فصل: فصل الذي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْعَقْدِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع ***


فصل الذي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْعَقْدِ

وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْعَقْدِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْقَبُولُ مُوَافِقًا لِلْإِيجَابِ بِأَنْ يَقْبَلَ الْمُشْتَرِي ما أَوْجَبَهُ الْبَائِعُ وَبِمَا أَوْجَبَهُ فَإِنْ خَالَفَهُ بِأَنْ قَبِلَ غير ما أَوْجَبَهُ أو بَعْضَ ما أَوْجَبَهُ أو بِغَيْرِ ما أَوْجَبَهُ أو بِبَعْضِ ما أَوْجَبَهُ لَا يَنْعَقِدُ من غَيْرِ إيجَابٍ مبتدأ مُوَافِقٍ بَيَانُ هذه الْجُمْلَةِ إذَا أَوْجَبَ الْبَيْعَ في الْعَبْدِ فَقَبِلَ في الْجَارِيَةِ لَا يَنْعَقِدُ وَكَذَا إذَا أَوْجَبَ في الْعَبْدَيْنِ فَقَبِلَ في أَحَدِهِمَا بِأَنْ قال بِعْتُ مِنْكَ هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فقال الْمُشْتَرِي قَبِلْتُ في هذا الْعَبْدِ وَأَشَارَ إلَى وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ لَا يَنْعَقِدُ لِأَنَّ الْقَبُولَ في أَحَدِهِمَا تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ على الْبَائِعِ وَالصَّفْقَةُ إذَا وَقَعَتْ مُجْتَمِعَةً من الْبَائِعِ لَا يَمْلِكُ الْمُشْتَرِي تَفْرِيقَهَا قبل التَّمَامِ لِأَنَّ من عَادَةِ التُّجَّارِ ضَمَّ الرَّدِيءِ إلَى الْجَيِّدِ تَرْوِيجًا لِلرَّدِيءِ بِوَاسِطَةِ الْجَيِّدِ فَلَوْ ثَبَتَ لِلْمُشْتَرِي وِلَايَةُ التَّفْرِيقِ لَقَبِلَ في الْجَيِّدِ دُونَ الرَّدِيءِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ الْبَائِعُ وَالضَّرَرُ مَنْفِيٌّ وَلِأَنَّ غَرَضَ التَّرْوِيجِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْقَبُولِ فِيهِمَا جميعا فَلَا يَكُونُ رَاضِيًا بِالْقَبُولِ في أَحَدِهِمَا وَلِأَنَّ الْقَبُولَ في أَحَدِهِمَا يَكُونُ إعْرَاضًا عن الْجَوَابِ بِمَنْزِلَةِ الْقِيَامِ عن الْمَجْلِسِ‏.‏

وَكَذَا لو أَوْجَبَ الْبَيْعَ في كل الْعَبْدِ فَقَبِلَ الْمُشْتَرِي في نِصْفِهِ لَا يَنْعَقِدُ لِأَنَّ الْبَائِعَ يَتَضَرَّرُ بِالتَّفْرِيقِ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ عَيْبُ الشَّرِكَةِ ثُمَّ إذَا قَبِلَ الْمُشْتَرِي بَعْضَ ما أَوْجَبَهُ الْبَائِعُ كان هذا شِرَاءً مُبْتَدَأً من الْبَائِعِ فَإِنْ اتَّصَلَ بِهِ الْإِيجَابُ من الْبَائِعِ في الْمَجْلِسِ فَيُنْظَرُ إنْ كان لِلْبَعْضِ الذي قَبِلَهُ الْمُشْتَرِي حِصَّةٌ مَعْلُومَةٌ من الثَّمَنِ جَازَ وَإِلَّا فَلَا بَيَانُهُ إذَا قال بِعْتُ مِنْكَ هَذَيْنِ الْكُرَّيْنِ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا فَقَبِلَ الْمُشْتَرِي في أَحَدِهِمَا وَأَوْجَبَ الْبَائِعُ جَازَ لِأَنَّ الثَّمَنَ يَنْقَسِمُ على الْمَبِيعِ بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ فِيمَا له مِثْلٌ فَكَانَ بَيْعُ الْكُرَّيْنِ بِعِشْرِينَ بَيْعَ كل كُرٍّ بِعَشَرَةٍ لِتَمَاثُلِ قُفْزَانِ الْكُرَّيْنِ وَكَذَلِكَ إذَا قال بِعْتُ مِنْكَ هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَبِلَ الْمُشْتَرِي في أَحَدِهِمَا وَبَيَّنَ ثَمَنَهُ فقال الْبَائِعُ بِعْتُ يَجُوزُ‏.‏

فَأَمَّا إذَا لم يُبَيِّنْ ثَمَنَهُ لَا يَجُوزُ وَإِنْ ابْتَدَأَ الْبَائِعُ الْإِيجَابَ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْكُرَّيْنِ وَسَائِرِ الْأَشْيَاءِ الْمُتَمَاثِلَةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الثَّمَنَ في الْمِثْلِيَّاتِ يَنْقَسِمُ على الْمَبِيعِ بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ فَكَانَ حِصَّةُ كل وَاحِدٍ مَعْلُومًا وَفِيمَا لَا مِثْلَ له لَا يَنْقَسِمُ الثَّمَنُ على الْمَبِيعِ بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ لِانْعِدَامِ تَمَاثُلِ الْأَجْزَاءِ وإذا لم يَنْقَسِمْ بَقِيَتْ حِصَّةُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا من الثَّمَنِ مَجْهُولَةً وَجَهَالَةُ الثَّمَنِ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْبَيْعِ هذا إذَا لم يُبَيِّنْ الْبَائِعُ حِصَّةَ كل وَاحِدٍ من الْعَبْدَيْنِ بِأَنْ قال بِعْتُ مِنْكَ هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَمَّا إذَا بَيَّنَ بِأَنْ قال بِعْتُ مِنْكَ هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ هذا بِأَلْفٍ وَهَذَا بِخَمْسِمِائَةٍ فَقَبِلَ الْمُشْتَرِي في أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ جَازَ الْبَيْعُ لِانْعِدَامِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ من الْمُشْتَرِي بَلْ الْبَائِعُ هو الذي فَرَّقَ الصَّفْقَةَ حَيْثُ سَمَّى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا على حِدَةٍ وَعُلِمَ أَنَّهُ لَا ضَرَرَ له فيه وَلَوْ كان فَهُوَ ضَرَرٌ مَرْضِيٌّ بِهِ وَأَنَّهُ غَيْرُ مَدْفُوعٍ‏.‏

وَكَذَا إذَا أَوْجَبَ الْبَيْعَ في شَيْءٍ بِأَلْفٍ فَقَبِلَ فيه بِخَمْسِمِائَةٍ لَا يَنْعَقِدُ وَكَذَا لو أَوْجَبَ بِجِنْسِ ثَمَنٍ فَقَبِلَ بِجِنْسٍ آخَرَ إلَّا إذَا رضي الْبَائِعُ بِهِ في الْمَجْلِسِ وَعَلَى هذا إذَا خَاطَبَ الْبَائِعُ رَجُلَيْنِ فقال بِعْتُكُمَا هذا الْعَبْدَ أو هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ فَقَبِلَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ لَا يَنْعَقِدُ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْإِيجَابَ في الْعَبْدَيْنِ أو عَبْدٍ وَاحِدٍ إلَيْهِمَا جميعا فَلَا يَصْلُحُ جَوَابُ أَحَدِهِمَا جَوَابًا لِلْإِيجَابِ وَكَذَا لو خَاطَبَ الْمُشْتَرِي رَجُلَيْنِ فقال اشْتَرَيْتُ مِنْكُمَا هذا الْعَبْدَ بِكَذَا فَأَوْجَبَ في أَحَدِهِمَا لم يَنْعَقِدْ لِمَا قُلْنَا‏.‏

فصل الذي يَرْجِعُ إلَى مَكَانِ الْعَقْدِ

وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى مَكَانِ الْعَقْدِ فَوَاحِدٌ وهو اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ بِأَنْ كان الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ في مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَإِنْ اخْتَلَفَ الْمَجْلِسُ لَا يَنْعَقِدْ حتى لو أَوْجَبَ أَحَدُهُمَا الْبَيْعَ فَقَامَ الْآخَرُ عن الْمَجْلِسِ قبل الْقَبُولِ أو اشْتَغَلَ بِعَمَلٍ آخَرَ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْمَجْلِسِ ثُمَّ قَبِلَ لَا يَنْعَقِدُ لِأَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يَتَأَخَّرَ أَحَدُ الشَّطْرَيْنِ عن الْآخَرِ في الْمَجْلِسِ لِأَنَّهُ كما وُجِدَ أَحَدُهُمَا انْعَدَمَ في الثَّانِي من زَمَانِ وُجُودِهِ فَوُجِدَ الثَّانِي وَالْأَوَّلُ مُنْعَدِمٌ فَلَا يَنْتَظِمُ الرُّكْنُ إلَّا أَنَّ اعْتِبَارَ ذلك يُؤَدِّي إلَى انْسِدَادِ باب الْبَيْعِ فَتَوَقَّفَ أَحَدُ الشَّطْرَيْنِ على الْآخَرِ حُكْمًا وَجُعِلَ الْمَجْلِسُ جَامِعًا لِلشَّطْرَيْنِ مع تَفَرُّقِهِمَا لِلضَّرُورَةِ وَحَقُّ الضَّرُورَةِ يَصِيرُ مقتضيا ‏[‏مقضيا‏]‏ عِنْدَ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ فإذا اخْتَلَفَ لَا يَتَوَقَّفُ وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْفَوْرُ مع ذلك شَرْطٌ لَا يَنْعَقِدُ الرُّكْنُ بِدُونِهِ وَجْهُ قَوْلِهِ ما ذَكَرْنَا أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يَتَأَخَّرَ أَحَدُ الشَّطْرَيْنِ عن الْآخَرِ والتأخر ‏[‏والتأخير‏]‏ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ وإنها تَنْدَفِعُ بِالْفَوْرِ‏.‏

وَلَنَا أَنَّ في تَرْكِ اعْتِبَارِ الْفَوْرِ ضَرُورَةً لِأَنَّ الْقَابِلَ يَحْتَاجُ إلَى التَّأَمُّلِ وَلَوْ اقْتَصَرَ على الْفَوْرِ لَا يُمْكِنُهُ التَّأَمُّلُ وَعَلَى هذا إذَا تَبَايَعَا وَهُمَا يَمْشِيَانِ أو يَسِيرَانِ على دَابَّتَيْنِ أو دَابَّةٍ وَاحِدَةٍ في مَحْمِلٍ وَاحِدٍ فَإِنْ خَرَجَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ مِنْهُمَا مُتَّصِلَيْنِ انْعَقَدَ وَإِنْ كان بَيْنَهُمَا فصل وَسُكُوتٌ وَإِنْ قَلَّ لَا يَنْعَقِدُ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ تَبَدَّلَ بِالْمَشْيِ وَالسَّيْرِ وَإِنْ قَلَّ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو قَرَأَ آيَةَ سَجْدَةٍ وهو يَمْشِي على الْأَرْضِ أو يَسِيرُ على دَابَّةٍ لَا يصلي عليها مِرَارًا يَلْزَمُهُ لِكُلِّ قِرَاءَةٍ سَجْدَةٌ وَكَذَا لو خَيَّرَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ تَمْشِي على الْأَرْضِ أو تَسِيرُ على دَابَّةٍ لَا يصلي عليها فَمَشَتْ أو سَارَتْ يَبْطُلُ خِيَارُهَا لِتَبَدُّلِ الْمَجْلِسِ وَإِنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا مُتَّصِلًا بتغيير ‏[‏بتخيير‏]‏ الزَّوْجِ صَحَّ اخْتِيَارُهَا لِأَنَّ الْمَجْلِسَ لم يَتَبَدَّلْ فَكَذَا هَهُنَا وَلَوْ تَبَايَعَا وَهُمَا وَاقِفَانِ انْعَقَدَ لِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ وَلَوْ أَوْجَبَ أَحَدُهُمَا وَهُمَا وَاقِفَانِ فَسَارَ الْآخَرُ قبل الْقَبُولِ أو سَارَا جميعا ثُمَّ قَبِلَ لَا يَنْعَقِدُ لِأَنَّهُ لَمَّا سَارَا وَسَارَا فَقَدْ تَبَدَّلَ الْمَجْلِسُ قبل الْقَبُولِ فلم يَجْتَمِعْ الشَّطْرَانِ في مَجْلِسٍ وَاحِدٍ وَلَوْ وَقَفَا فَخَيَّرَ امْرَأَتَهُ ثُمَّ سَارَ الزَّوْجُ وَهِيَ وَاقِفَةٌ فَالْخِيَارُ في يَدِهَا وَلَوْ سَارَتْ هِيَ وَالزَّوْجُ وَاقِفٌ بَطَلَ خِيَارُهَا فَالْعِبْرَةُ لِمَجْلِسِهَا لَا لِمَجْلِسِ الزَّوْجِ وفي باب الْبَيْعِ يُعْتَبَرُ مَجْلِسُهُمَا جميعا لِأَنَّ التَّخْيِيرَ من قِبَلِ الزَّوْجِ لَازِمٌ‏.‏

أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عنه فَلَا يَبْطُلُ بِالْإِعْرَاضِ وَأَحَدُ الشَّطْرَيْنِ في باب الْبَيْعِ لَا يَلْزَمُ قبل قَبُولِ الْآخَرِ فَاحْتُمِلَ الْبُطْلَانُ بِالْإِعْرَاضِ وَلَوْ تَبَايَعَا وَهُمَا في سَفِينَةٍ يَنْعَقِدُ سَوَاءٌ كانت وَاقِفَةً أو جَارِيَةً خَرَجَ الشَّطْرَانِ مُتَّصِلَيْنِ أو مُنْفصليْنِ بِخِلَافِ الْمَشْيِ على الْأَرْضِ وَالسَّيْرِ على الدَّابَّةِ لِأَنَّ جَرَيَانَ السَّفِينَةِ بِجَرَيَانِ الْمَاءِ لَا بِإِجْرَائِهِ‏.‏

أَلَا تَرَى أَنَّ رَاكِبَ السَّفِينَةِ لَا يَمْلِكُ وَقْفَهَا فلم يَكُنْ جَرَيَانُهَا مُضَافًا إلَيْهِ فلم يَخْتَلِفْ الْمَجْلِسُ فَأَشْبَهَ الْبَيْتَ بِخِلَافِ الْمَشْيِ وَالسَّيْرِ أَمَّا الْمَشْيُ فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُ فَعَلَهُ وَكَذَا سَيْرُ الدَّابَّةِ مُضَافٌ إلَيْهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو سَيَّرَهَا سَارَتْ وَلَوْ وَقَفَهَا وَقَفَتْ فَاخْتَلَفَ الْمَجْلِسُ بِسَيْرِهَا وَلِهَذَا لو كَرَّرَ آيَةَ السَّجْدَةِ في السَّفِينَةِ وَهِيَ جَارِيَةٌ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ كما لو كَرَّرَهَا في بَيْتٍ وَاحِدٍ وَكَذَا لو خَيَّرَ امْرَأَتَهُ في السَّفِينَةِ وَهِيَ جَارِيَةٌ فَهِيَ على خِيَارِهَا ما لم يُوجَدْ منها دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ وَعَلَى هذا إذَا أَوْجَبَ أَحَدُهُمَا الْبَيْعَ وَالْآخَرُ غَائِبٌ فَبَلَغَهُ فَقَبِلَ لَا يَنْعَقِدُ بِأَنْ قال بِعْتُ عَبْدِي هذا من فُلَانٍ الْغَائِبِ بِكَذَا فَبَلَغَهُ فَقَبِلَ وَلَوْ قَبِلَ عنه قَابِلٌ يَنْعَقِدُ‏.‏وَالْأَصْلُ في هذا أَنَّ أَحَدَ الشَّطْرَيْنِ من أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ في باب الْبَيْعِ يَتَوَقَّفُ على الْآخَرِ في الْمَجْلِسِ وَلَا يَتَوَقَّفُ على الشَّطْرِ الْآخَرِ من الْعَاقِدِ الْآخَرِ فِيمَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ بِالْإِجْمَاعِ إلَّا إذَا كان عنه قَابِلٌ أو كان بِالرِّسَالَةِ أو بِالْكتابةِ أَمَّا الرِّسَالَةُ فَهِيَ أَنْ يُرْسِلَ رَسُولًا إلَى رَجُلٍ وَيَقُولَ لِلرَّسُولِ إنِّي بِعْتُ عَبْدِي هذا من فُلَانٍ الْغَائِبِ بِكَذَا فَاذْهَبْ إلَيْهِ وَقُلْ له إنَّ فُلَانًا أَرْسَلَنِي إلَيْكَ وقال لي قُلْ له إنِّي قد بِعْتُ عَبْدِي هذا من فُلَانٍ بِكَذَا فَذَهَبَ الرَّسُولُ وَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ فقال الْمُشْتَرِي في مَجْلِسِهِ ذلك قَبِلْتُ انْعَقَدَ الْبَيْعُ لِأَنَّ الرَّسُولَ سَفِيرٌ وَمُعَبِّرٌ عن كَلَامِ الْمُرْسِلِ نَاقِلٌ كَلَامَهُ إلَى الْمُرْسَلِ إلَيْهِ فَكَأَنَّهُ حَضَرَ بِنَفْسِهِ فَأَوْجَبَ الْبَيْعَ وَقَبِلَ الْآخَرُ في الْمَجْلِسِ‏.‏

وَأَمَّا الْكتابةُ فَهِيَ أَنْ يَكْتُبَ الرَّجُلُ إلَى رَجُلٍ أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ بِعْتُ عَبْدِي فُلَانًا مِنْكَ بِكَذَا فَبَلَغَهُ الْكتاب فقال في مَجْلِسِهِ اشْتَرَيْتُ لِأَنَّ خِطَابَ الْغَائِبِ كتابهُ فَكَأَنَّهُ حَضَرَ بِنَفْسِهِ وَخَاطَبَ بِالْإِيجَابِ وَقَبِلَ الْآخَرُ في الْمَجْلِسِ وَلَوْ كَتَبَ شَطْرَ الْعَقْدِ ثُمَّ رَجَعَ صَحَّ رُجُوعُهُ لِأَنَّ الْكتاب لَا يَكُونُ فَوْقَ الْخِطَابِ وَلَوْ خَاطَبَ ثُمَّ رَجَعَ قبل قَبُولِ الْآخَرِ صَحَّ رُجُوعُهُ فَهَهُنَا أَوْلَى وَكَذَا لو أَرْسَلَ رَسُولًا ثُمَّ رَجَعَ لِأَنَّ الْخِطَابَ بِالرِّسَالَةِ لَا يَكُونُ فَوْقَ الْمُشَافَهَةِ وَذَا مُحْتَمِلٌ لِلرُّجُوعِ فَهَهُنَا أَوْلَى‏.‏

وَسَوَاءٌ عَلِمَ الرَّسُولُ رُجُوعَ الْمُرْسِلِ أو لم يَعْلَمْ بِهِ بِخِلَافِ ما إذَا وَكَّلَ إنْسَانًا ثُمَّ عَزَلَهُ بِغَيْرِ عِلْمِهِ لَا يَصِحُّ عَزْلُهُ لِأَنَّ الرَّسُولَ يَحْكِي كَلَامَ الْمُرْسِلِ وَيَنْقُلُهُ إلَى الْمُرْسَلِ إلَيْهِ فَكَانَ سَفِيرًا وَمُعَبِّرًا مَحْضًا فلم يُشْتَرَطْ عِلْمُ الرَّسُولِ بِذَلِكَ فَأَمَّا الْوَكِيلُ فَإِنَّمَا يَتَصَرَّفُ عن تَفْوِيضِ الْمُوَكِّلِ إلَيْهِ فَشُرِطَ عِلْمُهُ بِالْعَزْلِ صِيَانَةً له عن التَّعْزِيرِ على ما نَذْكُرُهُ في كتاب الْوَكَالَةِ وَكَذَا هذا في الْإِجَارَةِ وَالْكتابةِ إن اتِّحَادَ الْمَجْلِسِ شَرْطٌ لِلِانْعِقَادِ وَلَا يَتَوَقَّفُ أَحَدُ الشَّطْرَيْنِ من أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ على وُجُودِ الشَّطْرِ الْآخَرِ إذَا كان غَائِبًا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ إلَّا إذَا كان عن الْغَائِبِ قَابِلٌ أو بِالرِّسَالَةِ أو بِالْكتابةِ كما في الْبَيْعِ‏.‏

