فصل: فصل سُنَن الصلاة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع ***


فصل سُنَن الصلاة

وَأَمَّا سُنَنُهَا فَكَثِيرَةٌ بَعْضُهَا صَلَاةٌ بِنَفْسِهِ وَبَعْضُهَا من لَوَاحِقِ الصَّلَاةِ أَمَّا الذي هو صلاة بِنَفْسِهِ فَالسُّنَنُ الْمَعْهُودَةُ التي يؤدى بَعْضُهَا قبل الْمَكْتُوبَةِ وَبَعْضُهَا بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ وَلَهَا فصل متفرد ‏[‏منفرد‏]‏ نَذْكُرُهَا فيه بِعَلَائِقِهَا وَأَمَّا الذي هو من لَوَاحِقِ الصَّلَاةِ فَثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ نَوْعٌ يُؤْتَى بِهِ عِنْدَ الشُّرُوعِ في الصَّلَاةِ وَنَوْعٌ يُؤْتَى بِهِ بَعْدَ الشُّرُوعِ في الصَّلَاةِ وَنَوْعُ يُؤْتَى بِهِ عِنْدَ الْخُرُوجِ من الصَّلَاةِ أَمَّا الذي يُؤْتَى بِهِ عِنْدَ الشُّرُوعِ في الصَّلَاةِ فَسُنَنُ الِافْتِتَاحِ وَهِيَ أَنْوَاعٌ منها أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ مُقَارِنَةً لِلتَّكْبِيرِ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ النِّيَّةِ لِإِخْلَاصِ الْعَمَلِ لِلَّهِ تَعَالَى وَقِرَانُ النِّيَّةِ أَقْرَبُ إلَى تَحْقِيقِ مَعْنَى الْإِخْلَاصِ فَكَانَ أَفْضَلَ وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَرْضٌ وَالْمَسْأَلَةُ قد مَرَّتْ وَمِنْهَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِلِسَانِهِ ما نَوَاهُ بِقَلْبِهِ ولم يَذْكُرْهُ في كتاب الصَّلَاةِ نَصًّا وَلَكِنَّهُ أَشَارَ إلَيْهِ في كتاب الْحَجِّ فقال وإذا أَرَدْت أَنْ تُحْرِمَ بِالْحَجِّ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَقُلْ اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ فَيَسِّرْهُ لي وَتَقَبَّلْهُ مِنِّي فَكَذَا في باب الصَّلَاةِ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ صَلَاةَ كَذَا فَيَسِّرْهَا لي وَتَقَبَّلْهَا مِنِّي لِأَنَّ هذا سُؤَالُ التَّوْفِيقِ من اللَّهِ تَعَالَى لِلْأَدَاءِ وَالْقَبُولِ بَعْدَهُ فَيَكُونُ مَسْنُونًا وَمِنْهَا حَذْفُ التَّكْبِيرِ لِمَا رُوِيَ عن إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ مَوْقُوفًا عليه وَمَرْفُوعًا إلَى رسول اللَّه أَنَّهُ قال الْأَذَانُ جَزْمٌ وَالْإِقَامَةُ جَزْمٌ وَالتَّكْبِيرُ جَزْمٌ وَلِأَنَّ إدْخَالَ الْمَدِّ في ابْتِدَاءِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى يَكُونُ لِلِاسْتِفْهَامِ وَالِاسْتِفْهَامُ يَكُونُ لِلشَّكِّ وَالشَّكُّ في كِبْرِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى كُفْرٌ وَقَوْلُهُ أَكْبَرُ لَا مَدَّ فيه لِأَنَّهُ على وَزْنِ أَفْعَلُ وَأَفْعَلُ لَا يَحْتَمِلُ الْمَدَّ لُغَةً وَمِنْهَا رَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ وَالْكَلَامُ فيه يَقَعُ في مَوَاضِعَ في أَصْلِ الرَّفْعِ وفي وَقْتِهِ وفي كَيْفِيَّتِهِ وفي مَحَلِّهِ أَمَّا أَصْلُ الرَّفْعِ فَلِمَا رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما مَوْقُوفًا عَلَيْهِمَا وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا في سَبْعَةِ مَوَاطِنَ وَذَكَرَ من جُمْلَتِهَا تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ وَعَنْ أبي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّهُ كان في عَشْرَةِ رَهْطٍ من أَصْحَابِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقال لهم أَلَا أُحَدِّثُكُمْ عن صَلَاةِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا هَاتِ فقال رَأَيْته إذَا كَبَّرَ عِنْدَ فَاتِحَةِ الصَّلَاةِ رَفَعَ يَدَيْهِ وَعَلَى هذا إجْمَاعُ السَّلَفِ‏.‏

وَأَمَّا وَقْتُهُ فَوَقْتُ التَّكْبِيرِ مُقَارِنًا له لِأَنَّهُ سُنَّةٌ التَّكْبِيرُ شُرِعَ لِإِعْلَامِ الْأَصَمِّ الشُّرُوعَ في الصَّلَاةِ وَلَا يَحْصُلُ هذا الْمَقْصُودُ إلَّا بِالْقِرَانِ وَأَمَّا كَيْفِيَّتُهُ فلم يُذْكَرْ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ يَرْفَعُ يَدَيْهِ نَاشِرًا أَصَابِعَهُ مُسْتَقْبِلًا بِهِمَا الْقِبْلَةَ فَمِنْهُمْ من قال أَرَادَ بِالنَّشْرِ تَفْرِيجَ الْأَصَابِعِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ أَرَادَ أَنْ يَرْفَعَهُمَا مَفْتُوحَتَيْنِ لَا مَضْمُومَتَيْنِ حتى ‏[‏حين‏]‏ تَكُونُ الْأَصَابِعُ نحو الْقِبْلَةِ وَعَنْ الْفَقِيهِ أبي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ أَنَّهُ لَا يُفَرِّجُ كُلَّ التَّفْرِيجِ وَلَا يَضُمُّ كُلَّ الضَّمِّ بَلْ يَتْرُكُهُمَا على ما عليه الْأَصَابِعُ في الْعَادَةِ بين الضَّمِّ وَالتَّفْرِيجِ وَأَمَّا مَحَلُّهُ فَقَدْ ذَكَرَ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حِذَاءَ أُذُنَيْهِ وَفَسَّرَهُ الْحَسَنُ بن زِيَادٍ في الْمُجَرَّدِ فقال قال أبو حَنِيفَةَ يَرْفَعُ حتى يُحَاذِي بابهَامَيْهِ شَحْمَةَ أُذُنَيْهِ وَكَذَلِكَ في كل مَوْضِعٍ تُرْفَعُ الْأَيْدِي عِنْدَ التَّكْبِيرِ وقال الشَّافِعِيُّ يَرْفَعُ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ وقال مَالِكٌ حِذَاءَ رَأْسِهِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ وَلَنَا ما رَوَى أبو يُوسُفَ في الْأَمَالِي بِإِسْنَادِهِ عن الْبَرَاءِ بن عَازِبٍ أَنَّهُ قال كان رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ حِذَاءَ أُذُنَيْهِ وَلِأَنَّ هذا الرَّفْعَ شُرِعَ لِإِعْلَامِ الْأَصَمِّ الشُّرُوعَ في الصَّلَاةِ وَلِهَذَا لم يُرْفَعْ في تَكْبِيرَةٍ هِيَ عِلْمٌ لِلِانْتِقَالِ عِنْدَنَا لِأَنَّ الْأَصَمَّ يَرَى الِانْتِقَالَ فَلَا حَاجَةَ إلَى رَفْعِ الْيَدَيْنِ وَهَذَا الْمَقْصُودُ إنَّمَا يَحْصُلُ إذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إلَى أُذُنَيْهِ وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَالتَّوْفِيقُ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَخْبَارِ وَاجِبٌ فما رُوِيَ مَحْمُولٌ على حَالَةِ الْعُذْرِ حين كانت عليهم الْأَكْسِيَةُ وَالْبَرَانِسُ في زَمَنِ الشِّتَاءِ فَكَانَ يَتَعَذَّرُ عليهم الرَّفْعُ إلَى الْأُذُنَيْنِ يَدُلُّ عليه ما رَوَى وَائِلُ بن حُجْرٍ أَنَّهُ قال قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فَوَجَدْتُهُمْ يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ إلَى الْآذَانِ ثُمَّ قَدِمْتُ عليهم من الْقَابِلِ وَعَلَيْهِمْ الْأَكْسِيَةُ وَالْبَرَانِسُ من شِدَّةِ الْبَرْدِ فَوَجَدْتُهُمْ يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ إلَى الْمَنَاكِبِ أو نَقُولُ الْمُرَادُ بِمَا رَوَيْنَا رؤوس الْأَصَابِعِ وَبِمَا روى الْأَكُفُّ وَالْأَرْسَاغُ عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَهَذَا حُكْمُ الرَّجُلِ فَأَمَّا الْمَرْأَةُ فلم يُذْكَرْ حُكْمُهَا في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أنها تَرْفَعُ يَدَيْهَا حِذَاءَ أُذُنَيْهَا كَالرَّجُلِ سَوَاءً لِأَنَّ كَفَّيْهَا لَيْسَا بِعَوْرَةٍ وَرَوَى محمد بن مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ عن أَصْحَابِنَا أنها تَرْفَعُ يَدَيْهَا حَذْوَ مَنْكِبَيْهَا لِأَنَّ ذلك أَسْتَرُ لها وَبِنَاءُ أَمْرِهِنَّ على السَّتْرِ أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ يَعْتَدِلُ في سُجُودِهِ وَيَبْسُطُ ظَهْرَهُ في رُكُوعِهِ وَالْمَرْأَةُ تَفْعَلُ كَأَسْتَرَ ما يَكُونُ لها ومنها أَنَّ الْإِمَامَ يَجْهَرُ بِالتَّكْبِيرِ وَيُخْفِي بِهِ الْمُنْفَرِدُ وَالْمُقْتَدِي لِأَنَّ الْأَصْلَ في الْأَذْكَارِ هو الْإِخْفَاءُ وَإِنَّمَا الْجَهْرُ في حَقِّ الْإِمَامِ لِحَاجَتِهِ إلَى الْإِعْلَامِ فإن الْأَعْمَى لَا يَعْلَمُ بِالشُّرُوعِ إلَّا بِسَمَاعِ التَّكْبِيرِ من الْإِمَامِ وَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ في حَقِّ الْمُنْفَرِدِ وَالْمُقْتَدِي‏.‏

وَمِنْهَا أَنْ يُكَبِّرَ الْمُقْتَدِي مُقَارِنًا لِتَكْبِيرِ الْإِمَامِ فَهُوَ أَفْضَلُ بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ عن أبي حَنِيفَةَ وفي التَّسْلِيمِ عنه رِوَايَتَانِ في رِوَايَةٍ يُسَلِّمُ مُقَارِنًا لِتَسْلِيمِ الْإِمَامِ كَالتَّكْبِيرِ وفي رواية‏:‏ يُسَلِّمُ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْإِمَامِ بِخِلَافِ التَّكْبِيرِ وقال أبو يُوسُفَ السُّنَّةُ أَنْ يُكَبِّرَ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ من التَّكْبِيرِ وَإِنْ كَبَّرَ مُقَارِنًا لِتَكْبِيرِهِ فَعَنْ أبي يُوسُفَ فيه رِوَايَتَانِ في رِوَايَةٍ يَجُوزُ وفي رواية‏:‏ لَا يَجُوزُ وَعَنْ مُحَمَّدٍ يَجُوزُ وَيَكُونُ مُسِيئًا وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمُقْتَدِيَ تَبَعٌ لِلْإِمَامِ وَمَعْنَى التَّبَعِيَّةِ لَا تَتَحَقَّقُ في الْقِرَانِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الِاقْتِدَاءَ مُشَارَكَةٌ وَحَقِيقَةُ الْمُشَارَكَةِ الْمُقَارَنَةُ إذْ بها تَتَحَقَّقُ الشركة ‏[‏المشاركة‏]‏ في جَمِيعِ أَجْزَاءِ العبادة ‏[‏العباد‏]‏ وَبِهَذَا فَارَقَ التَّسْلِيمَ على إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ لِأَنَّهُ إذَا سَلَّمَ بَعْدَهُ فَقَدْ وُجِدَتْ الْمُشَارَكَةُ في جَمِيعِ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ عنها بِسَلَامِ الْإِمَامِ ومنها أَنَّ الْمُؤَذِّنَ إذَا قال قد قَامَتْ الصَّلَاةُ كَبَّرَ الْإِمَامُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وقال أبو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ لَا يُكَبِّرُ حتى يَفْرُغَ الْمُؤَذِّنُ من الْإِقَامَةِ وَالْجُمْلَةُ فيه أَنَّ الْمُؤَذِّنَ إذَا قال حَيَّ على الْفَلَاحِ فَإِنْ كان الْإِمَامُ مَعَهُمْ في الْمَسْجِدِ يُسْتَحَبُّ لِلْقَوْمِ أَنْ يَقُومُوا في الصَّفِّ وَعِنْدَ زُفَرَ وَالْحَسَنِ بن زِيَادٍ يَقُومُونَ عِنْدَ قَوْلِهِ قد قَامَتْ الصَّلَاةُ في الْمَرَّةِ الْأُولَى وَيُكَبِّرُونَ عِنْدَ الثَّانِيَةِ لِأَنَّ المنبىء ‏[‏المنبئ‏]‏ عن الْقِيَامِ قَوْلُهُ قد قَامَتْ الصَّلَاةُ لَا قَوْلُهُ حَيَّ على الْفَلَاحِ وَلَنَا أَنَّ قَوْلَهُ حَيَّ على الْفَلَاحِ دُعَاءٌ إلَى ما بِهِ فَلَاحُهُمْ وَأَمْرٌ بِالْمُسَارَعَةِ إلَيْهِ فَلَا بُدَّ من الْإِجَابَةِ إلَى ذلك وَلَنْ تَحْصُلَ الْإِجَابَةُ إلَّا بِالْفِعْلِ وهو الْقِيَامُ إلَيْهَا فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُومُوا عِنْدَ قَوْلِهِ حَيَّ على الصَّلَاةِ لِمَا ذَكَرْنَا غير أَنَّا نَمْنَعُهُمْ عن الْقِيَامِ كيلا يَلْغُوَ قَوْلُهُ حَيَّ على الْفَلَاحِ لِأَنَّ من وُجِدَتْ منه الْمُبَادَرَةُ إلَى شَيْءٍ فَدُعَاؤُهُ إلَيْهِ بَعْدَ تَحْصِيلِهِ إيَّاهُ لغو ‏[‏يلغو‏]‏ من الْكَلَامِ وأما قَوْلُهُ أن المنبىء ‏[‏المنبئ‏]‏ عن الْقِيَامِ قَوْلُهُ قد قَامَتْ الصَّلَاةُ فَنَقُولُ قَوْلُهُ قد قَامَتْ الصَّلَاةُ ينبىء عن قِيَامِ الصَّلَاةِ لَا عن الْقِيَامِ إلَيْهَا وَقِيَامُهَا وُجُودُهَا وَذَلِكَ بِالتَّحْرِيمَةِ لِيَتَّصِلَ بها جُزْءٌ من أَجْزَائِهَا تَصْدِيقًا له على ما نَذْكُرُ ثُمَّ إذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ إذَا قال الْمُؤَذِّنُ قد قَامَتْ الصَّلَاةُ كَبَّرُوا على الِاخْتِلَافِ الذي ذَكَرْنَا وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّ في إجَابَةِ الْمُؤَذِّنِ فَضِيلَةً وفي إدْرَاكِ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ فَضِيلَةٌ فَلَا بُدَّ من الْفَرَاغِ إحْرَازًا لِلْفَضِيلَتَيْنِ من الْجَانِبَيْنِ وَلِأَنَّ فِيمَا قُلْنَا تَكُونُ جَمِيعُ صَلَاتِهِمْ بِالْإِقَامَةِ وَفِيمَا قالوا بِخِلَافِهِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ما رُوِيَ عن سُوَيْد بن غَفَلَةَ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه كان إذَا انْتَهَى الْمُؤَذِّنُ إلَى قَوْلِهِ قد قَامَتْ الصَّلَاةُ كَبَّرَ وَرُوِيَ عن بِلَالٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال يا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنْ كُنْتَ تَسْبِقُنِي بِالتَّكْبِيرِ فَلَا تَسْبِقْنِي بِالتَّأْمِينِ وَلَوْ كَبَّرَ بَعْدَ الْفَرَاغِ من الْإِقَامَةِ لَمَا سَبَقَهُ بِالتَّكْبِيرِ فَضْلًا عن التَّأْمِينِ فلم يَكُنْ لِلسُّؤَالِ مَعْنًى وَلِأَنَّ الْمُؤَذِّنَ مُؤْتَمَنُ الشَّرْعِ فَيَجِبُ تَصْدِيقُهُ وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَاهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ قِيَامَ الصَّلَاةِ وُجُودُهَا فَلَا بُدَّ من تَحْصِيلِ التَّحْرِيمَةِ الْمُقْتَرِنَةِ بِرُكْنٍ من أَرْكَانِ الصَّلَاةِ لِيُوجَدَ جُزْءٌ من أَجْزَائِهَا فَيَصِيرُ الْمُخْبِرُ عن قِيَامِهَا صَادِقًا في مَقَالَتِهِ لِأَنَّ الْمُخْبِرَ عن الْمُتَرَكِّبِ من أَجْزَاءٍ لَا بَقَاءَ لها لَنْ يَكُونَ إلَّا عن وُجُودِ جُزْءٍ منها وَإِنْ كان الْجُزْءُ وَحْدَهُ مِمَّا لَا يَنْطَلِقُ عليه اسْمُ الْمُتَرَكِّبِ كَمَنْ يقول فُلَانٌ يُصَلِّي في الْحَالِ يَكُونُ صَادِقًا وَإِنْ كان لَا يُوجَدُ في الحالة ‏[‏حالة‏]‏ الْإِخْبَارِ إلَّا جُزْءٌ منها لِاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِ أَجْزَائِهَا في الْوُجُودِ في حَالَةٍ وَاحِدَةٍ‏.‏

وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ ما ذَكَرُوا من الْمَعْنَيَيْنِ لَا يُعْتَبَرُ بِمُقَابَلَةِ فِعْلِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِعْلِ عُمَرَ ثُمَّ نَقُولُ في تَصْدِيقِ الْمُؤَذِّنِ فَضِيلَةٌ كما أَنَّ في إجَابَتَهُ فضيلة ‏[‏فضلة‏]‏ بَلْ فَضِيلَةُ التَّصْدِيقِ فَوْقَ فَضِيلَةِ الْإِجَابَةِ مع أَنَّ فِيمَا قَالُوهُ فَوَاتَ فَضِيلَةِ الْإِجَابَةِ أَصْلًا إذْ لَا جَوَابَ لِقَوْلِهِ قد قَامَتْ الصَّلَاةُ من حَيْثُ الْقَوْلُ وَلَيْسَ فِيمَا قُلْنَا تَفْوِيتُ فَضِيلَةِ الْإِجَابَةِ أَصْلًا بَلْ حَصَلَتْ الْإِجَابَةُ بِالْفِعْلِ وهو إقَامَةُ الصَّلَاةِ فَكَانَ ما قلناه ‏[‏قلنا‏]‏ سَبَبًا لِاسْتِدْرَاكِ الْفَضِيلَتَيْنِ فَكَانَ أَحَقَّ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنْ لَا بَأْسَ بِأَدَاءِ بَعْضِ الصَّلَاةِ بَعْدَ أَكْثَرِ الْإِقَامَةِ وَأَدَاءِ أَكْثَرِهَا بَعْدَ جَمِيعِ الْإِقَامَةِ إذَا كان سَبَبًا لِاسْتِدْرَاكِ الْفَضِيلَتَيْنِ وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا اخْتَارُوا في الْفِعْلِ مَذْهَبَ أبي يُوسُفَ لِتَعَذُّرِ إحْضَارِ النِّيَّةِ عليهم في حَالِ رَفْعِ الْمُؤَذِّنِ صَوْتَهُ بِالْإِقَامَةِ هذا إذَا كان الْإِمَامُ في الْمَسْجِدِ فَإِنْ كان خَارِجَ الْمَسْجِدِ لَا يَقُومُونَ ما لم يَحْضُرْ لِقَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لَا تَقُومُوا في الصَّفِّ ما ‏[‏حتى‏]‏ لم تَرَوْنِي خَرَجْتُ» وَرُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ دخل الْمَسْجِدَ فَرَأَى الناس قِيَامًا يَنْتَظِرُونَهُ فقال مالي أَرَاكُمْ سَامِدِينَ ‏(‏أَيْ وَاقِفِينَ مُتَحَيِّرِينَ‏)‏ وَلِأَنَّ الْقِيَامَ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ وَلَا يُمْكِنُ أَدَاؤُهَا بِدُونِ الْإِمَامِ فلم يَكُنْ الْقِيَامُ مُفِيدًا ثُمَّ إنْ دخل الْإِمَامُ من قُدَّامِ الصُّفُوفِ فكلما ‏[‏فكما‏]‏ رَأَوْهُ قَامُوا لِأَنَّهُ لما ‏[‏كلما‏]‏ دخل الْمَسْجِدَ قام مَقَامَ الْإِمَامَةِ وَإِنْ دخل من وَرَاءِ الصُّفُوفِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كُلَّمَا جَاوَزَ صَفًّا قام ذلك الصَّفُّ لِأَنَّهُ صَارَ بِحَالٍ لو اقْتَدَوْا بِهِ جَازَ فَصَارَ في حَقِّهِمْ كَأَنَّهُ أخذ ‏[‏أخذه‏]‏ مَكَانَهُ وَأَمَّا الذي يُؤْتَى بِهِ بَعْدَ الْفَرَاغِ من الِافْتِتَاحِ فَنَقُولُ إذَا فَرَغَ من تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ يَضَعُ يَمِينَهُ عن شِمَالِهِ وَالْكَلَامُ فيه في أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ أَحَدُهَا في أَصْلِ الْوَضْعِ وَالثَّانِي في وَقْتِ الْوَضْعِ وَالثَّالِثِ في مَحَلِّ الْوَضْعِ‏.‏

وَالرَّابِعِ في كَيْفِيَّةِ الْوَضْعِ أَمَّا الْأَوَّلُ فقد قال عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ أن السُّنَّةَ هِيَ وَضْعُ الْيَمِينِ على الشِّمَالِ وقال مَالِكٌ السُّنَّةُ هِيَ الْإِرْسَالُ وَجْهُ قَوْلِهِ الْإِرْسَالَ أَشَقُّ على الْبَدَنِ وَالْوَضْعُ لِلِاسْتِرَاحَةِ دَلَّ عليه ما رُوِيَ عن إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ أَنَّهُ قال أنهم كَانُوا يَفْعَلُونَ ذلك مَخَافَةَ اجْتِمَاعِ الدَّمِ في رؤوس الْأَصَابِعِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُطِيلُونَ الصَّلَاةِ وَأَفْضَلُ الْأَعْمَالِ أَحْمَزُهَا على لِسَانِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَنَا ما رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال ثَلَاثٌ من سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ تَعْجِيلُ الْإِفْطَارِ وَتَأْخِيرُ السُّحُورِ وَأَخْذُ الشِّمَالِ بِالْيَمِينِ في الصَّلَاةِ وفي رواية‏:‏ وَضْعُ الْيَمِينِ على الشِّمَالِ تَحْتَ السُّرَّةِ في الصَّلَاةِ وَأَمَّا وَقْتُ الْوَضْعِ فكما ‏[‏فكلما‏]‏ فَرَغَ من التَّكْبِيرِ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ في النَّوَادِرِ أَنَّهُ يُرْسِلُهُمَا حَالَةَ الثَّنَاءِ فإذا فَرَغَ منه يَضَعُ بِنَاءً على أَنَّ الْوَضْعَ سُنَّةُ الْقِيَامِ الذي له قَرَارٌ في ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ سُنَّةُ الْقِرَاءَةِ وَأَجْمَعُوا على أَنَّهُ لَا يُسَنُّ الْوَضْعُ في الْقِيَامِ الْمُتَخَلِّلِ بين الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لِأَنَّهُ لَا قَرَارَ له وَلَا قِرَاءَةَ فيه وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِقَوْلِهِ إنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ أُمِرْنَا أَنْ نَضَعَ أَيْمَانَنَا على شَمَائِلِنَا في الصَّلَاةِ من غَيْرِ فصل بين حَالٍ وَحَالٍ فَهُوَ على الْعُمُومِ إلَّا ما خُصَّ بِدَلِيلٍ وَلِأَنَّ الْقِيَامَ من أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَالصَّلَاةُ خِدْمَةُ الرَّبِّ تَعَالَى وَتَعْظِيمٌ له وَالْوَضْعُ في التَّعْظِيمِ أَبْلَغُ من الْإِرْسَالِ كما في الشَّاهِدِ فَكَانَ أَوْلَى وَأَمَّا الْقِيَامُ الْمُتَخَلِّلُ بين الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ في صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ فقال بَعْضُ مَشَايِخِنَا الْوَضْعُ أَوْلَى لِأَنَّ له ضَرْبَ قَرَارٍ وقال بَعْضُهُمْ الْإِرْسَالُ أَوْلَى لِأَنَّهُ كما يَضَعُ يَحْتَاجُ إلَى الرَّفْعِ فَلَا يَكُونُ مُفِيدًا وَأَمَّا في حَالِ الْقُنُوتِ فذكر في الْأَصْلِ إذَا أَرَادَ أَنْ يَقْنُتَ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ حِذَاءَ أُذُنَيْهِ نَاشِرًا أَصَابِعَهُ ثُمَّ يَكُفُّهُمَا قال أبو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ مَعْنَاهُ يَضَعُ يَمِينَهُ على شِمَالِهِ وَكَذَلِكَ رُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَضَعُهُمَا كما يَضَعُ يَمِينَهُ على يَسَارِهِ في الصَّلَاةِ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ وَالطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ يُرْسِلُهُمَا في حَالَةِ الْقُنُوتِ وَكَذَا رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ وَاخْتَلَفُوا في تَفْسِيرِ الْإِرْسَالِ قال بَعْضُهُمْ لَا يَضَعُ يَمِينَهُ على شِمَالِهِ وَمِنْهُمْ من قال لَا بَلْ يَضَعُ وَمَعْنَى الْإِرْسَالِ أَنْ لَا يَبْسُطَهُمَا كما رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يَبْسُطُ يَدَيْهِ بَسْطًا في حَالَةِ الْقُنُوتِ وهو الصَّحِيحُ لِعُمُومِ الحديث الذي رَوَيْنَا وَلِأَنَّ هذا قِيَامٌ في الصَّلَاةِ له قَرَارٌ فَكَانَ الْوَضْعُ فيه أَقْرَبَ إلَى التَّعْظِيمِ فَكَانَ أَوْلَى وَأَمَّا في صَلَاةِ الْجِنَازَةِ فَالصَّحِيحُ أَيْضًا أنه يَضَعَ لِمَا رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ صلى على جِنَازَةٍ وَوَضَعَ يَمِينَهُ على شِمَالِهِ تَحْتَ السُّرَّةِ وَلِأَنَّ الْوَضْعَ أَقْرَبُ إلَى التَّعْظِيمِ في قِيَامٍ له قَرَارٌ فَكَانَ الْوَضْعُ أَوْلَى والله أعلم‏.‏

