فصل: مبحث آداب الوضوء

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع ***


مبحث آداب الوضوء

وَأَمَّا آدَابُهُ فما ذَكَرْنَا في الْوُضُوءِ وَأَمَّا بَيَانُ مِقْدَارِ الْمَاءِ الذي يَغْتَسِلُ بِهِ فَقَدْ ذُكِرَ فيظاهر الرِّوَايَةِ وقال أَدْنَى ما يَكْفِي في الْغُسْلِ من الْمَاءِ صَاعٌ وفي الْوُضُوءِ مُدٌّ لِمَا رُوِيَ عن جَابِرٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ فَقِيلَ له إنْ لم يَكْفِنَا فَغَضِبَ وقال لقد كَفَى من هو خَيْرٌ مِنْكُمْ وَأَكْثَرُ شَعْرًا

ثُمَّ إنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ ذَكَرَ الصَّاعَ في الْغُسْلِ وَالْمُدَّ في الْوُضُوءِ مُطْلَقًا عن الْأَحْوَالِ ولم يُفَسِّرْهُ‏.‏ قال بَعْضُ مَشَايِخِنَا هذا التَّقْدِيرُ في الْغُسْلِ إذَا لم يَجْمَعْ بين الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ فَأَمَّا إذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا يَحْتَاجُ إلَى عَشْرَةِ أَرْطَالٍ رَطْلَانِ لِلْوُضُوءِ وَثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ لِلْغُسْلِ وقال عَامَّةُ الْمَشَايِخِ إنَّ الصَّاعَ كَافٍ لَهُمَا‏.‏

وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قال في الْوُضُوءِ إنْ كان المتوضىء ‏[‏المتوضئ‏]‏ مُتَخَفِّفًا وَلَا يَسْتَنْجِي يَكْفِيهِ رَطْلٌ وَاحِدٌ لِغَسْلِ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ وَمَسْحِ الرَّأْسِ وَإِنْ كان مُتَخَفِّفًا وَيَسْتَنْجِي يَكْفِيهِ رَطْلَانِ رَطْلٌ لِلِاسْتِنْجَاءِ وَرَطْلٌ لِلْبَاقِي ثُمَّ هذا التَّقْدِيرُ الذي ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ من الصَّاعِ وَالْمُدِّ في الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ ليس بِتَقْدِيرٍ لَازِمٍ بِحَيْثُ لَا يَجُوزُ النُّقْصَانُ عنه أو الزِّيَادَةُ عليه بَلْ هو بَيَانُ مِقْدَارِ أَدْنَى الْكِفَايَةِ عَادَةً حتى إنَّ من أسبع ‏[‏أسبغ‏]‏ الْوُضُوءَ وَالْغُسْلَ بِدُونِ ذلك أَجْزَأَهُ وَإِنْ لم يَكْفِهِ زَادَ عليه لِأَنَّ طِبَاعَ الناس وَأَحْوَالَهُمْ تَخْتَلِفُ‏.‏ وَالدَّلِيلُ عليه ما رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كان يَتَوَضَّأُ بِثُلُثَيْ مُدٍّ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَزِيدَ عليه بِقَدْرِ ما لَا إسْرَافَ فيه لِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم مَرَّ على سَعْدِ بن أبي وَقَّاصٍ وهو يَتَوَضَّأُ وَيَصُبُّ صَبًّا فَاحِشًا فقال إيَّاكَ وَالسَّرَفَ فقال أو في الْوُضُوءِ سَرَفٌ قال نعم لو كُنْت على ضِفَّةِ نَهْرٍ جَارٍ وفي رواية‏:‏ «وَلَوْ كُنْت على شَطِّ بَحْرٍ» وَأَمَّا صِفَةُ الْغُسْلِ فَالْغُسْلُ قد يَكُونُ فَرْضًا وقد يَكُونُ وَاجِبًا وقد يَكُونُ سُنَّةٌ وقد يَكُونُ مُسْتَحَبًّا‏.‏

أَمَّا الْغُسْلُ الْوَاجِبُ فَهُوَ غُسْلُ الْمَوْتَى والسنة فَهُوَ غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَيَوْمِ عَرَفَةَ وَالْعِيدَيْنِ وَعِنْدَ الْإِحْرَامِ وَسَنَذْكُرُ ذلك في مَوْضِعِهِ إن شاء الله تعالى‏.‏وَهَهُنَا نَذْكُرُ الْمُسْتَحَبَّ وَالْفَرْضَ أَمَّا الْمُسْتَحَبُّ فَهُوَ غُسْلُ الْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كان يَأْمُرُ بِالْغُسْلِ من جَاءَهُ يُرِيدُ الْإِسْلَامَ وَأَدْنَى دَرَجَاتِ الْأَمْرِ النَّدْبُ وَالِاسْتِحْباب هذا إذَا لم يَعْرِفْ أَنَّهُ جُنُبٌ فَأَسْلَمَ فَأَمَّا إذَا عَلِمَ كَوْنَهُ جُنُبًا فَأَسْلَمَ قبل الِاغْتِسَالِ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه قال بَعْضُهُمْ لَا يَلْزَمُهُ الِاغْتِسَالُ أَيْضًا لِأَنَّ الْكُفَّارَ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِشَرَائِعَ هِيَ من الْقُرُبَاتِ وَالْغُسْلُ يَصِيرُ قُرْبَةً بِالنِّيَّةِ فَلَا يَلْزَمُهُ‏.‏

وقال بَعْضُهُمْ يَلْزَمُهُ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يُنَافِي بَقَاءَ الْجَنَابَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُنَافِي بَقَاءَ الْحَدَثِ حتى يَلْزَمَهُ الْوُضُوءُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ كَذَا الْجَنَابَةُ وَعَلَى هذا غُسْلُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ عِنْدَ الْبُلُوغِ وَالْإِفَاقَةِ وَأَمَّا الْغُسْلُ الْمَفْرُوضُ فَثَلَاثَةٌ الْغُسْلُ من الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ أَمَّا الْجَنَابَةُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا‏}‏ أَيْ اغْتَسِلُوا وقَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حتى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حتى تَغْتَسِلُوا‏}‏ فالكلام ‏[‏والكلام‏]‏ في الْجَنَابَةِ في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في بَيَانِ ما تَثْبُتُ بِهِ الْجَنَابَةُ وَيَصِيرُ الشَّخْصُ بِهِ جُنُبًا وَالثَّانِي في بَيَانِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْجَنَابَةِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْجَنَابَةُ تَثْبُتُ بِأُمُورٍ بَعْضُهَا مُجْمَعٌ عليه وَبَعْضُهَا مُخْتَلَفٌ فيه أَمَّا الْمُجْمَعُ عليه فَنَوْعَانِ أَحَدُهُمَا خُرُوجُ الْمَنِيِّ عن شَهْوَةٍ دَفْقًا من غَيْرِ إيلَاجٍ بِأَيِّ سَبَبٍ حَصَلَ الْخُرُوجُ كَاللَّمْسِ وَالنَّظَرِ وَالِاحْتِلَامِ حتى يَجِبَ الْغُسْلُ بِالْإِجْمَاعِ لِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم‏:‏ «الْمَاءُ من الْمَاءِ» أَيْ الِاغْتِسَالُ من الْمَنِيِّ ثُمَّ إنَّمَا وَجَبَ غَسْلُ جَمِيعِ الْبَدَنِ بِخُرُوجِ الْمَنِيِّ ولم يَجِبْ بِخُرُوجِ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَإِنَّمَا وَجَبَ غَسْلُ الْأَعْضَاءِ الْمَخْصُوصَةِ لَا غير لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا إن قَضَاءَ الشَّهْوَةِ بِإِنْزَالِ الْمَنِيِّ اسْتِمْتَاعٌ بِنِعْمَةٍ يَظْهَرُ أَثَرُهَا في جَمِيعِ الْبَدَنِ وهو اللَّذَّةُ فَأَمَرَ بِغَسْلِ جَمِيعِ الْبَدَنِ شُكْرًا لِهَذِهِ النِّعْمَةِ وَهَذَا لَا يَتَقَرَّرُ في الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ‏.‏

وَالثَّانِي إن الْجَنَابَةَ تَأْخُذُ جَمِيعَ الْبَدَنِ ظَاهِرَهُ وَبَاطِنَهُ لِأَنَّ الْوَطْءَ الذي هو سَبَبُهُ لَا يَكُونُ إلَّا بِاسْتِعْمَالٍ لِجَمِيعِ ما في الْبَدَنِ من الْقُوَّةِ حتى يَضْعُفُ الْإِنْسَانُ بِالْإِكْثَارِ منه وَيَقْوَى بِالِامْتِنَاعِ فإذا أَخَذَتْ الْجَنَابَةُ جَمِيعَ الْبَدَنِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ وَجَبَ غَسْلُ جَمِيعِ الْبَدَنِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَلَا كَذَلِكَ الْحَدَثُ فإنه لَا يَأْخُذُ إلَّا الظَّاهِرَ من الْأَطْرَافِ لِأَنَّ سَبَبَهُ يَكُونُ بِظَوَاهِرِ الْأَطْرَافِ من الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَلَا يَكُونَانِ بِاسْتِعْمَالِ جَمِيعِ الْبَدَنِ فَأَوْجَبَ غَسْلَ ظَوَاهِرِ الْأَطْرَافِ لَا جَمِيعَ الْبَدَنِ‏.‏

وَالثَّالِثُ أَنَّ غَسْلَ الْكُلِّ أو الْبَعْضِ وَجَبَ وَسِيلَةً إلَى الصَّلَاةِ التي هِيَ خِدْمَةُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَالْقِيَامُ بين يَدَيْهِ وَتَعْظِيمِهِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُصَلِّي على أَطْهُرْ الْأَحْوَالِ وَأَنْظَفِهَا لِيَكُونَ أَقْرَبَ إلَى التَّعْظِيمِ وَأَكْمَلَ في الْخِدْمَةِ وَكَمَالُ النَّظَافَةِ يَحْصُلُ بِغَسْلِ جَمِيعِ الْبَدَنِ وَهَذَا هو الْعَزِيمَةُ في الْحَدَثِ أَيْضًا إلَّا أَنَّ ذلك مِمَّا يَكْثُرُ وُجُودُهُ فَاكْتَفَى فيه بِأَيْسَرِ النَّظَافَةِ وَهِيَ تَنْقِيَةُ الْأَطْرَافِ التي تَنْكَشِفُ كَثِيرًا وَتَقَعُ عليها الْأَبْصَارُ أَبَدًا وَأُقِيمَ ذلك مَقَامَ غَسْلِ كل الْبَدَنِ رخصة دَفْعًا لِلْحَرَجِ وَتَيْسِيرًا فَضْلًا من اللَّهِ وَنِعْمَةً وَلَا حَرَجَ في الْجَنَابَةِ لِأَنَّهَا لَا تَكْثُرُ فَبَقِيَ الْأَمْرُ فيها على الْعَزِيمَةِ‏.‏

وَالْمَرْأَةُ في الِاحْتِلَامِ كالرجل لِمَا رُوِيَ عن أُمِّ سُلَيْمٍ أنها سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عن الْمَرْأَةِ تَرَى في مَنَامِهَا مِثْلَ ما يَرَى الرَّجُلُ فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنْ كان منها مِثْلُ ما يَكُونُ من الرَّجُلِ فَلْتَغْتَسِلْ وَرُوِيَ أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ كانت مُجَاوِرَةً لِأُمِّ سَلَمَةَ رضي اللَّهُ عنها وَكَانَتْ تَدْخُلُ عليها فَدَخَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأُمُّ سُلَيْمٍ عِنْدَهَا فقالت يا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَرْأَةُ إذَا رَأَتْ أَنَّ زَوْجَهَا يُجَامِعُهَا في الْمَنَامِ أَتَغْتَسِلُ فقالت أُمُّ سَلَمَةَ لِأُمِّ سُلَيْمٍ تَرِبَتْ يَدَاك يا أُمَّ سُلَيْمٍ فضحت ‏[‏فضحكت‏]‏ النِّسَاءُ عِنْدَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقالت أُمُّ سُلَيْمٍ إنَّ اللَّهَ لَا ليستحي ‏[‏يستحي‏]‏ من الْحَقِّ وَإِنَّا إنْ نَسْأَلْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَمَّا يُشْكِلُ عَلَيْنَا خَيْرٌ من أَنْ نَكُونَ فيه على عَمًى فقال رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «بَلْ أَنْتِ يا أُمَّ سَلَمَةَ تَرِبَتْ يَدَاك يا أُمَّ سُلَيْمٍ عليها الْغُسْلُ إذَا وَجَدَتْ الْمَاءَ» وَذَكَرَ ابن رُسْتُمَ في نَوَادِرِهِ إذَا احْتَلَمَ الرَّجُلُ ولم يَخْرُجْ الْمَاءُ من إحْلِيلِهِ لَا غُسْلَ عليه وَالْمَرْأَةُ إذَا احْتَلَمَتْ ولم يَخْرُجْ الْمَاءُ إلَى ظَاهِرِ فَرْجِهَا اغْتَسَلَتْ لِأَنَّ لها فَرْجَيْنِ وَالْخَارِجُ مِنْهُمَا له حُكْمُ الظَّاهِرِ حتى يُفْتَرَضَ إيصَالُ الْمَاءِ إلَيْهِ في الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ فَمِنْ الْجَائِزِ أَنَّ الْمَاءَ بَلَغَ ذلك الْمَوْضِعَ ولم يَخْرُجْ حتى لو كان الرَّجُلُ أَقْلَفَ فَبَلَغَ الْمَاءُ قُلْفَتَهُ وَجَبَ عليه الْغُسْلُ