وَأَمَّا في النِّكَاحِ فَهَلْ يَتَوَقَّفُ بِأَنْ يَقُولَ رَجُلٌ لِلشُّهُودِ اشْهَدُوا أَنِّي قد تَزَوَّجْتُ فُلَانَةَ بِكَذَا وَبَلَغَهَا فَأَجَازَتْ أو قالت امْرَأَةٌ اشْهَدُوا أَنِّي زَوَّجْتُ نَفْسِي من فُلَانٍ بِكَذَا فَبَلَغَهُ فَأَجَازَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَتَوَقَّفُ أَيْضًا إلَّا إذَا كان عن الْغَائِبِ قَابِلٌ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يَتَوَقَّفُ وَإِنْ لم يَقْبَلْ عنه أَحَدٌ وَكَذَا الْفُضُولِيُّ من الْجَانِبَيْنِ بِأَنْ قال زَوَّجْتُ فُلَانَةَ من فُلَانٍ وَهُمَا غَائِبَانِ فَبَلَغَهُمَا فَأَجَازَا لم يَجُزْ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يَجُوزُ وَهَذِهِ مَسْأَلَةُ كتاب النِّكَاحِ وَالْفُضُولِيُّ من الْجَانِبَيْنِ في باب الْبَيْعِ إذَا بَلَغَهُمَا فَأَجَازَا لم يَجُزْ بِالْإِجْمَاعِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ‏.‏

وَأَمَّا الشَّطْرُ في باب الْخُلْعِ فَمِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ يَتَوَقَّفُ بِالْإِجْمَاعِ حتى لو قال خَالَعْتُ امْرَأَتِي الْغَائِبَةَ على كَذَا فَبَلَغَهَا الْخَبَرُ فَقَبِلَتْ جَازَ وَأَمَّا من جَانِبِ الْمَرْأَةِ فَلَا يَتَوَقَّفُ بِالْإِجْمَاعِ حتى لو قالت اخْتَلَعْتُ من زَوْجِي فُلَانٍ الْغَائِبِ على كَذَا فَبَلَغَهُ الْخَبَرُ فَأَجَازَ لم يَجُزْ وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْخُلْعَ في جَانِبِ الزَّوْجِ يَمِينٌ لِأَنَّهُ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِقَبُولِ الْمَالِ فَكَانَ يَمِينًا وَلِهَذَا لَا يُمْلَكُ الرُّجُوعُ عنه وَتَصِحُّ فيه الْإِضَافَةُ إلَى الْوَقْتِ وَالتَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ بِأَنْ يَقُولَ الزَّوْجُ خَالَعْتكِ غَدًا وَإِنْ قَدِمَ فُلَانٌ فَقَدْ خَالَعْتكِ على كَذَا وإذا كان يَمِينًا فَغَيْبَةُ الْمَرْأَةِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْيَمِينِ كما في التَّعْلِيقِ بِدُخُولِ الدَّارِ وَغَيْرِ ذلك‏.‏

وَأَمَّا من جَانِبِ الْمَرْأَةِ فَهُوَ مُعَاوَضَةٌ وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ من جَانِبِهَا ولاتصح إضَافَتُهُ إلَى وَقْتٍ وَتَمْلِكُ الرُّجُوعَ قبل إجَازَةِ الزَّوْجِ وإذا كان مُعَاوَضَةً فَالشَّطْرُ في الْمُعَاوَضَاتِ لَا يَتَوَقَّفُ كما في الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ وَكَذَا الشَّطْرُ في إعْتَاقِ الْعَبِيدِ على مَالٍ من جَانِبِ الْمَوْلَى يَتَوَقَّفُ إذَا كان الْعَبْدُ غَائِبًا وَمِنْ جَانِبِ الْعَبْدِ لَا يَتَوَقَّفُ إذَا كان الْمَوْلَى غَائِبًا لِأَنَّهُ من جَانِبِهِ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالشَّرْطِ وَمِنْ جَانِبِ الْعَبْدِ مُعَاوَضَةٌ‏.‏

وَالْأَصْلُ أَنَّ في كل مَوْضِعٍ لَا يَتَوَقَّفُ الشَّطْرُ على ما وَرَاءِ الْمَجْلِسِ يَصِحُّ الرُّجُوعُ عنه وَلَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ وَإِضَافَتُهُ إلَى الْوَقْتِ كما في الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْكتابةِ وفي كل مَوْضِعٍ يَتَوَقَّفُ الشَّطْرُ على ما وَرَاءَ الْمَجْلِسِ لَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ عنه وَيَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ وَإِضَافَتُهُ إلَى الْوَقْتِ كما في الْخُلْعِ من جَانِبِ الزَّوْجِ وَالْإِعْتَاقِ على مَالٍ من جَانِبِ الْمَوْلَى وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ‏.‏

فصل الذي يَرْجِعُ إلَى الْمَعْقُودِ عليه

وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمَعْقُودِ عليه فَأَنْوَاعٌ منها أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا فَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ الْمَعْدُومِ وَمَالَهُ خَطَرُ الْعَدَمِ كَبَيْعِ نِتَاجِ النِّتَاجِ بِأَنْ قال بِعْتُ وَلَدَ وَلَدِ هذه النَّاقَةِ وَكَذَا بَيْعُ الْحَمْلِ لِأَنَّهُ إنْ بَاعَ الْوَلَدَ فَهُوَ بَيْعُ الْمَعْدُومِ وَإِنْ بَاعَ الْحَمْلَ فَلَهُ خَطَرُ الْمَعْدُومِ وَكَذَا بَيْعُ اللَّبَنِ في الضَّرْعِ لِأَنَّهُ له خَطَرٌ لِاحْتِمَالِ انْتِفَاخِ الضَّرْعِ وَكَذَا بَيْعُ الثَّمَرِ وَالزَّرْعِ قبل ظُهُورِهِ لِأَنَّهُمَا مَعْدُومٌ وَإِنْ كان بَعْدَ الطُّلُوعِ جَازَ وَإِنْ كان قبل بُدُوِّ صَلَاحِهِمَا إذَا لم يُشْتَرَطْ التَّرْكُ وَمِنْ مَشَايِخِنَا من قال لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا صَارَ بِحَالٍ يُنْتَفَعُ بِهِ بِوَجْهٍ من الْوُجُوهِ فَإِنْ كان بِحَيْثُ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ أَصْلًا لَا يَنْعَقِدُ‏.‏

وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نهى عن بَيْعِ الثِّمَارِ قبل بُدُوِّ صَلَاحِهَا وَلِأَنَّهُ إذَا لم يَبْدُ صَلَاحُهَا لم تَكُنْ مُنْتَفَعًا بها فَلَا تَكُونُ مَالًا فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَهَذَا خِلَافُ الرِّوَايَةِ فإن مُحَمَّدًا ذَكَرَ في كتاب الزَّكَاةِ في باب الْعُشْرِ أَنَّهُ لو بَاعَ الثِّمَارَ في أَوَّلِ ما تَطْلُعُ وَتَرَكَهَا بِأَمْرِ الْبَائِعِ حتى أَدْرَكَتْ فَالْعُشْرُ على الْمُشْتَرِي وَلَوْ لم يَجُزْ بَيْعُهَا حين ما طَلَعَتْ لَمَا وَجَبَ عُشْرُهَا على الْمُشْتَرِي وَالدَّلِيلُ على جَوَازِ بَيْعِهِ ما رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال من بَاعَ نَخْلًا مُؤَبَّرَةً فَثَمَرَتُهُ لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهَا الْمُبْتَاعُ جَعْلُ الثَّمَرَةِ لِلْمُشْتَرِي بِالشَّرْطِ من غَيْرِ فصل بين ما إذَا بَدَا صَلَاحُهَا أو لَا دَلَّ أنها مَحَلُّ الْبَيْعِ كَيْفَ ما كان وَالْمَعْنَى فيه وهو أَنَّهُ بَاعَ ثَمَرَةً مَوْجُودَةً وَهِيَ بِعَرَضٍ أَنْ تَصِيرَ مُنْتَفَعًا بها في الثَّانِي وَإِنْ لم يَكُنْ مُنْتَفَعًا بها في الْحَالِ فَيَجُوزُ بَيْعُهَا كَبَيْعِ جَرْوِ الْكَلْبِ على أَصْلِنَا وَبَيْعِ الْمَهْرِ وَالْجَحْشِ وَالْأَرْضِ السَّبْخَةِ وَالنَّهْيُ مَحْمُولٌ على بَيْعِ الثِّمَارِ مُدْرَكَةٌ قبل إدْرَاكِهَا بِأَنْ بَاعَهَا ثَمَرًا وَهِيَ بُسْرٌ أو بَاعَهَا عِنَبًا وَهِيَ حِصْرِمٌ دَلِيلُ صِحَّةِ هذا التَّأْوِيلِ‏.‏

قَوْلُهُ عليه السلام في سِيَاقِ الحديث أَرَأَيْتَ إنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ بِمَ يَسْتَحِلُّ أحدكم مَالَ صَاحِبِهِ وَلَفْظَةُ الْمَنْعِ تَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ ما وَقَعَ عليه الْبَيْعُ مَوْجُودًا لِأَنَّ الْمَنْعَ مَنْعُ الْوُجُودِ وما يُوجَدُ من الزَّرْعِ بَعْضُهُ بَعْدَ بَعْضٍ كَالْبِطِّيخِ وَالْبَاذِنْجَانِ فَيَجُوزُ بَيْعُ ما ظَهَرَ منه وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ ما لم يَظْهَرْ وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وقال مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا ظَهَرَ فيه الْخَارِجُ الْأَوَّلُ يَجُوزُ بَيْعُهُ لِأَنَّ فيه ضَرُورَةً لِأَنَّهُ لَا يَظْهَرُ الْكُلُّ دَفْعَةً وَاحِدَةً بَلْ على التَّعَاقُبِ بَعْضُهَا بَعْدَ بَعْضٍ فَلَوْ لم يَجُزْ بَيْعُ الْكُلِّ عِنْدَ ظُهُورِ الْبَعْضِ لَوَقَعَ الناس في الْحَرَجِ وَلَنَا أَنَّ ما لم يَظْهَرْ منه مَعْدُومٌ فَلَا يَحْتَمِلُ الْبَيْعَ وَدَعْوَى الضَّرُورَةِ وَالْحَرَجِ مَمْنُوعَةٌ فإنه يُمْكِنُهُ أَنْ يَبِيعَ الْأَصْلَ بِمَا فيه من الثَّمَرِ وما يَحْدُثُ منه بَعْدَ ذلك يَكُونُ مِلْكَ الْمُشْتَرِي‏.‏

وقد رُوِيَ أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بَيْعِ الْحَبَلِ وَحَبَلِ الْحَبَلِ وَرُوِيَ حَبَلُ الْحَبَلَةِ وهو ‏[‏وهي‏]‏ بِمَعْنَى الْأَوَّلِ وَإِنَّمَا زِيَادَةُ الْهَاءِ لِلتَّأْكِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ وروى حَبَلُ الْحَبَلَةِ بِحِفْظِ الْهَاءِ من الْكَلِمَةِ الْأَخِيرَةِ وَالْحَبَلَةُ هِيَ الْحُبْلَى فَكَانَ نَهْيًا عن بَيْعِ وَلَدِ الْحُبْلَى وَرُوِيَ عنه عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ نهى عن بَيْعِ اللَّبَنِ في الضَّرْعِ وَبَيْعِ عَسْبِ الْفَحْلِ لِأَنَّ عَسْبَ الْفَحْلِ ضِرَابُهُ وهو عِنْدَ الْعَقْدِ مَعْدُومٌ وقد رُوِيَ أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن عَسْبِ الْفَحْلِ وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ النَّهْيِ على نَفْسِ الْعَسْبِ وهو الضِّرَابُ لِأَنَّ ذلك جَائِزٌ بِالْإِعَارَةِ فَيُحْمَلُ على الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ إلَّا أَنَّهُ حَذَفَ ذلك واضمره فيه كما في قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ‏}‏ وَغَيْرِ ذلك وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الدَّقِيقِ في الْحِنْطَةِ وَالزَّيْتِ في الزيوت ‏[‏الزيتون‏]‏ وَالدُّهْنِ في السِّمْسِمِ وَالْعَصِيرِ في الْعِنَبِ وَالسَّمْنِ في اللَّبَنِ‏.‏

وَيَجُوزُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ وَسَائِرِ الْحُبُوبِ في سَنَابِلِهَا لِأَنَّ بَيْعَ الدَّقِيقِ في الْحِنْطَةِ وَالزَّيْتِ في الزَّيْتُونِ وَنَحْوَ ذلك بَيْعُ الْمَعْدُومِ لِأَنَّهُ لَا دَقِيقَ في الْحِنْطَةِ وَلَا زَيْتَ في الزَّيْتُونِ لِأَنَّ الْحِنْطَةَ اسْمٌ لِلْمُرَكَّبِ وَالدَّقِيقَ اسْمٌ لِلْمُتَفَرِّقِ فَلَا دَقِيقَ في حَالِ كَوْنِهِ حِنْطَةً وَلَا زَيْتَ حَالَ كَوْنِهِ زَيْتُونًا فَكَانَ هذا بَيْعَ الْمَعْدُومِ فَلَا يَنْعَقِدُ بِخِلَافِ بَيْعِ الْحِنْطَةِ في سُنْبُلِهَا لِأَنَّ ما في السُّنْبُلِ حِنْطَةٌ إذْ هِيَ اسْمٌ لِلْمُرَكَّبِ وَهِيَ في سُنْبُلِهَا على تَرْكِيبِهَا فَكَانَ بَيْعَ الْمَوْجُودِ حتى لو بَاعَ تِبْنَ الْحِنْطَةِ في سُنْبُلِهَا دُونَ الْحِنْطَةِ لَا يَنْعَقِدُ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ تِبْنًا إلَّا بِالْعِلَاجِ وهو الدَّقُّ فلم يَكُنْ تِبْنًا قَبْلَهُ فَكَانَ بَيْعَ الْمَعْدُومِ فَلَا يَنْعَقِدُ وَبِخِلَافِ بَيْعِ الْجِذْعِ في السَّقْفِ وَالْآجُرِّ في الْحَائِطِ وَذِرَاعٍ من كِرْبَاسٍ أو دِيبَاجٍ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ حتى لو نُزِعَ وَقُطِعَ وَسُلِّمَ إلَى الْمُشْتَرِي يُجْبَرُ على الْأَخْذِ وَهَهُنَا لَا يَنْعَقِدُ أَصْلًا حتى لو طَحَنَ أو عَصَرَ وسلم لَا يُجْبِرْ الْمُشْتَرِي على الْقَبُولِ لِأَنَّ عَدَمَ النَّفَاذِ هُنَاكَ ليس لِخَلَلٍ في الرُّكْنِ وَلَا في الْعَاقِدِ وَالْمَعْقُودِ عليه بَلْ لِمَضَرَّةٍ تَلْحَقُ الْعَاقِدَ بِالنَّزْعِ وَالْقَطْعِ فإذا نَزَعَ وَقَطَعَ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ فَنَفَذَ أَمَّا هَهُنَا فَالْمَعْقُودُ عليه مَعْدُومٌ حَالَةَ الْعَقْدِ وَلَا يُتَصَوَّرُ انْعِقَادُ الْعَقْدِ بِدُونِهِ فلم يَنْعَقِدْ أَصْلًا فَلَا يَحْتَمِلُ النَّفَاذَ فَهُوَ الْفَرْقُ‏.‏

وَكَذَا بَيْعُ الْبَزْرِ في الْبِطِّيخِ غير ‏[‏الصحيح‏]‏ غير صحيح لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الزَّيْتِ في الزَّيْتُونِ وَبَيْعُ النَّوَى في التَّمْرِ وَكَذَلِكَ بَيْعُ اللَّحْمِ في الشَّاةِ الْحَيَّةِ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَصِيرُ لَحْمًا بِالذَّبْحِ وَالسَّلْخِ فَكَانَ بَيْعَ الْمَعْدُومِ فَلَا يَنْعَقِدُ وَكَذَا بَيْعُ الشَّحْمِ الذي فيها واليتها وَأَكَارِعِهَا وَرَأْسِهَا لِمَا قُلْنَا وَكَذَا بَيْعُ الْبُحَيْرِ في السِّمْسِمِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ بُحَيْرًا بَعْدَ الْعَصْرِ وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا قال بِعْتُكَ هذا الْيَاقُوتَ بِكَذَا فإذا هو زُجَاجٌ أو قال بِعْتُكَ هذا الْفَصَّ على أَنَّهُ يَاقُوت بِكَذَا فإذا هو زُجَاج أو قال بِعْتُكَ هذا الثَّوْبَ الْهَرَوِيَّ بِكَذَا فإذا هو مَرْوِيٌّ أو قال بِعْتُكَ هذا الثَّوْبَ على أَنَّهُ مَرْوِيٌّ فإذا هو هَرَوِيٌّ لَا يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ في هذه الْمَوَاضِعِ لِأَنَّ الْمَبِيعَ مَعْدُومٌ‏.‏

وَالْأَصْلُ في هذا أَنَّ الْإِشَارَةَ مع التَّسْمِيَةِ إذَا اجْتَمَعَتَا في باب الْبَيْعِ فِيمَا يَصْلُحُ مَحَلَّ الْبَيْعِ يُنْظَرُ إنْ كان الْمُشَارُ إلَيْهِ من خِلَافِ الجنس ‏[‏جنس‏]‏ الْمُسَمَّى فَالْعِبْرَةُ لِلتَّسْمِيَةِ وَيَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِالْمُسَمَّى وَإِنْ كان من جِنْسِهِ لَكِنْ يُخَالِفُهُ في الصِّفَةِ فَإِنْ تَفَاحَشَ التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا فَالْعِبْرَةُ لِلتَّسْمِيَةِ أَيْضًا عِنْدَنَا وَيُلْحَقَانِ بِمُخْتَلِفَيْ الْجِنْسِ وَإِنْ قَلَّ التَّفَاوُتُ فَالْعِبْرَةُ لِلْمُشَارِ إلَيْهِ وَيَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِهِ وإذا عُرِفَ هذا فَنَقُولُ الْيَاقُوتُ مع الزُّجَاجِ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ وَكَذَا الْهَرَوِيُّ مع الْمَرْوِيِّ نَوْعَانِ مُخْتَلِفَانِ فَيَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ فيه بِالْمُسَمَّى وهو مَعْدُومٌ فَيَبْطُلُ وَلَا يَنْعَقِدُ ولو قال بِعْتُكَ هذا الْعَبْدَ فإذا هو جَارِيَةٌ لَا يَنْعَقِدُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجُوزُ‏.‏

وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمُسَمَّى هَهُنَا من جِنْسِ الْمُشَارِ إلَيْهِ أَعْنِي الْعَبْدَ وَالْجَارِيَةَ وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ في صِفَةِ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ وَهَذَا لَا يَمْنَعُ تَعَلُّقَ الْعَقْدِ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ كما إذَا قال بِعْتُكَ هذه الشَّاةَ على أنها نَعْجَةٌ فإذا هِيَ كَبْشٌ وَلَنَا أَنَّهُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ في الْمَعْنَى لِاخْتِلَافِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ الْمَطْلُوبَةِ اخْتِلَافًا فَاحِشًا فَالْتُحِقَا بِمُخْتَلِفَيْ الْجِنْسِ حَقِيقَةً بِخِلَافِ النَّعْجَةِ مع الْكَبْشِ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا جِنْسًا ذَاتًا وَمَعْنًى إما ذَاتًا فَظَاهِرٌ لِأَنَّ اسْمَ الشَّاةِ يَتَنَاوَلُهُمَا‏.‏

وَأَمَّا مَعْنًى فَلِأَنَّ الْمَطْلُوبَ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْفَعَةُ الْأَكْلِ فَتَجَانَسَا ذَاتًا وَمَنْفَعَةً فَتَعَلَّقَ الْعَقْدُ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ وهو مَوْجُودٌ مَحَلٌّ لِلْبَيْعِ فَجَازَ بَيْعُهُ وَلَكِنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ لِأَنَّهُ فَاتَتْهُ صِفَةٌ مَرْغُوبَةٌ فَأَوْجَبَ ذلك خَلَلًا في الرِّضَا فَيَثْبُتُ له الْخِيَارُ وَكَذَا لو بَاعَ دَارًا على أَنَّ بِنَاءَهَا آجُرٌّ فإذا هو لَبِنٌ لَا يَنْعَقِدُ لِأَنَّهُمَا يَتَفَاوَتَانِ في الْمَنْفَعَةِ تَفَاوُتًا فَاحِشًا فَكَانَا كَالْجِنْسَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ‏.‏