وَأَمَّا مَحَلُّ الْوَضْعِ فما تَحْتَ السُّرَّةِ في حَقِّ الرِّجْلِ وَالصَّدْرُ في حَقِّ الْمَرْأَةِ وقال الشَّافِعِيُّ مَحَلُّهُ الصَّدْرُ في حَقِّهِمَا جميعا وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فصل لِرَبِّكَ وَانْحَرْ‏}‏ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَانْحَرْ‏}‏ أَيْ ضَعْ الْيَمِينَ على الشِّمَالِ في النَّحْرِ وهو الصَّدْرُ وَكَذَا رُوِيَ عن عَلِيٍّ في تَفْسِيرِ الْآيَةِ وَلَنَا ما رَوَيْنَا عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال ثَلَاثٌ من سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ من جُمْلَتِهَا وَضْعُ الْيَمِينِ على الشِّمَالِ تَحْتَ السُّرَّةِ في الصَّلَاةِ وَأَمَّا الْآيَةُ فَمَعْنَاهُ أَيْ صَلِّ صَلَاةَ الْعِيدِ وَانْحَرْ الْجَزُورَ وهو الصَّحِيحُ من التَّأْوِيلِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ عَطْفَ الشَّيْءِ على غَيْرِهِ كما هو مُقْتَضَى الْعَطْفِ في الْأَصْلِ وَوَضْعُ الْيَدِ من أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَأَبْعَاضِهَا وَلَا مُغَايَرَةَ بين الْبَعْضِ وَبَيْنَ الْكُلِّ أو يُحْتَمَلُ ما قُلْنَا فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مع الِاحْتِمَال على أَنَّهُ رُوِيَ عن عَلِيٍّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُمَا قَالَا السُّنَّةُ وَضْعُ الْيَمِينِ على الشِّمَالِ تَحْتَ السُّرَّةِ فلم يَكُنْ تَفْسِيرُ الْآيَةِ عنه وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الْوَضْعِ فلم يُذْكَرْ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَاخْتُلِفَ فيها قال بَعْضُهُمْ يَضَعُ باطن كَفَّهُ الْيُمْنَى على ظَهْرِ كَفِّهِ الْيُسْرَى وقال بَعْضُهُمْ يَضَعُ على ذِرَاعِهِ الْيُسْرَى وقال بَعْضُهُمْ يَضَعُ على الْمِفصل وَذَكَرَ في النَّوَادِرِ اخْتِلَافًا بين أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فقال على قَوْلِ أبي يُوسُفَ يَقْبِضُ بيده الْيُمْنَى على رُسْغِ يَدِهِ الْيُسْرَى وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَضَعُ كَذَلِكَ وَعَنْ الْفَقِيهِ أبي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ أَنَّهُ قال قَوْلُ أبي يُوسُفَ أَحَبُّ إلَيَّ لِأَنَّ في الْقَبْضِ وَضْعًا وَزِيَادَةً وهو اخْتِيَارُ مَشَايِخِنَا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ فَيَأْخُذُ الْمُصَلِّي رُسْغَ يَدِهِ الْيُسْرَى بِوَسَطِ كَفِّهِ الْيُمْنَى وَيُحَلِّقُ إبْهَامَهُ وَخِنْصَرَهُ وَبِنْصَرَهُ وَيَضَعُ الْوُسْطَى وَالْمُسَبِّحَةَ على مِعْصَمِهِ لِيَصِيرَ جَامِعًا بين الْأَخْذِ وَالْوَضْعِ وَهَذَا لِأَنَّ الْأَخْبَارَ اخْتَلَفَتْ ذُكِرَ في بَعْضِهَا الْوَضْعُ وفي بَعْضِهَا الْأَخْذُ فَكَانَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ أَجْمَعَ فَكَانَ أَوْلَى ثُمَّ يقول سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلَا إلَهَ غَيْرُكَ سَوَاءٌ كان إمَامًا أو مُقْتَدِيًا أو مُنْفَرِدًا هَكَذَا ذَكَرَ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وزاد عليه في كتاب الْحَجِّ وجل ثَنَاؤُكَ وَلَيْسَ ذلك في الْمَشَاهِيرِ وَلَا يَقْرَأُ إنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لَا قبل التَّكْبِيرِ وَلَا بَعْدَهُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ الْأَوَّلُ ثُمَّ رَجَعَ وقال في الْإِمْلَاءِ يقول مع التَّسْبِيحِ إنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وما أنا من الْمُشْرِكِينَ إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ له وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وأنا من الْمُسْلِمِينَ وَلَا يقول وأنا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُ كَذِبٌ وَهَلْ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ إذَا قال ذلك قال بَعْضُهُمْ تَفْسُدُ لِأَنَّهُ أَدْخَلَ الْكَذِبَ في الصَّلَاةِ وقال بَعْضُهُمْ لَا تَفْسُدُ لِأَنَّهُ من الْقُرْآنِ‏.‏

ثُمَّ عن أبي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ في رِوَايَةٍ يُقَدِّمُ التَّسْبِيحَ عليه وفي رواية‏:‏ هو بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَدَّمَ وَإِنْ شَاءَ أَخَّرَ وهو أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وفي قَوْلٍ يَفْتَتِحُ بِقَوْلِهِ وَجَّهْتُ وَجْهِي لَا بِالتَّسْبِيحِ وَاحْتَجَّا بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ قال وَجَّهْتُ وَجْهِي إلَخْ وقال سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ إلَى آخِرِهِ وَالشَّافِعِيُّ زَادَ عليه ما رَوَاهُ عن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وهو قَوْلُهُ اللَّهُمَّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا وَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أنت فَاغْفِرْ لي مَغْفِرَةً من عِنْدِكَ وَتُبْ عَلَيَّ إنَّك أنت التَّوَّابُ الرَّحِيمُ وفي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ اللَّهُمَّ أنت الْمَلِكُ لَا إلَهَ إلَّا أنت أنت رَبِّي وأنا عَبْدُك وأنا على عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ ما اسْتَطَعْتُ أَبُوءُ لك بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ لَك بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لي ذُنُوبِي إنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أنت وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ إنَّهُ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إلَّا أنت وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا إنَّهُ لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إلَّا أنت أنا بِكَ وإليك ‏[‏ولك‏]‏ تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إلَيْكَ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حين تَقُومُ‏}‏ ذَكَرَ الْجَصَّاصُ عن الضَّحَّاكِ عن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قَوْلُ الْمُصَلِّي عِنْدَ الِافْتِتَاحِ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ وَرَوَى هذا الذِّكْرَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كان يقول عِنْدَ الِافْتِتَاحِ وَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ على الْكتاب وَالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ بِالْآحَادِ ثُمَّ تَأْوِيلُ ذلك كُلِّهِ أَنَّهُ كان يقول ذلك في التَّطَوُّعَاتِ وَالْأَمْرُ فيها أَوْسَعُ فَأَمَّا في الْفَرَائِضِ فَلَا يُزَادُ على ما اشْتَهَرَ فيه الْأَثَرُ أو كان في الِابْتِدَاءِ ثُمَّ نُسِخَ بِالْآيَةِ أو تَأَيَّدَ ما رَوَيْنَا بِمُعَاضَدَةِ الْآيَةِ ثُمَّ لم يُرْوَ عن أَصْحَابِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّهُ يَأْتِي بِهِ قبل التَّكْبِيرِ وقال بَعْضُ مَشَايِخِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ إنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ قبل التَّكْبِيرِ لِإِحْضَارِ النِّيَّةِ وَلِهَذَا لَقَّنُوهُ الْعَوَامَّ ثُمَّ يَتَعَوَّذُ بِاَللَّهِ من الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ في نَفْسِهِ إذَا كان إمَامًا أو منفردا وَالْكَلَامُ في التَّعَوُّذِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ صِفَتِهِ وفي بَيَانِ وَقْتِهِ وفي بَيَانِ من يُسَنُّ في حَقِّهِ وفي بَيَانِ كَيْفِيَّتِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَالتَّعَوُّذُ سُنَّةٌ في الصَّلَاةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعِنْدَ مَالِكٍ ليس بِسُنَّةٍ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فإذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاَللَّهِ من الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ‏}‏ من غَيْرِ فصل بين حَالِ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ قام لِيُصَلِّيَ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم تَعَوَّذْ بِاَللَّهِ من الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ وَمِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَكَذَا النَّاقِلُونَ صَلَاةَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَقَلُوا تَعَوُّذَهُ بَعْدَ الثَّنَاءِ قبل الْقِرَاءَةِ وَأَمَّا وَقْتُ التَّعَوُّذِ فما بَعْدَ الْفَرَاغِ من التَّسْبِيحِ قبل الْقِرَاءَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وقال أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ وَقْتُهُ ما بَعْدَ الْقِرَاءَةِ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فإذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ‏}‏ الْآيَةَ أَمَرَ بِالِاسْتِعَاذَةِ بَعْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ لِأَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ وَلَنَا أَنَّ الَّذِينَ نَقَلُوا صَلَاةَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَقَلُوا تَعَوُّذَهُ بَعْدَ الثَّنَاءِ قبل الْقِرَاءَةِ وَلِأَنَّ التَّعَوُّذَ شُرِعَ صِيَانَةً لِلْقِرَاءَةِ عن وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ وَمَعْنَى الصِّيَانَةِ إنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ قبل الْقِرَاءَةِ لَا بَعْدَهَا وَالْإِرَادَةُ مُضْمَرَةٌ في الْآيَةِ مَعْنَاهُ فإذا أَرَدْت قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ فَاسْتَعِذْ بِاَللَّهِ كَذَا قال أَهْلُ التَّفْسِيرِ كما في قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ‏}‏ أَيْ إذَا أَرَدْتُمْ الْقِيَامَ إلَيْهَا وَأَمَّا من يُسَنُّ في حَقِّهِ التَّعَوُّذُ فَهُوَ الْإِمَامُ وَالْمُنْفَرِدُ دُونَ الْمُقْتَدِي في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ هو سُنَّةٌ في حَقِّهِ أَيْضًا ذُكِرَ الِاخْتِلَافُ في السِّيَرِ الْكَبِيرِ وَحَاصِلُ الْخِلَافِ رَاجِعٌ إلَى أَنَّ التَّعَوُّذَ تَبَعٌ لِلثَّنَاءِ أو تَبَعٌ لِلْقِرَاءَةِ فَعَلَى قَوْلِهِمَا تَبَعٌ لِلْقِرَاءَةِ لِأَنَّهُ شُرِعَ لِافْتِتَاحِ الْقِرَاءَةِ صِيَانَةً لها عن وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ فَكَانَ كَالشَّرْطِ لها وَشَرْطُ الشَّيْءِ تَبَعٌ له وَعَلَى قَوْلِهِ تَبَعٌ لِلثَّنَاءِ لِأَنَّهُ شُرِعَ بَعْدَ الثَّنَاءِ وهو من جِنْسِهِ وَتَبَعُ الشَّيْءِ كَاسْمِهِ ما يَتْبَعُهُ وَيَتَفَرَّعُ عن هذا الْأَصْلِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ إحْدَاهَا أَنَّهُ لَا تَعَوُّذَ على الْمُقْتَدِي عِنْدَهُمَا لِأَنَّهُ لَا قِرَاءَةَ عليه وَعِنْدَهُ يَتَعَوَّذُ لِأَنَّهُ يَأْتِي بِالثَّنَاءِ فَيَأْتِي بِمَا هو تَبَعٌ له وَالثَّانِيَةِ الْمَسْبُوقُ إذَا شَرَعَ في صَلَاةِ الْإِمَامِ وَسَبَّحَ لَا يَتَعَوَّذُ للحال وَإِنَّمَا يَتَعَوَّذُ إذَا قام إلَى قَضَاءِ ما سُبِقَ بِهِ عِنْدَهُمَا لِأَنَّ ذلك وَقْتُ الْقِرَاءَةِ وَعِنْدَهُ يَتَعَوَّذُ بَعْدَ الْفَرَاغِ من التَّسْبِيحِ لِأَنَّهُ تَبَعٌ له وَالثَّالِثَةِ الْإِمَامُ في صَلَاةِ الْعِيدِ يَأْتِي بِالتَّعَوُّذِ بَعْدَ التَّكْبِيرَاتِ عِنْدَهُمَا إذَا كان يَرَى رَأْيَ ابْنِ عَبَّاسِ أو رَأْيَ ابْنِ مَسْعُودٍ لِأَنَّ ذلك وَقْتُ الْقِرَاءَةِ وَعِنْدَهُ يَأْتِي بِهِ بَعْدَ التَّسْبِيحِ قبل التَّكْبِيرَاتِ لِكَوْنِهِ تَبَعًا له وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ التَّعَوُّذِ فَالْمُسْتَحَبُّ له أَنْ يَقُولَ أَسْتَعِيذُ بِاَللَّهِ من الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ أو أَعُوذُ بِاَللَّهِ من الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ لِأَنَّ أَوْلَى الْأَلْفَاظِ ما وَافَقَ كتاب اللَّهِ‏.‏

وقد وَرَدَ هَذَانِ اللَّفْظَانِ في القرآن ‏[‏كتاب‏]‏ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَزِيدَ عليه إنَّ اللَّهَ هو السَّمِيعُ الْعَلِيمُ لِأَنَّ هذه الزِّيَادَةَ من باب الثَّنَاءِ وما بَعْدَ التَّعَوُّذِ مَحَلُّ الْقِرَاءَةِ لَا مَحَلُّ الثَّنَاءِ وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجْهَرَ بِالتَّعَوُّذِ لِأَنَّ الْجَهْرَ بِالتَّعَوُّذِ لم يُنْقَلْ عن النبي صلى الله عليه وسلم وَعَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُمَا قَالَا أَرْبَعٌ يُخْفِيهِنَّ الْإِمَامُ وَذَكَرَ منها التَّعَوُّذَ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ في الْأَذْكَارِ هو الْإِخْفَاءُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرْ رَبَّكَ في نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً‏}‏ فَلَا يُتْرَكُ إلَّا لِضَرُورَةٍ ثُمَّ يُخْفِي بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرَّحِيمِ وقال الشَّافِعِيُّ يَجْهَرُ بِهِ وَالْكَلَامُ في التَّسْمِيَةِ في مَوَاضِعَ أَحَدِهَا أنها من الْقُرْآنِ أَمْ لَا وَالثَّانِي أنها من الْفَاتِحَةِ أَمْ لَا وَالثَّالِثِ أنها من رَأْسِ كل ‏[‏السورة‏]‏ سورة أَمْ لَا وَيَنْبَنِي على كل فصل ما يَتَعَلَّقُ بِهِ من الْأَحْكَامِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَالصَّحِيحُ من مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا أنها من الْقُرْآنِ لِأَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ على أَنَّ ما كان بين الدَّفَّتَيْنِ مَكْتُوبًا بِقَلَمِ الْوَحْيِ فَهُوَ من الْقُرْآنِ وَالتَّسْمِيَةُ كَذَلِكَ وَكَذَا رَوَى الْمُعَلَّى عن مُحَمَّدٍ فقال قلت لِمُحَمَّدٍ التَّسْمِيَةُ آيَةٌ من الْقُرْآنِ أَمْ لَا فقال ما بين الدَّفَّتَيْنِ كُلُّهُ قُرْآنٌ فقلت فما بَالُكَ لَا تَجْهَرُ بها فلم يُجِبْنِي وَكَذَا رَوَى الْجَصَّاصُ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قال التَّسْمِيَةُ آيَةٌ من الْقُرْآنِ نزلت ‏[‏أنزلت‏]‏ لِلْفصل بين السُّورَةِ لِلْبُدَاءَةِ بها تَبَرُّكًا وَلَيْسَتْ بِآيَةٍ من كل وَاحِدَةٍ منها وَإِلَيْهِ أَشَارَ في كتاب الصَّلَاةِ فإنه قال ثُمَّ يَفْتَتِحُ الْقِرَاءَةَ وَيُخْفِي‏:‏ ‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرَّحِيمِ‏}‏‏.‏

وَيَنْبَنِي على هذا أَنَّ فَرْضَ الْقِرَاءَةِ في الصَّلَاةِ يَتَأَدَّى بها عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ إذَا قَرَأَهَا على قَصْدِ الْقِرَاءَةِ دُونَ الثَّنَاءِ عِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا لِأَنَّهَا آيَةٌ من الْقُرْآنِ وَكَذَا رُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن الْمُبَارَكِ أَنَّ من تَرَكَ بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرَّحِيمِ في الْقُرْآنِ فَقَدْ تَرَكَ مِائَةً وثلاثة ‏[‏وثلاث‏]‏ عشر آيَةً وقال بَعْضُهُمْ لَا يَتَأَدَّى لِأَنَّ في كَوْنِهَا آيَةً تَامَّةً احْتِمَالٌ فإنه رُوِيَ عن الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ قال ما أَنْزَلَ اللَّهُ في الْقُرْآنِ بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرَّحِيمِ إلَّا في سُورَةِ النَّمْلِ وَإِنَّهَا في النَّمْلِ وَحْدَهَا لَيْسَتْ بِآيَةٍ تَامَّةٍ وَإِنَّمَا الْآيَةُ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إنَّهُ من سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرَّحِيمِ‏}‏ فَوَقَعَ الشَّكُّ في كَوْنِهَا آيَةً تَامَّةً فَلَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ بِالشَّكِّ وَكَذَا يَحْرُمُ على الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ قِرَاءَتُهَا على قَصْدِ الْقُرْآنِ أَمَّا على قِيَاسِ رِوَايَةِ الْكَرْخِيِّ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ ما دُونَ الْآيَةِ يَحْرُمُ عليهم وَكَذَا على رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ لِاحْتِمَالِ أنها آيَةٌ تَامَّةٌ فَتَحْرُمُ قِرَاءَتُهَا عليهم احْتِيَاطًا والله أعلم‏.‏

وَأَمَّا الثَّانِي وَالثَّالِثُ فَعِنْدَ أَصْحَابِنَا لَيْسَتْ من الْفَاتِحَةِ وَلَا من رَأْسِ كل سُورَةٍ وقال الشَّافِعِيُّ إنَّهَا من الْفَاتِحَةِ قَوْلًا وَاحِدًا وَلَهُ في كَوْنِهَا من رَأْسِ كل سُورَةٍ قَوْلَانِ وقال الْكَرْخِيُّ لَا أَعْرِفُ في هذه الْمَسْأَلَةِ بِعَيْنِهَا عن مُتَقَدِّمِي أَصْحَابِنَا الِاخْتِلَافِ نَصًّا لَكِنَّ أَمْرَهُمْ بِالْإِخْفَاءِ دَلِيلٌ على أنها لَيْسَتْ من الْفَاتِحَةِ لِامْتِنَاعِ أَنْ يَجْهَرَ بِبَعْضِ السُّورَةِ دُونَ الْبَعْضِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رَوَى أبو هُرَيْرَةَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كان يقول الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ سَبْعَ آيَاتٍ إحْدَاهُنَّ بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرَّحِيمِ فَقَدْ عَدَّ التَّسْمِيَةَ آيَةً من الْفَاتِحَةِ دَلَّ أنها من الْفَاتِحَةِ وَلِأَنَّهَا كُتِبَتْ في الْمَصَاحِفِ على رَأْسِ الْفَاتِحَةِ وَكُلُّ سُورَةٍ بِقَلَمِ الْوَحْيِ فَكَانَتْ من الْفَاتِحَةِ وَمِنْ كل سُورَةٍ وَلَنَا قَوْلُ النبي صلى الله عليه وسلم خَبَرًا عن اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ قال قَسَّمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ فإذا قال الْعَبْدُ‏:‏ ‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ يقول اللَّهُ حَمِدَنِي عَبْدِي وإذا قال‏:‏ ‏{‏الرحمن الرَّحِيمِ‏}‏ قال اللَّهُ تَعَالَى مَجَّدَنِي عَبْدِي وإذا قال‏:‏ ‏{‏مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏}‏ قال اللَّهُ تَعَالَى أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي وإذا قال‏:‏ ‏{‏إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ قال اللَّهُ تَعَالَى هذا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِي ما شاء ‏[‏سأل‏]‏ ووجه ‏[‏وجه‏]‏ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ من وَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا أَنَّهُ بَدَأَ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ لَا بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرَّحِيمِ‏}‏ وَلَوْ كانت من الْفَاتِحَةِ لَكَانَتْ الْبُدَاءَةُ بها لَا بِالْحَمْدِ وَالثَّانِي أَنَّهُ نَصَّ على الْمُنَاصَفَةِ وَلَوْ كانت التَّسْمِيَةُ من الْفَاتِحَةِ لم تَتَحَقَّقْ الْمُنَاصَفَةُ بَلْ يَكُونُ ما لِلَّهِ أَكْثَرَ لِأَنَّهُ يَكُونُ في النِّصْفِ الْأَوَّلِ أَرْبَعُ آيَاتٍ وَنِصْفٌ وَلِأَنَّ كَوْنَ الْآيَةِ من سُورَةِ كَذَا وَمِنْ مَوْضِعِ كَذَا لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالدَّلِيلِ الْمُتَوَاتِرِ من النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقد ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ أنها مَكْتُوبَةٌ في الْمَصَاحِفِ وَلَا تَوَاتُرَ على كَوْنِهَا من السُّورَةِ وَلِهَذَا اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فيه فَعَدَّهَا قُرَّاءُ أَهْلِ الْكُوفَةِ من الْفَاتِحَةِ ولم يَعُدَّهَا قُرَّاءُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ منها وَذَا دَلِيلُ عَدَمِ التَّوَاتُرِ وَوُقُوعِ الشَّكِّ وَالشُّبْهَةِ في ذلك فَلَا يَثْبُتُ كَوْنُهَا من السُّورَةِ مع الشَّكِّ وَلِأَنَّ كَوْنَ التَّسْمِيَةِ من كل سُورَةٍ مِمَّا اخْتَصَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ لَا يُوَافِقُهُ في ذلك أَحَدٌ من سَلَفِ الْأُمَّةِ وَكَفَى بِهِ دَلِيلًا على بُطْلَانِ الْمَذْهَبِ وَالدَّلِيلُ عليه ما رُوِيَ عن أبي هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال سُورَةٌ في الْقُرْآنِ ثَلَاثُونَ آيَةً شَفَعَتْ لِصَاحِبِهَا حتى غُفِرَ له تَبَارَكَ الذي بيده الْمُلْكُ وقد اتَّفَقَ الْقُرَّاءُ وَغَيْرُهُمْ على أنها ثَلَاثُونَ آيَةً سِوَى‏:‏ ‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرَّحِيمِ‏}‏ وَلَوْ كانت هِيَ منها لَكَانَتْ إحْدَى وَثَلَاثِينَ آيَةً وهو خِلَافُ قَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلم وَكَذَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ من الْفُقَهَاءِ وَالْقُرَّاءِ أَنَّ سُورَةَ الْكَوْثَرِ ثَلَاثُ آيَاتٍ وَسُورَةَ الْإِخْلَاصِ أَرْبَعُ آيَاتٍ وَلَوْ كانت التَّسْمِيَةُ منها لَكَانَتْ سُورَةُ الْكَوْثَرِ أَرْبَعَ آيَاتٍ وَسُورَةُ الْإِخْلَاصِ خَمْسَ آيَاتٍ وهو خِلَافُ الْإِجْمَاعِ‏.‏