وَالثَّانِي إيلَاجُ الْفَرْجِ في الْفَرْجِ في السَّبِيلِ الْمُعْتَادِ سَوَاءٌ أَنْزَلَ أو لم يُنْزِلْ لِمَا رُوِيَ أَنَّ الصَّحَابَةَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ لَمَّا اخْتَلَفُوا في وُجُوبِ الْغُسْلِ بِالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ بَعْدَ النبي صلى الله عليه وسلم وكان الْمُهَاجِرُونَ يُوجِبُونَ الْغُسْلَ وَالْأَنْصَارُ لَا بَعَثُوا أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ إلَى عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها فقالت سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول إذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ وَغَابَتْ الْحَشَفَةُ وَجَبَ الْغُسْلُ أَنْزَلَ أو لم يُنْزِلْ فَعَلْت أنا وَرَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاغْتَسَلْنَا فَقَدْ رَوَتْ قَوْلًا وَفِعْلًا وَرُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه ‏[‏عنها‏]‏ أَنَّهُ قال في الْإِكْسَالِ يُوجِبُ الْحَدَّ أَفَلَا يُوجِبُ صَاعًا من مَاءٍ وَلِأَنَّ إدْخَالَ الْفَرْجِ في الْفَرْجِ الْمُعْتَادِ من الْإِنْسَانِ سَبَبٌ لِنُزُولِ الْمَنِيِّ عَادَةً فَيُقَامُ مَقَامَهُ احْتِيَاطًا

وَكَذَا الْإِيلَاجُ في السَّبِيلِ الْآخَرِ حُكْمُهُ حُكْمُ الْإِيلَاجِ في السَّبِيلِ الْمُعْتَادِ في وُجُوبِ الْغُسْلِ بِدُونِ الْإِنْزَالِ أَمَّا على أَصْلِ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُ يُوجِبُ الْحَدَّ أَفَلَا يُوجِبُ صَاعًا من مَاءٍ وَأَمَّا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ فَإِنَّمَا لم يُوجِبْ الْحَدَّ احْتِيَاطًا وَالِاحْتِيَاطُ في وُجُوبِ الْغُسْلِ وَلِأَنَّ الْإِيلَاجَ فيه سَبَبٌ لِنُزُولِ الْمَنِيِّ عَادَةً مِثْلَ الْإِيلَاجِ في السَّبِيلِ الْمُعْتَادِ وَالسَّبَبُ يَقُومُ مَقَامَ الْمُسَبِّبِ خُصُوصًا في مَوْضِعِ الِاحْتِيَاطِ‏.‏

وَلَا غُسْلَ فِيمَا دُونِ الْفَرْجِ بِدُونِ الْإِنْزَالِ وَكَذَا الْإِيلَاجُ في الْبَهَائِمِ لَا يُوجِبُ الْغُسْلَ ما لم يُنْزِلْ وَكَذَا الِاحْتِلَامُ لِأَنَّ الْفِعْلَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ وفي الْبَهِيمَةِ ليس نَظِيرَ الْفِعْلِ في فَرْجِ الْإِنْسَانِ في السَّبَبِيَّةِ وَكَذَا الِاحْتِلَامُ فَيُعْتَبَرُ في ذلك كُلِّهِ حَقِيقَةُ الْإِنْزَالِ وَأَمَّا الْمُخْتَلَفُ فيه فَمِنْهَا أَنْ يَنْفصل الْمَنِيُّ لَا عن شَهْوَةٍ وَيَخْرُجُ لَا عن شَهْوَةٍ بِأَنْ ضَرَبَ على ظَهْرِهِ ضَرْبًا قَوِيًّا أو حَمَلَ حَمْلًا ثَقِيلًا فَلَا غُسْلَ فيه عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فيه الْغُسْلُ وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَيْنَا عن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال الْمَاءُ من الْمَاءِ أَيْ الِاغْتِسَالُ من الْمَنِيِّ من غَيْرِ فصل وَلَنَا ما رُوِيَ عن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ سُئِلَ عن الْمَرْأَةِ تَرَى في الْمَنَامِ يُجَامِعُهَا زَوْجُهَا فقال صلى اللَّهُ عليه وسلم‏:‏ «أَتَجِدُ لَذَّةً فَقِيلَ نعم فقال عليها الِاغْتِسَالُ إذَا وَجَدَتْ الْمَاءَ» وَلَوْ لم يَخْتَلِفْ الْحُكْمُ بِالشَّهْوَةِ وَعَدَمِهَا لم يَكُنْ لِلسُّؤَالِ عن اللَّذَّةِ مَعْنًى وَلِأَنَّ وُجُوبَ الِاغْتِسَالِ مُعَلَّقٌ بِنُزُولِ الْمَنِيِّ وَأَنَّهُ في اللُّغَةِ اسْمٌ المنزل ‏[‏للمنزل‏]‏ عن شَهْوَةٍ لِمَا نَذْكُرُ في تَفْسِيرِ الْمَنِيِّ وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَالْمُرَادُ من الْمَاءِ الْمَاءُ الْمُتَعَارَفُ وهو الْمُنْزَلُ عن شَهْوَةٍ لِانْصِرَافِ مُطْلَقِ الْكَلَامِ إلَى الْمُتَعَارَفِ‏.‏

وَمِنْهَا أَنْ يَنْفصل الْمَنِيُّ عن شَهْوَةٍ وَيَخْرُجُ لَا عن شَهْوَةٍ وإنه يُوجِبُ الْغُسْلَ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ لَا يُوجِبُ فَالْمُعْتَبَرُ عِنْدَهُمَا الِانْفِصَالُ عن شَهْوَةٍ وَعِنْدَهُ الْمُعْتَبَرُ هو الِانْفِصَالُ مع الْخُرُوجِ عن شَهْوَةٍ وَفَائِدَتُهُ تَظْهَرُ في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا إذَا احْتَلَمَ الرَّجُلُ فَانْتَبَهَ وَقَبَضَ على عَوْرَتِهِ حتى سَكَنَتْ شَهْوَتُهُ ثُمَّ خَرَجَ الْمَنِيُّ بِلَا شَهْوَةٍ وَالثَّانِي إذَا جَامَعَ فَاغْتَسَلَ قبل أَنْ يَبُولَ ثُمَّ خَرَجَ منه بَقِيَّةُ الْمَنِيِّ وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ إن جَانِبَ الِانْفِصَالِ يُوجِبُ الْغُسْلَ وَجَانِبَ الْخُرُوجِ يَنْفِيهِ فَلَا يَجِبُ مع الشَّكِّ وَلَهُمَا أَنَّهُ إذَا احْتَمَلَ الْوُجُوبَ وَالْعَدَمَ فَالْقَوْلُ بِالْوُجُوبِ أَوْلَى احْتِيَاطًا وَمِنْهَا أَنَّهُ إذَا اسْتَيْقَظَ فَوَجَدَ على فَخِذِهِ أو على فِرَاشِهِ بَلَلًا على صُورَةِ الْمَذْيِ ولم يَتَذَكَّرْ الِاحْتِلَامَ فَعَلَيْهِ الْغُسْلُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ لَا يَجِبُ‏.‏

وَأَجْمَعُوا أَنَّهُ لو كان مَنِيًّا أَنَّ عليه الْغُسْلُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ عن احْتِلَامٍ وَأَجْمَعُوا أَنَّهُ إنْ كان وَدْيًا لَا غُسْلَ عليه لِأَنَّهُ بَوْلٌ غَلِيظٌ وَعَنْ الْفَقِيهِ أبي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ أَنَّهُ إذَا وَجَدَ على فرشه ‏[‏فراشه‏]‏ مَنِيًّا فَهُوَ على الِاخْتِلَافِ وكان يَقِيسُهُ على ما ذَكَرْنَا من الْمَسْأَلَتَيْنِ‏.‏

وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الْمَذْيَ يُوجِبُ الْوُضُوءَ دُونَ الِاغْتِسَالِ وَلَهُمَا ما رَوَى إمَامُ الْهُدَى الشَّيْخُ أبو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ بِإِسْنَادِهِ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها عن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال إذَا رَأَى الرَّجُلُ بَعْدَ ما يَنْتَبِهُ من نَوْمِهِ بَلَّةً ولم يذكر احْتِلَامًا اغْتَسَلَ وَإِنْ رَأَى احْتِلَامًا ولم يَرَ بَلَّةً فَلَا غُسْلَ عليه وَهَذَا نَصٌّ في الْباب وَلِأَنَّ الْمَنِيَّ قد يَرِقُّ بِمُرُورِ الزَّمَانِ فَيَصِيرُ في صُورَةِ الْمَذْيِ وقد يَخْرُجُ ذَائِبًا لِفَرْطِ حَرَارَةِ الرَّجُلِ أو ضَعْفِهِ فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ في الْإِيجَابِ ثُمَّ الْمَنِيُّ خَاثِرٌ أَبْيَضُ يَنْكَسِرُ منه الذَّكَرُ وقال الشَّافِعِيُّ في كِتَابِهِ أن له رَائِحَةَ الطَّلْعِ وَالْمَذْيُ رَقِيقٌ يَضْرِبُ إلَى الْبَيَاضِ يَخْرُجُ عِنْدَ مُلَاعَبَةِ الرَّجُلِ أَهْلَهُ وَالْوَدْيُ رَقِيقٌ يَخْرُجُ بَعْدَ الْبَوْلِ وَكَذَا رُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أنها فَسَرَّتْ هذه الْمِيَاهَ بِمَا ذَكَرْنَا‏.‏

وَلَا غُسْلَ في الْوَدْيِ وَالْمَذْيِ أَمَّا الْوَدْيُ فَلِأَنَّهُ بَقِيَّةُ الْبَوْلِ وَأَمَّا الْمَذْيُ فَلِمَا رُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال كُنْت رجلا ‏[‏فحلا‏]‏ مَذَّاءً فَاسْتَحْيَيْت أَنْ أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمَكَانِ ابْنَتِهِ تَحْتِي فَأَمَرْت الْمِقْدَادَ بن الْأَسْوَدِ رضي اللَّهُ عنه فَسَأَلَهُ فقال رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كُلُّ فَحْلٍ يُمْذِي» وَفِيهِ الْوُضُوءُ نَصَّ على الْوُضُوءِ وَأَشَارَ إلَى نَفْيِ وُجُوبِ الِاغْتِسَالِ بِعِلَّةِ كَثْرَةِ الْوُقُوعِ بِقَوْلِهِ كُلُّ فَحْلٍ يُمْذِي وَأَمَّا الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْجَنَابَةِ فما لَا يُبَاحُ لِلْمُحْدِثِ فِعْلُهُ من مَسِّ الْمُصْحَفِ بِدُونِ غِلَافِهِ وَمَسِّ الدَّرَاهِمِ التي عليها الْقُرْآنُ وَنَحْوِ ذلك لَا يُبَاحُ لِلْجُنُبِ من طَرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّ الْجَنَابَةَ أَغْلَظُ الْحَدَثَيْنِ وَلَوْ كانت الصَّحِيفَةُ على الْأَرْضِ فَأَرَادَ الْجُنُبُ أَنْ يَكْتُبَ الْقُرْآنَ عليها

رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا بَأْسَ لِأَنَّهُ ليس بِحَامِلٍ لِلصَّحِيفَةِ وَالْكِتَابَةُ تُوجَدُ حَرْفًا حَرْفًا وَهَذَا ليس بِقُرْآنٍ‏.‏

وقال مُحَمَّدٌ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ لَا يَكْتُبَ لِأَنَّ كِتَابَةَ الْحُرُوفِ تَجْرِي مَجْرَى الْقِرَاءَةِ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَتْرُكُ الْكَافِرَ أَنْ يَمَسَّ الْمُصْحَفَ لِأَنَّ الْكَافِرَ نَجَسٌ فَيَجِبُ تَنْزِيهُ الْمُصْحَفِ عن مَسِّهِ وقال مُحَمَّدٌ لَا بَأْسَ بِهِ إذَا اغْتَسَلَ لِأَنَّ الْمَانِعَ هو الْحَدَثُ وقد زَالَ بِالْغُسْلِ وَإِنَّمَا بَقِيَ نَجَاسَةُ اعْتِقَادِهِ وَذَلِكَ في قَلْبِهِ لَا في يَدِهِ وَلَا يُبَاحُ لِلْجُنُبِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وقال مَالِكٌ يُبَاحُ له ذلك وَجْهُ قَوْلِهِ أن الْجَنَابَةَ أَحَدُ الْحَدَثَيْنِ فَيُعْتَبَرُ بِالْحَدَثِ الْآخَرِ وَأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ من الْقِرَاءَةِ كَذَا الْجَنَابَةُ‏.‏

