فصل: فصل الذي يَرْجِعُ إلَى الصَّيْدِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع ***


فصل الذي يَرْجِعُ إلَى الصَّيْدِ

وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الصَّيْدِ فَنَقُولُ لَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِصَيْدِ الْبَرِّ الْمَأْكُولِ وَغَيْرِ الْمَأْكُولِ عِنْدَنَا إلَّا المؤذى المبتدىء ‏[‏المبتدئ‏]‏ بالأذى غَالِبًا وَالْكَلَامُ في هذا الْفصل يَقَعُ في مَوَاضِعَ في تَفْسِيرِ الصَّيْدِ أَنَّهُ ما هو وفي بَيَانِ أَنْوَاعِهِ وفي بَيَانِ ما يَحِلُّ اصْطِيَادُهُ لِلْمُحْرِمِ وما يَحْرُمُ عليه وفي بَيَانِ حُكْمِ ما يَحْرُمُ عليه اصْطِيَادُهُ إذَا اصْطَادَهُ أَمَّا الْأَوَّلُ فَالصَّيْدُ هو الْمُمْتَنِعُ الْمُتَوَحِّشُ من الناس في أَصْلِ الْخِلْقَةِ إمَّا بِقَوَائِمِهِ أو بِجَنَاحِهِ فَلَا يَحْرُمُ على الْمُحْرِمِ ذَبْحُ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِصَيْدٍ لِعَدَمِ الِامْتِنَاعِ وَالتَّوَحُّشِ من الناس وَكَذَا الدَّجَاجُ وَالْبَطُّ الذي يَكُونُ في الْمَنَازِلِ وهو الْمُسَمَّى بِالْبَطِّ الْكَسْكَرِيِّ لِانْعِدَامِ مَعْنَى الصَّيْدِ فِيهِمَا وهو الِامْتِنَاعُ وَالتَّوَحُّشُ فَأَمَّا الْبَطُّ الذي يَكُونُ عِنْدَ الناس وَيَطِيرُ فَهُوَ صَيْدٌ لِوُجُودِ مَعْنَى الصَّيْدِ فيه وَالْحَمَامُ الْمُسَرْوِلُ صَيْدٌ وَفِيهِ الْجَزَاءُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعِنْدَ مَالِكٍ ليس بِصَيْدٍ‏.‏ وَجْهُ قَوْلِهِ أن الصَّيْدَ اسْمٌ لِلْمُتَوَحِّشِ وَالْحَمَامُ الْمُسَرْوِلِ مُسْتَأْنَسٌ فَلَا يَكُونُ صَيْدًا كَالدَّجَاجِ وَالْبَطِّ الذي يَكُونُ في الْمَنَازِلِ‏.‏

وَلَنَا أَنَّ جِنْسَ الْحَمَامِ مُتَوَحِّشٌ في أَصْلِ الْخِلْقَةِ وَإِنَّمَا يُسْتَأْنَسُ الْبَعْضُ منه بِالتَّوَلُّدِ وَالتَّأْنِيسِ مع بَقَائِهِ صَيْدًا كَالظَّبْيَةِ الْمُسْتَأْنَسَةِ وَالنَّعَامَةِ الْمُسْتَأْنَسَةِ وَالطُّوطِيُّ وَنَحْوِ ذلك حتى يَجِبَ فيه الْجَزَاءُ وَكَذَا الْمُسْتَأْنَسُ في الْخِلْقَةِ قد يَصِيرُ مُسْتَوْحِشًا كَالْإِبِلِ إذَا تَوَحَّشَتْ وَلَيْسَ له حُكْمُ الصَّيْدِ حتى لَا يَجِبُ فيه الْجَزَاءُ فَعُلِمَ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِالتَّوَحُّشِ وَالِاسْتِئْنَاسِ في أَصْلِ الْخِلْقَةِ وَجِنْسُ الْحَمَامِ مُتَوَحِّشٌ في أَصْلِ الْخِلْقَةِ وَإِنَّمَا يُسْتَأْنَسُ الْبَعْضُ منه لِعَارِضٍ فَكَانَ صَيْدًا بِخِلَافِ الْبَطِّ الذي يَكُونُ عِنْدَ الناس في الْمَنَازِلِ فإن ذلك ليس من جِنْسِ الْمُتَوَحِّشِ بَلْ هو من جِنْسٍ آخَرَ وَالْكَلْبُ ليس بِصَيْدٍ لِأَنَّهُ ليس بِمُتَوَحِّشٍ بَلْ هو مُسْتَأْنَسٌ سَوَاءٌ كان أَهْلِيًّا أو حشيا ‏[‏وحشيا‏]‏ لِأَنَّ الْكَلْبَ أَهْلِيٌّ في الْأَصْلِ لَكِنْ رُبَّمَا يَتَوَحَّشُ لِعَارِضٍ فَأَشْبَهَ الْإِبِلَ إذَا تَوَحَّشَتْ وَكَذَا السِّنَّوْرُ الْأَهْلِيُّ ليس بِصَيْدٍ لِأَنَّهُ مُسْتَأْنَسٌ وَأَمَّا الْبَرِّيُّ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ رَوَى هِشَامٌ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّ فيه الْجَزَاءَ وَرَوَى الْحَسَنُ عنه أَنَّهُ لَا شَيْءَ فيه كَالْأَهْلِيِّ وَجْهُ رِوَايَةِ هِشَامٍ أَنَّهُ مُتَوَحِّشٌ فَأَشْبَهَ الثَّعْلَبَ وَنَحْوَهُ وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ جِنْسَ السِّنَّوْرِ مُسْتَأْنَسٌ في أَصْلِ الْخِلْقَةِ وَإِنَّمَا يَتَوَحَّشُ الْبَعْضُ منه لِعَارِضٍ فَأَشْبَهَ الْبَعِيرَ إذَا تَوَحَّشَ وَلَا بَأْسَ بِقَتْلِ الْبُرْغُوثِ وَالْبَعُوضِ وَالنَّمْلَةِ والذباب ‏[‏والذئاب‏]‏ وَالْحَلَمِ وَالْقُرَادِ وَالزُّنْبُورِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِصَيْدٍ لِانْعِدَامِ التَّوَحُّشِ وَالِامْتِنَاعِ‏.‏

أَلَا تَرَى أنها تَطْلُبُ الْإِنْسَانَ مع امْتِنَاعِهِ منها وقد رُوِيَ عن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ كان يُقَرِّدُ بَعِيرَهُ وهو مُحْرِمٌ وَلِأَنَّ هذه الْأَشْيَاءَ من الْمُؤْذِيَاتِ الْمُبْتَدِئَةِ بِالْأَذَى غَالِبًا فَالْتَحَقَتْ بِالْمُؤْذِيَاتِ الْمَنْصُوصِ عليها من الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ وَغَيْرِهِمَا وَلَا يَقْتُلُ الْقَمْلَةَ لَا لِأَنَّهَا صَيْدٌ بَلْ لِمَا فيها من أزالة التَّفَثِ لِأَنَّهُ مُتَوَلَّدٌ من الْبَدَنِ كَالشَّعْرِ وَالْمُحْرِمُ مَنْهِيٌّ عن إزَالَةِ التَّفَثِ من بَدَنِهِ فَإِنْ قَتَلَهَا تَصَدَّقَ بِشَيْءٍ كما لو أَزَالَ شَعْرَةً ولم يذكر في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مِقْدَارَ الصَّدَقَةِ وروي الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قال إذَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ قَمْلَةً أو أَلْقَاهَا أَطْعَمَ كِسْرَةً وَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ أو ثَلَاثًا أَطْعَمَ قَبْضَةً من الطَّعَامِ وَإِنْ كانت كَبِيرَةً أَطْعَمَ نِصْفَ صَاعٍ وَكَذَا لَا يَقْتُلُ الْجَرَادَةَ لِأَنَّهَا صَيْدُ الْبَرِّ أَمَّا كَوْنُهُ صَيْدًا فَلِأَنَّهُ مُتَوَحِّشٌ في أَصْلِ الْخِلْقَةِ وَأَمَّا كَوْنُهُ صَيْدَ الْبَرِّ فلأنه ‏[‏فلأن‏]‏ تَوَالُدَهُ في الْبَرِّ وَلِذَا لَا يَعِيشُ إلَّا في الْبَرِّ حتى لو وَقَعَ في الْمَاءِ يَمُوتُ فَإِنْ قَتَلَهَا تَصَدَّقَ بِشَيْءٍ من الطَّعَامِ

وقد رُوِيَ عن عُمَرَ أَنَّهُ قال تمرة ‏[‏ثمرة‏]‏ خَيْرٌ من جَرَادَةٍ وَلَا بَأْسَ له بِقَتْلِ هَوَامِّ الْأَرْضِ من الْفَأْرَةِ وَالْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ وَالْخَنَافِسِ وَالْجِعْلَانِ وَأُمِّ حنين ‏[‏حبين‏]‏ وَصَيَّاحِ اللَّيْلِ وَالصَّرْصَرِ وَنَحْوِهَا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِصَيْدٍ بَلْ من حَشَرَاتِ الْأَرْضِ وَكَذَا الْقُنْفُذُ وابن عِرْسٍ لِأَنَّهُمَا من الْهَوَامِّ حتى قال أبو يُوسُفَ ابن عِرْسٍ من سِبَاعِ الْهَوَامِّ وَالْهَوَامُّ لَيْسَتْ بِصَيْدٍ لِأَنَّهَا لَا تَتَوَحَّشُ من الناس وقال أبو يُوسُفَ في الْقُنْفُذِ الْجَزَاءُ لِأَنَّهُ من جِنْسِ الْمُتَوَحِّشِ وَلَا يبتدىء بِالْأَذَى‏.‏

فصل بَيَانِ أَنْوَاعِهِ وَبَيَان ما يَحِلُّ لِلْمُحْرِمِ اصْطِيَادُهُ وما يَحْرُمُ عليه

وَأَمَّا بَيَانُ أَنْوَاعِهِ وَبَيَانُ ما يَحِلُّ لِلْمُحْرِمِ اصْطِيَادُهُ وما يَحْرُمُ عليه من كل نَوْعٍ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الصَّيْدُ في الْأَصْلِ نَوْعَانِ بَرِّيٌّ وَبَحْرِيٌّ فَالْبَحْرِيُّ هو الذي تَوَالُدُهُ في الْبَحْرِ سَوَاءٌ كان لَا يَعِيشُ إلَّا في الْبَحْرِ أو يَعِيشُ في الْبَحْرِ وَالْبَرِّ وَالْبَرِّيُّ ما يَكُونُ تَوَالُدُهُ في الْبَرِّ سَوَاءٌ كان لَا يَعِيشُ إلَّا في الْبَرِّ أو يَعِيشُ في الْبَرِّ وَالْبَحْرِ فَالْعِبْرَةُ لِلتَّوَالُدِ أَمَّا صَيْدُ الْبَحْرِ فَيَحِلُّ اصْطِيَادُهُ لِلْحَلَالِ وَالْمُحْرِمِ جميعا مَأْكُولًا كان أو غير مَأْكُولٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ‏}‏ وَالْمُرَادُ منه اصْطِيَادُ ما في الْبَحْرِ لِأَنَّ الصَّيْدَ مَصْدَرٌ يُقَالُ صَادَ يَصِيدُ صَيْدًا وَاسْتِعْمَالُهُ في الْمَصِيدِ مَجَازٌ وَالْكَلَامُ بِحَقِيقَتِهِ إبَاحَةُ اصْطِيَادِ ما في الْبَحْرِ عَامًّا وَأَمَّا صَيْدُ الْبَرِّ فَنَوْعَانِ مَأْكُولٌ وَغَيْرُ مَأْكُولٍ أَمَّا الْمَأْكُولُ فَلَا يَحِلُّ لِلْمُحْرِمِ اصْطِيَادُهُ نحو الظَّبْيِ وَالْأَرْنَبِ وَحِمَارِ الْوَحْشِ وَبَقَرِ الْوَحْشِ وَالطُّيُورِ التي يُؤْكَلُ لُحُومُهَا بَرِّيَّةً كانت أو بَحْرِيَّةً لِأَنَّ الطُّيُورَ كُلَّهَا بَرِّيَّةٌ لِأَنَّ تَوَالُدَهَا في الْبَرِّ وإنما ‏[‏إنما‏]‏ يَدْخُلُ بَعْضُهَا في الْبَحْرِ لِطَلَبِ الرِّزْقِ وَالْأَصْلُ فيه قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُمًا‏}‏ وقَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ‏}‏ ظَاهِرُ الْآيَتَيْنِ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ صَيْدِ الْبَرِّ لِلْمُحْرِمِ عَامًّا أو مُطْلَقًا إلَّا ما خُصَّ أو قُيِّدَ بِدَلِيلٍ‏.‏

وقَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّهُ بِشَيْءٍ من الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ‏}‏ وَالْمُرَادُ منه الِابْتِلَاءُ بِالنَّهْيِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى في سِيَاقِ الْآيَةِ‏:‏ ‏{‏فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذلك فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ أَيْ اعْتَدَى بِالِاصْطِيَادِ بَعْدَ تَحْرِيمِهِ وَالْمُرَادُ منه صَيْدُ الْبَرِّ لِأَنَّ صَيْدَ الْبَحْرِ مُبَاحٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ‏}‏ وَكَذَا لَا يَحِلُّ له الدَّلَالَةُ عليه وَالْإِشَارَةُ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم الدَّالُّ على الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ وَالدَّالُّ على الشَّرِّ كَفَاعِلِهِ وَلِأَنَّ الدَّلَالَةَ وَالْإِشَارَةَ سَبَبٌ إلَى الْقَتْلِ وَتَحْرِيمُ الشَّيْءِ تَحْرِيمٌ لِأَسْبابهِ وَكَذَا لَا يَحِلُّ له الْإِعَانَةُ على قَتْلِهِ لِأَنَّ الْإِعَانَةَ فَوْقَ الدَّلَالَةِ وَالْإِشَارَةِ وَتَحْرِيمُ الْأَدْنَى تَحْرِيمُ الْأَعْلَى من طَرِيقِ الْأَوْلَى كَالتَّأْفِيفِ مع الضَّرْبِ وَالشَّتْمِ وَأَمَّا غَيْرُ الْمَأْكُولِ فَنَوْعَانِ نَوْعٌ يَكُونُ مُؤْذِيًا طَبْعًا مُبْتَدِئًا بِالْأَذَى غَالِبًا وَنَوْعٌ لَا يبتدىء بِالْأَذَى غَالِبًا أَمَّا الذي يبتدىء بِالْأَذَى غَالِبًا فَلِلْمُحْرِمِ أَنْ يَقْتُلَهُ وَلَا شَيْءَ عليه وَذَلِكَ نحو الْأَسَدِ وَالذِّئْبِ وَالنَّمِرِ وَالْفَهْدِ لِأَنَّ دَفْعَ الْأَذَى من غَيْرِ سَبَبٍ مُوجِبٍ لِلْأَذَى وَاجِبٌ فَضْلًا عن الْإِبَاحَةِ وَلِهَذَا أَبَاحَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم قَتْلَ الْخَمْسِ الْفَوَاسِقِ لِلْمُحْرِمِ في الْحِلِّ وَالْحَرَمِ بِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم خَمْسٌ من الْفَوَاسِقِ يَقْتُلهُنَّ الْمُحْرِمُ في الْحِلِّ وَالْحَرَمِ الْحَيَّةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ وَالْغُرَابُ وروى وَالْحِدَأَةُ وروى عن ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال خَمْسٌ يَقْتُلهُنَّ الْمُحِلُّ وَالْمُحْرِمُ في الْحِلِّ وَالْحَرَمِ الْحِدَأَةُ وَالْغُرَابُ وَالْعَقْرَبُ وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ‏.‏

وَرُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها قالت أَمَرَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم بِقَتْلِ خَمْسِ فَوَاسِقَ في الْحِلِّ وَالْحَرَمِ الْحِدَأَةُ وَالْفَأْرَةُ وَالْغُرَابُ وَالْعَقْرَبُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ وَعِلَّةُ الْإِبَاحَةِ فيها هِيَ الِابْتِدَاءُ بِالْأَذَى وَالْعَدْوُ على الناس غَالِبًا فإن من عَادَةِ الْحِدَأَةِ أَنْ تُغِيرَ على اللَّحْمِ وَالْكَرِشِ وَالْعَقْرَبُ تَقْصِدُ من تلدعه ‏[‏تلدغه‏]‏ وَتَتْبَعُ حِسَّهُ وَكَذَا الْحَيَّةُ وَالْغُرَابُ يَقَعُ على دُبُرِ الْبَعِيرِ وَصَاحِبُهُ قَرِيبٌ منه وَالْفَأْرَةُ تَسْرِقُ أَمْوَالَ الناس وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ من شَأْنِهِ الْعَدْوُ على الناس وَعَقْرِهِمْ ابْتِدَاءً من حَيْثُ الْغَالِبِ وَلَا يَكَادُ يَهْرَبُ من بَنِي آدَمَ وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ في الْأَسَدِ وَالذِّئْبِ وَالْفَهْدِ وَالنَّمِرِ فَكَانَ وُرُودُ النَّصِّ في تِلْكَ الْأَشْيَاءِ وُرُودًا في هذه دَلَالَةً قال أبو يُوسُفَ الْغُرَابُ الْمَذْكُورُ في الحديث هو الْغُرَابُ الذي يَأْكُلُ الْجِيَفَ أو يَخْلِطُ مع الْجِيَفِ إذْ هذا النَّوْعُ هو الذي يبتدىء بِالْأَذَى وَالْعَقْعَقُ ليس في مَعْنَاهُ لِأَنَّهُ لَا يَأْكُلُ الْجِيَفَ وَلَا يبتدىء بِالْأَذَى وَأَمَّا الذي لَا يبتدىء بِالْأَذَى غَالِبًا كَالضَّبُعِ وَالثَّعْلَبِ وَغَيْرِهِمَا فَلَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ إنْ عدى ‏[‏عدا‏]‏ عليه وَلَا شَيْءَ عليه إذَا قَتَلَهُ وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وقال زُفَرُ يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمُحَرِّمَ لِلْقَتْلِ قَائِمٌ وهو الْإِحْرَامُ فَلَوْ سَقَطَتْ الْحُرْمَةُ إنَّمَا تَسْقُطُ بِفِعْلِهِ وَفِعْلُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ فَبَقِيَ مُحَرِّمُ الْقَتْلِ كما كان كَالْجَمَلِ الصؤل ‏[‏الصئول‏]‏ إذَا قَتَلَهُ إنْسَانٌ أَنَّهُ يَضْمَنُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا‏.‏

وَلَنَا أَنَّهُ لَمَّا عَدَا عليه وَابْتَدَأَهُ بِالْأَذَى الْتَحَقَ بِالْمُؤْذِيَاتِ طَبْعًا فَسَقَطَتْ عِصْمَتُهُ وقد رُوِيَ عن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ ابْتَدَأَ قَتْلَ ضَبُعٍ فَأَدَّى جَزَاءَهَا وقال إنَّا ابْتَدَأْنَاهَا فَتَعْلِيلُهُ بابتِدَائِهِ قَتْلَهُ إشَارَةٌ إلَى أنها لو ابْتَدَأَتْ لَا يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ وَقَوْلُهُ الْإِحْرَامُ قَائِمٌ مُسَلَّمٌ لَكِنَّ أَثَرَهُ في أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لِلصَّيْدِ لَا في وُجُوبِ تَحَمُّلِ الْأَذَى بَلْ يَجِبُ عليه دَفْعُ الْأَذَى لِأَنَّهُ من صِيَانَةِ نَفْسِهِ عن الْهَلَاكِ وَأَنَّهُ وَاجِبٌ فَسَقَطَتْ عِصْمَتُهُ في حَالِ الْأَذَى فلم يَجِبْ الْجَزَاءُ بِخِلَافِ الْجَمَلِ الصَّائِلِ لِأَنَّ عِصْمَتَهُ ثَبَتَتْ حَقًّا لِمَالِكِهِ ولم يُوجَدْ منه ما يُسْقِطُ الْعِصْمَةَ فَيَضْمَنُ الْقَاتِلُ وَإِنْ لم يَعْدُ عليه لَا يُبَاحُ له أَنْ يَبْتَدِئَهُ بِالْقَتْلِ وَإِنْ قَتَلَهُ ابْتِدَاءً فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُبَاحُ له قَتْلُهُ ابْتِدَاءً وَلَا جَزَاءَ عليه إذَا قَتَلَهُ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أَبَاحَ لِلْمُحْرِمِ قَتْلَ خَمْسٍ من الدَّوَابِّ وَهِيَ لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهَا وَالضَّبُعُ وَالثَّعْلَبُ ما لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ فَكَانَ وُرُودُ النَّصِّ هُنَاكَ وُرُودًا هَهُنَا وَلَنَا قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ‏}‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُمًا‏}‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّهُ بِشَيْءٍ من الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ‏}‏ عَامًّا أو مُطْلَقًا من غَيْرِ فصل بَيْنِ الْمَأْكُولِ وَغَيْرِهِ وَاسْمُ الصَّيْدِ يَقَعُ على الْمَأْكُولِ وَغَيْرِ الْمَأْكُولِ لِوُجُودِ حَدِّ الصَّيْدِ فِيهِمَا جميعا وَالدَّلِيلُ عليه قَوْلُ الشَّاعِرِ‏:‏