وَأَمَّا ما رُوِيَ من الحديث فَفِيهِ اضْطِرَابٌ فإن بَعْضَهُمْ شَكَّ في ذِكْرِ أبي هُرَيْرَةَ في الْإِسْنَادِ وَلِأَنَّ مَدَارَهُ على عبد الْحَمِيدِ بن جَعْفَرٍ عن نُوحِ بن أبي بِلَالٍ عن سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عن أبي هُرَيْرَةَ ولم يَرْفَعْهُ وَذَكَرَ أبو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ وقال لَقِيتُ نُوحًا فَحَدَّثَنِي بِهِ عن سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عن أبي هُرَيْرَةَ ولم يَرْفَعْهُ وَالِاخْتِلَافُ في السَّنَدِ وَالْوَقْفِ وَالرَّفْعِ يُوجِبُ ضَعْفًا فيه وَلِأَنَّهُ في حَدِّ الْآحَادِ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ وَكَوْنُ التَّسْمِيَةِ من الْفَاتِحَةِ لَا يثبت ‏[‏تثبت‏]‏ إلَّا بِالنَّقْلِ الْمُوجِبِ لِلْعِلْمِ مع أَنَّهُ عَارَضَهُ ما هو أَقْوَى منه وَأَثْبَتُ وَأَشْهَرُ وهو حَدِيثُ الْقِسْمَةِ فَلَا يُقْبَلُ في مُعَارَضَتِهِ أَمَّا قَوْلُهُ إنَّهَا كُتِبَتْ في الْمَصَاحِفِ بِقَلَمِ الْوَحْيِ على رَأْسِ السُّوَرِ فَنَعَمْ لَكِنَّ هذا يَدُلُّ على كَوْنِهَا من الْقُرْآنِ لَا على كَوْنِهَا من السُّوَرِ لِجَوَازِ أنها كُتِبَتْ لِلْفصل بين السُّوَرِ لَا لِأَنَّهَا منها فَلَا يَثْبُتُ كَوْنُهَا من السُّوَرِ بِالِاحْتِمَالِ وَيَنْبَنِي على هذا أَنَّهُ لَا يُجْهَرُ بِالتَّسْمِيَةِ في الصَّلَاةِ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ لَا نَصَّ في الْجَهْرِ بها وَلَيْسَتْ من الْفَاتِحَةِ حتى يَجْهَرَ بها ضَرُورَةَ الْجَهْرِ بِالْفَاتِحَةِ وَعِنْدَهُ يَجْهَرُ بها في الصَّلَوَاتِ التي يَجْهَرُ فيها بِالْقِرَاءَةِ كما يَجْهَرُ بِالْفَاتِحَةِ لِكَوْنِهَا من الْفَاتِحَةِ وَلِأَنَّ التَّسْمِيَةَ مَتَى تَرَدَّدَتْ بين أَنْ تَكُونَ من الْفَاتِحَةِ وَبَيْنَ أَنْ لَا تَكُونَ تَرَدَّدَ الْجَهْرُ بين السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ فلأنها ‏[‏لأنها‏]‏ إذَا لم تَكُنْ منها الْتَحَقَتْ بِالْأَذْكَارِ وَالْجَهْرُ بِالْأَذْكَارِ بِدْعَةٌ وَالْفِعْلُ إذَا تَرَدَّدَ بين السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ تُغَلَّبُ جِهَةُ الْبِدْعَةِ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ عن الْبِدْعَةِ فَرْضٌ وَلَا فَرْضِيَّةَ في تَحْصِيلِ السُّنَّةِ أو الْوَاجِبِ فَكَانَ الْإِخْفَاءُ بها أَوْلَى وَالدَّلِيلُ عليه ما رُوِيَ عن أبي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بن الْفَضْلِ وَعَبْدِ اللَّهِ بن عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ وَغَيْرِهِمْ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُخْفُونَ التَّسْمِيَةَ وَكَثِيرٌ منهم قال الْجَهْرُ بِالتَّسْمِيَةِ أعرابية وَالْمَنْسُوبُ إلَيْهِمْ بَاطِلٌ لِغَلَبَةِ الْجَهْلِ عليهم بِالشَّرَائِعِ وَرُوِيَ عن أَنَسٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَخَلْفَ أبي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما وَكَانُوا لَا يَجْهَرُونَ بِالتَّسْمِيَةِ ثُمَّ عِنْدَنَا إنْ لم يَجْهَرْ بِالتَّسْمِيَةِ لَكِنْ يَأْتِي بها الْإِمَامُ لِافْتِتَاحِ الْقِرَاءَةِ بها تَبَرُّكًا كما يَأْتِي بِالتَّعَوُّذِ في الرَّكْعَةِ الْأَوْلَى بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ وَهَلْ يَأْتِي بها في أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ في الرَّكَعَاتِ الْأُخَرِ عن أبي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ رَوَى الْحَسَنُ عنه أَنَّهُ لَا يَأْتِي بها إلَّا في الرَّكْعَةِ الْأَوْلَى لِأَنَّهَا لَيْسَتْ من الْفَاتِحَةِ عِنْدَنَا وَإِنَّمَا يَفْتَتِحُ الْقِرَاءَةَ بها تَبَرُّكًا وَذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِالرَّكْعَةِ الْأَوْلَى كَالتَّعَوُّذِ‏.‏

وَرَوَى الْمُعَلَّى عن أبي يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَأْتِي بها في كل رَكْعَةٍ وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ إنْ لم تُجْعَلْ من الْفَاتِحَةِ قَطْعًا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَكِنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يُوجِبُ الْعَمَلَ فَصَارَتْ من الْفَاتِحَةِ عَمَلًا فَمَتَى لَزِمَهُ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ يَلْزَمُهُ قِرَاءَةُ التَّسْمِيَةِ احْتِيَاطًا وَأَمَّا عِنْدَ رَأْسِ كل سُورَةٍ في الصَّلَاةِ فَلَا يَأْتِي بِالتَّسْمِيَةِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وقال مُحَمَّدٌ يَأْتِي بها احْتِيَاطًا كما في أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُهُمَا لِأَنَّ احْتِمَالَ كَوْنِهَا من السُّورَةِ مُنْقَطِعٌ بِإِجْمَاعِ السَّلَفِ على ما مَرَّ وفي أنها لَيْسَتْ من الْفَاتِحَةِ لَا إجْمَاعَ فَبَقِيَ الِاحْتِمَالُ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ في حَقِّ الْقِرَاءَةِ احْتِيَاطًا وَلَكِنْ لَا يُعْتَبَرُ هذا الِاحْتِمَالُ في حَقِّ الْجَهْرِ لِأَنَّ الْمُخَافَتَةَ أَصْلٌ في الْأَذْكَارِ وَالْجَهْرَ بها بِدْعَةٌ في الْأَصْلِ فإذا اُحْتُمِلَ أنها ذِكْرٌ في هذه الْحَالَةِ وَاحْتُمِلَ أنها من الْفَاتِحَةِ كانت الْمُخَافَتَةُ أَبْعَدَ عن الْبِدْعَةِ فَكَانَتْ أَحَقَّ وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا كان يُخْفِي بِالْقِرَاءَةِ يَأْتِي بِالتَّسْمِيَةِ بين الْفَاتِحَةِ وَالسُّورَةِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى مُتَابَعَةِ الْمُصْحَفِ وإذا كان يَجْهَرُ بها لَا يَأْتِي لِأَنَّهُ لو فَعَلَ لَأَخْفَى فَيَكُونُ سَكْتَةً له في وَسَطِ الْقِرَاءَةِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ ثُمَّ يَقْرَأُ بِفَاتِحَةِ الْكتاب وَالسُّورَةِ وقد بَيَّنَّا أَصْلَ فَرْضِيَّةِ الْقِرَاءَةِ وَقَدْرَهَا وَمَحَلَّ الْقِرَاءَةِ الْمَفْرُوضَةِ في بَيَانِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَهَهُنَا نَذْكُرُ الْمِقْدَارَ الذي يَخْرُجُ بِهِ عن حَدِّ الْكَرَاهَةِ وَالْمِقْدَارَ الْمُسْتَحَبَّ من الْقِرَاءَةِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْقَدْرُ الذي يَخْرُجُ بِهِ عن حَدِّ الْكَرَاهَةِ هو أَنْ يَقْرَأَ الْفَاتِحَةَ وَسُورَةً قَصِيرَةً قَدْرَ ثَلَاثِ آيَاتٍ أو ثَلَاثَ آيَاتٍ من أَيِّ سُورَةٍ كانت حتى لو قَرَأَ الْفَاتِحَةَ وَحْدَهَا أو قَرَأَ مَعَهَا آيَةً أو آيَتَيْنِ يُكْرَهُ لِمَا رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكتاب وَسُورَةٍ مَعَهَا وَأَقْصُرُ السُّوَرِ ثَلَاثُ آيَاتٍ ولم يُرِدْ بِهِ نَفْيَ الْجَوَازِ بَلْ نَفْيُ الْكَمَالِ وَأَدَاءُ الْمَفْرُوضِ على وَجْهِ النُّقْصَانِ مَكْرُوهٌ وَأَمَّا الْقَدْرُ الْمُسْتَحَبُّ من الْقِرَاءَةِ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فيه عن أبي حَنِيفَةَ ذَكَرَ في الْأَصْلِ وَيَقْرَأُ الْإِمَامُ في الْفَجْرِ في الرَّكْعَتَيْنِ جميعا بِأَرْبَعِينَ آيَةً مع فَاتِحَةِ الْكتاب أَيْ سِوَاهَا وَذَكَرَ في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِأَرْبَعِينَ خَمْسِينَ سِتِّينَ سِوَى فَاتِحَةِ الْكتاب وَرَوَى الْحَسَنُ في الْمُجَرَّدِ عن أبي حَنِيفَةَ ما بين سِتِّينَ إلَى مِائَةٍ‏.‏

وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ لِاخْتِلَافِ الْأَخْبَارِ رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كان يَقْرَأُ في صَلَاةِ الْفَجْرِ سُورَةَ‏:‏ ‏{‏ق‏}‏ حتى أَخَذَ بَعْضُ النِّسْوَانِ منه في صَلَاةِ الْفَجْرِ مِنْهُنَّ أُمُّ هِشَامِ بِنْتُ الحرث ‏[‏الحارث‏]‏ بن النُّعْمَانِ وَعَنْ مورث ‏[‏مورق‏]‏ الْعِجْلِيّ قال تَلَقَّنْتُ سُورَةَ‏:‏ ‏{‏ق‏}‏ وَاقْتَرِبْ من في رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم من كَثْرَةِ قِرَاءَتِهِ لَهُمَا في صَلَاةِ الْفَجْرِ وَعَنْ أبي هُرَيْرَةَ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قَرَأَ في صَلَاةِ الْفَجْرِ وَالْمُرْسَلَاتِ وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ وفي رواية‏:‏ ‏{‏إذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ‏}‏‏:‏ ‏{‏إذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ‏}‏

وَرَوَى ابن مَسْعُودٍ وابن عَبَّاسٍ وأبي ‏[‏وأبو‏]‏ هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يَقْرَأُ في الرَّكْعَةِ الْأُولَى من الْفَجْرِ بألم تَنْزِيلُ السَّجْدَةِ وفي الْأُخْرَى بِهَلْ أتى على الْإِنْسَانِ وَعَنْ أبي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كان يَقْرَأُ في صَلَاةِ الْفَجْرِ ما بين سِتِّينَ آيَةً إلَى مِائَةٍ كَذَا ذَكَرَ وَكِيعٌ وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَرَأَ في الْفَجْرِ سُورَةَ الْبَقَرَةِ فلما فَرَغَ قال له عُمَرُ كَادَتْ الشَّمْسُ تَطْلُعُ يا خَلِيفَةَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقال رضي اللَّهُ عنه لو طَلَعَتْ لم تَجِدْنَا غَافِلِينَ

وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه قَرَأَ سُورَةَ يُوسُفَ فلما انْتَهَى إلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إلَى اللَّهِ‏}‏ خَنَقَتْهُ الْعَبْرَةُ فَرَكَعَ وَوَفَّقَ بعضهم بين الرِّوَايَاتِ فقال الْمَسَاجِدُ ثلاثة ‏[‏ثلاث‏]‏ مَسْجِدٌ له قَوْمٌ زُهَّادٌ وَعُبَّادٌ يَرْغَبُونَ في الْعِبَادَةِ وَمَسْجِدٌ له قَوْمٌ كُسَالَى غَيْرُ رَاغِبِينَ في الْعِبَادَةِ وَمَسْجِدٌ له قَوْمٌ أَوْسَاطٌ فَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَعْمَلَ بِأَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ قِرَاءَةً في الْأَوَّلِ وَبِأَدْنَاهَا قِرَاءَةً في الثَّانِي وَبِأَوْسَطِهَا قِرَاءَةً في الثَّالِثِ عَمَلًا بِالرِّوَايَاتِ كُلِّهَا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُ الرِّوَايَاتِ مَحْمُولًا على هذا وَيَقْرَأُ في الظُّهْرِ بِنَحْوٍ من ذلك أو دُونِهِ ذكره ‏[‏وذكره‏]‏ في الْأَصْلِ لِمَا رُوِيَ عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قال حزرنا ‏[‏حررنا‏]‏ قِرَاءَةَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في صَلَاةِ الظُّهْرِ في الرَّكْعَتَيْنِ بِثَلَاثِينَ آيَةً‏.‏

وَعَنْ عبد اللَّهِ بن أبي قَتَادَةَ عن أبيه أَنَّهُ قال صلى بِنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الظُّهْرَ وَقَرَأَ وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وفي الْعَصْرِ يَقْرَأُ بِعِشْرِينَ آيَةً مع فَاتِحَةِ الْكتاب أَيْ سِوَاهَا ذَكَرَهُ في الْأَصْلِ لِمَا رُوِيَ عن أبي هُرَيْرَةَ وَجَابِرِ بن سَمُرَةَ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يَقْرَأُ في الْعَصْرِ بِسُورَةِ سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى وهل أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ وفي الْعِشَاءِ مِثْلُ ذلك في رِوَايَةِ الْأَصْلِ لِقَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلم لِمُعَاذٍ حين كان قرأ ‏[‏يقرأ‏]‏ الْبَقَرَةَ في صَلَاةِ الْعِشَاءِ‏:‏ «أَيْنَ أنت من الشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى» وَلِأَنَّهَا تُؤَخَّرُ إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ فَلَوْ طَوَّلَ الْقِرَاءَةَ لَتَشَوَّشَ أَمْرُ الصَّلَاةِ على الْقَوْمِ لِغَلَبَةِ النَّوْمِ إيَّاهُمْ وفي الْمَغْرِبِ بِسُورَةٍ قَصِيرَةٍ خَمْسِ آيَاتٍ أو سِتِّ آيَاتٍ مع فَاتِحَةِ الْكتاب أَيْ سِوَاهَا ذَكَرَهُ في الْأَصْلِ لِمَا رُوِيَ عن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ كَتَبَ إلَى أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنْ اقْرَأْ في الْفَجْرِ وَالظُّهْرِ بِطُوَالِ الْمُفصل وفي الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ بِأَوْسَاطِ الْمُفصل وفي الْمَغْرِبِ بِقِصَارِ الْمُفصل وَلِأَنَّا أُمِرْنَا بِتَعْجِيلِ الْمَغْرِبِ وفي تَطْوِيلِ الْقِرَاءَةِ تَأْخِيرُهَا وَذَكَرَ في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَيَقْرَأُ في الظُّهْرِ في الْأُولَيَيْنِ مِثْلَ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ سَوَاءٌ وَالْمَغْرِبُ دُونَ ذلك وَرَوَى الْحَسَنُ في الْمُجَرَّدِ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَقْرَأُ في الظُّهْرِ بِعَبَسَ أو إذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ في الْأُولَى وفي الثَّانِيَةِ بِلَا أُقْسِمُ أو وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وفي الْعَصْرِ يَقْرَأُ في الْأُولَى وَالضُّحَى وَالْعَادِيَاتِ وفي الثَّانِيَةِ بِأَلْهَاكُمْ أو وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ وفي الْمَغْرِبِ في الْأُولَى مِثْلَ ما في الْعَصْرِ وفي الْعِشَاءِ في الْأُولَيَيْنِ مِثْلَ ما في الظُّهْرِ فَقَدْ جَعَلَهَا في الْأَصْلِ كَالْعَصْرِ وفي الْمُجَرَّدِ كَالظُّهْرِ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ‏.‏

وقال وَقَدْرُ الْقِرَاءَةِ في الْفَجْرِ لِلْمُقِيمِ قَدْرُ ثَلَاثِينَ آيَةً إلَى سِتِّينَ آيَةً سِوَى فاتحة ‏[‏الفاتحة‏]‏ الكتاب في الرَّكْعَةِ الْأُولَى وفي الثَّانِيَةِ ما بين عِشْرِينَ إلَى ثَلَاثِينَ وفي الظُّهْرِ في الرَّكْعَتَيْنِ جميعا سِوَى فَاتِحَةِ الْكتاب مِثْلُ الْقِرَاءَةِ في الرَّكْعَةِ الْأُولَى من الْفَجْرِ وفي الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ يَقْرَأُ في كل رَكْعَةٍ قَدْرَ عِشْرِينَ آيَةً سِوَى فَاتِحَةِ الْكتاب وفي الْمَغْرِبِ في الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكتاب وَسُورَةٍ من قِصَارِ الْمُفصل قال وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَحَبُّ الرِّوَايَاتِ التي رَوَاهَا الْمُعَلَّى عن أبي يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُ مَقَادِيرِ الْقِرَاءَةِ في الصَّلَوَاتِ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الناس فَوَقْتُ الْفَجْرِ وَقْتُ نَوْمٍ وَغَفْلَةٍ فَتُطَوَّلُ فيه الْقِرَاءَةُ كيلا تَفُوتَهُمْ الْجَمَاعَةُ وَكَذَا وَقْتُ الظُّهْرِ في الصَّيْفِ لِأَنَّهُمْ يَقِيلُونَ وَوَقْتُ الْعَصْرِ وَقْتُ رُجُوعِ الناس إلَى مَنَازِلِهِمْ فَيَنْقُصُ عَمَّا في الظُّهْرِ وَالْفَجْرِ وَكَذَا وَقْتُ الْعِشَاءِ وَقْتُ عَزْمِهِمْ على النَّوْمِ فَكَانَ مِثْلَ وَقْتِ الْعَصْرِ وَوَقْتُ الْمَغْرِبِ وَقْتُ عَزْمِهِمْ على الْأَكْلِ فَقُصِّرَ فيها الْقِرَاءَةُ لِقِلَّةِ صَبْرِهِمْ عن الْأَكْلِ خُصُوصًا لِلصَّائِمِينَ وَهَذَا كُلُّهُ ليس بِتَقْدِيرٍ لَازِمٍ بَلْ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْوَقْتِ وَالزَّمَانِ وَحَالِ الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ‏.‏

والجملة فيه أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْرَأَ مِقْدَارَ ما يَخِفُّ على الْقَوْمِ وَلَا يَثْقُلُ عليهم بَعْدَ أَنْ يَكُونَ على التَّمَامِ لِمَا رُوِيَ عن عُثْمَانَ بن أبي الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ أَنَّهُ قال آخِرُ ما عَهِدَ إلَيَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أُصَلِّيَ بِالْقَوْمِ صَلَاةَ أَضْعَفِهِمْ وَرُوِيَ عنه أَنَّهُ قال من أَمَّ قَوْمًا فَلْيُصَلِّ بِهِمْ صَلَاةَ أَضْعَفِهِمْ فإن فِيهِمْ الصَّغِيرَ وَالْكَبِيرَ وَذَا الْحَاجَةِ وَرُوِيَ أَنَّ قَوْمَ مُعَاذٍ لَمَّا شَكَوْا إلَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَطْوِيلَ الْقِرَاءَةِ دَعَاهُ فقال أَفَتَّانٌ أنت يا مُعَاذُ قَالَهَا ثَلَاثًا أَيْنَ أنت من وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا قال الرَّاوِي فما رأيت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في مواعظه ‏[‏موعظة‏]‏ أَشَدَّ منه في تِلْكَ الْمَوْعِظَةِ وَعَنْ أَنَسٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال ما صَلَّيْتُ خَلْفَ أَحَدٍ أَتَمَّ وَأَخَفَّ مِمَّا صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرُوِيَ أَنَّهُ قَرَأَ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ في صَلَاةِ الْفَجْرِ يَوْمًا فلما فَرَغَ قالوا أَوْجَزْتَ فقال سمعت بُكَاءَ صَبِيٍّ فَخَشِيتُ على أُمِّهِ أَنْ تُفْتَتَنَ دَلَّ أَنَّ الْإِمَامَ يَنْبَغِي له أَنْ يُرَاعِيَ حَالَ قَوْمِهِ وَلِأَنَّ مُرَاعَاةَ حَالِ الْقَوْمِ سَبَبٌ لِتَكْثِيرِ الْجَمَاعَةِ فَكَانَ ذلك مَنْدُوبًا إلَيْهِ هذا الذي ذَكَرْنَا في الْمُقِيمِ فَأَمَّا الْمُسَافِرُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقْرَأَ مِقْدَارَ ما يَخِفُّ عليه وَعَلَى الْقَوْمِ بِأَنْ يَقْرَأَ الْفَاتِحَةَ وَسُورَةً من قِصَارِ الْمُفصل لِمَا رُوِيَ عن عُقْبَةَ بن عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ قال صلى بِنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في السَّفَرِ صَلَاةَ الْفَجْرِ فَقَرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكتاب وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ وَلِأَنَّ السَّفَرَ مَكَانُ الْمَشَقَّةِ فَلَوْ قَرَأَ فيه مِثْلَ ما يَقْرَأُ في الْحَضَرِ لَوَقَعُوا في الْحَرَجِ وَانْقَطَعَ بِهِمْ السَّيْرُ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَلِهَذَا أُثِرَ في قَصْرِ الصَّلَاةِ فَلَأَنْ يُؤْثَرَ في قَصْرِ الْقِرَاءَةِ أَوْلَى‏.‏

وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُفَضِّلَ الرَّكْعَةَ الْأَوْلَى في الْقِرَاءَةِ على الثَّانِيَةِ في الْفَجْرِ بِالْإِجْمَاعِ وَأَمَّا في سَائِرِ الصَّلَوَاتِ فَيُسَوِّي بَيْنَهُمَا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وقال مُحَمَّدٌ يُفَضِّلُ في الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا وَكَذَا هذا الِاخْتِلَافُ في الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَاحْتَجَّ مُحَمَّدٌ بِمَا رَوَى أبو قَتَادَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يُطِيلُ الرَّكْعَةَ الْأَوْلَى على غَيْرِهَا في الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا وَلِأَنَّ التَّفْضِيلَ تَسْبِيبٌ إلَى إدْرَاكِ الْجَمَاعَةِ فَيُفَضِّلُ كما في صَلَاةِ الْفَجْرِ وَلَهُمَا ما رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كان يَقْرَأُ في الْجُمُعَةِ في الركعة الأولى سُورَةَ الْجُمُعَةِ وفي الثَّانِيَةِ سُورَةَ الْمُنَافِقِينَ وَهُمَا في الْآيِ مُسْتَوِيَتَانِ وكان يَقْرَأُ في الْأَوْلَى سُورَةَ الْأَعْلَى وفي الثَّانِيَةِ الْغَاشِيَةَ وَهُمَا مُسْتَوِيَتَانِ وَلِأَنَّهُمَا مُسْتَوِيَتَانِ في اسْتِحْقَاقِ الْقِرَاءَةِ فَلَا تُفَضَّلُ إحْدَاهُمَا على الْأُخْرَى إلَّا لِدَاعٍ وقد وُجِدَ الدَّاعِي في الْفَجْرِ وهو الْحَاجَةُ إلَى الْإِعَانَةِ على إدْرَاكِ الْجَمَاعَةِ لِكَوْنِ الْوَقْتِ وَقْتَ نَوْمٍ وَغَفْلَةٍ فَكَانَ التَّفْضِيلُ من باب النَّظَرِ وَلَا دَاعِيَ له في سَائِرِ الصَّلَوَاتِ لِكَوْنِ الْوَقْتِ وَقْتَ يَقَظَةٍ فَالتَّخَلُّفُ عن الْجَمَاعَةِ يَكُونُ تَقْصِيرًا وَالْمُقَصِّرُ لَا يَسْتَحِقُّ النَّظَرَ وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَنَقُولُ كان يُطِيلُ الرَّكْعَةَ الْأَوْلَى بِالثَّنَاءِ في أَوَّلِ الصَّلَاةِ لَا بِالْقِرَاءَةِ والمستحب أَنْ يَقْرَأَ في كل رَكْعَةٍ بِفَاتِحَةِ الْكتاب وَسُورَةٍ تَامَّةٍ كَذَا وَرَدَ في الحديث وَلَوْ قَرَأَ سُورَةً وَاحِدَةً في الرَّكْعَتَيْنِ قال بَعْضُ الْمَشَايِخِ يُكْرَهُ لِأَنَّهُ خِلَافُ ما جاء بِهِ الْأَثَرُ وقال عَامَّتُهُمْ لَا يُكْرَهُ وَكَذَا رَوَى عِيسَى بن أَبَانَ عن أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ وَرَوَى في ذلك حَدِيثًا بِإِسْنَادِهِ عن ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَرَأَ في الْفَجْرِ سُورَةَ بَنِي إسْرَائِيلَ إلَى قَوْلِهِ تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ اُدْعُوَا اللَّهَ أو اُدْعُوَا الرَّحْمَنَ‏}‏ في الرَّكْعَةِ الْأُولَى ثُمَّ قام إلَى الثَّانِيَةِ وَخَتَمَ السُّورَةَ وَلَوْ جَمَعَ بين السُّورَتَيْنِ في رَكْعَةٍ لَا يُكْرَهُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أَوْتَرَ بِسَبْعِ سُوَرٍ من الْمُفصل وَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يَجْمَعَ وَلَوْ قَرَأَ من وَسَطِ السُّورَةِ أو آخِرِهَا جاز كَذَا رَوَى الْفَقِيهُ أبو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَكِنَّ الْمُسْتَحَبَّ ما ذَكَرْنَا فإذا فَرَغَ من الْفَاتِحَةِ يقول آمِينَ إمَامًا كان أو مُقْتَدِيًا أو مُنْفَرِدًا وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وقال بَعْضُ الناس لَا يُؤْتَى بِالتَّأْمِينِ أَصْلًا وقال مَالِكٌ يَأْتِي بِهِ الْمُقْتَدِي دُونَ الْإِمَامِ وَالْمُنْفَرِدُ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِمَا رُوِيَ عن أبي هُرَيْرَةَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال إذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا فإن الْمَلَائِكَةَ تُؤَمِّنُ فَمَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ من ذَنْبِهِ وما تَأَخَّرَ حَثَّنَا على التَّأْمِينِ من غَيْرِ فصل ثُمَّ السُّنَّةُ فيه الْمُخَافَتَةُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الْجَهْرُ في صَلَاةِ الْجَهْرِ وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَيْنَا من الحديث وَوَجْهُ التَّعَلُّقِ بِهِ أَنَّهُ عَلَّقَ تَأْمِينَ الْقَوْمِ بِتَأْمِينِ الْإِمَامِ وَلَوْ لم يَكُنْ مَسْمُوعًا لم يَكُنْ مَعْلُومًا فَلَا مَعْنًى لِلتَّعَلُّقِ وَعَنْ وَائِلِ بن حُجْرٍ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال آمِينَ وَمَدَّ بها صَوْتَهُ‏.‏

