِينٍ أو بِالتَّحَرِّي تَقَرَّرَ الْفَسَادُ‏.‏

وَإِنْ ظَهَرَ أَنَّ الْجِهَةَ التي صلى إلَيْهَا قبله إنْ كان بَعْدَ الْفَرَاغِ من الصَّلَاةِ أَجْزَأَهُ وَلَا يُعِيدُ لِأَنَّهُ إذَا شَكَّ في جِهَةِ الْكَعْبَةِ وَبَنَى صَلَاتَهُ على الشَّكِّ احْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ الْجِهَةُ التي صلى إلَيْهَا قِبْلَةً وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا تَكُونَ فَإِنْ ظَهَرَ أنها لم تَكُنْ قِبْلَةً يَظْهَرُ أَنَّهُ صلى إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ‏.‏ وَإِنْ ظَهَرَ أنها كانت قِبْلَةً يَظْهَرُ أَنَّهُ صلى إلَى الْقِبْلَةِ فَلَا يُحْكَمُ بِالْجَوَازِ في الِابْتِدَاءِ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ بَلْ يُحْكَمُ بِالْفَسَادِ بِنَاءً على الْأَصْلِ وهو الْعَدَمُ بِحُكْمِ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ فإذا تَبَيَّنَ أَنَّهُ صلى إلَى الْقِبْلَةِ بَطَلَ الْحُكْمُ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ وَثَبَتَ الْجَوَازُ من الْأَصْلِ وَأَمَّا إذَا ظَهَرَ في وَسَطِ الصَّلَاةِ رُوِيَ عن أبي يُوسُف أَنَّهُ يَبْنِي على صَلَاتِهِ لِمَا قُلْنَا‏.‏

وفي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَسْتَقْبِلُ لِأَنَّ شُرُوعَهُ في الصَّلَاةِ بِنَاءً على الشَّكِّ وَمَتَى ظَهَرَتْ الْقِبْلَةُ إمَّا بِالتَّحَرِّي أو بِالسُّؤَالِ من غَيْرِهِ صَارَتْ حَالَتُهُ هذه أَقْوَى من الْحَالَةِ الْأُولَى وَلَوْ ظَهَرَتْ في الِابْتِدَاءِ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ إلَّا إلَى هذه الْجِهَةَ فَكَذَا إذَا ظَهَرَتْ في وَسَطِ الصَّلَاةِ وَصَارَ كالمومىء ‏[‏كالمومئ‏]‏ إذَا قَدَرَ على الْقِيَامِ في وَسَطِ الصَّلَاةِ أَنَّهُ يَسْتَقْبِلُ لِمَا ذَكَرْنَا كَذَا هذا وَأَمَّا إذَا تَحَرَّى وَوَقَعَ تَحَرِّيهِ إلَى جِهَةٍ فصلى إلَى جِهَةٍ أُخْرَى من غَيْرِ تَحَرٍّ فَإِنْ أَخْطَأَ لَا تُجْزِيهِ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ أَصَابَ فَكَذَلِكَ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ من التَّحَرِّي هو الْإِصَابَةُ وقد حَصَلَ هذا الْمَقْصُودُ فَيُحْكَمُ بِالْجَوَازِ كما إذَا تَحَرَّى في الْأَوَانِي فَتَوَضَّأَ بِغَيْرِ ما وَقَعَ عليه التَّحَرِّي ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَصَابَ يُجْزِيهِ كَذَا هذا‏.‏

وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْقِبْلَةَ حَالَةَ الِاشْتِبَاهِ هِيَ الْجِهَةُ التي مَالَ إلَيْهَا الْمُتَحَرِّي فإذا تَرَكَ الْإِقْبَالَ إلَيْهَا فَقَدْ أَعْرَضَ عَمَّا هو قِبْلَتُهُ مع الْقُدْرَةِ عليه فَلَا يَجُوزُ كَمَنْ تَرَكَ التَّوَجُّهَ إلَى الْمَحَارِيبِ الْمَنْصُوبَةِ مع الْقُدْرَةِ عليه بِخِلَافِ الْأَوَانِي لِأَنَّ الشَّرْطَ هو التوضأ بِالْمَاءِ الطَّاهِرِ حَقِيقَةً وقد وُجِدَ فَأَمَّا إذَا صلى إلَى جِهَةٍ من الْجِهَاتِ بِالتَّحَرِّي ثُمَّ ظَهَرَ خطأه فَإِنْ كان قبل الْفَرَاغِ من الصَّلَاةِ اسْتَدَارَ إلَى الْقِبْلَةِ وَأَتَمَّ الصَّلَاةَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ أَهْلَ قُبَاءَ لَمَّا بَلَغَهُمْ نَسْخُ الْقِبْلَةِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ اسْتَدَارُوا كَهَيْئَتِهِمْ وَأَتَمُّوا صَلَاتَهُمْ ولم يَأْمُرْهُمْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْإِعَادَةِ وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ الْمُؤَدَّاةَ إلَى جِهَةِ التَّحَرِّي مُؤَدَّاةٌ إلَى الْقِبْلَةِ لِأَنَّهَا هِيَ الْقِبْلَةُ حَالَ الِاشْتِبَاهِ فَلَا مَعْنَى لِوُجُوبِ الِاسْتِقْبَالِ وَلِأَنَّ تَبَدُّلَ الرَّأْيِ في مَعْنَى انْتِسَاخِ النَّصِّ وَذَا لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ الْعَمَلِ بِالْمَنْسُوخِ في زَمَانِ ما قبل النَّسْخِ كَذَا هذا وَإِنْ كان بَعْدَ الْفَرَاغِ من الصَّلَاةِ فَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ صلى يَمْنَةً أو يَسْرَةً يُجْزِيهِ وَلَا يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ صلى مُسْتَدْبِرَ الْكَعْبَةِ يُجْزِيهِ عِنْدَنَا‏.‏

وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجْزِيهِ وَعَلَى هذا إذَا اشْتَبَهَتْ الْقِبْلَةُ على قَوْمٍ فَتَحَرَّوْا وَصَلُّوا بِجَمَاعَةٍ جَازَتْ صَلَاةُ الْكُلِّ عِنْدَنَا إلَّا صَلَاةَ من تَقَدَّمَ على إمَامِهِ أو عَلِمَ بِمُخَالَفَتِهِ إيَّاهُ‏.‏

وَجْهِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ صلى إلَى الْقِبْلَةِ بِالِاجْتِهَادِ وقد ظَهَرَ خطأه بِيَقِينٍ فَيَبْطُلُ كما إذَا تَحَرَّى وَصَلَّى في ثَوْبٍ على ظَنٍّ أَنَّهُ طَاهِرٌ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ نَجِسٌ أَنَّهُ لَا يُجْزِيهِ وَتَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ كذلك هَهُنَا‏.‏

وَلَنَا أَنَّ قِبْلَتَهُ حَالَ الِاشْتِبَاهِ هِيَ الْجِهَةُ التي تَحَرَّى إلَيْهَا وقد صلى إلَيْهَا فَتُجْزِيهِ كما إذَا صلى إلَى الْمَحَارِيبِ الْمَنْصُوبَةِ وَالدَّلِيلُ على أَنَّ قِبْلَتُهُ هِيَ جِهَةُ التَّحَرِّي النَّصُّ والمنقول ‏[‏والمعقول‏]‏ أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ‏}‏ قِيلَ في بَعْضِ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ ثَمَّةَ قِبْلَةُ اللَّهِ وَقِيلَ ثَمَّةَ رِضَاءُ اللَّهِ وَقِيلَ ثَمَّةَ وَجْهُ اللَّهِ الذي وَجَّهَكُمْ إلَيْهِ إذْ لم يجىء ‏[‏يجئ‏]‏ مِنْكُمْ التَّقْصِيرُ في طَلَبِ الْقِبْلَةِ وَأَضَافَ التَّوَجُّهَ إلَى نَفْسِهِ لِأَنَّهُمْ وَقَعُوا في ذلك بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى من ‏[‏بغير‏]‏ غير تَقْصِيرٍ كان منهم في الطَّلَبِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُ النبي صلى الله عليه وسلم لِمَنْ أَكَلَ نَاسِيًا لِصَوْمِهِ تِمَّ على صَوْمِكَ فَإِنَّمَا أَطْعَمَكَ اللَّهُ وَسَقَاكَ وَإِنْ وُجِدَ الْأَكْلُ من الصَّائِمِ حَقِيقَةً لَكِنْ لَمَّا لم يَكُنْ قَاصِدًا فيه أَضَافَ فِعْلَهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَصَيَّرَهُ مَعْذُورًا كَأَنَّهُ لم يَأْكُلْ كَذَلِكَ هَهُنَا إذَا كان تَوَجُّهُهُ إلَى هذه الْجِهَةِ من غَيْرِ قَصْدٍ منه حَيْثُ أتى بِجَمِيعِ ما في وُسْعِهِ وَإِمْكَانِهِ أَضَافَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذلك إلَى ذَاتِهِ وَجَعَلَهُ مَعْذُورًا كَأَنَّهُ تَوَجَّهَ إلَى الْقِبْلَةِ وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فما ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا سَبِيلَ له إلَى إصَابَةِ عَيْنِ الْكَعْبَةِ وَلَا إلَى إصَابَةِ جِهَتِهَا في هذه الْحَالَةِ لِعَدَمِ الدَّلَائِلِ الْمُوَصِّلَةِ إلَيْهَا وَالْكَلَامُ فيه وَالتَّكْلِيفُ بِالصَّلَاةِ مُتَوَجِّهٌ وَتَكْلِيفُ ما لَا يَحْتَمِلُهُ الْوُسْعُ مُمْتَنِعٌ وَلَيْسَ في وُسْعِهِ إلَّا الصَّلَاةُ إلَى جِهَةِ التَّحَرِّي فَتَعَيَّنَتْ هذه قِبْلَةً له شَرْعًا في هذه الْحَالَةِ فَنَزَلَتْ هذه الْجِهَةُ حَالَةَ الْعَجْزِ مَنْزِلَةَ عَيْنِ الْكَعْبَةِ وَالْمِحْرَابِ حَالَةَ الْقُدْرَةِ وَإِنَّمَا عُرِفَ التَّحَرِّي شَرْطًا نَصًّا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لَا لِإِصَابَةِ الْقِبْلَةِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ ما أَخْطَأَ قِبْلَتَهُ لِأَنَّ قِبْلَتَهُ جِهَةُ التَّحَرِّي وقد صلى إلَيْهَا بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الثَّوْبِ لِأَنَّ الشَّرْطَ هُنَاكَ هو الصَّلَاةُ بِالثَّوْبِ الطَّاهِرِ حَقِيقَةً لَكِنَّهُ أُمِرَ بِإِصَابَتِهِ بِالتَّحَرِّي فإذا لم يُصِبْ انْعَدَمَ الشَّرْطُ فلم يَجُزْ أَمَّا هَهُنَا فَالشَّرْطُ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ وَقِبْلَتُهُ هذه في هذه الْحَالَةِ وقد اسْتَقْبَلَهَا فَهُوَ الْفَرْقُ وَالله أعلم‏.‏

وَيَخْرُجُ على ما ذَكَرْنَا الصَّلَاةُ بِمَكَّةَ خَارِجَ الْكَعْبَةِ أَنَّهُ إنْ كان في حَالِ مُشَاهَدَةِ الْكَعْبَةِ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ إلَّا إلَى عَيْنِ الْكَعْبَةِ لِأَنَّ قِبْلَتَهُ حَالَةَ الْمُشَاهَدَةِ عَيْنُ الْكَعْبَةِ بِالنَّصِّ وَيَجُوزُ إلَى أي الْجِهَاتِ من الْكَعْبَةِ شَاءَ بَعْدَ أَنْ كان مُسْتَقْبِلًا لِجُزْءٍ منها لِوُجُودِ تَوْلِيَةِ الْوَجْهِ شَطْرَ الْكَعْبَةِ فَإِنْ صلى مُنْحَرِفًا عن الْكَعْبَةِ غير مُوَاجِهٍ لِشَيْءٍ منها لم يَجُزْ لِأَنَّهُ تَرَكَ التَّوَجُّهَ إلَى قِبْلَتِهِ مع الْقُدْرَةِ عليه وَشَرَائِطُ الصَّلَاةِ لَا تَسْقُطُ من غَيْرِ عُذْرٍ ثُمَّ إنْ صَلُّوا بِجَمَاعَةٍ لَا يَخْلُو أما إن صَلُّوا مُتَحَلِّقِينَ حَوْلَ الْكَعْبَةِ صَفًّا بَعْدَ صَفٍّ وأما إن صَلُّوا إلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ منها مُصْطَفِّينَ فَإِنْ صَلَّوْا إلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ جَازَتْ صَلَاتُهُمْ إذَا كان كُلُّ وَاحِدٍ منهم مُسْتَقْبِلًا جزأ من الْكَعْبَةِ وَلَا يَجُوزُ لهم أَنْ يَصْطَفُّوا زِيَادَةً على حَائِطِ الْكَعْبَةِ وَلَوْ فَعَلُوا ذلك لَا تَجُوزُ صَلَاةُ من جَاوَزَ الْحَائِطَ لِأَنَّ الْوَاجِبَ حَالَةَ الْمُشَاهَدَةِ اسْتِقْبَالُ عَيْنِهَا وَإِنْ صَلَّوْا حَوْلَ الْكَعْبَةِ مُتَحَلِّقِينَ جَازَ لِأَنَّ الصَّلَاةَ بِمَكَّةَ تُؤَدَّى هَكَذَا من لَدُنْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى يَوْمِنَا هذا وَالْأَفْضَلُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقِفَ في مَقَامِ إبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عليه ثُمَّ صَلَاةُ الْكُلِّ جَائِزَةٌ سَوَاءٌ كَانُوا أَقْرَبَ إلَى الْكَعْبَةِ من الْإِمَامِ أو أَبْعَدَ إلَّا صَلَاةَ من كان أَقْرَبَ إلَى الْكَعْبَةِ من الْإِمَامِ في الْجِهَةِ التي يُصَلِّي الْإِمَامُ إلَيْهَا بِأَنْ كان مُتَقَدِّمًا على الْإِمَامِ بِحِذَائِهِ فَيَكُونُ ظَهْرُهُ إلَى وَجْهِ الْإِمَامِ أو كان على يَمِينِ الْإِمَامِ أو يَسَارِهِ مُتَقَدِّمًا عليه من تِلْكَ الْجِهَةِ وَيَكُونُ ظَهْرُهُ إلَى الصَّفِّ الذي مع الْإِمَامِ وَوَجْهُهُ إلَى الْكَعْبَةِ لِأَنَّهُ إذَا كان مُتَقَدِّمًا على إمَامِهِ فلا يَكُونُ تَابِعًا له فَلَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ بِخِلَافِ ما إذَا كان أَقْرَبَ إلَى الْكَعْبَةِ من الْإِمَامِ من غَيْرِ الْجِهَةِ التي صلى ‏[‏يصلي‏]‏ إلَيْهَا الْإِمَامُ لِأَنَّهُ في حُكْمِ الْمُقَابِلِ لِلْإِمَامِ وَالْمُقَابِلُ لِغَيْرِهِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونُ تَابِعًا له بِخِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ عليه‏.‏

وَعَلَى هذا إذَا قَامَتْ امْرَأَةٌ بِجَنْبِ الْإِمَامِ في الْجِهَةِ التي يُصَلِّي إلَيْهَا الْإِمَامُ وَنَوَى الْإِمَامُ إمَامَتَهَا فَسَدَتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ لِوُجُودِ الْمُحَاذَاةِ في صَلَاةٍ مُطْلَقَةٍ مُشْتَرَكَةٍ وَفَسَدَتْ صَلَاةُ الْقَوْمِ بِفَسَادِ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَلَوْ قَامَتْ في الصَّفِّ في غَيْرِ جِهَةِ الْإِمَامِ لَا تَفْسُدُ صَلَاةُ الْإِمَامِ لِأَنَّهَا في الْحُكْمِ كَأَنَّهَا خَلْفَ الْإِمَامِ وَفَسَدَتْ صَلَاةُ من على يَمِينِهَا وَيَسَارِهَا وَمَنْ كان خَلْفَهَا على ما يُذْكَرُ في مَوْضِعِهِ وَلَوْ كانت الْكَعْبَةُ مُنْهَدِمَةً فَتَحَلَّقَ الناس حَوْلَ أَرْضِ الْكَعْبَةِ وَصَلَّوْا هَكَذَا أو صلى مُنْفَرِدًا مُتَوَجِّهًا إلَى جُزْءٍ منها جَازَ وقال الشَّافِعِيُّ لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا كان بين يَدَيْهِ سُتْرَةٌ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْوَاجِبَ اسْتِقْبَالُ الْبَيْتِ وَالْبَيْتُ اسْمٌ لِلْبُقْعَةِ وَالْبِنَاءِ جميعا إلَّا إذَا كان بين يَدَيْهِ سُتْرَةٌ لِأَنَّهَا من تَوَابِعِ الْبَيْتِ فَيَكُونُ مُسْتَقْبِلًا لِجُزْءٍ من الْبَيْتِ مَعْنًى‏.‏

وَلَنَا إجْمَاعُ الْأُمَّةِ فإن الناس كَانُوا يُصَلُّونَ إلَى الْبُقْعَةِ حين رُفِعَ الْبِنَاءُ في عَهْدِ ابْنِ الزُّبَيْرِ حين بَنَى الْبَيْتَ على قَوَاعِدِ الْخَلِيلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عليه وفي عَهْدِ الْحَجَّاجِ حين أَعَادَهُ إلَى ما كان عليه في الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَتْ صَلَاتُهُمْ مَقْضِيَّةً بِالْجَوَازِ وَبِهِ تُبُيِّنَ أَنَّ الْكَعْبَةَ اسْمٌ لِلْبُقْعَةِ سَوَاءٌ كان ثَمَّةَ بِنَاءٌ أو لم يَكُنْ وقد وُجِدَ التوج ‏[‏التوجه‏]‏ إلَيْهَا إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ تَرْكُ اتِّخَاذِ السُّتْرَةِ لِمَا فيه من اسْتِقْبَالِ الصورة الصُّورَةِ وقد نهى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عن ذلك في الصَّلَاةِ وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا رُفِعَ الْبِنَاءُ في عَهْدِ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَمَرَ ابن عَبَّاسٍ بِتَعْلِيقِ الْأَنْطَاعِ في تِلْكَ الْبُقْعَةِ لِيَكُونَ ذلك بِمَنْزِلَةِ السُّتْرَةِ لهم وَعَلَى هذا إذَا صلى على سطح ‏[‏ظهر‏]‏ الْكَعْبَةِ جَازَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَنَا وَإِنْ لم يَكُنْ بين يَدَيْهِ سُتْرَةٌ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تُجْزِيهِ بِدُونِ السُّتْرَةِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْكَعْبَةَ اسْمٌ لِلْعَرْصَةِ وَلِأَنَّ الْبِنَاءَ لَا حُرْمَةَ له لِنَفْسِهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لو نقل ‏[‏نفل‏]‏ إلَى عَرْصَةٍ أُخْرَى وَصَلَى إلَيْهَا لَا يَجُوزُ بَلْ كانت حُرْمَتُهُ لِاتِّصَالِهِ بِالْعَرْصَةِ الْمُحْتَرَمَةِ وَالدَّلِيلُ عليه أن من صلى على جَبَلِ أبي قُبَيْسٍ جَازَتْ صَلَاتُهُ بِالْإِجْمَاعِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي إلَى الْبِنَاءِ بَلْ إلَى الْهَوَاءِ دَلَّ أَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْعَرْصَةِ وَالْهَوَاءِ دُونَ الْبِنَاءِ هذا إذَا صَلَّوْا خَارِجَ الْكَعْبَةِ فَأَمَّا إذَا صَلَّوْا في جَوْفِ الْكَعْبَةِ فَالصَّلَاةُ في جَوْفِ الْكَعْبَةِ جَائِزَةٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ نَافِلَةً كانت أو مَكْتُوبَةً وقال مَالِكٌ لَا يَجُوزُ أَدَاءُ الْمَكْتُوبَةِ في جَوْفِ الْكَعْبَةِ‏.‏

وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمُصَلِّيَ في جَوْفِ الْكَعْبَةِ إنْ كان مُسْتَقْبِلًا جِهَةً كان مُسْتَدْبِرًا جِهَةً أُخْرَى وَالصَّلَاةُ مع اسْتِدْبَارِ الْقِبْلَةِ لَا تَجُوزُ فَأَخَذْنَا بِالِاحْتِيَاطِ في الْمَكْتُوبَاتِ فَأَمَّا في التَّطَوُّعَاتِ فَالْأَمْرُ فيها أَوْسَعُ وَصَارَ كَالطَّوَافِ في جَوْفِ الْكَعْبَةِ وَلَنَا أَنَّ الْوَاجِبَ اسْتِقْبَالُ جُزْءٍ من الْكَعْبَةِ غير عَيْنٍ وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ الْجُزْءُ قِبْلَةً له بِالشُّرُوعِ في الصَّلَاةِ وَالتَّوَجُّهِ إلَيْهِ وَمَتَى صَارَتْ قبله فَاسْتِدْبَارُهَا في الصَّلَاةِ من غَيْرِ ضَرُورَةٍ يَكُونُ مُفْسِدًا فَأَمَّا الْأَجْزَاءُ التي لم يَتَوَجَّهْ إلَيْهَا لم تَصِرْ قِبْلَةً في حَقِّهِ فَاسْتِدْبَارُهَا لَا يَكُونُ مُفْسِدًا وَعَلَى هذا يَنْبَغِي أَنَّ من صلى في جَوْفِ الْكَعْبَةِ رَكْعَةً إلَى جِهَةٍ وَرَكْعَةً إلَى جِهَةٍ أُخْرَى لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَدْبِرًا عن الْجِهَةِ التي صَارَتْ قِبْلَةً في حَقِّهِ بِيَقِينٍ من غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَالِانْحِرَافُ ‏(‏عن القبلة‏)‏ من غَيْرِ ضَرُورَةٍ مُفْسِدٌ لِلصَّلَاةِ بِخِلَافِ النَّائِي عن الْكَعْبَةِ إذَا صلى بِالتَّحَرِّي إلَى الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ بِأَنْ صلى رَكْعَةً إلَى جِهَةٍ ثُمَّ تَحَوَّلَ رَأْيُهُ إلَى جِهَةٍ أُخْرَى فصلى رَكْعَةً إلَيْهَا هَكَذَا جَازَ لِأَنَّ هُنَاكَ لم يُوجَدْ الِانْحِرَافُ عن الْقِبْلَةِ بِيَقِينٍ لِأَنَّ الْجِهَةَ التي تَحَرَّى إلَيْهَا ما صَارَتْ قِبْلَةً له بِيَقِينٍ بَلْ بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ فَحِينَ تَحَوَّلَ رَأْيُهُ إلَى جِهَةٍ أُخْرَى صَارَتْ قِبْلَتُهُ هذه الْجِهَةَ في الْمُسْتَقْبَلِ ولم يَبْطُلْ ما أَدَّى بِالِاجْتِهَادِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ ما أَمْضَى بِالِاجْتِهَادِ لَا يُنْقَضُ بِاجْتِهَادٍ مِثْلِهِ فَصَارَ مُصَلِّيًا في الْأَحْوَالِ كُلِّهَا إلَى الْقِبْلَةِ فلم يُوجَدْ الِانْحِرَافُ عن الْقِبْلَةِ بِيَقِينٍ فَهُوَ الْفَرْقُ‏.‏

ثُمَّ لَا يَخْلُو إمَّا إن صَلَّوْا في جَوْفِ الْكَعْبَةِ مُتَحَلِّقِينَ أو مُصْطَفِّينَ خَلْفَ الْإِمَامِ فَإِنْ صَلَّوْا بِجَمَاعَةٍ مُتَحَلِّقِينَ جَازَتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ وَصَلَاةُ من وَجْهُهُ إلَى ظَهْرِ الْإِمَامِ أو إلَى يَمِينِ الْإِمَامِ أو إلَى يَسَارِهِ أو ظَهْرُهُ إلَى ظَهْرِ الْإِمَامِ وَكَذَا صَلَاةُ من وَجْهُهُ إلَى وَجْهِ الْإِمَامِ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ لِمَا فيه من اسْتِقْبَالِ الصُّورَةِ الصُّورَةَ فَيَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِمَامِ سُتْرَةٌ وَأَمَّا صَلَاةُ من كان مُتَقَدِّمًا على الْإِمَامِ وَظَهْرُهُ إلَى وَجْهِ الْإِمَامِ وَصَلَاةُ من كان مُسْتَقْبِلًا جِهَةَ الْإِمَامِ وهو أَقْرَبُ إلَى الْحَائِطِ من الْإِمَامِ فَلَا تَجُوزُ لِمَا بَيَّنَّا وَهَذَا بِخِلَافِ جَمَاعَةٍ تَحَرَّوْا في لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ وَاقْتَدُوا بِالْإِمَامِ حَيْثُ لَا تَجُوزُ صَلَاةُ من عَلِمَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْإِمَامِ في جِهَتِهِ لِأَنَّ هُنَاكَ اعْتَقَدَ الْخَطَأَ في صَلَاةِ إمَامِهِ لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ إمَامَهُ غَيْرُ مُسْتَقْبِلٍ لِلْقِبْلَةِ فلم يَصِحَّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ أما هَهُنَا فما اعْتَقَدَ الْخَطَأَ في صَلَاةِ إمَامِهِ لِأَنَّ كُلَّ جَانِبٍ من جَوَانِبِ الْكَعْبَةِ قِبْلَةٌ بِيَقِينٍ فَصَحَّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ فَهُوَ الْفَرْقُ‏.‏

وَإِنْ صَلَّوْا مُصْطَفِّينَ خَلْفَ الْإِمَامِ إلَى جِهَةِ الْإِمَامِ فَلَا شَكَّ أَنَّ صَلَاتَهُمْ جَائِزَةٌ وَكَذَا إذَا كان وَجْهُ بَعْضِهِمْ إلَى ظَهْرِ الْإِمَامِ وَظَهْرُ بَعْضِهِمْ إلَى ظَهْرِهِ لِوُجُودِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَالْمُتَابَعَةِ لِأَنَّهُمْ خَلْفَ الْإِمَامِ لَا قبله ‏[‏أمامه‏]‏ وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ الْإِمَامَ إذَا نَوَى إمَامَةَ النِّسَاءِ فَقَامَتْ امْرَأَةٌ بِحِذَائِهِ مُقَابِلَةً له لَا تَفْسُدُ صَلَاةُ الْإِمَامِ لِأَنَّهَا في الْحُكْمِ كَأَنَّهَا خَلْفَ الْإِمَامِ وَتَفْسُدُ صَلَاةُ من كان عن يَمِينِهَا وَيَسَارِهَا وَخَلْفِهَا في الْجِهَةِ التي هِيَ فيها وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ في أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم هل صلى في الْكَعْبَةِ حين دَخَلَهَا رَوَى أُسَامَةُ بن زَيْدٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ لم يُصَلِّ فيه ‏[‏فيها‏]‏ وَرَوَى ابن عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ صلى فيها رَكْعَتَيْنِ بين السَّارِيَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ والله أعلم‏.‏

وَمِنْهَا الْوَقْتُ لِأَنَّ الْوَقْتَ كما هو سَبَبٌ لِوُجُوبِ الصَّلَاةِ فَهُوَ شَرْطٌ لِأَدَائِهَا قال اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إنَّ الصَّلَاةَ كانت على الْمُؤْمِنِينَ كتابا مَوْقُوتًا‏}‏ أَيْ فَرْضًا مُؤَقَّتًا حتى لَا يَجُوزَ أَدَاءُ الْفَرْضِ قبل وَقْتِهِ إلَّا صَلَاةُ الْعَصْرِ يوم عَرَفَةَ على ما يُذْكَرُ وَالْكَلَامُ فيه يَقَعُ في ثلاث مَوَاضِعَ في بَيَانِ أَصْلِ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ وفي بَيَانِ حُدُودِهَا بِأَوَائِلِهَا وَأَوَاخِرِهَا وفي بَيَانِ الْأَوْقَاتِ الْمُسْتَحَبَّةِ منها وفي بَيَانِ الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ لِبَعْضِ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ‏.‏

أَمَّا الْأَوَّلُ فَأَصْلُ أَوْقَاتِهَا عُرِفَ بِالْكتاب وهو قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَسُبْحَانَ اللَّهِ حين تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ في السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ‏}‏ وقَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأَقِمْ الصَّلَاةَ طَرَفَيْ النَّهَارِ وَزُلَفًا من اللَّيْلِ‏}‏ وقَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كان مَشْهُودًا‏}‏ وقَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لعلك ترضى ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم‏}‏ فَهَذِهِ الْآيَاتُ تَشْتَمِلُ على بَيَانِ فَرْضِيَّةِ هذه الصَّلَوَاتِ وَبَيَانِ أَصْلِ أَوْقَاتِهَا لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ وَالله أعلم‏.‏

وَأَمَّا بَيَانُ حُدُودِهَا بِأَوَائِلِهَا وَأَوَاخِرِهَا فَإِنَّمَا عُرِفَ بِالْأَخْبَارِ أَمَّا الْفَجْرُ فَأَوَّلُ وَقْتِ صَلَاةِ الْفَجْرِ حين يَطْلُعَ الْفَجْرُ الثَّانِي وَآخِرُهُ حين تَطْلُعَ الشَّمْسُ لِمَا رُوِيَ عن أبي هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عنه عن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أنه قال إنَّ لِلصَّلَاةِ أَوَّلًا وَآخِرًا وأن أَوَّلَ وَقْتِ الْفَجْرِ حين يَطْلُعَ الْفَجْرُ وَآخِرُهُ حين تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَالتَّقْيِيدُ بِالْفَجْرِ الثَّانِي لِأَنَّ الفجر ‏(‏فجران الْفَجْرَ‏)‏ الْأَوَّلَ هو الْبَيَاضُ الْمُسْتَطِيلُ يَبْدُو في نَاحِيَةٍ من السَّمَاءِ وهو الْمُسَمَّى بذنب ‏[‏ذنب‏]‏ السِّرْحَانِ عِنْدَ الْعَرَبِ ثُمَّ يَنْكَتِمُ وَلِهَذَا يُسَمَّى فَجْرًا كَاذِبًا لِأَنَّهُ يَبْدُو نُورُهُ ثُمَّ يَخْلُفُ وَيَعْقُبُهُ الظَّلَامُ وَهَذَا الْفَجْرُ لَا يَحْرُمُ بِهِ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ على الصَّائِمِينَ وَلَا يَخْرُجُ بِهِ وَقْتُ الْعِشَاءِ وَلَا يَدْخُلُ بِهِ وَقْتُ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَالْفَجْرُ الثَّانِي وهو الْمُسْتَطِيرُ الْمُعْتَرِضُ في الْأُفُقِ لَا يُزَالُ يَزْدَادُ نُورُهُ حتى تَطْلُعَ الشَّمْسُ يسمى ‏[‏ويسمى‏]‏ هذا فَجْرًا صَادِقًا لِأَنَّهُ إذَا بدا نُورُهُ يَنْتَشِرُ في الْأُفُقِ وَلَا يَخْلُفُ وَهَذَا الْفَجْرُ يَحْرُمُ بِهِ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ على الصَّائِمِ وَيَخْرُجُ بِهِ وَقْتُ الْعِشَاءِ وَيَدْخُلُ بِهِ وَقْتُ صلاة الْفَجْرِ وَهَكَذَا رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال الْفَجْرُ فَجْرَانِ فَجْرٌ مُسْتَطِيلٌ يَحِلُّ بِهِ الطَّعَامُ وَتَحْرُمُ فيه الصَّلَاةُ وَفَجْرٌ مُسْتَطِيرٌ يَحْرُمُ بِهِ الطَّعَامُ وَتَحِلُّ فيه الصَّلَاةُ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ من الْفَجْرِ الْمَذْكُورِ في حديث أبي هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عنه هو الْفَجْرُ الثَّانِي لَا الْأَوَّلُ‏.‏

وَرُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال لَا يَغُرَّنَّكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ وَلَا الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيلُ لَكِنْ الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيرُ في الْأُفُقِ وَرُوِيَ لَا يَغُرَّنَّكُمْ الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيلُ وَلَكِنْ كُلُوا وَاشْرَبُوا حتى يَطْلُعَ الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيرُ أَيْ الْمُنْتَشِرُ في الْأُفُقِ وقال الْفَجْرُ هَكَذَا وَمَدَّ يَدَهُ عَرْضًا لَا هَكَذَا وَمَدَّ يَدَهُ طُولًا وَلِأَنَّ الْمُسْتَطِيلَ لَيْلٌ في الْحَقِيقَةِ لِتَعَقُّبِ الظَّلَامِ إيَّاهُ وَرُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال وَقْتُ الْفَجْرِ ما لم تَطْلُعْ الشَّمْسُ وَرُوِيَ عنه أَنَّهُ قال من أَدْرَكَ رَكْعَةً من الْفَجْرِ قبل أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَهَا فَدَلَّ الْحَدِيثَانِ أَيْضًا على أَنَّ آخِرَ وَقْتِ الْفَجْرِ حين تَطْلُعُ الشَّمْسُ وَأَمَّا أَوَّلُ وَقْتِ الظُّهْرِ فَحِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ بِلَا خِلَافٍ لِمَا رُوِيَ عن أبي هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال أَوَّلُ وَقْتِ الظُّهْرِ حين تَزُولُ الشَّمْسُ وَأَمَّا آخِرُهُ فلم يُذْكَرْ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ نَصًّا‏.‏

وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عن أبي حَنِيفَةَ رَوَى مُحَمَّدٌ عنه إذَا صَارَ ظِلُّ كل شَيْءٍ مثله سِوَى فَيْءِ الزَّوَالِ وَالْمَذْكُورُ في الْأَصْلِ وَلَا يَدْخُلُ وَقْتُ الْعَصْرِ حتى يَصِيرَ الظِّلُّ قَامَتَيْنِ ولم يَتَعَرَّضْ لِآخِرِ وَقْتِ الظُّهْرِ وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّ آخِرَ وَقْتِهَا إذَا صَارَ ظِلُّ كل شَيْءٍ مثله سِوَى فَيْءِ الزَّوَالِ وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وَالْحَسَنِ وَالشَّافِعِيِّ وَرَوَى أَسَدُ بن عَمْرٍو عنه ‏[‏وعنه‏]‏ إذَا صَارَ ظِلُّ كل شَيْءٍ مثله سِوَى فَيْءِ الزَّوَالِ خَرَجَ وَقْتُ الظُّهْرِ وَلَا يَدْخُلُ وَقْتُ الْعَصْرِ ما لم يَصِرْ ظِلُّ كل شَيْءٍ مِثْلَيْهِ فَعَلَى هذه الرِّوَايَةِ يَكُونُ بين وَقْتِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَقْتٌ مُهْمَلٌ كما بين الْفَجْرِ وَالظُّهْرِ وَالصَّحِيحُ رِوَايَةُ مُحَمَّدٍ عنه فإنه روى في خَبَرِ أبي هُرَيْرَةَ وَآخِرُ وَقْتِ الظُّهْرِ حين يَدْخُلُ وَقْتُ الْعَصْرِ وَهَذَا يَنْفِي الْوَقْتَ الْمُهْمَلَ ثُمَّ لَا بُدَّ من مَعْرِفَةِ زَوَالِ الشَّمْسِ رُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قال حَدُّ الزَّوَالِ أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ فإذا مَالَتْ الشَّمْسُ عن يَسَارِهِ فَهُوَ الزَّوَالُ وَأَصَحُّ ما قِيلَ في مَعْرِفَةِ الزَّوَالِ قَوْلُ مُحَمَّدِ بن شُجَاعٍ الْبَلْخِيّ أَنَّهُ يَغْرِزُ عُودًا مُسْتَوِيًا في أَرْضٍ مُسْتَوِيَةٍ وَيَجْعَلُ على مَبْلَغِ الظِّلِّ منه عَلَامَةً فما دَامَ الظِّلُّ يَنْتَقِصُ من الْخَطِّ فَهُوَ قبل الزَّوَالِ فإذا وَقَفَ لَا يَزْدَادُ وَلَا يَنْتَقِصُ فَهُوَ وقت ‏[‏ساعة‏]‏ الزَّوَالِ وإذا أَخَذَ الظِّلُّ في الزِّيَادَةِ فَالشَّمْسُ قد زَالَتْ وإذا أَرَدْتَ مَعْرِفَةَ فَيْءِ الزَّوَالِ فَخُطَّ على رَأْسِ مَوْضِعِ الزِّيَادَةِ خَطًّا فَيَكُونُ من رَأْسِ الْخَطِّ إلَى الْعَوْدِ فَيْءُ الزَّوَالِ فإذا صَارَ ظِلَّ الْعُودِ مِثْلَيْهِ من رَأْسِ الْخَطِّ لَا من الْعُودِ خَرَجَ وَقْتُ الظُّهْرِ وَدَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وإذا صَارَ ظِلُّ الْعُودِ مثله ‏[‏مثليه‏]‏ من رَأْسِ الْخَطِّ خَرَجَ وَقْتُ الظُّهْرِ وَدَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ عِنْدَهُمْ‏.‏