صَيْدُ الْمُلُوكِ أَرَانِبُ وَثَعَالِبُ *** وإذا رَكِبْتُ فَصَيْدِي الْأَبْطَالُ

أَطْلَقَ اسْمَ الصَّيْدِ على الثَّعْلَبِ إلَّا أَنَّهُ خَصَّ منها الصَّيْدَ الْعَادِيَ المبتدىء ‏[‏المبتدئ‏]‏ بِالْأَذَى غَالِبًا أو قُيِّدَتْ بِدَلِيلٍ فَمَنْ ادَّعَى تَخْصِيصَ غَيْرِهِ أو التَّقْيِيدَ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ وقد رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال الضَّبُعُ صَيْدٌ وَفِيهِ شَاةٌ إذَا قَتَلَهُ الْمُحْرِمُ وَعَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُمَا أَوْجَبَا في قَتْلِ الْمُحْرِمِ الضَّبُعَ جَزَاءً وَعَنْ عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال في الضَّبُعِ إذَا عَدَا على الْمُحْرِمِ فَلْيَقْتُلْهُ فَإِنْ قَتَلَهُ قبل أَنْ يَعْدُوَ عليه فَعَلَيْهِ شَاةٌ مُسِنَّةٌ وَلَا حُجَّةَ لِلشَّافِعِيِّ في حديث الْخَمْسِ الْفَوَاسِقِ لِأَنَّهُ ليس فيه أَنَّ إبَاحَةَ قَتْلِهِنَّ لِأَجْلِ أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهَا بَلْ فيه إشَارَةٌ إلَى أَنَّ عِلَّةَ الْإِبَاحَةِ فيها الِابْتِدَاءُ بِالْأَذَى غَالِبًا وَلَا يُوجَدُ ذلك في الضَّبُعِ وَالثَّعْلَبِ بَلْ من عَادَتِهِمَا الْهَرَبُ من بَنِي آدَمَ وَلَا يُؤْذِيَانِ أَحَدًا حتى يَبْتَدِئَهُمَا بِالْأَذَى فلم تُوجَدْ عِلَّةُ الْإِبَاحَةِ فِيهِمَا فلم تَثْبُتْ الْإِبَاحَةُ وَعَلَى هذا الْخِلَافِ الضَّبُّ وَالْيَرْبُوعُ وَالسَّمُّورُ وَالدُّلَّف وَالْقِرْدُ وَالْفِيلُ وَالْخِنْزِيرُ لِأَنَّهَا صَيْدٌ لِوُجُودِ مَعْنَى الصَّيْدِ فيها وهو الِامْتِنَاعُ وَالتَّوَحُّشُ وَلَا تبتدىء ‏[‏تبتدئ‏]‏ بِالْأَذَى غَالِبًا فَتَدْخُلُ تَحْتَ ما تَلَوْنَا من الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ‏.‏

وقال زُفَرُ في الْخِنْزِيرِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْجَزَاءُ فيه لِمَا روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال بُعِثْت بِكَسْرِ الْمَعَازِفِ وَقَتْلِ الْخَنَازِيرِ نَدَبَنَا صلى اللَّهُ عليه وسلم إلَى قَتْلِهِ وَالنَّدْبُ فَوْقَ الْإِبَاحَةِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْجَزَاءُ وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ على غَيْرِ حَالِ الْإِحْرَامِ أو على حَالِ الْعَدْوِ وَالِابْتِدَاءِ بِالْأَذَى حَمْلًا لِخَبَرِ الْوَاحِدِ على مُوَافَقَةِ الْكتاب الْعَزِيزِ وَعَلَى هذا الِاخْتِلَافِ سِبَاعُ الطَّيْرِ وَالله أعلم‏.‏

فصل بَيَانِ حُكْمِ ما يَحْرُمُ على الْمُحْرِمِ اصْطِيَادُهُ

وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ ما يَحْرُمُ على الْمُحْرِمِ اصْطِيَادُهُ إذَا اصْطَادَهُ فَالْأَمْرُ لَا يَخْلُو إمَّا إن قَتَلَ الصَّيْدَ وَإِمَّا إن جَرَحَهُ وَإِمَّا إن أَخَذَهُ فلم يَقْتُلْهُ ولم يَجْرَحْهُ فَإِنْ قَتَلَهُ فَالْقَتْلُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مُبَاشَرَةً أو تسببا ‏[‏تسيبا‏]‏ فَإِنْ كان مُبَاشَرَةً فَعَلَيْهِ قِيمَةُ الصَّيْدِ الْمَقْتُولِ يُقَوِّمُهُ ذَوَا عَدْلٍ لَهُمَا بَصَارَةٌ بِقِيمَةِ الصَّيُودِ فَيُقَوِّمَانِهِ في الْمَكَانِ الذي أَصَابَهُ إنْ كان مَوْضِعًا تُبَاعُ فيه الصَّيُودُ وَإِنْ كان في مَفَازَةٍ يُقَوِّمَانِهِ في أَقْرَبِ الْأَمَاكِنِ من الْعُمْرَانِ إلَيْهِ فَإِنْ بَلَغَتْ قِيمَتُهُ ثَمَنَ هَدْيٍ فَالْقَاتِلُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَهْدَى وَإِنْ شَاءَ أَطْعَمَ وَإِنْ شَاءَ صَامَ وَإِنْ لم يَبْلُغْ قِيمَتُهُ ثَمَنَ هَدْيٍ فَهُوَ بِالْخِيَارِ بين الطَّعَامِ وَالصِّيَامِ سَوَاءٌ كان الصَّيْدُ مِمَّا له نَظِيرٌ أو كان مِمَّا لَا نَظِيرَ له وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَحَكَى الطَّحَاوِيُّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْخِيَارَ لِلْحَكَمَيْنِ إنْ شَاءَا حَكَمَا عليه هَدْيًا وَإِنْ شَاءَا طَعَامًا وَإِنْ شَاءَا صِيَامًا فَإِنْ حَكَمَا عليه هَدْيًا نَظَرَ الْقَاتِلُ إلَى نَظِيرِهِ من النَّعَمِ من حَيْثُ الْخِلْقَةُ وَالصُّورَةُ إنْ كان الصَّيْدُ مِمَّا له نَظِيرٌ سَوَاءٌ كان قِيمَةُ نَظِيرِهِ مِثْلَ قِيمَتِهِ أو أَقَلَّ أو أَكْثَرَ لَا يُنْظَرُ إلَى الْقِيمَةِ بَلْ إلَى الصُّورَةِ وَالْهَيْئَةِ فَيَجِبُ في الظَّبْيِ شَاةٌ وفي الضَّبُعِ شَاةٌ وفي حِمَارِ الْوَحْشِ بَقَرَةٌ وفي النَّعَامَةِ بَعِيرٌ وفي الْأَرْنَبِ عَنَاقٌ وفي الْيَرْبُوعِ جَفَرَةٌ وَإِنْ لم يَكُنْ له نَظِيرٌ مِمَّا في ذَبْحِهِ قُرْبَةٌ كَالْحَمَامِ وَالْعُصْفُورِ وَسَائِرِ الطُّيُورِ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ كما قال أبو حَنِيفَةَ وأبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ‏.‏

وَحَكَى الْكَرْخِيُّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ إنَّ الْخِيَارَ لِلْقَاتِلِ عِنْدَهُ أَيْضًا غير أَنَّهُ إنْ اخْتَارَ الْهَدْيَ لَا يَجُوزُ له إلَّا إخْرَاجُ النَّظِيرِ فِيمَا له نَظِيرٌ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَجِبُ عليه بِقَتْلِ ما له نَظِيرُ النَّظِيرِ ابْتِدَاءً من غَيْرِ اخْتِيَارِ أَحَدٍ وَلَهُ أَنْ يُطْعِمَ وَيَكُونُ الْإِطْعَامُ بَدَلًا عن النَّظِيرِ لَا عن الصَّيْدِ فَيَقَعُ الْكَلَامُ في مُوجِبِ قَتْلِ صَيْدٍ له نَظِيرٌ في مَوَاضِعَ منها أَنَّهُ يَجِبُ على الْقَاتِلِ قِيمَتُهُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَلَا يَجِبُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالْأَصْلُ فيه قَوْلُهُ عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ من النَّعَمِ‏}‏ أَيْ فَعَلَيْهِ جَزَاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى على الْقَاتِلِ جَزَاءً مِثْلَ ما قَتَلَ وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ في الْمُرَادِ من الْمِثْلِ الْمَذْكُورِ في الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ قال أبو حَنِيفَةَ وأبو يُوسُفَ الْمُرَادُ منه الْمِثْلُ من حَيْثُ الْمَعْنَى وهو الْقِيمَةُ وقال مُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ الْمُرَادُ منه الْمِثْلُ من حَيْثُ الصُّورَةُ وَالْهَيْئَةُ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ على الْقَاتِلِ جَزَاءً من النَّعَمِ وهو مِثْلُ ما قَتَلَ من النَّعَمِ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْمِثْلَ ثُمَّ فَسَّرَهُ بِالنَّعَمِ بِقَوْلِهِ عز وجل من النَّعَمِ وَمِنْ هَهُنَا لِتَمْيِيزِ الْجِنْسِ فَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ من النَّعَمِ وهو مِثْلُ الْمَقْتُولِ وهو أَنْ يَكُونَ مثله في الْخِلْقَةِ وَالصُّورَةِ وروى أَنَّ جَمَاعَةً من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ منهم عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه أَوْجَبُوا في النَّعَامَةِ بَدَنَةً وفي الظَّبْيَةِ شَاةً وفي الْأَرْنَبِ عَنَاقًا وَهُمْ كَانُوا أَعْرَفَ بِمَعَانِي كتاب اللَّهِ تَعَالَى‏.‏

وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وُجُوهٌ من الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَوَّلُهَا أَنَّ اللَّهُ عز وجل نهى الْمُحْرِمِينَ عن قَتْلِ الصَّيْدِ عَامًّا لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الصَّيْدَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ بِقَوْلِهِ عز وجل‏:‏ ‏{‏لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ‏}‏ وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ خُصُوصًا عِنْدَ عَدَمِ الْمَعْهُودِ ثُمَّ قال تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ‏}‏ وَالْهَاءُ كِنَايَةٌ رَاجِعَةٌ إلَى الصَّيْدِ الْمُوجَدِ من اللَّفْظِ الْمُعَرَّفِ بلام التَّعْرِيفِ فَقَدْ أَوْجَبَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِقَتْلِ الصَّيْدِ مِثْلًا يَعُمُّ ماله نَظِيرٌ وما لَا نَظِيرَ له وَذَلِكَ هو الْمِثْلُ من حَيْثُ الْمَعْنَى وهو الْقِيمَةُ لَا الْمِثْلُ من حَيْثُ الْخِلْقَةُ وَالصُّورَةُ لِأَنَّ ذلك لَا يَجِبُ في صَيْدٍ لَا نَظِيرَ له بَلْ الْوَاجِبُ فيه الْمِثْلُ من حَيْثُ الْمَعْنَى وهو الْقِيمَةُ بِلَا خِلَافٍ فَكَانَ صَرْفُ الْمِثْلِ الْمَذْكُورِ بِقَتْلِ الصَّيْدِ على الْعُمُومِ إلَيْهِ تَخْصِيصًا لِبَعْضِ ما تَنَاوَلَهُ عُمُومُ الْآيَةِ وَالْعَمَلُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ وَاجِبٌ ما أَمْكَنَ وَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ‏.‏