وَلَنَا ما روين ‏[‏روي‏]‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم كان لَا يَحْجِزُهُ شَيْءٌ عن قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ إلَّا الْجَنَابَةُ وَعَنْ عبد اللَّهِ بن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال لَا تَقْرَأُ الْحَائِضُ وَلَا الْجُنُبُ شيئا من الْقُرْآنِ وما ذُكِرَ من الِاعْتِبَارِ فَاسِدٌ لِأَنَّ أَحَدَ الْحَدَثَيْنِ حَلَّ الْفَمَ ولم يَحِلَّ الْآخَرَ فَلَا يَصِحُّ اعْتِبَارُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ وَيَسْتَوِي في الْكَرَاهَةِ الْآيَةُ التَّامَّةُ وما دُونَ الْآيَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ وقال الطَّحَاوِيُّ لَا بَأْسَ بِقِرَاءَةِ ما دُونَ الْآيَةِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِمَا رَوَيْنَا من الْحَدِيثَيْنِ من غَيْرِ فصل بين الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَلِأَنَّ الْمَنْعَ من الْقِرَاءَةِ لِتَعْظِيمِ الْقُرْآنِ وَمُحَافَظَةً حُرْمَتِهِ وَهَذَا لَا يُوجِبُ الْفصل بين الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فيلزم ‏[‏فيكره‏]‏ ذلك كُلُّهُ لَكِنْ إذَا قَصَدَ التِّلَاوَةَ فَأَمَّا إذَا لم يَقْصِدْ بِأَنْ قال بِاسْمِ اللَّهِ لِافْتِتَاحِ الْأَعْمَالِ تَبَرُّكًا أو قال الْحَمْدُ لِلَّهِ لِلشُّكْرِ لَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّهُ من باب ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْجُنُبُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ عن ذلك وَتُكْرَهُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ في الْمُغْتَسَلِ وَالْمَخْرَجِ لِأَنَّ ذلك مَوْضِعُ الْأَنْجَاسِ فَيَجِبُ تَنْزِيهُ الْقُرْآنِ عن ذلك وَأَمَّا في الْحَمَّامِ فَتُكْرَهُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ طَاهِرٌ فَلَا تُكْرَهُ وَلَا يُبَاحُ لِلْجُنُبِ دُخُولُ الْمَسْجِدِ وَإِنْ احْتَاجَ إلَى ذلك يَتَيَمَّمُ وَيَدْخُلُ سَوَاءٌ كان الدُّخُولُ لِقَصْدِ الْمُكْثِ أو لِلِاجْتِيَازِ عِنْدَنَا وقال الشَّافِعِيُّ يُبَاحُ له الدُّخُولُ بِدُونِ التَّيَمُّمِ إذَا كان مُجْتَازًا وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حتى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حتى تَغْتَسِلُوا‏}‏ قِيلَ الْمُرَادُ من الصَّلَاةِ مَكَانُهَا وهو الْمَسْجِدُ كَذَا ورد ‏[‏روي‏]‏ عن ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَابِرُ سَبِيلٍ هو الْمَارُّ يُقَالُ عَبَرَ أَيْ مَرَّ نهى الْجُنُبِ عن دُخُولِ الْمَسْجِدِ بِدُونِ الِاغْتِسَالِ وَاسْتَثْنَى عَابِرِي السَّبِيلِ وَحُكْمُ الْمُسْتَثْنَى يُخَالِفُ حُكْمَ الْمُسْتَثْنَى منه فَيُبَاحُ له الدُّخُولُ بِدُونِ الِاغْتِسَالِ‏.‏

وَلَنَا ما رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏[‏رسول‏]‏ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال سُدُّوا الْأَبْوَابَ فَإِنِّي لَا أُحِلُّهَا لِجُنُبٍ وَلَا لِحَائِضٍ وَالْهَاءُ كِنَايَةٌ عن الْمَسَاجِدِ نفي الْحِلَّ من غَيْرِ فصل بين الْمُجْتَازِ وَغَيْرِهِ وَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ رُوِيَ عن عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهم أَنَّ الْمُرَادَ هو حَقِيقَةُ الصَّلَاةِ وإن عَابِرَ السَّبِيلِ هو الْمُسَافِرُ الْجُنُبُ الذي لَا يَجِدُ الْمَاءَ فَيَتَيَمَّمُ فَكَانَ هذا إبَاحَةَ الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ لِلْجُنُبِ الْمُسَافِرِ إذَا لم يَجِدْ الْمَاءَ وَبِهِ نَقُولُ وَهَذَا التَّأْوِيلُ أَوْلَى لِأَنَّ فيه بَقَاءَ اسْمِ الصَّلَاةِ على حَالِهَا فَكَانَ أَوْلَى أو يَقَعُ التَّعَارُضُ بين التَّأْوِيلَيْنِ فَلَا تَبْقَى الْآيَةُ حُجَّةً له وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَإِنْ طَافَ جَازَ مع النُّقْصَانِ لِمَا ذَكَرْنَا في الْمُحْدِثِ إلَّا أَنَّ النُّقْصَانَ مع الْجَنَابَةِ أَفْحَشُ لِأَنَّهَا أَغْلَظُ وَيَصِحُّ من الْجُنُبِ أَدَاءُ الصَّوْمِ دُونَ الصَّلَاةِ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ شَرْطُ جِوَازِ الصَّلَاةِ دُونَ الصَّوْمِ وَيَجِبُ عليه كِلَاهُمَا حتى يَجِبَ عليه قَضَاؤُهُمَا بِالتَّرْكِ لِأَنَّ الْجَنَابَةَ لَا تَمْنَعُ من وُجُوبِ الصَّوْمِ بِلَا شَكٍّ وَيَصِحُّ أَدَاؤُهُ مع الْجَنَابَةِ وَلَا يُمْنَعُ من وُجُوبِ الصَّلَاةِ وَإِنْ كان لَا يَصِحُّ أَدَاؤُهَا مع قِيَامِ الْجَنَابَةِ لِأَنَّ في وُسْعِهِ رَفْعَهَا بِالْغُسْلِ ‏(‏قبل أَنْ يَتَوَضَّأَ‏)‏‏.‏

وَلَا بَأْسَ لِلْجُنُبِ أَنْ يَنَامَ وَيُعَاوِدَ أَهْلَهُ لِمَا رُوِيَ عن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال يا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيَنَامُ أَحَدُنَا وهو جُنُبٌ قال نعم وَيَتَوَضَّأُ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ وَلَهُ أَنْ يَنَامَ قبل أَنْ يَتَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ لِمَا رُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أنها قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم يَنَامُ وهو جُنُبٌ من غَيْرِ أَنْ يَمَسَّ مَاءً وَلِأَنَّ الْوُضُوءَ ليس بِقُرْبَةٍ بِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا هو لِأَدَاءِ الصَّلَاةِ وَلَيْسَ في النَّوْمِ ذلك وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ أو يَشْرَبَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَمَضْمَضَ وَيَغْسِلَ يَدَيْهِ ثُمَّ يَأْكُلَ وَيَشْرَبَ لِأَنَّ الْجَنَابَةَ حَلَّتْ الْفَمَ فَلَوْ شَرِبَ قبل أَنْ يَتَمَضْمَضَ صَارَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا فَيَصِيرُ شَارِبًا الماء ‏[‏بالماء‏]‏ الْمُسْتَعْمَلِ وَيَدُهُ لَا تَخْلُو عن نَجَاسَةٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يَغْسِلَهَا ثُمَّ يَأْكُلَ وَهَلْ يَجِبُ على الزَّوْجِ ثَمَنُ مَاءِ الِاغْتِسَالِ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه قال بَعْضُهُمْ لَا يَجِبُ سَوَاءٌ كانت الْمَرْأَةُ غَنِيَّةً أو فَقِيرَةً غير أنها إنْ كانت فَقِيرَةً يُقَالُ لِلزَّوْجِ إمَّا أَنْ تَدَعَهَا حتى تَنْتَقِلَ إلَى الْمَاءِ أو تَنْقُلَ الْمَاءَ إلَيْهَا‏.‏

وقال بَعْضُهُمْ يَجِبُ وهو قَوْلُ الْفَقِيهِ أبي اللَّيْثِ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لها منه فَنُزِّلَ مَنْزِلَةَ الْمَاءِ الذي لِلشُّرْبِ وَذَلِكَ ‏(‏يجب‏)‏ عليه كَذَا هذا وَأَمَّا الْحَيْضُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ‏}‏ أَيْ يَغْتَسِلْنَ وَلِقَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلم لِلْمُسْتَحَاضَةِ‏:‏ «دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِك» أَيْ أَيَّامَ حَيْضِك ثُمَّ اغْتَسِلِي وَصَلِّي وَلَا نَصَّ في وُجُوبِ الْغُسْلِ من النِّفَاسِ وَإِنَّمَا عُرِفَ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ ثُمَّ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِنَاءً على خَبَرٍ في الْباب لَكِنَّهُمْ تَرَكُوا نَقْلَهُ اكْتِفَاءً بِالْإِجْمَاعِ عن نَقْلِهِ لِكَوْنِ الْإِجْمَاعِ أَقْوَى وَيَجُوزُ أَنَّهُمْ قَاسُوا على دَمِ الْحَيْضِ لِكَوْنِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَمًا خَارِجًا من الرَّحِمِ فَبَنَوْا الْإِجْمَاعَ على الْقِيَاسِ إذْ الْإِجْمَاعُ يَنْعَقِدُ عن الْخَبَرِ وَعَنْ الْقِيَاسِ على ما عُرِفَ في أُصُولِ الْفِقْهِ‏.‏

فصل في تَفْسِيرِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالِاسْتِحَاضَةِ وَأَحْكَامِهَا

ثُمَّ الْكَلَامُ يَقَعُ في تَفْسِيرِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالِاسْتِحَاضَةِ وَأَحْكَامِهَا أَمَّا الْحَيْضُ فَهُوَ في عُرْفِ الشَّرْعِ اسْمٌ لِدَمٍ خَارِجٍ من الرَّحِمِ لَا يَعْقُبُ الْوِلَادَةَ مُقَدَّرٌ بِقَدْرٍ مَعْلُومٍ في وَقْتٍ مَعْلُومٍ فَلَا بُدَّ من مَعْرِفَةِ لَوْنِ الدَّمِ وَحَالِهِ وَمَعْرِفَةِ خُرُوجِهِ وَمِقْدَارِهِ وَوَقْتِهِ أَمَّا لَوْنُهُ فَالسَّوَادُ حَيْضٌ بِلَا خِلَافٍ وَكَذَلِكَ الْحُمْرَةُ عِنْدَنَا‏.‏ وقال الشَّافِعِيُّ دَمُ الْحَيْضِ هو الْأَسْوَدُ فَقَطْ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال لَفَاطِمَةَ بِنْتِ حُبَيْشٍ حين كانت مُسْتَحَاضَةً إذَا كان الْحَيْضُ فإنه دَمٌ أَسْوَدُ فَأَمْسِكِي عن الصَّلَاةِ وإذا كان الْآخَرُ فَتَوَضَّئِي وَصَلِّي وَلَنَا قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَيَسْأَلُونَك عن الْمَحِيضِ قُلْ هو أَذًى‏}‏ جَعَلَ الْحَيْضَ أَذًى وَاسْمُ الْأَذَى لَا يَقْتَصِرُ على الْأَسْوَدِ وَرُوِيَ أَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يَبْعَثْنَ بِالْكُرْسُفِ إلَى عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها فَكَانَتْ تَقُولُ لَا حتى تَرَيْنَ الْقَصَّةَ الْبَيْضَاءَ أَيْ الْبَيَاضَ الْخَالِصَ كَالْجِصِّ فَقَدْ أَخْبَرَتْ أَنَّ ما سِوَى الْبَيَاضِ حَيْضٌ وَالظَّاهِرُ أنها إنَّمَا قالت ذلك سَمَاعًا من رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُ حُكْمٌ لَا يُدْرَكُ بِالِاجْتِهَادِ وَلِأَنَّ لَوْنَ الدَّمِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَغْذِيَةِ فَلَا مَعْنَى لِلْقَصْرِ على لَوْنٍ وَاحِدٍ وما رَوَاهُ غَرِيبٌ فَلَا يَصْلُحُ مُعَارِضًا لِلْمَشْهُورِ مع ما أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ على أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم عَلِمَ من طَرِيقِ الْوَحْيِ أَيَّامَ حَيْضِهَا بِلَوْنِ الدَّمِ فَبَنَى الْحُكْمَ في حَقِّهَا على اللَّوْنِ لَا في حَقِّ غَيْرِهَا وَغَيْرُ النبي صلى الله عليه وسلم لَا يَعْلَمُ أَيَّامَ الْحَيْضِ بِلَوْنِ الدَّمِ وَأَمَّا الْكُدْرَةُ فَفِي آخِرِ أَيَّامِ الْحَيْضِ حيض بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا وَكَذَا في أَوَّلِ الْأَيَّامِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وقال أبو يُوسُفَ لَا يَكُونُ حَيْضًا وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْحَيْضَ هو الدَّمُ الْخَارِجُ من الرَّحِمِ لَا من الْعِرْقِ وَدَمُ الرَّحِمِ يَجْتَمِعُ فيه في زَمَانِ الطُّهْرِ ثُمَّ يَخْرُجُ الصَّافِي منه ثُمَّ الْكَدِرُ وَدَمُ الْعِرْقِ يَخْرُجُ الْكَدِرُ منه أَوَّلًا ثُمَّ الصَّافِي فَيُنْظَرُ إنْ خَرَجَ الصَّافِي أَوَّلًا عُلِمَ أَنَّهُ من الرَّحِمِ فَيَكُونُ حَيْضًا وَإِنْ خَرَجَ الْكَدِرُ أَوَّلًا عُلِمَ أَنَّهُ من ‏(‏الْعِرْقِ‏)‏ فَلَا يَكُونُ حَيْضًا وَلَنَا ما ذَكَرْنَا من الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ من غَيْرِ فصل وَقَوْلُهُ إنَّ كُدْرَةَ دَمِ الرَّحِمِ تَتْبَعُ صافية مَمْنُوعٌ وَهَذَا أَمْرٌ غَيْرُ مَعْلُومٍ وقد ‏[‏بل‏]‏ يَتْبَعُ الصَّافِي الْكَدِرَ خُصُوصًا فِيمَا ‏(‏إذا‏)‏ كان الثُّقْبُ من الْأَسْفَلِ وَأَمَّا التُّرْبَةُ فَهِيَ كَالْكُدْرَةِ وَأَمَّا الصُّفْرَةُ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيها فَقَدْ كان الشَّيْخُ أبو مَنْصُورٍ يقول إذَا رَأَتْ في أَوَّلِ أَيَّامِ الْحَيْضِ ابْتِدَاءً كان حَيْضًا أَمَّا إذَا رَأَتْ في آخِرِ أَيَّامِ الطُّهْرِ وَاتَّصَلَ بِهِ أَيَّامَ الْحَيْضِ لَا يَكُونُ حَيْضًا وَالْعَامَّةُ على أنها حَيْضٌ كَيْفَمَا كانت وَأَمَّا الْخُضْرَةُ فَقَدْ قال بَعْضُهُمْ هِيَ مِثْلُ الْكُدْرَةِ فَكَانَتْ على الْخِلَافِ وقال بَعْضُهُمْ الْكَدِرَةُ وَالتُّرْبَةُ وَالصُّفْرَةُ وَالْخُضْرَةُ إنَّمَا تَكُونُ حَيْضًا على الْإِطْلَاقِ من غَيْرِ الْعَجَائِزِ فَأَمَّا في الْعَجَائِزُ فَيُنْظَرُ إنْ وَجَدْتَهَا على الْكُرْسُفِ وَمُدَّةُ الْوَضْعِ قَرِيبَةٌ فَهِيَ حَيْضٌ وَإِنْ كانت مُدَّةُ الْوَضْعِ طَوِيلَةً لم يَكُنْ حَيْضًا لِأَنَّ رَحِمَ الْعَجُوزِ يَكُونُ مُنْتِنًا فَيَتَغَيَّرُ الْمَاءُ لِطُولِ الْمُكْثِ وما عَرَفْت من الْجَوَابِ في هذه الْأَبْوَابِ في الْحَيْضِ فَهُوَ الْجَوَابُ فيها في النِّفَاسِ لِأَنَّهَا أُخْتُ الْحَيْضِ وَأَمَّا خُرُوجُهُ فَهُوَ أَنْ يَنْتَقِلَ من بَاطِنِ الْفَرْجِ إلَى ظَاهِرِهِ إذْ لَا يَثْبُتُ الْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ وَالِاسْتِحَاضَةُ إلَّا بِهِ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ في غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّ في الِاسْتِحَاضَةِ كَذَلِكَ فَأَمَّا الْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ فَإِنَّهُمَا يَثْبُتَانِ إذَا أَحَسَّتْ بِبُرُوزِ الدَّمِ وَإِنْ لم يَبْرُزْ وَجْهُ الْفَرْقِ بين الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالِاسْتِحَاضَةِ على هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ لَهُمَا أَعْنِي الْحَيْضَ وَالنِّفَاسَ وَقْتًا مَعْلُومًا فَتَحْصُلُ بِهِمَا الْمَعْرِفَةُ بِالْإِحْسَاسِ وَلَا كَذَلِكَ الِاسْتِحَاضَةُ لِأَنَّهُ لَا وَقْتَ لها تُعْلَمُ بِهِ فَلَا بُدَّ من الْخُرُوجِ وَالْبُرُوزِ لِيُعْلَمَ‏.‏

وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ما رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً قالت لِعَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أَنَّ فُلَانَةَ تَدْعُو بِالْمِصْبَاحِ لَيْلًا فَتَنْظُرُ إلَيْهَا فقالت عَائِشَةُ رضي اللَّهُ عنها كنا في عَهْدِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا نَتَكَلَّفُ لِذَلِكَ إلَّا بِالْمَسِّ وَالْمَسُّ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْخُرُوجِ وَالْبُرُوزِ وَأَمَّا مِقْدَارُهُ فَالْكَلَامُ فيه في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في أَصْلِ التَّقْدِيرِ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ أَمْ لَا وَالثَّانِي في بَيَانِ ما هو مُقَدَّرٌ بِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ قال عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ أنه مُقَدَّرٌ وقال مَالِكٌ إنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ وَلَيْسَ لِأَقَلِّهِ حَدٌّ وَلَا لِأَكْثَرِهِ غَايَةٌ وَاحْتَجَّ قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَيَسْأَلُونَك عن الْمَحِيضِ قُلْ هو أَذًى‏}‏ جَعَلَ الْحَيْضَ أَذًى من غَيْرِ تَقْدِيرٍ وَلِأَنَّ الْحَيْضَ اسْمُ الدَّمِ الْخَارِجِ من الرَّحِمِ وَالْقَلِيلُ خَارِجٌ من الرَّحِمِ كَالْكَثِيرِ وَلِهَذَا لم يُقَدِّرْ دَمَ النِّفَاسِ وَلَنَا ما رَوَى أبو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ رضي اللَّهُ عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال أَقَلُّ ما يَكُونُ الْحَيْضُ لِلْجَارِيَةِ الثَّيِّبِ وَالْبِكْرِ جميعا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَأَكْثَرُ ما يَكُونُ من الْحَيْضِ عَشْرَةُ أَيَّامٍ وما زَادَ على الْعَشَرَةِ فَهُوَ اسْتِحَاضَةٌ وَهَذَا حَدِيثٌ مَشْهُورٌ وَرُوِيَ عن جَمَاعَةٍ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ منهم عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ وَأَنَسُ بن مَالِكٍ وَعِمْرَانُ بن حُصَيْنٍ وَعُثْمَانُ بن أبي الْعَاصِ الثَّقَفِيُّ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ إنهم قالوا الْحَيْضُ ثَلَاثٌ أَرْبَعٌ خَمْسٌ سِتٌّ سبع ثَمَانٌ تِسْعٌ عَشْرٌ ولم يُرْوَ عن غَيْرِهِمْ خِلَافُهُ فَيَكُونُ إجْمَاعًا وَالتَّقْدِيرُ الشَّرْعِيُّ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِ الْمُقَدَّرِ حُكْمُ المقدر ‏[‏المقدور‏]‏ وبه ‏[‏به‏]‏ تَبَيَّنَ أَنَّ الْخَبَرَ الْمَشْهُورَ وَالْإِجْمَاعَ خَرَجَا بَيَانًا لِلْمَذْكُورِ في الْكِتَابِ وَالِاعْتِبَارُ بِالنِّفَاسِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الْقَلِيلَ هُنَاكَ عُرِفَ خَارِجًا من الرَّحِمِ بِقَرِينَةِ الْوَلَدِ ولم يُوجَدْ هَهُنَا وَأَمَّا الثَّانِي فذكر في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ إن أَقَلَّ الْحَيْضِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا وَحُكِيَ عن أبي يُوسُفَ في النَّوَادِرِ يَوْمَانِ وَأَكْثَرُ الْيَوْمِ الثَّالِثِ وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَيْلَتَيْهِمَا الْمُتَخَلَّلَتَيْنِ‏.‏

وقال الشَّافِعِيُّ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ في قَوْلٍ وفي قَوْلٍ يَوْمٌ بِلَا لَيْلَةٍ وَاحْتَجَّ بِمَا احْتَجَّ بِهِ مَالِكٌ إلَّا أَنَّهُ قال لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْقَلِيلِ حَيْضًا لِأَنَّ أَقْبَالَ النِّسَاءِ لَا تَخْلُو عن قَلِيلِ لَوَثٍ عَادَةً فَيُقَدَّرُ بِالْيَوْمِ أو بِالْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ لِأَنَّهُ أَقَلُّ مِقْدَارٍ يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ وَحُجَّتُنَا ما ذَكَرْنَا مع مَالِكٍ وَحُجَّةُ ما رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّ أَكْثَرَ الشَّيْءِ يُقَامُ مَقَامَ كُلِّهِ وَهَذَا على الْإِطْلَاقِ غَيْرُ سَدِيدٍ فإنه لو جَازَ إقَامَةُ يَوْمَيْنِ وَأَكْثَرُ الْيَوْمِ الثَّالِثِ مَقَامَ الثَّلَاثَةِ لَجَازَ إقَامَةُ يَوْمَيْنِ مَقَامَ الثَّلَاثَةِ لِوُجُودِ الْأَكْثَرِ وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ دُخُولَ اللَّيَالِي ضَرُورَةُ دُخُولِ الْأَيَّامِ الْمَذْكُورَةِ في الحديث لَا مَقْصُودًا وَالضَّرُورَةُ تَرْتَفِعُ بِاللَّيْلَتَيْنِ الْمُتَخَلَّلَتَيْنِ وَالْجَوَابُ أَنَّ دُخُولَ اللَّيَالِي تَحْتَ اسْمِ الْأَيَّامِ ليس من طَرِيقِ الضَّرُورَةِ بَلْ يَدْخُلُ مَقْصُودًا لِأَنَّ الْأَيَّامَ إذَا ذُكِرَتْ بِلَفْظِ الْجَمْعِ تَتَنَاوَلُ ما بِإِزَائِهَا من اللَّيَالِي لُغَةً فَكَانَ دُخُولًا مَقْصُودًا لَا ضَرُورَةً وَأَمَّا أَكْثَرُ الْحَيْضِ فَعَشْرَةُ أَيَّامٍ بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا‏.‏

وقال الشَّافِعِيُّ خَمْسَةَ عشر وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال تَقْعُدُ إحْدَاهُنَّ شَطْرَ عُمْرِهَا لَا تَصُومُ وَلَا تُصَلِّي ثُمَّ أَحَدُ الشَّطْرَيْنِ الذي تُصَلِّي فيه وهو الطُّهْرُ خَمْسَةَ عَشْرَ كَذَا الشَّطْرُ الْآخَرُ وَلِأَنَّ الشَّرْعَ أَقَامَ الشَّهْرَ مَقَامَ حَيْضٍ وَطُهْرٍ في حَقِّ الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ فَهَذَا يَقْتَضِي انْقِسَامَ الشَّهْرِ على الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ وهو أَنْ يَكُونَ نِصْفُهُ طُهْرًا وَنِصْفُهُ حَيْضًا وَلَنَا ما رَوَيْنَا من الحديث الْمَشْهُورِ وإجماع الصَّحَابَةِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ من الشَّطْرِ الْمَذْكُورِ النِّصْفَ لِأَنَّا نَعْلَمُ قَطْعًا أنها لَا تَقْعُدُ نِصْفَ عُمْرِهَا ألا تَرَى أنها لَا تَقْعُدُ حَالَ صِغَرِهَا وَإِيَاسِهَا وَكَذَا زَمَانُ الطُّهْرَ يَزِيدُ على زَمَانِ الْحَيْضِ عَادَةً فَكَانَ الْمُرَادُ ما يُقَرِّبُ من النِّصْفِ وهو عَشْرَةٌ وَكَذَا ليس من ضَرُورَةِ انْقِسَامِ الشَّهْرِ على الطُّهْرِ وَالْحَيْضِ أَنْ تَكُونَ مُنَاصَفَةً إذْ قد تَكُونُ الْقِسْمَةُ مُثَالَثَةً فَيَكُونُ ثُلُثُ الشَّهْرِ لِلْحَيْضِ وَثُلُثَاهُ لِلطُّهْرِ والله أعلم‏.‏

وإذا عرف ‏[‏عرفت‏]‏ مِقْدَارَ الْحَيْضِ لَا بُدَّ من مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ الطُّهْرِ الصَّحِيحِ الذي يُقَابِلُ الْحَيْضَ وَأَقَلُّهُ خَمْسَةَ عَشْرَ يَوْمًا عِنْدَنَا إلَّا ما رُوِيَ عن أبي حَازِمٍ الْقَاضِي وَأَبِي عبد اللَّهِ الْبَلْخِيّ أَنَّهُ تِسْعَةَ عَشْرَ يَوْمًا وقال الشَّافِعِيُّ مِثْلَ قَوْلِنَا وقال مَالِكٌ عَشْرَةُ أَيَّامِ وَجْهُ قَوْلٍ أبي حَازِمٍ وَأَبِي عبد اللَّهِ إن الشَّهْرَ يَشْتَمِلُ على الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ عَادَةً وقد قام الدَّلِيلُ على أَنَّ أَكْثَرَ الْحَيْضِ عَشْرَةً فَيَبْقَى من الشَّهْرِ عِشْرُونَ إلَّا أَنَّا نَقَصْنَا يَوْمًا لِأَنَّ الشَّهْرَ قد يَنْقُصُ بِيَوْمٍ وَلَنَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ على ما قُلْنَا وَنَوْعٌ من الِاعْتِبَارِ بِأَقَلَّ مُدَّةِ الْإِقَامَةِ لِأَنَّ لِمُدَّةِ الطُّهْرِ شَبَهًا بِمُدَّةِ الْإِقَامَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَرْأَةَ بِالطُّهْرِ تَعُودُ إلَى ما سَقَطَ عنها بِالْحَيْضِ كما أَنَّ الْمُسَافِرَ بِالْإِقَامَةِ يَعُودُ إلَى ما سَقَطَ عنه بِالسَّفَرِ ثُمَّ أَقَلُّ مُدَّةِ الْإِقَامَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا كَذَا أَقَلُّ الطُّهْرِ وما قَالَاهُ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَحِيضُ في الشَّهْرِ عَشَرَةً لَا مَحَالَةَ وَلَوْ حَاضَتْ عَشَرَةً لَا تَطْهُرُ عِشْرِينَ لَا مَحَالَةَ بَلْ قد تَحِيضُ ثَلَاثَةً وَتَطْهُرُ عِشْرِينَ وقد تَحِيضُ عَشَرَةً وَتَطْهُرُ خَمْسَةَ عَشَرَ وَأَمَّا أَكْثَرُ الطُّهْرِ فَلَا غَايَةَ له حتى أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا طَهُرَتْ سِنِينَ كَثِيرَةً فَإِنَّهَا تَعْمَلُ ما تَعْمَلُ الطَّاهِرَاتُ بِلَا خِلَافٍ بين الْأَئِمَّةِ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ في بَنَاتِ آدَمَ أَصْلٌ وَالْحَيْضُ عَارِضٌ فإذا لم يَظْهَرْ الْعَارِضُ يَجِبُ بِنَاءُ الْحُكْمِ على الْأَصْلِ وَإِنْ طَالَ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا وَرَاءَ ذلك وهو أَنَّ أَكْثَرَ الطُّهْرِ الذي يَصْلُحُ لِنَصْبِ الْعَادَةِ عِنْدَ الِاسْتِمْرَارِ كَمْ هو قال أبو عِصْمَةَ سَعْدُ بن مُعَاذٍ الْمَرْوَزِيِّ وأبو حَازِمٍ الْقَاضِي أن الطُّهْرَ وَإِنْ طَالَ يَصْلُحُ لِنَصْبِ الْعَادَةِ حتى أن الْمَرْأَةَ إذَا حَاضَتْ خَمْسَةً وَطَهُرَتْ سِتَّةً ثُمَّ اسْتَمَرَّ بها الدَّمُ يُبْنَى الِاسْتِمْرَارُ عليه فَتَقْعُدُ خَمْسَةً وَتُصَلِّي سِتَّةً وَكَذَا لو رَأَتْ أَكْثَرَ من سِتَّةٍ وقال محمد بن إبْرَاهِيمَ الْمَيْدَانِيُّ وَجَمَاعَةٌ من أَهْلِ بُخَارَى أن أَكْثَرَ الطُّهْرِ الذي يَصْلُحُ لِنَصْبِ الْعَادَةِ أَقَلُّ من سِتَّةِ أَشْهُرٍ وإذا كان سِتَّةَ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا لَا يَصْلُحُ لِنَصْبِ الْعَادَةِ وإذا لم يَصْلُحُ له تَرُدُّ أَيَّامَهَا إلَى الشَّهْرِ فَتَقْعُدُ ما كانت رَأَتْ فيه من خَمْسَةٍ أو سِتَّةٍ أو نَحْوِ ذلك وَتُصَلِّي بَقِيَّةَ الشَّهْرِ هَكَذَا دَأْبُهَا‏.‏