وَلَنَا ما رُوِيَ عن وَائِلِ بن حُجْرٍ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أَخْفَى بالتأمين ‏[‏التأمين‏]‏ وهو قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَرُوِيَ عنه أَنَّهُ قال إذَا قال الْإِمَامُ وَلَا الضَّالِّينَ فَقُولُوا آمِينَ فإن الْإِمَامَ يَقُولُهَا وَلَوْ كان مَسْمُوعًا لَمَا اُحْتِيجَ إلَى قَوْلِهِ فإن الْإِمَامَ يَقُولُهَا وَلِأَنَّهُ من باب الدُّعَاءِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ اللَّهُمَّ أَجِبْ أو لِيَكُنْ كَذَلِكَ قال اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قد أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا‏}‏ وَمُوسَى كان يَدْعُو وَهَارُونُ كان يُؤَمِّنُ وَالسُّنَّةُ في الدُّعَاءِ الْإِخْفَاءُ وَحَدِيثُ وَائِلٍ طَعَنَ فيه النَّخَعِيّ وقال أَشَهِدَ وَائِلٌ وَغَابَ عبد اللَّهِ على أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ جَهَرَ مَرَّةً لِلتَّعْلِيمِ وَلَا حُجَّةَ له في الحديث الْآخَرِ لِأَنَّ مَكَانَهُ مَعْلُومٌ وهو ما بَعْدَ الْفَرَاغِ من الْفَاتِحَةِ فَكَانَ التَّعْلِيقُ صَحِيحًا وإذا فَرَغَ من الْقِرَاءَةِ يَنْحَطُّ لِلرُّكُوعِ وَيُكَبِّرُ مع الِانْحِطَاطِ وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ أَمَّا التَّكْبِيرُ عِنْدَ الِانْتِقَالِ من الْقِيَامِ إلَى الرُّكُوعِ فَسُنَّةٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وقال بَعْضُهُمْ لَا يُكَبِّرُ حَالَ ما رَكَعَ وَإِنَّمَا يُكَبِّرُ حَالَ ما يَرْفَعُ رَأْسَهُ من الرُّكُوعِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِمَا رُوِيَ عن عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُود وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يُكَبِّرُ عِنْدَ كل خَفْضٍ وَرَفْعٍ وَرُوِيَ أَنَّهُ كان يُكَبِّرُ وهو يَهْوِي وَالْوَاوُ لِلْحَالِ وَلِأَنَّ الذِّكْرَ سُنَّةٌ في كل رُكْنٍ لِيَكُونَ مُعَظِّمًا لِلَّهِ تَعَالَى فِيمَا هو من أَرْكَانِ الصَّلَاةِ بِالذِّكْرِ كما هو مُعَظِّمٌ له بِالْفِعْلِ فَيَزْدَادُ مَعْنَى التَّعْظِيمِ وَالِانْتِقَالِ من رُكْنٍ إلَى رُكْنٍ بِمَعْنَى الرُّكْنِ لِكَوْنِهِ وَسِيلَةً إلَيْهِ فَكَانَ الذِّكْرُ فيه مَسْنُونًا وَأَمَّا رَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ التَّكْبِيرِ فَلَيْسَ بِسُنَّةٍ في الْفَرَائِضِ عِنْدَنَا إلَّا في تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ وقال الشَّافِعِيُّ يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَعِنْدَ رَفْعِ الرَّأْسِ من الرُّكُوعِ وقال بَعْضُهُمْ يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ كل تَكْبِيرَةٍ وَأَجْمَعُوا على أَنَّهُ يَرْفَعُ الْأَيْدِي في تَكْبِيرِ الْقُنُوتِ وَتَكْبِيرَاتِ الْعِيدَيْنِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ عن جَمَاعَةٍ من الصَّحَابَةِ مِثْلَ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَوَائِلِ بن حُجْرٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَعِنْدَ رَفْعِ الرَّأْسِ من الرُّكُوعِ وَلَنَا ما رَوَى أبو حَنِيفَةَ بِإِسْنَادِهِ عن عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ ثُمَّ لَا يَعُودُ بَعْدَ ذلك وَعَنْ عَلْقَمَةَ أَنَّهُ قال صَلَّيْت خَلْفَ عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ فلم يَرْفَعْ يَدَيْهِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَعِنْدَ رَفْعِ الرَّأْسِ من الرُّكُوعِ فقلت له لِمَ لَا تَرْفَعُ يَدَيْكَ فقال صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَخَلْفَ أبي بَكْرٍ وَعُمَرَ فلم يَرْفَعُوا أَيْدِيَهُمْ إلَّا في التَّكْبِيرَةِ التي تُفْتَتَحُ بها الصَّلَاةُ وَرُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ قال إنَّ الْعَشَرَةَ الَّذِينَ شَهِدَ لهم رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْجَنَّةِ ما كَانُوا يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ إلَّا لِافْتِتَاحِ الصَّلَاةِ وَخِلَاف هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةِ قَبِيحٌ وفي الْمَشَاهِيرِ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا في سَبْعِ مَوَاطِنَ عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ وفي الْعِيدَيْنِ وَالْقُنُوتِ في الْوَتْرِ وَعِنْدَ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ وَعَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَبِعَرَفَاتٍ وَبِجَمْعٍ وَعِنْدَ الْمَقَامَيْنِ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ وَرُوِيَ أَنَّهُ رَأَى بَعْضَ أَصْحَابِهِ يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَعِنْدَ رَفْعِ الرَّأْسِ من الرُّكُوعِ فقال مالي أَرَاكُمْ رَافِعِي أَيْدِيَكُمْ كَأَنَّهَا أَذْنَابُ خَيْلِ شُمُسٍ اُسْكُنُوا في الصَّلَاةِ وفي رواية‏:‏ قَارُّوا في الصَّلَاةِ وَلِأَنَّ هذه تَكْبِيرَةٌ يُؤْتَى بها في حَالَةِ الِانْتِقَالِ فَلَا يُسَنُّ رَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَهَا كَتَكْبِيرَةِ السُّجُودِ وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ من رَفْعِ الْيَدَيْنِ إعْلَامُ الْأَصَمِّ الذي خَلْفَهُ وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إلَى الْإِعْلَامِ بِالرَّفْعِ في التَّكْبِيرَاتِ التي يُؤْتَى بها في حَالَةِ الِاسْتِوَاءِ كَتَكْبِيرَاتِ الزَّوَائِدِ في الْعِيدَيْنِ وتكبير ‏[‏وتكبيرات‏]‏ الْقُنُوتِ فَأَمَّا فِيمَا يُؤْتَى بِهِ في حَالَةِ الِانْتِقَالِ فَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ لِأَنَّ الْأَصَمَّ يَرَى الِانْتِقَالَ فَلَا حَاجَةَ إلَى رَفْعِ الْيَدَيْنِ‏.‏

وما رَوَاهُ مَنْسُوخٌ فإنه رُوِيَ أَنَّهُ كان يَرْفَعُ ثُمَّ تَرَكَ ذلك بِدَلِيلِ ما روي عن ابن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال رَفَعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَفَعْنَا وَتَرَكَ فَتَرَكْنَا دَلَّ عليه أَنَّ مَدَارَ حديث الرَّفْعِ على عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَعَاصِمِ بن كُلَيْبٍ عن أبيه قال صَلَّيْتُ خَلْفَ عَلِيٍّ سَنَتَيْنِ فَكَانَ لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ إلَّا في تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ وَمُجَاهِدٌ قال صَلَّيْت خَلْفَ عبد اللَّهِ بن عُمَرَ سَنَتَيْنِ فَكَانَ لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ إلَّا في تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ فَدَلَّ عَمَلُهُمَا على خِلَافِ ما رَوَيَا على مَعْرِفَتِهِمَا انْتِسَاخَ ذلك على أَنَّ تَرْكَ الرَّفْعِ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَخْبَارِ أَوْلَى لِأَنَّهُ لو ثَبَتَ الرَّفْعُ لَا تَرْبُو دَرَجَتُهُ على السُّنَّةِ وَلَوْ لم يَثْبُتْ كان بِدْعَةً وَتَرْكُ الْبِدْعَةِ أَوْلَى من إتْيَانِ السُّنَّةِ وَلِأَنَّ تَرْكَ الرَّفْعِ مع ثُبُوتِهِ لَا يُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ وَالتَّحْصِيلُ مع عَدَمِ الثُّبُوتِ يُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ اشْتِغَالٌ بِعَمَلٍ ليس من أَعْمَالِ الصَّلَاةِ بِالْيَدَيْنِ جميعا وهو تَفْسِيرُ الْعَمَلِ الْكَثِيرِ وقد بَيَّنَّا الْمِقْدَارَ الْمَفْرُوضَ من الرُّكُوعِ في مَوْضِعِهِ وَأَمَّا سُنَنُ الرُّكُوعِ فَمِنْهَا أَنْ يَبْسُطَ ظَهْرَهُ لِمَا رُوِيَ عن أبي هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذَا رَكَعَ بَسَطَ ظَهْرَهُ حتى لو وُضِعَ على ظَهْرِهِ قَدَحٌ من مَاءٍ لَاسْتَقَرَّ وَمِنْهَا أَنْ لَا يُنَكِّسَ رَأْسَهُ وَلَا يَرْفَعُهُ أَيْ يُسَوِّيَ رَأْسَهُ بِعَجُزِهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذَا رَكَعَ لم يَرْفَعْ رَأْسَهُ ولم يُنَكِّسْهُ وَرُوِيَ أَنَّهُ نهى أَنْ يذبح ‏[‏يدبح‏]‏ الْمُصَلِّي تذبيح ‏[‏تدبيح‏]‏ الْحِمَارِ وهو أَنْ يطأطىء ‏[‏يطأطئ‏]‏ رَأْسَهُ إذَا شَمَّ الْبَوْلَ أو أَرَادَ أَنْ يَتَمَرَّغَ وَلِأَنَّ بَسْطَ الظَّهْرِ سُنَّةٌ وأنه لَا يَحْصُلُ مع الرَّفْعِ وَالتَّنْكِيسِ وَمِنْهَا أَنْ يَضَعَ يَدَيْهِ على رُكْبَتَيْهِ وهو قَوْلُ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ رضوان الله عليهم وقال ابن مَسْعُودٍ السُّنَّةُ هِيَ التَّطْبِيقُ وهو أَنْ يَجْمَعَ بين كَفَّيْهِ وَيُرْسِلَهُمَا بين فَخِذَيْهِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِمَا رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال لِأَنَسٍ رضي اللَّهُ عنه إذَا رَكَعْتَ فَضَعْ كَفَّيْكَ على رُكْبَتَيْكَ وَفَرِّجْ بين أَصَابِعِكَ وفي رواية‏:‏ وَفَرِّقْ بين أَصَابِعِكَ‏.‏

وَرُوِيَ عن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال سنت ‏[‏ثنيت‏]‏ لَكُمْ الرُّكَبُ فَخُذُوا بِالرُّكَبِ وَالتَّطْبِيقُ مَنْسُوخٌ لِمَا رُوِيَ أَنَّ ‏(‏سَعِيدَ بن الْعَاصِ‏)‏ رَأَى ابْنَهُ يُطَبِّقُ في الصَّلَاةِ فَنَهَاهُ عن ذلك فقال رأيت ابْنَ مَسْعُودٍ يُطَبِّقُ في الصَّلَاةِ فقال رُحِمَ الله ابن مَسْعُودٍ كنا نُطَبِّقُ في الِابْتِدَاءِ ثُمَّ نُهِينَا عنه فَيُحْتَمَلُ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كان يَفْعَلُهُ لِأَنَّ النَّسْخَ لم يَبْلُغْهُ وَمِنْهَا أَنَّهُ يُفَرِّقُ بين أَصَابِعِهِ لِمَا رَوَيْنَا وَلِأَنَّ السُّنَّةَ هِيَ الْوَضْعُ مع الْأَخْذِ لِحَدِيثِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه وَالتَّفْرِيقُ أَمْكَنُ من الْأَخْذِ وَمِنْهَا أَنْ يَقُولَ في رُكُوعِهِ سبحانه ‏[‏سبحان‏]‏ رَبِّي الْعَظِيمِ ثَلَاثًا وَهَذَا قَوْلُ الْعَامَّةِ وقال مَالِكٌ في قَوْلِ من تَرَكَ التَّسْبِيحَ في الرُّكُوعِ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ وفي رواية‏:‏ عنه أَنَّهُ قال لَا نَجِدُ في الرُّكُوعِ دُعَاءً مُؤَقَّتًا وَرُوِيَ عن أبي مُطِيعٍ الْبَلْخِيّ أَنَّهُ قال من نَقَصَ من الثَّلَاثِ في تَسْبِيحَاتِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لم تُجْزِهِ صَلَاتُهُ وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَنَّ الْأَمْرَ تَعَلَّقَ بِفِعْلِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ مُطْلَقًا عن شَرْطِ التَّسْبِيحِ فَلَا يَجُوزُ نَسْخُ الْكتاب بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَقُلْنَا بِالْجَوَازِ مع كَوْنِ التَّسْبِيحِ سُنَّةً عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَدَلِيلُ كَوْنِهِ سُنَّةً ما رُوِيَ عن عُقْبَةَ بن عَامِرٍ أَنَّهُ قال لَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ‏}‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم اجْعَلُوهَا في رُكُوعِكُمْ وَلَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى‏}‏ قال اجْعَلُوهَا في سُجُودِكُمْ ثُمَّ السُّنَّةُ فيه أَنْ يقوله ‏[‏يقول‏]‏ ثَلَاثًا وَذَلِكَ أَدْنَاهُ وقال الشَّافِعِيُّ يقول مَرَّةً وَاحِدَةً لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْفِعْلِ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ فَيَصِيرُ مُمْتَثِلًا بِتَحْصِيلِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَلَنَا ما رُوِيَ عن ابْنِ مَسْعُودٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال إذَا صلى أحدكم فَلْيَقُلْ في رُكُوعِهِ سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ ثَلَاثًا وفي سُجُودِهِ سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى ثَلَاثًا وَذَلِكَ أَدْنَاهُ وَالْأَمْرُ بِالْفِعْلِ يَحْتَمِلُ التَّكْرَارَ فَيُحْمَلُ عليه عِنْدَ قِيَامِ الدَّلِيلِ وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا سَبَّحَ مَرَّةً وَاحِدَةً يُكْرَهُ لِأَنَّ الحديث جَعَلَ الثَّلَاثَ أَدْنَى التَّمَامِ فما دُونَهُ يَكُونُ نَاقِصًا فَيُكْرَهُ وَلَوْ زَادَ على الثَّلَاثِ فَهُوَ أَفْضَلُ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَذَلِكَ أَدْنَاهُ دَلِيلُ اسْتِحْباب الزِّيَادَةِ وَهَذَا إذَا كان مُنْفَرِدًا فَإِنْ كان مُقْتَدِيًا يُسَبِّحُ إلَى أَنْ يَرْفَعَ الْإِمَامُ رَأْسَهُ وَأَمَّا إذَا كان إمَامًا فَيَنْبَغِي أَنْ يُسَبِّحَ ثَلَاثًا وَلَا يُطَوِّلُ على الْقَوْمِ لِمَا رَوَيْنَا من الْأَحَادِيثِ وَلِأَنَّ التَّطْوِيلَ سَبَبُ التَّنْفِيرِ وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ وقال بَعْضُهُمْ يَقُولُهَا أَرْبَعًا حتى يَتَمَكَّنَ الْقَوْمُ من أَنْ يَقُولُوهَا ثَلَاثًا وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ يَقُولُهَا خَمْسًا‏.‏

وقال الشَّافِعِيُّ يَزِيدُ في الرُّكُوعِ على التَّسْبِيحَةِ الْوَاحِدَةِ اللَّهُمَّ لك رَكَعْتُ وَلَكَ خَشَعْتُ وَلَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ وَيَقُولُ في السُّجُودِ سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ كَذَا رُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه وهو عِنْدَنَا مَحْمُولٌ على النَّوَافِلِ ثُمَّ الْإِمَامُ إذَا كان في الرُّكُوعِ فَسَمِعَ خَفْقَ النَّعْلِ مِمَّنْ دخل الْمَسْجِدَ هل يَنْتَظِرُهُ أَمْ لَا قال أبو يُوسُفَ سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ وَابْنَ أبي لَيْلَى عن ذلك فكرها ‏[‏فكرهاه‏]‏ وقال أبو حَنِيفَةَ أَخْشَى عليه أَمْرًا عَظِيمًا يَعْنِي الشِّرْكَ وَرَوَى هِشَامٌ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ كَرِهَ ذلك وَعَنْ أبي مُطِيعٍ أَنَّهُ كان لَا يَرَى به بَأْسًا وقال الشَّافِعِيُّ لَا بَأْسَ بِهِ مِقْدَارَ تَسْبِيحَةٍ أو تَسْبِيحَتَيْنِ وقال بَعْضُهُمْ يُطَوِّلُ التَّسْبِيحَاتِ وَلَا يَزِيدُ على الْعَدَدِ وقال أبو الْقَاسِمِ الصَّفَّارُ إنْ كان الرَّجُلُ غَنِيًّا لَا يَجُوزُ له الِانْتِظَارُ وَإِنْ كان فَقِيرًا يَجُوزُ وقال الْفَقِيهُ أبو اللَّيْثِ إنْ كان الْإِمَامُ قد عَرَفَ الْجَائِيَ فإنه لَا يَنْتَظِرُهُ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْمَيْلَ وَإِنْ لم يَعْرِفْهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّ في ذلك إعَانَةً على الطَّاعَةِ والله أعلم‏.‏

وإذا اطْمَأَنَّ رَاكِعًا رَفَعَ رَأْسَهُ وقال سمع اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ولم يَرْفَعْ يَدَيْهِ فَيُحْتَاجُ فيه إلَى بَيَانِ الْمَفْرُوضِ وَالْمَسْنُونِ أَمَّا الْمَفْرُوضُ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ وهو الِانْتِقَالُ من الرُّكُوعِ إلَى السُّجُودِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى الرُّكْنِ وأما رَفْعُ الرَّأْسِ وَعَوْدُهُ إلَى الْقِيَامِ فَهُوَ تَعْدِيلُ الِانْتِقَالِ وأنه ليس بِفَرْضٍ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ بَلْ هو وَاجِبٌ أو سُنَّةٌ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ فَرْضٌ على ما مَرَّ وَأَمَّا سُنَنُ هذا الِانْتِقَالِ فَمِنْهَا أَنْ يَأْتِيَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الِانْتِقَالَ فَرْضٌ فَكَانَ الذِّكْرُ فيه مَسْنُونًا وَاخْتَلَفُوا في مَاهِيَّةِ الذِّكْرِ وَالْجُمْلَةُ فيه أَنَّ الْمُصَلِّيَ لَا يَخْلُو إمَّا إن كان إمَامًا أو مُقْتَدِيًا أو مُنْفَرِدًا فَإِنْ كان إمَامًا يقول سمع اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ وَلَا يقول رَبَّنَا لك الْحَمْدُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ يَجْمَعُ بين التَّسْمِيعِ وَالتَّحْمِيدِ وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ مِثْلُ قَوْلِهِمَا احْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أنها قالت كان رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ من الرُّكُوعِ قال سمع اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا لك الْحَمْدُ وَغَالِبُ أَحْوَالِهِ كان هو الْإِمَامُ وَكَذَا رَوَى أبو هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عنه وَلِأَنَّ الْإِمَامَ منفرد في حق نفسه وكذا روى أبو هريرة رضي الله عنه ولأن الإمام مُنْفَرِدٌ في حَقِّ نَفْسِهِ وَالْمُنْفَرِدُ يَجْمَعُ بين هَذَيْنِ الذِّكْرَيْنِ فَكَذَا الْإِمَامُ وَلِأَنَّ التَّسْمِيعَ تَحْرِيضٌ على التَّحْمِيدِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَأْمُرَ غَيْرَهُ بِالْبِرِّ وَيَنْسَى نَفْسَهُ كيلا يَدْخُلَ تَحْتَ قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَتَأْمُرُونَ الناس بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكتاب‏}‏‏.‏