وَكَذَا لو بَاعَ ثَوْبًا على أَنَّهُ مَصْبُوغٌ بِعُصْفُرٍ فإذا هو مَصْبُوغٌ بِزَعْفَرَانٍ لَا يَنْعَقِدُ لِأَنَّ الْعُصْفُرَ مع الزعفراني ‏[‏الزعفران‏]‏ يَخْتَلِفَانِ في اللَّوْنِ اخْتِلَافًا فَاحِشًا وَكَذَا لو بَاعَ حِنْطَةً في جَوْلَقٍ فإذا هو دَقِيقٌ أو شَرَطَ الدَّقِيقَ فإذا هو خُبْزٌ لَا يَنْعَقِدُ لِأَنَّ الْحِنْطَةَ مع الدَّقِيقِ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ وَكَذَا الدَّقِيقُ مع الْخُبْزِ أَلَا تَرَى إن من غَصَبَ من آخَرَ حِنْطَةً وَطَحَنَهَا يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمِلْكِ دَلَّ أنها تَصِيرُ بِالطَّحْنِ شيئا آخَرَ فَكَانَ بَيْعَ الْمَعْدُومِ فَلَا يَنْعَقِدُ وَإِنْ قال بِعْتُكَ هذه الشَّاةَ على أنها مَيْتَةٌ فإذا هِيَ ذَكِيَّةٌ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الْمَيْتَةَ لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ لِلْبَيْعِ فَلَغَتْ التَّسْمِيَةُ وَبَقِيَتْ الْإِشَارَةُ إلَى الذَّكِيَّةِ وَلَوْ قال بِعْتُكَ هذا الثَّوْبَ الْقَزَّ فإذا هو مُلْحَمٌ يَنْظُرُ إنْ كان سَدَاهُ من الْقَزِّ وَلُحْمَتُهُ من غَيْرِهِ لَا يَنْعَقِدُ وَإِنْ كان لُحْمَتُهُ من الْقَزِّ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ لِأَنَّ الْأَصْلَ في الثَّوْبِ هو اللُّحْمَةُ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ ثَوْبًا بها فإذا كانت لُحْمَتُهُ من غَيْرِ الْقَزِّ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْجِنْسُ فَكَانَتْ الْعِبْرَةُ لِلتَّسْمِيَةِ وَالْمُسَمَّى مَعْدُومٌ فلم يَنْعَقِدْ الْبَيْعُ وإذا كانت من الْقَزِّ فَالْجِنْسُ لم يَخْتَلِفْ فنعتبر ‏[‏فتعتبر‏]‏ الْإِشَارَةُ وَالْمُشَارُ إلَيْهِ مَوْجُودٌ فَكَانَ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ إلَّا أَنَّهُ يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي لِأَنَّ كَوْنَ السدي منه أَمْرٌ مَرْغُوبٌ فيه وقد فَاتَ فَوَجَبَ الْخِيَارُ‏.‏

وَكَذَلِكَ إذَا قال بِعْتُكَ هذا الثَّوْبَ الْخَزَّ بِكَذَا فإذا هو مُلْحَمٌ فَهُوَ على التَّفْصِيلِ إلَّا أَنَّ لُحْمَتَهُ إذَا كانت خَزًّا وَسَدَاهُ من غَيْرِهِ حتى جَازَ الْبَيْعُ فَقَدْ قِيلَ إنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَثْبُتَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي هَهُنَا لِأَنَّ الْخَزَّ هَكَذَا يُنْسَجُ بِخِلَافِ الْقَزِّ وَلَوْ بَاعَ جُبَّةً على أَنَّ بِطَانَتَهَا وَظِهَارَتَهَا كَذَا وَحَشْوَهَا كَذَا فَإِنْ كانت الظِّهَارَةُ من غَيْرِ ما شَرَطَ لَا يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ وَإِنْ كانت الْبِطَانَةُ وَالْحَشْوُ مِمَّا شَرَطَ وَإِنْ كانت الظِّهَارَةُ مِمَّا شَرَطَ جَازَ الْبَيْعُ وَإِنْ كانت الْبِطَانَةُ وَالْحَشْوُ من غَيْرِ ما شَرَطَ لِأَنَّ الْأَصْلَ هو الظِّهَارَةُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُنْسَبُ الثَّوْبُ إلَيْهَا وَيَخْتَلِفُ الِاسْمُ بِاخْتِلَافِهَا وَإِنَّمَا الْبِطَانَةُ تَجْرِي مَجْرَى التَّابِعِ لها وَكَذَا الْحَشْوُ فَكَانَ الْمَعْقُودُ عليه هو الظِّهَارَةَ وما سِوَاهَا جَارِيًا مَجْرَى الْوَصْفِ لها فَفَوَاتُهُ لَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ وَلَكِنَّهُ يُوجِبُ الْخِيَارَ لِأَنَّهُ فَاتَ شَيْءٌ مَرْغُوبٌ فيه‏.‏

وَلَوْ قال بِعْتُكَ هذه الدَّارَ على أَنَّ فيها بِنَاءً فإذا لَا بِنَاءَ فيها فَالْبَيْعُ جَائِزٌ وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ فُرِّقَ بين هذا وَبَيْنَ ما إذَا قال بِعْتُكَ هذه الدَّارَ على أَنَّ بِنَاءَهَا آجُرٌّ فإذا هو لَبِنٌ أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْآجُرَّ مع اللَّبِنِ يَتَفَاوَتَانِ في الْمَنْفَعَةِ تَفَاوُتًا فَاحِشًا فَالْتَحَقَا بِمُخْتَلِفَيْ الْجِنْسِ على ما بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَالًا لِأَنَّ الْبَيْعَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ فَلَا يَنْعَقِدَ بَيْعُ الْحُرِّ لِأَنَّهُ ليس بِمَالٍ وَكَذَا بَيْعُ أُمِّ الْوَلَدِ لِأَنَّهَا حُرَّةٌ من وَجْهٍ لِمَا رُوِيَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا‏.‏

وَرُوِيَ عنه عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال في أُمِّ الْوَلَدِ لَا تُبَاعُ وَلَا تُوهَبُ وَهِيَ حُرَّةٌ من الثُّلُثِ نَفَى عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَوَازَ بَيْعِهَا مُطْلَقًا وَسَمَّاهَا حُرَّةً فَلَا تَكُونُ مَالًا على الإطلاق خُصُوصًا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه لِأَنَّ الاستيلاد يُوجِبُ سُقُوطَ الْمَالِيَّةِ عِنْدَهُ حتى لَا تُضْمَنَ بِالْغَصْبِ وَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَالْإِعْتَاقِ وَإِنَّمَا تُضْمَنُ بِالْقَتْلِ لَا غَيْرُ لِأَنَّ ضَمَانَ الْقَتْلِ ضَمَانُ الدَّمِ لَا ضَمَانُ الْمَالِ وَالْمَسْأَلَةُ تَأْتِي في مَوْضِعِهَا إن شاء الله تعالى‏.‏

وَلَا بَيْعُ الْمُدَبَّرِ الْمُطْلَقِ عِنْدَنَا وقال الشَّافِعِيُّ عليه الرَّحْمَةُ بَيْعُ الْمُدَبَّرِ جَائِزٌ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن جَابِرِ بن عبد اللَّهِ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أَجَازَ بَيْعَ الْمُدَبَّرِ وَعَنْ سَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أنها دَبَّرَتْ مَمْلُوكَةً لها فَغَضِبَتْ عليها فَبَاعَتْهَا وَلِأَنَّ التَّدْبِيرَ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالْمَوْتِ وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ عَدَمٌ قبل وُجُودِ الشَّرْطِ فلم يَكُنْ الْعِتْقُ ثَابِتًا أَصْلًا قبل الْمَوْتِ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ كما إذَا عَلَّقَ عِتْقَ عَبْدِهِ بِدُخُولِ الدَّارِ وَنَحْوِ ذلك ثُمَّ بَاعَهُ قبل أَنْ يَدْخُلَ الدَّارَ وَكَمَا في الْمُدَبَّرِ الْمُقَيَّدِ‏.‏

وَلَنَا ما رَوَى أبو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَجَابِرُ بن عبد اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بَيْعِ الْمُدَبَّرِ وَمُطْلَقُ النَّهْيِ مَحْمُولٌ على التَّحْرِيمِ وَرُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال الْمُدَبَّرُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وهو حُرٌّ من الثُّلُثِ وَهَذَا نَصٌّ في الْباب وَلِأَنَّهُ حُرٌّ من وَجْهٍ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَأُمِّ الْوَلَدِ‏.‏

وَالدَّلِيلُ على أَنَّهُ حُرٌّ من وَجْهٍ الِاسْتِدْلَال بِضَرُورَةِ الْإِجْمَاعِ وهو أَنَّهُ يَعْتِقُ بَعْدَ الْمَوْتِ بِالْإِجْمَاعِ وَالْحُرِّيَّةُ لَا بُدَّ لها من سَبَبٍ وَلَيْسَ ذلك إلَّا الْكَلَامُ السَّابِقُ وَلَيْسَ هو بِتَحْرِيرٍ بَعْدَ الْمَوْتِ لِأَنَّ التَّحْرِيرَ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ وَأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ من الْمَيِّتِ فَكَانَ تَحْرِيرًا من حِينِ وُجُودِهِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَثْبُتَ بِهِ الْحُرِّيَّةُ من كل وَجْهٍ لِلْحَالِ إلَّا أنها تَأَخَّرَتْ من وَجْهٍ إلَى آخَرَ جُزْءٍ من أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ بِالْإِجْمَاعِ وَلَا إجْمَاعَ على التَّأْخِيرِ من وَجْهٍ فَبَقِيَتْ الْحُرِّيَّةُ من وَجْهٍ ثَابِتَةً لِلْحَالِ فَلَا يَكُونُ مَالًا مُطْلَقًا فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ‏.‏

وَحَدِيثُ جَابِرٍ وَسَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنهما حِكَايَةُ فِعْلٍ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَجَازَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَيْعَ مدبر ‏[‏مد‏]‏ مقيد ‏[‏مقيدا‏]‏ أو بَاعَ مُدَبَّرًا مُقَيَّدًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ منه الْإِجَارَةَ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ بِلُغَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ تُسَمَّى بَيْعًا وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كان في ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ حين كان بَيْعُ الْمُدَبَّرِ مَشْرُوعًا ثُمَّ نُسِخَ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مع الِاحْتِمَالِ وَأَمَّا الْمُدَبَّرُ الْمُقَيَّدُ فَهُنَاكَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الْكَلَامُ السَّابِقُ إيجَابًا من حِينِ وُجُودِهِ لِأَنَّهُ عُلِّقَ عِتْقُهُ بِمَوْتٍ مَوْصُوفٍ بِصِفَةٍ وَاحْتُمِلَ أَنْ يَمُوتَ من ذلك الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ أو لَا فَكَانَ الحظر ‏[‏الخطر‏]‏ قَائِمًا فَكَانَ تَعْلِيقًا فلم يَكُنْ إيجَابًا ما دَامَ الحظر ‏[‏الخطر‏]‏ قَائِمًا وَمَتَى اتَّصَلَ بِهِ الْمَوْتُ يَظْهَرُ أَنَّهُ كان تَحْرِيرًا من وَجْهٍ من حِينِ وُجُودِهِ لَكِنْ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ‏.‏

وَلَا بَيْعُ الْمُكَاتَبِ لِأَنَّهُ حُرٌّ يَدًا فَلَا تَثْبُتُ يَدُ تَصَرُّفِ الْغَيْرِ عليه وَلَا بَيْعُ مُعْتَقِ الْبَعْضِ مُوسِرًا كان الْمُعْتِقُ أو مُعْسِرًا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه وَعِنْدَهُمَا هو حُرٌّ عليه دَيْنٌ وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رضي اللَّهُ عنه فَإِنْ كان الْمُعْتِقُ مُعْسِرًا فَلِشَرِيكِهِ السَّاكِتِ أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ بِنَاءً على أَصْلِهِ أَنَّ الْمُعْتِقَ إنْ كان مُعْسِرًا فَالْإِعْتَاقُ مُنْجَزٌ فَبَقِيَ نَصِيبُ شَرِيكِهِ على مِلْكِهِ فَيَجُوزُ له بَيْعُهُ وَكُلُّ جَوَابٍ عَرَفْتَهُ في هَؤُلَاءِ فَهُوَ الْجَوَابُ في الْأَوْلَادِ من هَؤُلَاءِ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَحْدُثُ على وَصْفِ الْأُمِّ وَلِهَذَا كان وَلَدُ الْحُرَّةِ حُرًّا وَوَلَدُ الْأَمَةِ رَقِيقًا وَكَمَا لَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ الْمُكَاتَبِ وَوَلَدِهِ الْمَوْلُودِ في الْكتابةِ لَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ وَلَدِهِ المشتري في الْكتابةِ وَوَالِدَتِهِ لِأَنَّهُمْ تَكَاتَبُوا بِالشِّرَاءِ وَأَمَّا من سِوَاهُمْ من ذَوِي الْأَرْحَامِ إذَا اشْتَرَاهُمْ يَجُوزُ بَيْعُهُمْ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه لِأَنَّهُمْ لم يَتَكَاتَبُوا بِالشِّرَاءِ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُمْ تَكَاتَبُوا وَهِيَ مَسْأَلَةُ كتاب الْمُكَاتَبِ وَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ لِأَنَّهُ ليس بِمَالٍ وَكَذَلِكَ ذَبِيحَةُ الْمَجُوسِيِّ وَالْمُرْتَدِّ وَالْمُشْرِكِ لِأَنَّهَا مَيْتَةٌ وَكَذَا مَتْرُوكُ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَهِيَ مَسْأَلَةُ كتاب الذَّبَائِحِ‏.‏

وَكَذَا ذَبِيحَةُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الذي لَا يَعْقِلُ لِأَنَّهَا في مَعْنَى الْمَيْتَةِ وَكَذَا ما ذُبِحَ من صَيْدِ الْحَرَمِ مُحْرِمًا كان الذَّابِحُ أو حَلَالًا وما ذَبَحَهُ الْمُحْرِمُ من الصَّيْدِ سَوَاءٌ كان صَيْدَ الْحَرَمِ أو الْحِلِّ لِأَنَّ ذلك مَيْتَةٌ وَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ صَيْدِ الْحَرَمِ مُحْرِمًا كان الْبَائِعُ أو حَلَالًا لِأَنَّهُ حَرَامٌ الِانْتِفَاعُ بِهِ شَرْعًا فلم يَكُنْ مَالًا وَلَا بَيْعُ صَيْدِ الْمُحْرِمِ سَوَاءٌ كان صَيْدَ الْحَرَمِ أو الْحِلِّ لِأَنَّهُ حَرَامٌ الِانْتِفَاعُ بِهِ في حَقِّهِ فَلَا يَكُونُ مَالًا في حَقِّهِ وَلَوْ وَكَّلَ مُحْرِمٌ حَلَالًا بِبَيْعِ صَيْدٍ فَبَاعَهُ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ بَاطِلٌ وهو على اخْتِلَافِهِمْ في مُسْلِمٍ وَكَّلَ ذِمِّيًّا بِبَيْعِ خَمْرٍ فَبَاعَهَا‏.‏

وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْبَائِعَ هو الْمُوَكِّلُ مَعْنًى لِأَنَّ حُكْمَ الْبَيْعِ يَقَعُ له وَالْمُحْرِمُ مَمْنُوعٌ عن تَمْلِيكِ الصَّيْدِ وَتَمَلُّكِهِ وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ الْبَائِعَ في الْحَقِيقَةِ هو الْوَكِيلُ لِأَنَّ بَيْعَهُ كَلَامُهُ الْقَائِمُ بِهِ حَقِيقَةً وَلِهَذَا تَرْجِعُ حُقُوقُ الْعَقْدِ إلَيْهِ إلَّا أَنَّ الْمُوَكِّلَ يَقُومُ مَقَامَهُ شَرْعًا في نَفْسِ الْحُكْمِ مع اقْتِصَارِ نَفْسِ التَّصَرُّفِ على مُبَاشَرَتِهِ حَقِيقَةً وَالْمُحْرِمُ من أَهْلِ ثُبُوتِ الْمِلْكِ له في الصَّيْدِ حُكْمًا لَا يَتَمَلَّكُهُ حَقِيقَةً أَلَا يَرَى أَنَّهُ يَرِثُهُ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَنْعَ إنَّمَا يَكُونُ عَمَّا لِلْعَبْدِ فيه صُنْعٌ وَلَا صُنْعَ له فِيمَا يُثْبِتُ حُكْمًا فَلَا يَحْتَمِلُ الْمَنْعَ‏.‏

وَلَوْ بَاعَ حَلَالٌ حَلَالًا صَيْدًا ثُمَّ أَحْرَمَ أَحَدُهُمَا قبل الْقَبْضِ يُفْسَخُ الْبَيْعُ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ كما يَمْنَعُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ يَمْنَعُ التَّسْلِيمَ وَالْقَبْضَ لِأَنَّهُ عَقْدٌ من وَجْهٍ على ما عُرِفَ فَيُلْحَقُ بِهِ في حَقِّ الْحُرْمَةِ احْتِيَاطًا وَلَوْ وَكَّلَ حَلَالٌ حَلَالًا بِبَيْعِ صَيْدٍ فَبَاعَهُ ثُمَّ أَحْرَمَ الْمُوَكِّلُ قبل قَبْضِ الْمُشْتَرِي فَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ جَازَ الْبَيْعُ وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِمَا يَبْطُلُ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ الْقَائِمَ لَا يَمْنَعُ من جَوَازِ التَّوْكِيلِ عِنْدَهُ فالطاريء ‏[‏فالطارئ‏]‏ لَا يُبْطِلُهُ وَعِنْدَهُمَا الْقَائِمُ يَمْنَعُ فالطاريء ‏[‏فالطارئ‏]‏ يُبْطِلُهُ حَلَالَانِ تَبَايَعَا صَيْدًا في الْحِلِّ وَهُمَا في الْحَرَمِ جَازَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ‏.‏

وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ كَوْنَ الْحَرَمِ مَأْمَنًا يَمْنَعُ من التَّعَرُّضِ لِلصَّيْدِ سَوَاءٌ كان الْمُتَعَرِّضُ في الْحَرَمِ أو الْحِلِّ بَعْدَ أَنْ كان الْمُتَعَرِّضُ في الْحَرَمِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِلْحَلَالِ الذي في الْحَرَمِ أَنْ يَرْمِيَ إلَى الصَّيْدِ الذي في الْحِلِّ كما لَا يَحِلُّ له أَنْ يَرْمِيَ إلَيْهِ إذَا كان في الْحَرَمِ‏.‏

وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ كَوْنَهُ في الْحَرَمِ يَمْنَعُ من التَّعَرُّضِ لِصَيْدِ الْحِلِّ لَكِنْ حِسًّا لَا شَرْعًا بِدَلِيلِ أَنَّ الْحَلَالَ في الْحَرَمِ إذَا أَمَرَ حَلَالًا آخَرَ بِذَبْحِ صَيْدٍ في الْحِلِّ جَازَ وَلَوْ ذَبَحَ حِلٌّ أَكَلَهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَمْرَ بِالذَّبْحِ في مَعْنَى التَّعَرُّضِ لِلصَّيْدِ فَوْقَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فلما لم يُمْنَعْ من ذلك فَلَأَنْ لَا يُمْنَعَ من هذا أَوْلَى وَهَذَا لِأَنَّ الْمَنْعَ من التَّعَرُّضِ إنَّمَا كان احْتِرَامًا لِلْحَرَمِ فَكُلُّ ما فيه تَرْكُ احْتِرَامِهِ يَجِبُ صِيَانَةُ الْحَرَمِ عنه وَذَلِكَ بِمُبَاشَرَةِ سَبَبِ الْإِيذَاءِ في الْحَرَمِ ولم يُوجَدْ في الْبَيْعِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ‏.‏

وَلَا بَيْعُ لَحْمِ السَّبُعِ لِأَنَّهُ لَا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ شَرْعًا فلم يَكُنْ مَالًا وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعَهُ إذَا ذُبِحَ لِأَنَّهُ صَارَ طَاهِرًا بِالذَّبْحِ وَأَمَّا جِلْدُ السَّبُعِ وَالْحِمَارِ وَالْبَغْلِ فَإِنْ كان مَدْبُوغًا أو مَذْبُوحًا يَجُوزُ بَيْعُهُ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ الِانْتِفَاعُ بِهِ شَرْعًا فَكَانَ مَالًا وَإِنْ لم يَكُنْ مَدْبُوغًا وَلَا مَذْبُوحًا لَا يَنْعَقِدُ بَيْعُهُ لِأَنَّهُ إذَا لم يُدْبَغْ ولم يُذْبَحْ بَقِيَتْ رُطُوبَاتُ الْمَيْتَةِ فيه فَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمَيْتَةِ وَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ جِلْدِ الْخِنْزِيرِ كَيْفَ ما كان لِأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ وَقِيلَ إنَّ جِلْدَهُ لَا يَحْتَمِلُ الدِّبَاغَ وَأَمَّا عَظْمُ الْمَيْتَةِ وَعَصَبُهَا وَشَعْرُهَا وَصُوفُهَا وَوَبَرُهَا وَرِيشُهَا وَخُفُّهَا وَظِلْفُهَا وَحَافِرُهَا فَيَجُوزُ بَيْعُهَا وَالِانْتِفَاعُ بها عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ بِنَاءً على أَنَّ هذه الْأَشْيَاءَ طَاهِرَةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ نَجِسَةٌ‏.‏

وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى‏:‏ ‏{‏حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ‏}‏ وَهَذِهِ من أَجْزَاءِ الْمَيْتَةِ فَتَكُونُ حَرَامًا فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا تَنْتَفِعُوا من الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ وَلَنَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَاَللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ من بُيُوتِكُمْ سَكَنًا‏}‏ إلى قَوْلِهِ عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا‏}‏ الْآيَةَ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ جَعَلَ هذه الْأَشْيَاءَ لنا وَمَنَّ عَلَيْنَا بِذَلِكَ من غَيْرِ فصل بين الذَّكِيَّةِ وَالْمَيْتَةِ فَيَدُلُّ على تَأَكُّدِ الْإِبَاحَةِ وَلِأَنَّ حُرْمَةَ الْمَيْتَةِ لَيْسَتْ لِمَوْتِهَا فإن الْمَوْتَ مَوْجُودٌ في السَّمَكِ وَالْجَرَادِ وَهُمَا حَلَالَان قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أُحِلَّ لنا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ بَلْ لِمَا فيها من الرُّطُوبَاتِ السَّيَّالَةِ وَالدِّمَاءِ النَّجِسَةِ لِانْجِمَادِهَا بِالْمَوْتِ وَلِهَذَا يَطْهُرُ الْجِلْدُ بِالدِّبَاغِ حتى يَجُوزُ بَيْعُهُ لِزَوَالِ الرُّطُوبَةِ عنه وَلَا رُطُوبَةَ في هذه الْأَشْيَاءِ فَلَا تَكُونُ حَرَامًا وَلَا حُجَّةَ له في هذا الحديث لِأَنَّ الْإِهَابَ اسْمٌ لِغَيْرِ الْمَدْبُوغِ لُغَةً وَالْمُرَادُ من الْعَصَبِ حَالَ الرُّطُوبَةِ يُحْمَلُ عليه تَوْفِيقًا بين الدَّلَائِلِ وَأَمَّا عَظْمُ الْخِنْزِيرِ وَعَصَبُهُ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لِأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ وَأَمَّا شَعْرُهُ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ طَاهِرٌ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ نَجِسٌ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لِأَنَّهُ جُزْءٌ منه إلَّا أَنَّهُ رَخَّصَ في اسْتِعْمَالِهِ لِلْخَرَّازِينَ لِلضَّرُورَةِ‏.‏

وَأَمَّا عَظْمُ الْآدَمِيِّ وَشَعْرُهُ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لَا لِنَجَاسَتِهِ لِأَنَّهُ طَاهِرٌ في الصَّحِيحِ من الرِّوَايَةِ لَكِنْ احْتِرَامًا له وَالِابْتِذَالُ بِالْبَيْعِ يُشْعِرُ بِالْإِهَانَةِ وقد رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ وَأَمَّا عَظْمُ الْكَلْبِ وَشَعْرُهُ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه على الْأَصْلِ الذي ذَكَرْنَا وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِبَيْعِ عَظْمِ الْفِيلِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ وقال مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عَظْمُ الْفِيلِ نَجِسٌ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَا الِانْتِفَاعُ بِهِ ذَكَرَهُ في الْعُيُونِ وَيَجُوزُ بَيْعُ كل ذِي مِخْلَبٍ من الطَّيْرِ مُعَلَّمًا كان أو غير مُعَلَّمٍ بِلَا خِلَافٍ وَأَمَّا بَيْعُ كل ذِي نَابٍ من السِّبَاعِ سِوَى الْخِنْزِيرِ كَالْكَلْبِ وَالْفَهْدِ وَالْأَسَدِ وَالنَّمِرِ وَالذِّئْبِ وَالْهِرِّ وَنَحْوِهَا فَجَائِزٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ‏.‏

رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ ثُمَّ عِنْدَنَا لَا فَرْقَ بين الْمُعَلَّمِ وَغَيْرِ الْمُعَلَّمِ في رِوَايَةِ الْأَصْلِ فَيَجُوزَ بَيْعُهُ كَيْفَ ما كان وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْكَلْبِ الْعَقُورِ وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِمَا رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال وَمِنْ السُّحْتِ مَهْرُ الْبَغِيِّ وَثَمَنُ الْكَلْبِ وَلَوْ جَازَ بَيْعُهُ لَمَا كان ثَمَنُهُ سُحْتًا وَلِأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَالْخِنْزِيرِ إلَّا أَنَّهُ رُخِّصَ الِانْتِفَاعُ بِهِ بِجِهَةِ الْحِرَاسَةِ وَالِاصْطِيَادِ لِلْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ وَهَذَا لَا يَدُلُّ على جَوَازِ الْبَيْعِ كما في شَعْرِ الْخِنْزِيرِ وَلَنَا أَنَّ الْكَلْبَ مَالٌ فَكَانَ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ كَالصَّقْرِ وَالْبَازِي وَالدَّلِيلُ على أَنَّهُ مَالٌ أَنَّهُ مُنْتَفَعٌ بِهِ حَقِيقَةً مُبَاحٌ الِانْتِفَاعُ بِهِ شَرْعًا على الإطلاق فَكَانَ مَالًا وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مُنْتَفَعٌ بِهِ حَقِيقَةً وَالدَّلِيلُ على أَنَّهُ مُبَاحٌ الِانْتِفَاعُ بِهِ شَرْعًا على الإطلاق أَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهِ بِجِهَةِ الْحِرَاسَةِ وَالِاصْطِيَادِ مُطْلَقٌ شَرْعًا في الْأَحْوَالِ كُلِّهَا فَكَانَ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ لِأَنَّ الْبَيْعَ إذَا صَادَفَ مَحَلًّا مُنْتَفَعًا بِهِ حَقِيقَةً مُبَاحَ الِانْتِفَاعُ بِهِ على الإطلاق مَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى شَرْعِهِ لِأَنَّ شَرْعَهُ يَقَعُ سَبَبًا وَوَسِيلَةً لِلِاخْتِصَاصِ الْقَاطِعِ لِلْمُنَازَعَةِ إذْ الْحَاجَةُ إلَى قَطْعِ الْمُنَازَعَةِ فِيمَا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ شَرْعًا على الإطلاق لَا فِيمَا يَجُوزُ‏.‏

وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كان في ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَلِفُوا اقْتِنَاءَ الْكِلَابِ فَأَمَرَ بِقَتْلِهَا وَنَهَى عن بَيْعِهَا مُبَالَغَةً في الزَّجْرِ أو يُحْمَلُ على هذا تَوْفِيقًا بين الدَّلَائِلِ قَوْلُهُ أَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ قُلْنَا هذا مَمْنُوعٌ فإنه يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ شَرْعًا على الإطلاق اصْطِيَادًا وَحِرَاسَةً وَنَجِسُ الْعَيْنِ لَا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ شَرْعًا إلَّا في حَالَةِ الضَّرُورَةِ كَالْخِنْزِيرِ وَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ الْخِنْزِيرِ من الْمُسْلِمِ لِأَنَّهُ ليس بِمَالٍ في حَقِّ الْمُسْلِمِينَ فَأَمَّا أَهْلُ الذِّمَّةِ فَلَا يُمْنَعُونَ من بَيْعِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ أَمَّا على قَوْلِ بَعْضِ مَشَايِخِنَا فَلِأَنَّهُ مُبَاحٌ الِانْتِفَاعُ بِهِ شَرْعًا لهم كَالْخَلِّ وَكَالشَّاةِ لنا فَكَانَ مَالًا في حَقِّهِمْ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ وَرُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ بن الْخَطَّابِ رضي اللَّهُ عنه كَتَبَ إلَى عُشَّارِهِ بِالشَّامِ أَنْ وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا وَخُذُوا الْعُشْرَ من أَثْمَانِهَا وَلَوْ لم يَجُزْ بَيْعُ الْخَمْرِ منهم لَمَا أَمَرَهُمْ بِتَوْلِيَتِهِمْ الْبَيْعَ‏.‏

وَعَنْ بَعْضِ مَشَايِخِنَا حُرْمَةُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ ثَابِتَةٌ على الْعُمُومِ في حَقِّ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ لِأَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِشَرَائِعَ هِيَ حُرُمَاتٌ هو الصَّحِيحُ من مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا فَكَانَتْ الْحُرْمَةُ ثَابِتَةً في حَقِّهِمْ لَكِنَّهُمْ لَا يُمْنَعُونَ عن بَيْعِهَا لِأَنَّهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ حُرْمَتَهَا ويتمولونها وَنَحْنُ أُمِرْنَا بِتَرْكِهِمْ وما يَدِينُونَ وَلَوْ بَاعَ ذِمِّيٌّ من ذِمِّيٍّ خَمْرًا أو خِنْزِيرًا ثُمَّ أَسْلَمَا أو أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا قبل الْقَبْضِ يُفْسَخُ الْبَيْعُ لِأَنَّهُ بِالْإِسْلَامِ حَرُمَ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ فَيَحْرُمُ الْقَبْضُ وَالتَّسْلِيمُ أَيْضًا لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْإِنْشَاءَ أو إنْشَاءٌ من وَجْهٍ فَيُلْحَقُ بِهِ في باب الْحُرُمَاتِ احْتِيَاطًا‏.‏

وَأَصْلُهُ قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ من الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏}‏ وَالْأَمْرُ بِتَرْكِ ما بَقِيَ من الرِّبَا هو النَّهْيُ عن قَبْضَتِهِ يُؤَيِّدُهُ قَوْله تَعَالَى في آخِرِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رؤوس أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ‏}‏ وإذا حَرُمَ الْقَبْضُ وَالتَّسْلِيمُ لم يَكُنْ في بَقَاءِ الْعَقْدِ فَائِدَةٌ فَيُبْطِلَهُ الْقَاضِي كَمَنْ بَاعَ عَبْدًا فَأَبَقَ قبل الْقَبْضِ وَلَوْ كان إسْلَامُهُمَا أو إسْلَامُ أَحَدِهِمَا بَعْدَ الْقَبْضِ مَضَى الْبَيْعُ لِأَنَّ الْمِلْكَ قد ثَبَتَ على الْكَمَالِ بِالْعَقْدِ وَالْقَبْضِ في حَالَةِ الْكُفْرِ وَإِنَّمَا يُوجَدُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ دَوَامُ الْمِلْكِ وَالْإِسْلَامُ لَا يُنَافِي ذلك فإن من تَخَمَّرَ عَصِيرُهُ لَا يُؤْمَرُ بابطَالِ مِلْكِهِ فيها وَلَوْ أَقْرَضَ الذِّمِّيُّ ذِمِّيًّا خَمْرًا ثُمَّ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا فَإِنْ أَسْلَمَ الْمُقْرِضُ سَقَطَتْ الْخَمْرُ وَلَا شَيْءَ له من قِيمَةِ الْخَمْرِ على الْمُسْتَقْرِضِ أَمَّا سُقُوطُ قِيمَةِ الْخَمْرِ فَلِأَنَّ الْعَجْزَ عن قَبْضِ الْمِثْلِ جاء من قِبَلِهِ فَلَا شَيْءَ له وَإِنْ أَسْلَمَ الْمُسْتَقْرِضُ رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ تَسْقُطُ الْخَمْرُ وَلَيْسَ عليه قِيمَةُ الْخَمْرِ أَيْضًا كما لو أَسْلَمَ الْمُقْرِضُ‏.‏

وَرَوَى مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَعَافِيَةُ بن زِيَادٍ الْقَاضِي عن أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ عليه قِيمَةَ الْخَمْرِ وهو قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ امْتِنَاعَ التَّسْلِيمِ من الْمُسْتَقْرِضِ إنَّمَا جاء لِمَعْنًى من قِبَلِهِ وهو إسْلَامُهُ فَكَأَنَّهُ اسْتَهْلَكَ عليه خَمْرَهُ وَالْمُسْلِمُ إذَا اسْتَهْلَكَ خَمْرَ الذِّمِّيِّ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ وَجْهُ رِوَايَةِ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى تَسْلِيمِ الْمِثْلِ لِأَنَّهُ يُمْنَعُ منه وَلَا إلَى الْقِيمَةِ لِأَنَّ ذلك يُوجِبُ مِلْكَ الْمُسْتَقْرِضِ وَالْإِسْلَامُ يَمْنَعُ منه وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ‏.‏

وَأَمَّا الْقِرْدُ فَعَنْ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه رِوَايَتَانِ وَجْهُ رِوَايَةِ عَدَمِ الْجَوَازِ أَنَّهُ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ شَرْعًا فَلَا يَكُونَ مَالًا كَالْخِنْزِيرِ وَجْهُ رِوَايَةِ الْجَوَازِ أَنَّهُ إنْ لم يَكُنْ مُنْتَفَعًا بِهِ بِذَاتِهِ يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِجِلْدِهِ وَالصَّحِيحُ هو الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ لَا يشتري لِلِانْتِفَاعِ بِجِلْدِهِ عَادَةً بَلْ لِلَّهْوِ بِهِ وهو حَرَامٌ فَكَانَ هذا بَيْعَ الْحَرَامِ لِلْحَرَامِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَيَجُوزُ بَيْعُ الْفِيلِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ مُنْتَفَعٌ بِهِ حَقِيقَةً مُبَاحٌ الِانْتِفَاعُ بِهِ شَرْعًا على الإطلاق فَكَانَ مَالًا وَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ وَجَمِيعِ هَوَامِّ الْأَرْضِ كَالْوَزَغَةِ وَالضَّبِّ وَالسُّلَحْفَاةِ وَالْقُنْفُذِ وَنَحْوِ ذلك لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ الِانْتِفَاعُ بها شَرْعًا لِكَوْنِهَا من الْخَبَائِثِ فلم تَكُنْ أَمْوَالًا فلم يَجُزْ بَيْعُهَا‏.‏

وَذُكِرَ في الفتاوي أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ الحياة ‏[‏الحية‏]‏ التي يُنْتَفَعُ بها لِلْأَدْوِيَةِ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ شَرْعًا لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ لِلتَّدَاوِي كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وقال النبي صلى الله عليه وسلم لم يُجْعَلْ شِفَاؤُكُمْ فِيمَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ فَلَا تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى شَرْعِ الْبَيْعِ وَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ شَيْءٍ مِمَّا يَكُونُ في الْبَحْرِ كَالضِّفْدَعِ وَالسَّرَطَانِ إلَّا السَّمَكَ وما يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِجِلْدِهِ أو عَظْمِهِ لِأَنَّ ما لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِجِلْدِهِ وَلَا بِهِ وَلَا بِعَظْمِهِ لَا يَكُونُ مَالًا فَلَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ‏.‏

وقد رُوِيَ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عن الضِّفْدَعِ يُجْعَلُ في دَوَاءٍ فَنَهَى عنه وقال خَبِيثَةٌ من الْخَبَائِثِ وَذَكَرَ أبو بَكْرٍ الإسكاف ‏[‏الإسكافي‏]‏ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَذُكِرَ في الْفَتَاوَى بأنه يَجُوزُ لِأَنَّ الناس يَنْتَفِعُونَ بِهِ وَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ النَّحْلِ إلَّا إذَا كان في كُوَّارَتِهِ عَسَلٌ فَبَاعَ الْكُوَّارَةَ بِمَا فيها من الْعَسَلِ وَالنَّحْلِ وَرَوَى هِشَامٌ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ مُنْفَرِدًا من غَيْرِ كُوَّارَتِهِ إذَا كان مَجْمُوعًا وهو قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ النَّحْلَ حَيَوَانٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ‏.‏

وَلَنَا أَنَّهُ ليس بِمُنْتَفَعٍ بِهِ فلم يَكُنْ مَالًا بِنَفْسِهِ بَلْ بِمَا يَحْدُثُ منه وهو مَعْدُومٌ حتى لو بَاعَهُ مع الْكُوَّارَةِ وَفِيهَا عَسَلٌ يَجُوزُ بَيْعُهُ تَبَعًا لِلْعَسَلِ وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ الشَّيْءُ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ بِنَفْسِهِ مُفْرَدًا وَيَكُونَ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ مع غَيْرِهِ كَالشُّرْبِ وَأَنْكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ هذا فقال إنَّمَا يَدْخُلُ فيه تَبَعًا إذَا كان من حُقُوقِهِ كما في الشُّرْبِ مع الْأَرْضِ وَهَذَا ليس من حُقُوقِهِ وَعَلَى هذا بَيْعُ دُودِ الْقَزِّ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا إذَا كان معه قَزٌّ وَرَوَى مُحَمَّدٌ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ مُفْرَدًا وَالْحُجَجُ على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا في النَّحْلِ وَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ بَذْرِ الدُّودِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ كما لَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ الدُّودِ وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ بَيْعُهُ‏.‏

وَوَجْهُ الْكَلَامِ فيه على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا في بَيْعِ النَّحْلِ وَالدُّودِ وَيَجُوزُ بَيْعُ السِّرْقِينِ وَالْبَعْرِ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ الِانْتِفَاعُ بِهِ شَرْعًا على الإطلاق فَكَانَ مَالًا وَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ الْعَذِرَةِ الْخَالِصَةِ لِأَنَّهُ لَا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بها بِحَالٍ فَلَا تَكُونُ مَالًا إلَّا إذَا كان مَخْلُوطًا بِالتُّرَابِ وَالتُّرَابُ غَالِبٌ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ لِأَنَّهُ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال كُلُّ شَيْءٍ أَفْسَدَهُ الْحَرَامُ وَالْغَالِبُ عليه الْحَلَالُ فَلَا بَأْسَ بِبَيْعِهِ وَنُبَيِّنُ ذلك وما كان الْغَالِبُ عليه الْحَرَامَ لم يَجُزْ بَيْعُهُ وَلَا هِبَتُهُ كَالْفَأْرَةِ إذَا وَقَعَتْ في الْعَجِينِ وَالسَّمْنِ الْمَائِعِ‏.‏

وَكَذَلِكَ قال مُحَمَّدٌ في الزَّيْتِ إذَا وَقَعَ فيه وَدَكُ الْمَيْتَةِ أنه إنْ كان الزَّيْتُ غَالِبًا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَإِنْ كان الْوَدَكُ غَالِبًا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لِأَنَّ الْحَلَالَ إذَا كان هو الْغَالِبَ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ استصباحا ‏[‏استصحابا‏]‏ وَدَبْغًا على ما ذَكَرْنَا في كتاب الطَّهَارَاتِ فَكَانَ مَالًا فَيَجُوزُ بَيْعُهُ وإذا كان الْحَرَامُ هو الْغَالِبَ لم يَجُزْ الِانْتِفَاعُ بِهِ بِوَجْهٍ فلم يَكُنْ مَالًا فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَيَجُوزُ بَيْعُ آلَاتِ الْمَلَاهِي من الْبَرْبَطِ وَالطَّبْلِ وَالْمِزْمَارِ وَالدُّفِّ وَنَحْوِ ذلك عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لَكِنَّهُ يُكْرَهُ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ هذه الْأَشْيَاءِ لِأَنَّهَا آلَاتٌ مُعَدَّةٌ لِلتَّلَهِّي بها مَوْضُوعَةٌ لِلْفِسْقِ وَالْفَسَادِ فَلَا تَكُونُ أَمْوَالًا فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا‏.‏

وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بها شَرْعًا من جِهَةٍ أُخْرَى بِأَنْ تُجْعَلَ ظُرُوفًا لِأَشْيَاءَ وَنَحْوِ ذلك من الْمَصَالِحِ فَلَا تَخْرُجُ عن كَوْنِهَا أَمْوَالًا وَقَوْلُهُمَا أنها آلَاتُ التَّلَهِّي وَالْفِسْقِ بها قُلْنَا نعم لَكِنَّ هذا لَا يُوجِبُ سُقُوطَ مَالِيَّتِهَا كَالْمُغَنِّيَاتِ وَالْقِيَانِ وَبَدَنِ الْفَاسِقِ وَحَيَاتِهِ وَمَالِهِ وَهَذَا لِأَنَّهَا كما تَصْلُحُ لِلتَّلَهِّي تَصْلُحُ لِغَيْرِهِ على مَالِيَّتِهَا بِجِهَةِ إطْلَاقِ الِانْتِفَاعِ بها لَا بِجِهَةِ الْحُرْمَةِ وَلَوْ كَسَرَهَا إنْسَانٌ ضَمِنَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا لَا يَضْمَنُ وَعَلَى هذا الْخِلَافِ بَيْعُ النَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْتَفَعٌ بِهِ شَرْعًا من وَجْهٍ آخَرَ بِأَنْ يُجْعَلَ صَنَجَاتِ الْمِيزَانِ فَكَانَ مَالًا من هذا الْوَجْهِ فَكَانَ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ مَضْمُونًا بِالْإِتْلَافِ وَيَجُوزُ بَيْعُ ما سِوَى الْخَمْرِ من الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ كَالسُّكَّرِ وَنَقِيعِ الزَّبِيبِ وَالْمُنَصَّفِ وَنَحْوِهَا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ إذَا حَرُمَ شُرْبُهَا لم تَكُنْ مَالًا فَلَا تَكُونُ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ كَالْخَمْرِ وَلِأَنَّ ما حَرُمَ شُرْبُهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لِمَا رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عليهم الشُّحُومُ فَجَمَّلُوهَا وباعوعا ‏[‏وباعوها‏]‏ وَإِنَّ اللَّهَ تعالى إذَا حَرَّمَ شيئا حَرَّمَ بَيْعَهُ وَأَكْلَ ثَمَنِهِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ حُرْمَةَ هذه الْأَشْرِبَةِ ما ثَبَتَتْ بِدَلِيلٍ مُتَيَقَّنٍ مَقْطُوعٍ بِهِ لِكَوْنِهَا مَحَلَّ الِاجْتِهَادِ‏.‏