وَالثَّانِي أَنَّ مُطْلَقَ اسْمِ الْمِثْلِ يَنْصَرِفُ إلَى ما عُرِفَ مِثْلًا في أُصُولِ الشَّرْعِ وَالْمِثْلُ الْمُتَعَارَفُ في أُصُولِ الشَّرْعِ هو الْمِثْلُ من حَيْثُ الصُّورَةُ وَالْمَعْنَى أو من حَيْثُ الْمَعْنَى وهو الْقِيمَةُ كما في ضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ فإن من أَتْلَفَ على آخَرَ حِنْطَةً يَلْزَمُهُ حِنْطَةٌ وَمَنْ أَتْلَفَ عليه عَرْضًا تَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ فَأَمَّا الْمِثْلُ من حَيْثُ الصُّورَةُ وَالْهَيْئَةُ فَلَا نَظِيرَ له في أُصُولِ الشَّرْعِ فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ لَا إلَى غَيْرِهِ وَالثَّالِثُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَكَرَ الْمِثْلَ مُنَكَّرًا في مَوْضِعِ الْإِثْبَاتِ فَيَتَنَاوَلُ وَاحِدًا وَأَنَّهُ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ يَقَعُ على الْمِثْلِ من حَيْثُ الْمَعْنَى وَيَقَعُ على الْمِثْلِ من حَيْثُ الصُّورَةُ فَالْمِثْلُ من حَيْثُ الْمَعْنَى يُرَادُ من الْآيَةِ فِيمَا لَا نَظِيرَ له فَلَا يَكُونُ الْآخَرُ مُرَادًا إذْ الْمُشْتَرَكُ في مَوْضِعِ الْإِثْبَاتِ لَا عُمُومَ له وَالرَّابِعُ إن اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ عَدَالَةَ الْحَكَمَيْنِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعَدَالَةَ إنَّمَا تُشْتَرَطُ فِيمَا يَحْتَاجُ فيه إلَى النَّظَرِ وَالتَّأَمُّلِ وَذَلِكَ في الْمِثْلِ من حَيْثُ الْمَعْنَى وهو الْقِيمَةُ لِأَنَّ بها تَتَحَقَّقُ الصِّيَانَةُ عن الْغُلُوِّ والتقصر ‏[‏والتقصير‏]‏ وَتَقْرِيرِ الْأَمْرِ على الْوَسَطِ فَأَمَّا الصُّورَةُ فَمُشَابَهَةٌ لَا تَفْتَقِرُ إلَى الْعَدَالَةِ وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى من النَّعَمِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ قَوْله تَعَالَى من النَّعَمِ خَرَجَ تَفْسِيرًا لِلْمِثْلِ وَبَيَانُهُ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ قَوْلَهُ فَجَزَاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ كَلَامٌ تَامٌّ بِنَفْسِهِ مُفِيدٌ بِذَاتِهِ من غَيْرِ وصلة بِغَيْرِهِ لِكَوْنِهِ مُبْتَدَأً وَخَبَرًا وَقَوْلُهُ من النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُ على غَيْرِ وَجْهِ التَّفْسِيرِ لِلْمِثْلِ لِأَنَّهُ كما يُرْجَعُ إلَى الْحَكَمَيْنِ في تَقْوِيمِ الصَّيْدِ الْمُتْلَفِ يُرْجَعُ إلَيْهِمَا في تَقْوِيمِ الهدى الذي يُوجَدُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ من الْقِيمَةِ فَلَا يُجْعَلُ قَوْلُهُ مِثْلُ ما قَتَلَ مَرْبُوطًا بِقَوْلِهِ عز وجل‏:‏ ‏{‏من النَّعَمِ‏}‏ مع اسْتِغْنَاءِ الْكَلَامِ عنه هذا هو الْأَصْلُ إلَّا إذَا قام دَلِيلٌ زَائِدٌ يُوجِبُ الرَّبْطَ بِغَيْرِهِ

وَالثَّانِي أَنَّهُ وَصَلَ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏من النَّعَمِ‏}‏ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ‏}‏ وَقَوْلُهُ عز وجل‏:‏ ‏{‏أو كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ‏}‏‏.‏

وَقَوْلُهُ عز وجل‏:‏ ‏{‏أو عَدْلُ ذلك صِيَامًا‏}‏ جَعَلَ الْجَزَاءَ أَحَدَ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ لِأَنَّهُ أَدْخَلَ حَرْفَ التَّخْيِيرِ بين الْهَدْيِ وَالْإِطْعَامِ وَبَيْنَ الطَّعَامِ وَالصِّيَامِ فَلَوْ كان قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏من النَّعَمِ‏}‏ تَفْسِيرًا لِلْمِثْلِ لَكَانَ الطَّعَامُ وَالصِّيَامُ مِثْلًا لِدُخُولِ حَرْفِ أو بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ النَّعَمِ إذْ لَا فَرْقَ بين التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ في الذِّكْرِ بِأَنْ قال تَعَالَى فَجَزَاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ طَعَامًا أو صِيَامًا أو من النَّعَمِ هَدْيًا لِأَنَّ التَّقْدِيمَ في التِّلَاوَةِ لَا يُوجِبُ التَّقْدِيمَ في الْمَعْنَى وَلَمَّا لم يَكُنْ الطَّعَامُ وَالصِّيَامُ مِثْلًا لِلْمَقْتُولِ دَلَّ أَنَّ ذِكْرَ النَّعَمِ لم يَخْرُجْ مَخْرَجَ التَّفْسِيرِ لِلْمِثْلِ بَلْ هو كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ غَيْرُ مَوْصُولِ الْمُرَادِ بِالْأَوَّلِ وَقَوْلُ جَمَاعَةِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ مَحْمُولٌ على الْإِيجَابِ من حَيْثُ الْقِيمَةُ تَوْفِيقًا بين الدَّلَائِلِ مع ما أن الْمَسْأَلَةَ مُخْتَلِفَةٌ بين الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُ مَذْهَبِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فَلَا يُحْتَجُّ بِقَوْلِ الْبَعْضِ على الْبَعْضِ وَعَلَى هذا يَنْبَنِي اعْتِبَارُ مَكَانِ الْإِصَابَةِ في التَّقْوِيمِ عِنْدَهُمَا لِأَنَّ الْوَاجِبَ على الْقَاتِلِ الْقِيمَةُ وَأَنَّهَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَكَانِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ الْوَاجِبُ هو النَّظِيرُ أما بِحُكْمِ الْحَكَمَيْنِ أو ابْتِدَاءً فَلَا يُعْتَبَرُ فيه الْمَكَانُ وقال الشَّافِعِيُّ يُقَوَّمُ بِمَكَّةَ أو بِمِنًى وأنه غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ في قِيَمِ الْمُسْتَهْلَكَاتِ في أُصُولِ الشَّرْعِ مَوَاضِعُ الِاسْتِهْلَاكِ كما في اسْتِهْلَاكِ سَائِرِ الْأَمْوَالِ وَمِنْهَا أَنَّ الطَّعَامَ بَدَلٌ عن الصَّيْدِ عِنْدَنَا فَيُقَوِّمُ الصَّيْدَ بِالدَّرَاهِمِ وَيَشْتَرِي بِالدَّرَاهِمِ طَعَامًا وهو مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ من التَّابِعِينَ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّ الطَّعَامَ بَدَلٌ عن الْهَدْيِ فَيُقَوِّمُ الْهَدْيَ بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ يَشْتَرِي بِقِيمَةِ الْهَدْيِ طَعَامًا وهو قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ جَمِيعَ ذلك جَزَاءَ الصَّيْدِ بِقَوْلِهِ عز وجل‏:‏ ‏{‏فَجَزَاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ من النَّعَمِ‏}‏ إلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أو كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ‏}‏ فلما كان الْهَدْيُ من حَيْثُ كَوْنِهِ جَزَاءً مُعْتَبَرًا بِالصَّيْدِ أما في قِيمَتِهِ أو نَظِيرِهِ على اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ كان الطَّعَامُ مثله وَلِأَنَّ فِيمَا لَا مِثْلَ له من النَّعَمِ اعْتِبَارَ الطَّعَامِ بِقِيمَةِ الصَّيْدِ بِلَا خِلَافٍ فَكَذَا فِيمَا له مِثْلٌ لِأَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ مُنْتَظِمَةٌ لِلْأَمْرَيْنِ جميعا‏.‏

وَمِنْهَا أَنَّ كَفَّارَةَ جَزَاءِ الصَّيْدِ على التَّخْيِيرِ كَذَا روى عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما وهو مَذْهَبُ جَمَاعَةٍ من التَّابِعِينَ مِثْلَ عَطَاءٍ وَالْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ وهو قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ على تَرْتِيبِ الْهَدْيِ ثُمَّ الْإِطْعَامِ ثُمَّ الصِّيَامِ حتى لو وُجِدَ الْهَدْيُ لَا يَجُوزُ الطَّعَامُ وَلَوْ وُجِدَ الْهَدْيُ أو الطَّعَامُ لَا يَجُوزُ الصِّيَامُ كما في كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْإِفْطَارِ أنها على التَّرْتِيبِ دُونَ التَّخْيِيرِ وَاحْتَجَّ من اعْتَبَرَ التَّرْتِيبَ بِمَا روى أَنَّ جَمَاعَةً من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ حَكَمُوا في الضَّبُعِ بِشَاةٍ ولم يَذْكُرُوا غَيْرَهُ فَدَلَّ أَنَّ الْوَاجِبَ على التَّرْتِيبِ وَلَنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ حَرْفَ أو في ابْتِدَاءِ الْإِيجَابِ وَحَرْفُ أو إذَا ذُكِرَ في ابْتِدَاءِ الْإِيجَابِ يُرَادُ بِهِ التَّخْيِيرُ لَا التَّرْتِيبُ كما في قَوْلِهِ عز وجل في كَفَّارَةِ الْيَمِينِ‏:‏ ‏{‏فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ من أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أو كِسْوَتُهُمْ أو تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ‏}‏ وقَوْله تَعَالَى في كَفَّارَةِ الْحَلْقِ‏:‏ ‏{‏فَفِدْيَةٌ من صِيَامٍ أو صَدَقَةٍ أو نُسُكٍ‏}‏ وَغَيْرُ ذلك هذا هو الْحَقِيقَةُ إلَّا في مَوْضِعٍ قام الدَّلِيلُ بِخِلَافِهَا كما في آيَةِ الْمُحَارِبِينَ أَنَّهُ ذَكَرَ فيها أو على إرَادَةِ الْوَاوِ ومن ادَّعَى خِلَافَ الْحَقِيقَةِ هَهُنَا فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ

ثُمَّ إذَا اخْتَارَ الهدى فَإِنْ بَلَغَتْ قِيمَةُ الصَّيْدِ بَدَنَةً نَحَرَهَا وَإِنْ لم تَبْلُغْ بَدَنَةً وَبَلَغَتْ بَقَرَةً ذَبَحَهَا وَإِنْ لم تَبْلُغْ بَقَرَةً وَبَلَغَتْ شَاةً ذَبَحَهَا وَإِنْ اشْتَرَى بِقِيمَةِ الصَّيْدِ إذَا بَلَغَتْ بَدَنَةً أو بَقَرَةً سَبْعَ شياة وَذَبَحَهَا أَجْزَأَهُ فَإِنْ اخْتَارَ شِرَاءَ الْهَدْيِ وَفَضَلَ من قِيمَةِ الصَّيْدِ فَإِنْ بَلَغَ هَدْيَيْنِ أو أَكْثَرَ اشْتَرَى وَإِنْ كان لَا يَبْلُغُ هَدْيًا فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ صَرَفَ الْفَاضِلَ إلَى الطَّعَامِ وَإِنْ شَاءَ صَامَ كما في صَيْدِ الصَّغِيرِ الذي لَا تَبْلُغُ قِيمَتُهُ هَدْيًا وقد اُخْتُلِفَ في السِّنِّ الذي يَجُوزُ في جَزَاءِ الصَّيْدِ قال أبو حَنِيفَةَ لَا يَجُوزُ إلَّا ما يَجُوزُ في الْأُضْحِيَّةِ وَهَدْيِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ وَالْإِحْصَارِ وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ تَجُوزُ الْجَفَرَةُ وَالْعَنَاقُ على قَدْرِ الصَّيْدِ‏.‏