وقال محمد بن مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ وأبو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ أَكْثَرُ الطُّهْرِ الذي يَصْلُحُ لِنَصْبِ الْعَادَةِ سَبْعَةٌ وَخَمْسُونَ يَوْمًا وإذا زَادَ عليه تَرُدُّ أَيَّامَهَا إلَى الشَّهْرِ وقال بَعْضُهُمْ أَكْثَرُهُ شَهْرٌ وإذا زَادَ عليه تَرُدُّ إلَى الشَّهْرِ وقال بَعْضُهُمْ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا وَدَلَائِلُ هذه الْأَقَاوِيلِ تُذْكَرُ في كِتَابِ الْحَيْضِ وَأَمَّا وَقْتُهُ فَوَقْتُهُ حين تَبْلُغُ الْمَرْأَةُ تِسْعَ سِنِينَ فَصَاعِدًا عليه أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ فَلَا يَكُونُ الْمَرْئِيُّ فِيمَا دُونَهُ حَيْضًا وإذا بَلَغَتْ تِسْعًا كان حَيْضًا إلَى أَنْ تَبْلُغَ حَدَّ الْإِيَاسِ على اخْتِلَافِ الْمَشَايِخِ في حَدِّهِ وَلَوْ بَلَغَتْ ذلك وقد انْقَطَعَ عنها الدَّمُ ثُمَّ رَأَتْ بَعْدَ ذلك لَا يَكُونُ حَيْضًا وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ يَكُونُ حَيْضًا وَمَوْضِعُ مَعْرِفَةِ ذلك كُلِّهِ كِتَابِ الْحَيْضِ وَأَمَّا النِّفَاسُ فَهُوَ في عُرْفِ الشَّرْعِ اسْمٌ لِلدَّمِ الْخَارِجِ من الرَّحِمِ عَقِيبِ الْوِلَادَةِ‏.‏

وَسُمِّيَ نِفَاسًا إمَّا لِتَنَفُّسِ الرَّحِمِ بِالْوَلَدِ أو لخروج ‏[‏بخروج‏]‏ النَّفْسِ وهو الْوَلَدُ أو الدَّمُ وَالْكَلَامُ في لَوْنِهِ وَخُرُوجِهِ كَالْكَلَامِ في دَمِ الْحَيْضِ وقد ذَكَرْنَاهُ وَأَمَّا الْكَلَامُ في مِقْدَارِهِ فَأَقَلُّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ بِلَا خِلَافٍ حتى إنها إذَا وَلَدَتْ وَنَفِسَتْ وَقْتَ صَلَاةٍ لَا تَجِبُ عليها تِلْكَ الصَّلَاةُ لِأَنَّ النِّفَاسَ دَمُ الرَّحِمِ وقد قام الدَّلِيلُ على كَوْنِ الْقَلِيلُ منه خَارِجًا من الرَّحِمِ وهو شَهَادَةُ الْوِلَادَةِ وَمِثْلُ هذه الدَّلَالَةِ لم يُوجَدْ في باب الْحَيْضِ فلم يُعْرَفْ الْقَلِيلُ منه أَنَّهُ من الرَّحِمِ فلم يَكُنْ حَيْضًا على أَنَّ قَضِيَّةَ الْقِيَاسِ أَنْ لَا يَتَقَدَّرُ أَقَلُّ الْحَيْضِ أَيْضًا كما قال مَالِكٌ إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا التَّقْدِيرَ ثَمَّ بِالتَّوْقِيفِ وَلَا تَوْقِيفَ هَهُنَا فَلَا يَتَقَدَّرُ فإذا طَهُرَتْ قبل الْأَرْبَعِينَ اغْتَسَلَتْ وَصَلَّتْ بِنَاءً على الظَّاهِرِ لِأَنَّ مُعَاوَدَةَ الدَّمِ مَوْهُومٌ فَلَا يُتْرَكُ الْمَعْلُومُ بِالْمَوْهُومِ وما ذُكِرَ من الِاخْتِلَافِ بين أَصْحَابِنَا في أَقَلِّ النِّفَاسِ فَذَاكَ في مَوْضِعٍ آخَرَ وهو أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا طَلُقَتْ بَعْدَ ما وَلَدَتْ ثُمَّ جَاءَتْ وَقَالَتْ نَفِسْت ثُمَّ طَهُرْت ثَلَاثَةَ أَطْهَارٍ وَثَلَاثَ حِيَضٍ فَبِكَمْ تُصَدَّقُ في النِّفَاسِ فَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لَا تُصَدَّقُ إلا إذَا ادَّعَتْ في أَقَلَّ من خَمْسَةَ عَشْرَ يَوْمًا وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ لَا تُصَدَّقُ في أَقَلَّ من أَحَدَ عَشْرَ يَوْمًا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تُصَدَّقُ فِيمَا ادَّعَتْ وَإِنْ كان قَلِيلًا على ما يُذْكَرُ في كِتَابِ الطَّلَاقِ إن شاء الله تعالى‏.‏وَأَمَّا أَكْثَرُ النِّفَاسِ فَأَرْبَعُونَ يَوْمًا عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ سِتُّونَ يَوْمًا وَلَا دَلِيلَ لَهُمَا سِوَى ما حُكِيَ عن الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ كان يقول سِتُّونَ يَوْمًا وَلَا حُجَّةَ في قَوْلِ الشَّعْبِيِّ وَلَنَا ما رُوِيَ عن عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةِ رضي اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال أَكْثَرُ النِّفَاسِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا وَأَمَّا الِاسْتِحَاضَةُ فَهِيَ ما انْتَقَصَ عن أَقَلِّ الْحَيْضِ وما زَادَ على أَكْثَرِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ ثُمَّ الْمُسْتَحَاضَةُ نَوْعَانِ مُبْتَدَأَةٌ وَصَاحِبَةُ عَادَةٍ وَالْمُبْتَدَأَةُ نَوْعَانِ مُبْتَدَأَةٌ بِالْحَيْضِ وَمُبْتَدَأَةٌ بِالْحَبَلِ وَصَاحِبَةُ الْعَادَةِ نَوْعَانِ صَاحِبَةُ الْعَادَةِ في الْحَيْضِ وَصَاحِبَةُ الْعَادَةِ في النِّفَاسِ أَمَّا الْمُبْتَدَأَةُ بِالْحَيْضِ وَهِيَ التي اُبْتُدِئَتْ بِالدَّمِ وَاسْتَمَرَّ بها فَالْعَشَرَةُ من أَوَّلِ الشَّهْرِ حَيْضٌ لِأَنَّ هذا دَمٌ في أَيَّامِ الْحَيْضِ وَأَمْكَنَ جَعْلُهُ حَيْضًا فَيُجْعَلُ حَيْضًا وما زَادَ على الْعَشَرَةِ يَكُونُ اسْتِحَاضَةً لِأَنَّهُ لَا مَزِيدَ لِلْحَيْضِ على الْعَشَرَةِ وَهَكَذَا في كل شَهْرٍ وَأَمَّا صَاحِبَةُ الْعَادَّةِ في الْحَيْض إذَا كانت عَادَتُهَا عَشْرَةً فَزَادَ الدَّمُ عليها فَالزِّيَادَةُ اسْتِحَاضَةٌ وَإِنْ كانت عَادَتُهَا خَمْسَةً فَالزِّيَادَةُ عليها حَيْضٌ مَعَهَا إلَى تَمَامِ الْعَشَرَةِ لِمَا ذَكَرْنَا في الْمُبْتَدَأَةِ بِالْحَيْضِ وَإِنْ جَاوَزَ الْعَشَرَةَ فَعَادَتُهَا حَيْضٌ وما زَادَ عليها اسْتِحَاضَةٌ لِقَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الْمُسْتَحَاضَةُ تَدَعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا» أَيْ أَيَّامُ حَيْضِهَا وَلِأَنَّ ما رَأَتْ في أَيَّامِهَا حَيْضٌ بِيَقِينٍ وما زَادَ على الْعَشَرَةِ اسْتِحَاضَةٌ بِيَقِينٍ وما بين ذلك مُتَرَدِّدٌ بين أَنْ يُلْحَقَ بِمَا قَبْلَهُ فَيَكُونُ حَيْضًا فَلَا تُصَلِّي وَبَيْنَ أَنْ يُلْحَقَ بِمَا بَعْدَهُ فَيَكُونُ اسْتِحَاضَةً فَتُصَلِّي فَلَا تَتْرُكُ الصَّلَاةَ بِالشَّكِّ وَإِنْ لم يَكُنْ لها عَادَةٌ مَعْرُوفَةٌ بِأَنْ كانت تَرَى شَهْرًا سِتًّا وَشَهْرًا سَبْعًا فَاسْتَمَرَّ بها الدَّمُ فَإِنَّهَا تَأْخُذُ في حَقِّ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالرَّجْعَةِ بِالْأَقَلِّ‏.‏

وفي حَقِّ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَالْغَشَيَانِ بِالْأَكْثَرِ فَعَلَيْهَا إذَا رَأَتْ سِتَّةَ أَيَّامٍ في الِاسْتِمْرَارِ أَنْ تَغْتَسِلَ في الْيَوْمِ السَّابِعِ لِتَمَامِ السَّادِسِ وَتُصَلِّيَ فيه وَتَصُومَ إنْ كان دخل عليها شَهْرُ رَمَضَانَ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ السَّابِعُ حَيْضًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونُ فَدَارَ الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ بين الْجَوَازِ منها وَالْوُجُوبِ عليها في الْوَقْتِ فَيَجِبُ وَتَصُومُ رَمَضَانَ احْتِيَاطًا لِأَنَّهَا إنْ فَعَلَتْ وَلَيْسَ عليها أَوْلَى إن تَتْرُكَ وَعَلَيْهَا ذلك وَكَذَلِكَ تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ لِأَنَّ تَرْكَ الرَّجْعَةِ مع ثُبُوتِ حَقِّ الرَّجْعَةِ أَوْلَى من إثْبَاتِهَا من غَيْرِ حَقِّ الرَّجْعَةِ وَأَمَّا في انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ‏(‏وَالْغَشَيَانِ‏)‏ فَتَأْخُذُ بِالْأَكْثَرِ لِأَنَّهَا إنْ تَرَكَتْ التَّزَوُّجَ مع جَوَازِ التَّزَوُّجِ أَوْلَى من أَنْ تَتَزَوَّجَ بِدُونِ حَقِّ التَّزَوُّجِ وَكَذَا تَرْكُ الْغَشَيَانِ مع الْحِلِّ أَوْلَى من الْغَشَيَانِ مع الْحُرْمَةِ فإذا جاء الْيَوْمُ الثَّامِنُ فَعَلَيْهَا أَنْ تَغْتَسِلَ ثَانِيًا وَتَقْضِيَ الْيَوْمَ الذي صَامَتْ في الْيَوْمِ السَّابِعِ لِأَنَّ الْأَدَاءَ كان وَاجِبًا وَوَقَعَ الشَّكُّ في السُّقُوطِ إنْ لم تَكُنْ حَائِضًا فيه صَحَّ صَوْمُهَا وَلَا قَضَاءَ عليها وَإِنْ كانت حَائِضًا فَعَلَيْهَا الْقَضَاءُ فَلَا يَسْقُطُ الْقَضَاءُ بِالشَّكِّ وَلَيْسَ عليها قَضَاءُ الصَّلَوَاتِ لِأَنَّهَا إنْ كانت طَاهِرَةً في هذا الْيَوْمِ فَقَدْ صَلَّتْ وَإِنْ كانت حَائِضًا فيه فَلَا صَلَاةَ عليها لِلْحَالِّ وَلَا الْقَضَاءِ في الثَّانِي وَلَوْ كانت عَادَتُهَا خَمْسَةً فَحَاضَتْ سِتَّةً ثُمَّ حَاضَتْ حَيْضَةً أُخْرَى سَبْعَةً ثُمَّ حَاضَتْ حَيْضَةً أُخْرَى سِتَّةً فَعَادَتُهَا سِتَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ حتى يبني الِاسْتِمْرَارُ عليها أَمَّا عِنْدَ أبي يُوسُفَ فَلِأَنَّ الْعَادَةَ تَنْتَقِلُ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ وَإِنَّمَا يُبْنَى الِاسْتِمْرَارُ على الْمَرَّةِ الْأَخِيرَةِ لِأَنَّ الْعَادَةَ انْتَقَلَتْ إلَيْهَا وَأَمَّا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَيْضًا فَلِأَنَّ الْعَادَةَ وَإِنْ كانت لَا تَنْتَقِلُ إلَّا بِالْمَرَّتَيْنِ فَقَدْ رَأَتْ السِّتَّةَ مَرَّتَيْنِ فَانْتَقَلَتْ عَادَتُهَا إلَيْهَا هذا مَعْنَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ كُلَّمَا عَاوَدَهَا الدَّمُ في يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ فَحَيْضُهَا ذلك‏.‏