وَالْمَالِيَّةُ قبل حُدُوثِ الشِّدَّةِ كانت ثَابِتَةً بِيَقِينٍ فَلَا تَبْطُلُ بِحُرْمَةٍ ثَابِتَةٍ بِالِاجْتِهَادِ فَبَقِيَتْ أَمْوَالًا وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ من الحديث مُحَرَّمٌ ثَبَتَتْ حُرْمَتُهُ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ ولم يُوجَدْ هَهُنَا بِخِلَافِ الْخَمْرِ لِأَنَّ حُرْمَتَهَا ثَبَتَتْ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ فَبَطَلَتْ مَالِيَّتُهَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ‏.‏ وَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ الْمَلَاقِيحِ وَالْمَضَامِينِ الذي وَرَدَ النَّهْيُ عنه لِأَنَّ الْمَضْمُونَ ما في صُلْبِ الذَّكَرِ وَالْمَلْقُوحَ ما في رَحِمِ الْأُنْثَى وَذَلِكَ ليس بِمَالٍ وَعَلَى هذا أَيْضًا يَخْرُجُ بَيْعُ عَسْبِ الْفَحْلِ لِأَنَّ الْعَسْبَ هو الضرب ‏[‏الضراب‏]‏ وَأَنَّهُ ليس بِمَالٍ وقد يُخَرَّجُ على هذا بَيْعُ الْحَمْلِ أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ لِأَنَّ الْحَمْلَ ليس بِمَالٍ وَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ لَبَنِ الْمَرْأَةِ في قَدَحٍ عِنْدَنَا وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ هذا مَشْرُوبٌ طَاهِرٌ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ كَلَبَنِ الْبَهَائِمِ وَالْمَاءِ‏.‏

وَلَنَا أَنَّ اللَّبَنَ ليس بِمَالٍ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَالدَّلِيلُ على أَنَّهُ ليس بِمَالٍ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وَالْمَعْقُولُ أَمَّا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ فما رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ وَسَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ تَعَالَى عنهما أَنَّهُمَا حَكَمَا في وَلَدِ الْمَغْرُورِ بِالْقِيمَةِ وَبِالْعَقْرِ بِمُقَابَلَةِ الْوَطْءِ وما حَكَمَا بِوُجُوبِ قِيمَةِ اللَّبَنِ بِالِاسْتِهْلَاكِ وَلَوْ كان مَالًا لَحَكَمَا لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ يَسْتَحِقُّ بَدَلَ اتلاف مَالِهِ بِالْإِجْمَاعِ وَلَكَانَ إيجَابُ الضَّمَانِ بِمُقَابَلَتِهِ أَوْلَى من إيجَابِ الضَّمَانِ بِمُقَابَلَةِ مَنَافِعِ الْبُضْعِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَالٍ فَكَانَتْ حَاجَةُ المستحقي ‏[‏المستحق‏]‏ إلَى ضَمَانِ الْمَالِ أَوْلَى وكان ذلك بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ ولم يُنْكِرْ عَلَيْهِمَا أَحَدٌ فَكَانَ إجْمَاعًا‏.‏

وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ لِأَنَّهُ لَا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ شَرْعًا على الإطلاق بَلْ لِضَرُورَةِ تَغْذِيَةِ الطِّفْلِ وما كان حَرَامٌ الِانْتِفَاعُ بِهِ شَرْعًا إلَّا لِضَرُورَةٍ لَا يَكُونُ مَالًا كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّ الناس لَا يَعُدُّونَهُ مَالًا وَلَا يُبَاعُ في سُوقٍ ما من الْأَسْوَاقِ دَلَّ أَنَّهُ ليس بِمَالٍ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلِأَنَّهُ جُزْءٌ من الْآدَمِيِّ وَالْآدَمِيُّ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ مُحْتَرَمٌ مُكَرَّمٌ وَلَيْسَ من الْكَرَامَةِ وَالِاحْتِرَامِ ابْتِذَالُهُ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ ثُمَّ لَا فَرْقَ بين لَبَنِ الْحُرَّةِ وَبَيْنَ لَبَنِ الْأَمَةِ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ لَبَنِ الْأَمَةِ لِأَنَّهُ جُزْءٌ من آدَمِيٍّ هو مَالٌ فَكَانَ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ كَسَائِرِ أَجْزَائِهِ وَلَنَا أَنَّ الْآدَمِيَّ لم يُجْعَلْ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ إلَّا بِحُلُولِ الرِّقِّ فيه وَالرِّقُّ لَا يَحِلُّ إلَّا في الْحَيِّ وَاللَّبَنُ لَا حَيَاةَ فيه فَلَا يُحِلُّهُ الرِّقُّ فَلَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ سُفْلٌ وَعُلْوٌ بين رَجُلَيْنِ انْهَدَمَا فَبَاعَ صَاحِبُ الْعُلْوِ عُلْوَهُ لم يَجُزْ لِأَنَّ الْهَوَاءَ ليس بِمَالٍ وَلَوْ جَمَعَ بين ما هو مَالٌ وَبَيْنَ ما ليس بِمَالٍ في الْبَيْعِ بِأَنْ جَمَعَ بين حُرٍّ وَعَبْدٍ أو بين عَصِيرٍ وَخَمْرٍ أو بين ذَكِيَّةٍ وَمَيْتَةٍ وَبَاعَهُمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً فَإِنْ لم يُبَيِّنْ حِصَّةَ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا من الثَّمَنِ لم يَنْعَقِدْ الْعَقْدُ أَصْلًا بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ بَيَّنَ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ في الْعَصِيرِ وَالْعَبْدِ وَالذَّكِيَّةِ وَيَبْطُلُ في الْحُرِّ وَالْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَلَوْ جَمَعَ بين قِنٍّ وَمُدَبَّرٍ أو أُمِّ وَلَدٍ وَمُكَاتَبٍ أو بين عَبْدِهِ وَعَبْدِ غَيْرِهِ وَبَاعَهُمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً جَازَ الْبَيْعُ في عَبْدِهِ بِلَا خِلَافٍ‏.‏

وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْفَسَادَ بِقَدْرِ الْمُفْسِدِ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ بِقَدْرِ الْعِلَّةِ وَالْمُفْسِدُ خَصَّ أَحَدَهُمَا فَلَا يَتَعَمَّمُ الْحُكْمُ مع خُصُوصِ الْعِلَّةِ فَلَوْ جاء الْفَسَادُ إنَّمَا يَجِيءُ من قِبَلِ جَهَالَةِ الثَّمَنِ فإذا بَيَّنَ حِصَّةَ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا من الثَّمَنِ فَقَدْ زَالَ هذا الْمَعْنَى أَيْضًا وَلِهَذَا جَازَ بَيْعُ الْقِنِّ إذَا جَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُدَبَّرِ أو الْمُكَاتَبِ أو أُمِّ الْوَلَدِ وَبَاعَهُمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً كَذَا هذا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ الصَّفْقَةَ وَاحِدَةٌ وقد فَسَدَتْ في أَحَدِهِمَا فَلَا تَصِحُّ في الْآخَرِ‏.‏

وَالدَّلِيلُ على أَنَّ الصَّفْقَةَ وَاحِدَةٌ أَنَّ لَفْظَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ لم يَتَكَرَّرْ وَالْبَائِعُ وَاحِدٌ وَالْمُشْتَرِي وَاحِدٌ وَتَفْرِيقُ الثَّمَنِ وهو التَّسْمِيَةُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَمْنَعُ اتِّحَادَ الصَّفْقَةِ دَلَّ أَنَّ الصَّفْقَةَ وَاحِدَةٌ وقد فَسَدَتْ في أَحَدِهِمَا بِيَقِينٍ لِخُرُوجِ الْحُرِّ وَالْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ عن مَحَلِّيَّةِ الْبَيْعِ بِيَقِينٍ فَلَا يَصِحُّ في الْآخَرِ لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِ الصَّفْقَةِ الْوَاحِدَةِ صَحِيحَةً وَفَاسِدَةً وَلِهَذَا لم يَصِحَّ إذَا لم يُسَمِّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا فَكَذَا إذَا سَمَّى لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ وَتَفْرِيقَ الثَّمَنِ لَا يُوجِبُ تَعَدُّدَ الصَّفْقَةِ لِاتِّحَادِ الْبَيْعِ وَالْعَاقِدَيْنِ بِخِلَافِ الْجَمْعِ بين الْعَبِدِ وَالْمُدَبَّرِ لِأَنَّ هُنَاكَ الصَّفْقَةَ ما فَسَدَتْ في أَحَدِهِمَا بِيَقِينٍ بَلْ بِالِاجْتِهَادِ الذي يَحْتَمِلُ الصَّوَابَ وَالْخَطَأَ فَاعْتُبِرَ هذا الِاحْتِمَالُ في تَصْحِيحِ الْإِضَافَةِ إلَى الْمُدَبَّرِ لِيَظْهَرَ في حَقِّ الْقِنِّ إنْ لم يُمْكِنْ إظْهَارُهُ في حَقِّهِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَمَعَ بَيْنَهُمَا في الصَّفْقَةِ فقد جُعِلَ قَبُولُ الْعَقْدِ في أَحَدِهِمَا شَرْطَ الْقَبُولِ في الْآخَرِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لو قَبِلَ الْعَقْدَ في أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ لَا يَصِحُّ وَالْحُرُّ لَا يُحْتَمَلُ قَبُولُ الْعَقْدِ فيه فَلَا يَصِحُّ الْقَبُولُ في الْآخَرِ بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ لِأَنَّهُ مَحَلٌّ لِقَبُولِ الْعَقْدِ فيه في الْجُمْلَةِ فَصَحَّ قَبُولُ الْعَقْدِ فيه إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ إظْهَارُهُ فيه بِنَوْعِ اجْتِهَادٍ فَيَجِبُ إظْهَارُهُ في الْقِنِّ وَلِأَنَّ في تَصْحِيحِ الْعَقْدِ في أَحَدِهِمَا تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ على الْبَائِعِ قبل التَّمَامِ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ الْبَيْعَ فِيهِمَا فَالْقَبُولُ في أَحَدِهِمَا يَكُونُ تَفْرِيقًا وَهَذَا لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ ما إذَا جَمَعَ بين الْقِنِّ وَالْمُدَبَّرِ لِأَنَّ الْمُدَبَّرَ مَحَلٌّ لِقَبُولِ الْبَيْعِ فيه لِكَوْنِهِ مَمْلُوكًا له إلَّا أَنَّهُ لم يَنْفُذْ لِلْحَالِ مع احْتِمَالِ النَّفَاذِ في الْجُمْلَةِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لِحَقِّ الْمُدَبَّرِ وَهَذَا يَمْنَعُ مَحَلِّيَّةَ الْقَبُولِ في حَقِّ نَفْسِهِ لَا في صَاحِبِهِ فَيُجْعَلُ مَحَلًّا في حَقِّ صَاحِبِهِ‏.‏

وَالدَّلِيلُ على التَّفْرِقَةِ بين الْفصليْنِ أَنَّ الْحُكْمَ هَهُنَا يَخْتَلِفُ بين أَنْ يسمى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا أو لَا يُسَمِّيَ وَهُنَاكَ لَا يَخْتَلِفُ دَلَّ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا لِمَا ذَكَرْنَا وَعَلَى هذا الْخِلَافُ إذَا جَمَعَ بين شَاةٍ ذَكِيَّةٍ وَبَيْنَ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا ثُمَّ إذَا جَازَ الْبَيْعُ في أَحَدِهِمَا عِنْدَهُمَا فَهَلْ يَثْبُتُ الْخِيَارُ فيه إنْ عَلِمَ بِالْحَرَامِ يَثْبُتْ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ تَفَرَّقَتْ عليه وَإِنْ لم يَعْلَمْ لَا لِأَنَّهُ رضي بِالتَّفْرِيقِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ‏.‏

وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لِأَنَّ الْبَيْعَ تَمْلِيكٌ فَلَا يَنْعَقِدُ فِيمَا ليس بِمَمْلُوكٍ كَمَنْ بَاعَ الْكَلَأَ في أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ وَالْمَاءَ الذي في نَهْرِهِ أو في بِئْرِهِ لِأَنَّ الْكَلَأَ وَإِنْ كان في أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ فَهُوَ مُبَاحٌ وَكَذَلِكَ الْمَاءُ ما لم يُوجَدْ الْإِحْرَازُ قال النبي صلى الله عليه وسلم الناس شُرَكَاءُ في ثَلَاثٍ وَالشَّرِكَةُ الْعَامَّةُ هِيَ الْإِبَاحَةُ سواء ‏[‏وسواء‏]‏ خَرَجَ الْكَلَأُ بِمَاءِ السَّمَاءِ من غَيْرِ مُؤْنَةٍ أو سَاقَ الْمَاءَ إلَى أَرْضٍ وَلَحِقَهُ مُؤْنَةٌ لِأَنَّ سَوْقَ الْمَاءِ إلَيْهِ ليس باحراز فلم يُوجَدْ سَبَبُ الْمِلْكِ فيه فَبَقِيَ مُبَاحًا كما كان وَكَذَا بَيْعُ الْكَمْأَةِ وَبَيْعُ صَيْدٍ لم يُوجَدْ في أَرْضِهِ لَا يَنْعَقِدُ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِانْعِدَامِ سَبَبِ الْمِلْكِ فيه وَكَذَا بَيْعُ الْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ وَالصُّيُودِ التي في الْبَرَارِي وَالطَّيْرِ الذي لم يُصَدْ في الْهَوَاءِ وَالسَّمَكِ الذي لم يُوجَدْ في الْمَاءِ‏.‏

وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ بَيْعُ رِبَاعِ مَكَّةَ وَإِجَارَتُهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه وَرُوِيَ عنه أَنَّهُ يَجُوزُ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِعُمُومَاتِ الْبَيْعِ من غَيْرِ فصل بين أَرْضِ الْحَرَمِ وَغَيْرِهَا وَلِأَنَّ الْأَصْلَ في الْأَرَاضِي كُلِّهَا أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا لِلتَّمْلِيكِ إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ تَمَلُّكُ بَعْضِهَا شَرْعًا لِعَارِضِ الْوَقْفِ كَالْمَسَاجِدِ وَنَحْوِهَا ولم يُوجَدْ في الْحَرَمِ فَبَقِيَ مَحَلًّا لِلتَّمْلِيكِ‏.‏

وَلَنَا ما رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ تَعَالَى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَرَّمَ مَكَّةَ يوم خَلَقَهَا لم تَحِلَّ لِأَحَدٍ قبلى وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لي سَاعَةً من نَهَارٍ لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا وَلَا يُحْتَشُّ حَشِيشُهَا أَخْبَرَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ مَكَّةَ حَرَامٌ وَهِيَ اسْمٌ لِلْبُقْعَةِ وَالْحَرَامُ لَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلتَّمْلِيكِ‏.‏

وَرُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ تَعَالَى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال مَكَّةُ حَرَامٌ وَبَيْعُ رِبَاعِهَا حَرَامٌ وَهَذَا نَصٌّ في الْباب وَلِأَنَّ لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَضَعَ لِلْحَرَمِ حُرْمَةً وَفَضِيلَةً وَلِذَلِكَ جَعَلَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَأْمَنًا قال اللَّهُ تَبَارَك وَتَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ‏:‏ ‏{‏أو لم يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا‏}‏ فَابْتِذَالُهُ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ والتلميك ‏[‏والتمليك‏]‏ وَالتَّمَلُّكِ امْتِهَانٌ وَهَذَا لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَرَاضِي وَقِيلَ إنَّ بُقْعَةَ مَكَّةَ وَقْفٌ حَرَمُ سَيِّدِنَا إبْرَاهِيمَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلَا حُجَّةَ في الْعُمُومَاتِ لِأَنَّهُ خُصَّ منها الْحَرَمُ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ وَيَجُوزُ بَيْعُ بِنَاءِ بُيُوتِ مَكَّةَ لِأَنَّ الْحَرَمَ لِلْبُقْعَةِ لَا لِلْبِنَاءِ‏.‏

وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال كُرِهَ إجَارَةُ بُيُوتِ مَكَّةَ في الْمَوْسِمِ من الْحَاجِّ وَالْمُعْتَمِرِ فَأَمَّا من الْمُقِيمِ وَالْمُجَاوِرِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ وهو قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَيَجُوزُ بَيْعُ أَرَاضِي الْخَرَاجِ والقطيع ‏[‏والقطيعة‏]‏ وَالْمُزَارَعَةِ وَالْإِجَارَةِ وَالْإِكَارَةِ وَالْمُرَادُ من الْخَرَاجِ أَرْضُ سَوَادِ الْعِرَاقِ التي فَتَحَهَا سَيِّدُنَا عُمَرُ رضي اللَّهُ تَعَالَى عنه لِأَنَّهُ مَنَّ عليهم وَأَقَرَّهُمْ على أَرَاضِيهِمْ فَكَانَتْ مُبْقَاةً على مِلْكِهِمْ فَجَازَ لهم بَيْعُهَا وَأَرْضُ الْقَطِيعَةِ هِيَ الْأَرْضُ التي قَطَعَهَا الْإِمَامُ لِقَوْمٍ وَخَصَّهُمْ بها فَمَلَكُوهَا بِجُعْلِ الْإِمَامِ لهم فَيَجُوزُ بَيْعُهَا وَأَرْضُ الْمُزَارَعَةِ أَنْ يَدْفَعَ الْإِنْسَانُ أَرْضَهُ إلَى من يَزْرَعُهَا وَيَقُومُ بها وَبِهَذَا لَا تَخْرُجُ عن كَوْنِهَا مَمْلُوكَةً وَأَرْضُ الْإِجَارَةِ هِيَ الْأَرْضُ التي يَأْخُذُهَا الْإِنْسَانُ من صَاحِبِهَا لِيَعْمُرَهَا وَيَزْرَعَهَا وَأَرْضُ الْإِكَارَةِ التي في أَيْدِي الْأَكَرَةِ فَيَجُوزُ بَيْعُ هذه الْأَرْضِ لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لِأَصْحَابِهَا‏.‏

وَأَمَّا أَرْضُ الْمَوَاتِ التي أَحْيَاهَا رَجُلٌ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه لِأَنَّهَا لَا تُمْلَكُ بِدُونِ إذْنِ الْإِمَامِ وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ بَيْعُهَا لِأَنَّهَا تُمْلَكُ بِنَفْسِ الْإِحْيَاءِ وَالْمَسْأَلَةُ تُذْكَرُ في كتاب إحْيَاءِ الْمَوَاتِ وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ دُورِ بَغْدَادَ وَحَوَانِيتِ السُّوقِ التي لِلسُّلْطَانِ عليها غَلَّةٌ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَمْلُوكَةٍ لِمَا رُوِيَ أَنَّ الْمَنْصُورَ أَذِنَ لِلنَّاسِ في بِنَائِهَا ولم يَجْعَلْ الْبُقْعَةَ مِلْكًا لهم وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ‏.‏

وَمِنْهَا وهو شَرْطُ انْعِقَادِ الْبَيْعِ لِلْبَائِعِ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لِلْبَائِعِ عِنْدَ الْبَيْعِ فَإِنْ لم يَكُنْ لَا يَنْعَقِدْ وَإِنْ مَلَكَهُ بَعْدَ ذلك بِوَجْهٍ من الْوُجُوهِ إلَّا السَّلَمَ خَاصَّةً وَهَذَا بَيْعُ ما ليس عِنْدَهُ وَنَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بَيْعِ ما ليس عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَرَخَّصَ في السَّلَمِ وَلَوْ بَاعَ الْمَغْصُوبَ فَضَمَّنَهُ الْمَالِكُ قِيمَتَهُ نَفَذَ بَيْعُهُ لِأَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ قد تَقَدَّمَ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ بَاعَ مِلْكَ نَفْسِهِ وَهَهُنَا تَأَخَّرَ سَبَبُ الْمِلْكِ فَيَكُونُ بَائِعًا ما ليس عِنْدَهُ فَدَخَلَ تَحْتَ النَّهْيِ وَالْمُرَادُ منه بَيْعُ ما ليس عِنْدَهُ مِلْكًا لِأَنَّ قِصَّةَ الحديث تَدُلُّ عليه فانه روى أَنَّ حَكِيمَ بن حِزَامٍ كان يَبِيعُ الناس أَشْيَاءَ لَا يَمْلِكُهَا وَيَأْخُذُ الثَّمَنَ منهم ثُمَّ يَدْخُلُ السُّوقَ فَيَشْتَرِي وَيُسَلِّمَ إلَيْهِمْ فَبَلَغَ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لَا تَبِعْ ما ليس عِنْدَكَ وَلِأَنَّ بَيْعَ ما ليس عِنْدَهُ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ عن نَفْسِهِ تَمْلِيكُ ما لَا يَمْلِكُهُ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ وَأَنَّهُ مُحَالٌ وهو الشَّرْطُ فِيمَا يَبِيعُهُ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ عن نَفْسِهِ‏.‏