وَجْهُ قَوْلِهِمْ حَدِيثَ إمَامَةِ جِبْرِيلَ عليه السَّلَامُ فإنه روى عن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال أَمَّنِي جِبْرِيلُ عِنْدَ الْبَيْتِ مَرَّتَيْنِ فصلى بِي الظُّهْرَ في الْيَوْمِ الْأَوَّلِ حين زَالَتْ الشَّمْسُ وَصَلَّى بِي الْعَصْرَ حين صَارَ ظِلُّ كل شَيْءٍ مثله وَصَلَّى بِي الْمَغْرِبَ حين غَرَبَتْ الشَّمْسُ وَصَلَّى بِي الْعِشَاءَ حين غَابَ الشَّفَقُ وَصَلَّى بِي الْفَجْرَ حين طَلَعَ الْفَجْرُ الثَّانِي وَصَلَّى بِي الظُّهْرَ في الْيَوْمِ الثَّانِي حين صَارَ ظِلُّ كل شَيْءٍ مثله وَصَلَّى بِي الْعَصْرَ في الْيَوْمِ الثَّانِي حين صَارَ ظِلُّ كل شَيْءٍ مِثْلَيْهِ وَصَلَّى بِي الْمَغْرِبَ في الْيَوْمِ الثَّانِي في الْوَقْتِ الذي صلى بِي في الْيَوْمَ الْأَوَّلَ وَصَلَّى بِي الْعِشَاءَ في الْيَوْمِ الثَّانِي حين مَضَى ثُلُثُ اللَّيْلِ وَصَلَّى بِي الْفَجْرَ في الْيَوْمِ الثَّانِي حين أَسْفَرَ النَّهَارُ ثُمَّ قال الْوَقْتُ ما بين الْوَقْتَيْنِ‏.‏

فَالِاسْتِدْلَالُ بِالْحَدِيثِ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ صلى الْعَصْرَ في الْيَوْمِ الْأَوَّلِ حين صَارَ ظِلُّ كل شَيْءٍ مثله فَدَلَّ أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الْعَصْرِ هذا فَكَانَ هو آخِرَ وَقْتِ الظُّهْرِ ضَرُورَةً وَالثَّانِي أَنَّ الْإِمَامَةَ في الْيَوْمِ الثَّانِي كانت لِبَيَانِ آخِرِ الْوَقْتِ ولم يُؤَخِّرْ الظُّهْرَ في الْيَوْمِ الثَّانِي إلَى أَنْ يَصِيرَ ظِلُّ كل شَيْءٍ مِثْلَيْهِ فَدَلَّ أَنَّ آخِرَ وَقْتِ الظُّهْرِ ما ذَكَرْنَا‏.‏

وَلِأَبِي حَنِيفَةَ ما رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال إنَّ مَثَلَكُمْ وَمَثَلَ من قَبْلَكُمْ من الْأُمَمِ مَثَلُ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فقال من يَعْمَلُ لي من الْفَجْرِ إلَى الظُّهْرِ بِقِيرَاطٍ فَعَمِلَتْ الْيَهُودُ ثُمَّ قال من يَعْمَلُ لي من الظُّهْرِ إلَى الْعَصْرِ بِقِيرَاطٍ فَعَمِلَتْ النَّصَارَى ثُمَّ قال من يَعْمَلُ لي من الْعَصْرِ إلَى الْمَغْرِبِ بِقِيرَاطَيْنِ فَعَمِلْتُمْ أَنْتُمْ فَكُنْتُمْ أَقَلَّ عَمَلًا وَأَكْثَرَ أَجْرًا فَدَلَّ الْحَدِيثُ على أَنَّ مُدَّةَ الْعَصْرِ أَقْصَرُ من مُدَّةِ الظُّهْرِ وَإِنَّمَا يَكُونُ أَقْصَرَ أَنْ لو كان الْأَمْرُ على ما قَالَهُ أبو حَنِيفَةَ‏.‏

وَرُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال أَبْرِدُوا بِالظُّهْرِ فإن شِدَّةَ الْحَرِّ من فَيْحِ جَهَنَّمَ وَالْإِبْرَادُ يَحْصُلُ بِصَيْرُورَةِ ظِلِّ كل شَيْءٍ مِثْلَيْهِ فإن الْحَرَّ لَا يَفْتُرُ خُصُوصًا في بِلَادِهِمْ على أَنَّ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ وَقْتِ الْعَصْرِ لِأَنَّ مَوْضِعَ التَّعَارُضِ مَوْضِعُ الشَّكِّ وَغَيْرُ الثَّابِتِ لَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ فَإِنْ قِيلَ لَا يَبْقَى وَقْتُ الظُّهْرِ بِالشَّكِّ أَيْضًا فَالْجَوَابُ أَنَّهُ كَذَلِكَ يقول أبو حَنِيفَةَ في رِوَايَةِ أَسَدِ بن عَمْرٍو أَخْذًا بِالْمُتَيَقَّنِ فِيهِمَا‏.‏

وَالثَّانِي أَنَّ ما ثَبَتَ لَا يَبْطُلُ بِالشَّكِّ وَغَيْرُ الثَّابِتِ لَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ وَخَبَرُ إمَامَةِ جِبْرِيلَ عليه السَّلَامُ مَنْسُوخٌ في الْمُتَنَازَعِ فيه فإن الْمَرْوِيَّ أَنَّهُ صلى الظُّهْرَ في الْيَوْمِ الثَّانِي في الْوَقْتِ الذي صلى فيه الْعَصْرَ في الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ على تَغَايُرِ وَقْتَيْ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فَكَانَ الْحَدِيثُ مَنْسُوخًا في الْفَرْعِ وَلَا يُقَالُ مَعْنَى ما وَرَدَ أَنَّهُ صلى الْعَصْرَ في الْيَوْمِ الْأَوَّلِ حين صَارَ ظِلُّ كل شَيْءٍ مثله أَيْ بَعْدَ ما صَارَ وَمَعْنَى ما وَرَدَ أَنَّهُ صلى الظُّهْرَ في الْيَوْمِ الثَّانِي حين صَارَ ظِلُّ كل شَيْءٍ مِثْلَيْهِ أَيْ قَرُبَ من ذلك فَلَا يَكُونُ مَنْسُوخًا لِأَنَّا نَقُولُ هذا نِسْبَةُ للنبي ‏[‏النبي صلى الله عليه وسلم‏]‏ إلَى الْغَفْلَةِ وَعَدَمِ التَّمْيِيزِ بين الْوَقْتَيْنِ أو إلَى التَّسَاهُلِ في أَمْرِ تَبْلِيغِ الشَّرَائِعِ وَالتَّسْوِيَةُ بين أَمْرَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَتَرْكُ ذلك مُبْهَمًا من غَيْرِ بَيَانٍ منه أو دَلِيلٍ يُمْكِنُ الْوُصُولُ بِهِ إلَى الِافْتِرَاقِ بين الْأَمْرَيْنِ وَمِثْلُهُ لَا يُظَنُّ بِالنبي صلى الله عليه وسلم وَأَمَّا أَوَّلُ وَقْتِ الْعَصْرِ فَعَلَى الِاخْتِلَافِ الذي ذَكَرْنَا في آخِرِ وَقْتِ الظُّهْرِ حتى رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ قال خَالَفْتُ أَبَا حَنِيفَةَ في وَقْتِ الْعَصْرِ فقلت أَوَّلُهُ إذَا زاد ‏[‏دار‏]‏ الظِّلُّ على قَامَةٍ اعْتِمَادًا على الْآثَارِ التي جَاءَتْ وَآخِرُهُ حين تَغْرُبُ الشَّمْسُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ في قَوْلٍ إذَا صَارَ ظِلُّ كل شَيْءٍ مِثْلَيْهِ يَخْرُجُ وَقْتُ الْعَصْرِ وَلَا يَدْخُلُ وَقْتُ الْمَغْرِبِ حتى تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا وَقْتٌ مُهْمَلٌ وفي قَوْلٍ إذَا صَارَ ظِلُّ كل شَيْءٍ مِثْلَيْهِ يَخْرُجُ وَقْتُهُ الْمُسْتَحَبُّ وَيَبْقَى أَصْلُ الْوَقْتِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا رُوِيَ في حديث أبي هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عنه في وَقْتِ الْعَصْرِ وَآخِرُهَا حين تَغْرُبُ الشَّمْسُ‏.‏

وَرُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال من أَدْرَكَ رَكْعَةً من الْعَصْرِ قبل أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أدرك ‏[‏أدركها‏]‏ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال من فَاتَهُ الْعَصْرُ حتى غَرَبَتْ الشَّمْسُ فَكَأَنَّمَا وَتَرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ وَأَمَّا أَوَّلُ وَقْتِ الْمَغْرِبِ فَحِينَ تَغْرُبُ الشَّمْسُ بِلَا خِلَافٍ وفي خَبَرِ أبي هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عنه وَأَوَّلُ وَقْتِ الْمَغْرِبِ حين تَغْرُبُ الشَّمْسُ وَكَذَا حَدِيثُ جِبْرِيلَ صلوات الله وسلامه عليه صلى الْمَغْرِبَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ في الْيَوْمَيْنِ جميعا وَالصَّلَاةُ في الْيَوْمِ الْأَوَّلِ كانت بَيَانًا لِأَوَّلِ الْوَقْتِ وَأَمَّا آخِرُهُ فَقَدْ اخْتَلَفُوا فيه قال أَصْحَابُنَا حين يَغِيبُ الشَّفَقُ‏.‏

وقال الشَّافِعِيُّ وَقْتُهَا ما يَتَطَهَّرُ الْإِنْسَانُ وَيُؤَذِّنُ وَيُقِيمُ وَيُصَلِّي ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ حتى لو صَلَّاهَا بَعْدَ ذلك كان قَضَاءً لَا أَدَاءً عِنْدَهُ لِحَدِيثِ إمَامَةِ جِبْرِيلَ أَنَّهُ صلى الْمَغْرِبَ في الْمَرَّتَيْنِ في وَقْتٍ وَاحِدٍ وَلَنَا أَنَّ في حديث أبي هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عنه وَأَوَّلُ وَقْتِ الْمَغْرِبِ حين تَغْرُبُ الشَّمْسُ وَآخِرُهُ حين يَغِيبُ الشَّفَقُ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال وَقْتُ الْمَغْرِبِ ما لم يَغِبْ الشَّفَقُ وَإِنَّمَا لم يُؤَخِّرْهُ جِبْرِيلُ عن أَوَّلِ الْغُرُوبِ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ عن أَوَّلِ الْغُرُوبِ مَكْرُوهٌ إلَّا لِعُذْرٍ وَأَنَّهُ جاء لِيُعَلِّمَهُ الْمُبَاحَ من الْأَوْقَاتِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لم يُؤَخِّرْ الْعَصْرَ إلَى الْغُرُوبِ مع بَقَاءِ الْوَقْتِ إلَيْهِ وَكَذَا لم يُؤَخِّرْ الْعِشَاءَ إلَى ما بَعْدَ ثُلُثِ اللَّيْلِ وَإِنْ كان بَعْدَهُ وَقْتُ الْعِشَاءِ بِالْإِجْمَاعِ وَأَمَّا أَوَّلُ وَقْتِ الْعِشَاءِ فَحِينَ يَغِيبُ الشَّفَقُ بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا لِمَا رُوِيَ في خَبَرِ أبي هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عنه وَأَوَّلُ وَقْتِ الْعِشَاءِ حين يَغِيبُ الشَّفَقُ وَاخْتَلَفُوا في تَفْسِيرِ الشَّفَقِ فَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ هو الْبَيَاضُ وهو مَذْهَبُ أبي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَمُعَاذٍ وَعَائِشَةَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ هو الْحُمْرَةُ وهو قَوْلُ عبد اللَّهِ بن عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بن عُمَرَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وهو رِوَايَةُ أَسَدِ بن عَمْرٍو عن أبي حَنِيفَةَ‏.‏

وَجْهُ قَوْلِهِمْ ما رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال لَا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ ما عَجَّلُوا الْمَغْرِبَ وَأَخَّرُوا الْعِشَاءَ وكان رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الْعِشَاءَ بَعْدَ مُضِيِّ ثُلُثِ اللَّيْلِ فَلَوْ كان الشَّفَقُ هو الْبَيَاضُ لَمَا كان مُؤَخِّرًا لها بَلْ كان مُصَلِّيًا في أَوَّلِ الْوَقْتِ لِأَنَّ الْبَيَاضَ يَبْقَى إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ خُصُوصًا في الصَّيْفِ‏.‏ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ النَّصُّ وَالِاسْتِدْلَالُ أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلَى غَسَقِ اللَّيْلِ‏}‏ جَعَلَ الْغَسَقَ غَايَةً لِوَقْتِ الْمَغْرِبِ وَلَا غَسَقَ ما بَقِيَ النُّورُ الْمُعْتَرِضُ وَرُوِيَ عن عَمْرِو بن الْعَاصِ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال آخِرُ وَقْتِ الْمَغْرِبِ ما لم يَسْقُطْ نُورُ الشَّفَقِ وَبَيَاضُهُ وَالْمُعْتَرِضُ نُورُهُ وفي حديث أبي هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عنه وَإِنَّ آخِرَ وَقْتِ الْمَغْرِبِ حين يَسْوَدُّ الْأُفُقُ وَإِنَّمَا يَسْوَدُّ بِإِخْفَائِهَا بِالظَّلَامِ وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال فَمِنْ وَجْهَيْنِ لُغَوِيٍّ وَفِقْهِيٍّ أَمَّا اللُّغَوِيُّ فَهُوَ أَنَّ الشَّفَقَ اسْمٌ لِمَا رَقَّ يُقَالُ ثَوْبٌ شَفِيقٌ أَيْ رَقِيقٌ إمَّا من رِقَّةِ النَّسْجِ وَإِمَّا لِحُدُوثِ رِقَّةٍ فيه من طُولِ اللُّبْسِ وَمِنْهُ الشَّفَقَةُ وَهِيَ رِقَّةُ الْقَلْبِ من الْخَوْفِ أو الْمَحَبَّةِ وَرِقَّةُ نُورِ الشَّمْسِ بَاقِيَةٌ ما بَقِيَ الْبَيَاضُ‏.‏

وَقِيلَ الشَّفَقُ اسْمٌ لِرَدِيءِ الشَّيْءِ وَبَاقِيهِ وَالْبَيَاضُ بَاقِي آثَارِ الشَّمْسِ وَأَمَّا الْفِقْهِيُّ فَهُوَ أَنَّ صَلَاتَيْنِ يؤديان ‏[‏تؤديان‏]‏ في أَثَرِ الشَّمْسِ وهو ‏[‏وهما‏]‏ الْمَغْرِبُ مع الْفَجْرِ وَصَلَاتَيْنِ تُؤَدَّيَانِ في وَضَحِ النَّهَارِ وَهُمَا الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ فَيَجِبُ أَنْ يُؤَدِّيَ صَلَاتَيْنِ في غَسَقِ اللَّيْلِ بِحَيْثُ لم يَبْقَ أَثَرٌ من آثَارِ الشَّمْسِ وَهُمَا الْعِشَاءُ وَالْوِتْرُ بعد ‏[‏وبعد‏]‏ غَيْبُوبَةِ الْبَيَاضِ لَا يَبْقَى أَثَرٌ لِلشَّمْسِ وَلَا حُجَّةَ لهم في الحديث لِأَنَّ الْبَيَاضَ يَغِيبُ قبل مُضِيِّ ثُلُثِ اللَّيْلِ غَالِبًا وَأَمَّا آخِرُ وَقْتِ الْعِشَاءِ فَحِينَ يَطْلُعُ الْفَجْرُ الصَّادِقُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ في قَوْلٍ حين يَمْضِي ثُلُثُ اللَّيْلِ لِأَنَّ جِبْرِيلَ عليه السَّلَامُ صلى في الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ مُضِيِّ ثُلُثِ اللَّيْلِ وكان ذلك بَيَانًا لِآخِرِ الْوَقْتِ وفي قَوْلٍ قال يُؤَخِّرُ إلَى آخِرِ نِصْفِ اللَّيْلِ بِعُذْرِ السَّفَرِ لِأَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أَخَّرَ لَيْلَةً إلَى النِّصْفِ ثُمَّ قال هو لنا بِعُذْرِ السَّفَرِ‏.‏

وَلَنَا ما رَوَى أبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه وَأَوَّلُ وَقْتِ الْعِشَاءِ حين يَغِيبُ الشَّفَقُ وَآخِرُهُ حين يَطْلُعُ الْفَجْرُ وَرُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال لَا يَدْخُلُ وَقْتُ صَلَاةٍ حتى يَخْرُجَ وَقْتُ أُخْرَى وَقَّتَ عَدَمَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ إلَى غَايَةِ خُرُوجِ وَقْتِ صَلَاةٍ أُخْرَى فَلَوْ لم يَثْبُتْ الدُّخُولُ عِنْدَ الْخُرُوجِ لم يَتَوَقَّفْ وَلِأَنَّ الْوِتْرَ من تَوَابِعِ الْعِشَاءِ وَيُؤَدَّى في وَقْتِهَا وَأَفْضَلُ وَقْتِهَا السَّحَرُ دَلَّ أَنَّ السَّحَرَ آخِرُ وَقْتِ الْعِشَاءِ وَلِأَنَّ أَثَرَ السَّفَرِ في قَصْرِ الصَّلَاةِ لَا في زِيَادَةِ الْوَقْتِ وَإِمَامَةُ جِبْرِيلَ عليه السَّلَامُ كان تَعْلِيمًا لِآخِرِ الْوَقْتِ الْمُسْتَحَبِّ وَنَحْنُ نَقُولُ إنَّ ذلك ثُلُثُ اللَّيْلِ وَأَمَّا بَيَانُ الْأَوْقَاتِ الْمُسْتَحَبَّةِ فَالسَّمَاءُ لَا تَخْلُو إمَّا إن كانت مُصْحِيَةً أو مُغَيِّمَةً فَإِنْ كانت مُصْحِيَةً فَفِي الْفَجْرِ الْمُسْتَحَبُّ أخر الْوَقْتِ والإسفار بِصَلَاةِ الْفَجْرِ أَفْضَلُ من التَّغْلِيسِ بها في السَّفَرِ وَالْحَضَرِ وَالصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ في حَقِّ جَمِيعِ الناس إلَّا في حَقِّ الْحَاجِّ بِمُزْدَلِفَةَ فإن التَّغْلِيسَ بها أَفْضَلُ في حَقِّهِ‏.‏

وقال الطَّحَاوِيُّ إنْ كان من عَزْمِهِ تَطْوِيلُ الْقِرَاءَةِ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَبْدَأَ بِالتَّغْلِيسِ بها وَيَخْتِمَ بِالْإِسْفَارِ وَإِنْ لم يَكُنْ من عَزْمِهِ تَطْوِيلُ الْقِرَاءَةِ فَالْإِسْفَارُ أَفْضَلُ من التَّغْلِيسِ وقال الشَّافِعِيُّ التَّغْلِيسُ بها أَفْضَلُ في حَقِّ الْكُلِّ وَجُمْلَةُ الْمَذْهَبِ عِنْدَهُ أَنَّ أَدَاءَ الْفَرْضِ لِأَوَّلِ الْوَقْتِ أَفْضَلُ وَحْدَهُ ما دَامَ في النِّصْفِ الْأَوَّلِ من الْوَقْتِ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ من رَبِّكُمْ‏}‏ وَالتَّعْجِيلُ من باب الْمُسَارَعَةِ إلَى الْخَيْرِ وَذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى أَقْوَامًا على الْكَسَلِ فقال‏:‏ ‏{‏وإذا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى‏}‏ وَالتَّأْخِيرُ من الْكَسَلِ

وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عن أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ فقال الصَّلَاةُ لِأَوَّلِ وَقْتِهَا وقال أَوَّلُ الْوَقْتِ رِضْوَانُ اللَّهِ وَآخِرُ الْوَقْتِ عَفْوُ اللَّهِ أَيْ يُنَالُ بِأَدَاءِ الصَّلَاةِ في أَوَّلِ الْوَقْتِ رِضْوَانُ اللَّهِ وَيُنَالُ بِأَدَائِهَا في آخِرِهِ عَفْوُ اللَّهِ تَعَالَى‏.‏

وَاسْتِيجَابُ الرِّضْوَانِ خَيْرٌ من اسْتِيجَابِ الْعَفْوِ لِأَنَّ الرِّضْوَانَ أَكْبَرُ الثَّوَابِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَرِضْوَانٌ من اللَّهِ أَكْبَرُ‏}‏ وَيُنَالُ بِالطَّاعَاتِ وَالْعَفْوُ يُنَالُ بِشَرْطِ سَابِقِيَّةِ الْجِنَايَةِ وَرُوِيَ في الْفَجْرِ خَاصَّةً عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يُصَلِّينَ مع رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ يَنْصَرِفْنَ وما يُعْرَفْنَ من شِدَّةِ الْغَلَسِ وَلَنَا قَوْلُ النبي صلى الله عليه وسلم أَسْفِرُوا بِالْفَجْرِ فإنه أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ رَوَاهُ رَافِعُ بن خَدِيجٍ وقال عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه ما صلى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةً قبل مِيقَاتِهَا إلَّا صَلَاتَيْنِ صَلَاةُ الْعَصْرِ بِعَرَفَةَ وَصَلَاةُ الْفَجْرِ بِمُزْدَلِفَةَ فإنه قد غَلَّسَ بها فسمى التَّغْلِيسُ بِالْفَجْرِ صَلَاةً قبل الْمِيقَاتِ فَعُلِمَ أَنَّ الْعَادَةَ كانت في الْفَجْرِ الْإِسْفَارُ وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ أَنَّهُ قال ما اجْتَمَعَ أَصْحَابُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم على شَيْءٍ كَاجْتِمَاعِهِمْ على تَأْخِيرِ الْعَصْرِ وَالتَّنْوِيرِ بِالْفَجْرِ وَلِأَنَّ في التَّغْلِيسِ تَقْلِيلُ الْجَمَاعَةِ لِكَوْنِهِ وَقْتَ نَوْمٍ وَغَفْلَةٍ وفي الْإِسْفَارِ تَكْثِيرُهَا فَكَانَ أَفْضَلَ وَلِهَذَا يُسْتَحَبُّ الْإِبْرَادُ بِالظُّهْرِ في الصَّيْفِ لِاشْتِغَالِ الناس بِالْقَيْلُولَةِ وَلِأَنَّ في حُضُورِ الْجَمَاعَةِ في هذا الْوَقْتِ ضَرْبَ حَرَجٍ خُصُوصًا في حَقِّ الضُّعَفَاءِ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «صَلِّ بِالْقَوْمِ صَلَاةَ أَضْعَفِهِمْ» وَلِأَنَّ الْمُكْثَ في مَكَانِ صَلَاةِ الْفَجْرِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ قال من صلى الْفَجْرَ وَمَكَثَ حتى تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَكَأَنَّمَا أَعْتَقَ أَرْبَعَ رِقَابٍ من وَلَدِ إسْمَاعِيلَ وقلنا‏:‏ ‏[‏وقلما‏]‏ يَتَمَكَّنُ من إحْرَازِ هذه الْفَضِيلَةِ عِنْدَ التَّغْلِيسِ لِأَنَّهُ قَلَّمَا يَمْكُثُ فيها لِطُولِ الْمُدَّةِ وَيَتَمَكَّنُ من إحْرَازِهَا عِنْدَ الْإِسْفَارِ فَكَانَ أَوْلَى‏.‏

وما ذُكِرَ من الدَّلَائِلِ الجملية ‏[‏الجميلة‏]‏ فَنَقُولُ بها في بَعْضِ الصَّلَوَاتِ في بَعْضِ الْأَوْقَاتِ على ما نَذْكُرُ لَكِنْ قَامَتْ الدَّلَائِلُ في بَعْضِهَا على أَنَّ التَّأْخِيرَ أَفْضَلُ لِمَصْلَحَةٍ وُجِدَتْ في التَّأْخِيرِ وَلِهَذَا قال الشَّافِعِيُّ بِتَأْخِيرِ الْعِشَاءِ إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ لِئَلَّا يَقَعَ في السفر ‏[‏السمر‏]‏ بَعْدَ الْعِشَاءِ ثُمَّ الْأَمْرُ بِالْمُسَارَعَةِ يَنْصَرِفُ إلَى مُسَارَعَةٍ وَرَدَ الشَّرْعُ بها أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَدَاءَ قبل الْوَقْتِ لَا يَجُوزُ وَإِنْ كان فيه مُسَارَعَةٌ لِمَا لم يَرِدْ الشَّرْعُ بها وَقِيلَ في الحديث أن الْعَفْوَ عِبَارَةٌ عن الْفَضْلِ قال اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ‏}‏ أَيْ الْفَضْلَ فَكَانَ مَعْنَى الحديث على هذا وَالله أعلم‏.‏أَنَّ من أَدَّى الصَّلَاةَ في أَوَّلِ الْأَوْقَاتِ فَقَدْ نَالَ رِضْوَانَ اللَّهِ وَأَمِنَ من سَخَطِهِ وَعَذَابِهِ لِامْتِثَالِهِ أَمْرَهُ وَأَدَائِهِ ما أَوْجَبَ عليه وَمَنْ أَدَّى في آخِرِ الْوَقْتِ فَقَدْ نَالَ فَضْلَ اللَّهِ وَنَيْلُ فَضْلِ اللَّهِ لَا يَكُونُ بِدُونِ الرِّضْوَانِ فَكَانَتْ هذه الدَّرَجَةُ أَفْضَلَ من تِلْكَ وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها فَالصَّحِيحُ من الرِّوَايَاتِ إسْفَارُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِصَلَاةِ الْفَجْرِ لِمَا رَوَيْنَا من حديث ابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه‏.‏

فَإِنْ ثَبَتَ التَّغْلِيسُ في وَقْتٍ فَلِعُذْرِ الْخُرُوجِ إلَى سَفَرٍ أو كان ذلك في الِابْتِدَاءِ حين كُنَّ النِّسَاءُ يَحْضُرْنَ الْجَمَاعَاتِ ثُمَّ لما أُمِرْنَ بِالْقَرَارِ في الْبُيُوتِ اُنْتُسِخَ ذلك وَالله أعلم‏.‏وَأَمَّا في الظُّهْرِ فَالْمُسْتَحَبُّ هو آخِرُ الْوَقْتِ في الصَّيْفِ وَأَوَّلُهُ في الشِّتَاءِ وقال الشَّافِعِيُّ إنْ كان يُصَلِّي وَحْدَهُ يُعَجِّلْ في كل وَقْتٍ وَإِنْ كان يُصَلِّي بِالْجَمَاعَةِ يُؤَخِّرْ يَسِيرًا لِمَا ذَكَرْنَا وَرُوِيَ عن خَباب بن الْأَرَتِّ أَنَّهُ قال شَكَوْنَا إلَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَرَّ الرَّمْضَاءِ في جِبَاهِنَا وَأَكُفِّنَا فلم يُشْكِنَا فَدَلَّ أَنَّ السُّنَّةَ في التَّعْجِيلِ‏.‏

وَلَنَا ما رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال أَبْرِدُوا بِالظُّهْرِ فإن شِدَّةَ الْحَرِّ من فَيْحِ جَهَنَّمَ وَلِأَنَّ التَّعْجِيلَ في الصَّيْفِ لَا يَخْلُو عن أَحَدِ أَمْرَيْنِ إمَّا تَقْلِيلُ الْجَمَاعَةِ لِاشْتِغَالِ الناس بِالْقَيْلُولَةِ وَإِمَّا الْإِضْرَارُ بِهِمْ لِتَأَذِّيهِمْ بِالْحَرِّ وقد انْعَدَمَ هَذَانِ الْمَعْنَيَانِ في الشِّتَاءِ فَيُعْتَبَرُ فيه مَعْنَى الْمُسَارَعَةِ إلَى الْخَيْرِ وَرُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال لِمُعَاذٍ رضي اللَّهُ عنه حين وَجَّهَهُ إلَى الْيَمَنِ إذَا كان الصَّيْفُ فَأَبْرِدْ بِالظُّهْرِ فإن الناس يُقِيلُونَ فَأَمْهِلْهُمْ حتى يُدْرِكُوا وإذا كان الشِّتَاءُ فصل الظُّهْرَ حين تَزُولُ الشَّمْسُ فإن اللَّيَالِيَ طِوَالٌ وَتَأْوِيلُ حديث خَباب أَنَّهُمْ طَلَبُوا تَرْكَ الْجَمَاعَةِ أَصْلًا فلم يَشْكُهُمْ لِهَذَا على أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ فلم يُشْكِنَا أَيْ لم يَدَعْنَا في الشِّكَايَةِ بَلْ أَزَالَ شَكْوَانَا بِأَنْ أَبْرَدَ بها وَالله أعلم‏.‏ وَأَمَّا الْعَصْرُ َالْمُسْتَحَبُّ فيها هو التَّأْخِيرُ ما دَامَتْ الشَّمْسُ بَيْضَاءَ نَقِيَّةً لم يَدْخُلْهَا تَغْيِيرٌ في الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ جميعا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ التَّعْجِيلُ أَفْضَلُ لِمَا ذَكَرْنَا وَرُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أنها قالت كان رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ طَالِعَةٌ في حُجْرَتِي وَعَنْ أَنَسِ بن مَالِكٍ رضي اللَّهُ عنه كان رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الْعَصْرَ فَيَذْهَبُ الذَّاهِبُ إلَى الْعَوَالِي وَيَنْحَرُ الْجَزُورَ وَيَطْبُخُ الْقُدُورَ وَيَأْكُلُ قبل غُرُوبِ الشَّمْسِ‏.‏

وَلَنَا ما رُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ أَنَّهُ قال كان رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ بَيْضَاءُ نَقِيَّةٌ وَهَذَا منه بَيَانُ تَأْخِيرِهِ لِلْعَصْرِ وَقِيلَ سُمِّيَتْ الْعَصْرَ لِأَنَّهَا تُعْصَرُ أَيْ تُؤَخَّرُ وَلِأَنَّ في التَّأْخِيرِ تَكْثِيرُ النَّوَافِلِ لِأَنَّ النَّافِلَةَ بَعْدَهَا مَكْرُوهَةٌ فَكَانَ التَّأْخِيرُ أَفْضَلَ وَلِهَذَا كان التَّعْجِيلُ في الْمَغْرِبِ أَفْضَلَ لِأَنَّ النَّافِلَةَ قَبْلَهَا مَكْرُوهَةٌ وَلِأَنَّ الْمُكْثَ بَعْدَ الْعَصْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ قال النبي صلى الله عليه وسلم من صلى الْعَصْرَ ثُمَّ مَكَثَ في الْمَسْجِدِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ فَكَأَنَّمَا أَعْتَقَ ثَمَانِيًا من وَلَدِ إسْمَاعِيلَ وَإِنَّمَا يُتَمَكَّنُ من إحْرَازِ هذه الْفَضِيلَةِ بِالتَّأْخِيرِ لَا بِالتَّعْجِيلِ لِأَنَّهُ قَلَّمَا يَمْكُثُ وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها فَقَدْ كانت حِيطَانُ حُجْرَتِهَا قَصِيرَةً فَتَبْقَى الشَّمْسُ طَالِعَةً فيها إلَى أَنْ تَتَغَيَّرَ وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ رضي الله عنه فَقَدْ كان ذلك في وَقْتِ الصَّيْفِ وَمِثْلُهُ يَتَأَتَّى لِلْمُسْتَعْجِلِ إذ كان ذلك في وَقْتٍ مَخْصُوصٍ لِعُذْرٍ وَالله أعلم‏.‏وَأَمَّا الْمَغْرِبُ فَالْمُسْتَحَبُّ فيها التَّعْجِيلُ في الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ جميعا وَتَأْخِيرُهَا إلَى اشْتِبَاكِ النُّجُومِ مَكْرُوهٌ لِمَا رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال لَا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ ما عَجَّلُوا الْمَغْرِبَ وَأَخَّرُوا الْعِشَاءَ وَلِأَنَّ التَّعْجِيلَ سَبَبٌ لِتَكْثِيرِ الْجَمَاعَةِ وَالتَّأْخِيرَ سَبَبٌ لِتَقْلِيلِهَا لِأَنَّ الناس يَشْتَغِلُونَ بِالتَّعَشِّي وَالِاسْتِرَاحَةِ فَكَانَ التَّعْجِيلُ أَفْضَلَ‏.‏

وَكَذَا هو من باب الْمُسَارَعَةِ إلَى الْخَيْرِ فَكَانَ أَوْلَى وَأَمَّا الْعِشَاءُ فالمستحب ‏[‏المستحب‏]‏ فيها التَّأْخِيرُ إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ في الشِّتَاءِ وَيَجُوزُ التَّأْخِيرُ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ وَيُكْرَهُ التَّأْخِيرُ عن النِّصْفِ وَأَمَّا في الصَّيْفِ فَالتَّعْجِيلُ أَفْضَلُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الْمُسْتَحَبُّ تَعْجِيلُهَا بَعْدَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ لِمَا ذكرنا وَعَنْ النُّعْمَانِ بن بَشِيرٍ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يُصَلِّي الْعِشَاءَ حين يَسْقُطُ الْقَمَرُ في اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ وَذَلِكَ عِنْدَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ يَكُونُ‏.‏

وَلَنَا ما رُوِيَ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أَخَّرَ الْعِشَاءَ إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ ثُمَّ خَرَجَ فَوَجَدَ أَصْحَابَهُ في الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُونَهُ فقال أَمَا إنَّهُ لَا يَنْتَظِرُ هذه الصَّلَاةَ في هذا الْوَقْتِ أَحَدٌ غَيْرُكُمْ وَلَوْلَا سَقَمُ السَّقِيمِ وَضَعْفُ الضَّعِيفِ لَأَخَّرْتُ الْعِشَاءَ إلَى هذا الْوَقْتِ وفي حَدِيثٍ آخَرَ قال لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ على أُمَّتِي لَأَخَّرْتُ الْعِشَاءَ إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ‏.‏