وَاحْتَجَّ أبو حَنِيفَةَ بِمَا رَوَى أبو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وأبو هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ إمَامًا لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلَا تَخْتَلِفُوا عليه فإذا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا وإذا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا وإذا قال وَلَا الضَّالِّينَ فَقُولُوا آمِينَ وإذا رَكَعَ فَارْكَعُوا وإذا قال سمع اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا رَبَّنَا لك الْحَمْدُ قُسِّمَ التَّحْمِيدُ وَالتَّسْمِيعُ بين الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ فَجُعِلَ التَّحْمِيدُ لهم وَالتَّسْمِيعُ له وفي الْجَمْعِ بين الذِّكْرَيْنِ من أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ إبْطَالُ هذه الْقِسْمَةِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وكان يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ لِلْإِمَامِ التَّأْمِينُ أَيْضًا بِقَضِيَّةِ هذا الحديث وَإِنَّمَا عَرَفْنَا ذلك لِمَا رَوَيْنَا من الحديث وَلِأَنَّ إتْيَانَ التَّحْمِيدِ من الْإِمَامِ يُؤَدِّي إلَى جَعْلِ التَّابِعِ مَتْبُوعًا وَالْمَتْبُوعِ تَابِعًا وَهَذَا لَا يَجُوزُ بَيَانُ ذلك أَنَّ الذِّكْرَ يُقَارِنُ الِانْتِقَالَ فإذا قال الْإِمَامُ مُقَارِنًا لِلِانْتِقَالِ سمع اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ يقول الْمُقْتَدِي مُقَارِنًا له رَبَّنَا لك الْحَمْدُ فَلَوْ قال الْإِمَامُ بَعْدَ ذلك لَوَقَعَ قَوْلُهُ بَعْدَ قَوْلِ الْمُقْتَدِي فَيَنْقَلِبُ الْمَتْبُوعُ تَابِعًا وَالتَّابِعُ مَتْبُوعًا وَمُرَاعَاةُ التَّبَعِيَّةِ في جَمِيعِ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ وَاجِبَةٌ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَحَدِيثُ عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها مَحْمُولٌ على حَالَةِ الِانْفِرَادِ في صَلَاةِ اللَّيْلِ وَقَوْلُهُمْ الْإِمَامُ مُنْفَرِدٌ في حَقِّ نَفْسِهِ مُسَلَّمٌ لَكِنَّ الْمُنْفَرِدَ لَا يَجْمَعُ بين الذِّكْرَيْنِ على إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عن أبي حَنِيفَةَ وَلِأَنَّ ما ذَكَرْنَا من مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ لَا يَتَحَقَّقُ في الْمُنْفَرِدِ فَبَطَلَ الِاسْتِدْلَال وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إنَّهُ يَأْمُرُ غَيْرَهُ بِالْبِرِّ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَنْسَى نَفْسَهُ فَنَقُولُ إذَا أتى بِالتَّسْمِيعِ فَقَدْ صَارَ دَالًّا على التَّحْمِيدِ وَالدَّالُّ على الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ فلم يَكُنْ نَاسِيًا نَفْسَهُ هذا إذَا كان إمَامًا فَإِنْ كان مُقْتَدِيًا يَأْتِي بِالتَّحْمِيدِ لَا غَيْرُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا اسْتِدْلَالًا بِالْمُنْفَرِدِ لِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ لَا أَثَرَ له في إسْقَاطِ الْأَذْكَارِ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ اخْتَلَفَا في الْقِرَاءَةِ وَلَنَا أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قَسَّمَ التَّسْمِيعَ وَالتَّحْمِيدَ بين الْإِمَامِ وَالْمُقْتَدِي وفي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا من الْجَانِبَيْنِ إبْطَالُ الْقِسْمَةِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَلِأَنَّ التَّسْمِيعَ دُعَاءٌ إلَى التَّحْمِيدِ وَحَقُّ من دُعِيَ إلَى شَيْءٍ الْإِجَابَةُ إلَى ما دُعِيَ إلَيْهِ لا إعادة ما دعي إليه وَإِنْ كان مُنْفَرِدًا فإنه يَأْتِي بِالتَّسْمِيعِ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَكَذَا يَأْتِي بِالتَّحْمِيدِ عِنْدَهُمْ وَعَنْ أبي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ رَوَى الْمُعَلَّى عن أبي يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَأْتِي بِالتَّسْمِيعِ دُونَ التَّحْمِيدِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أبو الْقَاسِمِ الصَّفَّارُ وَالشَّيْخُ أبو بَكْرٍ الْأَعْمَشُ وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَذَكَرَ في بَعْضِ النَّوَادِرِ عنه أَنَّهُ يَأْتِي بِالتَّحْمِيدِ لَا غير وفي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ما يَدُلُّ عليه فإن أَبَا يُوسُفَ قال سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عن الرَّجُلِ يَرْفَعُ رَأْسَهُ من الرُّكُوعِ في الْفَرِيضَةِ أَيَقُولُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي قال يقول رَبَّنَا لك الْحَمْدُ وَيَسْكُتُ وما أَرَادَ بِهِ الْإِمَامَ لِأَنَّهُ لَا يَأْتِي بِالتَّحْمِيدِ عِنْدَهُ فَكَانَ الْمُرَادُ منه الْمُنْفَرِدَ وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ التَّسْمِيعَ تَرْغِيبٌ في التَّحْمِيدِ وَلَيْسَ معه من يُرَغِّبُهُ وَالْإِنْسَانُ لَا يُرَغِّبُ نَفْسَهُ فَكَانَتْ حَاجَتُهُ إلَى التَّحْمِيدِ لَا غير وَجْهُ رِوَايَةِ الْمُعَلَّى أَنَّ التَّحْمِيدَ يَقَعُ في حَالَةِ الْقَوْمَةِ وَهِيَ مَسْنُونَةٌ وَسُنَّةُ الذِّكْرِ تَخْتَصُّ بِالْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ كَالتَّشَهُّدِ في الْقَعْدَةِ الْأُولَى وَلِهَذَا لم يُشَرَّعْ في القعدة ‏[‏القعدتين‏]‏ بين السَّجْدَتَيْنِ وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَمَعَ بَيْنَهُمَا في حديث عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها وَلَا مَحْمَلَ له سِوَى حَالَةِ الِانْفِرَادِ لِمَا مَرَّ وَلِهَذَا كان عَمَلُ الْأُمَّةُ على هذا وما كان اللَّهُ لِيَجْمَعَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ على ضَلَالَةٍ‏.‏ وَاخْتَلَفَتْ الْأَخْبَارُ في لَفْظِ التَّحْمِيدِ في بعضها ربنا لك الحمد وفي بَعْضِهَا رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ وفي بَعْضِهَا اللهم رَبَّنَا لك الْحَمْدُ وَالْأَشْهَرُ هو الْأَوَّلُ وإذا اطْمَأَنَّ قَائِمًا يَنْحَطُّ لِلسُّجُودِ لِأَنَّهُ فَرَغَ من الرُّكُوعِ وَأَتَى بِهِ على وَجْهِ التَّمَامِ فَيَلْزَمُهُ الِانْتِقَالُ إلَى رُكْنٍ آخَرَ وهو السُّجُودُ إذْ الِانْتِقَالُ من رُكْنٍ إلَى رُكْنٍ فَرْضٌ لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى الرُّكْنِ على ما مَرَّ وَمِنْ سُنَنِ الِانْتِقَالِ أَنْ يُكَبِّرَ مع الِانْحِطَاطِ وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ لِمَا تَقَدَّمَ وَمِنْهَا أَنْ يَضَعَ رُكْبَتَيْهِ على الْأَرْضِ ثُمَّ يَدَيْهِ وَهَذَا عِنْدَنَا وقال مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ يَضَعُ يَدَيْهِ أَوَّلًا وَاحْتَجَّا بِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بُرُوكِ الْجَمَلِ في الصَّلَاةِ وهو يَضَعَ رُكْبَتَيْهِ أَوَّلًا وَلَنَا عَيْنُ هذا الحديث لِأَنَّ الْجَمَلَ يَضَعُ يَدَيْهِ أَوَّلًا وَرُوِيَ عن عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنهما مِثْلُ قَوْلِنَا وَهَذَا إذَا كان الرَّجُلُ حَافِيًا يُمْكِنُهُ ذلك فَإِنْ كان ذَا خُفٍّ لَا يُمْكِنُهُ وَضْعُ الرُّكْبَتَيْنِ قبل الْيَدَيْنِ فإنه يَضَعُ يَدَيْهِ أَوَّلًا وَيُقَدِّمُ الْيُمْنَى على الْيُسْرَى وَمِنْهَا أَنْ يَضَعَ جَبْهَتَهُ ثُمَّ أَنْفَهُ وقال بَعْضُهُمْ أَنْفَهُ ثُمَّ جَبْهَتَهُ وَالْكَلَامُ في فَرْضِيَّةِ أَصْلِ السُّجُودِ وَالْقَدْرِ الْمَفْرُوضِ منه وَمَحَلِّ إقَامَةِ الْفَرْضِ قد مَرَّ في مَوْضِعِهِ وَهَهُنَا نَذْكُرُ سُنَنَ السُّجُودِ منها أَنْ يَسْجُدَ على الْأَعْضَاءِ السَّبْعَةَ لِمَا رَوَيْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَمِنْهَا أَنْ يَجْمَعَ في السُّجُودِ بين الْجَبْهَةِ وَالْأَنْفِ فَيَضَعُهُمَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَرْضٌ لِقَوْلِهِ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ من لم يَمَسَّ أَنْفُهُ الْأَرْضَ كما يَمَسُّ جَبْهَتُهُ وهو عِنْدَنَا مَحْمُولٌ على التَّهْدِيدِ وَنَفْيِ الْكَمَالِ لِمَا مَرَّ وَمِنْهَا أَنْ يَسْجُدَ على الْجَبْهَةِ وَالْأَنْفِ من غَيْرِ حَائِلٍ من الْعِمَامَةِ وَالْقَلَنْسُوَةِ وَلَوْ سَجَدَ على كَوْرِ الْعِمَامَةِ وَوَجَدَ صَلَابَةَ الْأَرْضِ جَازَ عِنْدَنَا كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الْآثَارِ وقال الشَّافِعِيُّ لَا يَجُوزُ وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يَسْجُدُ على كَوْرِ عِمَامَتِهِ وَلِأَنَّهُ لو سَجَدَ على عِمَامَتِهِ وَهِيَ مُنْفصلةٌ عنه وَوَجَدَ صَلَابَةَ الْأَرْضِ يَجُوزُ فَكَذَا إذَا كانت مُتَّصِلَةً بِهِ وَلَوْ سَجَدَ على حَشِيشٍ أو قُطْنٍ إنْ تَسَفَّلَ جَبِينُهُ فيه حتى وَجَدَ حَجْمَ الْأَرْضِ أَجْزَأَهُ وَإِلَّا فَلَا وَكَذَا إذَا صلى على طُنْفُسَةٍ مَحْشُوَّةٍ جَازَ إذَا كان مُتَلَبِّدًا وَكَذَا إذَا صلى على الثَّلْجِ إذَا كان مَوْضِعُ سُجُودِهِ مُتَلَبِّدًا يَجُوزُ وَإِلَّا فَلَا وَلَوْ زَحَمَهُ الناس فلم يَجِدْ مَوْضِعًا لِلسُّجُودِ فَسَجَدَ على ظَهْرِ رَجُلٍ أَجْزَأَهُ لِقَوْلِ عُمَرَ اُسْجُدْ على ظَهْرِ أَخِيكَ فإنه مَسْجِدٌ لك وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إنْ سَجَدَ على ظَهْرِ شَرِيكِهِ في الصَّلَاةِ يَجُوزُ وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّ الْجَوَازَ لِلضَّرُورَةِ وَذَلِكَ عِنْدَ الْمُشَارَكَةِ في الصَّلَاةِ وَمِنْهَا أَنْ يَضَعَ يَدَيْهِ في السُّجُودِ حِذَاءَ أُذُنَيْهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذَا سَجَدَ وَضَعَ يَدَيْهِ حِذَاءَ أُذُنَيْهِ وَمِنْهَا أَنْ يُوَجِّهَ أَصَابِعَهُ نحو الْقِبْلَةِ لِمَا رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال إذَا سَجَدَ الْعَبْدُ سَجَدَ كُلُّ عُضْوٍ منه فَلِيُوَجِّهَ من أَعْضَائِهِ إلَى الْقِبْلَةِ ما اسْتَطَاعَ وَمِنْهَا أَنْ يَعْتَمِدَ على رَاحَتَيْهِ لِقَوْلِهِ لِعَبْدِ اللَّهِ بن عُمَرَ إذَا سَجَدْتَ فَاعْتَمِدْ على رَاحَتَيْكَ وَمِنْهَا أَنْ يُبْدِيَ ضَبْعَيْهِ لِقَوْلِهِ لِابْنِ عُمَرَ وَأَبْدِ ضَبْعَيْكَ أَيْ أَظْهِرْ الضَّبُعَ وهو وَسَطُ الْعَضُدِ بِلَحْمِهِ وَرَوَى جَابِرٌ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذَا سَجَدَ جَافَى عَضُدَيْهِ عن جَنْبَيْهِ حتى يُرَى بَيَاضُ إبْطَيْهِ وَمِنْهَا أَنْ يَعْتَدِلَ في سُجُودِهِ وَلَا يَفْتَرِشَ ذِرَاعَيْهِ لِمَا رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال اعْتَدِلُوا في السُّجُودِ وَلَا يَفْتَرِشْ أحدكم ذِرَاعَيْهِ افْتِرَاشَ الْكَلْبِ وقال مَالِكٌ يَفْتَرِشُ في النَّفْلِ دُونَ الْفَرْضِ وهو محجوج ‏[‏فاسد‏]‏ لِمَا رَوَيْنَا من الحديث من غَيْرِ فصل وَهَذَا في حَقِّ الرَّجُلِ فَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَيَنْبَغِي أَنْ تَفْتَرِشَ ذِرَاعَيْهَا وَتَنْخَفِضُ وَلَا تَنْتَصِبَ كَانْتِصَابِ الرَّجُلِ وَتَلْزَقُ بَطْنَهَا بِفَخِذَيْهَا لِأَنَّ ذلك أَسْتَرُ لها وَمِنْهَا أَنْ يَقُولَ في سُجُودِهِ سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى ثَلَاثًا وَذَلِكَ أَدْنَاهُ لِمَا ذَكَرْنَا ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ وَيُكَبِّرُ حتى يَطْمَئِنَّ قَاعِدًا وَالرَّفْعُ فَرْضٌ لِأَنَّ السَّجْدَةَ الثَّانِيَةَ فَرْضٌ فَلَا بُدَّ من الرَّفْعِ لِلِانْتِقَالِ إلَيْهَا وَالطُّمَأْنِينَةِ في الْقَعْدَةِ بين السَّجْدَتَيْنِ لِلِاعْتِدَالِ وَلَيْسَتْ بِفَرْضٍ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّه تَعَالَى وَلَكِنَّهَا سُنَّةٌ أو وَاجِبَةٌ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فَرْضٌ على ما مَرَّ وَأَمَّا مِقْدَارُ الرَّفْعِ بين السَّجْدَتَيْنِ فَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَنْ رَفَعَ رَأْسَهُ من السَّجْدَةِ مِقْدَارَ ما تَمُرُّ الرِّيحُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ أَنَّهُ تَجُوزُ صَلَاتُهُ وَرَوَى أبو يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِقْدَارَ ما يُسَمَّى بِهِ رَافِعًا جَازَ وَكَذَا قال محمد بن سَلَمَةَ أنه إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِقْدَارَ ما لا يُشْكِلُ على النَّاظِرِ أَنَّهُ رَفَعَ رَأْسَهُ جَازَ وهو الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ وُجِدَ الْفصل بين الرُّكْنَيْنِ وَالِانْتِقَالُ وَهَذَا هو الْمَفْرُوضُ فَأَمَّا الِاعْتِدَالُ فَمِنْ باب السُّنَّةِ أو الْوَاجِبِ على ما مَرَّ وَالسُّنَّةُ فيه أَنْ يُكَبِّرَ مع الرَّفْعِ لِمَا مَرَّ ثُمَّ يَنْحَطُّ لِلسَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ مُكَبِّرًا وَيَقُولُ وَيَفْعَلُ فيها مِثْلَ ما فَعَلَ في الْأُولَى ثُمَّ يَنْهَضُ على صُدُورِ قَدَمَيْهِ وَلَا يَقْعُدُ يَعْنِي إذَا قام من الْأُولَى إلَى الثَّانِيَةِ وَمِنْ الثَّالِثَةِ إلَى الرَّابِعَةِ وقال الشَّافِعِيُّ يَجْلِسُ جِلْسَةً خَفِيفَةً ثُمَّ يَقُومُ وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَى مَالِكُ بن الْحُوَيْرِثِ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ من السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ اسْتَوَى قَاعِدًا وَاعْتَمَدَ بِيَدَيْهِ على الْأَرْضِ حَالَةَ الْقِيَامِ وَلَنَا ما رَوَى أبو هُرَيْرَةَ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذَا قام من السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ يَنْهَضُ على صُدُورِ قَدَمَيْهِ وَرُوِيَ عن عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بن عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أنهم كَانُوا يَنْهَضُونَ على صُدُورِ أَقْدَامِهِمْ وما رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ مَحْمُولٌ على حَالَةِ الضَّعْفِ حتى كان يَقُولَ لِأَصْحَابِهِ لَا تُبَادِرُونِي بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَإِنِّي قد بَدُنْتُ أَيْ كَبِرْتُ وَأَسْنَنْتُ فَاخْتَارَ أَيْسَرَ الْأَمْرَيْنِ وَيَعْتَمِدُ بِيَدَيْهِ على رُكْبَتَيْهِ لَا على الْأَرْضِ وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ قبل رُكْبَتَيْهِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَعْتَمِدُ بِيَدَيْهِ على الْأَرْضِ وَيَرْفَعُ رُكْبَتَيْهِ قبل يَدَيْهِ لِمَا رَوَيْنَا من حديث مَالِكِ بن الْحُوَيْرِثِ وَلَنَا ما رُوِيَ عن عَلِيٍّ أَنَّهُ قال من السُّنَّةِ في الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ أَنْ لَا يَعْتَمِدَ بِيَدَيْهِ على الْأَرْضِ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْخًا كَبِيرًا وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم إنَّمَا فَعَلَ ذلك في حَالَةِ الْعُذْرِ ثُمَّ يَفْعَلُ ذلك في الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِثْلَ ما فَعَلَ في الْأُولَى وَيَقْعُدُ على رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ وقد بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ صِفَةَ الْقَعْدَةِ الْأُولَى وَأَنَّهَا وَاجِبَةٌ شُرِعَتْ لِلْفصل بين الشَّفْعَيْنِ وَهَهُنَا نَذْكُرُ كَيْفِيَّةَ الْقَعْدَةِ وَذِكْرَ الْقَعْدَةِ أَمَّا كَيْفِيَّتُهَا فَالسُّنَّةُ أَنْ يَفْتَرِشَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى في الْقَعْدَتَيْنِ جميعا وَيَقْعُدُ عليها وَيَنْصِبُ الْيُمْنَى نَصْبًا وقال الشَّافِعِيُّ السُّنَّةُ في الْقَعْدَةِ الْأُولَى كَذَلِكَ فَأَمَّا في الثَّانِيَةِ فإنه يَتَوَرَّكُ وقال مَالِكُ يَتَوَرَّكُ فِيهِمَا جميعا وَتَفْسِيرُ التَّوَرُّكِ أَنْ يَضَعَ إليتيه على الْأَرْضِ وَيُخْرِجَ رِجْلَيْهِ إلَى الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ وَيَجْلِسُ على وَرِكِهِ الْأَيْسَرِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ عن أبي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّهُ قال فِيمَا وَصَفَ صَلَاةَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كان إذَا جَلَسَ في الْأُولَى فَرَشَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَقَعَدَ عليها وَنَصَبَ الْيُمْنَى نَصْبًا وإذا جَلَسَ في الثَّانِيَةِ أَمَاطَ رِجْلَيْهِ وَأَخْرَجَهُمَا من تَحْتِ وَرِكِهِ الْيُمْنَى وَلَنَا ما رُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذَا قَعَدَ فَرَشَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَقَعَدَ عليها وَنَصَبَ الْيُمْنَى نَصْبًا وَرَوَى أَنَسُ بن مَالِكٍ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نهى عن التَّوَرُّكِ في الصَّلَاةِ وَحَدِيثُ أبي حُمَيْدٍ مَحْمُولٌ على حَالِ الْكِبَرِ وَالضَّعْفِ وَهَذَا في حَقِّ الرَّجُلِ‏.‏

فَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَإِنَّهَا تَقْعُدُ كَأَسْتَرِ ما يَكُونُ لها فَتَجْلِسُ مُتَوَرِّكَةً لِأَنَّ مُرَاعَاةَ فَرْضِ السَّتْرِ أَوْلَى من مُرَاعَاةِ سُنَّةِ الْقَعْدَةِ وَيُوَجِّهُ أَصَابِعَ رِجْلِهِ الْيُمْنَى نحو الْقِبْلَةِ لِمَا مَرَّ وَيَنْبَغِي أَنْ يَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى على فَخِذِهِ الْأَيْمَنِ وَالْيُسْرَى على فَخِذِهِ الْأَيْسَرِ في حَالَةِ الْقَعْدَةِ كَذَا رُوِيَ عن مُحَمَّدٍ في النَّوَادِرِ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ يَضَعُ يَدَيْهِ على رُكْبَتَيْهِ وَالْأَوَّلُ أَفْضَلُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذَا قَعَدَ وَضَعَ مِرْفَقَهُ الْيُمْنَى على فَخِذِهِ الْأَيْمَنِ وَكَذَا الْيُسْرَى على فَخِذِهِ الْأَيْسَرِ وَلِأَنَّ في هذا تَوْجِيهَ أَصَابِعِهِ إلَى الْقِبْلَةِ وَفِيمَا قَالَهُ الطَّحَاوِيُّ تَوْجِيهُهَا إلَى الْأَرْضِ والله أعلم‏.‏

وَأَمَّا ذِكْرُ الْقَعْدَةِ فَالتَّشَهُّدُ وَالْكَلَامُ في التَّشَهُّدِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ كَيْفِيَّةِ التَّشَهُّدِ وفي بَيَانِ قَدْرِ التَّشَهُّدِ وفي بَيَانِ أَنَّهُ وَاجِبٌ أو سُنَّةٌ وفي بَيَانِ سُنَّةِ التَّشَهُّدِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ في كَيْفِيَّتِهِ وَأَصْحَابُنَا أَخَذُوا بِتَشَهُّدِ عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ وهو أَنْ يَقُولَ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النبي صلى الله عليه وسلم وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَالشَّافِعِيُّ أَخَذَ بِتَشَهُّدِ عبد اللَّهِ بن عَبَّاسٍ وهو أَنْ يَقُولَ التَّحِيَّاتُ الْمُبَارَكَاتُ الصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ سَلَامٌ عَلَيْكَ أَيُّهَا النبي صلى الله عليه وسلم وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ سَلَامٌ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَالِكٌ أَخَذَ بِتَشَهُّدِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه وهو أَنْ يَقُولَ التَّحِيَّاتُ النَّامِيَاتُ الزَّاكِيَاتُ الْمُبَارَكَاتُ الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ وَالْبَاقِي كَتَشَهُّدِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه وَمِنْ الناس من اخْتَارَ تَشَهُّدَ أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وهو أَنْ يَقُولَ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ الطَّيِّبَاتُ وَالصَّلَوَاتُ لِلَّهِ وَالْبَاقِي كَتَشَهُّدِ ابْنِ مَسْعُودٍ وفي هذا حِكَايَةٌ فإنه رُوِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا دخل على أبي حَنِيفَةَ فقال أَبِوَاوٍ أَمْ بِوَاوَيْنِ فقال بِوَاوَيْنِ فقال الْأَعْرَابِيُّ بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ كما بَارَكَ في لَا وَلَا ثُمَّ وَلَّى فَتَحَيَّرَ أَصْحَابُهُ فَسَأَلُوهُ عن سُؤَالِهِ فقال إنَّ هذا سَأَلَنِي عن التَّشَهُّدِ أَبِوَاوَيْنِ كَتَشَهُّدِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَمْ بِوَاوٍ كَتَشَهُّدِ أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فَقُلْت بِوَاوَيْنِ قال بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ كما بَارَكَ في شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ وَإِنَّمَا أَوْرَدْتُ هذه الْحِكَايَةَ لِيُعْلَمَ كَمَالُ فِطْنَةِ أبي حَنِيفَةَ وَنَفَاذُ بَصِيرَتِهِ حَيْثُ كان يَقِفُ على الْمُرَادِ بِحَرْفٍ تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كان من شُبَّانِ الصَّحَابَةِ وَإِنَّمَا كان يَخْتَارُ ما اسْتَقَرَّ عليه الْأَمْرُ فَأَمَّا ابن مَسْعُودٍ فَهُوَ من الشُّيُوخِ يَنْقُلُ ما كان في الِابْتِدَاءِ كما نُقِلَ عنه التَّطْبِيقُ وَغَيْرُهُ وَلِأَنَّ هذا مُوَافِقٌ لِكتاب اللَّهِ تعالى لِأَنَّ فيه وَصْفَ التَّحِيَّةِ بِالْبَرَكَةِ على ما قال اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏تَحِيَّةً من عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً‏}‏ وَفِيهِ ذُكِرَ السَّلَامُ مُنَكَّرًا كما في قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏سَلَامٌ على نُوحٍ في الْعَالَمِينَ‏}‏‏:‏ ‏{‏سَلَامٌ على إبْرَاهِيمَ‏}‏‏:‏ ‏{‏سَلَامٌ على مُوسَى وَهَارُونَ‏}‏‏:‏ ‏{‏سَلَامٌ قَوْلًا من رَبٍّ رَحِيمٍ‏}‏ فَكَانَ الْأَخْذُ بِهِ أَوْلَى احتج ‏[‏واحتج‏]‏ مَالِكٌ بِأَنَّ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه عَلَّمَ الناس التَّشَهُّدَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ على مِنْبَرِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَنَا ما رُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ أَنَّهُ قال أَخَذَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدَيَّ وَعَلَّمَنِي التَّشَهُّدَ كما كان يُعَلِّمُنِي السُّورَةَ من الْقُرْآنِ وقال قُلْ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ إلَى آخِرِهَا وقال إذَا قُلْتَ هذا أو فَعَلْتَ هذا فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُكَ وَأَخْذُ الْيَدِ عِنْدَ التَّعْلِيمِ لِتَأْكِيدِ التَّعْلِيمِ وَتَقْرِيرِهِ عِنْدَ الْمُتَعَلِّمِ وَكَذَا أَمَرَ بِهِ بِقَوْلِهِ قُلْ وَكَذَا عَلَّقَ تَمَامَ الصَّلَاةِ بهذا التَّشَهُّدِ فَمَنْ لم يَأْتِ بِهِ لَا تُوصَفُ صَلَاتُهُ بِالتَّمَامِ وَلِأَنَّ هذا التَّشَهُّدَ هو الْمُسْتَفِيضُ في الْأُمَّةِ الشَّائِعُ في الصَّحَابَةِ فإنه رُوِيَ عن أبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ عَلَّمَ الناس التَّشَهُّدَ على مِنْبَرِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَكَذَا ولم يُنْكِرْ عليه أَحَدٌ من الصَّحَابَةِ فَكَانَ إجْمَاعًا وَكَذَا رَوَى ابن عُمَرَ عن الصِّدِّيقِ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ كان يُعَلِّمُ الناس التَّشَهُّدَ كما يُعَلِّمُ الصِّبْيَانَ في الْكتاب وَذَكَرَ مِثْلَ تَشَهُّدِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَكَذَا رُوِيَ عن مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ عَلَّمَ الناس التَّشَهُّدَ على الْمِنْبَرِ على نَحْوِ ما نَقَلَهُ ابن مَسْعُودٍ وَكَذَا الْمَرْوِيُّ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم عَلَّمَهُ التَّشَهُّدَ وَذَكَرَ تَشَهُّدَ ابْنِ مَسْعُودٍ وَكَذَا الْمَرْوِيُّ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها وَقَالَتْ هَكَذَا تَشَهَّدَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلِأَنَّ تَشَهُّدَ ابْنِ مَسْعُودٍ أَبْلَغُ في الثَّنَاءِ لِأَنَّ الْوَاوَ تُوجِبُ عَطْفَ بَعْضِ الْكَلِمَاتِ على الْبَعْضِ فَكَانَ كُلُّ لَفْظٍ ثَنَاءً على حِدَةٍ ومما ‏[‏وفيما‏]‏ ذَكَرَهُ ابن عَبَّاسٍ إخْرَاجُ الْكَلَامِ مَخْرَجَ الصِّفَةِ فَيَكُونُ الْكُلُّ كَلَامًا وَاحِدًا كما في الْيَمِينِ فإن قَوْلَهُ وَاَللَّهِ وَالرَّحْمَنِ وَالرَّحِيمِ ثَلَاثَةُ أَيْمَانٍ وَقَوْلَهُ وَاَللَّهِ الرحمن الرَّحِيمِ يَمِينٌ وَاحِدٌ وَكَذَا السَّلَامُ في هذا التَّشَهُّدِ مَذْكُورٌ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ وفي ذلك التَّشَهُّدِ مَذْكُورٌ على طَرِيقِ التَّنْكِيرِ وَلَا شَكَّ أَنَّ اللَّامَ أَبْلَغُ لِأَنَّ اللَّامَ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ مع أَنَّ هذا مُوَافِقٌ لِكتاب اللَّهِ أَيْضًا قال اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَالسَّلَامُ على من اتَّبَعَ الْهُدَى‏}‏‏:‏ ‏{‏وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يوم وُلِدْتُ‏}‏ وما ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ من التَّرْجِيحِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى تَقْدِيمِ رِوَايَةِ الْأَحْدَاثِ على رِوَايَةِ الْمُهَاجِرِينَ وأحد لَا يقول بِهِ وما ذَكَرَهُ مَالِكٌ ضَعِيفٌ فإن أَبَا بَكْرٍ رضي اللَّهُ عنه عَلَّمَ الناس التَّشَهُّدَ على مِنْبَرِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كما هو تَشَهُّدُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَكَانَ الْأَخْذُ بِهِ أَوْلَى والله أعلم‏.‏