وَاحْتَجَّا بِمَا رُوِيَ عن جَمَاعَةٍ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ أَوْجَبُوا في الْيَرْبُوعِ جَفَرَةً وفي الْأَرْنَبِ عَنَاقًا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ إطْلَاقَ الْهَدْيِ يَنْصَرِفُ إلَى ما يَنْصَرِفُ إلَيْهِ سَائِرُ الْهَدَايَا الْمُطْلَقَةِ في الْقُرْآنِ فَلَا يَجُوزُ دُونَ السِّنِّ الذي يُجْزِي في سَائِرِ الْهَدَايَا وما رُوِيَ عن جَمَاعَةٍ من الصَّحَابَةِ حِكَايَةُ حَالٍ لَا عُمُومَ له فَيُحْمَلُ على أَنَّهُ كان على طَرِيقِ الْقِيمَةِ على أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما يُخَالِفُهُمْ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ على بَعْضٍ إلَّا عِنْدَ قِيَامِ دَلِيلِ التَّرْجِيحِ ثُمَّ اسْمُ الْهَدْيِ يَقَعُ على الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ على ما بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ وَلَا يَجُوزُ ذَبْحُ الْهَدْيِ إلَّا في الْحَرَمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ‏}‏ وَلَوْ جَازَ ذَبْحُهُ في غَيْرِ الْحَرَمِ لم يَكُنْ لِذِكْرِ بُلُوغِهِ الْكَعْبَةَ مَعْنًى وَلَيْسَ الْمُرَادُ منه بُلُوغَ عَيْنِ الْكَعْبَةِ بَلْ بُلُوغَ قُرْبِهَا وهو الْحَرَمُ وَدَلَّتْ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ على أَنَّ من حَلَفَ لَا يَمُرُّ على باب الْكَعْبَةِ أو الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَرَّ بِقُرْبِ بابهِ حَنِثَ وهو كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هذا‏}‏ وَالْمُرَادُ منه الْحَرَمُ لِأَنَّهُمْ مُنِعُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عن دُخُولِ الْحَرَمِ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ قال الْحَرَمُ كُلُّهُ مَسْجِدٌ وَلِأَنَّ الْهَدْيَ اسْمٌ لِمَا يهدي إلَى مَكَانِ الْهَدَايَا أَيْ يُنْقَلُ إلَيْهَا وَمَكَانُ الْهَدَايَا الْحَرَمُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ‏}‏ وَالْمُرَادُ منه الْحَرَمُ وَرُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال مِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ وَفِجَاجُ مَكَّةَ كُلُّهَا مَنْحَرٌ وَلَوْ ذَبَحَ في الحال ‏[‏الحل‏]‏ لَا يَسْقُطُ عنه الْجَزَاءُ بِالذَّبْحِ إلَّا أَنْ يَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهِ على الْفُقَرَاءِ على كل فَقِيرٍ قِيمَةُ نِصْفِ صَاعٍ من بُرٍّ فَيُجْزِئَهُ على طَرِيقِ الْبَدَلِ عن الطَّعَامِ وإذا ذَبَحَ الْهَدْيَ في الْحَرَمِ سَقَطَ الْجَزَاءُ عنه بِنَفْسِ الذَّبْحِ حتى لو هَلَكَ أو سُرِقَ أو ضَاعَ بِوَجْهٍ من الْوُجُوهِ خَرَجَ عن الْعُهْدَةِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هو إرَاقَةُ الدَّمِ وَإِنْ اخْتَارَ الطَّعَامَ اشْتَرَى بِقِيمَةِ الصَّيْدِ طَعَامًا فَأَطْعَمَ كُلَّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ من بُرٍّ وَلَا يُجْزِيهِ أَقَلُّ من ذلك كما في كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَفِدْيَةِ الْأَذَى وَيَجُوزُ الْإِطْعَامُ في الْأَمَاكِنِ كُلِّهَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ إلَّا في الْحَرَمِ كما لَا يَجُوزُ الذَّبْحُ إلَّا في الْحَرَمِ تَوْسِعَةً على أَهْلِ الْحَرَمِ‏.‏

وَلَنَا أَنَّ قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أو كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ‏}‏ مُطْلَقٌ عن الْمَكَانِ وَقِيَاسُ الطَّعَامِ على الذَّبْحِ بِمَعْنَى التَّوْسِعَةِ على أَهْلِ الْحَرَمِ قد أَبْطَلْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ وَلِأَنَّ الْإِرَاقَةَ لم تُعْقَلْ قُرْبَةً بِنَفْسِهَا وَإِنَّمَا عُرِفَتْ قُرْبَةً بِالشَّرْعِ وَالشَّرْعُ وَرَدَ بها في مَكَان مَخْصُوصٍ أو زَمَانٍ مَخْصُوصٍ فَيَتْبَعُ مَوْرِدَ الشَّرْعِ فَيَتَقَيَّدُ كَوْنُهَا قُرْبَةً بِالْمَكَانِ الذي وَرَدَ الشَّرْعُ بِكَوْنِهَا قربه فيه وهو الْحَرَمُ فإما الْإِطْعَامُ فَيُعْقَلُ قُرْبَةً بِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ من باب الْإِحْسَانِ إلَى الْمُحْتَاجِينَ فَلَا يَتَقَيَّدُ كَوْنُهُ قربه بِمَكَانٍ كما لَا يَتَقَيَّدُ بِزَمَانٍ وَتَجُوزُ فيه الْإِبَاحَةُ وَالتَّمْلِيكُ لِمَا نَذْكُرُهُ في كتاب الْكَفَّارَاتِ وَلَا يَجُوزُ لِلْقَاتِلِ أَنْ يَأْكُلَ شيئا من لَحْمِ الْهَدْيِ وَلَوْ أَكَلَ شيئا منه فَعَلَيْهِ قِيمَةُ ما أَكَلَ وَلَا يَجُوزُ دَفْعُهُ وَدَفْعُ الطَّعَامِ إلَى وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ وَإِنْ سَفَلُوا وَلَا إلَى وَالِدِهِ وَوَالِدِ وَالِدِهِ وَإِنْ عَلَوْا كما لَا تَجُوزُ الزَّكَاةُ وَيَجُوزُ دَفْعُهُ إلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَلَا يَجُوزُ في قَوْلِ أبي يُوسُفَ كما في صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالصَّدَقَةِ الْمَنْذُورِ بها على ما ذَكَرْنَا في كتاب الزَّكَاةِ وَإِنْ اخْتَارَ الصِّيَامَ اشْتَرَى بِقِيمَةِ الصَّيْدِ طَعَامًا وَصَامَ لِكُلِّ نِصْفِ صَاعٍ من بُرٍّ يَوْمًا عِنْدَنَا وهو قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ من التَّابِعِينَ مِثْلَ إبْرَاهِيمَ وَعَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ‏.‏

وقال الشَّافِعِيُّ يَصُومُ لِكُلِّ مُدٍّ يَوْمًا وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا روى عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ قال يَصُومُ عن كل نِصْفِ صَاعٍ يَوْمًا وَمِثْلُ هذا لَا يُعْرَفُ بِالِاجْتِهَادِ فَتَعَيَّنَ السَّمَاعُ من رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَإِنْ فَضَلَ من الطَّعَامِ أَقَلُّ من نِصْفِ صَاعٍ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ تَصَدَّقَ بِهِ وَإِنْ شَاءَ صَامَ عنه يَوْمًا لِأَنَّ صَوْمَ بَعْضِ يَوْمٍ لَا يَجُوزُ وَيَجُوزُ الصَّوْمُ في الْأَيَّامِ كُلِّهَا بِلَا خِلَافٍ وَيَجُوزُ مُتَتَابِعًا وَمُتَفَرِّقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أو عَدْلُ ذلك صِيَامًا‏}‏ مُطْلَقًا عن الْمَكَانِ وَصِفَةِ التَّتَابُعِ وَالتَّفَرُّقِ وَسَوَاءٌ كان الصَّيْدُ مِمَّا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ أو مِمَّا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ عِنْدَنَا بَعْدَ أَنْ كان مُحْرِمًا والإصطياد على الْمُحْرِمِ كَالضَّبُعِ وَالثَّعْلَبِ وَسِبَاعِ الطَّيْرِ وَيُنْظَرُ إلَى قِيمَتِهِ لو كان مَأْكُولَ اللَّحْمِ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ من النَّعَمِ‏}‏ غير أَنَّهُ لَا يُجَاوِزُ بِهِ دَمًا في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ لَا يَبْلُغُ دَمًا بَلْ يَنْقُصُ من ذلك بِخِلَافِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ فإنه تَجِبُ قِيمَتُهُ بَالِغَةً ما بَلَغَتْ وَإِنْ بَلَغَتْ قِيمَتُهُ هَدْيَيْنِ أو أَكْثَرَ وقال زُفَرُ تَجِبُ قِيمَتُهُ بَالِغَةً ما بَلَغَتْ كما في مَأْكُولِ اللَّحْمِ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ هذا الْمَصِيدَ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ وَالْمَضْمُونُ بِالْقِيمَةِ يُعْتَبَرُ كَمَالُ قِيمَتِهِ كَالْمَأْكُولِ‏.‏

وَلَنَا أَنَّ هذا الْمَضْمُونَ إنَّمَا يَجِبُ بِقَتْلِهِ من حَيْثُ أنه صَيْدٌ وَمِنْ حَيْثُ أنه صَيْدٌ لَا تَزِيدُ قِيمَةُ لَحْمِهِ على لَحْمِ الشَّاةِ بِحَالٍ بَلْ لَحْمُ الشَّاةِ يَكُونُ خَيْرًا منه بِكَثِيرٍ فَلَا يُجَاوِزُ بِهِ دَمًا بَلْ يَنْقُصُ منه كما ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ وَلِأَنَّهُ جَزَاءٌ وَجَبَ بِإِتْلَافِ ما ليس بِمَالٍ فَلَا يُجَاوِزُ بِهِ دَمًا كَحَلْقِ الشَّعْرِ وَقَصِّ الْأَظْفَارِ وقد خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ زُفَرُ وَيَسْتَوِي في وُجُوبِ الْجَزَاءِ بِقَتْلِ الصَّيْدِ المبتدىء ‏[‏المبتدئ‏]‏ وَالْعَائِدُ وهو أَنْ يَقْتُلَ صَيْدًا ثُمَّ يَعُودَ وَيَقْتُلَ آخَرَ وثم وَثُمَّ أنه يَجِبُ لِكُلِّ صَيْدٍ جَزَاءٌ على حِدَةٍ وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَا جَزَاءَ على الْعَائِدِ وهو قَوْلُ الْحَسَنِ وَشُرَيْحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ منه‏}‏ جَعَلَ جَزَاءَ الْعَائِدِ الِانْتِقَامَ في الْآخِرَةِ فَتَنْتَفِي الْكَفَّارَةُ في الدُّنْيَا وَلَنَا أَنَّ قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ من النَّعَمِ‏}‏ يَتَنَاوَلُ الْقَتْلَ في كل مَرَّةٍ فَيَقْتَضِي وُجُوبَ الْجَزَاءِ في كل مَرَّةٍ كما في قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ‏}‏ وَنَحْوُ ذلك‏.‏

وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ منه‏}‏ فَفِيهِ إن اللَّهَ تَعَالَى يَنْتَقِمُ من الْعَائِدِ وَلَيْسَ فيه أَنْ يَنْتَقِمَ منه بِمَاذَا فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ يَنْتَقِمُ منه بِالْكَفَّارَةِ كَذَا قال بَعْضُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ منه بِالْكَفَّارَةِ في الدُّنْيَا أو بِالْعَذَابِ في الْآخِرَةِ على أَنَّ الْوَعِيدَ في الْآخِرَةِ لَا يَنْفِي وُجُوبَ الْجَزَاءِ في الدُّنْيَا كما أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ حَدَّ الْمُحَارِبِينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ جَزَاءً لهم في الدُّنْيَا بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ في الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أو يُصَلَّبُوا‏}‏ الْآيَةَ ثم قال عز وجل في آخِرِهَا‏:‏ ‏{‏ذلك لهم خِزْيٌ في الدُّنْيَا وَلَهُمْ في الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏ وَمِنْهُمْ من صَرَفَ تَأْوِيلَ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إلَى اسْتِحْلَالِ الصَّيْدِ فقال اللَّهُ عز وجل‏:‏ ‏{‏عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ‏}‏ في الْجَاهِلِيَّةِ من اسْتِحْلَالِهِمْ الصَّيْدَ إذَا تَابَ وَرَجَعَ عَمَّا اسْتَحَلَّ من قَتْلِ الصَّيْدِ وَمَنْ عَادَ إلَى الِاسْتِحْلَالِ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ منه بِالنَّارِ في الْآخِرَةِ وَبِهِ نَقُولُ هذا إذَا لم يَكُنْ قَتْلُ الثَّانِي وَالثَّالِثِ على وَجْهِ الرَّفْضِ وَالْإِحْلَالِ فَأَمَّا إذَا كان على وَجْهِ الرَّفْضِ وَالْإِحْلَالِ لِإِحْرَامِهِ فَعَلَيْهِ جَزَاءٌ وَاحِدٌ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ يَلْزَمَهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَمٌ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ ليس إلَّا نِيَّةَ الرَّفْضِ وَنِيَّةُ الرَّفْضِ لَا يَتَعَلَّقُ بها حُكْمٌ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ حَلَالًا بِذَلِكَ فَكَانَ وُجُودُهَا وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا وَقَالُوا لَا يَجِبُ إلَّا جَزَاءٌ وَاحِدٌ لِأَنَّ الْكُلَّ وَقَعَ على وَجْهٍ وَاحِدٍ فَأَشْبَهَ الْإِيلَاجَاتِ في الْجِمَاعِ وَيَسْتَوِي فيه الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ وَالذِّكْرُ وَالنِّسْيَانُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم‏.‏

وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ على الخاطئ وقال الشَّافِعِيُّ لَا كَفَّارَةَ على الخاطئ وَالنَّاسِي وَالْكَلَامُ في الْمَسْأَلَةِ بِنَاءً وَابْتِدَاءً أَمَّا الباء ‏[‏البناء‏]‏ فما ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا تَجِبُ بِارْتِكَابِ مَحْظُورِ الْإِحْرَامِ وَالْجِنَايَةِ عليه ثُمَّ زَعَمَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ فِعْلَ الخاطئ وَالنَّاسِي لَا يُوصَفُ بِالْجِنَايَةِ وَالْحَظْرِ لِأَنَّ فِعْلَ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ ما ‏[‏مما‏]‏ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عنه فَكَانَ عُذْرًا وَقُلْنَا نَحْنُ إنَّ فِعْلَ الخاطئ وَالنَّاسِي جِنَايَةٌ وَحَرَامٌ لِأَنَّ فِعْلَهُمَا جَائِزُ الْمُؤَاخَذَةِ عليه عَقْلًا وَإِنَّمَا رُفِعَتْ الْمُؤَاخَذَةُ عليه شَرْعًا مع بَقَاءِ وَصْفِ الْحَظْرِ وَالْحُرْمَةِ فَأَمْكَنَ الْقَوْلُ بِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ وَكَذَا التَّحَرُّزُ عنهما مُمْكِنٌ في الْجُمْلَةِ إذْ لَا يَقَعُ الْإِنْسَانُ في الْخَطَأِ وَالسَّهْوِ إلَّا لِنَوْعِ تَقْصِيرٍ منه فلم يَكُنْ عُذْرًا منه وَلِهَذَا لم يُعْذَرْ النَّاسِي في باب الصَّلَاةِ إلَّا أَنَّهُ جُعِلَ عُذْرًا في باب الصَّوْمِ لِأَنَّهُ يَغْلِبُ وُجُودُهُ فَكَانَ في وُجُوبِ الْقَضَاءِ حَرَجٌ وَلَا يَغْلِبُ في باب الْحَجِّ لِأَنَّ أَحْوَالَ الْإِحْرَامِ مُذَّكِّرَةٌ فَكَانَ النِّسْيَانُ مَعَهَا نَادِرًا على أَنَّ الْعُذْرَ في هذا الْباب لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْجَزَاءِ كما في كَفَّارَةِ الْحَلْقِ لِمَرَضٍ أو أَذًى بِالرَّأْسِ وَكَذَا فَوَاتُ الْحَجِّ لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ لِلْعُذْرِ وَعَدَمِ الْعُذْرِ وَأَمَّا الإبتداء فَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ من النَّعَمِ‏}‏ خَصَّ الْمُتَعَمِّدَ بِإِيجَابِ الْجَزَاءِ عليه فَلَوْ شَارَكَهُ الخاطئ وَالنَّاسِي في الْوُجُوبِ لم يَكُنْ لِلتَّخْصِيصِ مَعْنًى وَلَنَا وُجُوهٌ من الِاسْتِدْلَالِ بِالْعَمْدِ أَحَدُهَا أَنَّ الْكَفَّارَاتِ وَجَبَتْ رَافِعَةً لِلْجِنَايَةِ وَلِهَذَا سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى كَفَّارَةً بِقَوْلِهِ عز وجل‏:‏ ‏{‏أو كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ‏}‏ وقد وُجِدَتْ الْجِنَايَةُ على الْإِحْرَامِ في الْخَطَأِ‏.‏

أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ عز وجل سَمَّى الْكَفَّارَةَ في الْقَتْلِ الْخَطَأِ تَوْبَةً بِقَوْلِهِ تَعَالَى في آخِرِ الْآيَةِ‏:‏ ‏{‏تَوْبَةً من اللَّهِ‏}‏ وَلَا تَوْبَةَ إلَّا من الْجِنَايَةِ وَالْحَاجَةُ إلَى رَفْعِ الْجِنَايَةِ مَوْجُودَةٌ وَالْكَفَّارَةُ صَالِحَةٌ لِرَفْعِهَا لِأَنَّهَا تَرْفَعُ أَعْلَى الْجِنَايَتَيْنِ وَهِيَ الْعَمْدُ وما صَلَحَ رَافِعًا لِأَعْلَى الذَّنْبَيْنِ يَصْلُحُ رَافِعًا لِأَدْنَاهُمَا بِخِلَافِ قَتْلِ الْآدَمِيِّ عَمْدًا أَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ عِنْدَنَا وَالْخَطَأُ يُوجِبُ لِأَنَّ النَّقْصَ هُنَاكَ وَجَبَ وَرُدَّ بِإِيجَابِ الْكَفَّارَةِ في الْخَطَأِ وَذَنْبِ الْخَطَأِ دُونَ ذَنْبِ الْعَمْدِ وما يَصْلُحُ لِرَفْعِ الْأَدْنَى لَا يَصْلُحُ لِرَفْعِ الْأَعْلَى فَامْتَنَعَ الْوُجُوبُ من طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ لِانْعِدَامِ طَرِيقِهِ وَالثَّانِي أَنَّ الْمُحْرِمَ بِالْإِحْرَامِ أَمَّنَ الصَّيْدَ عن التَّعَرُّضِ وَالْتَزَمَ تَرْكَ التَّعَرُّضِ له فَصَارَ الصَّيْدُ كَالْأَمَانَةِ عِنْدَهُ وَكُلُّ ذِي أَمَانَةٍ إذَا أَتْلَفَ الْأَمَانَةَ يَلْزَمُهُ الْغُرْمُ عَمْدًا كان أو خَطَأً بِخِلَافِ قَتْلِ النَّفْسِ عَمْدًا لِأَنَّ النَّفْسَ مَحْفُوظَةٌ بِصَاحِبِهَا وَلَيْسَتْ بِأَمَانَةٍ عِنْدَ الْقَاتِلِ حتى يَسْتَوِيَ حُكْمُ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ في التَّعَرُّضِ لها وَالثَّالِثُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ التَّخْيِيرَ في حَالِ الْعَمْدِ وَمَوْضُوعَ التَّخْيِيرِ في حَالِ الضَّرُورَةِ لِأَنَّهُ في التَّوَسُّعِ وَذَا في حَالِ الضَّرُورَةِ كَالتَّخْيِيرِ في الْحَلْقِ لِمَنْ بِهِ مَرَضٌ أو بِهِ أَذًى من رَأْسِهِ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَمَنْ كان مِنْكُمْ مَرِيضًا أو بِهِ أَذًى من رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ من صِيَامٍ أو صَدَقَةٍ أو نُسُكٍ‏}‏ وَلَا ضَرُورَةَ في حَالِ الْعَمْدِ فَعُلِمَ أَنَّ ذِكْرَ التَّخْيِيرِ فيه لِتَقْدِيرِ الْحُكْمِ بِهِ في حَالِ الضَّرُورَةِ لَوْلَاهُ لَمَا ذَكَرَ التَّخْيِيرَ فَكَانَ إيجَابُ الْجَزَاءِ في حَالِ الْعَمْدِ إيجَابًا في حَالِ الْخَطَأِ وَلِهَذَا كان ذِكْرُ التَّخْيِيرِ الْمَوْضُوعِ لِلتَّخْفِيفِ وَالتَّوَسُّعِ في كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بين الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ حَالَةَ الْعَمْدِ ذِكْرًا في حَالَةِ الْخَطَأِ وَالنَّوْمِ وَالْجُنُونِ دَلَالَةً وَأَمَّا تَخْصِيصُ الْعَامِدِ فَقَدْ عُرِفَ من أَصْلِنَا أَنَّهُ ليس في ذِكْرِ حُكْمِهِ وَبَيَانِهِ في حَالِ دَلِيلِ نَفْيِهِ في حَالٍ أُخْرَى فَكَانَ تَمَسُّكًا بِالْمَسْكُوتِ فَلَا يَصِحُّ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَخْصِيصُ الْعَامِدِ لِعِظَمِ ذَنْبِهِ تَنْبِيهًا على الْإِيجَابِ على من قَصَرَ ذَنْبُهُ عنه من الخاطئ وَالنَّاسِي من طَرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّ الْوَاجِبَ لَمَّا رَفَعَ أَعْلَى الذَّنْبَيْنِ فَلَأَنْ يَرْفَعَ الْأَدْنَى أَوْلَى وَعَلَى هذا كانت الْآيَةُ حُجَّةً عليه وَالله أعلم‏.‏