وَرُوِيَ عن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ كَتَبَ إلَى أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنْ صَلِّ الْعِشَاءَ حين يَذْهَبُ ثُلُثُ اللَّيْلِ فَإِنْ أَبَيْتَ فَإِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ فَإِنْ نِمْتَ فَلَا نَامَتْ عَيْنَاكَ وفي رواية‏:‏ فَلَا تَكُنْ من الْغَافِلِينَ وَلِأَنَّ التَّأْخِيرَ عن النِّصْفِ الْأَخِيرِ تَعْرِيضٌ لها لِلْفَوَاتِ فَإِنْ من لم يَنَمْ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ ثُمَّ نَامَ فَغَلَبَهُ النَّوْمُ فَلَا يَسْتَيْقِظُ في الْمُعْتَادِ إلَى ما بَعْدَ انْفِجَارِ الصُّبْحِ وَتَعْرِيضُ الصَّلَاةِ لِلْفَوَاتِ مَكْرُوهٌ وَلِأَنَّهُ لو عَجَّلَ في الشِّتَاءِ رُبَّمَا يَقَعُ في السَّمَرِ بَعْدَ الْعِشَاءِ لِأَنَّ الناس لَا يَنَامُونَ إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ لِطُولِ اللَّيَالِي فَيَشْتَغِلُونَ بِالسَّمَرِ عَادَةً وَأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عنه وَلَأَنْ يَكُونَ اخْتِتَامُ صَحِيفَتِهِ بِالطَّاعَةِ أَوْلَى من أَنْ يَكُونَ بِالْمَعْصِيَةِ وَالتَّعْجِيلُ في الصَّيْفِ لَا يُؤَدِّي إلَى هذا الْقَبِيحِ لِأَنَّهُمْ يَنَامُونَ لِقِصَرِ اللَّيَالِي فَتُعْتَبَرُ فيه الْمُسَارَعَةُ إلَى الْخَيْرِ وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ على زَمَانِ الصَّيْفِ أو على حَالِ الْعُذْرِ‏.‏

وكان عِيسَى بن أَبَانَ يقول الْأَوْلَى تَعْجِيلُهَا لِلْآثَارِ وَلَكِنْ لَا يُكْرَهُ التَّأْخِيرُ مُطْلَقًا أَلَا تَرَى أَنَّ الْعُذْرَ لِمَرَضٍ وَلِسَفَرٍ يُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ لِلْجَمْعِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ فِعْلًا وَلَوْ كان الْمَذْهَبُ كَرَاهَةَ التَّأْخِيرِ مُطْلَقًا لَمَا أُبِيحَ ذلك بِعُذْرِ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ كما لَا يُبَاحُ تَأْخِيرُ الْعَصْرِ إلَى تَغَيُّرِ الشَّمْسِ هذا إذَا كانت السَّمَاءُ مُصْحِيَةً فَإِنْ كانت مُتَغَيِّمَةً فَالْمُسْتَحَبُّ في الْفَجْرِ وَالظُّهْرِ وَالْمَغْرِبِ هو التَّأْخِيرُ وفي الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ هو التَّعْجِيلُ‏.‏

وَإِنْ شِئْت أَنْ تَحْفَظَ هذا فَكُلُّ صَلَاةٍ في أَوَّلِ اسْمِهَا عَيْنٌ تُعَجَّلُ وما ليس في أَوَّلِ اسْمِهَا عَيْنٌ تُؤَخَّرُ أَمَّا التَّأْخِيرُ في الْفَجْرِ فَلِمَا ذَكَرْنَا وَلِأَنَّهُ لو غَلَّسَ بها فَرُبَّمَا تَقَعُ قبل انْفِجَارِ الصُّبْحِ وَكَذَا لو عَجَّلَ الظُّهْرَ فَرُبَّمَا يَقَعُ قبل الزَّوَالِ وَلَوْ عَجَّلَ الْمَغْرِبَ عَسَى يَقَعُ قبل الْغُرُوبِ وَلَا يُقَالُ لو أَخَّرَ رُبَّمَا يَقَعُ في وَقْتٍ مَكْرُوهٍ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ عِنْدَ التَّعَارُضِ لِلتَّأْخِيرِ لِيَخْرُجَ عن عُهْدَةِ الْفَرْضِ بِيَقِينٍ وَأَمَّا تَعْجِيلُ الْعَصْرِ عن وَقْتِهَا الْمُعْتَادِ فَلِئَلَّا يَقَعَ في وَقْتٍ مَكْرُوهٍ وهو وَقْتُ تَغَيُّرِ الشَّمْسِ وَلَيْسَ فيه وَهْمُ الْوُقُوعِ قبل الْوَقْتِ لِأَنَّ الظُّهْرَ قد أُخِّرَ في هذا الْيَوْمِ وَتُعَجَّلُ الْعِشَاءُ كيلا تَقَعَ بَعْدَ انْتِصَافِ اللَّيْلِ وَلَيْسَ في التَّعْجِيلِ تَوَهُّمُ الْوُقُوعِ قبل الْوَقْتِ لِأَنَّ الْمَغْرِبَ قد أُخِّرَ في هذا الْيَوْمِ وَالله أعلم‏.‏

وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّ التَّأْخِيرَ في الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا أَفْضَلُ في جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ وهو اخْتِيَارُ الْفَقِيهِ الْجَلِيلِ أبي أَحْمَدَ الْعِيَاضِيِّ وَعَلَّلَ وقال إنَّ في التَّأْخِيرِ تَرَدُّدًا بين وَجْهَيْ الْجَوَازِ إمَّا الْقَضَاءُ وَإِمَّا الْأَدَاءُ وفي التَّعْجِيلِ ترددا ‏[‏تردد‏]‏ بين وَجْهَيْ الْجَوَازِ وَالْفَسَادِ فَكَانَ التَّأْخِيرُ أَوْلَى وَالله الموفق‏.‏ وَعَلَى هذا الْأَصْلِ قال أَصْحَابُنَا إنَّهُ لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بين فَرْضَيْنِ في وَقْتِ أَحَدِهِمَا إلَّا بِعَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ فَيُجْمَعُ بين الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ في وَقْتِ الظُّهْرِ بِعَرَفَةَ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ في وَقْتِ الْعِشَاءِ بِمُزْدَلِفَةَ اتَّفَقَ عليه رُوَاةُ نُسُكِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ فَعَلَهُ وَلَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بِعُذْرِ السَّفَرِ وَالْمَطَرِ وقال الشَّافِعِيُّ يُجْمَعُ بين الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ في وَقْتِ الْعَصْرِ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ في وَقْتِ الْعِشَاءِ بِعُذْرِ السَّفَرِ وَالْمَطَرِ وَاحْتُجَّ بِمَا رَوَى ابن عَبَّاسٍ وابن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهم أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يَجْمَعُ بِعَرَفَةَ بين الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَبِمُزْدَلِفَةَ بين الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى ذلك في السَّفَرِ كيلا يَنْقَطِعَ بِهِ السَّيْرُ وفي الْمَطَرِ كَيْ تَكْثُرَ الْجَمَاعَةُ إذْ لو رَجَعُوا إلَى مَنَازِلِهِمْ لَا يُمْكِنُهُمْ الرُّجُوعُ فَيَجُوزُ الْجَمْعُ بهذا كما يَجُوزُ الْجَمْعُ بِعَرَفَةَ بين الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَبِمُزْدَلِفَةَ بين الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَلَنَا أَنَّ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ عن وَقْتِهَا من الْكَبَائِرِ فَلَا يُبَاحُ بِعُذْرِ السَّفَرِ وَالْمَطَرِ كَسَائِرِ الْكَبَائِرِ وَالدَّلِيلُ على أَنَّهُ من الْكَبَائِرِ ما رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال من جَمَعَ بين صَلَاتَيْنِ في وَقْتٍ وَاحِدٍ فَقَدْ أتى بابا من الْكَبَائِرِ‏.‏

وَعَنْ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال الْجَمْعُ بين الصَّلَاتَيْنِ من الْكَبَائِرِ وَلِأَنَّ هذه الصَّلَوَاتِ عُرِفَتْ مُؤَقَّتَةً بِأَوْقَاتِهَا بِالدَّلَائِلِ الْمَقْطُوعِ بها من الْكتاب وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَالْإِجْمَاعِ فَلَا يَجُوزُ تَغْيِيرُهَا عن أَوْقَاتِهَا بِضَرْبٍ من الِاسْتِدْلَالِ أو بِخَبَرِ الْوَاحِدِ مع أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ فَاسِدٌ لِأَنَّ السَّفَرَ وَالْمَطَرَ لَا أَثَرَ لَهُمَا في إبَاحَةِ تَفْوِيتِ الصَّلَاةِ عن وَقْتِهَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بين الْفَجْرِ وَالظُّهْرِ مع ما ذَكَرْتُمْ من الْعُذْرِ وَالْجَمْعُ بِعَرَفَةَ ما كان لِتَعَذُّرِ الْجَمْعِ بين الْوُقُوفِ وَالصَّلَاةِ لِأَنَّ الصَّلَاةَ لَا تُضَادُّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ بَلْ ثَبَتَ غير مَعْقُولِ الْمَعْنَى بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ وَالتَّوَاتُرِ عن النبي صلى الله عليه وسلم فصلحَ مُعَارِضًا لِلدَّلِيلِ الْمَقْطُوعِ بِهِ وَكَذَا الْجَمْعُ بِمُزْدَلِفَةَ غَيْرُ مَعْلُولٍ بِالسَّيْرِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُفِيدُ إبَاحَةَ الْجَمْعِ بين الْفَجْرِ وَالظُّهْرِ‏.‏

وما رُوِيَ من الحديث في خَبَرِ الْآحَادِ فَلَا يُقْبَلُ في مُعَارَضَةِ الدَّلِيلِ الْمَقْطُوعِ بِهِ مع أَنَّهُ غَرِيبٌ وَرَدَ في حَادِثَةٍ تَعُمُّ بها الْبَلْوَى وَمِثْلُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ عِنْدَنَا ثُمَّ هو مُؤَوَّلٌ وَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِعْلًا لَا وَقْتًا بِأَنْ أَخَّرَ الْأُولَى مِنْهُمَا إلَى آخِرِ الْوَقْتِ ثُمَّ أَدَّى الْأُخْرَى في أَوَّلِ الْوَقْتِ وَلَا وَاسِطَةَ بين الْوَقْتَيْنِ فَوَقَعَتَا مُجْتَمِعَتَيْنِ فِعْلًا كَذَا فَعَلَ ابن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما في سَفَرٍ وقال هَكَذَا كان يَفْعَلُ بِنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَلَّ عليه ما رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم جَمَعَ من غَيْرِ مَطَرٍ وَلَا سَفَرٍ‏.‏

وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إلَّا فِعْلًا وَعَنْ عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِعْلًا ثُمَّ قال هَكَذَا فَعَلَ بِنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهَكَذَا رُوِيَ عن أَنَسِ بن مَالِكٍ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِعْلًا ثُمَّ قال هَكَذَا فَعَلَ بِنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَمَّا الْوَقْتُ الْمَكْرُوهُ لِبَعْضِ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ فَهُوَ وَقْتُ تَغَيُّرِ الشَّمْسِ لِلْمَغِيبِ لِأَدَاءِ صَلَاةِ الْعَصْرِ يُكْرَهُ أَدَاؤُهَا عِنْدَهُ لِلنَّهْيِ عن عُمُومِ الصَّلَوَاتِ في الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ منها إذَا تَضَيَّفَتْ الشَّمْسُ لِلْمَغِيبِ على ما يُذْكَرُ وقد وَرَدَ وَعِيدٌ خَاصٌّ في أَدَاءِ صَلَاةِ الْعَصْرِ في هذا الْوَقْتِ وهو ما رُوِيَ عن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال يَجْلِسُ أحدكم حتى إذَا كانت الشَّمْسُ بين قَرْنَيْ شَيْطَانٍ قام فَنَقَرَ أَرْبَعًا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فيها إلَّا قَلِيلًا تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِينَ قَالَهَا ثَلَاثًا لَكِنْ يَجُوزُ أَدَاؤُهَا مع الْكَرَاهَةِ حتى يَسْقُطَ الْفَرْضُ عن ذِمَّتِهِ وَلَا يُتَصَوَّرُ أَدَاءُ الْفَرْضِ وَقْتَ الِاسْتِوَاءِ قبل الزَّوَالِ لِأَنَّهُ لَا فَرْضَ قَبْلَهُ وَكَذَا لَا يُتَصَوَّرُ أَدَاءُ الْفَجْرِ مع طُلُوعِ الشَّمْسِ عِنْدَنَا حتى لو طَلَعَتْ الشَّمْسُ وهو في خِلَالِ الصَّلَاةِ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تَفْسُدُ وَيَقُولُ أن النَّهْيَ عن النَّوَافِلِ لَا عن الْفَرَائِضِ بِدَلِيلِ أَنَّ عَصْرَ يَوْمِهِ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ وَنَحْنُ نَقُولُ النَّهْيُ عَامٌّ بِصِيغَتِهِ وَمَعْنَاهُ أَيْضًا لِمَا يُذْكَرُ في قَضَاءِ الْفَرَائِضِ في هذه الْأَوْقَاتِ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّ الْفَجْرَ لَا تَفْسُدُ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ لَكِنَّهُ يَصْبِرُ حتى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ فَيُتِمَّ صَلَاتَهُ لِأَنَّا لو قُلْنَا كَذَلِكَ لَكَانَ مُؤَدِّيًا بَعْضَ الصَّلَاةِ في الْوَقْتِ وَلَوْ أَفْسَدْنَا لَوَقَعَ الْكُلُّ خَارِجَ الْوَقْتِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَوَّلَ أَوْلَى وَالله أعلم‏.‏

وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُؤَدِّي الْعَصْرَ إذَا غَرَبَتْ عليه الشَّمْسُ وهو في خِلَالِ الصَّلَاةِ قد ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ وَمِنْهَا النِّيَّةُ وأنها شَرْطُ صِحَّةِ الشُّرُوعِ في الصَّلَاةِ لِأَنَّ الصَّلَاةَ عِبَادَةٌ وَالْعِبَادَةُ إخْلَاصُ الْعَمَلِ بِكُلِّيَّتِهِ لِلَّهِ تَعَالَى قال اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وما أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ له الدِّينَ‏}‏ وَالْإِخْلَاصُ لَا يَحْصُلُ بِدُونِ النِّيَّةِ وقال النبي صلى الله عليه وسلم لَا عَمَلَ لِمَنْ لَا نِيَّةَ له وقال الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ إمرىء ما نَوَى وَالْكَلَامُ في النِّيَّةِ في ثَلَاثِ مَوَاضِعَ أَحَدُهَا في تَفْسِيرِ النِّيَّةِ وَالثَّانِي في كَيْفِيَّةِ النِّيَّةِ وَالثَّالِثُ في وَقْتِ النِّيَّةِ

أَمَّا الْأَوَّلُ فَالنِّيَّةُ هِيَ الْإِرَادَةُ فَنِيَّةُ الصَّلَاةِ هِيَ إرَادَةُ الصَّلَاةِ لِلَّهِ تَعَالَى على الْخُلُوصِ وَالْإِرَادَةُ عَمَلُ الْقَلْبِ وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ النِّيَّةِ فَالْمُصَلِّي لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مُنْفَرِدًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ إمَامًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُقْتَدِيًا فَإِنْ كان مُنْفَرِدًا إنْ كان يُصَلِّي التَّطَوُّعَ تَكْفِيهِ نِيَّةُ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ ليس لِصَلَاةِ التَّطَوُّعِ صِفَةٌ زَائِدَةٌ على أَصْلِ الصَّلَاةِ لِيَحْتَاجَ إلَى أَنْ يَنْوِيهَا فَكَانَ شَرْطُ النِّيَّةِ فيها لِتَصِيرَ لِلَّهِ تَعَالَى وإنها تَصِيرُ لِلَّهِ تَعَالَى بِنِيَّةِ مُطْلَقِ الصَّلَاةِ وَلِهَذَا يَتَأَدَّى صَوْمُ النَّفْلِ خَارِجَ رَمَضَانَ بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ وَإِنْ كان يُصَلِّي الْفَرْضَ لَا يَكْفِيهِ نِيَّةُ مُطْلَقِ الصَّلَاةِ لِأَنَّ الْفَرْضِيَّةَ صِفَةٌ زَائِدَةٌ على أَصْلِ الصَّلَاةِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَنْوِيَهَا فَيَنْوِيَ فَرْضَ الْوَقْتِ أو ظُهْرَ الْوَقْتِ أو نحو ذلك وَلَا تَكْفِيهِ نِيَّةُ مُطْلَقِ الْفَرْضِ لِأَنَّ غَيْرَهَا من الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ مَشْرُوعَةٌ في الْوَقْتِ فَلَا بُدَّ من التَّعْيِينِ وقال بَعْضُهُمْ تَكْفِيهِ نِيَّةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ لِأَنَّ ظُهْرَ الْوَقْتِ هو الْمَشْرُوعُ الْأَصْلِيُّ فيه وَغَيْرَهُ عَارِضٌ فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إلَى ما هو الْأَصْلُ كَمُطْلَقِ اسْمِ الدِّرْهَمِ أَنَّهُ يَنْصَرِفُ إلَى نَقْدِ الْبَلَدِ وَالْأَوَّلُ أَحْوَطُ وَحُكِيَ عن الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَحْتَاجُ مع نِيَّةِ ظُهْرِ الْوَقْتِ إلَى نِيَّةِ الْفَرْضِ وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّهُ إذَا نَوَى الظُّهْرَ فَقَدْ نَوَى الْفَرْضَ إذْ الظُّهْرُ لَا يَكُونُ إلَّا فَرْضًا وَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَنْوِيَ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ وَصَلَاةَ الْعِيدَيْنِ وَصَلَاةَ الْجِنَازَةِ وَصَلَاةَ الْوِتْرِ لِأَنَّ التَّعْيِينَ يَحْصُلُ بهذا وَإِنْ كان إمَامًا فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ لِأَنَّهُ مُنْفَرِدٌ فَيَنْوِي ما يَنْوِي الْمُنْفَرِدُ وَهَلْ يُحْتَاجُ إلَى نِيَّةِ الْإِمَامَةِ أَمَّا نِيَّةُ إمَامَةِ الرِّجَالِ فَلَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا وَيَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُمْ بِهِ بِدُونِ نِيَّةِ إمَامَتِهِمْ وَأَمَّا نِيَّةُ إمَامَةِ النِّسَاءِ فَشَرْطٌ لِصِحَّةِ اقْتِدَائِهِنَّ بِهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ ليس بِشَرْطٍ حتى لو لم يَنْوِ لم يَصِحَّ اقْتِدَاؤُهُنَّ بِهِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ وهو قَاسَ إمَامَةَ النِّسَاءِ بِإِمَامَةِ الرِّجَالِ وَهُنَاكَ النِّيَّةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ كَذَا هذا وَهَذَا الْقِيَاسُ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الْمَعْنَى يُوجِبُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا وهو أَنَّهُ لو صَحَّ اقْتِدَاءُ الْمَرْأَةِ بِالرَّجُلِ فَرُبَّمَا تُحَاذِيهِ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ فَيَلْحَقُهُ الضَّرَرُ من غَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَشَرْطُ نِيَّةَ اقْتِدَائِهَا بِهِ حتى لَا يَلْزَمَهُ الضَّرَرُ من غَيْرِ الْتِزَامِهِ وَرِضَاهُ وَهَذَا الْمَعْنَى مُنْعَدِمٌ في جَانِبِ الرِّجَالِ وَلِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَدَاءِ الصَّلَاةِ فَلَا بُدَّ من أَنْ يَكُونَ مُتَمَكِّنًا من صِيَانَتِهَا عن النَّوَاقِضِ وَلَوْ صَحَّ اقْتِدَاؤُهَا بِهِ من غَيْرِ نِيَّةٍ لم يَتَمَكَّنْ من الصِّيَانَةِ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَأْتِي فَتَقْتَدِي بِهِ ثُمَّ تُحَاذِيهِ فَتُفْسِدُ صَلَاتَهُ وَأَمَّا في الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ فَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا قالوا إنَّ نِيَّةَ إمَامَتِهِنَّ شَرْطٌ فِيهِمَا وَمِنْهُمْ من قال لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِأَنَّهَا لو شُرِطَتْ لَلَحِقَهَا الضَّرَرُ لِأَنَّهَا لَا تَقْدِرُ على أَدَاءِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَحْدَهَا وَلَا تَجِدُ إمَامًا آخَرَ تَقْتَدِي بِهِ وَالظَّاهِرُ أنها لَا تَتَمَكَّنُ من الْوُقُوفِ بِجَنْبِ الْإِمَامِ في هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ لِازْدِحَامِ الناس فَصَحَّ اقْتِدَاؤُهَا لِدَفْعِ الضَّرَرِ عنها بِخِلَافِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ وَإِنْ كان مُقْتَدِيًا فإنه يَحْتَاجُ إلَى ما يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُنْفَرِدُ وَيَحْتَاجُ لِزِيَادَةِ نِيَّةِ الِاقْتِدَاءِ بِالْإِمَامِ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَلْحَقُهُ الضَّرَرُ بِالِاقْتِدَاءِ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ بِفَسَادِ صَلَاةِ الْإِمَامِ فَشَرَطَ نِيَّةَ الِاقْتِدَاءِ حتى يَكُونَ لُزُومُ الضَّرَرِ مُضَافًا إلَى الْتِزَامِهِ ثُمَّ تَفْسِيرُ نِيَّةِ الِاقْتِدَاءِ بِالْإِمَامِ هو أَنْ يَنْوِيَ فَرْضَ الْوَقْتِ وَالِاقْتِدَاءَ بِالْإِمَامِ فيه أو يَنْوِيَ الشُّرُوعَ في صَلَاةِ الْإِمَامِ أو يَنْوِيَ الِاقْتِدَاءَ بِالْإِمَامِ في صَلَاتِهِ وَلَوْ نَوَى الِاقْتِدَاءَ بِالْإِمَامِ ولم يُعَيِّنْ صَلَاةَ الْإِمَامِ وَلَا نَوَى فَرْضَ الْوَقْتِ هل يُجْزِيهِ عن الْفَرْضِ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه قال بَعْضُهُمْ لَا يُجْزِيهِ لِأَنَّ اقْتِدَاءَهُ بِهِ يَصِحُّ في الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ جميعا فَلَا بُدَّ من التَّعْيِينِ مع أَنَّ النَّفَلَ أَدْنَاهُمَا فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إلَى الْأَدْنَى ما لم يُعَيِّنْ الْأَعْلَى وقال بَعْضُهُمْ يُجْزِيهِ لِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ عِبَارَةٌ عن الْمُتَابَعَةِ وَالشَّرِكَةِ فَيَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ وَلَا مُسَاوَاةَ إلَّا إذَا كانت صَلَاتُهُ مِثْلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إلَى الْفَرْضِ إلَّا إذَا نَوَى الِاقْتِدَاءَ بِهِ في النَّفْلِ وَلَوْ نَوَى صَلَاةَ الْإِمَامِ ولم يَنْوِ الِاقْتِدَاءَ بِهِ لم يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ بِهِ لِأَنَّهُ نَوَى أَنْ يُصَلِّيَ مِثْلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَذَلِكَ قد يَكُونُ بِطَرِيقِ الِانْفِرَادِ وقد يَكُونُ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ لِلْإِمَامِ فَلَا تَتَعَيَّنُ جِهَةُ التَّبَعِيَّةِ بِدُونِ النِّيَّةِ من مَشَايِخِنَا من قال إذَا انْتَظَرَ تَكْبِيرَ الْإِمَامِ ثُمَّ كَبَّرَ بَعْدَهُ كَفَاهُ عن نِيَّةِ الِاقْتِدَاءِ لِأَنَّ انْتِظَارَهُ تَكْبِيرَةَ الْإِمَامِ قَصَدَ منه الِاقْتِدَاءَ بِهِ وهو تَفْسِيرُ النِّيَّةِ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الِانْتِظَارَ مُتَرَدِّدٌ قد يَكُونُ لِقَصْدِ الِاقْتِدَاءِ وقد يَكُونُ بِحُكْمِ الْعَادَةِ فَلَا يَصِيرُ مُقْتَدِيًا بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ‏.‏

وَلَوْ اقْتَدَى بِإِمَامٍ يَنْوِي صَلَاتَهُ ولم يَدْرِ أنها الظُّهْرُ أو الْجُمُعَةُ أَجْزَأَهُ أَيَّهُمَا كان لِأَنَّهُ بَنَى صَلَاتَهُ على صَلَاةِ الْإِمَامِ وَذَلِكَ مَعْلُومٌ عِنْدَ الْإِمَامِ وَالْعِلْمُ في حَقِّ الْأَصْلِ يُغْنِي عن الْعِلْمِ في حَقِّ التَّبَعِ وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا وَأَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ رضي اللَّهُ عنهما قَدِمَا من الْيَمَنِ على رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ فقال بِمَ أَهْلَلْتُمَا فَقَالَا بِإِهْلَالٍ كَإِهْلَالِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَوَّزَ ذلك لَهُمَا وَإِنْ لم يَكُنْ مَعْلُومًا وَقْتَ الْإِهْلَالِ فَإِنْ لم يَنْوِ صَلَاةَ الْإِمَامِ وَلَكِنَّهُ نَوَى الظُّهْرَ وَالِاقْتِدَاءَ فإذا هِيَ جُمُعَةٌ فصلاتُهُ فَاسِدَةٌ لِأَنَّهُ نَوَى غير صَلَاةِ الْإِمَامِ وَتَغَايُرُ الْفَرْضَيْنِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ على ما نَذْكُرُ وَلَوْ نَوَى صَلَاةَ الْإِمَامِ وَالْجُمُعَةِ فإذا هِيَ الظُّهْرُ جَازَتْ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ لَمَّا نَوَى صَلَاةَ الْإِمَامِ فَقَدْ تَحَقَّقَ الْبِنَاءُ فَلَا يُعْتَبَرُ ما زَادَ عليه بَعْدَ ذلك كَمَنْ نَوَى الِاقْتِدَاءَ بهذا الْإِمَامِ وَعِنْدَهُ أَنَّهُ زَيْدٌ فإذا هو عَمْرٌو كان اقْتِدَاؤُهُ صَحِيحًا بِخِلَافِ ما إذَا نَوَى الِاقْتِدَاءَ بِزَيْدٍ وَالْإِمَامُ عَمْرٌو ثُمَّ الْمُقْتَدِي إذَا وَجَدَ الْإِمَامَ في حَالِ الْقِيَامِ يُكَبِّرُ لِلِافْتِتَاحِ قَائِمًا ثُمَّ يُتَابِعُهُ في الْقِيَامِ وَيَأْتِي بِالثَّنَاءِ وَإِنْ وَجَدَهُ في الرُّكُوعِ يُكَبِّرُ لِلِافْتِتَاحِ قَائِمًا ثُمَّ يُكَبِّرُ أُخْرَى مع الِانْحِطَاطِ لِلرُّكُوعِ وَيُتَابِعُهُ في الرُّكُوعِ وَيَأْتِي بِتَسْبِيحَاتِ الرُّكُوعِ وَإِنْ وَجَدَهُ في الْقَوْمَةِ التي بين الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أو في الْقَعْدَةِ التي بَيْن السَّجْدَتَيْنِ يُتَابِعُهُ في ذلك وَيَسْكُتُ وَلَا خِلَافَ في أَنَّ الْمَسْبُوقَ يُتَابِعُ الْإِمَامَ في مِقْدَارِ التَّشَهُّدِ إلَى قَوْلِهِ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَهَلْ يُتَابِعُهُ في الزِّيَادَةِ عليه ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّهُ لَا يُتَابِعُهُ عليه لِأَنَّ الدُّعَاءَ مُؤَخَّرٌ إلَى الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ وَهَذِهِ قَعْدَةٌ أُولَى في حَقِّهِ وَرَوَى إبْرَاهِيمُ بن رُسْتُمَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قال يَدْعُوَ بِالدَّعَوَاتِ التي في الْقُرْآنِ وَرَوَى هِشَامٌ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَدْعُو بِالدَّعَوَاتِ التي في الْقُرْآنِ وَيُصَلِّي على النبي صلى الله عليه وسلم وقال بَعْضُهُمْ يَسْكُتُ وَعَنْ هِشَامٍ من ذَاتِ نَفْسِهِ وَمُحَمَّدِ بن شُجَاعٍ الْبَلْخِيّ أَنَّهُ يُكَرِّرُ التَّشَهُّدَ إلَى أَنْ يُسَلِّمَ الْإِمَامُ لِأَنَّ هذه قَعْدَةٌ أُولَى في حَقِّهِ وَالزِّيَادَةَ على التَّشَهُّدِ في الْقَعْدَةِ الْأُولَى غَيْرُ مَسْنُونَةٍ وَلَا مَعْنَى لِلسُّكُوتِ في الصَّلَاةِ إلَّا الِاسْتِمَاعُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُكَرِّرَ التَّشَهُّدَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى وَأَمَّا بَيَانُ وَقْتِ النِّيَّةِ فَقَدْ ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ إنه يُكَبِّرُ تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ مُخَالِطًا لِنِيَّتِهِ إيَّاهَا أَيْ مُقَارِنًا أَشَارَ إلَى أَنَّ وَقْتَ النِّيَّةِ وَقْتُ التَّكْبِيرِ وهو عِنْدَنَا مَحْمُولٌ على النَّدْبِ وَالِاسْتِحْباب دُونَ الْحَتْمِ وَالْإِيجَابِ فإن تَقْدِيمَ النِّيَّةِ على التَّحْرِيمَةِ جَائِزٌ عِنْدَنَا إذَا لم يُوجَد بَيْنَهُمَا عَمَلٌ يَقْطَعُ أَحَدَهُمَا عن الْآخَرِ وَالْقِرَانُ ليس بِشَرْطٍ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الْقِرَانُ شَرْطٌ‏.‏

وَجْهُ قَوْلِهِ إن الْحَاجَةَ إلَى النِّيَّةِ لِتَحْقِيقِ مَعْنَى الْإِخْلَاصِ وَذَلِكَ عِنْدَ الشُّرُوعِ لَا قَبْلَهُ فَكَانَتْ النِّيَّةُ قبل التَّكْبِيرِ هَدْرًا وَهَذَا هو الْقِيَاسُ في باب الصَّوْمِ إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ الْقِرَانُ هُنَاكَ لِمَكَانِ الْحَرَجِ لِأَنَّ وَقْتَ الشُّرُوعِ في الصَّوْمِ وَقْتُ غَفْلَةٍ وَنَوْمٍ وَلَا حَرَجَ في باب الصَّلَاةِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ وَلَنَا قَوْلُ النبي صلى الله عليه وسلم الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ مُطْلَقًا عن شَرْطِ القرآن وَقَوْلُهُ لِكُلِّ امرىء ما نَوَى مُطْلَقًا أَيْضًا وَعِنْدَهُ لو تَقَدَّمَتْ النِّيَّةُ لَا يَكُونُ له ما نَوَى وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ وَلِأَنَّ شَرْطَ الْقِرَانِ لَا يَخْلُو عن الْحَرَجِ فَلَا يُشْتَرَطُ كما في باب الصَّوْمِ فإذا قَدَّمَ النِّيَّةَ ولم يَشْتَغِلْ بِعَمَلٍ يَقْطَعُ نِيَّتَهُ يُجْزِئُهُ كَذَا رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فإن مُحَمَّدًا ذَكَرَ في كتاب الْمَنَاسِكِ أَنَّ من خَرَجَ من بَيْتِهِ يُرِيدُ الْحَجَّ فَأَحْرَمَ ولم تَحْضُرْهُ نِيَّةُ الْحَجِّ عِنْدَ الْإِحْرَامِ يُجْزِئُهُ وَذُكِرَ في كتاب التَّحَرِّي أَنَّ من أَخْرَجَ زَكَاةَ مَالِهِ يُرِيدُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ على الْفُقَرَاءِ فَدَفَعَ ولم تَحْضُرْهُ نِيَّةٌ عِنْدَ الدَّفْعِ أَجْزَأَهُ وَذَكَرَ محمد بن شُجَاعٍ الْبَلْخِيّ في نَوَادِرِهِ عن مُحَمَّدٍ في رَجُلٍ تَوَضَّأَ يُرِيدُ الصَّلَاةَ فلم يَشْتَغِلْ بِعَمَلٍ آخَرَ وَشَرَعَ في الصَّلَاةِ جَازَتْ صَلَاتُهُ وَإِنْ عَرِيَتْهُ النِّيَّةُ وَقْتَ الشُّرُوعِ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ فِيمَنْ خَرَجَ من مَنْزِلِهِ يُرِيدُ الْفَرْضَ في الْجَمَاعَةِ فلما انْتَهَى إلَى الْإِمَامِ كَبَّرَ ولم تَحْضُرهُ النِّيَّةُ في تِلْكَ السَّاعَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ‏.‏

قال الْكَرْخِيُّ وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا من أَصْحَابِنَا خَالَفَ أَبَا يُوسُفَ في ذلك وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا عَزَمَ على تَحْقِيقِ ما نَوَى فَهُوَ على عَزْمِهِ وَنِيَّتِهِ إلَى أَنْ يُوجَدَ الْقَاطِعُ ولم يُوجَدْ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ مَعْنَى الْإِخْلَاصِ يَحْصُلُ بِنِيَّةٍ مُتَقَدِّمَةٍ لِأَنَّهَا مَوْجُودَةٌ وَقْتَ الشُّرُوعِ تَقْدِيرًا على ما مَرَّ وَعَنْ مُحَمَّدِ بن سَلَمَةَ أَنَّهُ إذَا كان بِحَالٍ لو سُئِلَ عِنْدَ الشُّرُوعِ أَيُّ صَلَاةٍ تُصَلِّي يُمْكِنُهُ الْجَوَابُ على الْبَدِيهَةِ من غَيْرِ تَأَمُّلٍ يُجْزِئُهُ وَإِلَّا فَلَا‏.‏

وَإِنْ نَوَى بَعْدَ التَّكْبِيرِ لَا يَجُوزُ إلَّا ما رَوَى الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ إذَا نَوَى وَقْتَ الثَّنَاءِ يَجُوزُ لِأَنَّ الثَّنَاءَ من تَوَابِعِ التَّكْبِيرِ وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَنَّ سُقُوطَ الْقِرَانِ لِمَكَانِ الْحَرَجِ وَالْحَرَجُ يَنْدَفِعُ بِتَقْدِيمِ النِّيَّةِ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى التَّأْخِيرِ وَلَوْ نَوَى بَعْدَ قَوْلِهِ اللَّهُ قبل قَوْلِهِ أَكْبَرُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الشُّرُوعَ يَصِحُّ بقول ‏[‏بقوله‏]‏ اللَّهُ لِمَا يُذْكَرُ فَكَأَنَّهُ نَوَى بَعْدَ التَّكْبِيرِ وَأَمَّا نِيَّةُ الْكَعْبَةِ فَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أنها شَرْطٌ لِأَنَّ التَّوَجُّهَ إلَى الْكَعْبَةِ هو الْوَاجِبُ في الْأَصْلِ وقد عَجَزَ عنه بِالْبُعْدِ فَيَنْوِيهَا بِقَلْبِهِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ ليس بِشَرْطٍ لِأَنَّ قِبْلَتَهُ حَالَةَ الْبُعْدِ جِهَةُ الْكَعْبَةِ وَهِيَ المحرايب ‏[‏المحاريب‏]‏ لَا عَيْنُ الْكَعْبَةِ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ فَلَا حَاجَةَ إلَى النِّيَّةِ وقال بَعْضُهُمْ إنْ أتى بِهِ فَحَسَنٌ وَإِنْ تَرَكَهُ لَا يَضُرُّهُ وَإِنْ نَوَى مَقَامَ إبْرَاهِيمَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أو الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ولم يَنْوِ الْكَعْبَةَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ ليس من الْكَعْبَةِ وَعَنْ الْفَقِيهِ الْجَلِيلِ أبي أَحْمَدَ الْعِيَاضِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ نَوَى مَقَامَ إبْرَاهِيمَ عليه السَّلَامُ فقال إنْ كان هذا الرَّجُلُ لم يَأْتِ مَكَّةَ أَجْزَأَهُ لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ الْبَيْتَ وَالْمَقَامَ وَاحِدٌ وَإِنْ كان قد أتى مَكَّةَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ عَرَفَ أَنَّ الْمَقَامَ غَيْرُ الْبَيْتِ وَمِنْهَا التَّحْرِيمَةُ وَهِيَ تَكْبِيرَةُ الِافْتِتَاحِ وَإِنَّهَا شَرْطُ صِحَّةِ الشُّرُوعِ في الصَّلَاةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وقال ابن عُلَيَّةَ وأبو بَكْرٍ الْأَصَمُّ أنها لَيْسَتْ بِشَرْطٍ وَيَصِحُّ الشُّرُوعُ في الصَّلَاةِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ من غَيْرِ تَكْبِيرٍ فَزَعَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ أَفْعَالٌ وَلَيْسَتْ بِأَذْكَارٍ حتى أَنْكَرَ افْتِرَاضَ الْقِرَاءَةِ في الصَّلَاةِ على ما ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ‏.‏