وَذَكَرَ في الْأَصْلِ إذَا حَاضَتْ الْمَرْأَةُ في شَهْرٍ مَرَّتَيْنِ فَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ في شَهْرٍ وَاحِدٍ حَيْضَتَانِ وَطُهْرَانِ لِأَنَّ أَقَلَّ الْحَيْضِ ثَلَاثَةٌ وَأَقَلَّ الطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشْرَ يَوْمًا وقد ذَكَرَ في الْأَصْلِ سُؤَالًا وقال أَرَأَيْت لو رَأَتْ في أَوَّلِ الشَّهْرِ خَمْسَةً ثُمَّ طَهُرَتْ خَمْسَةَ عَشْرَ ثُمَّ رَأَتْ الدَّمَ خَمْسَةً أَلَيْسَ قد حَاضَتْ في شهر ‏[‏شهرين‏]‏ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ أَجَابَ فقال إذَا ضَمَمْت إلَيْهِ طُهْرًا آخَرَ كان أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَالشَّهْرُ لَا يَشْتَمِلُ على ذلك وَحُكِيَ أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إلَى عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه وَقَالَتْ إنِّي حِضْت في شَهْرٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فقال عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه لِشُرَيْحٍ مَاذَا تَقُولُ في ذلك فقال إنْ أَقَامَتْ على ذلك بَيِّنَةً من بِطَانَتِهَا مِمَّنْ يُرْضَى بِدِينِهِ وَأَمَانَتِهِ قُبِلَ منها فقال عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه قالون وَهِيَ بِالرُّومِيَّةِ حَسَنٌ وَإِنَّمَا أَرَادَ شُرَيْحٌ بِذَلِكَ تَحْقِيقَ النَّفْيِ أنها لَا تَجِدُ ذلك وَإِنَّ هذا لَا يَكُونُ كما قال اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حتى يَلِجَ الْجَمَلُ في سَمِّ الْخِيَاطِ‏}‏ أَيْ لَا يَدْخُلُونَهَا رَأْسًا وَدَمُ الْحَامِلِ ليس بِحَيْضٍ وَإِنْ كان مُمْتَدًّا عِنْدَنَا وقال الشَّافِعِيُّ هو حَيْضٌ في حَقِّ تَرْكِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَحُرْمَةِ الْقُرْبَانِ لَا في حَقِّ أَقْرَاءِ الْعِدَّةِ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال لَفَاطِمَةَ بِنْتِ حُبَيْشٍ إذا أَقْبَلَ قُرْؤُك فَدَعِي الصَّلَاةَ من غَيْرِ فصل بين حَالٍ وَحَالٍ وَلِأَنَّ الْحَامِلَ من ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ إمَّا أَنْ تَكُونَ صَغِيرَةً أو آيِسَةً أو من ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ وَالْحَامِلُ لَيْسَتْ بِصَغِيرَةٍ وَلَا آيِسَةٍ فَكَانَتْ من ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ إلَّا أَنَّ حَيْضَهَا لَا يُعْتَبَرُ في حَقِّ أَقْرَاءِ الْعِدَّةِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ من أَقْرَاءِ الْعِدَّةِ فَرَاغُ الرَّحِمِ وَحَيْضُهَا لَا يَدُلُّ على ذلك وَلَنَا قَوْلُ عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها الْحَامِلُ لَا تَحِيضُ وَمِثْلُ هذا لَا يُعْرَفُ بِالرَّأْيِ فَالظَّاهِرُ أنها قَالَتْهُ سَمَاعًا من رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلِأَنَّ الْحَيْضَ اسْمٌ لِلدَّمِ الْخَارِجِ من الرَّحِمِ وَدَمُ الْحَامِلِ لَا يَخْرُجُ من الرَّحِمِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجْرَى الْعَادَةَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا حَبِلَتْ يَنْسَدُّ الرَّحِمِ فَلَا يَخْرُجُ منه شَيْءٌ فَلَا يَكُونُ حَيْضًا وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَنَقُولُ بِمُوجِبِهِ لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ إن دَمَ الْحَامِلِ قُرْءٌ وَالْكَلَامُ فيه وَالدَّلِيلُ على أَنَّهُ ليس بِقُرْءٍ ما ذَكَرْنَا وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الحديث لَا يَتَنَاوَلُ حَالَةَ الْحَبْلِ وَأَمَّا الْمُبْتَدَأَةُ بِالْحَبَلِ وَهِيَ التي حَبِلَتْ من زَوْجِهَا قبل أَنْ تَحِيضَ إذَا وَلَدَتْ فَرَأَتْ الدَّمَ زِيَادَةً على أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَهُوَ اسْتِحَاضَةٌ لِأَنَّ الْأَرْبَعِينَ لِلنِّفَاسِ كَالْعَشَرَةِ لِلْحَيْضِ ثُمَّ الزِّيَادَةُ على الْعَشَرَةِ في الْحَيْضِ اسْتِحَاضَةٌ فَكَذَا الزِّيَادَةُ على الْأَرْبَعِينَ في النِّفَاسِ وَأَمَّا صَاحِبَةُ الْعَادَةِ في النِّفَاسِ إذَا رَأَتْ زيادة ‏[‏زيادتها‏]‏ على عَادَتِهَا فَإِنْ كانت عَادَتُهَا أَرْبَعِينَ فَالزِّيَادَةُ اسْتِحَاضَةٌ لِمَا مَرَّ وَإِنْ كانت دُونَ الْأَرْبَعِينَ فما زَادَ يَكُونُ نِفَاسًا إلَى الْأَرْبَعِينَ فَإِنْ زَادَ علي الْأَرْبَعِينَ تُرَدُّ إلَى عَادَتِهَا فَتَكُونُ عَادَتُهَا نِفَاسًا وما زَادَ عليها يَكُونُ اسْتِحَاضَةً ثُمَّ يَسْتَوِي الْجَوَابُ فِيمَا إذَا كان خَتْمُ عَادَتِهَا بِالدَّمِ أو بِالطُّهْرِ عِنْدَ أبي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ إنْ كان خَتْمُ عَادَتِهَا بِالدَّمِ فَكَذَلِكَ وَأَمَّا إذَا كان بِالطُّهْرِ فَلَا لِأَنَّ أَبَا يُوسُفَ يَرَى خَتْمَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ بِالطُّهْرِ إذَا كان بَعْدَهُ دَمٌ وَمُحَمَّدٌ لَا يَرَى ذلك وَبَيَانُهُ ما ذُكِرَ في الْأَصْلِ إذَا كانت عَادَتُهَا في النِّفَاسِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا فَانْقَطَعَ دَمُهَا على رَأْسِ عِشْرِينَ يَوْمًا وَطَهُرَتْ عَشْرَةَ أَيَّامٍ تَمَامَ عَادَتِهَا فصلتْ وَصَامَتْ ثُمَّ عَاوَدَهَا الدَّمُ وَاسْتَمَرَّ بها حتى جَاوَزَ الْأَرْبَعِينَ ذَكَرَ أنها مُسْتَحَاضَةً فِيمَا زَادَ على الثَّلَاثِينَ وَلَا يُجْزِيهَا صَوْمُهَا في الْعَشَرَةِ التي صَامَتْ فَيَلْزَمُهَا الْقَضَاءُ‏.‏

قال الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ هذا على مَذْهَبِ أبي يُوسُفَ يَسْتَقِيمُ فَأَمَّا على مَذْهَبِ مُحَمَّدٍ فَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ أَبَا يُوسُفَ يَرَى خَتْمَ النِّفَاسِ بِالطُّهْرِ إذَا كان بَعْدَهُ دَمٌ فَيُمْكِنُ جَعْلُ الثَّلَاثِينَ نِفَاسًا لها عِنْدَهُ وَإِنْ كان خَتْمُهَا بِالطُّهْرِ وَمُحَمَّدٌ لَا يَرَى خَتْمَ النِّفَاسِ وَالْحَيْضِ بِالطُّهْرِ فَنِفَاسُهَا في هذا الْفصل عِنْدَهُ عِشْرُونَ يَوْمًا فَلَا يَلْزَمُهَا قَضَاءُ ما صَامَتْ في الْعَشَرَةِ الْأَيَّامِ بَعْدَ الْعِشْرِينَ والله أعلم‏.‏

وما تَرَاهُ النُّفَسَاءُ من الدَّمِ بين الْوِلَادَتَيْنِ فَهُوَ دَمٌ صَحِيحٌ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ فَاسِدٌ بِنَاءً على أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا وَلَدَتْ وفي بَطْنِهَا وَلَدٌ آخَرُ فَالنِّفَاسُ من الْوَلَدِ الْأَوَّلِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ من الْوَلَدِ الثَّانِي وَانْقِضَاءُ الْعِدَّةِ بِالْوَلَدِ الثَّانِي بِالْإِجْمَاعِ وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ أَنَّ النِّفَاسَ يَتَعَلَّقُ بِوَضْعِ ما في الْبَطْنِ كَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فتعلق ‏[‏فيتعلق‏]‏ بِالْوَلَدِ الْأَخِيرِ كَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَهَذَا لِأَنَّهَا بَعْدُ حُبْلَى وَكَمَا لَا يُتَصَوَّرُ انْقِضَاءُ عِدَّةِ الجمع ‏[‏الحمل‏]‏ بِدُونِ وَضْعِ الْحَمْلِ لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُ النِّفَاسِ من الْحُبْلَى لِأَنَّ النِّفَاسَ بِمَنْزِلَةِ الْحَيْضِ وَلِأَنَّ النِّفَاسَ مَأْخُوذٌ من تَنَفُّسِ الرَّحِمِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذلك على الْكَمَالِ إلَّا بِوَضْعِ الْوَلَدِ الثَّانِي فَكَانَ الْمَوْجُودُ قبل وَضْعِ الْوَلَدِ الثَّانِي نِفَاسًا من وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَلَا تَسْقُطُ الصَّلَاةُ عنها بِالشَّكِّ كما إذَا وَلَدَتْ وَلَدًا وَاحِدًا وَخَرَجَ بَعْضُهُ دُونَ الْبَعْضِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ النِّفَاسَ إنْ كان دَمًا يَخْرُجُ عَقِيبَ النَّفْسِ فَقَدْ وُجِدَ بِوِلَادَةِ الْأَوَّلِ وَإِنْ كان دَمًا يَخْرُجُ بَعْدَ تَنَفُّسِ الرَّحِمِ فَقَدْ وُجِدَ أَيْضًا بِخِلَافِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لِأَنَّ ذلك يَتَعَلَّقُ بِفَرَاغِ الرَّحِمِ ولم يُوجَدْ وَالنِّفَاسُ يَتَعَلَّقُ بِتَنَفُّسِ الرَّحِمِ أو بِخُرُوجِ النَّفْسِ وقد وُجِدَ أو يقول بَقَاءُ الْوَلَدِ في الْبَطْنِ لَا يُنَافِي النِّفَاسَ لِانْفِتَاحِ الرَّحِمِ وأما الْحَيْضُ من الْحُبْلَى فَمُمْتَنِعٌ لِانْسِدَادِ الرَّحِمِ وَالْحَيْضُ اسْمٌ لِدَمٍ يَخْرُجُ من الرَّحِمِ فَكَانَ الْخَارِجُ دَمَ عِرْقٍ لَا دَمَ رَحِمٍ وَأَمَّا قَوْلُهُمَا وُجِدَ تَنَفُّسُ الرَّحِمِ من وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَمَمْنُوعٌ بَلْ وُجِدَ على سَبِيلِ الْكَمَالِ لِوُجُودِ خُرُوجِ الْوَلَدِ بِكَمَالِهِ بِخِلَافِ ما إذَا خَرَجَ بَعْضُ الْوَلَدِ لِأَنَّ الْخَارِجَ منه إنْ كان أَقَلُّهُ لم تَصِرْ نُفَسَاءَ حتى قالوا يَجِبُ عليها أَنْ تُصَلِّيَ وَتَحْفِرَ لها حَفِيرَةً لِأَنَّ النِّفَاسَ يَتَعَلَّقُ بِالْوِلَادَةِ ولم يُوجَدْ لِأَنَّ الْأَقَلَّ يُلْحَقُ بِالْعَدَمِ بِمُقَابَلَةِ الْأَكْثَرِ فَأَمَّا إذَا كان الْخَارِجُ أَكْثَرَهُ فَالْمَسْأَلَةُ مَمْنُوعَةٌ أو هِيَ على هذا الِاخْتِلَافِ وأما فِيمَا نَحْنُ فيه فَقَدْ وُجِدَتْ الْوِلَادَةُ على طَرِيقِ الْكَمَالِ فَالدَّمُ الذي يَعْقُبُهُ يَكُونُ نِفَاسًا ضَرُورَةً‏.‏