فَأَمَّا ما يَبِيعُهُ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عن غَيْرِهِ يُنْظَرُ إنْ كان الْبَائِعُ وَكِيلًا وَكَفِيلًا فَيَكُونُ الْمَبِيعُ مَمْلُوكًا لِلْبَائِعِ ليس بِشَرْطٍ وَإِنْ كان فُضُولِيًّا فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِلِانْعِقَادِ عِنْدَنَا بَلْ هو من شَرَائِطِ النَّفَاذ فإن بَيْعَ الْفُضُولِيِّ عِنْدَنَا مُنْعَقِدٌ مَوْقُوفٌ على إجَازَةِ الْمَالِكِ فَإِنْ أَجَازَ نَفَذَ وَإِنْ رَدَّ بَطَلَ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ هو شَرْطُ الِانْعِقَادِ لَا يَنْعَقِدُ بِدُونِهِ وَبَيْعُ الْفُضُولِيِّ بَاطِلٌ عِنْدَهُ وَسَيَأْتِي إن شاء الله تعالى‏.‏

وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ عِنْدَ الْعَقْدِ فَإِنْ كان مَعْجُوزَ التَّسْلِيمِ عِنْدَهُ لَا يَنْعَقِدْ وَإِنْ كان مَمْلُوكًا له كَبَيْعِ الْآبِقِ في جَوَابِ ظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ حتى لو ظَهَرَ يَحْتَاجُ إلَى تَجْدِيدِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ إلَّا إذَا تَرَاضَيَا فَيَكُونُ بَيْعًا مُبْتَدَأً بِالتَّعَاطِي فَإِنْ لم يَتَرَاضَيَا وَامْتَنَعَ الْبَائِعُ من التَّسْلِيمِ لَا يُجْبَرُ على التَّسْلِيمِ وَلَوْ سَلَّمَ وَامْتَنَعَ الْمُشْتَرِي من الْقَبْضِ لَا يُجْبَرُ على الْقَبْضِ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ بَيْعُ الْآبِقِ حتى لو ظَهَرَ وَسُلِّمَ يَجُوزُ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى تَجْدِيدِ الْبَيْعِ إلَّا إذَا كان الْقَاضِي فَسَخَهُ بِأَنْ رَفَعَهُ الْمُشْتَرِي إلَى الْقَاضِي فَطَالَبَهُ بِالتَّسْلِيمِ وَعَجَزَ عن التَّسْلِيمِ فَفَسَخَ الْقَاضِي الْبَيْعَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ ظَهَرَ الْعَبْدُ‏.‏

وَجْهُ قَوْلِ الْكَرْخِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْإِبَاقَ لَا يُوجِبُ زَوَالَ الْمِلْكِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو أَعْتَقَهُ أو دَبَّرَهُ يَنْفُذُ وَلَوْ وَهَبَهُ من وَلَدِهِ الصَّغِيرِ يَجُوزُ وكان مِلْكًا له فَقَدْ بَاعَ مَالًا مَمْلُوكًا له إلَّا أَنَّهُ لم يَنْفُذْ لِلْحَالِ لِلْعَجْزِ عن التَّسْلِيمِ فَإِنْ سَلَّمَ زَالَ الْمَانِعُ فَيَنْفُذُ وَصَارَ كَبَيْعِ الْمَغْصُوبِ الذي في يَدِ الْغَاصِبِ إذَا بَاعَهُ الْمَالِكُ لِغَيْرِهِ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا على التَّسْلِيمِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ الْقُدْرَةَ على التَّسْلِيمِ لِذَا الْعَاقِدِ شَرْطُ انْعِقَادِ الْعَقْدِ لِأَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا لِفَائِدَةٍ وَلَا يُفِيدُ إذَا لم يَكُنْ قَادِرًا على التَّسْلِيمِ وَالْعَجْزُ عن التَّسْلِيمِ ثَابِتٌ حَالَةَ الْعَقْدِ وفي حُصُولِ الْقُدْرَةِ بَعْدَ ذلك شَكٌّ وَاحْتِمَالٌ قد يَحْصُلُ وقد لَا يَحْصُلُ وما لم يَكُنْ مُنْعَقِدًا بِيَقِينٍ لَا يَنْعَقِدُ لِفَائِدَةٍ تَحْتَمِلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ على الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ أَنَّ ما لم يَكُنْ ثَابِتًا بِيَقِينٍ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ بِخِلَافِ ما إذَا أَبَقَ بَعْدَ الْبَيْعِ قبل الْقَبْضِ أَنَّهُ لَا يَنْفَسِخُ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ على التَّسْلِيمِ كانت ثَابِتَةً لِذَا الْعَقْدِ فَانْعَقَدَ ثُمَّ زَالَتْ على وَجْهٍ يَحْتَمِلُ عَوْدَهَا فَيَقَعُ الشَّكُّ في زَوَالِ الْمُنْعَقِدِ بِيَقِينٍ وَالثَّابِتُ بِالْيَقِينِ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ فَهُوَ الْفَرْقُ بِخِلَافِ بَيْعِ الْمَغْصُوبِ من غَيْرِ الْغَاصِبِ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا على التَّسْلِيمِ حتى لو سَلَّمَ يَنْفُذُ وَلِأَنَّ هُنَاكَ الْمَالِكَ قَادِرٌ على التَّسْلِيمِ بقدره السُّلْطَانِ وَالْقَاضِي وَجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا أَنَّهُ لم يَنْفُذُ لِلْحَالِ لِقِيَامِ يَدِ الْغَاصِبِ صُورَةً فإذا سَلَّمَ زَالَ الْمَانِعُ فَيَنْفُذُ بِخِلَافِ الْآبِقِ لِأَنَّهُ مَعْجُوزُ التَّسْلِيمِ على الإطلاق إذْ لَا تَصِلُ إلَيْهِ أَحَدٍ لِمَا أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ مَكَانُهُ فَكَانَ الْعَجْزُ مُتَقَرِّرًا وَالْقُدْرَةُ مُحْتَمَلَةٌ مَوْهُومَةٌ فَلَا يَنْعَقِدُ مع الأحتمال فَأَشْبَهَ بَيْعُ الْآبِقِ بَيْعَ الطَّيْرِ الذي لم يُوجَدْ في الْهَوَاءِ وَبَيْعَ السَّمَكِ الذي لم يُوجَدْ في الْمَاءِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ كَذَا هذا‏.‏

وَلَوْ جاء إنْسَانٌ إلَى مولى الْعَبْدِ فقال إنَّ عَبْدَكَ عِنْدَ فُلَانٍ فَبِعْهُ مِنِّي وأنا أَقْبِضُهُ منه فَصَدَّقَهُ وَبَاعَهُ منه لَا يَنْفُذُ لِمَا فيه من عُذْرِ الْقُدْرَةِ على الْقَبْضِ لَكِنَّهُ يَنْعَقِدُ حتى لو قَبَضَهُ يَنْفُذُ بِخِلَافِ الْفصل الْمُتَقَدِّمِ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ على الْقَبْضِ هَهُنَا ثَابِتَةٌ في زَعْمِ الْمُشْتَرِي إلَّا أَنَّ احْتِمَالَ الْمَنْعِ قَائِمٌ فَانْعَقَدَ مَوْقُوفًا على قَبْضِهِ فإذا قَبَضَهُ تَحَقَّقَ ما زَعَمَهُ فَيَنْفُذُ بِخِلَافِ الْفصل الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْعَجْزَ عن التَّسْلِيمِ لِلْحَالِ مُتَحَقِّقٌ فَيَمْنَعُ الِانْعِقَادَ‏.‏

وَلَوْ أَخَذَهُ رَجُلٌ فَجَاءَ إلَى مَوْلَاهُ فَاشْتَرَاهُ منه جَازَ الشِّرَاءُ لِأَنَّ الْمَانِعَ هو الْعَجْزُ عن التَّسْلِيمِ ولم يُوجَدْ في حَقِّهِ وَهَذَا الْبَيْعُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ النَّهْيِ لِأَنَّ النَّهْيَ عن بَيْعِ الْآبِقِ وَهَذَا ليس بابقٍ في حَقِّهِ ثُمَّ إذَا اشْتَرَى منه لَا يَخْلُو إمَّا أن أَحْضَرَ الْعَبْدَ مع نَفْسِهِ وَإِمَّا أن لم يُحْضِرْهُ فَإِنْ أَحْضَرَهُ صَارَ قَابِضًا له عَقِيبَ الْعَقْدِ بِلَا فصل وَإِنْ لم يُحْضِرْهُ مع نَفْسِهِ يُنْظَرُ إنْ كان أَخَذَهُ لِيَرُدَّهُ على صَاحِبِهِ وَأَشْهَدَ على ذلك لَا يَصِيرُ قَابِضًا له ما لم يَصِلْ إلَيْهِ لِأَنَّ قَبْضَهُ قَبْضُ أَمَانَةٍ وَقَبْضُ الْأَمَانَةِ لَا يَنُوبُ عن قَبْضِ الضَّمَانِ فَلَا بُدَّ من التَّجْدِيدِ بِالْوُصُولِ إلَيْهِ حتى لو هَلَكَ الْعَبْدُ قبل الْوُصُولِ يَهْلِكُ على الْبَائِعِ وَيَبْطُلُ الْعَقْدُ لِأَنَّهُ مَبِيعٌ هَلَكَ قبل الْقَبْضِ‏.‏

وإذا وَصَلَ إلَيْهِ صَارَ قَابِضًا له بِنَفْسِ الْوُصُولِ وَلَا يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ بِالْبَرَاجِمِ لِأَنَّ مَعْنَى الْقَبْضِ هو التَّمْكِينُ وَالتَّخَلِّي وَارْتِفَاعُ الْمَوَانِعِ عُرْفًا وَعَادَةً حَقِيقَةً وَإِنْ كان أَخَذَهُ لِنَفْسِهِ لَا لِيَرُدَّهُ على صَاحِبِهِ صَارَ قَابِضًا له عَقِيبَ الْعَقْدِ بِلَا فصل حتى لو هَلَكَ قبل الْوُصُولِ إلَيْهِ يَهْلِكُ على الْمُشْتَرِي لِأَنَّ قَبْضَهُ قَبْضُ ضَمَانٍ وَقَبْضُ الشِّرَاءِ أَيْضًا قَبْضُ الضَّمَانِ فَتَجَانَسَ الْقَبْضَانِ فَتَنَاوَبَا وَلَوْ كان أَخَذَهُ لِيَرُدَّهُ وَلَكِنَّهُ لم يُشْهِدْ على ذلك فَهُوَ على الِاخْتِلَافِ الْمَعْرُوفِ بين أبي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ يَصِيرُ قَابِضًا له عَقِيبَ الْعَقْدِ لِأَنَّ هذا قَبْضُ ضَمَانٍ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لَا يَصِيرُ قَابِضًا إلَّا بَعْدَ الْوُصُولِ إلَيْهِ لِأَنَّ هذا قَبْضُ أَمَانَةٍ عِنْدَهُمَا وَهِيَ من مَسَائِلِ كتاب الْإِبَاقِ وَاللُّقَطَةِ‏.‏

وَعَلَى هذا بَيْعُ الطَّائِرِ الذي كان في يَدِهِ وَطَارَ أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَعَلَى قِيَاسِ ما ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَنْعَقِدُ وَعَلَى هذا بَيْعُ السَّمَكَةِ التي أَخَذَهَا ثُمَّ أَلْقَاهَا في حَظِيرَةٍ سَوَاءٌ اسْتَطَاعَ الْخُرُوجَ عنها أو لَا بَعْدَ أَنْ كان لَا يُمْكِنُهُ أَخْذُهَا بِدُونِ الِاصْطِيَادِ وَإِنْ كان يُمْكِنُهُ أَخْذُهَا من غَيْرِ اصْطِيَادٍ يَجُوزُ بَيْعُهَا بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّهُ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ كَذَا الْبَيْعُ وَعَلَى هذا يَخْرُجُ بَيْعُ اللَّبَنِ في الضَّرْعِ لِأَنَّ اللَّبَنَ لَا يَجْتَمِعُ في الضَّرْعِ دَفْعَةً وَاحِدَةً بَلْ شيئا فَشَيْئًا فَيَخْتَلِطَ الْمَبِيعُ بِغَيْرِهِ على وَجْهٍ يَتَعَذَّرُ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُمَا فَكَانَ الْمَبِيعُ مَعْجُوزَ التَّسْلِيمِ عِنْدَ الْبَيْعِ فَلَا يَنْعَقِدُ وَكَذَا بَيْعُ الصُّوفِ على ظَهْرِ الْغَنَمِ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّهُ يَنْمُو سَاعَةً فَسَاعَةً فَيَخْتَلِطُ الْمَوْجُودُ عِنْدَ الْعَقْدِ بِالْحَادِثِ بَعْدَهُ على وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُمَا فَصَارَ مَعْجُوزَ التَّسْلِيمِ بِالْجَزِّ وَالنَّتْفِ استخراج ‏[‏واستخراج‏]‏ أَصْلِهِ وهو غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ بِالْعَقْدِ‏.‏

وَرُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نهى عن بَيْعِ الصُّوفِ على ظَهْرِ الْغَنَمِ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ جَوَّزَ بَيْعَهُ وَالصُّلْحَ عليه لِأَنَّهُ يَجُوزُ جَزُّهُ قبل الذَّبْحِ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ كَبَيْعِ الْقَصِيلِ في الْأَرْضِ وَوَجْهُ الْفَرْقِ بين الْقَصِيلِ وَالصُّوفِ لِظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الصُّوفَ لَا يُمْكِنُ جَزُّهُ من أَصْلِهِ من غَيْرِ ضَرَرٍ يَلْحَقُ الشَّاةَ بِخِلَافِ الْقَصِيلِ وَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ الدَّيْنِ من غَيْرِ من عليه الدَّيْنُ لِأَنَّ الدَّيْنَ إمَّا أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عن مَالٍ حُكْمِيٍّ في الذِّمَّةِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عن فِعْلِ تَمْلِيكِ الْمَالِ وَتَسْلِيمِهِ وَكُلُّ ذلك غَيْرُ مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ في حَقِّ الْبَائِعِ‏.‏

وَلَوْ شَرَطَ التَّسْلِيمَ على الْمَدْيُونِ لَا يَصِحُّ أَيْضًا لِأَنَّهُ شَرَطَ التَّسْلِيمَ على غَيْرِ الْبَائِعِ فَيَكُونُ شَرْطًا فَاسِدًا فَيَفْسُدُ الْبَيْعُ وَيَجُوزُ بَيْعُهُ مِمَّنْ عليه لِأَنَّ الْمَانِعَ هو الْعَجْزُ عن التَّسْلِيمِ وَلَا حَاجَةَ إلَى التَّسْلِيمِ هَهُنَا وَنَظِيرُ بَيْعِ الْمَغْصُوبِ أَنَّهُ يَصِحُّ من الْغَاصِبِ وَلَا يَصِحُّ من غَيْرِهِ إذَا كان الْغَاصِبُ مُنْكِرًا وَلَا بَيِّنَةَ لِلْمَالِكِ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمُسْلَمِ فيه لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فيه مَبِيعٌ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَبِيعِ قبل الْقَبْضِ وَهَلْ يَجُوزُ بَيْعُ الْمُجَمَّدِ فَنَقُولُ لَا خِلَافَ في أَنَّهُ إذَا سَلَّمَ الْمُجَمَّدَةَ أَوَّلًا إلَى الْمُشْتَرِي أَنَّهُ يَجُوزُ أَمَّا إذَا بَاعَ ثُمَّ سَلَّمَ‏.‏

قال بَعْضُ مَشَايِخِنَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ إلَى أَنْ يُسَلِّمَ بَعْضَهُ يَذُوبُ فَلَا يَقْدِرُ على تَسْلِيمِ جَمِيعِهِ إلَى الْمُشْتَرِي وقال بَعْضُهُمْ يَجُوزُ وقال الْفَقِيهُ أبو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إذ بَاعَهُ وَسَلَّمَهُ من يَوْمِهِ ذلك يَجُوزُ وَإِنْ سَلَّمَهُ بَعْدَ أَيَّامٍ لَا يَجُوزُ وَبِهِ أَخَذَ الْفَقِيهُ أبو اللَّيْثِ عليه الرَّحْمَةُ لِأَنَّهُ في الْيَوْمِ لَا يَنْقُصُ نُقْصَانًا له حِصَّةٌ من الثَّمَنِ وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى النَّفَاذِ فَنَوْعَانِ‏.‏

أَحَدُهُمَا الْمِلْكُ أو الْوِلَايَةُ أَمَّا الْمِلْكُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مَمْلُوكًا لِلْبَائِعِ فَلَا يَنْفُذُ بَيْعُ الْفُضُولِيِّ لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ وَالْوِلَايَةِ لَكِنَّهُ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا على إجَازَةِ الْمَالِكَ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ هو شَرْطُ الِانْعِقَادِ أَيْضًا حتى لَا يَنْعَقِدُ بِدُونِهِ وَأَصْلُ هذا أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْفُضُولِيِّ التي لها مُجِيزٌ حَالَةَ الْعَقْدِ مُنْعَقِدَةٌ مَوْقُوفَةٌ على إجَازَةِ الْمُجِيزِ من الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَنَحْوِهَا فَإِنْ أَجَازَ يَنْفُذْ وَإِلَّا فَيَبْطُلُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَصَرُّفَاتُهُ بَاطِلَةٌ‏.‏

وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ صِحَّةَ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ بِالْمِلْكِ أو بِالْوِلَايَةِ ولم يُوجَدْ أَحَدُهُمَا فَلَا تَصِحَّ وَهَذَا لِأَنَّ صِحَّةَ التَّصَرُّفِ الشَّرْعِيِّ هو اعْتِبَارُهُ في حَقِّ الْحُكْمِ الذي وُضِعَ له شَرْعًا لَا يُعْقَلُ لِلصِّحَّةِ مَعْنًى سِوَى هذا فَأَمَّا الْكَلَامُ الذي لَا حُكْمَ له لَا يَكُونُ صَحِيحًا شَرْعًا وَالْحُكْمُ الذي وُضِعَ له الْبَيْعُ شَرْعًا وهو الْمِلْكُ لَا يَثْبُتُ حَالَ وُجُودِهِ لِعَدَمِ شَرْطِهِ وهو الْمِلْكُ أو الْوِلَايَةُ فلم يَصِحَّ وَلِهَذَا لم يَصِحَّ شِرَاؤُهُ فَكَذَا بَيْعُهُ وَلَنَا عُمُومَاتُ الْبَيْعِ من نَحْوِ قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ‏}‏ وَقَوْلِهِ عز شَأْنُهُ‏:‏ ‏{‏يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عن تَرَاضٍ مِنْكُمْ‏}‏ وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى‏:‏ ‏{‏فإذا قُضِيَتْ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا في الْأَرْضِ وَابْتَغُوا من فَضْلِ اللَّهِ‏}‏‏.‏

شَرَعَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ وَالتِّجَارَةَ وَابْتِغَاءَ الْفَضْلِ من غَيْرِ فصل بين ما إذَا وُجِدَ من الْمَالِكِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ وَبَيْنَ ما إذَا وُجِدَ من الْوَكِيلِ في الِابْتِدَاءِ أو بين ما إذَا وُجِدَتْ الإجازة ‏[‏الإجارة‏]‏ من الْمَالِكِ في الِانْتِهَاءِ وَبَيْنَ وُجُودِ الرِّضَا في التِّجَارَةِ عِنْدَ الْعَقْدِ أو بَعْدَهُ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِإِطْلَاقِهَا إلَّا ما خُصَّ بِدَلِيلٍ‏.‏

وَرُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ دَفَعَ دِينَارًا إلَى حَكِيمِ بن حِزَامٍ رضي اللَّهُ عنه وَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ له أُضْحِيَّةً فَاشْتَرَى شَاتَيْنِ ثُمَّ بَاعَ إحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ وَجَاءَ بِدِينَارٍ وَشَاةٍ إلَى النبي صلى الله عليه وسلم فَدَعَا له بِالْبَرَكَةِ وقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَارَكَ اللَّهُ في صَفْقَةِ يَمِينِكَ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لم يَكُنْ حَكِيمٌ مَأْمُورًا بِبَيْعِ الشَّاةِ فَلَوْ لم يَنْعَقِدْ تَصَرُّفُهُ لَمَا بَاعَ وَلَمَا دَعَا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بِالْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ على ما فَعَلَ ولا ‏[‏ولأنكر‏]‏ أنكر عليه لِأَنَّ الْبَاطِلَ يُنْكَرُ وَلِأَنَّ تَصَرُّفَ الْعَاقِلِ مَحْمُولٌ على الْوَجْهِ الْأَحْسَنِ ما أَمْكَنَ وقد أَمْكَنَ حَمْلُهُ على الْأَحْسَنِ هَهُنَا وقد قَصَدَ الْبِرَّ بِهِ وَالْإِحْسَانَ إلَيْهِ بِالْإِعَانَةِ على ما هو خَيْرٌ لِلْمَالِكِ في زَعْمِهِ لِعِلْمِهِ بِحَاجَتِهِ إلَى ذلك لَكِنْ لم يَتَبَيَّنْ إلَى هذه الْحَالَةِ لِمَوَانِعَ وقد يَغْلِبُ على ظَنِّهِ زَوَالُ الْمَانِعِ فَأَقْدَمَ عليه نَظَرًا لِصَدِيقِهِ وَإِحْسَانًا إلَيْهِ لِبَيَانِ الْمَحْمَدَةِ وَالثَّنَاءِ لِتُحْمَلَ مُؤْنَةُ مُبَاشَرَةِ التَّصَرُّفِ الذي هو مُحْتَاجٌ إلَيْهِ وَالثَّوَابُ من اللَّهِ عز وجل بِالْإِعَانَةِ على الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ‏.‏

قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَتَعَاوَنُوا على الْبِرِّ وَالتَّقْوَى‏}‏ وقال تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ‏:‏ ‏{‏وَأَحْسِنُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ‏}‏ إلَّا أَنَّ في هذه التَّصَرُّفَاتِ ضَرَرًا في الْجُمْلَةِ لِأَنَّ لِلنَّاسِ رَغَائِبَ في الْأَعْيَانِ وقد يُقْدِمُ الرَّجُلُ على شَيْءٍ ظَهَرَتْ له الْحَاجَةُ عنه بِإِزَالَتِهِ عن مِلْكِهِ لِحُصُولِ غَرَضِهِ بِدُونِ ذلك وَنَحْو ذلك فَيَتَوَقَّفُ على إجَازَةِ الْمَالِكِ حتى لو كان الْأَمْرُ على ما ظَنَّهُ مُبَاشِرَ التَّصَرُّفِ إجَازَةً وَحَصَلَ له النَّفْعُ من جِهَتِهِ فَيَنَالُ الثَّوَابَ وَالثَّنَاءَ وَإِلَّا فَلَا يُجِيزُهُ وَيُثْنِي عليه بِقَصْدِ الْإِحْسَانِ وَإِيصَالِ النَّفْعِ إلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِإِهْدَارِ هذا التَّصَرُّفِ وَإِلْحَاقُ كَلَامِهِ وَقَصْدُهُ بِكَلَامِ الْمَجَانِينِ وَقَصْدِهِمْ مع نَدْبِ اللَّهِ عز وجل إلَى ذلك وَحَثِّهِ عليه لِمَا تَلَوْنَا من الْآيَاتِ‏.‏

وَقَوْلُهُ صِحَّةُ التَّصَرُّفِ عِبَارَةٌ عن اعْتِبَارِهِ في حَقِّ الْحُكْمِ قُلْنَا نعم وَعِنْدَنَا هذا التَّصَرُّفُ مُفِيدٌ في الْجُمْلَةِ وهو ثُبُوتُ الْمِلْكِ فِيمَا يَتَضَرَّرُ الْمَالِكُ بِزَوَالِهِ مَوْقُوفًا على الْإِجَازَةِ أما من كل وَجْهٍ أو من وجه ‏[‏بوجه‏]‏ لَكِنْ لَا يَظْهَرُ شَيْءٌ من ذلك عِنْدَ الْعَقْدِ وَإِنَّمَا يَظْهَرُ عِنْدَ الْإِجَازَةِ وهو تَفْسِيرُ التَّوَقُّفِ عِنْدَنَا أَنْ يَتَوَقَّفَ في الْجَوَابِ في الْحَالِ أَنَّهُ صَحِيحٌ في حَقِّ الْحُكْمِ أَمْ لَا وَلَا يَقْطَعُ الْقَوْلَ بِهِ لِلْحَالِ وَلَكِنْ يَقْطَعُ الْقَوْلَ بِصِحَّتِهِ عِنْدَ الْإِجَازَةِ وَهَذَا جَائِزٌ وَلَهُ نَظَائِرُ في الشَّرْعِ وهو الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ أو الْمُشْتَرِي على ما عُرِفَ وَأَمَّا شِرَاءُ الْفُضُولِيِّ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ نَذْكُرُهُ إن شاء الله تعالى‏.‏ في مَوْضِعِهِ ثُمَّ الْإِجَازَةُ إنَّمَا تَلْحَقُ تَصَرُّفَ الْفُضُولِيِّ عِنْدَنَا بِشَرَائِطَ‏.‏

منها أَنْ يَكُونَ له مُجِيزٌ عِنْدَ وُجُودِهِ فما لَا مُجِيزَ له عِنْدَ وُجُودِهِ لَا تَلْحَقُهُ الْإِجَازَةُ لِأَنَّ ماله مُجِيزٌ مُتَصَوَّرٌ منه الْإِذْنُ لِلْحَالِ وَبَعْدَ وُجُودِ التَّصَرُّفِ فَكَانَ الِانْعِقَادُ عِنْدَ الْإِذْنِ الْقَائِمِ مُفِيدًا فَيَنْعَقِدُ وما لَا مُجِيزَ له لَا يُتَصَوَّرُ الْإِذْنُ بِهِ لِلْحَالِ وَالْإِذْنُ في الْمُسْتَقْبَلِ قد يَحْدُثُ وقد لَا يَحْدُثُ فَإِنْ حَدَثَ كان الِانْعِقَادُ مُفِيدًا وَإِنْ لم يَحْدُثْ لم يَكُنْ مُفِيدًا فَلَا يَنْعَقِدْ مع الشَّكِّ في حُصُولِ الْفَائِدَةِ على الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ أَنَّ ما لم يَكُنْ ثَابِتًا بِيَقِينٍ لَا يَثْبُتُ مع الشَّكِّ وإذا لم يَنْعَقِدْ لَا تَلْحَقُهُ الْإِجَازَةُ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ لِلْمُنْعَقِدِ وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما إذَا طَلَّقَ الْفُضُولِيُّ امْرَأَةَ الْبَالِغِ أو أَعْتَقَ عَبْدَهُ أو وَهَبَ مَالَهُ أو تَصَدَّقَ بِهِ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا على الْإِجَازَةِ لِأَنَّ الْبَالِغَ يَمْلِكُ هذه التَّصَرُّفَاتِ بِنَفْسِهِ فَكَانَ لها مُجِيزًا حَالَ وُجُودِهَا فَيَتَوَقَّفُ على إجَازَةِ الْمَالِكِ وَبِمِثْلِهِ لو فَعَلَ ذلك على الصَّبِيِّ لَا يَنْعَقِدُ لِأَنَّ الصَّبِيَّ ليس من أَهْلِ هذه التَّصَرُّفَاتِ بِنَفْسِهِ أَلَا تَرَى لو فَعَلَ ذلك بِنَفْسِهِ لَا تَنْعَقِدُ فلم يَكُنْ لها مُجِيزٌ حَالَ وُجُودِهَا فلم تَنْعَقِدْ وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ الْمَحْجُورُ عليه إذَا بَاعَ مَالَ نَفْسِهِ أو اشْتَرَى أو تَزَوَّجَ امْرَأَةً أو زَوَّجَ أَمَتَهُ أو كَاتَبَ عَبْدَهُ أو فَعَلَ بِنَفْسِهِ ما لو فَعَلَ عليه وَلِيُّهُ لَجَازَ عليه يَتَوَقَّفُ على إجَازَةِ وَلِيِّهِ ما دَامَ صَغِيرًا أو على إجَازَتِهِ بِنَفْسِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ إنْ لم يُوجَدْ من وَلِيِّهِ في حَالِ صِغَرِهِ حتى لو بَلَغَ الصَّبِيُّ قبل إجَازَةِ الْوَلِيِّ فَأَجَازَ بِنَفْسِهِ جَازَ وَلَا يَتَوَقَّفُ على نَفْسِ الْبُلُوغِ من غَيْرِ إجَازَةٍ لِأَنَّ هذه التَّصَرُّفَاتِ لها مُجِيزٌ حَالَ وُجُودِهَا‏.‏

أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو فَعَلَهَا وَلِيُّهُ جَازَتْ فَاحْتُمِلَ التَّوَقُّفُ على الْإِجَازَةِ وَإِنَّمَا يَتَوَقَّفُ على إجَازَتِهِ بِنَفْسِهِ أَيْضًا بَعْدَ الْبُلُوغِ كما يَتَوَقَّفُ على إجَازَةِ وَلِيِّهِ في حَالِ صِغَرِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا بَلَغَ فَقَدْ مَلَكَ الْإِنْشَاءَ فَأَوْلَى أَنْ يَمْلِكَ الْإِجَازَةَ وَلِأَنَّ وَلَايَتَهُ على نَفْسِهِ فَوْقَ وَلَايَةِ وَلِيِّهِ عليه في حَالِ صِغَرِهِ فلما جَازَ بِإِجَازَةِ وَلِيِّهِ فَلَأَنْ يَجُوزَ بِإِجَازَةِ نَفْسِهِ أَوْلَى وَلَا يَجُوزُ بِمُجَرَّدِ الْبُلُوغِ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ لها حُكْمُ الْإِنْشَاءِ من وَجْهٍ وَأَنَّهُ فِعْلُ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ وَالْبُلُوغُ ليس صُنْعَهُ فَلَا يَعْقِلُ إجَازَةً‏.‏

وَكَذَا إذَا وَكَّلَ الصَّبِيُّ وَكِيلًا بِهَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ فَفَعَلَ الْوَكِيلُ قبل بُلُوغِ الصَّبِيِّ أو بَعْدَهُ تَوَقَّفَ على إجَازَتِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ إلَّا التَّوْكِيلَ بِالشِّرَاءِ فإنه لَا يَتَوَقَّفُ بَلْ يَنْفُذُ على الْوَكِيلِ لِأَنَّ الشِّرَاءَ وَجَدَ نَفَاذًا على الْوَكِيلِ فَلَا يَتَوَقَّفُ إلَّا إذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ قبل أَنْ يَشْتَرِيَ الْوَكِيلُ فَأَجَازَ التَّوْكِيلَ ثُمَّ اشْتَرَى الْوَكِيلُ بَعْدَ ذلك فَيَكُونَ الشِّرَاءُ لِلصَّبِيِّ لَا لِلْوَكِيلِ لِأَنَّ إجَازَةَ الْوَكَالَةِ منه بَعْدَ الْبُلُوغِ بِمَنْزِلَةِ إنْشَاءِ التَّوْكِيلِ وَلَوْ وَكَّلَهُ ابْتِدَاءً لَكَانَ الشِّرَاءُ له لَا لِلْوَكِيلِ كَذَا هذا وَبِمِثْلِهِ إذَا طَلَّقَ الصَّبِيُّ امْرَأَتَهُ أو خَالَعَهَا أو أَعْتَقَ عَبْدَهُ على غَيْرِ مَالٍ أو على مَالٍ أو وَهَبَ مَالَهُ أو تَصَدَّقَ بِهِ أو زَوَّجَ عَبْدَهُ امْرَأَةً أو بَاعَ مَالَهُ بِمُحَابَاةٍ أو اشْتَرَى شيئا بِأَكْثَرَ من قِيمَتِهِ قَدْرَ ما لَا يَتَغَابَنُ الناس في مِثْلِهِ عَادَةً أو غَيْرِ ذلك من التَّصَرُّفَاتِ مِمَّا لو فَعَلَهُ وَلِيُّهُ في حَالِ صِغَرِهِ لَا يَجُوزُ عليه لَا يَنْعَقِدُ حتى لو أَجَازَ وَلِيُّهُ أو الصَّبِيُّ بَعْدَ الْبُلُوغِ لَا يصح ‏[‏يحل‏]‏ لِأَنَّ هذه التَّصَرُّفَاتِ ليس لها مُجِيزٌ حَالَ وُجُودِهَا فَلَا تَحْتَمِلُ التَّوَقُّفَ على الْإِجَازَةِ إلَّا إذَا أَجَازَهُ الصَّبِيُّ بَعْدَ الْبُلُوغِ بِلَفْظٍ يَصْلُحُ لِلْإِنْشَاءِ بِأَنْ يَقُولَ بَعْدَ الْبُلُوغِ أَوْقَعْتُ ذلك الطَّلَاقَ أو ذلك الْعَتَاقَ فَيَجُوزَ وَيَكُونَ ذلك إنْشَاءَ الْإِجَازَةِ وَلَوْ وَكَّلَ الصَّبِيُّ وَكِيلًا بِهَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ فَفَعَلَ الْوَكِيلُ يُنْظَرُ إنْ فَعَلَ قبل الْبُلُوغِ لَا يَتَوَقَّفْ وهو بَاطِلٌ لِأَنَّ فِعْلَ الْوَكِيلِ كَفِعْلِ الْمُوَكِّلِ وَلَوْ فَعَلَ الصَّبِيُّ بِنَفْسِهِ لَا يَتَوَقَّفُ فَكَذَا إذَا فَعَلَهُ الْوَكِيلُ وَإِنْ فَعَلَ بَعْدَ الْبُلُوغِ يَتَوَقَّفْ على إجَازَتِهِ بِمَنْزِلَةِ الْفُضُولِيِّ على الْبَائِعِ وَإِنْ بَلَغَ الصَّبِيُّ فَأَجَازَ التَّوْكِيلَ بَعْدَ الْبُلُوغِ قبل أَنْ يَفْعَلَ الْوَكِيلُ شيئا ثُمَّ فَعَلَ جَازَ لِأَنَّ إجَازَةَ التَّوْكِيلِ منه بِمَنْزِلَةِ إنْشَائِهِ وَكَذَا وَصِيَّةُ الصَّبِيِّ لَا تَنْعَقِدُ لِأَنَّهَا تَصَرُّفٌ لَا مُجِيزَ له حَالَ وُجُودِهِ‏.‏

أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو فَعَلَ الْوَلِيُّ لَا يَجُوزُ عليه فَلَا يَتَوَقَّفُ وَسَوَاءٌ أَطْلَقَ الْوَصِيَّةَ أو أَضَافَهَا إلَى حَالِ الْبُلُوغِ لِمَا قُلْنَا حتى لو أَوْصَى ثُمَّ مَاتَ قبل الْبُلُوغِ أو بَعْدَهُ لَا تَجُوزُ وَصِيَّتُهُ إلَّا إذَا بَلَغَ وَأَجَازَ تِلْكَ الْوَصِيَّةَ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَتَجُوزُ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ منه بِمَنْزِلَةِ إنْشَاءِ الْوَصِيَّةِ وَلَوْ أَنْشَأَ الْوَصِيَّةَ بَعْدَ الْبُلُوغِ صَحَّ كَذَا هذا وَعَلَى هذا تَصَرُّفُ الْمُكَاتَبِ وَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ إن ماله مُجِيزٌ حَالَ وُجُودِهِ يَتَوَقَّفُ على إجَازَةِ الْمَوْلَى وما لَا مُجِيزَ له حَالَةَ وُجُودِهِ يَبْطُلُ وَلَا يَتَوَقَّفُ لِمَا ذَكَرْنَا من الْفِقْهِ إلَّا أَنَّ بين الْمُكَاتَبِ وَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَالصَّبِيِّ فَرْقًا من وَجْهٍ وهو أَنَّ الْمُكَاتَبَ أو الْمَأْذُونَ إذَا فَعَلَ ما يَتَوَقَّفُ على الْإِجَازَةِ بِأَنْ زَوَّجَ نَفْسَهُ امْرَأَةً ثُمَّ عَتَقَ يَنْفُذُ بِنَفْسِ الْإِعْتَاقِ وفي الصَّبِيِّ لَا يَنْفُذُ بِنَفْسِ الْبُلُوغِ ما لم تُوجَدْ الإجازة ‏[‏الإجارة‏]‏‏.‏ وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْعَبْدَ بَعْدَ الْإِذْنِ يَتَصَرَّفُ بِمَالِكِيَّةِ نَفْسِهِ على ما عَرَفَ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَنْفُذَ لِلْحَالِ إلَّا أَنَّهُ تَوَقَّفَ لِحَقِّ الْمَوْلَى فإذا عَتَقَ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ فَنَفَذَ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ فإن في أَهْلِيَّتِهِ قُصُورًا لِقُصُورِ عَقْلِهِ فَانْعَقَدَ مَوْقُوفًا على الْإِجَازَةِ وَالْبُلُوغُ ليس بِإِجَازَةٍ على ما مَرَّ‏.‏

وَأَمَّا حُكْمُ شِرَاءِ الْفُضُولِيِّ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الْفُضُولِيَّ إذَا اشْتَرَى شيئا لِغَيْرِهِ فَلَا يَخْلُو أما إنْ أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى نَفْسِهِ وأما إنْ أَضَافَهُ إلَى الذي اشْتَرَى له فَإِنْ أَضَافَهُ إلَى نَفْسِهِ كان المشتري له سَوَاءٌ وُجِدَتْ الْإِجَازَةُ من الذي اشْتَرَى له أو لم تُوجَدْ لِأَنَّ الشِّرَاءَ إذَا وَجَدَ نَفَاذًا على الْعَاقِدِ نَفَذَ عليه وَلَا يَتَوَقَّفُ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ تَصَرُّفَ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ لَا لِغَيْرِهِ قال اللَّهُ تَعَالَى عزل ‏[‏عز‏]‏ من قَائِلٍ‏:‏ ‏{‏لها ما كَسَبَتْ‏}‏ وقال عز من قَائِلٍ‏:‏ ‏{‏وَأَنْ ليس لِلْإِنْسَانِ إلَّا ما سَعَى‏}‏ وَشِرَاءُ الْفُضُولِيِّ كَسْبَهُ حَقِيقَةٌ فَالْأَصْلُ أَنْ يَكُونَ له إلَّا إذَا جَعَلَهُ لِغَيْرِهِ أو لم يَجِدْ نَفَاذًا عليه لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ فَيَتَوَقَّفَ على إجَازَةِ الذي اشْتَرَى له بِأَنْ كان الْفُضُولِيُّ صَبِيًّا مَحْجُورًا أو عَبْدًا مَحْجُورًا فَاشْتَرَى لِغَيْرِهِ يَتَوَقَّفُ على إجَازَةِ ذلك الْغَيْرِ لِأَنَّ الشِّرَاءَ لم يَجِدْ نَفَاذًا عليه فَيَتَوَقَّفَ على إجَازَةِ الذي اشْتَرَى له ضَرُورَةً فَإِنْ أَجَازَ نَفَذَ وَكَانَتْ الْعُهْدَةُ عليه لَا عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُمَا لَيْسَا من أَهْلِ لُزُومِ الْعُهْدَةِ وَإِنْ أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى الذي اشْتَرَى له بِأَنْ قال الْفُضُولِيُّ لِلْبَائِعِ بِعْ عَبْدَكَ هذا من فُلَانٍ بِكَذَا فقال بِعْتُ وَقَبِلَ الْفُضُولِيُّ الْبَيْعَ فيه لِأَجْلِ فُلَانٍ أو قال الْبَائِعُ بِعْتُ هذا الْعَبْدَ من فُلَانٍ بِكَذَا وَقَبِلَ الْمُشْتَرِي الشِّرَاءَ منه لِأَجْلِ فُلَانٍ فإنه يَتَوَقَّفُ على إجَازَةِ الْمُشْتَرِي له لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْإِنْسَانِ وَإِنْ كان له على اعْتِبَارِ الْأَصْلِ إلَّا أَنَّ له أَنْ يَجْعَلَهُ لِغَيْرِهِ بِحَقِّ الْوَكَالَةِ وَغَيْرِ ذلك وَهَهُنَا جَعَلَهُ لِغَيْرِهِ فَيَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا على إجَازَتِهِ‏.‏

وَلَوْ قال الْفُضُولِيُّ لِلْبَائِعِ اشْتَرَيْتُ مِنْكَ هذا الْعَبْدَ بِكَذَا لِأَجْلِ فُلَانٍ فقال بِعْتُ أو قال الْبَائِعُ لِلْفُضُولِيِّ بِعْتُ مِنْكَ هذا الْعَبْدَ بِكَذَا فلان ‏[‏لفلان‏]‏ فقال اشْتَرَيْتُ لَا يَتَوَقَّفُ وَيَنْفُذُ الشِّرَاءُ عليه لِأَنَّهُ لم تُوجَدْ الْإِضَافَةُ إلَى فُلَانٍ في الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَإِنَّمَا وُجِدَتْ في أَحَدِهِمَا وَأَحَدُهُمَا شَطْرُ الْعَقْدِ فَلَا يَتَوَقَّفُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يَتَوَقَّفَ وَإِنَّمَا تَوَقَّفَ لِضَرُورَةِ الْإِضَافَةِ من الْجَانِبَيْنِ فإذا لم يُوجَدْ يَجِبُ الْعَمَلُ بِالْأَصْلِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ أَنَّهُ إذَا اشْتَرَى شيئا يَقَعُ شِرَاؤُهُ لِلْمُوَكِّلِ وَإِنْ أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى نَفْسِهِ لَا إلَى الْمُوَكِّلِ لِأَنَّهُ لَمَّا أَمَرَهُ بِالشِّرَاءِ فَقَدْ أَنَابَهُ مَنَابَ نَفْسِهِ فَكَانَ تَصَرُّفُ الْوَكِيلِ كَتَصَرُّفِهِ بِنَفْسِهِ وَلَوْ اشْتَرَى بِنَفْسِهِ كان المشتري له كَذَا هذا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ‏.‏