وَلَنَا قَوْلُ النبي صلى الله عليه وسلم لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ امرىء حتى يَضَعَ الطَّهُورَ مَوَاضِعَهُ وَيَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ وَيَقُولَ اللَّهُ أَكْبَرُ نَفَى قَبُولَ الصَّلَاةِ بِدُونِ الكبير ‏[‏التكبير‏]‏ فَدَلَّ على كَوْنِهِ شَرْطًا لَكِنْ إنَّمَا يُؤْخَذُ هذا الشَّرْطُ على الْقَادِرِ دون الْعَاجِزِ فَلِذَلِكَ جَازَتْ صَلَاةُ الْأَخْرَسِ وَلِأَنَّ الْأَفْعَالَ أَكْثَرُ من الْأَذْكَارِ فَالْقَادِرُ على الْأَفْعَالِ يَكُونُ قَادِرًا على الْأَكْثَرِ وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ فَكَأَنَّهُ قَدَرَ على الْأَذْكَارِ تَقْدِيرًا ثُمَّ لَا بُدَّ من بَيَانِ صِفَةِ الذِّكْرِ الذي يَصِيرُ بِهِ شَارِعًا في الصَّلَاةِ وقد اُخْتُلِفَ فيه فقال أبو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ يَصِحُّ الشُّرُوعُ في الصَّلَاةِ بِكُلِّ ذِكْرٍ هو ثَنَاءٌ خَالِصٌ لِلَّهِ تَعَالَى يُرَادُ بِهِ تَعْظِيمُهُ لَا غَيْرُ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ الْأَكْبَرُ اللَّهُ الْكَبِيرُ اللَّهُ أَجَلُّ اللَّهُ أَعْظَمُ أو يَقُولَ الْحَمْدُ لِلَّهِ أو سُبْحَانَ اللَّهِ أو لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَكَذَلِكَ كُلُّ اسْمٍ ذُكِرَ مع الصِّفَةِ نحو أَنْ يَقُولَ الرَّحْمَنُ أَعْظَمُ الرَّحِيمُ أَجَلُّ سَوَاءٌ كان يُحْسِنُ التَّكْبِيرَ أو لَا يُحْسِنُ وهو قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ‏.‏

وقال أبو يُوسُفَ لَا يَصِيرُ شَارِعًا إلَّا بِأَلْفَاظٍ مُشْتَقَّةٍ من التَّكْبِيرِ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ الْأَكْبَرُ اللَّهُ الْكَبِيرُ إلَّا إذَا كان لَا يُحْسِنُ التَّكْبِيرَ أو لَا يَعْلَمُ أَنَّ الشُّرُوعَ بِالتَّكْبِيرِ وقال الشَّافِعِيُّ لَا يَصِيرُ شَارِعًا إلَّا بِلَفْظَيْنِ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ الْأَكْبَرُ وقال مَالِكٌ لَا يَصِيرُ شَارِعًا إلَّا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ وهو اللَّهُ أَكْبَرُ وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَيْنَا من الحديث وهو قَوْلُهُ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ امرىء حتى يَضَعَ الطَّهُورَ مَوَاضِعَهُ وَيَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ وَيَقُولَ اللَّهُ أَكْبَرُ نَفَى الْقَبُولَ بِدُونِ هذه اللَّفْظَةِ فَيَجِبُ مُرَاعَاةُ عَيْنِ ما وَرَدَ بِهِ النَّصُّ دُونَ التَّعْلِيلِ إذْ التَّعْلِيلُ لِلتَّعْدِيَةِ لَا لِإِبْطَالِ حُكْمِ النَّصِّ كما في الْأَذَانِ وَلِهَذَا لَا يُقَامُ السُّجُودُ على الْخَدِّ وَالذَّقَنِ مَقَامَ السُّجُودِ على الْجَبْهَةِ وَبِهَذَا يَحْتَجُّ الشَّافِعِيُّ إلَّا أَنَّهُ يقول في الْأَكْبَرِ أتى بِالْمَشْرُوعِ وَزِيَادَةِ شَيْءٍ فلم تَكُنْ الزِّيَادَةُ مَانِعَةً كما إذَا قال اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا فَأَمَّا الْعُدُولُ عَمَّا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ فَغَيْرُ جَائِزٍ وأبو يُوسُفَ يَحْتَجُّ بِقَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلم وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَالتَّكْبِيرُ حَاصِلٌ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ فإن أَكْبَرَ هو الْكَبِيرُ قال اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وهو أَهْوَنُ عليه‏}‏ أَيْ هَيِّنٌ عليه عِنْدَ بَعْضِهِمْ إذْ ليس شَيْءٌ أَهْوَنَ على اللَّهِ من شَيْءٍ بَلْ الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى دُخُولِهَا تَحْتَ قُدْرَتِهِ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ وَالتَّكْبِيرُ مُشْتَقٌّ من الْكِبْرِيَاءِ وَالْكِبْرِيَاءُ تنبىء عن الْعَظَمَةِ وَالْقِدَمِ يُقَالُ هذا أَكْبَرُ الْقَوْمِ أَيْ أَعْظَمُهُمْ مَنْزِلَةً وَأَشْرَفُهُمْ قَدْرًا‏.‏

وَيُقَال هو أَكْبَرُ من فُلَانٍ أَيْ أَقْدَمُ منه فَلَا يُمْكِنُ إقَامَةُ غَيْرِهِ من الْأَلْفَاظِ مَقَامَهُ لِانْعِدَامِ الْمُسَاوَاةِ في الْمَعْنَى إلَّا أَنَّا حَكَمْنَا بِالْجَوَازِ إذَا لم يُحْسِنْ أو لَا يَعْلَمُ أَنَّ الصَّلَاةَ تُفْتَتَحُ بِالتَّكْبِيرِ لِلضَّرُورَةِ وأبو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ احْتَجَّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فصلى‏}‏ وَالْمُرَادُ منه ذِكْرُ اسْمِ الرَّبِّ لِافْتِتَاحِ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ عَقَّبَ الصَّلَاةَ بالذكر ‏[‏الذكر‏]‏ بِحَرْفٍ يُوجِبُ التَّعْقِيبَ بِلَا فصل وَالذِّكْرُ الذي تَتَعَقَّبُهُ الصَّلَاةُ بِلَا فصل هو تَكْبِيرَةُ الِافْتِتَاحِ فَقَدْ شَرَعَ الدُّخُولَ في الصَّلَاةِ بِمُطْلَقِ الذِّكْرِ فَلَا يَجُوزُ التَّقْيِيدُ بِاللَّفْظِ الْمُشْتَقِّ من الْكِبْرِيَاءِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْحُكْمَ تَعَلَّقَ بِتِلْكَ الْأَلْفَاظِ من حَيْثُ هِيَ مُطْلَقُ الذِّكْرِ لَا من حَيْثُ هِيَ ذِكْرٌ بِلَفْظٍ خَاصٍّ وَأَنَّ الحديث مَعْلُولٌ بِهِ لِأَنَّا إذَا عَلَّلْنَاهُ بِمَا ذُكِرَ بَقِيَ مَعْمُولًا بِهِ من حَيْثُ اشْتِرَاطُ مُطْلَقِ الذِّكْرِ وَلَوْ لم نُعَلِّلْ احْتَجْنَا إلَى رَدِّهِ أَصْلًا لِمُخَالَفَتِهِ الْكتاب فَإِذًا تَرْكُ التَّعْلِيلِ هو الْمُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ حُكْمِ النَّصِّ دُونَ التَّعْلِيلِ على أَنَّ التَّكْبِيرَ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ التَّعْظِيمُ قال تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا‏}‏ أَيْ عَظِّمْهُ تَعْظِيمًا وقال تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فلما رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ‏}‏ أَيْ عَظَّمْنَهُ وقال تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ‏}‏ أَيْ فَعَظِّمْ فَكَانَ الْحَدِيثُ وارد ‏[‏واردا‏]‏ بِالتَّعْظِيمِ وَبِأَيِّ اسْمٍ ذَكَرَ فَقَدْ عَظَّمَ اللَّهَ تَعَالَى وَكَذَا من سَبَّحَ اللَّهَ تَعَالَى فَقَدْ عَظَّمَهُ وَنَزَّهَهُ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ من صِفَاتِ النَّقْصِ وَسِمَاتِ الْحَدَثِ فَصَارَ وَاصِفًا له بِالْعَظَمَةِ وَالْقِدَمِ وَكَذَا إذَا هَلَّلَ لِأَنَّهُ إذَا وَصَفَهُ بِالتَّفَرُّدِ وَالْأُلُوهِيَّةِ فَقَدْ وَصَفَهُ بِالْعَظَمَةِ وَالْقِدَمِ لِاسْتِحَالَةِ ثُبُوتِ الْإِلَهِيَّة دُونَهُمَا وَإِنَّمَا لم يَقُمْ السُّجُودُ على الْخَدِّ مَقَامَ السُّجُودِ على الْجَبْهَةِ لِلتَّفَاوُتِ في التَّعْظِيمِ كما في الشَّاهِدِ بِخِلَافِ الْأَذَانِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ منه هو الْإِعْلَامُ وَأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ الْمَشْهُورَةِ الْمُتَعَارَفَةِ فِيمَا بين الناس حتى لو حَصَلَ الْإِعْلَامُ بِغَيْرِ هذه الْأَلْفَاظِ يَجُوزُ كَذَا رَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ وَكَذَا رَوَى أبو يُوسُفَ في الْأَمَالِي وَالْحَاكِمُ في الْمُنْتَقَى وَالدَّلِيلُ على أَنَّ قَوْلَهُ اللَّهُ أَكْبَرُ أو الرَّحْمَنُ أَكْبَرُ سَوَاءٌ قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قل ادعوا الله أو اُدْعُوَا الرَّحْمَنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الحسنى‏}‏‏.‏

وَلِهَذَا يَجُوزُ الذَّبْحُ بِاسْمِ الرحمن أو بِاسْمِ الرَّحِيمِ فَكَذَا هذا وَاَلَّذِي يُحَقِّقُ مَذْهَبَهُمَا ما رُوِيَ عن عبد الرحمن السُّلَمِيُّ إن الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عليهم كَانُوا يَفْتَتِحُونَ الصَّلَاةَ بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَلَنَا بِهِمْ أُسْوَةٌ هذا إذَا ذَكَرَ الِاسْمَ وَالصِّفَةَ فَأَمَّا إذَا ذَكَر الِاسْمَ لَا غير بِأَنْ قال اللَّهُ لَا يَصِيرُ شَارِعًا عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَصِيرُ شَارِعًا وَكَذَا رَوَى بِشْرٌ عن أبي يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ لِمُحَمَّدٍ أَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِالِاسْمِ وَالصِّفَةِ فَلَا يَجُوزُ الِاكْتِفَاءُ بِمُجَرَّدِ الِاسْمِ وَلِأَبِي حنفية ‏[‏حنيفة‏]‏ أَنَّ النَّصَّ مَعْلُولٌ بِمَعْنَى التَّعْظِيمِ وَأَنَّهُ يَحْصُلُ بِالِاسْمِ الْمُجَرَّدِ وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّهُ يَصِيرُ شَارِعًا بِقَوْلِهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَالشُّرُوعُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِقَوْلِهِ اللَّهُ لَا بِالنَّفْيِ وَلَوْ قال اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي لَا يَصِيرُ شَارِعًا بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ لم يُخْلِصْ تَعْظِيمًا لِلَّهِ تَعَالَى بَلْ هو لِلْمَسْأَلَةِ وَالدُّعَاءِ دُونَ خَالِصِ الثَّنَاءِ وَالتَّعْظِيمِ وَلَوْ قال اللَّهُمَّ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه لِاخْتِلَافِ أَهْلِ اللُّغَةِ في مَعْنَاهُ قال بَعْضُهُمْ يَصِيرُ شَارِعًا لِأَنَّ الْمِيمَ في قَوْلِهِ اللَّهُمَّ بَدَلٌ عن النِّدَاءِ كَأَنَّهُ قال يا اللَّهُ وقال بَعْضُهُمْ لَا يَصِيرُ شَارِعًا لِأَنَّ الْمِيمَ في قَوْلِهِ اللَّهُمَّ بِمَعْنَى السُّؤَالِ مَعْنَاهُ اللَّهُمَّ آمِنَّا بِخَيْرٍ أَيْ أَرِدْنَا بِهِ فَيَكُونُ دُعَاءً لَا ثَنَاءً خَالِصًا كَقَوْلِهِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي وَلَوْ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ بِالْفَارِسِيَّةِ بِأَنْ قال ‏(‏خداي بزركنر‏)‏ أو ‏(‏خداي بزرك‏)‏ يَصِيرُ شَارِعًا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا يَصِيرُ شَارِعًا إلَّا إذَا كان لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ وَلَوْ ذَبَحَ وَسَمَّى بِالْفَارِسِيَّةِ يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ فَأَبُو يُوسُفَ مَرَّ على أَصْلِهِ في مُرَاعَاةِ الْمَنْصُوصِ عليه وَالْمَنْصُوصُ عليه لَفْظَةُ التَّكْبِيرِ بِقَوْلِهِ وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَهِيَ لَا تَحْصُلُ بِالْفَارِسِيَّةِ وفي باب الذَّبْحِ الْمَنْصُوصُ عليه هو مُطْلَقُ الذِّكْرِ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عليها صَوَافَّ‏}‏ وَذَا يَحْصُلُ بِالْفَارِسِيَّةِ وَمُحَمَّدٌ فَرَّقَ فَجَوَّزَ النَّقْلَ إلَى لَفْظٍ آخَرَ من الْعَرَبِيَّةِ ولم يُجَوِّزْ النَّقْلَ إلَى الْفَارِسِيَّةِ فقال الْعَرَبِيَّةُ لِبَلَاغَتِهَا وَوَجَازَتِهَا تَدُلُّ على مَعَانٍ لَا تَدُلُّ عليها الْفَارِسِيَّةُ فَتَحْتَمِلُ الْخَلَلَ في الْمَعْنَى عِنْدَ النَّقْلِ منها إلَى الْفَارِسِيَّةِ وَكَذَا لِلْعَرَبِيَّةِ من الْفَضِيلَةِ ما ليس لِسَائِرِ الْأَلْسِنَةِ وَلِهَذَا كان الدُّعَاءُ بِالْعَرَبِيَّةِ أَقْرَبَ إلَى الْإِجَابَةِ وَلِذَلِكَ خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى أَهْلَ كَرَامَتِهِ في الْجَنَّةِ بِالتَّكَلُّمِ بِهَذِهِ اللُّغَةِ فَلَا يَقَعُ غَيْرُهَا من الْأَلْسِنَةِ مَوْقِعَ كَلَامِ الْعَرَبِ إلَّا أَنَّهُ إذَا لم يُحْسِنْ جَازَ لِمَكَانِ الْعُذْرِ وأبو حَنِيفَةَ اعْتَمَدَ كتاب اللَّهِ تَعَالَى في اعْتِبَارِ مُطْلَقِ الذِّكْرِ وَاعْتُبِرَ مَعْنَى التَّعْظِيمِ وَكُلُّ ذلك حَاصِلٌ بِالْفَارِسِيَّةِ ثُمَّ شَرْطُ صِحَّةِ التَّكْبِيرِ أَنْ يُوجَدَ في حَالَةِ الْقِيَامِ في حَقِّ الْقَادِرِ على الْقِيَامِ سَوَاءٌ كان إمَامًا أو مُنْفَرِدًا أو مُقْتَدِيًا حتى لو كَبَّرَ قَاعِدًا ثُمَّ قام لَا يَصِيرُ شَارِعًا وَلَوْ وَجَدَ الْإِمَامَ في الرُّكُوعِ أو السُّجُودِ أو الْقُعُودِ يَنْبَغِي أَنْ يُكَبِّرَ قَائِمًا ثُمَّ يَتْبَعَهُ في الرُّكْنِ الذي هو فيه وَلَوْ كَبَّرَ لِلِافْتِتَاحِ في الرُّكْنِ الذي هو فيه لَا يَصِيرُ شَارِعًا لِعَدَمِ التَّكْبِيرِ قَائِمًا مع الْقُدْرَةِ عليه‏.‏

وَمِنْهَا تُقَدَّمُ قَضَاءِ الْفَائِتَةِ التي يَتَذَكَّرُهَا إذَا كانت الْفَوَائِتُ قَلِيلَةً وفي الْوَقْتِ سَعَةٌ هو شَرْطُ جَوَازِ أَدَاءِ الْوَقْتِيَّةِ فَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ ليس بِشَرْطٍ وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ التَّرْتِيبَ بين الْقَضَاءِ وَالْأَدَاءِ شَرْطُ جَوَازِ الْأَدَاءِ عِنْدَنَا وَإِنَّمَا يَسْقُطُ بِمُسْقِطٍ وَعِنْدَهُ ليس بِشَرْطٍ أَصْلًا وَيَجُوزُ أَدَاءُ الْوَقْتِيَّةِ قبل قَضَاءِ الْفَائِتَةِ فَيَقَعُ الْكَلَامُ فيه في الْأَصْلِ في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في اشْتِرَاطِ هذا النَّوْعِ من التَّرْتِيبِ وَالثَّانِي في بَيَانِ ما يُسْقِطُهُ أَمَّا الْأَوَّلُ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ التَّرْتِيبَ في الصَّلَاةِ على أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ أَحَدُهَا التَّرْتِيبُ في أَدَاءِ هذه الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالثَّانِي التَّرْتِيبُ في قَضَاءِ الْفَائِتَةِ وَأَدَاءِ الْوَقْتِيَّةِ وَالثَّالِثُ التَّرْتِيبُ في الْفَوَائِتِ وَالرَّابِعُ التَّرْتِيبُ في أَفْعَالِ الصَّلَاةِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلَا خِلَافَ في أَنَّ التَّرْتِيبَ في أَدَاءِ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ في أَوْقَاتِهَا شَرْطُ جَوَازِ أَدَائِهَا حتى لَا يَجُوزَ أَدَاءُ الظُّهْرِ في وَقْتِ الْفَجْرِ وَلَا أَدَاءُ الْعَصْرِ في وَقْتِ الظُّهْرِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ من هذه الصَّلَوَاتِ لَا تَجِبُ قبل دُخُولِ وَقْتِهَا وَأَدَاءُ الْوَاجِبِ قبل وُجُوبِهِ مُحَالٌ وَاخْتُلِفَ فِيمَا سِوَى ذلك أَمَّا التَّرْتِيبُ بين قَضَاءِ الْفَائِتَةِ وَأَدَاءِ الْوَقْتِيَّةِ فَقَدْ قال أَصْحَابُنَا أنه شَرْطٌ‏.‏

وقال الشَّافِعِيُّ ليس بِشَرْطٍ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ هذا الْوَقْتَ صَارَ لِلْوَقْتِيَّةِ بِالْكتاب وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ فَيَجِبُ أَدَاؤُهَا في وَقْتِهَا كما في حَالِ ضِيقِ الْوَقْتِ وَكَثْرَةِ الْفَوَائِتِ وَالنِّسْيَانِ وَلَنَا قَوْلُ النبي صلى الله عليه وسلم من نَامَ عن صَلَاةٍ أو نَسِيَهَا فَلِيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا فإن ذلك وَقْتُهَا وفي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ لَا وَقْتَ لها إلَّا ذلك فَقَدْ جَعَلَ وَقْتَ التَّذَكُّرِ وَقْتَ الْفَائِتَةِ فَكَانَ أَدَاءُ الْوَقْتِيَّةِ قبل قَضَاءِ الْفَائِتَةِ أَدَاءً قبل وَقْتِهَا فَلَا يَجُوزُ وَرُوِيَ عن ابْنِ عُمَرَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال من نَسِيَ صَلَاةً فلم يَذْكُرْهَا إلَّا وهو مع الْإِمَامِ فَلِيُصَلِّ مع الْإِمَامِ وَلِيَجْعَلْهَا تَطَوُّعًا ثُمَّ ليقضي ‏[‏ليقض‏]‏ ما تَذَّكَّر ثُمَّ لِيُعِدْ ما كان صلاة مع الْإِمَامِ وَهَذَا عَيْنُ مَذْهَبِنَا أَنَّهُ تَفْسُدُ الْفَرْضِيَّةُ لِلصَّلَاةِ إذَا تَذَكَّرَ الْفَائِتَةَ فيها وَيَلْزَمهُ الْإِعَادَةُ بِخِلَافِ حَالِ ضِيقِ الْوَقْتِ وَكَثْرَةِ الْفَوَائِتِ وَالنِّسْيَانِ لِأَنَّا إنَّمَا عَرَفْنَا كَوْنَ هذا الْوَقْتِ وَقْتًا لِلْوَقْتِيَّةِ بِنَصِّ الْكتاب وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَالْإِجْمَاعِ وَعَرَفْنَا كَوْنَهُ وَقْتًا لِلْفَائِتَةِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْعَمَلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ إنَّمَا يَجِبُ على وَجْهٍ لَا يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ الْعَمَلِ بِالدَّلِيلِ الْمَقْطُوعِ بِهِ وَالِاشْتِغَالُ بِالْفَائِتَةِ عِنْد ضِيقِ الْوَقْتِ إبْطَالُ الْعَمَلِ بِهِ لِأَنَّهُ تَفْوِيتٌ لِلْوَقْتِيَّةِ عن الْوَقْتِ وَكَذَا عِنْدَ كَثْرَةِ الْفَوَائِتِ لِأَنَّ الْفَوَائِتَ إذَا كَثُرَتْ تَسْتَغْرِقُ الْوَقْتَ فَتَفُوتُ الْوَقْتِيَّةُ عن وَقْتِهَا وَلِأَنَّ الشَّرْعَ إنَّمَا جَعَلَ الْوَقْتَ وَقْتًا لِلْفَائِتَةِ لِتَدَارُكِ ما فَاتَ فَلَا يَصِيرُ وَقْتًا لها على وَجْهٍ يُؤَدِّي إلَى تَفْوِيتِ صَلَاةٍ أُخْرَى وَهِيَ الْوَقْتِيَّةُ وَلِأَنَّ جَعْلَ الشَّرْعِ وَقْتَ التَّذَكُّرِ وَقْتًا لِلْفَائِتَةِ على الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إلَى وَقْتٍ ليس بِمَشْغُولٍ لِأَنَّ الْمَشْغُولَ لَا يَشْغَلُ كما انْصَرَفَ إلَى وَقْتٍ لَا تُكْرَهُ الصَّلَاةُ فيه وَأَمَّا النِّسْيَانُ فَلِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ جَعَلَ وَقْتَ التَّذَكُّرِ وَقْتًا لِلْفَائِتَةِ وَلَا تَذَكُّرَ هَهُنَا فلم يَصِرْ الْوَقْتُ وَقْتًا لِلْفَائِتَةِ فَبَقِيَ وَقْتًا لِلْوَقْتِيَّةِ فَأَمَّا هَهُنَا فَقَدْ وُجِدَ التَّذَكُّرُ فَكَانَ الْوَقْتُ لِلْفَائِتَةِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَلَيْسَ في هذا إبْطَالُ الْعَمَلِ بِالدَّلِيلِ الْمَقْطُوعِ بِهِ بَلْ هو جَمْعٌ بين الدَّلَائِلِ إذْ لَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ من الصَّلَوَاتِ عن وَقْتِهَا وَلَيْسَ فيه أَيْضًا شُغْلُ ما هو مَشْغُولٌ وَهَذَا لِأَنَّهُ لو أَخَّرَ الْوَقْتِيَّةَ وَقَضَى الْفَائِتَةَ تَبَيَّنَ أَنَّ وَقْتَ الْوَقْتِيَّةِ ما تصل ‏[‏اتصل‏]‏ بِهِ الْأَدَاءُ وَأَنَّ ما قبل ذلك لم يَكُنْ وَقْتًا لها بَلْ كان وَقْتًا لِلْفَائِتَةِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَلَا يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ الْعَمَلِ بِالدَّلِيلِ الْمَقْطُوعِ بِهِ فَأَمَّا عِنْدَ ضِيقِ الْوَقْتِ وَإِنْ لم يَتَّصِل بِهِ أَدَاءُ الْوَقْتِيَّةِ لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ ما كان وَقْتًا له حتى تَصِيرَ الصَّلَاةُ فَائِتَةً وَتَبْقَى دَيْنًا عليه وَعَلَى هذا الْخِلَافِ التَّرْتِيبُ في الْفَوَائِتِ أَنَّهُ كما يَجِبُ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ بين الْوَقْتِيَّةِ وَالْفَائِتَةِ عِنْدنَا يَجِبُ مُرَاعَاتُهُ بين الْفَوَائِتِ إذَا كانت الْفَوَائِتُ في حَدِّ الْقِلَّةِ عِنْدَنَا أَيْضًا لِأَنَّ قِلَّةَ الْفَوَائِتِ لم تَمْنَعْ وُجُوبَ التَّرْتِيبِ في الْأَدَاءِ فَكَذَا في الْقَضَاءِ وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لَمَّا شُغِلَ عن أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ يوم الْخَنْدَقِ قَضَاهُنَّ بَعْدَ هَوِيٍّ من اللَّيْلِ على التَّرْتِيبِ ثُمَّ قال صَلُّوا كما رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي ويبني على هذا إذَا تَرَكَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ يَوْمَيْنِ مُخْتَلِفِينَ وَلَا يَدْرِي أَيَّتُهُمَا أَوْلَى فإنه يَتَحَرَّى لِأَنَّهُ اشْتَبَهَ عليه أَمْرٌ لَا سَبِيلَ إلَى الْوُصُولِ إلَيْهِ بِيَقِينٍ وهو التَّرْتِيبُ فَيُصَارُ إلَى التَّحَرِّي لِأَنَّهُ عِنْدَ انْعِدَامِ الْأَدِلَّةِ قام مَقَامَ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ كما إذَا اشْتَبَهَتْ عليه الْقِبْلَةُ فَإِنْ مَالَ قَلْبُهُ إلَى شَيْءٍ عَمِلَ بِهِ لِأَنَّهُ جُعِلَ كَالثَّابِتِ بِالدَّلِيلِ وَإِنْ لم يَسْتَقِرَّ قَلْبُهُ على شَيْءٍ وَأَرَادَ الْأَخْذَ بِالثِّقَةِ يُصَلِّيهِمَا ثُمَّ يُعِيدُ ما صلى أَوَّلًا أَيَّتُهُمَا كانت إلَّا أَنَّ الْبُدَاءَةَ بِالظُّهْرِ أَوْلَى لِأَنَّهَا أَسْبَقُ وُجُوبًا في الْأَصْلِ فَيُصَلِّي الظُّهْرَ ثُمَّ الْعَصْرَ ثُمَّ الظُّهْرَ لِأَنَّ الظُّهْرَ لو كانت هِيَ التي فَاتَتْ أَوَّلًا فَقَدْ وَقَعَتْ مَوْقِعَهَا وَجَازَتْ وَكَانَتْ الظُّهْرُ التي أَدَّاهَا بَعْدَ الْعَصْرِ ثَانِيَةً نَافِلَةً له وَلَوْ كانت الْعَصْرُ هِيَ الْمَتْرُوكَةُ أَوَّلًا كانت الظُّهْرُ التي أَدَّاهَا قبل الْعَصْرِ نَافِلَةً له فإذا أَدَّى الْعَصْرَ بَعْدَهَا فَقَدْ وَقَعَتْ مَوْقِعَهَا وَجَازَتْ ثُمَّ إذَا أَدَّى الظُّهْرَ بَعْدَهَا وَقَعَتْ مَوْقِعَهَا وَجَازَتْ فَيَعْمَلُ كَذَلِكَ لِيَخْرُجَ عَمَّا عليه بِيَقِينٍ وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا نَأْمُرهُ إلَّا بِالتَّحَرِّي كَذَا ذَكَرَهُ أبو اللَّيْثِ ولم يذكر أَنَّهُ إذَا اسْتَقَرَّ قَلْبُهُ على شَيْءٍ كَيْفَ يَصْنَعُ عِنْدَهُمَا وَذَكَرَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ صَدْرُ الدِّينِ أبو الْمُعِينِ أَنَّهُ يُصَلِّي كُلَّ صَلَاةٍ مَرَّةً وَاحِدَةً وَقِيلَ لَا خِلَافَ في هذه الْمَسْأَلَةِ على التَّحْقِيقِ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الِاسْتِحْباب على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَهُمَا ما بَيَّنَّا الِاسْتِحْباب وَذِكْرُ عَدَمِ وُجُوبِ الْإِعَادَةِ على قَوْلِهِمَا وأبو حَنِيفَةَ ما أَوْجَبَ الْإِعَادَةَ وَجْهٌ قَوْلُهُمَا أَنَّ الْوَاجِبَ في مَوْضِعِ الشَّكِّ وَالِاشْتِبَاهِ هو التَّحَرِّي وَالْعَمَلُ بِهِ لَا الْأَخْذُ بِالْيَقِينِ أَلَا تَرَى أَنَّ من شَكَّ في جِهَةِ الْقِبْلَةِ يؤمر ‏[‏يعمل‏]‏ بِالتَّحَرِّي وَلَا يَأْخُذُ بِالْيَقِينِ بِأَنْ يُصَلِّي صَلَاةً وَاحِدَةً أَرْبَعَ مَرَّاتٍ إلَى أَرْبَعِ جِهَاتٍ وَكَذَا من شَكَّ في صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ فلم يَدْرِ أَثَلَاثًا صلى أَمْ أَرْبَعًا يَتَحَرَّى وَلَا يَبْنِي على الْيَقِينِ وهو الْأَقَلُّ كَذَا هذا وَلِأَنَّهُ لو صلى إحْدَى الصَّلَاتَيْنِ مَرَّتَيْنِ فَإِنَّمَا يُصَلِّي مُرَاعَاةً لِلتَّرْتِيبِ وَالتَّرْتِيبُ في هذه الْحَالَةِ سَاقِطٌ لِأَنَّهُ حين بَدَأَ بِإِحْدَاهُمَا لم يَعْلَمْ يَقِينًا أَنَّ عليه صَلَاةً أُخْرَى قبل هذه لِتَصِيرَ هذه مُؤَدَّاةٌ قبل وَقْتِهَا فَسَقَطَ عنه التَّرْتِيبُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مَهْمَا أَمْكَنَ الْأَخْذُ بِالْيَقِينِ كان أَوْلَى إلَّا إذَا تَضَمَّنَ فَسَادًا كما في مَسْأَلَةِ الْقِبْلَةِ فإن الْأَخْذَ بِالثِّقَةِ ثَمَّةَ يُؤَدِّي إلَى الْفَسَادِ حَيْثُ يَقَعُ ثَلَاثٌ من الصَّلَوَاتِ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ بِيَقِينٍ وَلَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ بِيَقِينٍ من غَيْرِ ضَرُورَةٍ فَيَتَعَذَّرُ الْعَمَلُ بِالْيَقِينِ دَفْعًا لِلْفَسَادِ وَهَهُنَا لَا فَسَادَ لِأَنَّ أَكْثَرَ ما في الْباب أَنَّهُ يُصَلِّي إحْدَى الصَّلَاتَيْنِ مَرَّتَيْنِ فَتَكُونُ إحْدَاهُمَا تَطَوُّعًا وَكَذَا في الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ إنَّمَا لَا يبني على الْأَقَلِّ لِاحْتِمَالِ الْفَسَادِ لِجَوَازِ أَنَّهُ قد صلى أَرْبَعًا فَيَصِيرُ بِالْقِيَامِ إلَى الْأُخْرَى تَارِكًا لِلْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ وَهِيَ فَرْضٌ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَلَوْ أُمِرَ بِالْقَعْدَةِ أَوَّلًا ثُمَّ بِالرَّكْعَةِ لَحَصَلَتْ في الثَّالِثَةِ وإنه غَيْرُ مَشْرُوعٍ وَهَهُنَا يَصِيرُ آتِيًا بِالْوَاجِبِ وهو التَّرْتِيبُ من غَيْرِ أَنْ يَتَضَمَّنَ فَسَادًا فَكَانَ الْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ أَوْلَى وَصَارَ هذا كما إذَا فَاتَتْهُ وَاحِدَةٌ من الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَلَا يَدْرِي أَيَّتُهَا هِيَ أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِإِعَادَةِ صَلَاةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ احْتِيَاطًا وكذا هَهُنَا أما قَوْلُهُمَا حين بَدَأَ بِإِحْدَاهُمَا لَا يَعْلَمُ يَقِينًا أَنَّ عليه أُخْرَى قبل هذه فَكَانَ التَّرْتِيبُ عنه ساقط ‏[‏ساقطا‏]‏ فَنَقُولُ حين صلى هذه يَعْلَمُ يَقِينًا أَنَّ عليه أُخْرَى لَكِنَّهُ لَا يَعْلَمُ أنها سَابِقَةٌ على هذه أو مُتَأَخِّرَةٌ عنها فَإِنْ كانت سَابِقَةً عليها لم تَجُزْ الْمُؤَدَّاةُ لِعَدَمِ مُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ وَإِنْ كانت الْمُؤَدَّاةُ سَابِقَةً جَازَتْ فَوَقَعَ الشَّكُّ في الْجَوَازِ فَصَارَتْ الْمُؤَدَّاةُ أَوَّلَ مَرَّةٍ دَائِرَةً بين الْجَوَازِ وَالْفَسَادِ فَلَا يَسْقُطُ عنه الْوَاجِبُ بِيَقِينٍ عِنْدَ وُقُوعِ الشَّكِّ في الْجَوَازِ فَيُؤْمَرُ بِالْإِعَادَةِ وَالله أعلم‏.‏