وَأَمَّا مِقْدَارُ التَّشَهُّدِ فَمِنْ قَوْلِهِ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ إلَى قَوْلِهِ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَيُكْرَهُ أَنْ يَزِيدَ في التَّشَهُّدِ حَرْفًا أو يبتدىء بِحَرْفٍ قَبْلَهُ لِمَا رُوِيَ عن ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قال كان رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْخُذُ عَلَيْنَا التَّشَهُّدَ بِالْوَاوِ وَالْأَلِفِ فَهَذَا نَصٌّ على أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عليه وما نُقِلَ في أَوَّلِ التَّشَهُّدِ بِاسْمِ اللَّهِ وَبِاَللَّهِ أو بِاسْمِ اللَّهِ خَيْرِ الْأَسْمَاءِ وفي آخِرِهِ أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ على الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ فَشَاذٌّ لم يَشْتَهِرْ فَلَا يُقْبَلُ في مُعَارَضَةِ الْمَشْهُورِ وَكَذَا لَا يَزِيدُ على هذا الْمِقْدَارِ من الصَّلَوَاتِ وَالدَّعَوَاتِ في الْقَعْدَةِ الْأُولَى عِنْدَنَا وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ يَزِيدُ عليه ‏[‏عليهم‏]‏ اللَّهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ وَاحْتَجَّا بِقَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلم وفي كل رَكْعَتَيْنِ فَتَشَهَّدْ وَسَلِّمْ على الْمُرْسَلِينَ وَعَلَى من تَبِعَهُمْ من عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ وَلَنَا ما رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كان لَا يَزِيدُ في الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ على التَّشَهُّدِ وَرُوِيَ أَنَّهُ كان يُسْرِعُ النُّهُوضَ في الشَّفْعِ الْأَوَّلِ وَلَا يَزِيدُ على التَّشَهُّدِ وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ على التَّشَهُّدِ مُخَالِفَةٌ لِلْإِجْمَاعِ فإن الطَّحَاوِيَّ قال من زَادَ على هذا فَقَدْ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ وهو كان أَعْلَمَ الناس بمذاهب ‏[‏بمذهب‏]‏ السَّلَفِ وَكَفَى بِمُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ فَسَادًا في الْمَذْهَبِ وَلِأَنَّ هذا دُعَاءٌ وَمَحَلُّ الدُّعَاءِ آخِرُ الصَّلَاةِ وَالْمُرَادُ من الحديث سَلَامُ التَّشَهُّدِ أو نَحْمِلُهُ على التَّطَوُّعَاتِ لِأَنَّ كُلَّ شَفْعٍ من التَّطَوُّعِ صَلَاةٌ على حِدَةٍ وَلَوْ زَادَ على التَّشَهُّدِ قَوْلَهُ اللَّهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ سَاهِيًا لَا يَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ عِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَذُكِرَ في أَمَالِي الْحَسَنِ بن زِيَادٍ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ وَالْمَسْأَلَةُ قد مَرَّتْ وَأَمَّا في الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ فَيَدْعُو بَعْدَ التَّشَهُّدِ وَيَسْأَلُ حَاجَتَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فإذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ‏}‏ جاء في التَّفْسِيرِ أَنَّ الْمُرَادَ منه الدُّعَاءُ في آخِرِ الصَّلَاةِ أي فَانْصَبْ لِلدُّعَاءِ وقال لِابْنِ مَسْعُودٍ إذَا قُلْتَ هذا أو فَعَلْتَ هذا فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُكَ ثُمَّ اخْتَرْ من الدَّعَوَاتِ ما شِئْت وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَدْعُوَ بِمَا لَا يُشْبِهُ كَلَامَ الناس حتى يَكُونَ خُرُوجُهُ من الصَّلَاةِ على وَجْهِ السُّنَّةِ وهو إصَابَةُ لَفْظَةِ السَّلَامِ وَفَسَّرَهُ أَصْحَابُنَا فَقَالُوا ما يُشْبِهُ كَلَامَ الناس هو ما لَا يَسْتَحِيلُ سُؤَالُهُ من غَيْرِهِ تَعَالَى كَقَوْلِهِ أَعْطِنِي كَذَا أو زَوِّجْنِي امْرَأَةً وما لَا يُشْبِهُ كَلَامَ الناس هو ما يَسْتَحِيلُ سُؤَالُهُ من غَيْرِهِ كَقَوْلِهِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي وَنَحْوِ ذلك ثُمَّ لم يذكر في الْأَصْلِ أَنَّهُ يُقَدِّمُ الصَّلَاةَ على النبي صلى الله عليه وسلم وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ في مُخْتَصَرِهِ أَنَّهُ بَعْدَ التَّشَهُّدِ يُصَلِّي على النبي صلى الله عليه وسلم ثُمَّ يَدْعُو بِحَاجَتِهِ وَيَسْتَغْفِرُ لِنَفْسِهِ وَلِوَالِدَيْهِ إنْ كَانَا مُؤْمِنَيْنِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَهَذَا هو الصَّحِيحُ أَنْ يُقَدِّمَ الصَّلَاةَ على النبي صلى الله عليه وسلم على الدُّعَاءِ لِيَكُونَ أَقْرَبَ إلَى الْإِجَابَةِ لِمَا رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال إذَا صلى أحدكم فَلْيَبْدَأْ بِالْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ على اللَّهِ ثُمَّ بِالصَّلَاةِ عَلَيَّ ثُمَّ بِالدُّعَاءِ وَالصَّلَاةِ على النبي صلى الله عليه وسلم ما هو الْمَعْرُوفُ الْمُتَدَاوَلُ على أَلْسِنَةِ الْأُمَّةِ وَلَا يُكْرَهَ أَنْ يَقُولَ فيها وَارْحَمْ مُحَمَّدًا عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ وَبَعْضُهُمْ كَرِهُوا ذلك وَزَعَمُوا أَنَّهُ يُوهِمُ التَّقْصِيرَ منه في الطَّاعَةِ وَلِهَذَا لَا يُقَالُ عِنْدَ ذِكْرِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ لِأَنَّ أَحَدًا وَإِنْ جَلَّ قَدْرُهُ من الْعِبَادِ لَا يَسْتَغْنِي عن رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وقد رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَحَدٌ بِعَمَلِهِ إلَّا بِرَحْمَةِ اللَّهِ قِيلَ وَلَا أنت يا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقال وَلَا أنا إلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ دَلَّ عليه أَنَّهُ جَازَ قَوْلُهُ اللَّهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ وَالصَّلَاةُ من اللَّهِ رَحْمَةٌ ثُمَّ الصَّلَاةُ على النبي صلى الله عليه وسلم في الصَّلَاةِ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ عِنْدَنَا بَلْ هِيَ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَرْضٌ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ بِدُونِهَا وَهِيَ اللَّهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ وَلَهُ في فَرْضِيَّةِ الصَّلَاةِ في الْأُولَى قَوْلَانِ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عليه‏}‏ وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْفَرْضِيَّةِ وقال لَا صَلَاةَ لِمَنْ لم يُصَلِّ عَلَيَّ في صَلَاتِهِ‏.‏

وَلَنَا ما رَوَيْنَا من حديث ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بن عَمْرِو بن الْعَاصِ رضي اللَّهُ عنهم أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم حَكَمَ بِتَمَامِ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْقُعُودِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ من غَيْرِ شَرْطِ الصَّلَاةِ على النبي صلى الله عليه وسلم وَلَا حُجَّةَ في الْآيَةِ لِأَنَّ الْمُرَادَ منها النَّدْبُ بِدَلِيلِ ما رَوَيْنَا وَرُوِيَ عن عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُمَا قَالَا الصَّلَاةُ على النبي صلى الله عليه وسلم سَنَةٌ في الصَّلَاةِ على أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ بَلْ يَقْتَضِي الْفِعْلَ مَرَّةً وَاحِدَةً وقد قال الْكَرْخِيُّ من أَصْحَابِنَا أن الصَّلَاةَ على النبي صلى الله عليه وسلم فَرْضُ الْعُمُرِ كَالْحَجِّ وَلَيْسَ في الْآيَةِ تَعْيِينُ حَالَةِ الصَّلَاةِ وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ على نَفْيِ الْكَمَالِ لِقَوْلِهِ لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا في الْمَسْجِدِ وَبِهِ نَقُولُ وَأَمَّا الصَّلَاةُ على النبي صلى الله عليه وسلم في غَيْرِ حَالَةِ الصَّلَاةِ فَقَدْ كان الْكَرْخِيُّ يقول أنها فَرِيضَةٌ على كل بَالِغٍ عَاقِلٍ في الْعُمُرِ مَرَّةً وَاحِدَةً وقال الطَّحَاوِيُّ كُلَّمَا ذَكَرَهُ أو سمع اسْمَهُ تَجِبُ وَجْهُ قَوْلِ الْكَرْخِيِّ ما ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ فإذا امْتَثَلَ مَرَّةً في الصَّلَاةِ أو في غَيْرِهَا سَقَطَ الْفَرْضُ عنه كما يَسْقُطُ فَرْضُ الْحَجِّ بِالْحَجِّ مَرَّةً وَاحِدَةً وَجْهُ ما ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الصَّلَاةِ هو الذِّكْرُ أو السَّمَاعُ وَالْحُكْمُ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ السَّبَبِ كما يَتَكَرَّرُ وُجُوبُ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَغَيْرِهِمَا من الْعِبَادَاتِ بِتَكَرُّرِ أَسْبابهَا وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّهُ وَاجِبٌ أو سُنَّةٌ فَأَمَّا التَّشَهُّدُ في الْقَعْدَةِ الْأُولَى فَوَاجِبٌ اسْتِحْسَانًا وقال الْقَاضِي أبو جَعْفَرٍ الاستروشني ‏[‏الأسروشني‏]‏ أنها ‏[‏إنه‏]‏ سَنَةٌ وَهَذَا أَقْرَبُ إلَى الْقِيَاسِ لا ذِكْرَ التَّشَهُّدِ أَدْنَى رُتْبَةً من الْقَعْدَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَعْدَةَ الْأَخِيرَةَ لَمَّا كانت فَرْضًا كانت الْقِرَاءَةُ فيها وَاجِبَةً فَالْقَعْدَةُ الْأُولَى لَمَّا كانت وَاجِبَةً يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الْقِرَاءَةُ فيها سُنَّةً لِيَظْهَرَ انْحِطَاطُ رُتْبَتِهِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ وَاجِبٌ فإن مُحَمَّدًا أَوْجَبَ سُجُودَ السَّهْوِ بِتَرْكِهِ سَاهِيًا وَأَنَّهُ لَا يَجِبُ إلَّا بِتَرْكِ الْوَاجِبِ على ما ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَكَذَا في الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ عِنْدَنَا حتى لو تَرَكَهُ عَمْدًا لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَلَكِنْ يَكُونُ مُسِيئًا وَلَوْ تَرَكَهُ سَهْوًا يَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَرْضٌ حتى لَا تَجُوزَ الصَّلَاةُ بِدُونِهِ وقد ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ وَأَمَّا سُنَّةُ التَّشَهُّدِ فَهِيَ الْإِخْفَاءُ لِمَا رُوِيَ عن ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قال أَرْبَعٌ يُخْفِيهِنَّ الْإِمَامُ وَعَدَّ منها التَّشَهُّدَ وَلِأَنَّهُ من باب الثَّنَاءِ وَالْأَصْلُ في الْأَثْنِيَةِ وَالْأَدْعِيَةِ هو الْإِخْفَاءُ وَهَلْ يُشِيرُ بِالْمُسَبِّحَةِ إذَا انْتَهَى إلَى قَوْلِهِ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ قال بَعْضُ مَشَايِخِنَا لَا يُشِيرُ لِأَنَّ فيه تَرْكَ سُنَّةِ الْيَدِ وَهِيَ الْوَضْعُ وقال بَعْضُهُمْ يُشِيرُ فإن مُحَمَّدًا قال في كتاب الْمُسَبِّحَةِ حُدِّثْنَا عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كان يُشِيرُ بِأُصْبُعِهِ فَيَفْعَلُ مِثْلَ ما فَعَلَ النبي صلى الله عليه وسلم وَيَصْنَعُ ما صَنَعَهُ وهو قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَقَوْلُنَا ثُمَّ كَيْفَ يُشِيرُ قال أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَعْقِدُ ثَلَاثَةً وَخَمْسِينَ وَيُشِيرُ بِالْمُسَبِّحَةِ وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أبو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ أَنَّهُ يَعْقِدُ الْخِنْصَرَ وَالْبِنْصِرَ وَيُحَلِّقُ الْوُسْطَى مع الْإِبْهَامِ وَيُشِيرُ بِالسَّبابةِ وقال إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم هَكَذَا كان يَفْعَلُ وَالله أعلم‏.‏

وَأَمَّا الذي يُؤْتَى بِهِ عِنْدَ الْخُرُوجِ من الصَّلَاةِ وهو التَّسْلِيمُ فَالْكَلَامُ في صِفَةِ التَّسْلِيمِ وَقَدْرِهِ وَكَيْفِيَّتِهِ وَحُكْمِهِ قد ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ وَهَهُنَا نَذْكُرُ سُنَنَ التَّسْلِيمِ فَمِنْهَا أَنْ يَبْدَأَ بِالتَّسْلِيمِ عن الْيَمِينِ لِمَا رَوَيْنَا من الْأَحَادِيثِ وَلِأَنَّ لِلْيَمِينِ فَضْلًا على الشِّمَالِ فَكَانَتْ الْبِدَايَةُ بها أَوْلَى وَلَوْ سَلَّمَ أَوَّلًا عن يَسَارِهِ أو سَلَّمَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ رَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا سَلَّمَ عن يَسَارِهِ يُسَلِّمُ عن يَمِينِهِ وَلَا يُعِيدُ التَّسْلِيمَ على يَسَارِهِ وَلَوْ سَلَّمَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ سَلَّمَ بَعْدَ ذلك عن يَسَارِهِ وَمِنْهَا أَنْ يُبَالِغَ في تَحْوِيلِ الْوَجْهِ في التَّسْلِيمَتَيْنِ وَيُسَلِّمُ عن يَمِينِهِ حتى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ الْأَيْمَنِ وَعَنْ يَسَارِهِ حتى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ الْأَيْسَرِ لِمَا رُوِيَ عن ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كان يُحَوِّلُ وَجْهَهُ في التَّسْلِيمَةِ الْأَوْلَى حتى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ الْأَيْمَنِ أو قال خَدِّهِ الْأَيْسَرِ وَلَا يَكُونُ ذلك إلَّا عِنْدَ شِدَّةِ الِالْتِفَاتِ وَمِنْهَا أَنْ يَجْهَرَ بِالتَّسْلِيمِ إنْ كان إمَامًا لِأَنَّ التَّسْلِيمَ لِلْخُرُوجِ من الصَّلَاةِ فَلَا بُدَّ من الْإِعْلَامِ وَمِنْهَا أَنْ يُسَلِّمَ مُقَارِنًا لِتَسْلِيمِ الْإِمَامِ إنْ كان مُقْتَدِيًا في رِوَايَةٍ عن أبي حَنِيفَةَ كما في التَّكْبِيرِ وفي رواية‏:‏ يُسَلِّمُ بَعْدَ تَسْلِيمِهِ وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ كما قَالَا في التَّكْبِيرِ وقد مَرَّ الْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ على إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَمِنْهَا أَنْ يَنْوِيَ من يُخَاطِبُهُ بِالتَّسْلِيمِ لِأَنَّ خِطَابَ من لَا يَنْوِي خِطَابَهُ لَغْوٌ وَسَفَهٌ ثُمَّ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كان إمَامًا أو مُنْفَرِدًا أو مُقْتَدِيًا فَإِنْ كان إمَامًا يَنْوِي بِالتَّسْلِيمَةِ الْأُولَى من على يَمِينِهِ من الْحَفَظَةِ وَالرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَبِالتَّسْلِيمَةِ الثَّانِيَةِ من على يَسَارِهِ منهم كَذَا ذَكَرَ في الْأَصْلِ وَأَخَّرَ ذِكْرَ الْحَفَظَةِ في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فَمِنْ مَشَايِخِنَا من ظَنَّ أَنَّ في الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَيْنِ في رِوَايَةِ كتاب الصَّلَاةِ يُقَدِّمُ الْحَفَظَةَ في النِّيَّةِ لِأَنَّ السَّلَامَ خِطَابٌ فَيَبْدَأُ بِالنِّيَّةِ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ وَهُمْ الْحَفَظَةُ ثُمَّ الرِّجَالُ ثُمَّ النِّسَاءُ وفي رواية‏:‏ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ يُقَدِّمُ الْبَشَرَ في النِّيَّةِ اسْتِدْلَالًا بِالسَّلَامِ في التَّشَهُّدِ وهو قَوْلُهُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ قَدَّمَ ذِكْرَ الْبَشَرِ على الْمَلَائِكَةِ إذْ الْمُرَادُ بِالصَّالِحِينَ الْمَلَائِكَةُ فَكَذَا في السَّلَامِ في آخِرِ الصَّلَاةِ وَمِنْهُمْ من قال إنَّ أَبَا حَنِيفَةَ كان يَرَى تَفْضِيلَ الْمَلَائِكَةِ على الْبَشَرِ ثُمَّ رَجَعَ فَرَأَى تَفْضِيلَ الْبَشَرِ على الْمَلَائِكَةِ وَهَذَا كُلُّهُ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الْكَلَامَ كُلَّهُ مَعْطُوفٌ بَعْضُهُ على بَعْضٍ بِحَرْفِ الْوَاوِ وَأَنَّهُ لَا يُوجِبُ التَّرْتِيبَ وَلِأَنَّ النِّيَّةَ من عَمَلِ الْقَلْبِ فهي ‏[‏وهي‏]‏ تَنْتَظِمُ الْكُلَّ جُمْلَةً بِلَا تَرْتِيبٍ أَلَا تَرَى أَنَّ من سلم ‏[‏يسلم‏]‏ على جَمَاعَةٍ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُرَتِّبَ في النِّيَّةِ فَيُقَدِّمُ الرِّجَالَ على الصِّبْيَانِ ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ في كَيْفِيَّةِ نِيَّةِ الْحَفَظَةِ قال بَعْضُهُمْ يَنْوِي الْكِرَامَ الْكَاتِبِينَ وَاحِدًا عن يَمِينِهِ وَوَاحِدًا عن يَسَارِهِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَنْوِي الْحَفَظَةَ عن يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ وَلَا يَنْوِي عَدَدًا لِأَنَّ ذلك لَا يُعْرَفُ بِطَرِيقِ الْإِحَاطَةِ وَكَذَا اخْتَلَفُوا في كَيْفِيَّةِ نِيَّةِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ قال بَعْضُهُمْ يَنْوِي من كان معه في الصَّلَاةِ من الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ لَا غَيْرُ وكان الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ يقول يَنْوِي جَمِيعَ رِجَالِ الْعَالَمِ وَنِسَائِهِمْ من الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ خِطَابٌ وَخِطَابُ الْغَائِبِ مِمَّنْ لَا يَبْقَى خِطَابُهُ وَلَيْسَ بِخَيْرٍ من خِطَابِ من يَبْقَى خِطَابُهُ غَيْرُ صَحِيحٍ وَإِنْ كان مُنْفَرِدًا فَعَلَى قَوْلِ الْأَوَّلِينَ يَنْوِي الْحِفْظَةَ لَا غير وَعَلَى قَوْلِ الْحَاكِمِ يَنْوِي الْحِفْظَةَ وَجَمِيعَ الْبَشَرِ من أَهْلِ الْإِيمَانِ وَأَمَّا الْمُقْتَدِي فَيَنْوِي ما يَنْوِي الْإِمَامُ وَيَنْوِي الإمام أَيْضًا إنْ كان على يَمِينِ الْإِمَامِ يَنْوِيهِ في يَسَارِهِ وَإِنْ كان على يَسَارِهِ يَنْوِيهِ في يَمِينِهِ وَإِنْ كان بِحِذَائِهِ فَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يَنْوِيهِ في يَمِينِهِ وَهَكَذَا ذُكِرَ في بَعْضِ نُسَخِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِأَنَّ لِلْيَمِينِ فَضْلًا على الْيَسَارِ وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَنْوِيهِ في الْجَانِبَيْنِ جميعا وَهَكَذَا ذُكِرَ في بَعْضِ نُسَخِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وهو قَوْلُ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ يَمِينَ الْإِمَامِ عن يَمِينِ الْمُقْتَدِي وَيَسَارَهُ عن يَسَارِهِ فَكَانَ له حَظٌّ في الْجَانِبَيْنِ فَيَنْوِيهِ في التَّسْلِيمَتَيْنِ وَالله أعلم‏.‏