وَالسِّقْطُ إذَا اسْتَبَانَ بَعْضُ خَلْقِهِ فَهُوَ مِثْلُ الْوَلَدِ التَّامِّ يَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامُ الْوِلَادَةِ من انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَصَيْرُورَةِ الْمَرْأَةِ نُفَسَاءَ لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ وَلَدًا مَخْلُوقًا عن الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى بِخِلَافِ ما إذَا لم يَكُنْ اسْتَبَانَ من خَلْقِهِ شَيْءٌ لِأَنَّا لَا نَدْرِي ذَاكَ هو الْمَخْلُوقُ من مَائِهِمَا أو دَمٍ جَامِدٍ أو شَيْءٍ من الْأَخْلَاطِ الرَّدِيَّةِ اسْتَحَالَ إلَى صُورَةِ لَحْمٍ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ شَيْءٌ من أَحْكَامِ الْوِلَادَةِ وَأَمَّا أَحْوَالُ الدَّمِ فَنَقُولُ الدَّمُ قد يُدَرُّ دُرُورًا مُتَّصِلًا وقد يُدَرُّ مَرَّةً وَيَنْقَطِعُ أُخْرَى وَيُسَمَّى الْأَوَّلُ اسْتِمْرَارًا مُتَّصِلًا وَالثَّانِي مُنْفصلا أَمَّا الِاسْتِمْرَارُ الْمُتَّصِلُ فَحُكْمُهُ ظَاهِرٌ وهو أَنْ يُنْظَرَ إنْ كانت الْمَرْأَةُ مُبْتَدَأَةٌ فَالْعَشَرَةُ من أَوَّلِ ما رَأَتْ حَيْضٌ وَالْعِشْرُونَ بَعْدَ ذلك طُهْرُهَا هَكَذَا إلَى أَنْ يُفَرِّجَ اللَّهُ عنها وَإِنْ كانت صَاحِبَةَ عَادَةٍ فَعَادَتُهَا في الْحَيْضِ حَيْضُهَا وَعَادَتُهَا في الطُّهْرِ طُهْرُهَا وَتَكُونُ مُسْتَحَاضَةً في أَيَّامِ طُهْرِهَا وَأَمَّا الِاسْتِمْرَارُ الْمُنْفصل فَهُوَ أَنْ تَرَى الْمَرْأَةُ مَرَّةً دَمًا وَمَرَّةً طُهْرًا هَكَذَا فَنَقُولُ لَا خِلَافَ في أَنَّ الطُّهْرَ الْمُتَخَلِّلَ بين الدَّمَيْنِ إذَا كان خَمْسَةَ عَشْرَ يَوْمًا فَصَاعِدًا يَكُونُ فَاصِلًا بَيْن الدَّمَيْنِ ثُمَّ بَعْدَ ذلك إنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ أَحَدُ الدَّمَيْنِ حَيْضًا يُجْعَلُ ذلك حَيْضًا وَإِنْ أَمْكَنَ جَعْلُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَيْضًا يُجْعَلُ حَيْضًا وَإِنْ كان لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ أَحَدُهُمَا حَيْضًا لَا يُجْعَلُ شَيْءٌ من ذلك حَيْضًا وَكَذَا لَا خِلَافَ بين أَصْحَابِنَا في أَنَّ الطُّهْرَ الْمُتَخَلِّلَ بين الدَّمَيْنِ إذَا كان أَقَلَّ من ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لَا يَكُونُ فَاصِلًا بين الدَّمَيْنِ وَإِنْ كان أَكْثَرَ من الدَّمَيْنِ وَاخْتَلَفُوا فِيمَا بين ذلك وَعَنْ أبي حَنِيفَةَ فيه أَرْبَعُ رِوَايَاتٍ رَوَى أبو يُوسُفَ عنه أَنَّهُ قال الطُّهْرِ الْمُتَخَلِّلُ بين الدَّمَيْنِ إذَا كان أَقَلَّ من خَمْسَةَ عَشْرَ يَوْمًا يَكُونُ طُهْرًا فَاسِدًا وَلَا يَكُونُ فَاصِلًا بين الدَّمَيْنِ بَلْ يَكُونُ كُلُّهُ كَدَمٍ مُتَوَالٍ ثُمَّ يُقَدَّرُ ما يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ حَيْضًا يُجْعَلُ حَيْضًا وَالْبَاقِي يَكُونُ اسْتِحَاضَةً وَرَوَى مُحَمَّدٌ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّ الدَّمَ إذَا كان في طَرَفَيْ الْعَشَرَةِ فَالطُّهْرُ الْمُتَخَلِّلُ بَيْنَهُمَا لَا يَكُونُ فَاصِلًا وَيُجْعَلُ كُلُّهُ كَدَمٍ مُتَوَالٍ وَإِنْ لم يَكُنْ الدَّمُ في طَرَفَيْ الْعَشَرَةِ كان الطُّهْرُ فَاصِلًا بين الدَّمَيْنِ ثُمَّ بَعْدَ ذلك إنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ أَحَدُ الدَّمَيْنِ حَيْضًا يُجْعَلُ ذلك حَيْضًا وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَيْضًا يُجْعَلُ أَسْرَعُهُمَا حَيْضًا وهو أَوَّلُهُمَا وَإِنْ لم يُمْكِنْ جَعْلُ أَحَدِهِمَا حَيْضًا لَا يُجْعَلُ شَيْءٌ من ذلك حَيْضًا وَرَوَى عبد اللَّهِ بن الْمُبَارَكِ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّ الدَّمَ إذَا كان في طَرَفَيْ الْعَشَرَةِ وكان بِحَالٍ لو جُمِعَتْ الدِّمَاءُ الْمُتَفَرِّقَةُ تَبْلُغُ حَيْضًا لَا يَصِيرُ الطُّهْرُ فَاصِلًا بين الدَّمَيْنِ وَيَكُونُ كُلُّهُ حَيْضًا وَإِنْ كان بِحَالٍ لو جُمِعَ لَا يَبْلُغُ حَيْضًا يَصِيرُ فَاصِلًا بين الدَّمَيْنِ ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ أَحَدُ الدَّمَيْنِ حَيْضًا يُجْعَلُ ذلك حَيْضًا وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَيْضًا يُجْعَلُ أَسْرَعُهُمَا حَيْضًا وَإِنْ لم يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ أَحَدُهُمَا حَيْضًا لا يُجْعَلُ شَيْءٌ من ذلك حَيْضًا‏.‏

وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّ الطُّهْرَ الْمُتَخَلِّلَ بين الدَّمَيْنِ إذَا كان أَقَلَّ من ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لَا يَكُونُ فَاصِلًا بين الدَّمَيْنِ وَكُلُّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَوَالِي وإذا كان ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ كان فَاصِلًا بَيْنَهُمَا ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ أَحَدُ الدَّمَيْنِ حَيْضًا جُعِلَ وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَيْضًا يُجْعَلُ أَسْرَعُهُمَا وَإِنْ لم يُمْكِنْ أَنْ يُجْعَلَ شَيْءٍ من ذلك حَيْضًا لَا يُجْعَلُ حَيْضًا وَاخْتَارَ مُحَمَّدٌ لِنَفْسِهِ في كِتَابِ الْحَيْضِ مَذْهَبًا فقال الطُّهْرُ الْمُتَخَلِّلُ بين الدَّمَيْنِ إذَا كان أَقَلَّ من ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لَا يُعْتَبَرُ فَاصِلًا وَإِنْ كان أَكْثَرَ من الدَّمَيْنِ وَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الدَّمِ الْمُتَوَالِي وإذا كان ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا فَهُوَ طُهْرٌ كَثِيرٌ فَيُعْتَبَرُ لَكِنْ يُنْظَرُ بَعْدَ ذلك إنْ كان الطُّهْرُ مِثْلَ الدَّمَيْنِ أو أَقَلَّ من الدَّمَيْنِ في الْعَشَرَةِ لَا يَكُونُ فَاصِلًا وَإِنْ كان أَكْثَرَ من الدَّمَيْنِ يَكُونُ فَاصِلًا ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ أَحَدُهُمَا حَيْضًا جُعِلَ وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَيْضًا يُجْعَلُ أَسْرَعُهُمَا حَيْضًا وَإِنْ لم يُمْكِنْ أَنْ يُجْعَلَ أَحَدُهُمَا حَيْضًا لَا يُجْعَلُ شَيْءٌ من ذلك حَيْضًا وَتَقْرِيرُ هذه الْأَقْوَالِ وَتَفْسِيرُهَا يُذْكَرُ في كِتَابِ الْحَيْضِ إن شاء الله تعالى‏.‏وَأَمَّا حُكْمُ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ فَمَنْعُ جَوَازِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ إلَّا بِغِلَافٍ وَدُخُولِ الْمَسْجِدِ وَالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ لِمَا ذَكَرْنَا في الْجُنُبِ إلَّا أَنَّ الْجُنُبَ يَجُوزَ له أَدَاءُ الصَّوْمِ مع الْجَنَابَةِ وَلَا يَجُوزُ لِلْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ لِأَنَّ الْحَيْضَ وَالنِّفَاسَ أَغْلَظُ من الْحَدَثِ أو بِأَنَّ النَّصَّ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى وهو قَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم تَقْعُدُ إحْدَاهُنَّ شَطْرَ عُمْرِهَا لَا تَصُومُ وَلَا تُصَلِّي أو ثَبَتَ مَعْلُولًا بِدَفْعِ الْحَرَجِ لِأَنَّ دُرُورَ الدَّمِ يُضْعِفُهُنَّ مع أَنَّهُنَّ خُلِقْنَ ضَعِيفَاتٍ في الْجِبِلَّةِ فَلَوْ كُلِّفْنَ بِالصَّوْمِ لَا يَقْدِرْنَ على الْقِيَامِ بِهِ إلَّا بِحَرَجٍ وَهَذَا لَا يُوجَدُ في الْجَنَابَةِ وَلِهَذَا الْجُنُبُ يَقْضِي الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ وَهُنَّ لَا يَقْضِينَ الصَّلَاةَ لِأَنَّ الْحَيْضَ يَتَكَرَّرُ في كل شَهْرٍ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ إلَى الْعَشَرَةِ فَيَجْتَمِعُ عليها صَلَوَاتٌ كَثِيرَةٌ فَتُحْرَجُ في قَضَائِهَا وَلَا حَرَجَ في قَضَاءِ صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أو عَشْرَةِ أَيَّامٍ في السَّنَةِ‏.‏

وَكَذَا يَحْرُمُ الْقُرْبَانُ في حَالَتَيْ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَلَا يَحْرُمُ قُرْبَانُ الْمَرْأَةِ التي أَجْنَبَتْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ في الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ‏}‏ وَمِثْلُ هذا لم يَرِدْ في الْجَنَابَةِ بَلْ وَرَدَتْ الْإِبَاحَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ‏}‏ أَيْ الْوَلَدَ فَقَدْ أَبَاحَ الْمُبَاشَرَةَ وَطَلَبَ الْوَلَدِ وَذَلِكَ بِالْجِمَاعِ مُطْلَقًا عن الْأَحْوَالِ وَأَمَّا حُكْمُ الِاسْتِحَاضَةِ فالاستحاضة ‏[‏فالمستحاضة‏]‏ حُكْمُهَا حُكْمُ الطَّاهِرَاتِ غير أنها تَتَوَضَّأُ لِوَقْتِ كل صَلَاةٍ على ما بَيَّنَّا‏.‏

فصل التَّيَمُّم

وَأَمَّا التَّيَمُّمُ فَالْكَلَامُ في التَّيَمُّمِ يَقَعُ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ جَوَازِهِ وفي بَيَانِ مَعْنَاهُ لُغَةً وَشَرْعًا وفي بَيَانِ رُكْنِهِ وفي كَيْفِيَّتِهِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وفي بَيَانِ ما يُتَيَمَّمُ بِهِ وفي بَيَانِ وَقْتِ التَّيَمُّمِ وفي بَيَانِ صِفَةِ التَّيَمُّمِ وفي بَيَانِ ما يُتَيَمَّمُ منه وفي بَيَانِ ما يَنْقُضُهُ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلَا خِلَافَ في أَنَّ التَّيَمُّمَ من الْحَدَثِ جَائِزٌ عُرِفَ جَوَازُهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أو على سَفَرٍ أو جاء أَحَدٌ مِنْكُمْ من الْغَائِطِ أو لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ فلم تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا‏}‏ وَقِيلَ إنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ في غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ نَزَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلتَّعْرِيسِ فَسَقَطَ من عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها قِلَادَةٌ لِأَسْمَاءِ رضي اللَّهُ عنها فلما ارْتَحَلُوا ذَكَرَتْ ذلك لِرَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَبَعَثَ رَجُلَيْنِ في طَلَبِهَا فَأَقَامَ يَنْتَظِرُهُمَا فَعَدِمَ الناس الْمَاءَ وَحَضَرَتْ صَلَاةُ الْفَجْرِ فَأَغْلَظَ أبو بَكْرٍ رضي اللَّهُ عنه على عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها وقال لها حَبَسْت الْمُسْلِمِينَ فَنَزَلَتْ الْآيَةَ فقال أُسَيْدُ بن حُضَيْرٍ يَرْحَمُك اللَّهُ يا عَائِشَةُ ما نَزَلَ بِك أَمْرٌ تَكْرَهِينَهُ إلَّا جَعَلَ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ فيه فَرَجًا وَأَمَّا السُّنَّةُ فما ‏[‏فلما‏]‏ رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال التَّيَمُّمُ وُضُوءُ الْمُسْلِمِ وَلَوْ إلَى عَشْرِ حِجَجٍ ما لم يَجِدْ الْمَاءَ أو يُحْدِثْ‏.‏

وقال صلى اللَّهُ عليه وسلم‏:‏ «جُعِلَتْ لي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا أَيْنَمَا أَدْرَكَتْنِي الصَّلَاةُ تَيَمَّمْتُ وَصَلَّيْتُ» وَرُوِيَ عنه أَنَّهُ قال‏:‏ «التُّرَابُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ ما لم يَجِدْ الْمَاءَ» وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ وَاخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ في جَوَازِهِ من الْجَنَابَةِ فقال عَلِيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ بن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهم جَائِزٌ وقال عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه وَعَبْدُ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي الله عنهما لَا يَجُوزُ وقال الضَّحَّاكُ رَجَعَ ابن مَسْعُودٍ عن هذا وَحَاصِلُ اخْتِلَافِهِمْ رَاجِعٌ إلَى تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى في آيَةِ التَّيَمُّمِ‏:‏ ‏{‏أو لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ‏}‏ أو لَمَسْتُمْ فَعَلِيٌّ وابن عَبَّاسٍ أَوَّلَا ذلك بِالْجِمَاعِ وَقَالَا كَنَّى اللَّهُ تَعَالَى عن الْوَطْءِ بِالْمَسِيسِ وَالْغَشَيَانِ وَالْمُبَاشَرَةِ وَالْإِفْضَاءِ وَالرَّفَثِ وَعُمَرُ وابن مَسْعُودٍ أَوَّلَاهُ بِالْمَسِّ بِالْيَدِ فلم يَكُنْ الْجُنُبُ دَاخِلًا في هذه الْآيَةِ فَبَقِيَ الْغُسْلُ وَاجِبًا عليه بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا‏}‏ وَأَصْحَابُنَا أَخَذُوا بِقَوْلِ على وَابْنِ عَبَّاسٍ لِمُوَافَقَةِ الْأَحَادِيثِ الْمَرْوِيَّةِ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال لِلْجُنُبِ من الْجِمَاعِ أَنْ يَتَيَمَّمَ إذَا لم يَجِدْ الْمَاءَ‏.‏