وَلَوْ شَكَّ في ثَلَاثِ صَلَوَاتٍ الظُّهْرُ من يَوْمٍ وَالْعَصْرُ من يَوْمٍ وَالْمَغْرِبُ من يَوْمٍ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ اخْتَلَفُوا في هذا منهم من قال أنه يَسْقُطُ التَّرْتِيبُ لِأَنَّ ما بين الْفَوَائِتِ يَزِيدُ على هذا سِتَّ صَلَوَاتٍ فَصَارَتْ الْفَوَائِتُ في حَدِّ الْكَثْرَةِ فَلَا يَجِبُ اعْتِبَارُ التَّرْتِيبِ في قَضَائِهَا فَيُصَلِّي أَيَّةَ صَلَاةٍ شَاءَ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ مَوْضِعَ هذه الْمَسَائِلِ في حَالَةِ النِّسْيَانِ على ما يُذْكَرُ وَالتَّرْتِيبُ عِنْدَ النِّسْيَانِ سَاقِطٌ فَكَانَتْ الْمُؤَدَّيَاتُ بَعْدَ الْفَائِتَةِ في نفسها ‏[‏أنفسها‏]‏ جَائِزَةً لِسُقُوطِ التَّرْتِيبِ فَبَقِيَتْ الْفَوَائِتُ في نفسها ‏[‏أنفسها‏]‏ في حَدِّ الْقِلَّةِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُ الترتيت ‏[‏الترتيب‏]‏ فيها فَيَنْبَغِي أَنْ يُصَلِّيَ في هذه الصُّورَةِ سَبْعَ صَلَوَاتٍ يُصَلِّي الظُّهْرَ أَوَّلًا ثُمَّ الْعَصْرَ ثُمَّ الظُّهْرَ ثُمَّ الْمَغْرِبَ ثُمَّ الظُّهْرَ ثُمَّ الْعَصْرَ ثُمَّ الظُّهْرَ مُرَاعَاةً لِلتَّرْتِيبِ بِيَقِينٍ وَالْأَصْلُ في ذلك أَنْ يَعْتَبِرَ الْفَائِتَتَيْنِ إذَا انْفَرَدَتَا فَيُعِيدَهُمَا على الْوَجْهِ الذي بَيَّنَّا ثُمَّ يَأْتِي بِالثَّالِثَةِ ثُمَّ يَأْتِي بَعْدَ الثَّالِثَةِ ما كان يَفْعَلُهُ في الصَّلَاتَيْنِ وَعَلَى هذا إذَا كانت الْفَوَائِتُ أَرْبَعًا بِأَنْ تَرَكَ الْعِشَاءَ من يَوْمٍ آخَرَ فإنه يُصَلِّي سَبْعَ صَلَوَاتٍ كما ذَكَرْنَا في الْمَغْرِبِ ثُمَّ يُصَلِّي الْعِشَاءَ ثُمَّ يُصَلِّي بَعْدَهَا سَبْعَ صَلَوَاتٍ مِثْلَ ما كان يُصَلِّي قبل الرَّابِعَةِ فَإِنْ قِيلَ في الِاحْتِيَاطِ هَهُنَا حَرَجٌ عَظِيمٌ فإنه إذَا فَاتَتْهُ خَمْسُ صَلَوَاتٍ الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ وَالْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ وَالْفَجْرُ من أَيَّامٍ مُخْتَلِفَةٍ لَا يَدْرِي أَيَّ ذلك أَوَّل يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُؤَدِّيَ إحْدَى وَثَلَاثِينَ صَلَاةً وَفِيهِ من الْحَرَجِ ما لَا يَخْفَى فَالْجَوَابُ أَنَّ بَعْضَ مَشَايِخِنَا قالوا إنَّ ما قَالَاهُ هو الْحُكْمُ الْمُرَادُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إيجَابُ الْقَضَاءِ مع الِاحْتِمَالِ إلَّا أَنَّ ما قَالَهُ أبو حَنِيفَةَ احْتِيَاطٌ لَا حَتْمٌ وَمِنْهُمْ من قال لَا بَلْ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمْ في الحكم ‏[‏حكم‏]‏ الْمُرَادِ وَإِعَادَةُ الْأُولَى وَاجِبَةٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّ التَّرْتِيبَ في الْقَضَاءِ وَاجِبٌ فإذا لم يَعْلَمْ بِهِ حَقِيقَةً وَلَهُ طَرِيقٌ في الْجُمْلَةِ يَجِبُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ وَهَذَا وَإِنْ كان فيه نَوْعُ مَشَقَّةٍ لَكِنَّهُ مِمَّا لَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ فَلَا يُؤَدِّي إلَى الْحَرَجِ ثُمَّ ما ذَكَرْنَا من الْجَوَابِ في حَالَةِ النِّسْيَانِ بِأَنْ صلى أَيَّامًا ولم يَخْطُرْ بِبَالِهِ أَنَّهُ تَرَكَ شيئا منها ثُمَّ تَذَكَّرَ الْفَوَائِتَ ولم يَتَذَكَّرْ التَّرْتِيبَ فَأَمَّا إذَا كان ذَاكِرًا لِلْفَوَائِتِ حتى صلى أَيَّامًا مع تَذَكُّرِهَا ثُمَّ نَسِيَ ‏(‏الترتيب في الفوائت فعلى قياس قول أبي يوسف ومحمد ينبغي أن سَقَطَ‏)‏ التَّرْتِيبُ هَهُنَا لِأَنَّ الْفَوَائِتَ صَارَتْ في حَدِّ الْكَثْرَةِ لِأَنَّ الْمُؤَدَّيَاتِ بَعْدَ الْفَوَائِتِ عِنْدَهُمَا فَاسِدَةٌ إلَى السِّتِّ فإذا ‏[‏وإذا‏]‏ فَسَدَتْ كَثُرَتْ الْفَوَائِتُ فَسَقَطَ التَّرْتِيبُ فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ أَيَّةَ صَلَاةٍ شَاءَ من غَيْرِ الْحَاجَةِ إلَى التَّحَرِّي وَأَمَّا على قِيَاسِ قَوْلِ أبي حَنِيفَة لَا يَسْقُطُ التَّرْتِيبُ لِأَنَّ الْمُؤَدَّيَاتِ عِنْدَهُ تَنْقَلِبُ إلَى الْجَوَازِ إذَا بَلَغَتْ مع الْفَائِتَةِ سِتًّا وإذا انْقَلَبَتْ إلَى الْجَوَازِ بَقِيَتْ الْفَوَائِتُ في حَدِّ الْقِلَّةِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُ التَّرْتِيبِ فيها فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَجِبُ النَّظَرُ إلَى الْفَوَائِتِ فما دَامَتْ في حَدِّ الْقِلَّةِ وَجَبَ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ فيها وإذا كَثُرَتْ سَقَطَ التَّرْتِيبُ فيها لِأَنَّ كَثْرَةَ الْفَوَائِتِ تُسْقِطُ التَّرْتِيبَ في الْأَدَاءِ فَلَأَنْ يَسْقُطَ في الْقَضَاءِ أَوْلَى هذا إذَا شَكَّ في صَلَاتَيْنِ فَأَكْثَرَ فَأَمَّا إذَا شَكَّ في صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ فَاتَتْهُ وَلَا يَدْرِي أَيَّةَ صَلَاةٍ هِيَ يَجِبُ عليه التَّحَرِّي لِمَا قُلْنَا فَإِنْ لم يَسْتَقِرَّ قَلْبُهُ على شَيْءٍ يُصَلِّي خَمْسَ صَلَوَاتٍ لِيَخْرُجَ عَمَّا عليه بِيَقِينٍ وقال محمد بن مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ أنه يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ يَنْوِي بِهِمَا الْفَجْرَ وَيُصَلِّي ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ أُخَرَ بِتَحْرِيمَةٍ على حِدَةٍ يَنْوِي بها الْمَغْرِبَ ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا يَنْوِي بها ما فَاتَتْهُ فَإِنْ كانت الْفَائِتَةُ ظُهْرًا أو عَصْرًا أو عِشَاءً انْصَرَفَتْ هذه إلَيْهَا وقال سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ يُصَلِّي أَرْبَعًا يَنْوِي بها ما عليه لَكِنْ بِثَلَاثِ قَعَدَاتٍ فَيَقْعُدُ على رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ وَالثَّلَاثِ وَالْأَرْبَعِ وهو قَوْلُ بِشْرٍ حتى لو كانت الْمَتْرُوكَةُ فَجْرًا لَجَازَتْ لِقُعُودِهِ على رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ وَالثَّانِي يَكُونُ تَطَوُّعًا وَلَوْ كانت الْمَغْرِبَ لَجَازَتْ لِقُعُودِهِ على الثلاث ‏[‏ثلاث‏]‏ وَلَوْ كانت من ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ كانت كُلُّهَا فَرْضًا وَخَرَجَ عن الْعُهْدَةِ بِيَقِينٍ إلَّا أَنَّ ما قُلْنَاهُ أَحْوَطُ لِأَنَّ من الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ عليه صَلَاةٌ أُخْرَى كان تَرَكَهَا في وَقْتٍ آخَرَ وَلَوْ نَوَى ما عليه يَنْصَرِفُ إلَى تِلْكَ الصَّلَاةِ أو يَقَعُ التَّعَارُضُ فَلَا يَنْصَرِفُ إلَى هذه التي يُصَلِّي فَيُعِيدُ صَلَاةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِيَخْرُجَ عن عُهْدَةِ ما عليه بِيَقِينٍ وَعَلَى هذا لو تَرَكَ سَجْدَةً من صُلْبِ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ ولم يَدْرِ أَيَّةَ صَلَاةٍ هِيَ يُؤْمَرُ بِإِعَادَةِ خَمْسِ صَلَوَاتٍ لِأَنَّهَا من أَرْكَانِ الصَّلَاةِ فَصَارَ الشَّكُّ فيها كَالشَّكِّ في الصَّلَاةِ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَسْقُطُ بِهِ التَّرْتِيبُ فَالتَّرْتِيبُ بين قَضَاءِ الْفَائِتَةِ وَأَدَاءِ الْوَقْتِيَّةِ يَسْقُطُ بِأَحَدِ خِصَالٍ ثَلَاثٍ أَحَدُهَا ضِيقُ الْوَقْتِ بِأَنْ يَذْكُرَ في آخِرِ الْوَقْتِ بِحَيْثُ لو اشْتَغَلَ بِالْفَائِتَةِ يَخْرُجُ الْوَقْتُ قبل أَدَاءِ الْوَقْتِيَّةِ سَقَطَ عنه التَّرْتِيبُ في هذه الْحَالَةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ في مُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ فيها إبْطَالُ الْعَمَلِ بِالدَّلِيلِ الْمَقْطُوعِ بِهِ بِدَلِيلٍ فيه شُبْهَةٌ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَلَوْ تَذَّكَّر صَلَاةَ الظُّهْرِ في آخِرِ وَقْتِ الْعَصْرِ بَعْدَ ما تَغَيَّرَتْ الشَّمْسُ فإنه يُصَلِّي الْعَصْرَ وَلَا يُجْزِئُهُ قَضَاءُ الظُّهْرِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ قَضَاءَ الصَّلَاةِ في هذا الْوَقْتِ قَضَاءُ الْكَامِلِ بِالنَّاقِصِ بِخِلَافِ عَصْرِ يَوْمِهِ وَأَمَّا إذَا تَذَكَّرَهَا قبل تَغَيُّرِ الشَّمْسِ لَكِنَّهُ بِحَالٍ لو اشْتَغَلَ بِقَضَائِهَا لَدَخَلَ عليه وَقْتٌ مَكْرُوهٌ لم يُذْكَرْ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه قال بَعْضُهُمْ لَا يَجُوزُ له أَنْ يُؤَدِّيَ الْعَصْرَ قبل أَنْ يُرَاعِيَ التَّرْتِيبَ فَيَقْضِيَ الظُّهْرَ ثُمَّ يُصَلِّيَ الْعَصْرَ لِأَنَّهُ لَا يَخَافُ خُرُوجَ الْوَقْتِ فلم يَتَضَيَّقِ الْوَقْتُ فَبَقِيَ وُجُوبُ التَّرْتِيبِ‏.‏

وقال بَعْضُهُمْ لَا بَلْ يَسْقُطُ التَّرْتِيبُ فَيُصَلِّي الْعَصْرَ قبل الظُّهْرِ ثُمَّ يُصَلِّي الظُّهْرَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أبو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ وقال هذا عِنْدِي على الِاخْتِلَافِ الذي في صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وهو أَنَّ من تَذَكَّرَ في صَلَاةِ الْجُمُعَةِ أَنَّهُ لم يُصَلِّ الْفَجْرَ وَلَوْ اشْتَغَلَ بِالْفَجْرِ يَخَافُ فَوْتَ الْجُمُعَةِ وَلَا يَخَافُ فَوْتَ الْوَقْتِ على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يُصَلِّي الْفَجْرَ ثُمَّ الظُّهْرَ فلم يَجْعَلَا فَوْتَ الْجُمُعَةِ عُذْرًا في سُقُوطِ التَّرْتِيبِ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ ثُمَّ الْفَجْرَ فَجَعَلَ فَوْتَ الْجُمُعَةِ عُذْرًا في سُقُوطِ التَّرْتِيبِ فَكَذَا في هذه الْمَسْأَلَةِ على قَوْلِهِمَا يَجِبُ أَنْ لَا يَجُوزَ الْعَصْرُ وَعَلَيْهِ الظُّهْرُ فَيُصَلِّيَ الظُّهْرَ ثُمَّ الْعَصْرَ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَمْضِي على صَلَاتِهِ وَلَوْ افْتَتَحَ الْعَصْرَ في أَوَّلِ الْوَقْتِ وهو ذَاكِرٌ أَنَّ عليه الظُّهْرَ‏.‏

وَأَطَالَ الْقِيَامَ وَالْقِرَاءَةَ حتى دخل عليه وَقْتٌ مَكْرُوهٌ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ لِأَنَّ شُرُوعَهُ في الْعَصْرِ مع تَرْكِ الظُّهْرِ لم يَصِحَّ فَيَقْطَعُ ثُمَّ يَفْتَتِحُهَا ثَانِيًا ثُمَّ يُصَلِّي الظُّهْرَ بَعْدَ الْغُرُوبِ‏.‏

وَلَوْ افْتَتَحَهَا وهو لَا يَعْلَمُ أَنَّ عليه الظُّهْرَ فَأَطَالَ الْقِيَامَ وَالْقِرَاءَةَ حتى دخل وَقْتٌ مَكْرُوهٌ ثُمَّ تَذَكَّرَ يَمْضِي على صَلَاتِهِ لِأَنَّ الْمُسْقِطَ لِلتَّرْتِيبِ قد وُجِدَ عِنْد افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ وَاخْتِتَامِهَا وهو النِّسْيَانُ وَضِيقُ الْوَقْتِ وَلَوْ افْتَتَحَ الْعَصْرَ في حَالِ ضِيقِ الْوَقْتِ وهو ذَاكِرٌ لِلظُّهْرِ فلما صلى منها رَكْعَةً أو رَكْعَتَيْنِ غَرَبَتْ الشَّمْسُ الْقِيَاسُ أَنْ يَفْسُدَ الْعَصْرُ لِأَنَّ الْعُذْرَ قذ زَالَ وهو ضِيقُ الْوَقْتِ فَعَادَ التَّرْتِيبُ وفي الِاسْتِحْسَانِ يَمْضِي فيها ثُمَّ يَقْضِي الظُّهْرَ ثُمَّ يُصَلِّي الْمَغْرِبَ ذَكَرَهُ في نَوَادِرِ الصَّلَاةِ وَالثَّانِي النِّسْيَانُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ جَعَلَ وَقْتَ التَّذَكُّرِ وَقْتًا لِلْفَائِتَةِ وَلَا تَذَكُّرَ هَهُنَا فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِالدَّلِيلِ الْمَقْطُوعِ بِهِ وَرُوِيَ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم صلى الْمَغْرِبَ يَوْمًا ثُمَّ قال هل رَآنِي أَحَدٌ مِنْكُمْ صَلَّيْتُ الْعَصْرَ فَقَالُوا لَا فصلى الْعَصْرَ ولم يُعِدْ الْمَغْرِبَ وَلَوْ وَجَبَ التَّرْتِيبُ لَأَعَادَ وَعَلَى هذا لو صلى الظُّهْرَ على غَيْرِ وُضُوءٍ وَصَلَّى الْعَصْرَ بِوُضُوءٍ وهو ذَاكِرٌ لِمَا صَنَعَ فَأَعَادَ الظُّهْرَ ولم يُعِدْ الْعَصْرَ وَصَلَّى الْمَغْرِبَ وهو يَظُنُّ أَنَّ الْعَصْرَ تُجْزِئُهُ أَعَادَ الْعَصْرَ ولم يُعِدْ الْمَغْرِبَ لِأَنَّ أَدَاءَ الظُّهْرِ على غَيْرِ وُضُوءٍ وَالِامْتِنَاعَ عنه بِمَنْزِلَةِ فَوَاتِ شَرْطِ أَهْلِيَّةِ الصَّلَاةِ فَحِينَ صلى الْعَصْرَ صلى وهو يَعْلَمُ أَنَّ الظُّهْرَ غَيْرُ جَائِزَةٍ وَلَوْ لم يَعْلَمْ وكان يَظُنُّ أنها جَائِزَةٌ لم يَكُنْ هذا الظَّنُّ مُعْتَبَرًا لِأَنَّهُ نَشَأَ عن جَهْلٍ وَالظَّنُّ إنَّمَا يُعْتَبَرُ إذَا نَشَأَ عن دَلِيلٍ أو شُبْهَةِ دَلِيلٍ ولم يُوجَدْ فَكَانَ هذا جَهْلًا مَحْضًا فَقَدْ صلى الْعَصْرَ وهو عَالِمٌ أَنَّ عليه الظُّهْرَ فَكَانَ مُصَلِّيًا الْعَصْرَ في وَقْتِ الظُّهْرِ فلم يَجُزْ وَلَوْ صلى الْمَغْرِبَ قبل إعَادَتِهِمَا جميعا لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ صلى الْمَغْرِبَ وهو يَعْلَمُ أَنَّ عليه الظُّهْرَ فَصَارَ الْمَغْرِبُ في وَقْتِ الظُّهْرِ فلم يَجُزْ فَأَمَّا لو كان أَعَادَ الظُّهْرَ ولم يُعِدْ الْعَصْرَ فَظَنَّ جَوَازَهَا ثُمَّ صلى الْمَغْرِبَ فإنه يُؤْمَرُ بِإِعَادَةِ الْعَصْرِ وَلَا يُؤْمَرُ بِإِعَادَةِ الْمَغْرِبِ لِأَنَّ ظَنَّهُ إن عَصْرَهُ جَائِزٌ ظَنٌّ مُعْتَبَرٌ لِأَنَّهُ نَشَأَ عن شُبْهَةِ دَلِيلٍ وَلِهَذَا خَفِيَ على الشَّافِعِيِّ فَحِين صلى الْمَغْرِبَ صَلَّاهَا وَعِنْدَهُ أَنْ لَا عَصْرَ عليه لِأَنَّهُ أَدَّاهَا بِجَمِيعِ أَرْكَانِهَا وَشَرَائِطِهَا الْمُخْتَصَّةِ بها إنَّمَا خَفِيَ عليه ما يخفى بِنَاءً على شُبْهَةِ دَلِيلٍ وَمَنْ صلى الْمَغْرِبَ وَعِنْدَهُ أَنْ لَا عَصْرَ عليه حُكِمَ بِجَوَازِ الْمَغْرِبِ كما لو كان نَاسِيًا لِلْعَصْرِ بَلْ هذا فَوْقَ النِّسْيَانِ لِأَنَّ ظَنَّ النَّاسِي لم يَنْشَأْ عن شُبْهَةِ دَلِيلٍ بَلْ عن غَفْلَةٍ طبيعة ‏[‏طبيعية‏]‏ وَهَذَا الظَّنُّ نَشَأَ عن شُبْهَةِ دَلِيلٍ فَكَانَ هذا فَوْقَ ذلك ثُمَّ هُنَاكَ حُكِمَ بِجَوَازِ الْمَغْرِبِ فَهَهُنَا أَوْلَى ثُمَّ الْعِلْمُ بِالْفَائِتَةِ كما هو شَرْطٌ لِوُجُوبِ التَّرْتِيبِ فَالْعِلْمُ بِوُجُوبِهَا حَالَ الْفَوَاتِ شَرْطٌ لِوُجُوبِ قَضَائِهَا حتى إن الْحَرْبِيَّ إذَا أَسْلَمَ في دَارِ الْحَرْبِ وَمَكَثَ فيها سَنَةً ولم يَعْلَمْ أَنَّ عليه الصَّلَاةَ فلم يُصَلِّ ثُمَّ عَلِمَ لَا يَجِبُ عليه قَضَاؤُهَا في قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ‏.‏

وقال زُفَرُ عليه قَضَاؤُهَا وَلَوْ كان هذا ذِمِّيًّا أَسْلَمَ في دَارِ الْإِسْلَامِ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهَا اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا قَضَاءَ عليه وهو قَوْلُ الْحَسَنِ وَجْهٌ قَوْلُ زُفَرَ أَنَّهُ بِالْإِسْلَامِ الْتَزَمَ أَحْكَامَهُ وَوُجُوبُ الصَّلَاةِ من أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فَيَلْزَمُهُ وَلَا يَسْقُطُ بِالْجَهْلِ كما لو كان هذا في دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَنَا أَنَّ الذي أَسْلَمَ في دَارِ الْحَرْبِ مُنِعَ عنه الْعِلْمُ لِانْعِدَامِ سَبَبِ الْعِلْمِ في حَقِّهِ وَلَا وُجُوبَ على من مُنِعَ عنه الْعِلْمُ كما لَا وُجُوبَ على من مُنِعَ عنه الْقُدْرَةُ بِمَنْعِ سَبَبِهَا بِخِلَافِ الذي أَسْلَمَ في دَارِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ ضَيَّعَ الْعِلْمَ حَيْثُ لم يَسْأَلْ الْمُسْلِمِينَ عن شَرَائِعِ الدِّينِ مع تَمَكُّنِهِ من السُّؤَالِ وَالْوُجُوبُ مُتَحَقِّقٌ في حَقِّ من ضَيَّعَ الْعِلْمَ كما يَتَحَقَّقُ في حَقِّ من ضَيَّعَ الْقُدْرَةَ ولم يُوجَدْ التَّضْيِيعُ هَهُنَا إذْ لَا يُوجَدُ في الْحَرْبِ من يَسْأَلهُ عن شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ حتى لو وُجِدَ ولم يَسْأَلْهُ يَجِبُ عليه وَيُؤَاخَذُ بِالْقَضَاءِ إذَا عَلِمَ بَعْدَ ذلك لِأَنَّهُ ضَيَّعَ الْعِلْمَ وما مُنِعَ منه كَاَلَّذِي أَسْلَمَ في دَارِ الْإِسْلَامِ وقد خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا قَالَهُ زُفَرُ أَنَّهُ الْتَزَمَ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ لِأَنَّا نَقُولُ نعم لَكِنْ حكمنا ‏[‏حكما‏]‏ له سَبِيلُ الْوُصُولِ إلَيْهِ ولم يُوجَدْ فَإِنْ بَلَّغَهُ في دَارِ الْحَرْبِ رَجُلٌ وَاحِدٌ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ فِيمَا يَتْرُكُ بَعْدَ ذلك في قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وهو إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عن أبي حَنِيفَةَ وفي رواية‏:‏ الْحَسَنِ عنه لَا يَلْزَمُهُ ما لم يُخْبِرْهُ رَجُلَانِ أو رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ هذا خَبَرٌ مُلْزِمٌ وَمِنْ أَصْلِهِ اشْتِرَاطُ الْعَدَدِ في الْخَبَرِ الْمُلْزِمِ كما في الْحَجْرِ على الْمَأْذُونِ وَعَزْلِ الْوَكِيلِ وَالْإِخْبَارِ بِجِنَايَةِ الْعَبْدِ وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَهِيَ الْأَصَحُّ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مَأْمُورٌ من صَاحِبِ الشَّرْعِ بِالتَّبْلِيغِ قال النبي صلى الله عليه وسلم أَلَا فَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ وقال نَضَّرَ اللَّهُ أمرا ‏[‏امرءا‏]‏ سمع مِنَّا مَقَالَةً فَوَعَاهَا كما سَمِعَهَا ثُمَّ أَدَّاهَا إلَى من لم يَسْمَعْهَا فَهَذَا الْمُبَلِّغُ نَظِيرُ الرَّسُولِ من المولى وَالْمُوَكِّلِ وَخَبَرُ الرَّسُولِ هُنَاكَ مُلْزِمٌ فَهَهُنَا كَذَلِكَ وَالله أعلم‏.‏

الثالث ‏[‏والثالث‏]‏ كَثْرَةُ الْفَوَائِتِ وقال بِشْرٌ الْمَرِيسِيِّ التَّرْتِيبُ لَا يَسْقُطُ بِكَثْرَةِ الْفَوَائِتِ حتى إنَّ من تَرَكَ صَلَاةً وَاحِدَةً فصلى في جَمِيعِ عُمُرِهِ وهو ذَاكِرٌ لِلْفَائِتَةِ فصلاةُ عُمُرِهِ على الْفَسَادِ ما لم يَقْضِ الْفَائِتَةَ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الدَّلِيلَ الْمُوجِبَ لِلتَّرْتِيبِ لَا يُوجِبُ الْفصل بين قَلِيلِ الْفَائِتِ وَكَثِيرِهِ وَلِأَنَّ كَثْرَةَ الْفَوَائِتِ تَكُونُ عن كَثْرَةِ تَفْرِيطِهِ فَلَا يُسْتَحَقُّ بِهِ التَّخْفِيفُ وَلَنَا أَنَّ الْفَوَائِتَ إذَا كَثُرَتْ لو وَجَبَ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ مَعَهَا لَفَاتَتْ الْوَقْتِيَّةِ عن الْوَقْتِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ فيه إبْطَالُ ما ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ الْمَقْطُوعِ بِهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ثُمَّ اُخْتُلِفَ في حَدِّ أَدْنَى الْفَوَائِتِ الْكَثِيرَةِ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنْ تَصِيرَ الْفَوَائِتُ سِتًّا فإذا خَرَجَ وَقْتُ السَّادِسَةِ سَقَطَ التَّرْتِيبُ حتى يَجُوزَ أَدَاءُ السَّابِعَةِ قَبْلَهَا وَرَوَى ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ هو أَنْ تَصِيرَ الْفَوَائِتُ خَمْسًا فإذا دخل وَقْتُ السَّادِسَةِ سَقَطَ التَّرْتِيبُ حتى يَجُوزَ أَدَاءُ السَّادِسَةِ وَعَنْ زُفَرَ أَنَّهُ يَلْزَمهُ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ في صَلَاةِ شَهْرٍ ولم يُرْوَ عنه أَكْثَرُ من شَهْرٍ فَكَأَنَّهُ جَعَلَ حَدَّ الْكَثْرَةِ أَنْ يَزِيدَ على شَهْرٍ وَجْهُ ما رُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّ الْكَثِيرَ في كل باب كُلُّ جِنْسِهِ كَالْجُنُونِ إذَا اسْتَغْرَقَ الشَّهْرَ في باب الصَّوْمِ وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ الْفَوَائِتَ لَا تَدْخُلُ في حَدِّ التَّكْرَارِ بِدُخُولِ وَقْتِ السَّادِسَةِ وَإِنَّمَا تَدْخُلُ بِخُرُوجِ وَقْتِ السَّادِسَةِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ منها تَصِيرُ مُكَرَّرَةً فَعَلَى هذا لو تَرَكَ صَلَاةً ثُمَّ صلى بَعْدهَا خَمْسَ صَلَوَاتٍ وهو ذَاكِرٌ لِلْفَائِتَةِ فإنه يَقْضِيهِنَّ لِأَنَّهُنَّ في حَدِّ الْقِلَّةِ بَعْد وَمُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ وَاجِبَةٌ عِنْدَ قِلَّةِ الْفَوَائِتِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ جَعْلُ الْوَقْتِ وَقْتًا لَهُنَّ على وَجْهٍ لَا يُؤَدِّي إلَى إخْرَاجِهِ من أَنْ يَكُونَ وَقْتًا لِلْوَقْتِيَّةِ فَصَارَ مُؤَدِّيًا كُلَّ صَلَاةٍ منها في وَقْتِ الْمَتْرُوكَةِ وَالْمَتْرُوكَةُ قبل الْمُؤَدَّاةِ فَصَارَ مُؤَدِّيًا الْمُؤَدَّاةَ قبل وَقْتِهَا فلم يَجُزْ‏.‏

وَعَلَى قِيَاسِ ما رُوِيَ عن مُحَمَّدٍ يَقْضِي الْمَتْرُوكَةَ وَأَرْبَعًا بَعْدَهَا لِأَنَّ السَّادِسَةَ جَائِزَةٌ وَلَوْ لم يَقْضِهَا حتى صلى السَّابِعَةَ فَالسَّابِعَةُ جَائِزَةٌ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ وَقْتَ السَّابِعَةِ وَهِيَ الْمُؤَدَّاةُ السَّادِسَةُ لم يُجْعَلْ وَقْتًا لِلْفَوَائِتِ لِأَنَّهُ لو جُعِلَ وَقْتًا لَهُنَّ لَخَرَجَ من أَنْ يَكُونَ وَقْتًا لِلْوَقْتِيَّةِ لِاسْتِيعَابِ تِلْكَ الْفَوَائِتِ هذا الْوَقْتَ وَفِيهِ إبْطَالُ الْعَمَلِ بِالدَّلِيلِ الْمَقْطُوعِ بِهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ على ما بَيَّنَّا فَبَقِيَ وَقْتًا لِلْوَقْتِيَّةِ فإذا أَدَّاهَا حُكِمَ بِجَوَازِهَا لِحُصُولِهَا في وَقْتِهَا بِخِلَافِ ما إذَا كانت الْمُؤَدَّيَاتُ بَعْدَ الْمَتْرُوكَةِ خَمْسًا لِأَنَّ هُنَاكَ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ الْوَقْتُ وَقْتًا لِلْفَائِتَةِ على وَجْهٍ لَا يَخْرُجُ من أَنْ يَكُونَ وَقْتًا لِلْوَقْتِيَّةِ فَيُجْعَلُ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ ثُمَّ إذَا صلى السَّابِعَةَ تَعُودُ الْمُؤَدَّيَاتُ الْخَمْسُ إلَى الْجَوَازِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْفَائِتَةِ وَحْدَهَا اسْتِحْسَانًا وَعَلَى قَوْلِهِمَا عليه قَضَاءُ الْفَائِتَةِ وَخَمْسُ صَلَوَاتٍ بَعْدَهَا وهو الْقِيَاسُ وَعَلَى هذا إذَا تَرَكَ خَمْسَ صَلَوَاتٍ ثُمَّ صلى السَّادِسَةَ وهو ذَاكِرٌ لِلْفَوَائِتِ فَالسَّادِسَةُ مَوْقُوفَةٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ حتى لو صلى السَّابِعَةَ تَنْقَلِبُ السَّادِسَةُ إلَى الْجَوَازِ عِنْدَهُ وَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْخَمْسِ وَعِنْدَهُمَا لَا تَنْقَلِبُ وَعَلَيْهِ قَضَاءُ السِّتِّ وَكَذَلِكَ لو تَرَكَ صَلَاةً ثُمَّ صلى شَهْرًا وهو ذَاكِرٌ لِلْفَائِتَةِ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهَا لَا غَيْرُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا عليه قَضَاءُ الْفَائِتَةِ وَخَمْسٍ بَعْدَهَا إلَّا على قِيَاسِ ما رُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّ عليه قَضَاءَ الْفَائِتَةِ وَأَرْبَعٍ بَعْدَهَا وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ يُعِيدُ الْفَائِتَةَ وَجَمِيعَ ما صلى بَعْدَهَا من صَلَاةِ الشَّهْرِ وَهَذِهِ هي الْمَسْأَلَةُ التي يُقَالُ لها وَاحِدَةٌ تُصَحِّحُ خَمْسًا وَوَاحِدَةٌ تُفْسِدُ خَمْسًا لِأَنَّهُ إنْ صلى السَّادِسَةَ قبل الْقَضَاءِ صَحَّ الْخَمْسُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَإِنْ قَضَى الْمَتْرُوكَةَ قبل أَنْ يُصَلِّي السَّادِسَةَ فَسَدَتْ الْخَمْسُ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ كُلَّ مُؤَدَّاةٍ إلَى الْخَمْسِ حَصَلَتْ في وَقْتِ الْمَتْرُوكَةِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ جَعْلُ ذلك الْوَقْتِ وَقْتًا لِلْمَتْرُوكَةِ لِكَوْنِ الْمَتْرُوكَةِ في حَدِّ الْقِلَّةِ وَوَقْتُ الْمَتْرُوكَةِ قبل وَقْتِ هذه المؤادة ‏[‏المؤداة‏]‏‏.‏