فصل بَيَان ما يُسْتَحَبُّ في الصلاة وما يُكْرَهُ

وَأَمَّا بَيَانُ ما يُسْتَحَبُّ فيها وما يُكْرَهُ فَالْأَصْلُ فيه أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُصَلِّي أَنْ يَخْشَعَ في صَلَاتِهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَدَحَ الْخَاشِعِينَ في الصَّلَاةِ وَيَكُونُ مُنْتَهَى بَصَرِهِ إلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كان يُصَلِّي خَاشِعًا شَاخِصًا بَصَرَهُ إلَى السَّمَاءِ فلما نَزَلَ قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قد أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ في صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ‏}‏ رَمَى بِبَصَرِهِ نحو مَسْجِدِهِ أَيْ مَوْضِعِ سُجُودِهِ وَلِأَنَّ هذا أَقْرَبُ إلَى التَّعْظِيمِ ثُمَّ أَطْلَقَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلَهُ وَيَكُونُ مُنْتَهَى بَصَرِهِ إلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ وَفَسَّرَهُ الطَّحَاوِيُّ في مُخْتَصَرِهِ فقال يَرْمِي بِبَصَرِهِ إلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ في حَالَةِ الْقِيَامِ وفي حَالَةِ الرُّكُوعِ إلَى رؤوس أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ وفي حَالَةِ السُّجُودِ إلَى أَرْنَبَةِ أَنْفِهِ وفي حَالَةِ الْقَعْدَةِ إلَى حِجْرِهِ لِأَنَّ هذا كُلَّهُ تَعْظِيمٌ وَخُشُوعٌ وَرُوِيَ في بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حين أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالصَّلَاةِ أَمَرَهُمْ كَذَلِكَ وزاد بَعْضُهُمْ عِنْدَ التَّسْلِيمَةِ الْأُولَى على كَتِفِهِ الْأَيْمَنِ وَعِنْدَ لتَّسْلِيمَةِ الثَّانِيَةِ على كَتِفِهِ الْأَيْسَرِ وَلَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ وَلَا يُطَأْطِئُهُ لِأَنَّ فيه تَرْكَ سُنَّةَ الْعَيْنِ وَهِيَ النَّظَرُ إلَى الْمَسْجِدِ فَيُخِلُّ بِمَعْنَى الْخُشُوعِ وَرُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نهى أَنْ يُدَبِّحَ الرَّجُلُ تَدْبِيحَ الْحِمَارِ أَيْ يطأطىء ‏[‏يطأطئ‏]‏ رَأْسَهُ وَلَا يَتَشَاغَلَ بِشَيْءٍ غَيْرِ صَلَاتِهِ من عَبَثٍ بِثِيَابِهِ أو بِلِحْيَتِهِ لِأَنَّ فيه تَرْكَ الْخُشُوعِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلًا يَعْبَثُ بِلِحْيَتِهِ في الصَّلَاةِ فقال أَمَّا هذا لو خَشَعَ قَلْبُهُ لَخَشَعَتْ جَوَارِحُهُ وَلَا يُفَرْقِعُ أَصَابِعَهُ لِمَا رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال لِعَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه إنِّي أُحِبُّ لَك ما أُحِبُّ لِنَفْسِي لَا تُفَرْقِعْ أَصَابِعَكَ وَأَنْتَ تُصَلِّي وَلِأَنَّ فيه تَرْكَ الْخُشُوعِ وَلَا يُشَبِّكُ بين أَصَابِعِهِ لِمَا فيه من تَرْكِ سُنَّةِ الْوَضْعِ وَلَا يَجْعَلُ يَدَيْهِ على خَاصِرَتِهِ لِمَا رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نهى عن الِاخْتِصَارِ في الصَّلَاةِ وَقِيلَ إنَّهُ اسْتِرَاحَةُ أَهْلِ النَّارِ وَقِيلَ إنَّ الشَّيْطَانَ لَمَّا أُهْبِطَ أُهْبِطَ مُخْتَصِرًا وَالتَّشَبُّهُ بِالْكَفَرَةِ وَبابلِيسَ مَكْرُوهٌ خَارِجَ الصَّلَاةِ فَفِي الصَّلَاةِ أَوْلَى وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهُ عَمَلُ الْيَهُودِ وقد نُهِينَا عن التَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الْكتاب وَلِأَنَّ فيه تَرْكَ سُنَّةِ الْيَدِ وَهِيَ الْوَضْعُ وَلَا يُقَلِّبُ الْحَصَى إلَّا أَنْ يُسَوِّيَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً لِسُجُودِهِ لِمَا رُوِيَ عن أبي ذَرٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ قال سَأَلْتُ خَلِيلِي عن كل شَيْءٍ حتى سَأَلْتُهُ عن تَسْوِيَةِ الْحَصَى في الصَّلَاةِ فقال يا أَبَا ذَرٍّ مَرَّةً أو ذَرْ وَرُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال لَأَنْ يُمْسِكْ أحدكم عن الْحَصَى خَيْرٌ له من مِائَةِ نَاقَةٍ سُودِ الْحَدَقَةِ إلَّا أَنَّهُ رَخَّصَ مَرَّةً وَاحِدَةً إذَا كانت الْحَصَى لَا تمكنه ‏[‏يمكنه‏]‏ من السُّجُودِ لِحَاجَتِهِ إلَى السُّجُودِ الْمَسْنُونِ وهو وَضْعُ الْجَبْهَةِ وَالْأَنْفِ وَتَرْكُهُ أَوْلَى لِمَا رَوَيْنَا وَلِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْخُشُوعِ وَلَا يَلْتَفِتُ يَمْنَةً ويسرة لِقَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لو عَلِمَ الْمُصَلِّي من يُنَاجِي ما الْتَفَتَ» وَسُئِلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عن الِالْتِفَاتِ في الصَّلَاةِ فقال‏:‏ «تِلْكَ خِلْسَةٌ يَخْتَلِسُهَا الشَّيْطَانُ من صَلَاةِ أَحَدِكُمْ» وَحَدُّ الِالْتِفَاتِ الْمَكْرُوهِ أَنْ يُحَوِّلَ وَجْهَهُ عن الْقِبْلَةِ‏.‏

فأما النَّظَرُ بِمُؤَخَّرِ الْعَيْنِ يَمْنَةً أو يَسْرَةً من غَيْرِ تَحْوِيلِ الْوَجْهِ فَلَيْسَ بِمَكْرُوهٍ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يُلَاحِظُ أَصْحَابَهُ بِمُؤْخِرِ عَيْنَيْهِ وَلِأَنَّ هذا مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عنه وَلَا يُقْعِي لِمَا رُوِيَ عن أبي ذَرٍّ أَنَّهُ قال نَهَانِي خَلِيلِي عن ثَلَاثٍ أَنْ أَنْقُرَ نَقْرَ الدِّيكِ وَأَنْ أقعي إقْعَاءَ الْكَلْبِ وَأَنْ أَفْتَرِشَ افْتِرَاشَ الثَّعْلَبِ وَاخْتَلَفُوا في تَفْسِيرِ الْإِقْعَاءِ قال الْكَرْخِيُّ هو نَصْبُ الْقَدَمَيْنِ وَالْجُلُوسُ على الْعَقِبَيْنِ وهو عَقِبُ الشَّيْطَانِ الذي نهى عنه في الحديث وقال الطَّحَاوِيُّ هو الْجُلُوسُ على الإليتين وَنَصْبُ الرُّكْبَتَيْنِ وَوَضْعُ الْفَخِذَيْنِ على الْبَطْنِ وَهَذَا أَشْبَهُ بِإِقْعَاءِ الْكَلْبِ وَلِأَنَّ في ذلك تَرْكُ الْجِلْسَةِ الْمَسْنُونَةِ فَكَانَ مَكْرُوهًا وَلَا يَفْتَرِشُ ذِرَاعَيْهِ لِمَا رَوَيْنَا وَلَا يَتَرَبَّعُ من غَيْرِ عُذْرٍ لِمَا رُوِيَ عن عُمَرَ أنه رَأَى عبدالله ‏[‏ابنه‏]‏ تربع ‏[‏يتربع‏]‏ في صَلَاتِهِ فَنَهَاهُ عن ذلك فقال رَأَيْتُكَ تَفْعَلُهُ يا أَبَتِ فقال إنَّ رِجْلَيَّ لَا تَحْمِلَانِي وَلِأَنَّ الْجُلُوسَ على الرُّكْبَتَيْنِ أَقْرَبُ إلَى الْخُشُوعِ فَكَانَ أَوْلَى وَلَا يُكْرَهُ في حَالَةِ الْعُذْرِ لِأَنَّ مَوَاضِعَ الضَّرُورَةِ مُسْتَثْنَاةٌ من قَوَاعِدِ الشَّرْعِ وَلَا يَتَمَطَّى وَلَا يَتَثَاءَبُ في الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ اسْتِرَاحَةٌ في الصَّلَاةِ فَتُكْرَهُ كالإتكاء على شَيْءٍ وَلِأَنَّهُ مُخِلٌّ بِمَعْنَى الْخُشُوعِ فإذا عَرَضَ له شَيْءٌ من ذلك كَظَمَ ما اسْتَطَاعَ فَإِنْ غَلَبَ عليه التَّثَاؤُبُ جَعَلَ يَدَهُ على فيه لِمَا رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال إذَا تَثَاءَبَ أحدكم فَلْيَكْظِمْ ما اسْتَطَاعَ فَإِنْ لم يَسْتَطِعْ فَلْيَضَعْ يَدَهُ على فيه وَيُكْرَهُ أَنْ يُغَطِّيَ فَاهُ في الصَّلَاةِ لِأَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك وَلِأَنَّ في التَّغْطِيَةِ مَنْعًا من الْقِرَاءَةِ وَالْأَذْكَارِ الْمَشْرُوعَةِ وَلِأَنَّهُ لو غَطَّى بيده فَقَدْ تَرَكَ سُنَّةَ الْيَدِ وقد قال كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ في الصَّلَاةِ وَلَوْ غَطَّاهُ بِثَوْبٍ فَقَدْ تَشَبَّهَ بِالْمَجُوسِ لِأَنَّهُمْ يَتَلَثَّمُونَ في عِبَادَتِهِمْ النَّارَ وَالنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التَّلَثُّمِ في الصَّلَاةِ إلَّا إذَا كانت التَّغْطِيَةُ لِدَفْعِ التَّثَاؤُبِ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِمَا مَرَّ وَيُكْرَهُ أَنْ يَكُفَّ ثَوْبَهُ لِمَا رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ على سَبْعَةِ أَعْظُمٍ وَأَنْ لَا أَكُفَّ ثَوْبًا وَلَا أَكْفِتَ شَعْرًا وَلِأَنَّ فيه تَرْكَ سُنَّةِ وَضْعِ الْيَدِ وَيُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَاقِصًا شَعْرَهُ لِمَا رُوِيَ عن رِفَاعَةَ بن رَافِعٍ أَنَّهُ رَأَى الْحَسَنَ بن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنهما يُصَلِّي عَاقِصًا شَعْرَهُ فَحَلَّ الْعُقْدَةَ فَنَظَرَ إلَيْهِ الْحَسَنُ مُغْضَبًا فقال يا ابْنَ بِنْتِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَقْبِلْ على صَلَاتِكَ وَلَا تَغْضَبْ فَإِنِّي سمعت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك وقال ذَاكَ كِفْلُ الشَّيْطَانِ وفي رواية‏:‏ مَقْعَدُ الشَّيْطَانِ من صَلَاةِ الْعَبْدِ وَالْعَقْصُ أَنْ يَشُدَّ الشَّعْرَ ضَفِيرَةً حَوْلَ رَأْسِهِ كما تَفْعَلُهُ النِّسَاءُ أو يَجْمَعَ شَعْرَهُ فَيَعْقِدَهُ في مُؤَخَّرِ رَأْسِهِ وَيُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ مُعْتَجِرًا لِمَا رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نهى عن الِاعْتِجَارِ وَاخْتُلِفَ في تَفْسِيرِ الِاعْتِجَارِ وقيل ‏[‏قيل‏]‏ هو أَنْ يَشُدَّ حَوَالَيْ رَأْسِهِ بِالْمِنْدِيلِ وَيَتْرُكَهَا منه وهو تَشَبُّهٌ بِأَهْلِ الْكتاب وَقِيلَ هو أَنْ يَلُفَّ شَعْرَهُ على رَأْسِهِ بِمِنْدِيلٍ فَيَصِيرُ كَالْعَاقِصِ شَعْرَهُ وَالْعَقْصُ مَكْرُوهٌ لِمَا ذَكَرْنَا وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قال لَا يَكُونُ الِاعْتِجَارُ إلَّا مع تَنَقُّبٍ وهو أَنْ يَلُفَّ بَعْضَ الْعِمَامَةِ على رَأْسِهِ وَيَجْعَلَ طَرَفًا منها على وَجْهِهِ كَمُعْتَجَرِ النِّسَاءِ إمَّا لِأَجْلِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ أو لِلتَّكَبُّرِ وَيُكْرَهُ أَنْ يُغْمِضَ عَيْنَيْهِ في الصَّلَاةِ لِمَا رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نهى عن تَغْمِيضِ الْعَيْنِ في الصَّلَاةِ وَلِأَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَرْمِيَ بِبَصَرِهِ إلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ وفي التَّغْمِيضِ تَرْكُ هذه السُّنَّةِ وَلِأَنَّ كُلَّ عُضْوٍ وَطَرَفٍ ذُو حَظٍّ من هذه الْعِبَادَةِ فَكَذَا الْعَيْنُ وَلَا يُرَوِّحُ في الصَّلَاةِ لِمَا فيه من تَرْكِ سُنَّةِ وَضْعِ الْيَدِ وِتْرِكِ الْخُشُوعِ وَيُكْرَهُ أَنْ يَبْزُقَ على حِيطَانِ الْمَسْجِدِ أو بين يَدَيْهِ على الْحَصَى أو يمتخط ‏[‏يتمخط‏]‏ لِقَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنَّ الْمَسْجِدَ لَيَنْزَوِي من النُّخَامَةِ كما تَنْزَوِي الْجِلْدَةُ في النَّارِ» وَلِأَنَّ ذلك سَبَبٌ لِتَنْفِيرِ الناس عن الصَّلَاةِ في الْمَسْجِدِ وَلِأَنَّ النُّخَامَةَ وَالْمُخَاطَ مِمَّا يُسْتَقْذَرُ طَبْعًا وإذا عَرَضَ له ذلك يَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَهُ بِطَرَفِ ثَوْبِهِ وَإِنْ أَلْقَاهُ في الْمَسْجِدِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَرْفَعَهُ وَلَوْ دَفَنَهُ في الْمَسْجِدِ تَحْتَ الْحَصِيرِ يُرَخَّصُ له ذلك وَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يَفْعَلَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ في دَفْنِ النُّخَامَةِ في الْمَسْجِدِ وَلِأَنَّهُ طَاهِرٌ في نَفْسِهِ إلَّا أَنَّهُ مُسْتَقْذَرٌ طَبْعًا فإذا دُفِنَ لَا يُسْتَقْذَرُ وَلَا يُؤَدِّي إلَى التَّنْفِيرِ وَالرَّفْعُ أَوْلَى تَنْزِيهًا لِلْمَسْجِدِ عَمَّا يَنْزَوِي عنه‏.‏

وَيُكْرَهُ عَدُّ الْآيِ وَالتَّسْبِيحِ في الصَّلَاةِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ في الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ كُرِهَ في الْفَرْضِ وَرُخِّصَ في التَّطَوُّعِ وَذَكَرَ في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَوْلَ مُحَمَّدٍ مع أبي حَنِيفَةَ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ العبد ‏[‏العد‏]‏ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ لِمُرَاعَاةِ السُّنَّةِ في قَدْرِ الْقِرَاءَةِ وَعَدَدِ التَّسْبِيحِ خُصُوصًا في صَلَاةِ التَّسْبِيحِ التي تَوَارَثَتْهَا الْأُمَّةُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ في الْعَدِّ بِالْيَدِ ترك ‏[‏تركا‏]‏ لِسُنَّةِ الْيَدِ وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ وَلِأَنَّهُ ليس من أَعْمَالِ الصَّلَاةِ فَالْقَلِيلُ منه إنْ لم يُفْسِدْ الصَّلَاةَ فَلَا أَقَلَّ من أَنْ يُوجِبَ الْكَرَاهَةَ وَلَا حَاجَةَ إلَى الْعَدِّ بِالْيَدِ في الصَّلَاةِ فإنه يُمْكِنُهُ أَنْ يَعُدَّ خَارِجَ الصَّلَاةِ مِقْدَارَ ما يَقْرَأُ في الصَّلَاةِ وَيُعَيِّنُ ثُمَّ يَقْرَأُ بَعْدَ ذلك الْمِقْدَارِ الْمُعَيَّنِ أو يَعُدُّ بِقَلْبِهِ‏.‏

وَيُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ على دُكَّانٍ وَالْقَوْمُ أَسْفَلَ منه وَالْجُمْلَةُ فيه أَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا إن كان الْإِمَامُ على الدُّكَّانِ وَالْقَوْمُ أَسْفَلَ منه أو كان الْقَوْمُ على الدُّكَّانِ وَالْإِمَامُ أَسْفَلَ منهم وَلَا يَخْلُو إمَّا إن كان الْإِمَامُ وَحْدَهُ أو كان بَعْضُ الْقَوْمِ معه وَكُلُّ ذلك لَا يَخْلُو إمَّا إن كان في حَالَةِ الِاخْتِيَارِ أو في حَالَةِ الْعُذْرِ أَمَّا في حَالَةِ الِاخْتِيَارِ فَإِنْ كان الْإِمَامُ وَحْدَهُ على الدُّكَّانِ وَالْقَوْمُ أَسْفَلَ منه يُكْرَهُ سَوَاءٌ كان الْمَكَانُ قَدْرَ قَامَةِ الرَّجُلِ أو دُونَ ذلك في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ ما لم يُجَاوِزْ الْقَامَةَ لِأَنَّ في الْأَرْضِ هُبُوطًا وَصُعُودًا وَقَلِيلُ الِارْتِفَاعِ عَفْوٌ وَالْكَثِيرُ ليس بِعَفْوٍ فَجَعَلْنَا الْحَدَّ الْفَاصِلَ ما يُجَاوِزُ الْقَامَةِ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا كان دُونَ الْقَامَةِ لَا يُكْرَهُ وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ حُذَيْفَةَ بن الْيَمَانِ قام بِالْمَدَائِنِ لِيُصْلِيَ بِالنَّاسِ على دُكَّانٍ فَجَذَبَهُ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ ثُمَّ قال ما الذي أَصَابَكَ أَطَالَ الْعَهْدُ أَمْ نَسِيتَ أَمَا سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول لَا يَقُومُ الْإِمَامُ على مَكَان أَنْشَزَ مِمَّا عليه أَصْحَابُهُ وفي رواية‏:‏ أَمَا عَلِمْت أَنَّ أَصْحَابَكَ يَكْرَهُونَ فقال‏:‏ تَذَكَّرْتُ حين جَذَبْتَنِي وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَكَانَ الذي يُمْكِنُ الْجَذْبُ عنه ما دُونَ الْقَامَةِ وَكَذَا الدُّكَّانُ الْمَذْكُورُ يَقَعُ على الْمُتَعَارَفِ وهو ما دُونَ الْقَامَةِ وَلِأَنَّ كَثِيرَ الْمُخَالَفَةِ بين الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ يَمْنَعُ الصِّحَّةَ فَقَلِيلُهَا يُورِثُ الْكَرَاهَةَ وَلِأَنَّ هذا صَنِيعُ أَهْلِ الْكتاب وَإِنْ كان الْإِمَامُ أَسْفَلَ من الْقَوْمِ يُكْرَهُ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ‏.‏

وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ عن أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمُوجِبَ لِلْكَرَاهَةِ التَّشَبُّهُ بِأَهْلِ الْكتاب في صَنِيعِهِمْ وَلَا تَشَبُّهَ هَهُنَا لِأَنَّ مَكَانَ إمَامِهِمْ لَا يَكُونُ أَسْفَلَ من مَكَانِ الْقَوْمِ وَجَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ لِأَنَّ كَرَاهَةَ كَوْنِ الْمَكَانِ أَرْفَعَ كان مَعْلُولًا بِعِلَّتَيْنِ التَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الْكتاب وَوُجُودِ بَعْضِ الْمُفْسِدِ وهو اخْتِلَافُ الْمَكَانِ وَهَهُنَا وُجِدَتْ إحْدَى الْعِلَّتَيْنِ وَهِيَ وُجُودُ بَعْضِ الْمُخَالَفَةِ هذا إذَا كان الْإِمَامُ وَحْدَهُ فَإِنْ كان بَعْضُ الْقَوْمِ معه اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه فَمَنْ اعْتَبَرَ مَعْنَى التَّشَبُّهِ قال لَا يُكْرَهُ وهو قِيَاسُ رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ لِزَوَالِ مَعْنَى التَّشَبُّهِ لِأَنَّ أَهْلَ الْكتاب لَا يُشَارِكُونَ الْإِمَامَ في الْمَكَانِ وَمَنْ اعْتَبَرَ وُجُودَ بَعْضِ الْمُفْسِدِ قال يُكْرَهُ وهو قِيَاسُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِوُجُودِ بَعْضِ الْمُخَالَفَةِ‏.‏

وَأَمَّا في حَالَةِ الْعُذْرِ كما في الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ لَا يُكْرَهُ كَيْفَمَا كان لِعَدَمِ إمْكَانِ الْمُرَاعَاةِ وَيُكْرَهُ لِلْمَارِّ أَنْ يَمُرَّ بين يَدَيْ الْمُصَلِّي لِقَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لو يعلم ‏[‏علم‏]‏ الْمَارُّ بين يَدَيْ الْمُصَلِّي ما عليه من الْوِزْرِ لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ خَيْرًا له من أَنْ يَمُرَّ بين يَدَيْهِ»‏.‏

ولم يُوَقِّتُ يَوْمًا أو شَهْرًا أو سَنَةً ولم يذكر في الْكتاب قَدْرَ الْمُرُورِ وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه قال بَعْضُهُمْ قَدْرُ مَوْضِعِ السُّجُودِ وقال بَعْضُهُمْ مِقْدَارُ الصَّفَّيْنِ وقال بَعْضُهُمْ قَدْرُ ما يَقَعُ بَصَرُهُ على الْمَارِّ لو صلى بِخُشُوعٍ وَفِيمَا وَرَاءَ ذلك لَا يُكْرَهُ وهو الْأَصَحُّ وَيَنْبَغِي لِلْمُصَلِّي أَنْ يَدْرَأَ الْمَارَّ أَيْ يَدْفَعَهُ حتى لَا يَمُرَّ حتى لَا يَشْغَلَهُ عن صَلَاتِهِ لِمَا رُوِيَ عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي اللَّهُ عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ مُرُورُ شَيْءٍ فادرؤا ‏[‏فادرءوا‏]‏ ما اسْتَطَعْتُمْ وَلَوْ مَرَّ لَا تُقْطَعُ صلاته سَوَاءٌ كان الْمَارُّ رَجُلًا أو امْرَأَةً لِمَا نَذْكُرُ في مَوْضِعِهِ إلَّا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُدْفَعَ بِالتَّسْبِيحِ أو بِالْإِشَارَةِ أو الْأَخْذِ بِطَرَفِ ثَوْبِهِ من غَيْرِ مَشْيٍ وَمُعَالَجَةٍ شَدِيدَةٍ حتى لَا تَفْسُدَ صَلَاتُهُ وَمِنْ الناس من قال إنْ لم يَقِفْ بِإِشَارَتِهِ جَازَ دَفْعُهُ بِالْقِتَالِ لِحَدِيثِ أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ كان يُصَلِّي فَأَرَادَ ابن مَرْوَانَ أَنْ يَمُرَّ بين يَدَيْهِ فَأَشَارَ إلَيْهِ فلم يَقِفْ فلما حَاذَاهُ ضَرَبَهُ في صَدْرِهِ ضَرْبَةً أَقْعَدَهُ على إسته فَجَاءَ إلَى أبيه يَشْكُو أَبَا سَعِيدٍ فقال لِمَ ضَرَبْتَ ابْنِي فقال ما ضَرَبْتُ ابْنَكَ إنَّمَا ضَرَبْتُ شَيْطَانًا فقال لِمَ تُسَمِّي ابْنِي شَيْطَانًا فقال لِأَنِّي سمعت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول إذَا صلى أحدكم فَأَرَادَ مَارٌّ أَنْ يَمُرَّ بين يَدَيْهِ فَلْيَدْفَعْهُ فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ فإنما ‏[‏فإنه‏]‏ هو شَيْطَانٌ وَلَنَا قَوْلُ النبي صلى الله عليه وسلم إنَّ في الصَّلَاةِ لَشُغْلًا يَعْنِي أَعْمَالَ الصَّلَاةِ وَالْقِتَالُ ليس من أَعْمَالِ الصَّلَاةِ فَلَا يَجُوزُ الِاشْتِغَالُ بِهِ وَحَدِيثُ أبي سَعِيدٍ كان في وَقْتٍ كان الْعَمَلُ في الصَّلَاة مُبَاحًا وَمِنْ الْمَشَايِخِ من قال إنَّ الدَّرْءَ رُخْصَةٌ وَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يَدْرَأَ لِأَنَّهُ ليس من أَعْمَالِ الصَّلَاةِ وَكَذَا رَوَى إمَامُ الْهُدَى الشَّيْخُ أبو مَنْصُورٍ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يُتْرَكَ الدَّرْءُ وَالْأَمْرُ بِالدَّرْءِ في الحديث لِبَيَانِ الرُّخْصَةِ كَالْأَمْرِ بِقَتْلِ الْأَسْوَدَيْنِ والله أعلم‏.‏هذا إذَا لم يَكُنْ بَيْنَهُمَا حَائِلٌ كَالْأُسْطُوَانَةِ وَنَحْوِهَا فَأَمَّا إنْ كان بَيْنَهُمَا حَائِلٌ فَلَا بَأْسَ بِالْمُرُورِ فِيمَا وَرَاءَ الْحَائِلِ وَالْمُسْتَحَبُّ لِمَنْ يُصَلِّي في الصَّحْرَاءِ أَنْ يَنْصِبَ بين يَدَيْهِ عُودًا أو يَضَعَ شيئا أَدْنَاهُ طُولُ ذِرَاعٍ كَيْ لَا يَحْتَاجَ إلَى الدَّرْءِ لِقَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذَا صلى أحدكم في الصَّحْرَاءِ فَلْيَتَّخِذْ بين يَدَيْهِ سُتْرَةً»‏.‏