وَعَنْ أبي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا جاء إلَى النبي صلى الله عليه وسلم وقال يا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنَّا قَوْمٌ نَسْكُنُ الرِّمَالَ وَلَا نَجِدُ الْمَاءَ شَهْرًا أو شَهْرَيْنِ وَفِينَا الْجُنُبُ وَالنُّفَسَاءُ وَالْحَائِضُ فَكَيْفَ نَصْنَعُ فقال صلى اللَّهُ عليه وسلم‏:‏ «عَلَيْكُمْ بِالْأَرْضِ» وفي رواية‏:‏ «عَلَيْكُمْ بِالصَّعِيدِ» وَكَذَا حَدِيثُ عَمَّارٍ رضي اللَّهُ عنه وَغَيْرِهِ على ما نَذْكُرُهُ وَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ من الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ لِمَا رُوِينَا من حديث أبي هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عنه وَلِأَنَّهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْجَنَابَةِ فَكَانَ وُرُودُ النَّصِّ في الْجَنَابَةِ وُرُودًا فِيهِمَا دَلَالَةٌ وَلِلْمُسَافِرِ أَنْ يُجَامِعَ امْرَأَتَهُ وان كان لَا يَجِدُ الْمَاءَ وقال مَالِكٌ يُكْرَهُ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ جَوَازَ التَّيَمُّمِ لِلْجُنُبِ اخْتَلَفَ فيه كِبَارُ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ فَكَانَ الْجِمَاعُ اكْتِسَابًا لِسَبَبِ وُقُوعِ الشَّكِّ في جَوَازِ الصَّلَاةِ فَيُكْرَهُ وَلَنَا ما رُوِيَ عن أبي مَالِكٍ الْغِفَارِيِّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال قُلْت لِلنَّبِيِّ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَأُجَامِعُ امْرَأَتِي وأنا لَا أَجِدُ الْمَاءَ فقال جَامِعْ إمرأتك وَإِنْ كُنْت لَا تَجِدُ الْمَاءَ إلَى عَشْرِ حِجَجٍ فإن التُّرَابَ كَافِيك وَأَمَّا بَيَانُ مَعْنَاهُ فَالتَّيَمُّمُ في اللُّغَةِ الْقَصْدُ يُقَالُ تَيَمَّمَ وَيَمَّمَ إذَا قَصَدَ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ‏:‏

وما أَدْرِي إذَا يَمَّمْت أَرْضًا *** أُرِيدُ الْخَيْرَ أَيُّهُمَا يَلِينِي

ألخير ‏[‏أألخير‏]‏ الذي أنا أَبْتَغِيهِ *** أَمْ الشَّرُّ الذي هو يَبْتَغِينِي

قَوْلُهُ يَمَّمْت أَيْ قَصَدْت

وفي عُرْفِ الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عن اسْتِعْمَالِ الصَّعِيدِ في عُضْوَيْنِ مَخْصُوصَيْنِ على قَصْدِ التَّطْهِيرِ بِشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ نَذْكُرُهَا في مَوَاضِعِهَا إن شاء الله تعالى‏.‏

فصل ‏[‏في ركن التيمم‏]‏

وَأَمَّا رُكْنُهُ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فيه قال أَصْحَابُنَا هو ضَرْبَتَانِ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ وهو أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وفي قَوْلِهِ الْآخَرِ وهو قَوْلُ مَالِكٍ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إلَى الرُّسْغَيْنِ‏.‏ وقال الزُّهْرِيُّ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إلَى الْآبَاطِ‏.‏ وقال ابن أبي لَيْلَى ضَرْبَتَانِ يَمْسَحُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا الْوَجْهَ وَالذِّرَاعَيْنِ جميعا وقال ابْنَ سِيرِينَ ثَلَاثُ ضَرَبَاتٍ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلذِّرَاعَيْنِ وَضَرْبَةٌ أُخْرَى لَهُمَا جميعا وقال بَعْضُ الناس هو ضَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ يَسْتَعْمِلُهَا في وَجْهِهِ وَيَدَيْهِ وَحُجَّتُهُمْ ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ منه‏}‏ أَمْرٌ بِالتَّيَمُّمِ وَفَسَّرَهُ بِمَسْحِ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ بِالصَّعِيدِ مُطْلَقًا عن شَرْطِ الضَّرْبَةِ وَالضَّرْبَتَيْنِ فَيَجْرِي على إطْلَاقِهِ وَبِهِ يَحْتَجُّ الزُّهْرِيُّ فيقول إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِمَسْحِ الْيَدِ وَالْيَدُ اسْمٌ لِهَذِهِ الْجَارِحَةِ من رؤس الْأَصَابِعِ إلَى الْآبَاطِ وَلَوْلَا ذِكْرُ الْمَرَافِقِ غَايَةً لِلْأَمْرِ بِالْغَسْلِ في باب الْوُضُوءِ لَوَجَبَ غَسْلُ هذا الْمَحْدُودِ وَالْغَايَةُ ذُكِرَتْ في الْوُضُوءِ دُونَ التَّيَمُّمِ‏.‏

وَاحْتَجَّ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ عَمَّارَ بن يَاسِرٍ رضي اللَّهُ عنه أَجْنَبَ فَتَمَعَّكَ في التُّرَابِ فقال له رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَا عَلِمْت أَنَّهُ يَكْفِيك الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ وَلَنَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ منه‏}‏ وَالْآيَةُ حُجَّةٌ على مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِمَسْحِ الْيَدِ فَلَا يَجُوزُ التَّقْيِيدُ بِالرُّسْغِ إلَّا بِدَلِيلٍ وقد قام دَلِيلُ التَّقْيِيدِ بِالْمِرْفَقِ وهو أَنَّ الْمِرْفَقَ جُعِلَ غَايَةً لِلْأَمْرِ بِالْغُسْلِ وهو الْوُضُوءُ وَالتَّيَمُّمُ بَدَلٌ عن الْوُضُوءِ وَالْبَدَلُ لَا يُخَالِفُ الْمُبْدَلَ فَذِكْرُ الْغَايَةِ هُنَاكَ يَكُونُ ذِكْرًا هَهُنَا دَلَالَةً وهو الْجَوَابُ عن قَوْلِ من يقول أن التَّيَمُّمَ ضَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ النَّصَّ لم يَتَعَرَّضْ لِلتَّكْرَارِ لِأَنَّ النَّصَّ إنْ كان لم يَتَعَرَّضْ لِلتَّكْرَارِ أَصْلًا نَصًّا فَهُوَ مُتَعَرِّضٌ له دَلَالَةً لِأَنَّ التَّيَمُّمَ خَلْفٌ عن الْوُضُوءِ وَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ مَاءٍ وَاحِدٍ في عُضْوَيْنِ في الْوُضُوءِ فَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ تُرَابٍ وَاحِدٍ في عُضْوَيْنِ في التَّيَمُّمِ لِأَنَّ الْخَلْفَ لَا يُخَالِفُ الْأَصْلَ وَكَذَا هِيَ حُجَّةٌ على ابْنِ أبي لَيْلَى وَابْنِ سِيرِينَ لِأَنَّ اللَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِمَسْحِ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ فَيَقْتَضِي وُجُودَ فِعْلِ الْمَسْحِ على كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَرَّةً وَاحِدَةً لِأَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ وَفِيمَا قَالَاهُ تَكْرَارٌ فَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ على الْكِتَابِ إلَّا بِدَلِيلٍ صَالِحٍ لِلزِّيَادَةِ وَأَمَّا السُّنَّةُ فما رُوِيَ عن جَابِرٍ رضي اللَّهُ عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال التَّيَمُّمُ ضَرْبَتَانِ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلذِّرَاعَيْنِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ على الْكُلِّ وَأَمَّا حَدِيثُ عَمَّارٍ فَفِيهِ تَعَارُضٌ لِأَنَّهُ رُوِيَ في رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال يَكْفِيك ضَرْبَتَانِ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ وَالْمُتَعَارِضُ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً‏.‏

فصل كَيْفِيَّة التَّيَمُّم

ِوَأَمَّا كَيْفِيَّةُ التَّيَمُّمِ فذكر أبو يُوسُفَ في الْأَمَالِي فقال ‏[‏قال‏]‏ سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ عن التَّيَمُّمِ فقال التَّيَمُّمُ ضَرْبَتَانِ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ فَقُلْت له كَيْفَ هو فَضَرَبَ بِيَدَيْهِ على الْأَرْضِ فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ ثُمَّ نَفَضَهُمَا ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ ثُمَّ أَعَادَ كَفَّيْهِ إلى الصَّعِيدِ ثَانِيًا فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ ثُمَّ نَفَضَهُمَا ثُمَّ مَسَحَ بِذَلِكَ ظَاهِرَ الذِّرَاعَيْنِ وَبَاطِنَهُمَا إلَى الْمِرْفَقَيْنِ‏.‏

وقال بَعْضُ مَشَايِخِنَا يَنْبَغِي أَنْ يَمْسَحَ بِبَاطِنِ أَرْبَعِ أَصَابِعِ يَدِهِ الْيُسْرَى ظَاهِرَ يَدِهِ الْيُمْنَى من رؤوس الْأَصَابِعِ إلَى الْمِرْفَقِ ثُمَّ يَمْسَحُ بِكَفِّهِ الْيُسْرَى دُونَ الْأَصَابِعِ بَاطِنَ يَدِهِ الْيُمْنَى من الْمِرْفَقِ إلَى الرُّسْغِ ثُمَّ يُمِرُّ بِبَاطِنِ إبْهَامِهِ الْيُسْرَى على ظَاهِرِ ابهامه الْيُمْنَى ثُمَّ يَفْعَلُ بِالْيَدِ الْيُسْرَى كَذَلِكَ‏.‏

وقال بَعْضُهُمْ يَمْسَحُ بِالضَّرْبَةِ الثَّانِيَةِ بِبَاطِنِ كَفِّهِ الْيُسْرَى مع الْأَصَابِعِ ظَاهِرَ يَدِهِ الْيُمْنَى إلَى الْمِرْفَقِ ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِ أَيْضًا بَاطِنَ يَدِهِ الْيُمْنَى إلَى أَصْلِ الْإِبْهَامِ ثُمَّ يَفْعَلُ بيده الْيُسْرَى كَذَلِكَ وَلَا يَتَكَلَّفُ وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ إلَى الِاحْتِيَاطِ لِمَا فيه من الِاحْتِرَازِ عن اسْتِعْمَالِ التُّرَابِ الْمُسْتَعْمَلِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ لِأَنَّ التُّرَابَ الذي على الْيَدِ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا بِالْمَسْحِ حتى لَا يَتَأَدَّى فَرْضُ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ بِمَسْحَةٍ وَاحِدَةٍ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ ذَكَرَ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ يَنْفُضُهُمَا نَفْضَةً روي ‏[‏وروي‏]‏ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يَنْفُضُهُمَا نَفْضَتَيْنِ وَقِيلَ إنَّ هذا لَا يُوجِبُ اخْتِلَافًا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ من النَّفْضِ تَنَاثُرُ التُّرَابِ صِيَانَةً عن التَّلَوُّثِ الذي يُشْبِهُ الْمُثْلَةَ إذْ التَّعَبُّدُ وَرَدَ بمس ‏[‏بمسح‏]‏ كفيه ‏[‏كف‏]‏ التُّرَابُ على الْعُضْوَيْنِ لَا تَلْوِيثُهُمَا بِهِ فَلِذَلِكَ يَنْفُضُهُمَا وَهَذَا الْغَرَضُ قد يَحْصُلُ بِالنَّفْضِ مَرَّةً واحدة وقد لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالنَّفْضِ مَرَّتَيْنِ على قَدْرٍ ما يَلْتَصِقُ بِالْيَدَيْنِ من التُّرَابِ فَإِنْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِنَفْضَةٍ وَاحِدَةٍ اكْتَفَى بها وان لم يَحْصُلْ نَفَضَ نَفْضَتَيْنِ وَأَمَّا اسْتِيعَابُ الْعُضْوَيْنِ بِالتَّيَمُّمِ فَهَلْ هو من تَمَامِ الرُّكْنِ لم يَذْكُرْهُ في الْأَصْلِ نَصًّا لَكِنَّهُ ذَكَرَ ما يَدُلُّ عليه فإنه قال إذَا تَرَكَ ظَاهِرَ كَفَّيْهِ لم يُجْزِهِ وَنَصَّ الْكَرْخِيُّ إنه إذَا تَرَكَ شيئا من مَوَاضِعِ التَّيَمُّمِ قَلِيلًا أو كَثِيرًا لَا يَجُوزُ وَذَكَرَ الْحَسَنُ في الْمُجَرَّدِ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا يَمَّمَ الْأَكْثَرَ جَازَ وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ هذا مَسْحٌ فَلَا يَجِبُ فيه الِاسْتِيعَابُ كَمَسْحِ الرَّأْسِ وجه ما ذَكَرَ في الْأَصْلِ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَسْحِ في باب التَّيَمُّمِ تَعَلَّقَ بِاسْمِ الْوَجْهِ وَالْيَدِ وإنه يَعُمُّ الْكُلَّ وَلِأَنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ عن الْوُضُوءِ وَالِاسْتِيعَابُ في الْأَصْلِ من تَمَامِ الرُّكْنِ فَكَذَا في الْبَدَلِ وَعَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَلْزَمُ تَخْلِيلُ الْأَصَابِعِ وَنَزْعُ الْخَاتَمِ وَلَوْ تُرِكَ لم يَجُزْ وَعَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ لَا يَلْزَمُ وَيَجُوزُ وَيَمْسَحُ الْمِرْفَقَيْنِ مع الذِّرَاعَيْنِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ حتى أَنَّهُ لو كان مَقْطُوعَ الْيَدَيْنِ من الْمِرْفَقِ يَمْسَحُ مَوْضِعَ الْقَطْعِ عِنْدَنَا خِلَافًا له وَالْكَلَامُ فيه كَالْكَلَامِ في الْوُضُوءِ وقد مَرَّ وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ‏.‏