فَحَصَلَتْ الْمُؤَدَّاةُ قبل وَقْتِهَا فَفَسَدَتْ فَلَا مَعْنَى بَعْدَ ذلك لِلْحُكْمِ بِجَوَازِهَا وَلَا لِلْحُكْمِ بِتَوَقُّفِهَا لِلْحَالِ وَأَمَّا وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ فَقَدْ اخْتَلَفَ فيه عِبَارَاتُ الْمَشَايِخِ قال مَشَايِخُ بَلْخٍ إنَّا وَجَدْنَا صَلَاةً بَعْدَ الْمَتْرُوكَةِ جَائِزَةً وَهِيَ السَّادِسَةُ وقد أَدَّاهَا على نَقْصِ التَّرْكِيبِ وَتَرْكِ التَّأْلِيفِ فلذا ‏[‏فكذا‏]‏ يُحْكَمُ بِجَوَازِ ما قَبْلِهَا وَإِنْ أَدَّاهَا على تَرْكِ التَّأْلِيفِ وَنَقْصِ التَّرْكِيبِ وَهَذِهِ نُكْتَةٌ وَاهِيَةٌ لِأَنَّهُ جَمَعَ بين السَّادِسَةِ وَبَيْنَ ما قَبْلِهَا في الْجَوَازِ من غَيْرِ جَامِعٍ بَيْنَهُمَا بَلْ مع قِيَامِ الْمَعْنَى الْمُفَرِّقِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ وَقْتَ السَّادِسَةِ ليس بِوَقْتٍ المتروكة ‏[‏للمتروكة‏]‏ على ما قَرَّرْنَا وَوَقْتُ كل صَلَاةٍ مُؤَدَّاةٍ قبل السَّادِسَةِ وَقْتٌ لِلْمَتْرُوكَةِ فَكَانَ أَدَاءُ السَّادِسَةِ أَدَاءً في وَقْتِهَا فَجَازَتْ وَأَدَاءُ كل مُؤَدَّاةٍ أَدَاءٌ قبل وَقْتِهَا فلم تَجُزْ وقال مَشَايِخُ الْعِرَاقِ إنَّ الْكَثْرَةَ عِلَّةُ سُقُوطِ التَّرْتِيبِ فإذا أَدَّى السَّادِسَةَ فَقَدْ ثَبَتَتْ الْكَثْرَةُ وَهِيَ صِفَةٌ لِلْكُلِّ لَا مَحَالَةَ فَاسْتَنَدَتْ إلَى أَوَّلِ الْمُؤَدَّيَاتِ فتستند ‏[‏فنستند‏]‏ لِحُكْمِهَا فَيَثْبُتُ الْجَوَازُ لِلْكُلِّ وَهَذِهِ نُكْتَةٌ ضَعِيفَةٌ أَيْضًا لِأَنَّ الْكَثْرَةَ وَإِنْ صَارَتْ صِفَةً لِلْكُلِّ لَكِنَّهَا تَثْبُتُ لِلْحَالِ إلَّا أَنْ يَتَبَيَّنَ أَنَّ أَوَّلَ الْمُؤَدَّيَاتِ كما أُدِّيَتْ تَثْبُتُ لها صِفَةُ الْكَثْرَةِ قَبْل وُجُودِ ما يَتَعَقَّبُهَا لِاسْتِحَالَةِ كَثْرَةِ الْوُجُودِ بِمَا هو في حَيِّزِ الْعَدَمِ بَعْد وَلَوْ اتَّصَفَتْ هِيَ بِالْكَثْرَةِ وَلَا تَتَّصِفُ الذَّاتُ بها وَحْدَهَا لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِ الْوَاحِدِ كَثِيرًا بِمَا يَتَعَقَّبُهَا من الْمُؤَدَّيَاتِ وَتِلْكَ مَعْدُومَةً فَيُؤَدِّي إلَى اتِّصَافِ الْمَعْدُومِ بِالْكَثْرَةِ وهو مُحَالٌ فَدَلَّ أَنَّ صِفَةَ الْكَثْرَةِ تَثْبُت لِلْكُلِّ مُقْتَصِرًا على وُجُودِ الْأَخِيرَةِ منها كما إذَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى جَوْهَرًا وَاحِدًا لم يَتَّصِفْ بِكَوْنِهِ مُجْتَمِعًا فَلَوْ خُلِقَ مُنْضَمًّا إلَيْهِ جوهرا ‏[‏جوهر‏]‏ آخَرُ لَا يُطْلَقُ اسْمُ الْمُجْتَمِعِ على كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُقْتَصِرًا على الْحَالِ لِمَا بَيَّنَّا فَكَذَا هذا على أَنَّا إنْ سَلَّمْنَا هذه الدَّعْوَى الْمُمْتَنِعَةَ على طَرِيقِ الْمُسَاهَلَةِ فَلَا حُجَّةَ لهم فيها أَيْضًا لِأَنَّ الْمُؤَدَّاةَ الْأُولَى وَإِنْ اتَّصَفَتْ بِالْكَثْرَةِ من وَقْتِ وُجُودِهَا لَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَحْكُمَ بِجَوَازِهَا وَسُقُوطِ التَّرْتِيبِ لِأَنَّ سُقُوطَ التَّرْتِيبِ كان مُتَعَلِّقًا لِمَعْنًى وهو اسْتِيعَابُ الْفَوَائِتِ وَقْتَ الصَّلَاةِ وَتَفْوِيتُ الْوَقْتِيَّةِ عن وَقْتِهَا عِنْدَ وُجُوبِ مُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ فلم تَجِبْ الْمُرَاعَاةُ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى إبْطَالِ ما ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ الْمَقْطُوعِ بِهِ بِمَا ثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِد وَهَذَا الْمَعْنَى مُنْعَدِمٌ في الْمُؤَدَّيَاتِ الْخَمْسِ وَإِنْ اتَّصَفَتْ بِالْكَثْرَةِ وَلِأَنَّ هذا يُؤَدِّي إلَى الدَّوْرِ فإن الْجَوَازَ وَسُقُوطَ التَّرْتِيبِ بِسَبَبِ صِفَةِ كَثْرَةِ الْفَوَائِتِ وَمَتَى حُكِمَ بِالْجَوَازِ لم تَبْقَ كَثْرَةُ الْفَوَائِتِ فَيَجِيءُ التَّرْتِيبُ وَمَتَى جاء التَّرْتِيبُ جاء الْفَسَادُ فَلَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِالْجَوَازِ فَثَبَتَ أَنَّ الْوَجْهَيْنِ غَيْرُ صَحِيحَيْنِ وَالْوَجْهُ الصَّحِيحُ لِتَصْحِيحِ مَذْهَبِ أبي حَنِيفَةَ ما ذَكَرَهُ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أبو الْمُعِينِ وهو أَنَّ أَدَاءَ السَّادِسَةِ من الْمُؤَدَّيَاتِ حَصَلَ في وَقْتٍ وهو وَقْتُهَا بِالدَّلَائِلِ أَجْمَعِ وَلَيْسَ بِوَقْتٍ لِلْفَائِتَةِ بِوَجْهٍ من الْوُجُوهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ في جَعْلِ هذا الْوَقْتِ وَقْتًا لِلْفَائِتَةِ إبْطَالَ الْعَمَلِ بِالدَّلِيلِ الْمَقْطُوعِ بِهِ فَسَقَطَ الْعَمَلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ أَصْلًا وَانْتَهَى ما هو وَقْتُ الْفَائِتَةِ فإذا قُضِيَتْ الْفَائِتَةُ بَعْدَ‏.‏

أَدَاءِ السَّادِسَةِ من الْمُؤَدَّيَاتِ الْتَحَقَتْ بِمَحَلِّهَا الْأَصْلِيِّ وهو وَقْتُهَا الْأَصْلِيُّ لأنه ‏[‏لأنها‏]‏ لَا بُدَّ لها من مَحَلٍّ فَالْتِحَاقُهَا بِمَحَلِّهَا أَوْلَى لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا مُزَاحِمَ لها في ذلك الْوَقْتِ لِأَنَّهُ وَقْتٌ مُتَعَيَّنٌ له وَلَهُ في هذا الْوَقْتِ مُزَاحِمٌ لِأَنَّهُ وَقْتُ خَمْسِ صَلَوَاتٍ وَلَيْسَ الْبَعْضُ في الْقَضَاءِ في هذا الْوَقْتِ أَوْلَى من الْبَعْضِ فَالْتِحَاقُهَا بِوَقْتٍ لَا مُزَاحِمَ لها فيه أَوْلَى وَالثَّانِي أَنَّ ذلك وَقْتُهُ بِالدَّلِيلِ الْمَقْطُوعِ بِهِ وَهَذَا وَقْتُ غَيْرِهِ بِالدَّلِيلِ الْمَقْطُوعِ بِهِ وَإِنَّمَا يُجْعَلُ وَقْتًا له بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَيُرَجَّحُ ذلك على هذا فَالْتَحَقَتْ بِمَحَلِّهَا الْأَصْلِيِّ حُكْمًا وَالثَّابِتُ حُكْمًا كَالثَّابِتِ حَقِيقَةً وإذا الْتَحَقَتْ بِمَحَلِّهَا الْأَصْلِيِّ تَبَيَّنَ أَنَّ الْخَمْسَ الْمُؤَدَّيَاتِ أُدِّيَتْ في أَوْقَاتِهَا فَحُكِمَ بِجَوَازِهَا بِخِلَافِ ما إذَا قُضِيَتْ الْمَتْرُوكَةُ قبل أَدَاءِ السَّادِسَةِ لِأَنَّهَا قُضِيَتْ في وَقْتٍ هو وَقْتُهَا من حَيْثُ الظَّاهِرُ لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ أَوْجَبَ كَوْنَهُ وَقْتًا لها ‏(‏فإذا قُضِيَتْ فِيمَا هو وَقْتُهَا ظَاهِرًا تَتَقَرَّرُ فيه‏)‏ وَلَا تَلْتَحِقُ بِمَحَلِّهَا الْأَصْلِيِّ فلم يَتَبَيَّنْ أَنَّ الْمُؤَدَّيَاتِ الْخَمْسَ أُدِّيَتْ بَعْدَ الْفَائِتَةِ بَلْ تَبَيَّنَ أنها أُدِّيَتْ قبل الْفَائِتَةِ لِاسْتِقْرَارِ الْفَائِتَةِ بِمَحَلِّ قَضَائِهَا وَعَدَمِ الْتِحَاقِهَا بِمَحَلِّهَا الْأَصْلِيِّ فَحُكِمَ بِفَسَادِ الْمُؤَدَّيَاتِ وَبِخِلَافِ حَالِ النِّسْيَانِ وَضِيقِ الْوَقْتِ إذَا أَدَّى الْوَقْتِيَّةَ ثُمَّ قَضَى الْفَائِتَةَ حَيْثُ لَا تَجِبُ إعَادَةُ الْوَقْتِيَّةِ وَلَوْ الْتَحَقَتْ الْفَائِتَةُ بِمَحِلِّهَا الْأَصْلِيِّ لَوَجَبَ إعَادَةُ الْوَقْتِيَّةِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أنها حَصَلَتْ قبل وَقْتِ الْفَائِتَة لِأَنَّ هُنَاكَ المؤدي حَصَلَ في وَقْتٍ هو وَقْتٌ لها من جَمِيعِ الْوُجُوهِ على ما مَرَّ فَأَدَاءُ الْفَائِتَةِ بَعْدَ ذلك لَا يُخْرِجُ هذا الْوَقْتَ من أَنْ يَكُونَ وَقْتًا لِلْمُؤَدَّاةِ فَتَقَرَّرَتْ الْمُؤَدَّاةُ في مَحَلِّهَا من جَمِيعِ الْوُجُوهِ وَالْتَحَقَتْ الْفَائِتَةُ في حَقِّ الْمُؤَدَّاةِ بِصَلَاةِ وَقْتِهَا بَعْدَ وَقْتِ الْمُؤَدَّاةِ فلم يُؤَثِّرْ ذلك في إفْسَادِ الْمُؤَدَّاةِ وَهَذَا بِخِلَافِ ما إذَا قام الْمُصَلِّي وَقَرَأَ وَسَجَدَ ثُمَّ رَكَعَ حَيْثُ لم يَلْتَحِقْ الرُّكُوعُ بِمَحَلِّهِ وهو قبل السُّجُودِ حتى كان لَا يَجِبُ إعَادَةُ السُّجُودِ وَمَعَ ذلك لم يَلْتَحِقْ حتى يَجِبَ إعَادَةُ السُّجُودِ لِأَنَّ الشَّيْءَ إنَّمَا يُجْعَلُ حَاصِلًا في مَحَلِّهِ أَنْ لو وُجِدَ شَيْءٌ آخَرُ في مَحَلِّهِ بَعْدَهُ وَوَقَعَ ذلك الشَّيْءُ مُعْتَبَرًا في نَفْسِهِ فإذا حَصَلَ هذا الْتَحَقَ بِمَحَلِّهِ وَهُنَاكَ السُّجُودُ وَقَعَ قبل أَوَانِهِ فما وَقَعَ مُعْتَبَرًا فَلَغَا فَبَعْدَ ذلك كان الرُّكُوعُ حَاصِلًا في مَحَلِّهِ فَلَا بُدَّ من تَحْصِيلِ السَّجْدَةِ بَعْدَ ذلك في مَحَلِّهَا وَالله الموفق‏.‏

وَقَالُوا فِيمَنْ تَرَكَ صَلَوَاتٍ كَثِيرَةً مَجَانَةً ثُمَّ نَدِمَ على ما صَنَعَ وَاشْتَغَلَ بِأَدَاءِ الصَّلَوَاتِ في مَوَاقِيتِهَا قبل أَنْ يَقْضِيَ شيئا من الْفَوَائِتِ فَتَرَكَ صَلَاةً ثُمَّ صلى أُخْرَى وهو ذَاكِرٌ لِهَذِهِ الْفَائِتَةِ الْحَدِيثَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَيَجْعَلُ الْفَوَائِتَ الْكَثِيرَةَ الْقَدِيمَةَ كَأَنَّهَا لم تَكُنْ وَيَجِبُ عليه مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ وَالْقِيَاسُ أَنْ يَجُوزَ لِأَنَّ التَّرْتِيبَ قد سَقَطَ عنه لِكَثْرَةِ الْفَوَائِتِ وَتُضَمُّ هذه الْمَتْرُوكَةُ إلَى ما مَضَى إلَّا أَنَّ الْمَشَايِخَ اسْتَحْسَنُوا فقال ‏[‏فقالوا‏]‏ إنَّهُ لَا يَجُوزُ احْتِيَاطًا زَجْرًا لِلسُّفَهَاءِ عن التَّهَاوُنِ بِأَمْرِ الصَّلَاةِ وَلِئَلَّا تَصِيرَ الْمَقْضِيَّةُ وَسِيلَةً إلَى التَّخْفِيفِ‏.‏

ثُمَّ كَثْرَةُ الْفَوَائِتِ كما تُسْقِطُ التَّرْتِيبَ في الْأَدَاءِ تُسْقِطُهُ في الْقَضَاءِ لِأَنَّهَا لَمَّا عَمِلَتْ في إسْقَاطِ التَّرْتِيبِ في غَيْرِهَا فَلَأَنْ تَعْمَلَ في نَفْسِهَا أَوْلَى حتى لو قَضَى فَوَائِتَ الْفَجْرِ كُلَّهَا ثُمَّ الظُّهْرَ كُلَّهَا ثُمَّ الْعَصْرَ كُلَّهَا هَكَذَا جَازَ وَرَوَى ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ فِيمَنْ تَرَكَ صَلَاةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَصَلَّى من الْغَدِ مع كل صَلَاةِ صَلَاةً قال الْفَوَائِتُ كُلُّهَا جَائِزَةٌ سَوَاءٌ قَدَّمَهَا أو أَخَّرَهَا وَأَمَّا الْوَقْتِيَّةُ فَإِنْ قَدَّمَهَا لم يَجُزْ شَيْءٌ منها لِأَنَّهُ مَتَى صلى وَاحِدَةً منها صَارَتْ الْفَوَائِتُ سِتًّا لَكِنَّهُ مَتَى قَضَى فَائِتَةً بَعْدَهَا عَادَتْ خَمْسًا ثَمَّ وَثَمَّ فَلَا تَعُودُ إلَى الْجَوَازِ وَإِنْ أَخَّرَهَا لم يَجُزْ شَيْءٌ منها إلَّا الْعِشَاءُ الْأَخِيرَةُ لِأَنَّهُ كُلَّمَا قَضَى فَائِتَةً عَادَتْ الْفَوَائِتُ أَرْبَعًا وَفَسَدَتْ الْوَقْتِيَّةُ إلَّا الْعِشَاءُ لِأَنَّهُ صَلَّاهَا وَعِنْدَهُ أَنَّ جَمِيعَ ما عليه قد قَضَاهُ فَأَشْبَهَ النَّاسِي وَأَمَّا التَّرْتِيبُ في أَفْعَالِ الصَّلَاةِ فإنه ليس بِشَرْطٍ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ شَرْطٌ وَبَيَانُ ذلك في مَسَائِلَ إذَا أَدْرَكَ أَوَّلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ ثُمَّ نَامَ خَلْفَهُ أو سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَسَبَقَهُ الْإِمَامُ بِبَعْضِ الصَّلَاةِ ثُمَّ انْتَبَهَ من نَوْمِهِ أو عَادَ من وُضُوئِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ ما سَبَقَهُ الْإِمَامُ بِهِ ثُمَّ يُتَابِعَ إمَامَهُ لِمَا يَذْكُرُ وَلَوْ تَابَعَ إمَامَهُ أَوَّلًا ثُمَّ قَضَى ما فَاتَهُ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْإِمَامِ جَازَ عِنْدنَا وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَجُوزُ وَكَذَلِكَ إذَا زَحَمَهُ الناس في صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ فلم يَقْدِرْ على أَدَاءِ الرَّكْعَةِ الْأُولَى مع الْإِمَامِ بَعْدَ الِاقْتِدَاءِ بِهِ وَبَقِيَ قَائِمًا‏.‏

وَأَمْكَنَهُ أَدَاءُ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مع الْإِمَامِ قبل أَنْ يُؤَدِّي الْأُولَى ثُمَّ قَضَى الْأُولَى بَعْدَ تَسْلِيمِ الْإِمَامِ أَجْزَأَهُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يُجْزِئُهُ وَكَذَلِكَ لو تَذَكَّرَ سَجْدَةً في الرُّكُوعِ وَقَضَاهَا أو سَجْدَةً في السَّجْدَةِ وَقَضَاهَا فَالْأَفْضَلُ أَنْ يُعِيدَ الرُّكُوعَ أو السُّجُودَ الذي هو فِيهِمَا وَلَوْ اعْتَدَّ بِهِمَا ولم يُعِدْ أَجْزَأَهُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَجُوزُ له أَنْ يَعْتَدَّ بِهِمَا وَعَلَيْهِ إعَادَتُهُمَا‏.‏

وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ الْمَأْتِيَّ بِهِ في هذه الْمَوَاضِعَ وَقَعَ في غَيْرِ محله ‏(‏لأن محله بعد إذا ما عليه فإذا أتى به قبله لم يصادفه مَحَلِّهِ‏(‏ فَلَا يَقَعُ مُعْتَدًّا بِهِ كما إذَا قَدَّمَ السُّجُودَ على الرُّكُوعِ وَجَبَ عليه إعَادَةُ السُّجُودِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا وَلَنَا قَوْلُ النبي صلى الله عليه وسلم ما أَدْرَكْتُمْ فصلوا وما فَاتَكُمْ فَاقْضُوا وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَمْرٌ بِمُتَابَعَةِ الْإِمَامِ فِيمَا أَدْرَكَ بِحَرْفِ الْفَاءِ الْمُقْتَضِي لِلتَّعْقِيبِ بِلَا فصل ثُمَّ أَمْرٌ بِقَضَاءِ الْفَائِتَةِ وَالْأَمْرُ دَلِيلُ الْجَوَازِ وَلِهَذَا يَبْدَأُ الْمَسْبُوقُ بِمَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ فيه لَا بِمَا سَبَقَهُ وَإِنْ كان ذلك أَوَّلَ صَلَاتِهِ وقد أَخَّرَهُ‏.‏

وَالثَّانِي أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا في الْأَمْرِ بِحَرْفِ الْوَاو وَأَنَّهُ لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ فَأَيُّهُمَا فَعَلَ يَقَعُ مَأْمُورًا بِهِ فَكَانَ مُعْتَدًّا بِهِ إلَّا أَنَّ الْمَسْبُوقَ صَارَ مَخْصُوصًا بِقَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلم سَنَّ لَكُمْ مُعَاذٌ سُنَّةً حَسَنَةً فَاسْتَنُّوا بها وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ في الْمَسْأَلَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ بِظَاهِرِهِ وَبِضَرُورَتِهِ في الْمَسْأَلَةِ الثَّالِثَةِ لِأَنَّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ من أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ فَإِسْقَاطُ التَّرْتِيبِ في نَفْسِ الصَّلَاةِ إسْقَاطٌ فِيمَا هو من أَجْزَائِهَا ضَرُورَةٌ إلَّا أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِالسُّجُودِ قبل الرُّكُوعِ لِأَنَّ السُّجُودَ لِتَقْيِيدِ الرَّكْعَةِ بِالسَّجْدَةِ وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ قبل الرُّكُوعِ على ما يُذْكَرُ في سُجُودِ السَّهْوِ إن شاء الله تعالى‏.‏

هذا الذي ذَكَرْنَا بَيَانَ شَرَائِطِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَهِيَ الشَّرَائِطُ الْعَامَّةُ التي تَعُمُّ الْمُنْفَرِدَ وَالْمُقْتَدِيَ جميعا فَأَمَّا الذي يَخُصُّ الْمُقْتَدِيَ وهو شَرَائِطُ جَوَازِ الِاقْتِدَاءِ بِالْإِمَامِ في صَلَاتِهِ فَالْكَلَامُ فيه في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في بَيَانِ رُكْنِ الِاقْتِدَاءِ وَالثَّانِي في بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ أما رُكْنُهُ فَهُوَ نِيَّةُ الِاقْتِدَاءِ بِالْإِمَامِ وقد ذُكِرَ تَفْسِيرُهَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَأَنْوَاعٌ منها الشِّرْكَةُ في الصَّلَاتَيْنِ وَاتِّحَادُهُمَا سَبَبًا وَفِعْلًا وَوَصْفًا لِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ بِنَاءُ التَّحْرِيمَةِ على التَّحْرِيمَةِ فَالْمُقْتَدِي عَقَدَ تَحْرِيمَتَهُ لِمَا انْعَقَدَتْ له تَحْرِيمَةُ الْإِمَامِ فَكُلَّمَا انْعَقَدَتْ له تَحْرِيمَةُ الْإِمَامِ جَازَ الْبِنَاءُ من الْمُقْتَدِي وما لَا فَلَا وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالشِّرْكَةِ في الصَّلَاتَيْنِ وَاتِّحَادُهُمَا من الْوُجُوهِ الذي وَصَفْنَا وَعَلَى هذا الْأَصْلِ يَخْرُجُ مَسَائِلُ الْمُقْتَدِي إذَا سَبَقَ الْإِمَامَ بِالِافْتِتَاحِ لم يَصِحَّ اقْتِدَاؤُهُ لِأَنَّ مَعْنَى الِاقْتِدَاءِ وهو الْبِنَاءُ لَا يُتَصَوَّرَ هَهُنَا لِأَنَّ الْبِنَاءَ على الْعَدَمِ مُحَالٌ وقال النبي صلى الله عليه وسلم إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلَا تَخْتَلِفُوا عليه وما لم يُكَبِّرْ الْإِمَامُ لَا يَتَحَقَّقُ الِائْتِمَامُ بِهِ وَكَذَا إذَا كَبَّرَ قَبْلَهُ فَقَدْ اخْتَلَفَ عليه وَلَوْ جَدَّدَ التَّكْبِيرَ بَعْدَ تَكْبِيرِ الْإِمَامِ بِنِيَّةِ الدُّخُولِ في صَلَاتِهِ أَجْزَأَهُ لِأَنَّهُ صَارَ قَاطِعًا لِمَا كان فيه شَارِعًا في صَلَاةِ الْإِمَامِ كَمَنْ كان في النَّفْلِ فَكَبَّرَ وَنَوَى الْفَرْضَ يَصِيرُ خَارِجًا من النَّفْلِ دَاخِلًا في الْفَرْضِ وَكَمَنْ بَاعَ بِأَلْفٍ ثُمَّ بألفين ‏[‏ألفين‏]‏ كان فَسْخًا لِلْأَوَّلِ وَعَقْدًا آخَرَ كَذَا هذا وَلَوْ لم يُجَدِّدْ حتى لم يَصِحَّ اقْتِدَاؤُهُ هل يَصِيرُ شَارِعًا في صَلَاةِ نَفْسِهِ أَشَارَ في كتاب الصَّلَاةِ إلَى أَنَّهُ يَصِيرُ شَارِعًا لِأَنَّهُ عَلَّلَ فِيمَا إذَا جَدَّدَ التَّكْبِيرَ وَنَوَى الدُّخُولَ في صَلَاةِ الْإِمَامِ فقال التَّكْبِيرُ الثَّانِي قَطْعٌ لِمَا كان فيه وَأَشَارَ في نَوَادِرِ أبي سُلَيْمَانَ إلَى أَنَّهُ لَا يَصِيرُ شَارِعًا في نَفْسِهِ فإنه ذَكَرَ أَنَّهُ لو قَهْقَهَ لَا تُنْتَقَضُ طَهَارَتُهُ ثُمَّ من مَشَايِخِنَا من حَمَلَ اخْتِلَافَ الْجَوَابِ على اخْتِلَافِ مَوْضُوعِ الْمَسْأَلَةِ فقال مَوْضُوعُ الْمَسْأَلَةِ في النَّوَادِرِ أَنَّهُ إذَا كَبَّرَ ظَنًّا منه أَنَّ الْإِمَامَ كَبَّرَ فَيَصِيرَ مُقْتَدِيًا بِمَنْ ليس في الصَّلَاةِ كَالْمُقْتَدِي بِالْمُحْدِثِ وَالْجُنُبِ وَمَوْضُوعُ الْمَسْأَلَةِ في كتاب الصَّلَاةِ أَنَّهُ كَبَّرَ على عِلْمٍ منه أَنَّ الْإِمَامَ لم يُكَبِّرْ فَيَصِيرُ شَارِعًا في صَلَاةِ نَفْسِهِ وَمِنْهُمْ من حَقَّقَ الِاخْتِلَافَ بين الرِّوَايَتَيْنِ‏.‏

وَجْهُ رِوَايَةِ النَّوَادِرِ أَنَّهُ نَوَى الِاقْتِدَاءَ بِمَنْ ليس في الصَّلَاةِ فَلَا يَصِيرُ شَارِعًا في صَلَاةِ نَفْسِهِ كما لو اقْتَدَى بِمُشْرِكٍ أو جُنُبٍ أو بِمُحْدِثٍ وَهَذَا لِأَنَّ صَلَاةَ الْمُنْفَرِدِ غَيْرُ صَلَاةِ الْمُقْتَدِي بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُنْفَرِدَ لو اسْتَأْنَفَ التَّكْبِيرَ نَاوِيًا الشُّرُوعَ في صَلَاةِ الْإِمَامِ صَارَ شَارِعًا مُسْتَأْنِفًا وَاسْتِقْبَالُ ما هو فيه لَا يُتَصَوَّرُ دَلَّ أَنَّ هذه الصَّلَاةَ غَيْرُ تِلْكَ الصَّلَاةِ فَلَا يَصِيرُ شَارِعًا في إحْدَاهُمَا بِنِيَّةِ الْأُخْرَى وَجْهُ ما ذُكِرَ في كتاب الصَّلَاةِ أَنَّهُ نَوَى شَيْئَيْنِ الدُّخُولَ في الصَّلَاةِ وَالِاقْتِدَاءَ بِالْإِمَامِ فَبَطَلَتْ إحْدَى نِيَّتَيْهِ وَهِيَ نِيَّةُ الِاقْتِدَاءِ لِأَنَّهَا لم تُصَادِفْ مَحَلَّهَا فَتَصِحُّ الْأُخْرَى وَهِيَ نِيَّةُ الصَّلَاةِ وَصَارَ كَالشَّارِعِ في الْفَرْضِ على ظَنِّ أَنَّهُ عليه وَلَيْسَ عليه بِخِلَافِ ما إذَا اقْتَدَى بِالْمُشْرِكِ وَالْمُحْدِثِ وَالْجُنُبِ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا من أَهْلِ الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فَصَارَ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ مُلْغِيًا صَلَاتَهُ فأما هذا فَمِنْ أَهْلِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ وَالصَّلَاةُ خَلْفَهُ مُعْتَبَرَةٌ فلم يَصِرْ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ مُلْغِيًا صَلَاتَهُ هذا إذَا كَبَّرَ الْمُقْتَدِي وَعَلِمَ أَنَّهُ كَبَّرَ قبل الْإِمَامِ فَأَمَّا إذَا كَبَّرَ ولم يَعْلَمْ أَنَّهُ كَبَّرَ قبل الْإِمَامِ أو بَعْدَهُ ذَكَرَ هذه الْمَسْأَلَةَ في الْهَارُونِيَّاتِ وَجَعَلَهَا على ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إنْ كان أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ كَبَّرَ قبل الْإِمَامِ لَا يَصِيرُ شَارِعًا في صَلَاةِ الْإِمَامِ وَإِنْ كان أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ كَبَّرَ بَعْدَ الْإِمَامِ يَصِيرُ شَارِعًا في صَلَاتِهِ لِأَنَّ غَالِبَ الرَّأْيِ حُجَّةٌ عِنْدَ عَدَمِ الْيَقِينِ بِخِلَافِهِ وَإِنْ لم يَقَعْ رَأْيُهُ على شَيْءٍ فَالْأَصْلُ فيه هو الْجَوَازُ ما لم يَظْهَرْ أَنَّهُ كَبَّرَ قبل الْإِمَامِ بِيَقِينٍ وَيُحْمَلُ على الصَّوَابِ احْتِيَاطًا ما لم يَسْتَيْقِنْ بِالْخَطَأِ كما قُلْنَا في باب الصَّلَاةِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ في جِهَةِ الْقِبْلَةِ ولم يَخْطُرْ بِبَالِهِ شَيْءٌ ولم يَشُكَّ أَنَّ الْجِهَةَ التي صلى إلَيْهَا قِبْلَةٌ أَمْ لَا أنه يَقْضِي بِجَوَازِهَا ما لم يَظْهَرْ خطأه بِيَقِينٍ وَكَذَا في باب الزَّكَاةِ كَذَلِكَ هَهُنَا وَلَوْ كَبَّرَ الْمُقْتَدِي مع الْإِمَامِ إلَّا أَنَّ الْإِمَامَ طَوَّلَ قَوْلَهُ حتى فَرَغَ الْمُقْتَدِي من قَوْلِهِ اللَّهُ أَكْبَرُ قبل أَنْ يَفْرُغَ الْإِمَامُ من قَوْلِهِ اللَّهُ لم يَصِرْ شَارِعًا في صَلَاةِ الْإِمَامِ كَذَا رَوَى ابن سِمَاعَةَ في نَوَادِرِهِ وَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ هذه الْمَسْأَلَةُ بِالِاتِّفَاقِ أَمَّا على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَلِأَنَّهُ يَصِحُّ الشُّرُوعُ في الصَّلَاةِ بِقَوْلِهِ اللَّهُ وَحْدَهُ فإذا فَرَغَ الْمُقْتَدِي من ذلك قبل فَرَاغِ الْإِمَامِ صَارَ شَارِعًا في صَلَاةِ نَفْسِهِ فَلَا يَصِيرُ شَارِعًا في صَلَاةِ الْإِمَامِ وَأَمَّا على قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَلِأَنَّ الشُّرُوعَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِذِكْرِ الِاسْمِ وَالنَّعْتِ فَلَا بُدَّ من الْمُشَارَكَةِ في ذِكْرِهِمَا فإذا سَبَقَ الْإِمَامَ بِالِاسْمِ حَصَلَتْ الْمُشَارَكَةُ في ذِكْرِ النَّعْتِ لَا غير وهو غَيْرُ كَافٍ لِصِحَّةِ الشُّرُوعِ في الصَّلَاةِ وَعَلَى هذا لَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ اللَّابِسِ بِالْعَارِي لِأَنَّ تَحْرِيمَةَ الْإِمَامِ ما انْعَقَدَتْ بها الصَّلَاةُ مع السِّتْرِ فَلَا يُقْبَلُ الْبِنَاءُ لِاسْتِحَالَةِ الْبِنَاءِ على الْعَدَمِ وَلِأَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ شَرْطٌ لَا صِحَّةَ لِلصَّلَاةِ بِدُونِهَا في الْأَصْلِ إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ اعْتِبَارُ هذا الشَّرْطِ في حَقِّ الْعَارِي لِضَرُورَةِ الْعَدَمِ وَلَا ضَرُورَةَ في حَقِّ الْمُقْتَدِي فَلَا يَظْهَرُ سُقُوطُ الشَّرْطِ في حَقِّهِ فلم تَكُنْ صَلَاةً في حَقِّهِ فلم يَتَحَقَّقْ مَعْنَى الِاقْتِدَاءِ وهو الْبِنَاءُ لِأَنَّ الْبِنَاءَ على الْعَدَمِ مُسْتَحِيلٌ‏.‏

وَلَا يَصِحُّ اقْتِدَاءُ الصَّحِيحِ بِصَاحِبِ الْعُذْرِ الدَّائِمِ لِأَنَّ تَحْرِيمَةَ الْإِمَامِ ما انْعَقَدَتْ لِلصَّلَاةِ مع انْقِطَاعِ الدَّم فَلَا يَجُوزُ الْبِنَاءُ وَلِأَنَّ النَّاقِضَ لِلطَّهَارَةِ مَوْجُودٌ لَكِنْ لم يَظْهَرْ في حَقِّ صَاحِبِ الْعُذْرِ لِلْعُذْرِ وَلَا عُذْرَ في حَقِّ الْمُقْتَدِي ولا ‏[‏فلا‏]‏ يَجُوزُ اقْتِدَاءُ القارىء بِالْأُمِّيِّ وَالْمُتَكَلِّمِ بِالْأَخْرَسِ لِأَنَّ تَحْرِيمَةَ الْإِمَامِ ما انْعَقَدَتْ لِلصَّلَاةِ بِقِرَاءَةٍ فَلَا يَجُوزُ الْبِنَاءُ من الْمُقْتَدِي وَلِأَنَّ الْقِرَاءَةَ رُكْنٌ لَكِنَّهُ سَقَطَ عن الْأُمِّيِّ وَالْأَخْرَسِ لِلْعُذْرِ وَلَا عُذْرَ في حَقِّ الْمُقْتَدِي وَكَذَا لَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْأُمِّيِّ بالأخرى ‏[‏بالأخرس‏]‏ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الِاقْتِدَاءَ بِنَاءُ التَّحْرِيمَةِ على تَحْرِيمَةِ الْإِمَامِ وَلَا تَحْرِيمَةَ من الْإِمَامِ أَصْلًا فَاسْتَحَالَ الْبِنَاءُ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ جَوَّزَ صَلَاتَهُ بِلَا تَحْرِيمَةٍ لِلضَّرُورَةِ وَلِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ من شَرَائِطِ الصَّلَاةِ لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ بِدُونِهَا في الْأَصْلِ وَإِنَّمَا سَقَطَتْ عن الْأَخْرَسِ لِلْعُذْرِ وَلَا عُذْرَ في حَقِّ الْأُمِّيِّ لِأَنَّهُ قَادِرٌ على التَّحْرِيمَةِ فَنَزَلَ الْأُمِّيُّ الذي يَقْدِرُ على التَّحْرِيمَةِ من الْأَخْرَسِ مَنْزِلَةَ القارىء من الْأُمِّيِّ حتى أَنَّهُ لو لم يَقْدِرْ على التَّحْرِيمَةِ جَازَ اقْتِدَاؤُهُ بِالْأَخْرَسِ لِاسْتِوَائِهِمَا في الدَّرَجَةِ وَلَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ من يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ بالمومىء ‏[‏بالمومئ‏]‏ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ يَجُوزُ‏.‏

وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ فَرْضَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ سَقَطَ إلَى خَلْفٍ وهو الْإِيمَاءُ وَأَدَاءُ الْفَرْضِ بِالْخَلْفِ كَأَدَائِهِ بِالْأَصْلِ وَصَارَ كَاقْتِدَاءِ الْغَاسِلِ بِالْمَاسِحِ والمتوضىء ‏[‏والمتوضئ‏]‏ بِالْمُتَيَمِّمِ