وَرُوِيَ أَنَّ الْعَنَزَةَ كانت تُحْمَلُ مع رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِتُرْكَزَ في الصَّحْرَاءِ بين يَدَيْهِ فَيُصَلِّي إلَيْهَا حتى قال عَوْنُ بن أبي جُحَيْفَةَ عن أبيه رأيت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْبَطْحَاءِ في قُبَّةٍ حَمْرَاءَ من أَدَمٍ فَأَخْرَجَ بِلَالٌ الْعَنَزَةَ وَخَرَجَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فصلى إلَيْهَا وَالنَّاسُ يَمُرُّونَ من وَرَائِهَا وَإِنَّمَا قدرناه ‏[‏قدر‏]‏ بِذِرَاعٍ طُولًا دُونَ اعْتِبَارِ الْعَرْضِ وَقِيلَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ في غِلَظِ أُصْبُعٍ لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ يجزىء من السُّتْرَةِ السَّهْمُ وَلِأَنَّ الْغَرَضَ منه الْمَنْعُ من الْمُرُورِ وما دُونَ ذلك لَا يَبْدُو لِلنَّاظِرِ من بَعِيدٍ فَلَا يَمْتَنِعُ وَيَدْنُو من السُّتْرَةِ لِقَوْلِهِ من صلى إلَى سُتْرَةٍ فَلْيَدْنُ منها فَإِنْ لم يَجِدْ سُتْرَةً هل يَخُطُّ بين يَدَيْهِ خَطًّا حَكَى أبو عِصْمَةَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قال لَا يَخُطُّ بين يَدَيْهِ فإن الْخَطَّ وَتَرْكَهُ سَوَاءٌ لِأَنَّهُ لَا يَبْدُو لِلنَّاظِرِ من بَعِيدٍ فَلَا يَمْتَنِعُ فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ وَمِنْ الناس من قال يَخُطُّ بين يَدَيْهِ خَطًّا إمَّا طُولًا شِبْهَ ظِلِّ السُّتْرَةِ أو عَرْضًا شِبْهَ الْمِحْرَابِ لِقَوْلِهِ إذَا صلى أحدكم في الصَّحْرَاءِ فَلْيَتَّخِذْ بين يَدَيْهِ سُتْرَةً فَإِنْ لم يَجِدْ فَلْيَخُطَّ بين يَدَيْهِ خَطًّا وَلَكِنَّ الحديث غَرِيبٌ وَرَدَ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى فَلَا نَأْخُذُ بِهِ‏.‏ وَلَا بَأْسَ بِقَتْلِ الْعَقْرَبِ أو الْحَيَّةِ في الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ يَشْغَلُ الْقَلْبَ وَذَلِكَ أَعْظَمُ من قَتْلِهِ وقال النبي صلى الله عليه وسلم اُقْتُلُوا الْأَسْوَدَيْنِ وَلَوْ كُنْتُمْ في الصَّلَاةِ وَهُمَا الْحَيَّةُ وَالْعَقْرَبُ‏.‏

وَهَذَا تَرْخِيصٌ وإباحة وَإِنْ كانت صِيغَتُهُ صِيغَةَ الْأَمْرِ لِأَنَّ قَتْلَهُمَا ليس من أَعْمَالِ الصَّلَاةِ حتى لو عَالَجَ مُعَالَجَةً كَثِيرَةً في قَتْلِهِمَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ على ما نَذْكُرُ وَيُكْرَهُ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يَسْبِقَ الْإِمَامَ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لِمَا رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال لَا تُبَادِرُونِي بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَإِنِّي قد بَدُنْتُ وَلَوْ سَبَقَهُ يَنْظُرُ إنْ لم يُشَارِكْهُ الْإِمَامُ في الرُّكْنِ الذي سَبَقَهُ أَصْلًا لَا يُجْزِئُهُ ذلك حتى لو لم يُعِدْ الرُّكْنَ وسلم تَفْسُدُ صَلَاتُهُ لِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ عِبَارَةٌ عن الْمُشَارَكَةِ وَالْمُتَابَعَةِ ولم تُوجَدْ في الرُّكْنِ وَإِنْ شَارَكَهُ الْإِمَامُ في ذلك الرُّكْنِ أَجْزَأَهُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الِابْتِدَاءَ وَقَعَ بَاطِلًا وَالْبَاقِي بِنَاءً عليه فَأَخَذَ حُكْمَهُ وَلَنَا أَنَّ الْقَدْرَ الذي وَقَعَتْ فيه الْمُشَارَكَةُ رُكُوعٌ تَامٌّ فَيُكْتَفَى بِهِ وَانْعِدَامُ الْمُشَارَكَةِ فِيمَا قَبْلَهُ لَا يَضُرُّ لِأَنَّهُ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ وَيُكْرَهُ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ من الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ قبل الْإِمَامِ لِقَوْلِهِ إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلَا تَخْتَلِفُوا عليه وَيُكْرَهُ أَنْ يَقْرَأَ في غَيْرِ حَالِ الْقِيَامِ لِأَنَّهُ نهى عن الْقِرَاءَةِ في الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وقال أَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فيه الرَّبَّ جل جلاله وَأَمَّا السُّجُودُ فَأَكْثِرُوا فيه من الدُّعَاءِ فإنه ‏(‏أجدر ‏[‏قمن‏]‏ من‏)‏ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ وَيُكْرَهُ النَّفْخُ في الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ ليس من أَعْمَالِ الصَّلَاةِ وَلَا ضَرُورَةَ فيه بِخِلَافِ التَّنَفُّسِ فإن فيه ضَرُورَةً وَهَلْ تَفْسُدُ الصَّلَاةُ بِالنَّفْخِ فَإِنْ لم يَكُنْ مَسْمُوعًا لَا تَفْسُدُ وَإِنْ كان مَسْمُوعًا تَفْسُدُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ في بَيَانِ ما يُفْسِدُ الصَّلَاةَ وَيُكْرَهُ لِمَنْ أتى الْإِمَامَ وهو رَاكِعٌ أَنْ يَرْكَعَ دُونَ الصَّفِّ وَإِنْ خَافَ الْفَوْتَ لِمَا رُوِيَ عن أبي بَكْرَةَ أَنَّهُ دخل الْمَسْجِدَ فَوَجَدَ النبي صلى الله عليه وسلم راكعا فَكَبَّرَ لما ‏[‏كما‏]‏ دخل الْمَسْجِدَ وَدَبَّ رَاكِعًا حتى الْتَحَقَ بِالصُّفُوفِ فلما فَرَغَ النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته قال له زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا وَلَا تَعُدْ ولأنه لَا يَخْلُو عن إحْدَى الْكَرَاهَتَيْنِ إمَّا أَنْ يَتَّصِلَ بِالصُّفُوفِ فَيَحْتَاجُ إلَى الْمَشْيِ في الصَّلَاةِ وَإِنَّهُ فِعْلٌ مُنَافٍ لِلصَّلَاةِ في الْأَصْلِ حتى قال بَعْضُ الْمَشَايِخِ إنْ مَشَى خُطْوَةً خُطْوَةً لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَإِنْ مَشَى خُطْوَتَيْنِ خُطْوَتَيْنِ تَفْسُدُ وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ لَا تَفْسُدُ كَيْفَمَا كان لِأَنَّ الْمَسْجِدَ في حُكْمِ مَكَان وَاحِدٍ لَكِنْ لَا أَقَلَّ من الْكَرَاهَةِ وَإِمَّا أَنْ يُتِمَّ الصَّلَاةَ في الْمَوْضِعِ الذي رَكَعَ فيه فَيَكُونُ مُصَلِّيًا خَلْفَ الصُّفُوفِ وَحْدَهُ وأنه مَكْرُوهٌ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ‏:‏ «لَا صَلَاةَ لِمُنْتَبِذٍ خَلْفَ الصُّفُوفِ» وَأَدْنَى أَحْوَالِ النَّفْيِ هو نَفْيُ الْكَمَالِ ثُمَّ الصَّلَاةُ مُنْفَرِدًا خَلْفَ الصَّفِّ إنَّمَا تُكْرَهُ إذَا وَجَدَ فُرْجَةً في الصَّفِّ فَأَمَّا إذَا لم يَجِدْ فَلَا تُكْرَهُ لِأَنَّ الْحَالَ حَالُ الْعُذْرِ وَإِنَّهَا مُسْتَثْنَاةٌ أَلَا تَرَى أنها لو كانت امْرَأَةً يَجِبُ عليها أَنْ تَقُومَ خَلْفَ الصَّفِّ لِأَنَّ مُحَاذَاتَهَا الرَّجُلَ مُفْسِدَةٌ صَلَاةَ الرَّجُلِ فَوَجَبَ الِانْفِرَادُ لِلضَّرُورَةِ وَيَنْبَغِي إذَا لم يَجِدْ فُرْجَةً أَنْ يَنْتَظِرَ من يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ لِيَصْطَفَّ معه خَلْفَ الصَّفِّ فَإِنْ لم يَجِدْ أَحَدًا وَخَافَ فَوْتَ الرَّكْعَةِ جَذَبَ من الصَّفِّ إلَى نَفْسِهِ من يَعْرِفُ منه عِلْمًا وَحُسْنَ الْخُلُقِ لكيلا ‏[‏لكي‏]‏ يَغْضَبَ عليه فَإِنْ لم يَجِدْ يَقِفْ حِينَئِذٍ خَلْفَ الصَّفِّ بِحِذَاءِ الْإِمَامِ قال مُحَمَّدٌ وَيُؤْمَرُ من أَدْرَكَ الْقَوْمَ رُكُوعًا أَنْ يَأْتِيَ وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ وَلَا يُعَجِّلَ في الصَّلَاةِ حتى يُصَلِّ إلَى الصَّفِّ فما أَدْرَكَ مع الْإِمَامِ صلى بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ وما فَاتَهُ قَضَى وَأَصْلُهُ قَوْلُ النبي صلى الله عليه وسلم إذَا أَتَيْتُمْ الصَّلَاةَ فَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَمْشُونَ وَلَا تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ ما أَدْرَكْتُمْ فصلوا وما فَاتَكُمْ فَاقْضُوا وَيُكْرَهُ لِمُصَلِّي الْمَكْتُوبَةِ أَنْ يَعْتَمِدَ على شَيْءٍ إلَّا من عُذْرٍ لِأَنَّ الِاعْتِمَادَ يُخِلُّ بِالْقِيَامِ وَتَرْكُ الْقِيَامِ في الْفَرِيضَةِ لَا يَجُوزُ إلَّا من عُذْرٍ فَكَانَ الْإِخْلَالُ بِهِ مَكْرُوهًا إلَّا من عُذْرٍ وَلَوْ فَعَلَ جَازَتْ صَلَاتُهُ لِوُجُودِ أَصْلِ الْقِيَامِ وَهَلْ يُكْرَهُ ذلك لِمُصَلِّي التَّطَوُّعِ لم يَذْكُرْهُ في الْأَصْلِ وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه قال بَعْضُهُمْ لَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّ تَرْكَ الْقِيَامِ في التَّطَوُّعِ جَائِزٌ من غَيْرِ عُذْرٍ فَالْإِخْلَالُ بِهِ أَوْلَى وقال بَعْضُهُمْ يُكْرَهُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى حَبْلًا مَمْدُودًا في الْمَسْجِدِ فقال لِمَنْ هذا فَقِيلَ لِفُلَانَةَ تُصَلِّي بِاللَّيْلِ فإذا أَعْيَتْ اتَّكَأَتْ فقال لتصل فُلَانَةُ بِاللَّيْلِ فإذا أَعْيَتْ فَلْتَنَمْ وَلِأَنَّ في الِاعْتِمَادِ بَعْضُ التَّنَعُّمِ وَالتَّحَبُّرِ وَلَا يَنْبَغِي لِلْمُصَلِّي أَنْ يَفْعَلَ شيئا من ذلك من غَيْرِ عُذْرٍ وَيُكْرَهُ السَّدْلُ في الصَّلَاةِ وَاخْتُلِفَ في تَفْسِيرِهِ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ سَدْلَ الثَّوْبِ هو أَنْ يَجْعَلَ ثَوْبَهُ على رَأْسِهِ أو على كَتِفَيْهِ وَيُرْسِلَ أَطْرَافَهُ من جَوَانِبِهِ إذَا لم يَكُنْ عليه سَرَاوِيلُ وَرُوِيَ عن الْأَسْوَدِ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ أَنَّهُمَا قَالَا السَّدْلُ يُكْرَهُ سَوَاءٌ كان عليه قَمِيصٌ أو لم يَكُنْ وَرَوَى الْمُعَلَّى عن أبي يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُكْرَهُ السَّدْلُ على الْقَمِيصِ وَعَلَى الْإِزَارِ وقال لِأَنَّهُ صُنْعُ أَهْلِ الْكتاب فَإِنْ كان السَّدْلُ بِدُونِ السَّرَاوِيلِ فَكَرَاهَتُهُ لِاحْتِمَالِ كَشْفِ الْعَوْرَةِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَإِنْ كان مع الْإِزَارِ فَكَرَاهَتُهُ لِأَجْلِ التَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الْكتاب وقال مَالِكٌ لَا بَأْسَ بِهِ كَيْفَمَا كان وقال الشَّافِعِيُّ إنْ كان من الْخُيَلَاءِ يُكْرَهُ وَإِلَّا فَلَا وَالصَّحِيحُ مَذْهَبُنَا لِمَا رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نهى عن السَّدْلِ من غَيْرِ فصل وَيُكْرَهُ لُبْسَةُ الصَّمَّاءِ‏.‏

وَاخْتُلِفَ في تَفْسِيرِهَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ هو أَنْ يَجْمَعَ طَرَفَيْ ثَوْبِهِ وَيُخْرِجَهُمَا تَحْتَ إحْدَى يَدَيْهِ على إحْدَى كَتِفَيْهِ إذَا لم يَكُنْ عليه سَرَاوِيلُ وَإِنَّمَا كُرِهَ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ انْكِشَافُ الْعَوْرَةِ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى فصل بين الِاضْطِبَاعِ وَلُبْسَةِ الصَّمَّاءِ فقال إنَّمَا تَكُونُ لُبْسَةُ الصَّمَّاءِ إذَا لم يَكُنْ عليه إزَارٌ فَإِنْ كان عليه إزَارٌ فَهُوَ اضْطِبَاعٌ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ طَرَفَيْ ثَوْبِهِ تَحْتَ إحْدَى ضَبْعَيْهِ وهو مَكْرُوهٌ لِأَنَّهُ لُبْسُ أَهْلَ الْكِبْرِ وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ لُبْسَةَ الصَّمَّاءِ أَنْ يَلُفَّ الثَّوْبَ على جَمِيعِ بَدَنِهِ من الْعُنُقِ إلَى الرُّكْبَتَيْنِ وإنه مَكْرُوهٌ لما فيه تَرْكَ سُنَّةِ الْيَدِ وَلَا بَأْسَ أَنْ يُصَلِّيَ في ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُتَوَشِّحًا بِهِ أو في قَمِيصٍ وَاحِدٍ وَالْجُمْلَةُ فيه أَنَّ اللُّبْسَ في الصَّلَاةِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ لُبْسٌ مُسْتَحَبٌّ وَلُبْسٌ جَائِزٌ من غَيْرِ كَرَاهَةٍ وَلُبْسٌ مَكْرُوهٌ أَمَّا الْمُسْتَحَبُّ فَهُوَ أَنْ يُصَلِّيَ في ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ قَمِيصٍ وَإِزَارٍ وَرِدَاءٍ وَعِمَامَةٍ كَذَا ذَكَرَ الْفَقِيهُ أبو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ في غَرِيبِ الرِّوَايَةِ عن أَصْحَابِنَا وقال مُحَمَّدٌ إنَّ الْمُسْتَحَبَّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُصَلِّيَ في ثَوْبَيْنِ إزَارٍ وَرِدَاءٍ لِأَنَّ بِهِ يَحْصُلُ سَتْرُ الْعَوْرَةِ وَالزِّينَةُ جميعا وَأَمَّا اللُّبْسُ الْجَائِزُ بِلَا كَرَاهَةٍ فَهُوَ أَنْ يُصَلِّيَ في ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُتَوَشِّحًا بِهِ أو قَمِيصٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ حَصَلَ بِهِ سَتْرُ الْعَوْرَةِ وَأَصْلُ الزِّينَةِ إلَّا أَنَّهُ لم تَتِمَّ الزِّينَةُ وَأَصْلُهُ ما رُوِيَ عن عَلِيٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عن الصَّلَاةِ في ثَوْبٍ وَاحِدٍ فقال أَوَ كُلُّكُمْ يَجِدُ ثَوْبَيْنِ أَشَارَ إلَى الْجَوَازِ وَنَبَّهَ على الْحِكْمَةِ وَهِيَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ لَا يَجِدُ ثَوْبَيْنِ وَهَذَا كُلُّهُ إذَا كان الثَّوْبُ صَفِيقًا لَا يَصِفُ ما تَحْتَهُ فَإِنْ كان رَقِيقًا يَصِفُ ما تَحْتَهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ عَوْرَتَهُ مَكْشُوفَةٌ من حَيْثُ الْمَعْنَى قال النبي صلى الله عليه وسلم لَعَنَ اللَّهُ الْكَاسِيَاتِ الْعَارِيَّاتِ ثُمَّ لم يذكر في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْقَمِيصَ الْوَاحِدَ إذَا كان مَحْلُولَ الْجَيْبِ وَالزِّرِّ هل تَجُوزُ الصَّلَاةُ فيه ذَكَرَ ابن شُجَاعٍ فِيمَنْ صلى مَحْلُولَ الأزرار ‏[‏الإزار‏]‏ وَلَيْسَ عليه إزَارٌ أَنَّهُ إنْ كان بِحَيْثُ لو نَظَرَ رَأَى عَوْرَةَ نَفْسِهِ من زِيقِهِ لم تَجُزْ صَلَاتُهُ وَإِنْ كان بِحَيْثُ لو نَظَرَ لم يَرَ عَوْرَتَهُ جَازَتْ وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى في غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ إنْ كان بِحَالٍ لو نَظَرَ إلَيْهِ غَيْرُهُ يَقَعُ نظره ‏[‏بصره‏]‏ عليه من غَيْرِ تَكَلُّفٍ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَإِنْ كان بِحَالٍ لو نَظَرَ إلَيْهِ غَيْرُهُ لَا يَقَعُ بَصَرُهُ على عَوْرَتِهِ إلَّا بِتَكَلُّفٍ فصلاتُهُ تَامَّةٌ فَكَأَنَّهُ شَرَطَ سَتْرَ الْعَوْرَةِ في حَقِّ غَيْرِهِ لَا في حَقِّ نَفْسِهِ وَعَنْ دَاوُد الطَّائِيِّ أَنَّهُ قال إنْ كان الرَّجُلُ خَفِيفَ اللِّحْيَةِ لم يَجُزْ لِأَنَّهُ يَقَعُ بَصَرُهُ على عَوْرَتِهِ إذَا نَظَرَ من غَيْرِ تَكَلُّفٍ فَيَكُونُ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ في حَقِّ نَفْسِهِ وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ عن نَفْسِهِ وَعَنْ غَيْرِهِ شَرْطُ الْجَوَازِ وَإِنْ كان كَثَّ اللِّحْيَةِ جَازَ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ بَصَرُهُ على عَوْرَتِهِ إلَّا بِتَكَلُّفٍ فَلَا يَكُونُ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ وَأَمَّا اللُّبْسُ الْمَكْرُوهُ فَهُوَ أَنْ يُصَلِّيَ في إزَارٍ وَاحِدٍ أو ‏[‏وسراويل‏]‏ سراويل وَاحِدٍ لِمَا رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نهى أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ في ثَوْبٍ وَاحِدٍ ليس على عَاتِقِهِ منه شَيْءٌ‏.‏

وَلِأَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ إنْ حَصَلَ فلم تَحْصُلْ الزِّينَةُ وقد قال اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كل مَسْجِدٍ‏}‏ وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ ابن عُمَرَ عن الصَّلَاةِ في ثَوْبٍ وقال أَرَأَيْتَ لو أَرْسَلْتُكَ في حَاجَةٍ أَكُنْتَ مُنْطَلِقًا في ثَوْبٍ وَاحِدٍ فقال لَا فقال اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَتَزَيَّنَ له وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّ الصَّلَاةَ في إزَارٍ وَاحِدٍ فِعْلُ أَهْلِ الْجَفَاءِ وفي ثَوْبٍ مُتَوَشِّحًا بِهِ أَبْعَدُ من الْجَفَاءِ وفي إزَارٍ وَرِدَاءٍ من أَخْلَاقِ الْكِرَامِ هذا الذي ذَكَرْنَا في حَقِّ الرَّجُلِ فَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَالْمُسْتَحَبُّ لها ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ في الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا دِرْعٌ وَإِزَارٌ وَخِمَارٌ فَإِنْ صَلَّتْ في ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُتَوَشِّحَةً بِهِ يُجْزِئُهَا إذَا سَتَرَتْ بِهِ رَأْسَهَا وَسَائِرَ جَسَدِهَا سِوَى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ وَإِنْ كان شَيْءٌ مِمَّا سِوَى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ منها مَكْشُوفًا فَإِنْ كان قَلِيلًا جَازَ وَإِنْ كان كَثِيرًا لَا يَجُوزُ وَسَنَذْكُرُ الْحَدَّ الْفَاصِلَ بَيْنَهُمَا إن شاء الله تعالى‏.‏

وَهَذَا في حَقِّ الْحُرَّةِ فَأَمَّا الْأَمَةُ إذَا صَلَّتْ مَكْشُوفَةَ الرَّأْسِ يَجُوزُ لِأَنَّ رَأْسَهَا ليس بِعَوْرَةٍ وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَمْسَحَ جَبْهَتَهُ من التُّرَابِ بعدما فَرَغَ من صَلَاتِهِ قبل أَنْ يُسَلِّمَ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّهُ لو قَطَعَ الصَّلَاةَ في هذه الْحَالَةِ لَا يُكْرَهُ فَلَأَنْ لَا يُكْرَهَ إدْخَالُ فِعْلٍ قَلِيلٍ أَوْلَى وَأَمَّا قبل الْفَرَاغِ من الْأَرْكَانِ فَقَدْ ذُكِرَ في رِوَايَةِ أبي سُلَيْمَانَ فقال قلت فَإِنْ مَسَحَ جَبْهَتَهُ قبل أَنْ يَفْرُغَ قال لَا أَكْرَهُهُ من مَشَايِخِنَا من فَهِمَ من هذه اللَّفْظَةِ نَفْيَ الْكَرَاهَةِ وَجَعَلَ كَلِمَةَ ‏(‏لَا‏)‏ دَاخِلَةً في قَوْلِهِ أَكْرَهُ وَكَذَا ذُكِرَ في آثَارِ أبي حَنِيفَةَ وفي اخْتِلَافِ أبي حَنِيفَةَ وَابْنِ أبي لَيْلَى وَوَجْهُهُ ما رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يَمْسَحُ الْعَرَقَ عن جَبِينِهِ في الصَّلَاةِ وَإِنَّمَا كان يَفْعَلُ ذلك لِأَنَّهُ كان يُؤْذِيهِ فَكَذَا هذا وَمِنْهُمْ من قال كَلِمَةُ لَا مَقْطُوعَةٌ عن قَوْلِهِ أَكْرَهُ فَكَأَنَّهُ قال هل يَمْسَحُ فقال لَا نَفْيًا له ثُمَّ ابْتَدَأَ الْكَلَامَ وقال أَكْرَهُ له ذلك وهو رِوَايَةُ هِشَامٍ في نَوَادِرِهِ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُكْرَهُ فَعَلَى هذا يُحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بين الْمَسْحِ قبل الْفَرَاغِ من الْأَرْكَانِ وَبَيْنَ الْمَسْحِ بَعْدَ الْفَرَاغِ منها قبل السَّلَامِ وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمَسْحَ قبل الْفَرَاغِ لَا يُفِيدُ لِأَنَّهُ يُحْتَاجُ إلَى أَنْ يَسْجُدَ ثَانِيًا فَيَلْتَزِقُ التُّرَابُ بِجَبْهَتِهِ ثَانِيًا وَالْمَسْحُ بَعْدَ الْفَرَاغِ من الْأَرْكَانِ مُفِيدٌ وَلِأَنَّ هذا فِعْلٌ ليس من أَفْعَالِ الصَّلَاةِ فَيُكْرَهُ تَحْصِيلُهُ في وَقْتٍ لَا يُبَاحُ فيه الْخُرُوجُ عن الصَّلَاةِ كَسَائِرِ الْأَفْعَالِ بِخِلَافِ الْمَسْحِ بَعْدَ الْفَرَاغِ من الْأَرْكَانِ وقد رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال أَرْبَعٌ من الْجَفَاءِ وَعَدَّ منها مَسْحَ الْجَبْهَةِ في الصَّلَاةِ وَمِنْهُمْ من وافق ‏[‏وفق‏]‏ فقال جَوَابُ مُحَمَّدٍ فِيمَا إذَا كان تَرَكَهُ لَا يُؤْذِيهِ وَجَوَابُ أبي حَنِيفَةَ مِثْلُهُ في هذه الْحَالَةِ وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ على هذه الْحَالَةِ أو على الْمَسْحِ بِالْيَدَيْنِ وَجَوَابُ أبي حَنِيفَةَ فِيمَا إذَا كان تَرْكُ الْمَسْحِ يُؤْذِيهِ وَيُشْغِلُ قَلْبَهُ عن أَدَاءِ الصَّلَاةِ وَمُحَمَّدٌ يُسَاعِدُهُ في هذه الْحَالَةِ وَلِهَذَا كان النبي صلى الله عليه وسلم يَمْسَحُ الْعَرَقَ عن جَبِينِهِ لِأَنَّ التَّرْكَ كان يُؤْذِيهِ وَيُشْغِلُ قَلْبَهُ وقد بَيَّنَّا ما يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ من الصَّلَاةِ وما يُكْرَه له في فصل الْإِمَامَةِ والله الموفق‏.‏ ‏[‏أعلم‏]‏‏.‏