وَلَوْ اشْتَرَى الْفُضُولِيُّ شيئا لِغَيْرِهِ ولم يُضِفْ المشتري إلَى غَيْرِهِ حتى لو كان الشِّرَاءُ له فَظَنَّ الْمُشْتَرِي وَالْمُشْتَرَى له أَنَّ المشتري يَكُونُ للمشتري له فَسَلَّمَ إلَيْهِ بَعْدَ الْقَبْضِ بِالثَّمَنِ الذي اشْتَرَاهُ بِهِ وَقَبِلَ المشتري له صَحَّ ذلك وَيُجْعَلُ ذلك تَوْلِيَةً كَأَنَّهُ وَلَّاهُ منه بِمَا اشْتَرَى وَلَوْ عَلِمَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ ذلك أَنَّ الشِّرَاءَ نَفَذَ عليه والمشتري له فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَرِدَّ من صَاحِبِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ لم يَكُنْ له ذلك لِأَنَّ التَّوْلِيَةَ منه قد صَحَّتْ فَلَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ كَمَنْ اشْتَرَى مَنْقُولًا فَطَلَبَ جَارُهُ الشُّفْعَةَ فَظَنَّ الْمُشْتَرِي أَنَّ له شَفَعَةً فَسَلَّمَ إلَيْهِ ثُمَّ أَرَادَ أَحَدُهُمَا أَنْ يَنْقُضَ ذلك من غَيْرِ رِضَا الْآخَرِ لم يَكُنْ له ذلك لِأَنَّهُ لَمَّا سَلَّمَ إلَيْهِ صَارَ ذلك بَيْعًا بَيْنَهُمَا وَلَوْ اخْتَلَفَا فقال المشتري له كنت أَمَرْتُكَ بِالشِّرَاءِ وقال الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْتُهُ لَك بِغَيْرِ أَمَرَكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ المشتري له لِأَنَّ الْمُشْتَرِي لَمَّا قال اشْتَرَيْتُهُ لك كان ذلك إقْرَارًا منه بِأَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِأَمْرِهِ لِأَنَّ الشِّرَاءَ له لَا يَكُونُ إلَّا بِأَمْرِهِ عَادَةً فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ ثُمَّ إنْ أَخَذَهُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَا يَحِلَّ له ذلك إلَّا إذَا كان صَادِقًا في كَلَامِهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ جَلَّ شَأْنُهُ وَإِنْ أَخَذَهُ بِغَيْرِ قَضَاءٍ طَابَ له لِأَنَّهُ أَخَذَهُ بِرِضَاهُ فَصَارَ ذلك بَيْعًا مِنْهُمَا بِتَرَاضِيهِمَا‏.‏

وَمِنْهَا قِيَامُ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي حتى لو هَلَكَ أَحَدُهُمَا قبل الْإِجَازَةِ من الْمَالِكِ لَا تَلْحَقُهُ الْإِجَازَةُ وَمِنْهَا قِيَامُ الْمَالِكِ حتى لو هَلَكَ الْمَالِكُ قبل إجَازَتِهِ لَا يَجُوزُ بِإِجَازَةِ وَرَثَتِهِ وَمِنْهَا قِيَامُ الْمَبِيعِ حتى لو هَلَكَ قبل إجَازَةِ الْمَالِكِ لَا يَجُوزُ بِإِجَازَةِ الْمَالِكِ غير أَنَّهُ إنْ هَلَكَ في يَدِ الْمَالِكِ يَمْلِكْ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَإِنْ هَلَكَ بَعْدَ التَّسْلِيمِ إلَى الْمُشْتَرِي فَالْمَالِكُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْبَائِعَ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُشْتَرِيَ لِوُجُودِ سَبَبِ الضَّمَانِ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا وهو التَّسْلِيمُ من الْبَائِعِ وَالْقَبْضُ من الْمُشْتَرِي لِأَنَّ تَسْلِيمَ مَالِ الْغَيْرِ وَقَبْضَهُ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ وَأَيُّهُمَا اخْتَارَ تَضْمِينَهُ بريء الْآخَرُ وَلَا سَبِيلَ عليه بِحَالٍ لِأَنَّهُ لَمَّا ضَمِنَ أَحَدُهُمَا فَقَدْ مَلَكَ الْمَضْمُونَ فَلَا يَمْلِكُ تَمْلِيكَهُ من غَيْرِهِ لِمَا فيه من الِاسْتِحَالَةِ وهو تَمْلِيكُ شَيْءٍ وَاحِدٍ في زَمَانٍ وَاحِدٍ من اثْنَيْنِ على الْكَمَالِ فَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْمُشْتَرِي رَجَعَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ على الْبَائِعِ وَبَطَلَ الْبَيْعُ وَلَيْسَ له أَنْ يَرْجِعَ عليه بِمَا ضُمِّنَ كما في الْمُشْتَرِي من الْغَاصِبِ‏.‏

وَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْبَائِعِ ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُنْظَرُ إنْ كان قَبْضُ الْبَائِعِ قَبْضَ ضَمَانٍ بِأَنْ كان مَغْصُوبًا في يَدِهِ نَفَذَ بَيْعُهُ لِأَنَّهُ لَمَّا ضَمِنَهُ فَقَدْ مَلَكَ الْمَغْصُوبَ من وَقْتِ الْغَصْبِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ بَاعَ مِلْكَ نَفْسِهِ فَيَنْفُذُ وَإِنْ كان قَبْضُهُ قَبْضَ أَمَانَةٍ بِأَنْ كان وَدِيعَةً عِنْدَهُ فَبَاعَهُ وَسَلَّمَهُ إلَى الْمُشْتَرِي لَا يَنْفُذُ بَيْعُهُ لِأَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا وَجَبَ عليه بِسَبَبٍ مُتَأَخِّرٍ عن الْبَيْعِ وهو التَّسْلِيمُ فَيَمْلِكُ الْمَضْمُونَ من ذلك الْوَقْتِ لَا من وَقْتِ الْبَيْعِ فَيَكُونُ بَائِعًا مَالَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَلَا يَنْفُذُ‏.‏

وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وقال يَجُوزُ الْبَيْعُ بِتَضْمِينِ الْبَائِعِ قيل ‏[‏وقيل‏]‏ هذا مَحْمُولٌ على ما إذَا سَلَّمَهُ الْبَائِعُ أَوَّلًا ثُمَّ بَاعَهُ لِأَنَّهُ إذَا سَلَّمَهُ أَوَّلًا فَقَدْ صَارَ مَضْمُونًا عليه بِالتَّسْلِيمِ فَتَقَدَّمَ سَبَبُ الضَّمَانِ الْبَيْعَ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ بَاعَ مَالَ نَفْسِهِ فَيَنْفُذُ ثُمَّ إنْ كان قِيَامُ الْأَرْبَعَةِ التي ذَكَرْنَا شَرْطًا لِلُحُوقِ الْإِجَازَةِ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ إنَّمَا تَلْحَقُ الْقِيَامَ وَقِيَامُ الْعَقْدِ بِهَذِهِ الْأَرْبَعَةِ وَلِأَنَّ الْإِجَازَةَ لها حُكْمُ الْإِنْشَاءِ من وَجْهٍ وَلَا يَتَحَقَّقُ الْإِنْشَاءُ بِدُونِ الْعَاقِدَيْنِ وَالْمَعْقُودِ عليه لِذَلِكَ كان قِيَامُهَا شَرْطًا لِلُحُوقِ الْإِجَازَةِ فَإِنْ وُجِدَ صَحَّتْ الْإِجَازَةُ وَصَارَ الْبَائِعُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ إذْ الْإِجَازَةُ اللَّاحِقَةُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكَالَةِ السَّابِقَةِ وَيَكُونُ الثَّمَنُ لِلْمَالِكِ إنْ كان قَائِمًا لِأَنَّهُ بَدَلُ مِلْكِهِ وَإِنْ هَلَكَ في يَدِ الْبَائِعِ يَهْلِكْ أَمَانَةً كما إذَا كان وَكِيلًا في الِابْتِدَاءِ وَهَلَكَ الثَّمَنُ في يَدِهِ وَلَوْ فَسَخَهُ الْبَائِعُ قبل الْإِجَازَةِ انْفَسَخَ وَاسْتَرَدَّ الْمَبِيعَ إنْ كان قد سُلِّمَ وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ على الْبَائِعِ إنْ كان قد نَقَدَهُ وَكَذَا إذَا فَسَخَهُ الْمُشْتَرِي يَنْفَسِخُ وَكَذَا إذَا فَسَخَهُ الْفُضُولِيُّ فَمُحَمَّدٌ يَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بين الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ فإن الْفُضُولِيَّ من جَانِبِ الرَّجُلِ في باب النِّكَاحِ إذَا زَوَّجَتْ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا لَا يَمْلِكُ الْفَسْخَ عِنْدَهُ‏.‏

وَوَجْهُ الْفَرْقِ له أَنَّ الْبَيْعَ الْمَوْقُوفَ لو اتَّصَلَتْ بِهِ الْإِجَازَةُ فَالْحُقُوقُ تَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدِ فَهُوَ بِالْفَسْخِ يَدْفَعُ الْعُهْدَةَ عن نَفْسِهِ فَلَهُ ذلك بِخِلَافِ النِّكَاحِ لِأَنَّ الْحُقُوقَ في باب النِّكَاحِ لَا تَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدِ بَلْ هو سَفِيرٌ وَمُعَبِّرٌ فإذا فَرَغَ عن السِّفَارَةِ وَالْعِبَارَةِ الْتَحَقَ بِالْأَجَانِبِ وَأَمَّا قِيَامُ الثَّمَنِ في يَدِ الْبَائِعِ هل هو شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْإِجَازَةِ أَمْ لَا فَالْأَمْرُ لَا يَخْلُو أما إنْ كان الثَّمَنُ دَيْنًا كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْفُلُوسِ النَّافِقَةِ وَالْمَوْزُونِ الْمَوْصُوفِ وَالْمَكِيلِ الْمَوْصُوفِ في الذِّمَّةِ وأما إنْ كان عَيْنًا كَالْعُرُوضِ فَإِنْ كان دَيْنًا فَقِيَامُهُ في يَدِ الْبَائِعِ ليس بِشَرْطٍ لِلُحُوقِ الْإِجَازَةِ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فَكَانَ قِيَامُهُ بِقِيَامِ الذِّمَّةِ وَإِنْ كان عَيْنًا فَقِيَامُهُ شَرْطٌ لِلُحُوقِ الْإِجَازَةِ فَصَارَ الْحَاصِلُ إن قِيَامَ الْأَرْبَعَةِ شَرْطُ صِحَّةِ الْإِجَازَةِ إذَا كان الثَّمَنُ دَيْنًا وإذا كان عَيْنًا فَقِيَامُ الْخَمْسِ شَرْطٌ فَإِنْ وُجِدَتْ الْإِجَازَةُ عِنْدَ قِيَامِ الْخَمْسِ جَازَ وَيَكُونُ الثَّمَنُ لِلْبَائِعِ لَا لِلْمَالِكِ لِأَنَّ الثَّمَنَ إذَا كان عَيْنًا كان الْبَائِعُ مُشْتَرِيًا من وَجْهٍ‏.‏

وَالشِّرَاءُ لَا يَتَوَقَّفُ على الْإِجَازَةِ بَلْ يَنْفُذُ على الْمُشْتَرِي إذَا وَجَدَ نَفَاذًا عليه بِأَنْ كان أَهْلًا وهو أَهْلٌ وَالْمَالِكُ يَرْجِعُ عليه بِقِيمَةِ مَالِهِ إنْ لم يَكُنْ له مِثْلٌ وَبِمِثْلِهِ إنْ كان له مِثْلٌ لِأَنَّهُ عَقَدَ لِنَفْسِهِ ونقد ‏[‏ونفذ‏]‏ الثَّمَنُ من مَالِ غَيْرِهِ فَيَتَوَقَّفُ النَّقْدُ على الْإِجَازَةِ فإذا أجازه ‏[‏جازه‏]‏ مَالِكُهُ بَعْدَ النَّقْدِ فَيَرْجِعُ عليه بمثله أو بِقِيمَتِهِ بِخِلَافِ ما إذَا كان الثَّمَنُ دَيْنًا لِأَنَّهُ إذَا كان دَيْنًا كان الْعَاقِدُ بَائِعًا من كل وَجْهٍ وَلَا يَكُونُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ أَصْلًا فَتَوَقَّفَ على إجَازَةِ المال ‏[‏المالك‏]‏ فإذا أَجَازَ كان مُجِيزًا لِلْعَقْدِ فَكَانَ بَدَلُهُ له وَلَوْ هَلَكَتْ الْعَيْنُ في يَدِ الْفُضُولِيِّ بَطَلَ الْعَقْدُ‏.‏

وَلَا تَلْحَقُهُ الْإِجَازَةُ وَيُرَدُّ الْمَبِيعُ إلَى صَاحِبِهِ وَيَضْمَنُ لِلْمُشْتَرِي مثله إنْ كان له مِثْلٌ وَقِيمَتَهُ إنْ لم يَكُنْ له مِثْلٌ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ وَلَوْ تَصَرَّفَ الْفُضُولِيُّ في الْعَيْنِ قبل الْإِجَازَةِ يُنْظَرُ إنْ تَصَرَّفَ فيه قبل الْقَبْضِ فَتَصَرُّفُهُ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْمِلْكَ في الْعَقْدِ الْفَاسِدِ يَقِفُ على الْقَبْضِ وَإِنْ تَصَرَّفَ فيه بعدما قَبَضَ بِإِذْنِ الْمُشْتَرِي صَرِيحًا أو دَلَالَةً يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ في مِلْكِ نَفْسِهِ وَعَلَيْهِ مِثْلُهُ أو قِيمَتُهُ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ مَضْمُونٌ بِهِ وَلَا تَلْحَقُهُ الْإِجَازَةُ لِأَنَّهُ مَلَكَ بِجَوَازِ تَصَرُّفِهِ فيه فَلَا يَحْتَمِلُ الْإِجَازَةَ بَعْدَ ذلك وَلَوْ تَصَرَّفَ الْمُشْتَرِي في الْمَبِيعِ قبل الْإِجَازَةِ لَا يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ سَوَاءٌ كان قَبَضَ الْمَبِيعَ أو لم يَقْبِضْهُ لِعَدَمِ إذْنِ مَالِكِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ‏.‏

وَأَمَّا الْوِلَايَةُ فَالْوِلَايَةُ في الْأَصْلِ نَوْعَانِ نَوْعٌ يَثْبُتُ بِتَوْلِيَةِ الْمَالِكِ وَنَوْعٌ يَثْبُتُ شَرْعًا لَا بِتَوْلِيَةِ الْمَالِكِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ وِلَايَةُ الْوَكِيلِ فَيَنْفُذُ تَصَرُّفُ الْوَكِيلِ وَإِنْ لم يَكُنْ الْمَحَلُّ مَمْلُوكًا لِوُجُودِ الْوِلَايَةِ الْمُسْتَفَادَةِ من الْمُوَكِّلِ‏.‏

وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ وِلَايَةُ الْأَبِ وَالْجَدِّ أَبُ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ وَالْقَاضِي وهو نَوْعَانِ أَيْضًا وِلَايَةُ النِّكَاحِ وَوِلَايَةُ غَيْرِهِ من التَّصَرُّفَاتِ أَمَّا وِلَايَةُ النِّكَاحِ فَمَوْضِعُ بَيَانِهَا كتاب النِّكَاحِ وَأَمَّا وِلَايَةُ غَيْرِهِ من الْمُعَامَلَاتِ فَالْكَلَامُ فيه في مَوَاضِعَ في بَيَانِ سَبَبِ هذه الْوِلَايَةِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِهَا وفي بَيَانِ تَرْتِيبِ الْوِلَايَةِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَسَبَبُ هذا النَّوْعِ من الْوِلَايَةِ في التَّحْقِيقِ شَيْئَانِ أَحَدُهُمَا الْأُبُوَّةُ وَالثَّانِي الْقَضَاءُ لِأَنَّ الْجَدَّ من قِبَلِ الْأَبِ أَبٌ لَكِنْ بِوَاسِطَةٍ وَوَصِيُّ الْأَبِ وَالْجَدِّ اسْتَفَادَ الْوِلَايَةَ مِنْهُمَا فَكَانَ ذلك وِلَايَةَ الْأُبُوَّةِ من حَيْثُ الْمَعْنَى وَوَصِيُّ الْقَاضِي يَسْتَفِيدُ الْوِلَايَةَ من الْقَاضِي فَكَانَ ذلك وِلَايَةَ الْقَضَاءِ مَعْنًى‏.‏

أَمَّا الْأُبُوَّةُ فَلِأَنَّهَا دَاعِيَةٌ إلَى كَمَالِ النَّظَرِ في حَقِّ الصَّغِيرِ لِوُفُورِ شَفَقَةِ الْأَبِ وهو قَادِرٌ على ذلك لِكَمَالِ رَأْيِهِ وَعَقْلِهِ وَالصَّغِيرُ عَاجِزٌ عن النَّظَرِ لِنَفْسِهِ بِنَفْسِهِ وَثُبُوتُ وِلَايَةِ النَّظَرِ لِلْقَادِرِ على الْعَاجِزِ عن النَّظَرِ أَمْرٌ مَعْقُولٌ مَشْرُوعٌ لِأَنَّهُ من باب الْإِعَانَةِ على الْبِرِّ وَمِنْ باب الْإِحْسَانِ وَمِنْ باب إعَانَةِ الضَّعِيفِ وَإِغَاثَةِ اللَّهْفَانِ وَكُلُّ ذلك حَسَنٌ عَقْلًا وَشَرْعًا‏.‏

وَلِأَنَّ ذلك من باب شُكْرِ النِّعْمَةِ وَهِيَ نِعْمَةُ الْقُدْرَةِ إذا شُكْرُ كل نِعْمَةٍ على حَسَبِ النِّعْمَةِ فَشُكْرُ نِعْمَةِ الْقُدْرَةِ مَعُونَةُ الْعَاجِزِ وَشُكْرُ النِّعْمَةِ وَاجِبٌ عَقْلًا وَشَرْعًا فَضْلًا عن الْجَوَازِ وَوَصِيُّ الْأَبِ قَائِمٌ مَقَامَهُ لِأَنَّهُ رَضِيَهُ وَاخْتَارَهُ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ ما اخْتَارَهُ من بَيْنِ سَائِرِ الناس إلَّا لِعِلْمِهِ بِأَنَّ شَفَقَتَهُ على وَرَثَتِهِ مِثْلَ شَفَقَتِهِ عليهم وَلَوْلَا ذلك لَمَا ارْتَضَاهُ من بَيْنِ سَائِرِ الناس فَكَانَ الْوَصِيُّ خَلَفًا عن الْأَبِ وَخَلَفُ الشَّيْءِ قَائِمٌ مَقَامَهُ كَأَنَّهُ هو وَالْجَدُّ له كَمَالُ الرَّأْيِ وَوُفُورُ الشَّفَقَةِ إلَّا أَنَّ شَفَقَتَهُ دُونَ شَفَقَةِ الْأَبِ فَلَا جُرْمَ تَأَخَّرَتْ وِلَايَتُهُ عن وِلَايَةِ الْأَبِ وَوِلَايَةِ وَصِيِّهِ وَوَصِيِّ وَصِيِّهِ أَيْضًا لِأَنَّ تِلْكَ وِلَايَةُ الْأَبِ من حَيْثُ الْمَعْنَى على ما ذَكَرْنَا وَوَصِيُّ الْجَدِّ قَائِمٌ مَقَامَهُ لِأَنَّهُ اسْتَفَادَ الْوِلَايَةَ من جِهَتِهِ وَكَذَا وَصِيُّ وَصِيِّهِ‏.‏

وَأَمَّا الْقَضَاءُ فَلِأَنَّ الْقَاضِيَ لِاخْتِصَاصِهِ بِكَمَالِ الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ وَالْوَرَعِ وَالتَّقْوَى وَالْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ أَشْفَقُ الناس على الْيَتَامَى فصلحَ وَلِيًّا وقد قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ السُّلْطَانُ وَلِيُّ من لَا وَلِيَّ له إلَّا أَنَّ شَفَقَتَهُ دُونَ شَفَقَةِ الْأَبِ وَالْجَدِّ لِأَنَّ شَفَقَتَهُمَا تَنْشَأُ عن الْقَرَابَةِ وَشَفَقَتُهُ لَا وَكَذَا وَصِيُّهُ فَتَأَخَّرَتْ وِلَايَتُهُ عن وِلَايَتِهِمَا‏.‏