وَلَنَا أَنَّ تَحْرِيمَةَ الْإِمَامِ ما انْعَقَدَتْ لِلصَّلَاةِ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْإِيمَاءُ وَإِنْ كان يَحْصُلُ فيه بَعْضُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لِمَا أَنَّهُمَا لِلِانْحِنَاءِ وَالتَّطَأْطُؤِ وقد وُجِدَ أَصْلُ الِانْحِنَاءِ وَالتَّطَأْطُؤِ في الْإِيمَاءِ فَلَيْسَ فيه كَمَالُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ تَنْعَقِدُ تَحْرِيمَتُهُ لِتَحْصِيلِ وَصْفِ الْكَمَالِ فلم يُمْكِنُ بِنَاءُ كَمَالِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ على تِلْكَ التَّحْرِيمَةِ وَلِأَنَّهُ لَا صِحَّةَ لِلصَّلَاةِ بِدُونِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ في الْأَصْلِ لِأَنَّهُ فَرْضٌ وَإِنَّمَا سَقَطَ عن المومىء ‏[‏المومئ‏]‏ لِلضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ في حَقِّ الْمُقْتَدِي فلم يَكُنْ ما أتى بِهِ المومىء ‏[‏المومئ‏]‏ صَلَاةً شَرْعًا في حَقِّهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْبِنَاءُ وقد خَرَجَ الْجَوَابُ عن قَوْلِهِ أَنَّهُ خَلْفٌ لِأَنَّا نَقُولُ ليس كَذَلِكَ بَلْ هو تَحْصِيلُ بَعْضِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ إلَّا أَنَّهُ اكْتَفَى بِتَحْصِيلِ بَعْضِ الْفَرْضِ في حَالَةِ الْعُذْرِ لَا أَنْ يَكُونَ خَلْفًا بِخِلَافِ الْمَسْحِ مع الْغَسْلِ وَالتَّيَمُّمِ مع الْوُضُوءِ لِأَنَّ ذلك خَلْفٌ فَأَمْكَنَ أَنْ يُقَامَ مَقَامَ الْأَصْلِ وَلَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ من يوميء قَاعِدًا أو قَائِمًا بِمَنْ يوميء مُضْطَجِعًا لِأَنَّ تَحْرِيمَةَ الْإِمَامِ ما انْعَقَدَتْ لِلْقِيَامِ أو الْقُعُودِ فَلَا يَجُوزُ الْبِنَاءُ ثُمَّ صَلَاةُ الْإِمَامِ صَحِيحَةٌ في هذه الْفُصُولِ كُلِّهَا إلَّا في فصل وَاحِدٍ وهو أَنَّ الْأُمِّيَّ إذَا أَمَّ القارىء أو القارىء وَالْأُمِّيِّينَ فصلاةُ الْكُلِّ فَاسِدَةٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ صَلَاةُ الْإِمَامِ الْأُمِّيِّ وَمَنْ لَا يَقْرَأُ تَامَّةٌ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْإِمَامَ صَاحِبُ عُذْرٍ اقْتَدَى بِهِ من هو بِمِثْلِ حَالِهِ وَمَنْ لَا عُذْرَ له فَتَجُوزُ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ من هو بِمِثْلِ حَالِهِ كَالْعَارِي إذَا أَمَّ الْعُرَاةَ أو ‏[‏واللابسين‏]‏ اللابسين وَصَاحِبُ الْجُرْحِ السَّائِلِ يَؤُمُّ الْأَصِحَّاءَ وَأَصْحَابَ الْجِرَاحِ والمومىء ‏[‏والمومئ‏]‏ إذَا أَمَّ المؤمنين ‏[‏المومئين‏]‏ وَالرَّاكِعِينَ وَالسَّاجِدِينَ أَنَّهُ تَصِحُّ صَلَاةُ الْإِمَامِ وَمَنْ بِمِثْلِ حَالِهِ كَذَا هَهُنَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ طَرِيقَتَانِ في الْمَسْأَلَةِ إحْدَاهُمَا ما ذَكَرَهُ الْقُمِّيُّ وهو أَنَّهُمْ لَمَّا جاؤوا مُجْتَمِعِينَ لِأَدَاءِ هذه الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ والأمي ‏[‏فالأمي‏]‏ قَادِرٌ على أَنْ يَجْعَلَ صَلَاتَهُ بِقِرَاءَةٍ بِأَنْ يُقَدِّمَ القارىء فَيَقْتَدِيَ بِهِ فَتَكُونَ قِرَاءَتُهُ قِرَاءَةً له قال من كان له إمَامٌ فَقِرَاءَةُ الْإِمَامِ له قِرَاءَةٌ فإذا لم يَفْعَلْ فَقَدْ تَرَكَ أَدَاءَ الصَّلَاةِ بِقِرَاءَةٍ مع الْقُدْرَةِ عليها فَفَسَدَتْ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَعْذَارِ لِأَنَّ لُبْسَ الْإِمَامِ لا يَكُونُ لُبْسًا لِلْمُقْتَدِي وَكَذَا رُكُوعُ الْإِمَامِ وَسُجُودُهُ وَلَا يَنُوبُ عن الْمُقْتَدِي وَوُضُوءُ الْإِمَامِ لَا يَكُونُ وضوءا ‏[‏وضوء‏]‏ لِلْمُقْتَدِي فلم يَكُنْ قَادِرًا على إزَالَةِ الْعُذْرِ بِتَقْدِيمِ من لَا عُذْرَ له‏.‏

وَلَا يَلْزَم على هذه الطَّرِيقَةِ ما إذَا كان الْأُمِّيُّ يُصَلِّي وَحْدَهُ وَهُنَاكَ قارىء ‏[‏قارئ‏]‏ يُصَلِّي تِلْكَ الصَّلَاةَ حَيْثُ تَجُوزُ صَلَاةُ الْأُمِّيِّ وَإِنْ كان قَادِرًا على أَنْ يَجْعَلَ صَلَاتَهُ بِقِرَاءَةٍ بِأَنْ يَقْتَدِيَ بالقارىء ‏[‏بالقارئ‏]‏ لِأَنَّ هذه الْمَسْأَلَةَ مَمْنُوعَةٌ وَذَكَرَ أبو حَازِمٍ الْقَاضِي أَنَّ على قِيَاسِ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ لَا تَجُوزُ صَلَاةُ الْأُمِّيِّ وهو قَوْلُ مَالِكٍ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا فَلِأَنَّ هُنَاكَ لم يَقْدِرْ على أَنْ يَجْعَلَ صَلَاتَهُ بِقِرَاءَةٍ إذ لم يَظْهَرْ من القارىء رَغْبَةٌ في أَدَاءِ الصَّلَاةِ بِجَمَاعَةٍ حَيْثُ اخْتَارَ الِانْفِرَادَ بِخِلَافِ ما نَحْنُ فيه وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ ما ذَكَرَهُ غَسَّانُ وهو أَنَّ التَّحْرِيمَةَ انْعَقَدَتْ مُوجِبَةً لِلْقِرَاءَةِ فإذا صَلَّوْا بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ فَسَدَتْ صَلَاتُهُمْ كَالْقَارِئِينَ وَإِنَّمَا قُلْنَا أن التَّحْرِيمَةَ انْعَقَدَتْ مُوجِبَةً لِلْقِرَاءَةِ لِأَنَّهُ وَقَعَتْ الْمُشَارَكَةُ في التَّحْرِيمَةِ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُفْتَقِرَةٍ إلَى الْقِرَاءَةِ فَانْعَقَدَتْ مُوجِبَةً لِلْقِرَاءَةِ لِاشْتِرَاكِهَا بين الْقَارِئِينَ وَغَيْرِهِمْ ثُمَّ عِنْدَ أَوَانِ الْقِرَاءَةِ تَفْسُدُ لِانْعِدَامِ الْقِرَاءَةِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَعْذَارِ لِأَنَّ هُنَاكَ التَّحْرِيمَةَ لم تَنْعَقِدْ مُشْتَرَكَةً لِأَنَّ تَحْرِيمَةَ اللَّابِسِ لم تَنْعَقِدْ إذَا اقْتَدَى بِالْعَارِي لِافْتِقَارِهَا إلَى سَتْرِ الْعَوْرَةِ وَإِلَى ارْتِفَاعِ سَائِرِ الْأَعْذَارِ فلم تَنْعَقِدْ مُشْتَرَكَةً بِخِلَافِ ما نَحْنُ فيه فَإِنَّهَا غَيْرُ مُفْتَقِرَةٍ إلَى الْقِرَاءَةِ فَانْعَقَدَتْ تَحْرِيمَةُ القاريء مُشْتَرَكَةً فَانْعَقَدَتْ مُوجِبَةً لِلْقِرَاءَةِ وَلَا يَلْزَمُ على هذه الطَّرِيقَةِ ما ذَكَرْنَا من الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّ هُنَاكَ تَحْرِيمَةُ الْأُمِّيِّ لم تَنْعَقِدْ مُوجِبَةً لِلْقِرَاءَةِ لِانْعِدَامِ الِاشْتِرَاكِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ القارىء فيها أَمَّا هَهُنَا فَبِخِلَافِهِ وَلَا يَلْزَمُ ما إذَا اقْتَدَى القارىء بِالْأُمِّيِّ بِنِيَّةِ التَّطَوُّع حَيْثُ لَا يَلْزَمُ الْقَضَاءُ وَلَوْ صَحَّ شروعه ‏[‏شروع‏]‏ في الِابْتِدَاءِ لَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ لِأَنَّهُ صَارَ شَارِعًا في صَلَاةٍ لَا قِرَاءَةَ فيها وَالشُّرُوعُ كَالنَّذْرِ وَلَوْ نَذَرَ صَلَاةً بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ لَا يَلْزَمهُ شَيْءٌ إلَّا في رِوَايَةٍ عن أبي يُوسُفَ فَكَذَلِكَ إذَا شَرَعَ فيها‏.‏

وَلَا يَجُوزُ الِاقْتِدَاءُ بِالْكَافِرِ وَلَا اقْتِدَاءُ الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ لِأَنَّ الْكَافِرَ ليس من أَهْلِ الصَّلَاةِ وَالْمَرْأَةُ لَيْسَتْ من أَهْلِ إمَامَةِ الرِّجَالِ فَكَانَتْ صَلَاتُهَا عَدَمًا في حَقِّ الرَّجُلِ فَانْعَدَمَ مَعْنَى الِاقْتِدَاءِ وهو الْبِنَاءُ وَلَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الرَّجُلِ بِالْخُنْثَى الْمُشْكِلِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً وَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمَرْأَةِ بِالْمَرْأَةِ لِاسْتِوَاءِ حَالِهِمَا إلَّا أَنَّ صَلَاتَهُنَّ فُرَادَى أَفْضَلُ لِأَنَّ جَمَاعَتَهُنَّ مَنْسُوخَةٌ وَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمَرْأَةِ بِالرَّجُلِ إذَا نَوَى الرَّجُلُ إمَامَتَهَا وَعِنْدَ زُفَرَ نِيَّةُ الْإِمَامَةِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ على ما مَرَّ وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أنها إذَا وَقَفَتْ خَلْفَ الْإِمَامِ جَازَ اقْتِدَاؤُهَا بِهِ وَإِنْ لم يَنْوِ إمَامَتَهَا ثُمَّ إذَا وَقَفَتْ إلَى جَنْبِهِ فَسَدَتْ صَلَاتُهَا خَاصَّةً لَا صَلَاةُ الرَّجُلِ وَإِنْ كان نَوَى إمَامَتَهَا فَسَدَتْ صَلَاةُ الرَّجُلِ وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ الْأَوَّلِ وَوَجْهُهُ إنها إذَا وَقَفَتْ خَلْفَهُ كان قَصْدُهَا أَدَاءَ الصَّلَاةِ لَا إفْسَادَ صَلَاةِ الرَّجُلِ فَلَا تُشْتَرَطُ نِيَّةُ الْإِمَامَةِ وإذا قَامَتْ إلَى جَنْبِهِ فَقَدْ قَصَدَتْ إفْسَادَ صَلَاتِهِ فَيُرَدُّ قَصْدُهَا بِإِفْسَادِ صَلَاتِهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ قد نَوَى إمَامَتَهَا فَحِينَئِذٍ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ مُلْتَزِمٌ لِهَذَا الضَّرَرِ وَكَذَا يَجُوزُ اقْتِدَاؤُهَا بِالْخُنْثَى الْمُشْكِلِ لِأَنَّهُ إنْ كان رَجُلًا فَاقْتِدَاءُ الْمَرْأَةِ بِالرَّجُلِ صَحِيحٌ وَإِنْ كان امْرَأَةً فَاقْتِدَاءُ الْمَرْأَةِ بِالْمَرْأَةِ جَائِزٌ أَيْضًا لَكِنْ يَنْبَغِي لِلْخُنْثَى أَنْ يَتَقَدَّمَ وَلَا يَقُومَ في وَسَطِ الصَّفِّ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ رَجُلًا فَتَفْسُدَ صَلَاتُهُ بِالْمُحَاذَاةِ وَكَذَا تُشْتَرَطُ نِيَّةُ إمَامَةِ النِّسَاءِ لِصِحَّةِ اقْتِدَائِهِنَّ بِهِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ رَجُلٌ وَلَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ بِالْخُنْثَى الْمُشْكِلِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ امْرَأَةً وَالْمُقْتَدِي رَجُلًا فَيَكُونَ اقْتِدَاءُ الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ على بَعْضِ الْوُجُوهِ فَلَا يَجُوزُ احْتِيَاطًا وَأَمَّا الِاقْتِدَاءُ بِالْمُحْدِثِ أو الْجُنُبِ فَإِنْ كان عَالِمًا بِذَلِكَ لَا يَصِحُّ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ لم يَعْلَمْ بِهِ ثُمَّ عَلِمَ فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا وقال الشَّافِعِيُّ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَصِحَّ كما في الْكَافِرِ لَكِنِّي تَرَكْتُ الْقِيَاسَ بِالْأَثَرِ وهو ما رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال أَيُّمَا رَجُلٍ صلى بِقَوْمٍ ثُمَّ تَذَكَّرَ جَنَابَةً أَعَادَ ولم يُعِيدُوا وَلَنَا ما رُوِيَ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم صلى بِأَصْحَابِهِ ثُمَّ تَذَكَّرَ جَنَابَةً فَأَعَادَ وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالْإِعَادَةِ فأعادوا وقال أَيُّمَا رَجُلٍ صلى بِقَوْمٍ ثُمَّ تَذَكَّرَ جَنَابَةً أَعَادَ وَأَعَادُوا وقد رُوِيَ نَحْوُ هذا عن عُمَرَ وَعَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنهما حتى ذَكَرَ أبو يُوسُفَ في الْأَمَالِي أَنَّ عَلِيًّا رضي اللَّهُ عنه صلى بِأَصْحَابِهِ يَوْمًا ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ كان جُنُبًا فَأَمَرَ مُؤَذِّنَهُ أَنْ يُنَادِيَ أَلَا إنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كان جُنُبًا فَأَعِيدُوا صَلَاتَكُمْ وَلِأَنَّ مَعْنَى الِاقْتِدَاءِ وهو الْبِنَاءُ هَهُنَا لَا يَتَحَقَّقُ لِانْعِدَامِ تَصَوُّرِ التَّحْرِيمَةِ مع قِيَامِ الْحَدَثِ وَالْجَنَابَةِ وما رَوَاهُ مَحْمُولٌ على بُدُوِّ الْأَمْرِ قبل تَعَلُّقِ صَلَاةِ الْقَوْمِ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ على ما رُوِيَ أَنَّ الْمَسْبُوقَ كان إذَا شَرَعَ في صَلَاةِ الْإِمَامِ قَضَى ما فَاتَهُ أَوَّلًا ثُمَّ يُتَابِعُ الْإِمَامَ حتى تَابَعَ عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ أو مُعَاذٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَضَى ما فَاتَهُ فَصَارَ شَرِيعَةً بِتَقْرِيرِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْعَارِي بِاللَّابِسِ لِأَنَّ تَحْرِيمَةَ الْإِمَامِ انْعَقَدَتْ لِمَا يَبْنِي عليه الْمُقْتَدِي لِأَنَّ الْإِمَامَ يَأْتِي بِمَا يَأْتِي بِهِ الْمُقْتَدِي وَزِيَادَةً فَيُقْبَلُ الْبِنَاءُ وَكَذَا اقْتِدَاءُ الْعَارِي بِالْعَارِي لِاسْتِوَاءِ حَالِهِمَا فَتَتَحَقَّقُ الْمُشَارَكَةُ في التَّحْرِيمَةِ ثُمَّ الْعُرَاةُ يُصَلُّونَ قُعُودًا بِإِيمَاءٍ وقال بِشْرٌ يُصَلُّونَ قِيَامًا بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ وهو قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُمْ عَجَزُوا عن تَحْصِيلِ شَرْطِ الصَّلَاةِ وهو سَتْرُ الْعَوْرَةِ وَقَدَرُوا على تَحْصِيلِ أَرْكَانِهَا فَعَلَيْهِمْ الْإِتْيَانُ بِمَا قَدَرُوا عليه وَسَقَطَ عَنْهُمْ ما عَجَزُوا عنه وَلِأَنَّهُمْ لو صَلَّوْا قُعُودًا تَرَكُوا أَرْكَانًا كَثِيرَةً وَهِيَ الْقِيَامُ وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ وَإِنْ صَلَّوْا قِيَامًا تَرَكُوا فَرْضًا وَاحِدًا وهو سَتْرُ الْعَوْرَةِ فَكَانَ أَوْلَى وَالدَّلِيلُ عليه حَدِيثُ عِمْرَانَ بن حُصَيْنٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال له صَلِّ قَائِمًا فَإِنْ لم تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا فَإِنْ لم تَسْتَطِعْ فَعَلَى الْجَنْبِ فَهَذَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُصَلِّي قَائِمًا فَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ قَائِمًا وَلَنَا ما رُوِيَ عن أَنَسِ بن مَالِكٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال إنَّ أَصْحَابَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَكِبُوا الْبَحْرَ فَانْكَسَرَتْ بِهِمْ السَّفِينَةُ فَخَرَجُوا من الْبَحْرِ عُرَاةً فصلوْا قُعُودًا بِإِيمَاءٍ وَرُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهم أَنَّهُمَا قَالَا الْعَارِي يُصَلِّي قَاعِدًا بِالْإِيمَاءِ وَالْمَعْنَى فيه أَنَّ لِلصَّلَاةِ قَاعِدًا تَرْجِيحًا من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لو صلى قَاعِدًا فَقَدْ تَرَكَ فَرْضَ سَتْرِ الْعَوْرَةِ الْغَلِيظَةِ وما تَرَكَ فَرْضًا آخَرَ أَصْلًا لِأَنَّهُ أَدَّى فَرْضَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ بِبَعْضِهِمَا وهو الْإِيمَاءُ وَأَدَّى فَرْضَ الْقِيَامِ بِبَدَلِهِ وهو الْقُعُودُ فَكَانَ فيه مُرَاعَاةُ الْفَرْضَيْنِ جميعا وَفِيمَا قُلْتُمْ إسْقَاطُ أَحَدِهِمَا أَصْلًا وهو سَتْرُ الْعَوْرَةِ فَكَانَ ما قُلْنَاهُ أَوْلَى وَالثَّانِي أَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ أَهَمُّ من أَدَاءِ الْأَرْكَانِ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ فَرْضٌ في الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا وَالْأَرْكَانَ فَرَائِضُ الصَّلَاةِ لَا غَيْرِهَا وَالثَّانِي أَنَّ سُقُوطَ هذه الْأَرْكَانِ إلَى الْإِيمَاءِ جَائِزٌ في النَّوَافِلِ من غَيْرِ ضَرُورَةٍ كَالْمُتَنَفِّلِ على الدَّابَّةِ وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ لَا تَسْقُطُ فَرْضِيَّتُهُ قَطُّ من غَيْرِ ضَرُورَةٍ فَكَانَ أَهَمَّ فَكَانَ مُرَاعَاتُهُ أَوْلَى فَلِهَذَا جَعَلْنَا الصَّلَاةَ قَاعِدًا بِالْإِيمَاءِ أَوْلَى غير أَنَّهُ إنْ صلى قَائِمًا بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ أَجْزَأَهُ لِأَنَّهُ وَإِنْ تَرَكَ فَرْضًا آخَرَ فَقَدْ كَمَّلَ الْأَرْكَانَ الثَّلَاثَةَ وَهِيَ الْقِيَامُ وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ وَبِهِ حَاجَةٌ إلَى تَكْمِيلِ هذه الْأَرْكَانِ فَصَارَ تَارِكًا لِفَرْضِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ الْغَلِيظَةِ أَصْلًا لِغَرَضٍ صَحِيحٍ فَجَوَّزْنَا له ذلك لِوُجُودِ أَصْلِ الْحَاجَةِ وَحُصُولِ الْغَرَضِ وَجَعَلْنَا الْقُعُودَ بِالْإِيمَاءِ أَوْلَى لِكَوْنِ ذلك الْفَرْضِ أَهَمَّ وَلِمُرَاعَاةِ الْفَرْضَيْنِ جميعا من وَجْهٍ وقد خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرُوا من الْمَعْنَى وَتَعَلُّقُهُمْ بِحَدِيثِ عِمْرَانَ بن حُصَيْنٍ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ حُكْمًا حَيْثُ اُفْتُرِضَ عليه سَتْرُ الْعَوْرَةِ الْغَلِيظَةِ ثُمَّ لو كَانُوا جَمَاعَةً يَنْبَغِي لهم أَنْ يُصَلُّوا فُرَادَى لِأَنَّهُمْ لو صَلَّوْا بِجَمَاعَةٍ فَإِنْ قام الْإِمَامُ وَسَطَهُمْ احْتِرَازًا عن مُلَاحَظَةِ سَوْأَةِ الْغَيْرِ فَقَدْ تَرَكَ سُنَّةَ التَّقَدُّمِ على الْجَمَاعَةِ وَالْجَمَاعَةُ أَمْرٌ مَسْنُونٌ فإذا كان لَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ إلَّا بِارْتِكَابِ بِدْعَةٍ وَتَرْكِ سُنَّةٍ أُخْرَى لَا يُنْدَبُ إلَى تَحْصِيلِهَا بَلْ يُكْرَهُ تَحْصِيلُهَا وَإِنْ تَقَدَّمَهُمْ الْإِمَامُ وَأَمَرَ الْقَوْمَ بِغَضِّ أَبْصَارِهِمْ كما ذَهَبَ إلَيْهِ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ لَا يَسْلَمُونَ عن الْوُقُوعِ في الْمُنْكَرِ أَيْضًا فإنه قَلَّمَا يُمْكِنُهُمْ غَضُّ الْبَصَرِ على وَجْهٍ لَا يَقَعُ على عَوْرَةِ الْإِمَامِ مع أَنَّ غَضَّ الْبَصَرِ في الصَّلَاةِ مَكْرُوهٌ أَيْضًا نَصَّ عليه الْقُدُورِيُّ لِمَا يُذْكَرُ أَنَّهُ مَأْمُورٌ أَنْ يَنْظُرَ في كل حَالَةٍ إلَى مَوْضِعٍ مَخْصُوصٍ لِيَكُونَ الْبَصَرُ ذَا حَظٍّ من أَدَاءِ هذه الْعِبَادَاتِ كَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ وَالْأَطْرَافِ وفي غَضِّ الْبَصَرِ فَوَاتُ ذلك فَدَلَّ أَنَّهُ لَا يُتَوَصَّلُ إلَى تَحْصِيلِ الْجَمَاعَةِ إلَّا بِارْتِكَابِ أَمْرٍ مَكْرُوهٍ فَتَسْقُطَ الْجَمَاعَةُ عَنْهُمْ فَلَوْ صَلَّوْا مع هذه الْجَمَاعَةِ فَالْأَوْلَى لِإِمَامِهِمْ أَنْ يَقُومَ وَسَطَهُمْ لِئَلَّا يَقَعَ بَصَرُهُمْ على عَوْرَتِهِ فَإِنْ تَقَدَّمَهُمْ جَازَ أَيْضًا وَحَالُهُمْ في هذا الْمَوْضِعِ كَحَالِ النِّسَاءِ في الصَّلَاةِ إلَّا أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يُصَلِّينَ وَحْدَهُنَّ وَإِنْ صَلَّيْنَ بِجَمَاعَةٍ قَامَتْ إمَامَتُهُنَّ وَسَطَهُنَّ وَإِنْ تَقَدَّمَتْهُنَّ جَازَ فَكَذَلِكَ حَالُ الْعُرَاةِ وَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ صَاحِبِ الْعُذْرِ بِالصَّحِيحِ وَبِمَنْ هو بِمِثْلِ حَالِهِ وَكَذَا اقْتِدَاءُ الْأُمِّيِّ بالقارىء ‏[‏بالقارئ‏]‏ وَبِالْأُمِّيِّ لِمَا مَرَّ وَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ المومىء ‏[‏المومئ‏]‏ بِالرَّاكِعِ السَّاجِدِ وبالمومىء ‏[‏وبالمومئ‏]‏ لِمَا مَرَّ وَيَسْتَوِي الْجَوَاب بَيْنَمَا إذَا كان الْمُقْتَدِي قَاعِدًا يومىء بِالْإِمَامِ الْقَاعِد المومىء ‏[‏المومئ‏]‏ وَبَيْنَمَا إذَا كان قَائِمًا وَالْإِمَامُ قاعدا ‏[‏قاعد‏]‏ وَلِأَنَّ هذا الْقِيَامَ ليس بِرُكْنٍ أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَوْلَى تَرْكُهُ فَكَانَ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ بِمَنْزِلَةٍ‏.‏

وَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْغَاسِلِ بِالْمَاسِحِ على الْخُفِّ لِأَنَّ الْمَسْحَ على الْخُفِّ بَدَلٌ عن الْغَسْلِ وَبَدَلُ الشَّيْءِ يَقُومُ مَقَامَهُ عِنْدَ الْعَجْزِ عنه أو تَعَذُّرِ تَحْصِيلِهِ فَقَامَ الْمَسْحُ مَقَامَ الْغَسْلِ في حَقِّ تَطْهِيرِ الرِّجْلَيْنِ لِتَعَذُّرِ غَسْلِهِمَا عِنْدَ كل حَدَثٍ خُصُوصًا في حَقِّ الْمُسَافِرِ على ما مَرَّ فَانْعَقَدَتْ تَحْرِيمَةُ الْإِمَامِ لِلصَّلَاةِ مع غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ لِانْعِقَادِهَا لِمَا هو بَدَلٌ عن الْغَسْلِ فَصَحَّ بِنَاءُ تَحْرِيمَةِ الْمُقْتَدِي على تِلْكَ التَّحْرِيمَةِ وَلِأَنَّ طَهَارَةَ الْقَدَمِ حَصَلَتْ بِالْغَسْلِ السَّابِقِ وَالْخُفُّ مَانِعٌ سِرَايَةَ الْحَدَثِ إلَى الْقَدَمِ فَكَانَ هذا اقْتِدَاءُ الْغَاسِلِ بِالْغَاسِلِ فَصَحَّ وَكَذَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْغَاسِلِ بِالْمَاسِحِ على الْجَبَائِرِ لِمَا مَرَّ أَنَّهُ بَدَلٌ عن الْمَسْحِ قَائِمٌ مَقَامَهُ فَيُمْكِنُ تَحْقِيقُ مَعْنَى الِاقْتِدَاءِ فيه وَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ المتوضىء ‏[‏المتوضئ‏]‏ بِالْمُتَيَمِّمِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ وقد مَرَّ الْكَلَامُ فيه في كتاب الطَّهَارَةِ‏.‏ وَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْقَائِمِ الذي يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ بِالْقَاعِدِ بالذي ‏[‏الذي‏]‏ يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ اسْتِحْسَانًا وهو قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزُ وهو قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَعَلَى هذا الِاخْتِلَافِ اقْتِدَاءُ الْقَائِمِ المومىء ‏[‏المومئ‏]‏ بِالْقَاعِدِ المومىء ‏[‏المومئ‏]‏‏.‏

وَجْهُ الْقِيَاسِ ما رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال لَا يَؤُمَّنَّ أَحَدٌ بَعْدِي جَالِسًا أَيْ لِقَائِمٍ لِإِجْمَاعِنَا على أَنَّهُ لو أَمَّ لِجَالِسٍ جَازَ وَلِأَنَّ الْمُقْتَدِيَ أَعْلَى حَالًا من الْإِمَامِ فَلَا يَجُوزُ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ كَاقْتِدَاءِ الرَّاكِعِ السَّاجِدِ بالمومىء ‏[‏بالمومئ‏]‏ وَاقْتِدَاءِ القارىء بِالْأُمِّيِّ وَفِقْهُهُ ما بَيَّنَّا أَنَّ الْمُقْتَدِيَ يَبْنِي تَحْرِيمَتَهُ على تَحْرِيمَةِ الْإِمَامِ وَتَحْرِيمَةُ الْإِمَامِ ما انْعَقَدَتْ لِلْقِيَامِ بَلْ انْعَقَدَتْ لِلْقُعُودِ فَلَا يُمْكِنُ بِنَاءُ الْقِيَامِ عليها كما لَا يُمْكِنُ بِنَاءُ الْقِرَاءَةِ على تَحْرِيمَةِ الْأُمِّيِّ وَبِنَاءُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ على تَحْرِيمَةِ المومىء ‏[‏المومئ‏]‏‏.‏

وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ ما رُوِيَ أَنَّ آخِرَ صَلَاةٍ صَلَّاهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُتَوَشِّحًا بِهِ قَاعِدًا وَأَصْحَابُهُ خَلْفَهُ قِيَامٌ يَقْتَدُونَ بِهِ فإنه لَمَّا ضَعُفَ في مَرَضِهِ قال مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلِيُصَلِّ بِالنَّاسِ فقالت عَائِشَةُ لِحَفْصَةَ رضي اللَّهُ عنهما قُولِي له أن أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ إذَا وَقَفَ في مَكَانِكَ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ فَلَوْ أَمَرْتَ غَيْرَهُ فقالت حَفْصَةُ ذلك فقال أَنْتُنَّ صُوَيْحِبَاتُ يُوسُفَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ فلما افْتَتَحَ أبو بَكْرٍ رضي اللَّهُ عنه الصَّلَاةَ وَجَدَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في نَفْسِهِ خِفَّةً فَخَرَجَ وهو يهادي بين عَلِيٍّ وَالْعَبَّاسِ وَرِجْلَاهُ يَخُطَّانِ الْأَرْضَ حتى دخل الْمَسْجِدَ فلما سمع أبو بَكْرٍ رضي اللَّهُ عنه حِسَّهُ تَأَخَّرَ فَتَقَدَّمَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَلَسَ يُصَلِّي وأبو بَكْرٍ يُصَلِّي بِصَلَاتِهِ وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ أبي بَكْرٍ يَعْنِي أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي اللَّهُ عنه كان يَسْمَعُ تَكْبِيرَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيُكَبِّرُ وَالنَّاسُ يُكَبِّرُونَ بِتَكْبِيرِ أبي بَكْرٍ فَقَدْ ثَبَتَ الْجَوَازُ على وَجْهٍ لَا يُتَوَهَّمُ وُرُودُ النَّسْخِ عليه وَلَوْ تُوُهِّمَ وُرُودُ النَّسْخِ يَثْبُتُ الْجَوَازُ ما لم يَثْبُتْ النَّسْخُ فإذا لم يُتَوَهَّمُ وُرُودُ النَّسْخِ أَوْلَى وَلِأَنَّ الْقُعُودَ غَيْرُ الْقِيَامِ وإذا أُقِيمَ شَيْءٌ مَقَامَ غَيْرِهِ جُعِلَ بَدَلًا عنه كَالْمَسْحِ على الْخُفِّ مع غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهُمَا مُتَغَايِرَانِ بِدَلِيلِ الْحُكْمِ وَالْحَقِيقَة‏.‏ِ

أَمَّا الْحَقِيقَةُ فَلِأَنَّ الْقِيَامَ اسْمٌ لِمَعْنَيَيْنِ مُتَّفِقَيْنِ في مَحَلَّيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَهُمَا الِانْتِصَابَانِ في النِّصْفِ الْأَعْلَى وَالنِّصْفِ الْأَسْفَلِ فَلَوْ تَبَدَّلَ الِانْتِصَابُ في النِّصْفِ الْأَعْلَى بِمَا يُضَادُّهُ وهو الِانْحِنَاءُ سُمِّيَ رُكُوعًا لِوُجُودِ الِانْحِنَاءِ لِأَنَّهُ في اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عن الِانْحِنَاءِ من غَيْرِ اعْتِبَارِ النِّصْفِ الْأَسْفَلِ لِأَنَّ ذلك وَقَعَ وِفَاقًا فَأَمَّا هو في اللُّغَةِ فَاسْمٌ لِشَيْءٍ وَاحِدٍ فَحَسْبُ وهو الِانْحِنَاءُ وَلَوْ تَبَدَّلَ الِانْتِصَابُ في النِّصْفِ الْأَسْفَلِ بِمَا يُضَادُّهُ وهو انْضِمَامُ الرِّجْلَيْنِ وَإِلْصَاقُ الإلية بِالْأَرْضِ يُسَمَّى قُعُودًا فَكَانَ الْقُعُودُ اسْمًا لِمَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ في مَحَلَّيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَهُمَا الِانْتِصَابُ في النِّصْفِ الْأَعْلَى وَالِانْضِمَامُ وَالِاسْتِقْرَارُ على الْأَرْضِ في النِّصْفِ الْأَسْفَلِ فَكَانَ الْقُعُودُ مُضَادًّا لِلْقِيَامِ في أَحَدِ مَعْنَيَيْهِ وَكَذَا الرُّكُوعُ وَالرُّكُوعُ مع الْقُعُودِ يُضَادُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وهو صِفَةُ النِّصْفِ الْأَعْلَى وَاسْمُ الْمَعْنَيَيْنِ يَفُوتُ بِالْكُلِّيَّةِ بِوُجُودِ مُضَادِّ أَحَدِ مَعْنَيَيْهِ كَالْبُلُوغِ وَالْيُتْمِ فَيَفُوتُ الْقِيَامُ بِوُجُودِ الْقُعُودِ أو الرُّكُوعِ بِالْكُلِّيَّةِ وَلِهَذَا لو قال قَائِلٌ ما قُمْتُ بَلْ قَعَدْتُ وما أَدْرَكْتُ الْقِيَامَ بَلْ أَدْرَكْتُ الرُّكُوعَ لم يُعَدَّ مُنَاقِضًا في كَلَامِهِ وَأَمَّا الْحُكْمُ فَلِأَنَّ ما صَارَ الْقِيَامُ لِأَجْلِهِ طَاعَةً يَفُوتُ عِنْدَ الْجُلُوسِ بِالْكُلِّيَّةِ لِأَنَّ الْقِيَامَ إنَّمَا صَارَ طَاعَةً ‏(‏لا لِانْتِصَابِ‏)‏ نِصْفِهِ الْأَعْلَى بَلْ لِانْتِصَابِ رِجْلَيْهِ لِمَا يَلْحَقُ رِجْلَيْهِ من الْمَشَقَّةِ وهو بِالْكُلِّيَّةِ يَفُوتُ عِنْدَ الْجُلُوسِ فَثَبَتَ حَقِيقَةً وَحُكْمًا أَنَّ الْقِيَامَ يَفُوتُ عِنْدَ الْجُلُوسِ فَصَارَ الْجُلُوسُ بَدَلًا عنه وَالْبَدَلُ عِنْدَ الْعَجْزِ عن الْأَصْلِ أو تَعَذُّرِ تَحْصِيلِهِ يَقُومُ مَقَامَ الْأَصْلِ وَلِهَذَا جَوَّزْنَا اقْتِدَاءَ الْغَاسِلِ بِالْمَاسِحِ لِقِيَامِ الْمَسْحِ مَقَامَ الْغَسْلِ في حَقِّ تَطْهِيرِ الرِّجْلَيْنِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْغَسْلِ لِكَوْنِهِ بَدَلًا عنه فَكَانَ الْقُعُودُ من الْإِمَامِ بِمَنْزِلَةِ الْقِيَامِ لو كان قَادِرًا عليه فَجُعِلَتْ تَحْرِيمَةُ الْإِمَامِ في حَقِّ الْإِمَامِ مُنْعَقِدَةً لِلْقِيَامِ لِانْعِقَادِهَا لِمَا هو بَدَلُ الْقِيَامِ فَصَحَّ بِنَاءُ قِيَامِ الْمُقْتَدِي على تِلْكَ التَّحْرِيمَةِ بِخِلَافِ اقْتِدَاءِ القارىء بِالْأُمِّيِّ لِأَنَّ هُنَاكَ لم يُوجَدْ ما هو بَدَلُ الْقِرَاءَةِ بَلْ سَقَطَتْ أَصْلًا فلم تَنْعَقِدْ تَحْرِيمَةُ الْإِمَامِ لِلْقِرَاءَةِ فَلَا يَجُوزُ بِنَاءُ الْقِرَاءَةِ عليه أَمَّا هَهُنَا لم يَسْقُطْ الْقِيَامُ أَصْلًا بَلْ أُقِيمَ بَدَلُهُ مَقَامَهُ‏.‏

أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو اضْطَجَعَ وهو قَادِرٌ على الْقُعُودِ لَا يَجُوزُ وَلَوْ كان الْقِيَامُ يَسْقُطُ أَصْلًا من غَيْرِ بَدَلٍ وَذَا ليس وَقْتَ وُجُوبِ الْقُعُودِ بِنَفْسِهِ كان يَنْبَغِي أَنَّهُ لو صلى مُضْطَجِعًا يَجُوزُ وَحَيْثُ لم يَجُزْ دَلَّ أَنَّهُ إنَّمَا لَا يَجُوزُ لِسُقُوطِ الْقِيَامِ إلَى بَدَلِهِ وَجُعِلَ بَدَلَهُ كَأَنَّهُ عَيْنُ الْقِيَامِ وَبِخِلَافِ اقْتِدَاءِ الرَّاكِعِ السَّاجِدِ بالمومىء ‏[‏بالمومئ‏]‏ لِمَا مَرَّ أَنَّ الْإِيمَاءَ ليس عَيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ بَلْ هو تَحْصِيلُ بَعْضِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ إلَّا أَنَّهُ ليس فيه كَمَالُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فلم تَنْعَقِد تَحْرِيمَةُ الْإِمَامِ لِلْفَائِتِ وهو الْكَمَالُ فلم يُمْكِنْ بِنَاءُ كَمَالِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ على تِلْكَ التَّحْرِيمَةِ وقد خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا ذُكِرَ من الْمَعْنَى وما رُوِيَ من الحديث كان في الِابْتِدَاءِ فإنه رُوِيَ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سَقَطَ عن فَرَسٍ فَجُحِشَ جَنْبُهُ فلم يَخْرُجْ أَيَّامًا وَدَخَلَ عليه أَصْحَابُهُ فَوَجَدُوهُ يُصَلِّي قَاعِدًا فَافْتَتَحُوا الصَّلَاةَ خَلْفَهُ قِيَامًا فلما رَآهُمْ على ذلك قال اسْتِنَانٌ بِفَارِسَ وَالرُّومِ وَأَمَرَهُمْ بِالْقُعُودِ ثُمَّ نَهَاهُمْ عن ذلك فقال لَا يَؤُمَّنَّ أَحَدٌ بَعْدِي جَالِسًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَكَلَّمَ في الصَّلَاةِ فقال اسْتِنَانٌ بِفَارِسَ وَالرُّومِ وَأَمَرَهُمْ بِالْقُعُودِ فَدَلَّ أَنَّ ذلك كان في الِابْتِدَاءِ حين كان التَّكَلُّمُ في الصَّلَاةِ مُبَاحًا وما رَوَيْنَا آخِرُ صَلَاةٍ صَلَّاهَا فَانْتَسَخَ قَوْلُهُ السَّابِقُ بِفِعْلِهِ الْمُتَأَخِّرِ وَعَلَى هذا يَخْرُجُ اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ‏.‏

وَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُتَنَفِّلِ بِالْمُفْتَرِضِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ خِلَافًا لِمَالِكٍ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رَوَى جابر بن عبد اللَّهِ أَنَّ مُعَاذًا كان يُصَلِّي مع النبي صلى الله عليه وسلم الْعِشَاءَ ثُمَّ يَرْجِعُ فَيُصَلِّيهَا بِقَوْمِهِ في بَنِي سَلِمَةَ وَمُعَاذٌ كان مُتَنَفِّلًا وكان يُصَلِّي خَلْفَهُ الْمُفْتَرِضُونَ وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ منهم يُصَلِّي صَلَاةَ نَفْسِهِ لَا صَلَاةَ صَاحِبِهِ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَفْعَلَ الْعَبْدُ فِعْلَ غَيْرِهِ فَيَجُوزُ فِعْلُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَوَاءٌ وَافَقَ فِعْلَ إمَامِهِ أو خَالَفَهُ وَلِهَذَا جَازَ اقْتِدَاءُ الْمُتَنَفِّلِ بِالْمُفْتَرِضِ وَلَنَا ما رُوِيَ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم صلى بِالنَّاسِ صَلَاةَ الْخَوْفَ وَجَعَلَ الناس طَائِفَتَيْنِ وَصَلَّى بِكُلِّ طَائِفَةٍ شَطْرَ الصَّلَاةِ لِيَنَالَ كُلُّ فَرِيقٍ فَضِيلَةَ الصَّلَاةِ خَلْفَهُ وَلَوْ جَازَ اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرَضِ بِالْمُتَنَفِّلِ لَأَتَمَّ الصَّلَاةَ بِالطَّائِفَةِ الْأُولَى ثُمَّ نَوَى النَّفَلَ وَصَلَّى بِالطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ لِيَنَالَ كُلُّ طَائِفَةٍ فَضِيلَةَ الصَّلَاةِ خَلْفَهُ من غَيْرِ الْحَاجَةِ إلَى الْمَشْيِ وَأَفْعَالٍ كَثِيرَةٍ لَيْسَتْ من الصَّلَاةِ وَلِأَنَّ تَحْرِيمَةَ الْإِمَامِ ما انْعَقَدَتْ لِصَلَاةِ الْفَرْضِ وَالْفَرْضِيَّةُ وَإِنْ لم تَكُنْ صِفَةً زَائِدَةً على ذَاتِ الْفِعْلِ فَلَيْسَتْ رَاجِعَةً إلَى الذَّاتِ أَيْضًا بَلْ هِيَ من الْأَوْصَافِ الْإِضَافِيَّةِ على ما عُرِفَ في مَوْضِعِهِ فلم يَصِحَّ الْبِنَاءُ من الْمُقْتَدِي بِخِلَافِ اقْتِدَاءِ الْمُتَنَفِّلِ بِالْمُفْتَرِضِ لِأَنَّ النَّفْلِيَّةَ لَيْسَتْ من باب الصِّفَةِ بَلْ هِيَ عَدَمٌ إذْ النَّفَلُ عِبَارَةٌ عن أَصْلٍ لَا وَصْفَ له فَكَانَتْ تَحْرِيمَةُ الْإِمَامِ مُنْعَقِدَةً لِمَا يَبْنِي عليه الْمُقْتَدِي وَزِيَادَةً فَصَحَّ الْبِنَاءُ وقد خَرَجَ الْجَوَابُ عن مَعْنَاهُ فإن كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُصَلِّي صَلَاةَ نَفْسِهِ لِأَنَّا نَقُولُ نعم لَكِنَّ إحْدَاهُمَا بِنَاءٌ على الْأُخْرَى وَتَعَذَّرَ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْبِنَاءِ وما رُوِيَ من الحديث فَلَيْسَ فيه أَنَّ مُعَاذًا كان يُصَلِّي مع النبي صلى الله عليه وسلم الْفَرْضَ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كان يَنْوِي النَّفَلَ ثُمَّ يُصَلِّي بِقَوْمِهِ الْفَرْضَ وَلِهَذَا قال له لَمَّا بَلَغَهُ طُولُ قِرَاءَتِهِ إمَّا أَنْ تُخَفِّفَ بِهِمْ وَإِلَّا فَاجْعَلْ صَلَاتَكَ مَعَنَا على أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كان في الِابْتِدَاءِ حين كان تَكْرَارُ الْفَرْضِ مَشْرُوعًا وَيَنْبَنِي على هذا الْخِلَافِ اقْتِدَاءُ الْبَالِغِينَ بِالصِّبْيَانِ في الْفَرَائِضِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا لِأَنَّ النفل ‏[‏الفعل‏]‏ من الصَّبِيِّ لَا يَقَعُ فَرْضًا فَكَانَ اقْتِدَاءَ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَصِحُّ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بن سَلَمَةَ كان يُصَلِّي بِالنَّاسِ وهو ابن تِسْعِ سِنِينَ وَلَا يُحْمَلُ على صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ لِأَنَّهَا لم تَكُنْ على عَهْدِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِجَمَاعَةٍ فَدَلَّ أَنَّهُ كان في الْفَرَائِضِ‏.‏

وَالْجَوَابُ أَنَّ ذلك كان في ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ حين لم تَكُنْ صَلَاةُ الْمُقْتَدِي مُتَعَلِّقَةً بِصَلَاةِ الْإِمَامِ على ما ذَكَرْنَا ثُمَّ نُسِخَ وَأَمَّا في التَّطَوُّعَاتِ فَقَدْ رُوِيَ عن مُحَمَّدِ بن مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ أَنَّهُ أَجَازَ ذلك في التَّرَاوِيحِ وَالْأَصَحُّ أَنَّ ذلك لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا لَا في الْفَرِيضَةِ وَلَا في التَّطَوُّعِ لِأَنَّ تَحْرِيمَةَ الصَّبِيِّ انْعَقَدَتْ لِنَفْلٍ غَيْرِ مَضْمُونٍ عليه بِالْإِفْسَادِ وَنَفْلُ الْمُقْتَدِي الْبَالِغِ مَضْمُونٌ عليه بِالْإِفْسَادِ فَلَا يَصِحُّ الْبِنَاءُ وَيَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يُؤَدِّبَ وَلَدَهُ على الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ إذَا عَقَلَهُمَا لِقَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مُرُوا صِبْيَانَكُمْ بِالصَّلَاةِ إذَا بَلَغُوا سَبْعًا وَاضْرِبُوهُمْ عليها إذَا بَلَغُوا عَشْرًا» وَلَا يُفْتَرَضُ عليه إلَّا بَعْدَ الْبُلُوغِ وَنَذْكُرُ حَدَّ الْبُلُوغِ في مَوْضِعٍ آخَرَ إن شاء الله تعالى‏.‏

وَلَوْ احْتَلَمَ الصَّبِيُّ لَيْلًا ثُمَّ انتبه ‏[‏تنبه‏]‏ قبل طُلُوعِ الْفَجْرِ قَضَى صَلَاةَ الْعِشَاءِ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّهُ حُكْمٌ بِبُلُوغِهِ بِالِاحْتِلَامِ وقد انْتَبَهَ وَالْوَقْتُ قَائِمٌ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يُؤَدِّيَهَا وَإِنْ لم يَنْتَبِهْ حتى طَلَعَ الْفَجْرُ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه قال بَعْضُهُمْ ليس عليه قَضَاءُ صَلَاةِ الْعِشَاءِ لِأَنَّهُ وَإِنْ بَلَغَ بِالِاحْتِلَامِ لَكِنَّهُ نَائِمٌ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ الْخِطَابُ وَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ احْتَلَمَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَيُحْتَمَلُ قَبْلَهُ فَلَا تَلْزَمُهُ الصَّلَاةُ بِالشَّكِّ وقال بَعْضُهُمْ عليه صَلَاةُ الْعِشَاءِ لِأَنَّ النَّوْمَ لَا يَمْنَعُ الْوُجُوبَ وَلِأَنَّهُ إذَا اُحْتُمِلَ أَنَّهُ احْتَلَمَ قبل طُلُوعِ الْفَجْرِ وَاحْتُمِلَ بَعْدَهُ فَالْقَوْلُ بِالْوُجُوبِ أَحْوَطُ‏.‏

وَعَلَى هذا لَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ مُصَلِّي الظُّهْرِ بِمُصَلِّي الْعَصْرِ وَلَا اقْتِدَاءُ من يُصَلِّي ظُهْرًا بِمَنْ يُصَلِّي ظُهْرَ يَوْمٍ غير ذلك الْيَوْمِ عِنْدَنَا لِاخْتِلَافِ سَبَبِ وُجُوبِ الصَّلَاتَيْنِ وَصِفَتِهِمَا وَذَلِكَ يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ لِمَا مَرَّ وَرُوِيَ عن أَفْلَحَ بن كَثِيرٍ أَنَّهُ قال دَخَلْتُ الْمَدِينَةَ ولم أَكُنْ صَلَّيْتُ الظُّهْرَ فَوَجَدْتُ الناس في الصَّلَاةِ فَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ في الظُّهْرِ فَدَخَلْتُ مَعَهُمْ وَنَوَيْتُ الظُّهْرَ فلما فَرَغُوا عَلِمْتَ أَنَّهُمْ كَانُوا في الْعَصْرِ فَقُمْتُ وَصَلَّيْتُ الظُّهْرَ ثُمَّ صَلَّيْتُ الْعَصْرَ ثُمَّ خَرَجْتُ فَوَجَدَتْ أَصْحَابَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُتَوَافِرِينَ فَأَخْبَرْتُهُمْ بِمَا فَعَلْتُ فَاسْتَصْوَبُوا ذلك وَأَمَرُوا بِهِ فَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ على ما قُلْنَا وَعَلَى هذا لَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ النَّاذِرِ بِالنَّاذِرِ بأنه ‏[‏بأن‏]‏ نَذَرَ رَجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ فَاقْتَدَى أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ فِيمَا نَذَرَ وَكَذَا إذَا شَرَعَ رَجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا في صَلَاةِ التَّطَوُّعِ وَحْدَهُ ثُمَّ أَفْسَدَهَا على نَفْسِهِ حتى وَجَبَ عليه الْقَضَاءُ فَاقْتَدَى أَحَدُهُمَا بِصَاحِبِهِ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الصَّلَاتَيْنِ مُخْتَلِفٌ وهو نَذْرُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَشُرُوعُهُ فَاخْتَلَفَ الْوَاجِبَانِ وَتَغَايَرَا وَذَلِكَ يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ لِمَا بَيَّنَّا بِخِلَافِ اقْتِدَاءِ الْحَالِفِ بِالْحَالِفِ حَيْثُ يَصِحُّ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُنَاكَ تَحْقِيقُ الْبِرِّ لَا نَفْسُ الصَّلَاةِ فَبَقِيَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ من الصَّلَاتَيْنِ في حَقِّ نَفْسِهَا نَفْلًا فَكَانَ اقْتِدَاءَ الْمُتَنَفِّلِ بِالْمُتَنَفِّلِ فَصَحَّ وَكَذَا لو اشْتَرَكَا في صَلَاةِ التَّطَوُّعِ بِأَنْ اقْتَدَى أَحَدُهُمَا بِصَاحِبِهِ فيها ثُمَّ أَفْسَدَاهَا حتى وَجَبَ الْقَضَاءُ عَلَيْهِمَا فَاقْتَدَى أَحَدُهُمَا بِصَاحِبِهِ في الْقَضَاءِ جَازَ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا فَكَانَ سَبَبُ الْوُجُوبِ وَاحِدًا مَعْنًى فَصَحَّ الِاقْتِدَاءُ ثُمَّ إذَا لم يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْفَرْضَيْنِ فصلاةُ الْإِمَامِ جَائِزَةٌ كَيْفَمَا كان لِأَنَّ صَلَاتَهُ غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ بِصَلَاةِ الْمُقْتَدِي وَأَمَّا صَلَاةُ الْمُقْتَدِي إذَا فَسَدَتْ عن الْفَرْضِيَّةِ هل يَصِيرُ شَارِعًا في التَّطَوُّعِ ذكر في باب الأذان أنه يصير شارعا في النفل وذكر في زيادات الزيادات وفي باب الحدث ما يدل على أنه لا يصير شارعا فإنه ذُكِرَ في باب الْحَدَثِ في الرَّجُلِ إذَا كان يُصَلِّي الظُّهْرَ وقد نَوَى إمَامَةَ النِّسَاءِ فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ وَاقْتَدَتْ بِهِ فَرْضًا آخَرَ لم يَصِحَّ اقْتِدَاؤُهَا بِهِ وَلَا يَصِيرُ شَارِعًا في التَّطَوُّعِ حتى لو حازت ‏[‏حاذت‏]‏ الْإِمَامَ لم تُفْسِدْ عليه صَلَاتَهُ فَمِنْ مَشَايِخِنَا من قال في الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ وَمِنْهُمْ من قال ما ذُكِرَ في باب الْأَذَان قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وما ذُكِرَ في باب الْحَدَثِ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَجَعَلُوهُ فَرْعِيَّةَ مَسْأَلَةٍ وَهِيَ أَنَّ الْمُصَلِّيَ إذَا لم يَفْرُغْ من الْفَجْرِ حتى طَلَعَتْ الشَّمْسُ بَقِيَ في التَّطَوُّعِ عِنْدَهُمَا إلَّا أَنَّهُ يَمْكُثُ حتى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ ثُمَّ يَضُمُّ إلَيْهَا ما يُتِمُّهَا فَيَكُونَ تَطَوُّعًا وَعِنْدَهُ يَصِيرُ خَارِجًا من الصَّلَاةِ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ وَكَذَا إذَا كان في الظُّهْرِ فَتَذَكَّرَ أَنَّهُ نَسِيَ الْفَجْرَ يَنْقَلِبُ ظُهْرُهُ تَطَوُّعًا عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَصِيرُ خَارِجًا من الصَّلَاةِ‏.‏

وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ نَوَى فَرْضًا عليه ولم يَظْهَرْ أَنَّهُ ليس عليه فَرْضٌ فَلَا تلغو ‏[‏يلغو‏]‏ نِيَّةَ الْفَرْضِ فَمِنْ حَيْثُ أنه لم يَلْغُ نِيَّةَ الْفَرْضِ لم يَصِرْ شَارِعًا في النَّفْلِ وَمِنْ حَيْثُ أنه يُخَالِفُ فَرْضُهُ فَرْضَ الْإِمَامِ لم يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ فلم يَصِرْ شَارِعًا في الصَّلَاةِ أَصْلًا بِخِلَافِ ما إذَا لم يَكُنْ عليه الْفَرْضُ لِأَنَّ نِيَّةَ الْفَرْضِ لَغَتْ أَصْلًا كَأَنَّهُ لم يَنْوِ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ بَنَى أَصْلَ الصَّلَاةِ وَوَصْفَهَا على صَلَاةِ الْإِمَامِ وَبِنَاءُ الْأَصْلِ صَحَّ وَبِنَاءُ الْوَصْفِ لم يَصِحَّ فَلَغَا بِنَاءُ الْوَصْفِ وَبَقِيَ بِنَاءُ الْأَصْلِ وَبُطْلَان بِنَاءِ الْوَصْفِ لَا يُوجِبُ بُطْلَان بِنَاءِ الْأَصْلِ لِاسْتِغْنَاءِ الْأَصْلِ عن هذا الْوَصْفِ فَيَصِيرُ هذا اقْتِدَاءَ الْمُتَنَفِّلِ بِالْمُفْتَرِضِ وَأَنَّهُ جَائِز وَذُكِرَ في النَّوَادِرِ عن مُحَمَّدٍ في رَجُلَيْنِ يُصَلِّيَانِ صَلَاةً وَاحِدَةً مَعًا وَيَنْوِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَؤُمَّ صَاحِبَهُ فيها أَنَّ صَلَاتَهُمَا جَائِزَةٌ لِأَنَّ صِحَّةَ صَلَاةِ الْإِمَامِ غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ بِصَلَاةِ غَيْرِهِ فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَالْمُنْفَرِدِ في حَقِّ نَفْسِهِ وَلَوْ اقْتَدَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِصَاحِبِهِ فيها فصلاتُهُمَا فَاسِدَةٌ لِأَنَّ صَلَاةَ الْمُقْتَدِي مُتَعَلِّقَةٌ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ وَلَا إمَامَ هَهُنَا وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ الْمُقْتَدِي عِنْدَ الِاقْتِدَاءِ مُتَقَدِّمًا على إمَامِهِ عِنْدَنَا وقال مَالِكٌ هذا ليس بِشَرْطٍ وَيُجْزِئُهُ إذَا أَمْكَنَهُ مُتَابَعَةُ الْإِمَامِ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الِاقْتِدَاءَ يُوجِبُ الْمُتَابَعَةَ في الصَّلَاةِ وَالْمَكَانُ ليس من الصَّلَاةِ فَلَا يَجِبُ الْمُتَابَعَةُ فيه أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِمَامَ يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ في مَقَامِ إبْرَاهِيمَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالْقَوْمُ صَفٌّ حَوْلَ الْبَيْتِ وَلَا شَكَّ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ قبل الْإِمَامِ وَلَنَا قَوْلُ النبي صلى الله عليه وسلم ليس مع الْإِمَامِ من تَقَدَّمَهُ وَلِأَنَّهُ إذَا تَقَدَّمَ الْإِمَامَ يَشْتَبِهُ عليه حَالُهُ أو يَحْتَاجُ إلَى النَّظَرِ وَرَاءَهُ في كل وَقْتٍ لِيُتَابِعَهُ فَلَا يُمْكِنُهُ الْمُتَابَعَةُ وَلِأَنَّ الْمَكَانَ من ‏(‏لوازم الصلاة والإقتداء يقتضي التبعية في الصلاة فكذا فما هو من لَوَازِمِهِ‏)‏ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا كان بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِمَامِ نَهْرٌ أو طَرِيقٌ لم يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ لِانْعِدَامِ التَّبَعِيَّةِ في الْمَكَانِ كَذَا هذا بِخِلَافِ الصَّلَاةِ عند الْكَعْبَةِ لِأَنَّ وَجْهَهُ إذَا كان إلَى الْإِمَامِ لم تَنْقَطِعْ التَّبَعِيَّةُ وَلَا يُسَمَّى قبلة بَلْ هُمَا مُتَقَابِلَانِ كما إذَا حَاذَى إمَامَهُ وَإِنَّمَا تَتَحَقَّقُ الْقَبْلِيَّةَ إذَا كان ظَهْرُهُ إلَى الْإِمَامِ ولم يُوجَدْ وَكَذَا لَا يَشْتَبِهُ عليه حَالُ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ‏.‏

وَمِنْهَا اتِّحَادُ مَكَانِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ لأن الِاقْتِدَاءَ يَقْتَضِي التَّبَعِيَّةَ في الصَّلَاةِ وَالْمَكَانُ من لَوَازِمِ الصَّلَاةِ فَيَقْتَضِي التَّبَعِيَّةَ في الْمَكَانِ ضَرُورَةً وَعِنْدَ اخْتِلَافِ الْمَكَانِ تَنْعَدِمُ التَّبَعِيَّةُ في الْمَكَانِ فَتَنْعَدِمُ التَّبَعِيَّةُ في الصَّلَاةِ لِانْعِدَامِ لَازِمِهَا وَلِأَنَّ اخْتِلَافَ الْمَكَانِ يُوجِبُ خَفَاءَ حَالِ الْإِمَامِ على الْمُقْتَدِي فَتَتَعَذَّرُ عليه الْمُتَابَعَةُ التي هِيَ مَعْنَى الِاقْتِدَاءِ حتى أَنَّهُ لو كان بَيْنَهُمَا طَرِيقٌ عَامٌّ يَمُرُّ فيه الناس أو نَهْرٌ عَظِيمٌ لَا يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ لِأَنَّ ذلك يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْمَكَانَيْنِ عُرْفًا مع اخْتِلَافِهِمَا حَقِيقَةً فَيَمْنَعُ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ وَأَصْلُهُ ما رُوِيَ عن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه مَوْقُوفًا عليه وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال من كان بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِمَامِ نَهْرٌ أو طَرِيقٌ أو صَفٌّ من النِّسَاءِ فَلَا صَلَاةَ له وَمِقْدَارُ الطَّرِيقِ الْعَامُّ ذُكِرَ في الْفَتَاوَى أَنَّهُ سُئِلَ أبو نَصْرٍ محمد بن مُحَمَّدِ بن سَلَّامٍ عن مِقْدَارِ الطَّرِيقِ الذي يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ فقال مِقْدَارُ ما تَمُرُّ فيه الْعَجَلَةُ أو ‏[‏وتمر‏]‏ تمر فيه الْأَوْقَارُ وَسُئِلَ أبو الْقَاسِمِ الصَّفَّارُ عنه فقال مِقْدَارُ ما يَمُرُّ فيه الْجَمَلُ وَأَمَّا النَّهْرُ الْعَظِيمُ فما لَا يُمْكِنُ الْعُبُورُ عليه إلَّا بِعِلَاجٍ كَالْقَنْطَرَةِ وَنَحْوِهَا وَذَكَرَ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ رحمه الله تعالى أَنَّ الْمُرَادَ من الطَّرِيقِ ما تَمُرُّ فيه الْعَجَلَةُ وما وَرَاءَ ذلك طَرِيقَةٌ لَا طَرِيقٌ وَالْمُرَادُ بِالنَّهْرِ ما تَجْرِي فيه السُّفُنُ وما دُونَ ذلك بِمَنْزِلَةِ الْجَدْوَلِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ‏.‏

فَإِنْ كانت الصُّفُوفُ مُتَّصِلَةً على الطَّرِيقِ جَازَ الِاقْتِدَاءُ لِأَنَّ اتِّصَالَ الصُّفُوفِ أَخْرَجَهُ من أَنْ يَكُونَ مَمَرَّ الناس فلم يَبْقَ طَرِيقًا بَلْ صَارَ مُصَلًّى في حَقِّ هذه الصَّلَاةِ وَكَذَلِكَ إذا كان على هذا النَّهْرِ جِسْرٌ وَعَلَيْهِ صَفٌّ مُتَّصِلٌ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ كان بَيْنَهُمَا حَائِطٌ ذُكِرَ في الْأَصْلِ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لا يُجْزِئُهُ وَهَذَا في الْحَاصِلِ على وَجْهَيْنِ إنْ كان الْحَائِطُ قَصِيرًا ذَلِيلًا بِحَيْثُ يَتَمَكَّنُ كُلُّ أَحَدٍ من الرُّكُوبِ عليه كَحَائِطِ الْمَقْصُورَةِ لَا يَمْنَعُ الِاقْتِدَاءَ لِأَنَّ ذلك لَا يَمْنَعُ التَّبَعِيَّةَ في الْمَكَانِ وَلَا يُوجِبُ خَفَاءَ حَالِ الْإِمَامِ ‏(‏وَلَوْ كان بين الصَّفَّيْنِ حَائِطٌ إنْ كان طَوِيلًا وَعَرِيضًا ليس فيه ثُقْبٌ يَمْنَعُ الِاقْتِدَاءَ وَإِنْ كان فيه ثُقْبٌ لَا يَمْنَعُ مُشَاهَدَةَ حَالِ الْإِمَامِ لَا يَمْنَعُ بِالْإِجْمَاعِ‏)‏ وَإِنْ كان كَبِيرًا فَإِنْ كان عليه باب مَفْتُوحٌ أو خَوْخَةٌ فَكَذَلِكَ وَإِنْ لم يَكُنْ عليه شَيْءٌ من ذلك ففيه ‏[‏فعليه‏]‏ رِوَايَتَانِ وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى التي قال لَا يَصِحُّ أَنَّهُ يَشْتَبِهُ عليه حَالُ إمَامِهِ فَلَا يُمْكِنُهُ الْمُتَابَعَةُ وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى الْوُجُودُ وهو ما ظَهَرَ من عَمَلِ الناس في الصَّلَاةِ بِمَكَّةَ فإن الْإِمَامَ يَقِفُ في مَقَامِ إبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عليه وَسَلَامُهُ وَبَعْضُ الناس يَقِفُونَ وَرَاءَ الْكَعْبَةِ من الْجَانِبِ الْآخَرِ فَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِمَامِ حَائِطُ الْكَعْبَةِ ولم يَمْنَعْهُمْ أَحَدٌ من ذلك فَدَلَّ على الْجَوَازِ وَلَوْ كان بَيْنَهُمَا صَفٌّ من النِّسَاءِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ لِمَا رَوَيْنَا من الحديث وَلِأَنَّ الصَّفَّ من النِّسَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْحَائِطِ الْكَبِيرِ الذي ليس فيه فُرْجَةٌ وَذَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ كَذَا هذا وَلَوْ اقْتَدَى بِالْإِمَامِ في أَقْصَى الْمَسْجِدِ وَالْإِمَامُ في الْمِحْرَابِ جَازَ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ على تَبَاعُدِ أَطْرَافِهِ جُعِلَ في الْحُكْمِ كَمَكَانٍ وَاحِدٍ وَلَوْ وَقَفَ على سَطْحِ الْمَسْجِدِ وَاقْتَدَى بِالْإِمَامِ فَإِنْ كان وُقُوفُهُ خَلْفَ الْإِمَامِ أو بِحِذَائِهِ أَجْزَأَهُ لِمَا رُوِيَ عن أبي هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ وَقَفَ على سَطْحٍ المسجد وَاقْتَدَى بِالْإِمَامِ وهو في جَوْفِهِ وَلِأَنَّ سَطْحَ الْمَسْجِدِ تَبَعٌ لِلْمَسْجِدِ وَحُكْمُ التَّبَعِ حُكْمُ الْأَصْلِ فَكَأَنَّهُ في جَوْفِ الْمَسْجِدِ‏.‏

وَهَذَا إذَا كان لَا يَشْتَبِهُ عليه حَالُ إمَامِهِ فَإِنْ كان يَشْتَبِهُ لَا يَجُوزُ وَإِنْ كان وُقُوفُهُ مُتَقَدِّمًا على الْإِمَامِ لَا يُجْزِئْهُ لِانْعِدَامِ مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ كما لو كان في جَوْفِ الْمَسْجِدِ وَكَذَلِكَ لو كان على سَطْحٍ بِجَنْبِ الْمَسْجِدِ مُتَّصِلٍ بِهِ ليس بَيْنَهُمَا طَرِيقٌ فَاقْتَدَى بِهِ صَحَّ اقْتِدَاؤُهُ عِنْدَنَا‏.‏

وقال الشَّافِعِيُّ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ تَرَكَ مَكَانَ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ من غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَلَنَا أَنَّ السَّطْحَ إذَا كان مُتَّصِلًا بِسَطْحِ الْمَسْجِدِ كان تَبَعًا لِسَطْحِ الْمَسْجِدِ وَتَبَعُ سَطْحِ الْمَسْجِدِ في حُكْمِ الْمَسْجِدِ فَكَانَ اقْتِدَاؤُهُ وهو عليه كَاقْتِدَائِهِ وهو في جَوْفِ الْمَسْجِدِ إذَا كان لَا يَشْتَبِهُ عليه حَالُ الْإِمَامِ وَلَوْ اقْتَدَى خَارِجَ الْمَسْجِدِ بِإِمَامٍ في الْمَسْجِدِ إنْ كانت الصُّفُوفُ مُتَّصِلَةً جَازَ وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّ ذلك الْمَوْضِعَ بِحُكْمِ اتِّصَالِ الصُّفُوفِ يَلْتَحِقُ بِالْمَسْجِدِ هذا إن كان الْإِمَامُ يُصَلِّي في الْمَسْجِدِ فَأَمَّا إذَا كان يُصَلِّي في الصَّحْرَاءِ فَإِنْ كانت الْفُرْجَةُ التي بين الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ قَدْرَ الصَّفَّيْنِ فَصَاعِدًا لَا يَجُوزُ اقْتِدَاؤُهُمْ بِهِ لِأَنَّ ذلك بِمَنْزِلَةِ الطَّرِيقِ الْعَامِّ أو النَّهْرِ الْعَظِيمِ فَيُوجِبُ اخْتِلَافَ الْمَكَانِ وَذُكِرَ في الْفَتَاوَى أَنَّهُ سُئِلَ أبو نَصْرٍ عن إمَامٍ يُصَلِّي في فَلَاةٍ من الْأَرْضِ كَمْ مِقْدَارُ ما بَيْنَهُمَا حتى يَمْنَعَ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ قال إذَا كان مِقْدَارُ ما لَا يُمْكِنُ أَنْ يَصْطَفَّ فيه جَازَتْ صَلَاتُهُمْ فَقِيلَ له لو صلى في مُصَلَّى الْعِيدِ قال حُكْمُهُ حُكْمُ الْمَسْجِدِ وَلَوْ كان الْإِمَامُ يُصَلِّي على دُكَّانٍ وَالْقَوْمُ أَسْفَلَ منه أو على الْقَلْبِ جَازَ وَيُكْرَهُ أَمَّا الْجَوَازُ فَلِأَنَّ ذلك لَا يَقْطَعُ التَّبَعِيَّةَ وَلَا يُوجِبُ خَفَاءَ حَالِ الْإِمَامِ وَأَمَّا الْكَرَاهَةُ فَلِشُبْهَةِ اخْتِلَافِ الْمَكَانِ وَلِمَا يُذْكَرُ في بَيَانِ ما يُكْرَهُ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَفْعَلَهُ في صَلَاتِهِ إن شاء الله تعالى‏.‏ وَانْفِرَادُ الْمُقْتَدِي خَلْفَ الْإِمَامِ عن الصَّفِّ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ‏.‏

وقال أَصْحَابُ الحديث منهم أَحْمَدُ بن حَنْبَل يَمْنَعُ وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال لَا صَلَاةَ لِمُنْفَرِدٍ خَلْفَ الصَّفِّ وَعَنْ وَابِصَةَ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي في حجزة ‏[‏حجرة‏]‏ من الْأَرْضِ فقال أَعِدْ صَلَاتَكَ فإنه لَا صَلَاةَ لِمُنْفَرِدٍ خَلْفَ الصَّفِّ وَلَنَا ما رُوِيَ عن أَنَسِ بن مَالِكٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال أَقَامَنِي النبي صلى الله عليه وسلم وَالْيَتِيمَ وَرَاءَهُ وَأَقَامَ أُمِّي أُمَّ سُلَيْمٍ وَرَاءَنَا جَوَّزَ اقْتِدَاءَهَا بِهِ عن انْفِرَادِهَا خَلْفَ الصُّفُوفِ وَدَلَّ الْحَدِيثُ على أَنَّ مُحَاذَاةَ الْمَرْأَةِ مُفْسِدَةٌ صَلَاةَ الرَّجُلِ لِأَنَّهُ أَقَامَهَا خَلْفَهُمَا مع نَهْيِهِ عن الِانْفِرَادِ خَلْفَ الصَّفِّ فَعُلِمَ أَنَّهُ إنَّمَا فَعَلَ صِيَانَةً لِصَلَاتِهِمَا وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بكر ‏[‏بكرة‏]‏ رضي اللَّهُ عنه دخل الْمَسْجِدَ وَرَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَاكِعٌ فَكَبَّرَ وَرَكَعَ وَدَبَّ حتى الْتَحَقَ بِالصُّفُوفِ فلما فَرَغَ النبي صلى الله عليه وسلم من صَلَاتِهِ قال زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا وَلَا تَعُدْ أو قال لَا تَعْدُ جَوَّزَ اقْتِدَاءَهُ بِهِ خَلْفَ الصَّفِّ وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّهُ لو تَبَيَّنَ أَنَّ من بِجَنْبِهِ كان مُحْدِثًا تَجُوزُ صَلَاتُهُ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كان هو مُنْفَرِدًا خَلْفَ الصَّفِّ حَقِيقَةً وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ على نَفْيِ الْكَمَالِ وَالْأَمْرُ بِالْإِعَادَةِ شَاذٌّ وَلَوْ ثَبَتَ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كان بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِمَامِ ما يَمْنَعُ الِاقْتِدَاءَ وفي الحديث ما يَدُلُّ عليه فإنه قال في حُجْرَةٍ من الْأَرْضِ أَيْ نَاحِيَةٍ لَكِنَّ الْأَوْلَى عِنْدَنَا أَنْ يَلْتَحِقَ بِالصَّفِّ إنْ وَجَدَ فُرْجَةً ثُمَّ يُكَبِّرُ وَيُكْرَهُ له الِانْفِرَادُ من غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَوَجْهُ الْكَرَاهَةِ نَذْكُرهُ في بَيَانِ ما يُكْرَهُ فِعْلُهُ في الصَّلَاةِ وَلَوْ انْفَرَدَ ثُمَّ مَشَى لِيَلْحَقَ بِالصَّفِّ ذُكِرَ في الْفَتَاوَى عن مُحَمَّدِ بن سَلَمَةَ أَنَّهُ إنْ مَشَى في صَلَاتِهِ مِقْدَارَ صَفٍّ وَاحِدٍ لَا تَفْسُدُ وَإِنْ مَشَى أَكْثَرَ من ذلك فَسَدَتْ وَكَذَلِكَ الْمَسْبُوقُ إذَا قام إلَى قَضَاءِ ما سُبِقَ بِهِ فَتَقَدَّمَ حتى لَا يَمُرَّ الناس بين يَدَيْهِ أَنَّهُ إنْ مَشَى قَدْرَ صَفٍّ لَا تَفْسُدُ وَإِنْ كان أَكْثَرَ من ذلك فَسَدَتْ وهو اخْتِيَارُ الْفَقِيهِ أبي اللَّيْثِ سَوَاءٌ كان في الْمَسْجِدِ أو في الصَّحْرَاءِ ولو ‏[‏ومشى‏]‏ مشى مِقْدَارَ صَفٍّ وَوَقَفَ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَقَدَّرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا بِمَوْضِعِ سُجُودِهِ وَبَعْضُهُمْ بِمِقْدَارِ الصَّفَّيْنِ إنْ زَادَ على ذلك فَسَدَتْ صَلَاتُهُ‏.‏