ويستوى في وُجُوبِ كَمَالِ الْجَزَاءِ بِقَتْلِ الصَّيْدِ حَالَ الِانْفِرَادِ وَالِاجْتِمَاعِ عِنْدَنَا حتى لو اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ من الْمُحْرِمِينَ في قَتْلِ صَيْدٍ يَجِبُ على كل وَاحِدٍ منهم جَزَاءٌ كَامِلٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَجِبُ عليهم جَزَاءٌ وَاحِدٌ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمَقْتُولَ وَاحِدٌ فَلَا يُضْمَنُ إلَّا بِجَزَاءٍ وَاحِدٍ كما إذَا قَتَلَ جَمَاعَةٌ رَجُلًا وَاحِدًا خَطَأً أَنَّهُ لَا تَجِبُ عليهم إلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ وَكَذَا جَمَاعَةٌ من الْمُحَلِّلِينَ إذَا قَتَلُوا صَيْدًا وَاحِدًا في الْحَرَمِ لَا يَجِبُ عليهم إلَّا قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ كَذَا هذا وَلَنَا قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ من النَّعَمِ‏}‏ وَكَلِمَةُ‏:‏ ‏{‏من‏}‏ تَتَنَاوَلُ كُلَّ وَاحِدٍ من الْقَاتِلِينَ على حِيَالِهِ كما في قَوْلِهِ عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ‏}‏ وقَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا‏}‏ وَقَوْلِهِ عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَكْفُرْ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ‏}‏ وَأَقْرَبُ الْمَوَاضِعِ قَوْلُهُ عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ‏}‏ حتى يَجِبَ على كل وَاحِدٍ من الْقَاتِلِينَ خَطَأً كَفَّارَةٌ على حِدَةٍ وَلَا تَلْزَمُهُ الدِّيَةُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عليهم إلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ ظَاهِرَ اللَّفْظِ وَعُمُومَهُ يَقْتَضِي وُجُوبَ الدِّيَةِ على كل وَاحِدٍ منهم وَإِنَّمَا عَرَفْنَا وُجُوبَ دِيَةٍ وَاحِدَةٍ بِالْإِجْمَاعِ وقد تُرِكَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ بِدَلِيلٍ وَالشَّافِعِيُّ نَظَرَ إلَى الْمَحِلِّ فقال الْمَحِلُّ وهو الْمَقْتُولُ مُتَّحِدٌ فَلَا يَجِبُ إلَّا ضَمَانٌ وَاحِدٌ وَأَصْحَابُنَا نَظَرُوا إلَى الْفِعْلِ فَقَالُوا الْفِعْلُ مُتَعَدِّدٌ فَيَتَعَدَّدُ الْجَزَاءُ‏.‏

وَنَظَرُنَا أَقْوَى لِأَنَّ الْوَاجِبَ جَزَاءُ الْفِعْلِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّاهُ جَزَاءً بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَجَزَاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ من النَّعَمِ‏}‏ وَالْجَزَاءُ يُقَابِلُ الْفِعْلَ لَا الْمَحِلَّ وَكَذَا سمي الْوَاجِبَ كَفَّارَةً بِقَوْلِهِ عز وجل‏:‏ ‏{‏أو كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ‏}‏ وَالْكَفَّارَةُ جَزَاءُ الْجِنَايَةِ بِخِلَافِ الدِّيَةِ فَإِنَّهَا بَدَلُ الْمَحِلِّ فَتَتَّحِدُ بِاتِّحَادِ الْمَحِلِّ وَتَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِهِ وهو الْجَوَابُ عن صَيْدِ الْحَرَمِ لِأَنَّ ضَمَانَهُ يُشْبِهُ ضَمَانَ الْأَمْوَالِ لِأَنَّهَا تَجِبُ بِالْجِنَايَةِ على الْحَرَمِ وَالْحَرَمُ وَاحِدٌ فَلَا تَجِبُ إلَّا قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَوْ قَتَلَ صَيْدًا مُعَلَّمًا كَالْبَازِي وَالشَّاهِينِ وَالصَّقْرِ وَالْحَمَامِ الذي يَجِيءُ من مَوَاضِعَ بَعِيدَةٍ وَنَحْوِ ذلك يَجِبُ عليه قِيمَتَانِ قِيمَتُهُ مُعَلَّمًا لِصَاحِبِهِ بَالِغَةً ما بَلَغَتْ وَقِيمَتُهُ غير مُعَلَّمٍ حَقًّا لِلَّهِ لِأَنَّهُ جَنَى على حَقَّيْنِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقِّ الْعَبْدِ وَالتَّعْلِيمُ وَصْفٌ مَرْغُوبٌ فيه في حَقِّ الْعِبَادِ لِأَنَّهُمْ يَنْتَفِعُونَ بِذَلِكَ وَاَللَّهُ عز وجل يَتَعَالَى عن أَنْ يَنْتَفِعَ بِشَيْءٍ وَلِأَنَّ الضَّمَانَ الذي هو حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى يَتَعَلَّقُ بِكَوْنِهِ صَيْدًا وَكَوْنُهُ مُعَلَّمًا وَصْفٌ زَائِدٌ على كَوْنِهِ صَيْدًا فَلَا يُعْتَبَرُ ذلك في وُجُوبِ الْجَزَاءِ وقد قالوا في الْحَمَامَةِ الْمُصَوِّتَةِ أَنَّهُ يَضْمَنُ قِيمَتَهَا مُصَوِّتَةً في رِوَايَةٍ وفي رواية‏:‏ غير مُصَوِّتَةٍ وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ كَوْنَهَا مُصَوِّتَةً من باب الْحُسْنِ وَالْمَلَاحَةِ وَالصَّيْدُ مَضْمُونٌ بِذَلِكَ كما لو قَتَلَ صَيْدًا حَسَنًا مَلِيحًا له زِيَادَةُ قِيمَةٍ تَجِبُ قِيمَتُهُ على تِلْكَ الصِّفَةِ وَكَمَا لو قَتَلَ حَمَامَةً مُطَوَّقَةً أو فَاخِتَةَ مُطَوَّقَةً وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى على ‏[‏وعلى‏]‏ نَحْوِ ما ذَكَرْنَا أَنَّ كَوْنَهَا مُصَوِّتَةً لَا يَرْجِعُ إلَى كَوْنِهِ صَيْدًا فَلَا يَلْزَمُ الْمُحْرِمَ ضَمَانُ ذلك وَهَذَا يَشْكُلُ بِالْمُطَوَّقَةِ وَالصَّيْدِ الْحَسَنِ الْمَلِيحِ‏.‏

وَلَوْ أَخَذَ بَيْضَ صَيْدٍ فَشَوَاهُ أو كَسَرَهُ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ لِمَا روى عن الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ حَكَمُوا في بَيْضِ النَّعَامَةِ بِقِيمَتِهِ وَلِأَنَّهُ أَصْلُ الصَّيْدِ إذْ الصَّيْدُ يَتَوَلَّدُ منه فيعطي له حُكْمُ الصَّيْدِ احْتِيَاطًا فَإِنْ شَوَى بَيْضًا أو جَرَادًا فَضَمِنَهُ لَا يَحْرُمُ أَكْلُهُ وَلَوْ أَكَلَهُ أو غَيَّرَهُ حَلَالًا كان أو مُحْرِمًا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بِخِلَافِ الصَّيْدِ الذي قَتَلَهُ الْمُحْرِمُ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ وَلَوْ أَكَلَ الْمُحْرِمُ الصَّائِدُ منه بَعْدَ ماأدى جَزَاءَهُ يَلْزَمُهُ قِيمَةُ ما أَكَلَ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ هُنَاكَ لِكَوْنِهِ مَيْتَةً لِعَدَمِ الذَّكَاةِ لِخُرُوجِهِ عن أَهْلِيَّةِ الذَّكَاةِ وَالْحُرْمَةُ هَهُنَا لَيْسَتْ لِمَكَانِ كَوْنِهِ مَيْتَةً لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى الذَّكَاةِ فَصَارَ كَالْمَجُوسِيِّ إذَا شَوَى بَيْضًا أو جَرَادًا أَنَّهُ يَحِلُّ أَكْلُهُ كَذَا هذا فَإِنْ كَسَرَ الْبَيْضَ فَخَرَجَ منه فَرْخٌ مَيِّتٌ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ حَيًّا يُؤْخَذُ فيه بِالثِّقَةِ وقال مَالِكٌ عليه نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهِ وَاعْتَبَرَهُ بِالْجَنِينِ لِأَنَّ ضَمَانَهُ ضَمَانُ الْجِنَايَاتِ وفي الْجَنِينِ نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهِ كَذَا فيه وَلَنَا أَنَّ الْفَرْخَ صَيْدٌ لِأَنَّهُ يُفْرَضُ أَنْ يَصِيرَ صَيْدًا فيعطي له حُكْمُ الصَّيْدِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَاتَ بِكَسْرِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كان مَيِّتًا قبل ذلك وَضَمَانُ الصَّيْدِ يُؤْخَذُ فيه بِالِاحْتِيَاطِ لِأَنَّهُ وَجَبَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى يُحْتَاطُ في إيجَابِهَا‏.‏

وَكَذَلِكَ إذَا ضَرَبَ بَطْنَ ظَبْيَةٍ فَأَلْقَتْ جَنِينًا ثُمَّ مَاتَتْ الظَّبْيَةُ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُمَا يُؤْخَذُ في ذلك كُلِّهِ بِالثِّقَةِ أَمَّا قِيمَةُ الْأُمِّ فَلِأَنَّهُ قَتَلَهَا وَأَمَّا قِيمَةُ الْجَنِينِ فَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَاتَ بِفِعْلِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كان مَيِّتًا فَيُحْكَمُ بِالضَّمَانِ احْتِيَاطًا فَإِنْ قَتَلَ ظَبْيَةً حَامِلًا فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا حَامِلًا لِأَنَّ الْحَمْلَ يَجْرِي مَجْرَى صِفَاتِهَا وَحُسْنِهَا وَمَلَاحَتِهَا وَسِمَنِهَا وَالصَّيْدُ مَضْمُونٌ بِأَوْصَافِهِ وَلَوْ حَلَبَ صَيْدًا فَعَلَيْهِ ما نَقَصَهُ الْحَلْبُ لِأَنَّ اللَّبَنَ جُزْءٌ من أَجْزَاءِ الصَّيْدِ فإذا نَقَصَهُ الْحَلْبُ يَضْمَنُ كما لو أَتْلَفَ جزأ من أَجْزَائِهِ كَالصَّيْدِ الْمَمْلُوكِ وَأَمَّا إذَا قَتَلَ الصَّيْدَ تَسَبُّبًا فَإِنْ كان مُتَعَدِّيًا في التَّسَبُّبِ يَضْمَنُ وَإِلَّا فَلَا بَيَانُ ذلك أَنَّهُ إذَا نَصَبَ شَبَكَةً فتعقل ‏[‏فتعلق‏]‏ بِهِ صَيْدٌ وَمَاتَ أو حَفَرَ حَفِيرَةً لِلصَّيْدِ فَوَقَعَ فيها فَعَطِبَ يَضْمَنُ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ في التَّسَبُّبِ وَلَوْ ضَرَبَ فُسْطَاطًا لِنَفْسِهِ فتعقل ‏[‏فتعلق‏]‏ بِهِ صَيْدٌ فَمَاتَ أو حَفَرَ حَفِيرَةً لِلْمَاءِ أو لِلْخَبْزِ فَوَقَعَ فيها صَيْدٌ فَمَاتَ لَا شَيْءَ عليه لِأَنَّ ذلك مُبَاحٌ له فلم يَكُنْ مُتَعَدِّيًا في التَّسَبُّبِ وَهَذَا كَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا على قَارِعَةِ الطَّرِيقِ فَوَقَعَ فيها إنْسَانٌ أو بَهِيمَةٌ مات ‏[‏ومات‏]‏ يَضْمَنُ وَلَوْ كان الْحَفْرُ في دَارِ نَفْسِهِ فَوَقَعَ فيها إنْسَانٌ لَا يَضْمَنُ لِأَنَّهُ في الْأَوَّلِ متعد ‏[‏متعديا‏]‏ بِالتَّسَبُّبِ وفي الثَّانِي لَا كَذَا هذا وَلَوْ أَعَانَ مُحْرِمًا أو حَلَالًا على صَيْدٍ ضَمِنَ لِأَنَّ الْإِعَانَةَ على الصَّيْدِ تُسَبِّبُ إلَى قَتْلِهِ وهو مُتَعَدٍّ في هذا التَّسَبُّبِ لِأَنَّهُ تَعَاوَنَ على الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وقد قال اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا تَعَاوَنُوا على الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ‏}‏ وَلَوْ دَلَّ عليه أو أَشَارَ إلَيْهِ فَإِنْ كان الْمَدْلُولُ يَرَى الصَّيْدَ أو يَعْلَمُ بِهِ من غَيْرِ دَلَالَةٍ أو إشَارَةٍ فَلَا شَيْءَ على الدَّالِّ لِأَنَّهُ إذَا كان يَرَاهُ أو يَعْلَمُ بِهِ من غَيْرِ دَلَالَتِهِ فَلَا أَثَرَ لِدَلَالَتِهِ في تَفْوِيتِ الْأَمْنِ على الصَّيْدِ فلم تَقَعْ الدَّلَالَةُ تَسَبُّبًا إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ ذلك فَقَتَلَهُ بِدَلَالَتِهِ لِأَنَّهُ نَوْعُ تَحْرِيضٍ على اصْطِيَادِهِ وَإِنْ رَآهُ الْمَدْلُولُ بِدَلَالَتِهِ فَقَتَلَهُ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وقال الشَّافِعِيُّ لَا جَزَاءَ عليه‏.‏

وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ وُجُوبَ الْجَزَاءِ مُتَعَلِّقٌ بِقَتْلِ الصَّيْدِ ولم يُوجَدْ وَلَنَا ما رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال الدَّالُّ على الشَّيْءِ كَفَاعِلِهِ وَرُوِيَ الدَّالُّ على الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ وَالدَّالُّ على الشَّرِّ كَفَاعِلِهِ فَظَاهِرُ الحديث يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لِلدَّلَالَةِ حُكْمُ الْفِعْلِ إلَّا ما خُصَّ بِدَلِيلٍ وروى أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ رضي اللَّهُ عنه شَدَّ على حِمَارِ وَحْشٍ وهو حَلَالٌ فَقَتَلَهُ وَأَصْحَابُهُ مُحْرِمُونَ فَمِنْهُمْ من أَكَلَ وَمِنْهُمْ من أَبَى فَسَأَلُوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال صلى اللَّهُ عليه وسلم هل أَشَرْتُمْ هل أَعَنْتُمْ فَقَالُوا لَا فقال كُلُوا إذًا فَلَوْلَا أَنَّ الْحُكْمَ يَخْتَلِفُ بِالْإِعَانَةِ وَالْإِشَارَةِ وَإِلَّا لم يَكُنْ لِلْفَحْصِ عن ذلك مَعْنًى وَدَلَّ ذلك على حُرْمَةِ الْإِعَانَةِ وَالْإِشَارَةِ وَذَا يَدُلُّ على وُجُوبِ الْجَزَاءِ وروى أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه فقال إنِّي أَشَرْت إلَى ظَبْيَةٍ فَقَتَلَهَا صَاحِبِي فَسَأَلَ عُمَرُ عَبْدَ الرحمن بن عَوْفٍ رضي اللَّهُ تعالى عنهما فقال ما تَرَى فقال أَرَى عليه شَاةً فقال عُمَرُ رضي اللَّهُ تعالى عنه وأنا أَرَى مِثْلَ ذلك‏.‏

وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا أَشَارَ إلَى بَيْضَةِ نَعَامَةٍ فَكَسَرَهَا صَاحِبُهُ فَسَأَلَ عن ذلك عَلِيًّا وَابْنَ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما فَحَكَمَا عليه بِالْقِيمَةِ وَكَذَا حُكْمُ عُمَرَ وَعَبْدِ الرحمن رضي اللَّهُ عنهما مَحْمُولٌ على الْقِيمَةِ وَلِأَنَّ الْمُحْرِمَ قد أَمَّنَ الصَّيْدَ بِإِحْرَامِهِ وَالدَّلَالَةُ تُزِيلُ الْأَمْنَ لِأَنَّ أَمْنَ الصَّيْدِ في حَالِ قُدْرَتِهِ وَيِقْظَتِهِ يَكُونُ بِتَوَحُّشِهِ عن الناس وفي حَالِ عَجْزِهِ وَنَوْمِهِ يَكُونُ بِاخْتِفَائِهِ عن الناس وَالدَّلَالَةُ تُزِيلُ الِاخْتِفَاءَ فَيَزُولُ الْأَمْنُ فَكَانَتْ الدَّلَالَةُ في إزَالَةِ الْأَمْنِ كَالِاصْطِيَادِ وَلِأَنَّ الْإِعَانَةَ وَالدَّلَالَةَ وَالْإِشَارَةَ تَسَبُّبٌ إلَى الْقَتْلِ وهو مُتَعَدٍّ في هذا التَّسَبُّبِ لِكَوْنِهِ مُزِيلًا لِلْأَمْنِ وإنه مَحْظُورُ الْإِحْرَامِ فَأَشْبَهَ نَصْبَ الشَّبَكَةِ وَنَحْوَ ذلك وَلِأَنَّهُ لَمَّا أَمَّنَ الصَّيْدَ عن التَّعَرُّضِ بِعَقْدِ الْإِحْرَامِ وَالْتَزَمَ ذلك صَارَ بِهِ الصَّيْدُ كَالْأَمَانَةِ في يَدِهِ فَأَشْبَهَ الْمُودَعَ إذَا دَلَّ سَارِقًا على سَرِقَةِ الْوَدِيعَةِ وَلَوْ اسْتَعَارَ مُحْرِمٌ من مُحْرِمٍ سِكِّينًا لِيَذْبَحَ بِهِ صَيْدًا فَأَعَارَهُ إيَّاهُ فَذَبَحَ بِهِ الصَّيْدَ فَلَا جَزَاءَ على صَاحِبِ السِّكِّينِ

كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الْأَصْلِ من الْمَشَايِخِ من فصل في ذلك تَفْصِيلًا فقال إنْ كان الْمُسْتَعِيرُ يَتَوَصَّلُ إلَى قَتْلِ الصَّيْدِ بِغَيْرِهِ لَا يَضْمَنُ وَإِنْ كان لَا يَتَوَصَّلُ إلَيْهِ إلَّا بِذَلِكَ السِّكِّينِ يَضْمَنُ الْمُعِيرُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَالدَّالِ وَنَظِيرُ هذا ما قالوا لو أَنَّ مُحْرِمًا رَأَى صَيْدًا وَلَهُ قَوْسٌ أو سِلَاحٌ يَقْتُلُ بِهِ ولم يَعْرِفْ أَنَّ ذلك في أَيِّ مَوْضِعٍ فَدَلَّهُ مُحْرِمٌ على سِكِّينَتِهِ أو على قَوْسِهِ فَأَخَذَهُ فَقَتَلَهُ بِهِ أَنَّهُ إنْ كان يَجِدُ غير ما دَلَّهُ عليه مِمَّا يَقْتُلُهُ بِهِ لَا يَضْمَنُ الدَّالُّ وَإِنْ لم يَجِدْ غَيْرَهُ يَضْمَنُ وَلَا يَحِلُّ لِلْمُحْرِمِ أَكْلُ ما ذَبَحَهُ من الصَّيْدِ وَلَا لِغَيْرِهِ من الْمُحْرِمِ وَالْحَلَالِ وهو بِمَنْزِلَةِ الْمَيْتَةِ لِأَنَّهُ بِالْإِحْرَامِ خَرَجَ من أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلذَّكَاةِ فَلَا تُتَصَوَّرُ منه الذَّكَاةُ كَالْمَجُوسِيِّ إذَا ذَبَحَ وَكَذَا الصَّيْدُ خَرَجَ من أَنْ يَكُونَ مَحِلًّا لِلذَّبْحِ في حَقِّهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُمًا‏}‏ وَالتَّحْرِيمُ الْمُضَافُ إلَى الْأَعْيَانِ يُوجِبُ خُرُوجَهَا عن مَحَلِّيَّةِ التَّصَرُّفِ شَرْعًا كَتَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ وَتَحْرِيمِ الْأُمَّهَاتِ وَالتَّصَرُّفِ الصَّادِرِ من غَيْرِ الْأَهْلِ وفي غَيْرِ مَحِلِّهِ يَكُونُ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ فَإِنْ أَكَلَ الْمُحْرِمُ الذَّابِحُ منه فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ وهو قِيمَتُهُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى ليس عليه إلَّا التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ وَلَا خِلَافَ في أَنَّهُ لو أَكَلَهُ غَيْرُهُ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ وَجْهُ قَوْلِهِمْ أَنَّهُ أَكَلَ مَيْتَةً فَلَا يَلْزَمَنَّهُ إلَّا التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ كما لو أَكَلَهُ غَيْرُهُ‏.‏

وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ تَنَاوَلَ مَحْظُورَ إحْرَامِهِ فَيَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ وَبَيَانُ ذلك أَنَّ كَوْنَهُ مَيْتَةً لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ وَالْمَحَلِّيَّةِ وَعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ وَالْمَحَلِّيَّةِ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ فَكَانَتْ الْحُرْمَةُ بِهَذِهِ الْوَاسِطَةِ مُضَافَةً إلَى الْإِحْرَامِ فإذا أَكَلَهُ فَقَدْ ارْتَكَبَ مَحْظُورَ إحْرَامِهِ فَيَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ بِخِلَافِ ما إذَا أَكَلَهُ مُحْرِمٌ آخَرُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عليه جَزَاءُ ما أَكَلَ لِأَنَّ ما أَكَلَهُ ليس مَحْظُورَ إحْرَامِهِ بَلْ مَحْظُورُ إحْرَامِ غَيْرِهِ وَكَمَا لَا يَحِلُّ له لَا يَحِلُّ لِغَيْرِهِ مُحْرِمًا كان أو حَلَالًا عِنْدَنَا وقال الشَّافِعِيُّ يَحِلُّ لِغَيْرِهِ أَكْلُهُ وَجْهُ قَوْلِهِ أن الْحُرْمَةَ لِمَكَانِ أَنَّهُ صَيْدٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُمًا‏}‏ وهو صَيْدُهُ لَا صَيْدَ غَيْرِهِ فَيَحْرُمُ عليه لَا على غَيْرِهِ وَلَنَا أَنَّ حُرْمَتَهُ لِكَوْنِهِ مَيْتَةً لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الذَّكَاةِ وَمَحَلِّيَّتِهَا فَيَحْرُمُ عليه وَعَلَى غَيْرِهِ كَذَبِيحَةِ الْمَجُوسِيِّ هذا إذَا أَدَّى الْجَزَاءَ ثُمَّ أَكَلَ فَأَمَّا إذَا أَكَلَ قبل أَدَاءِ الْجَزَاءِ فَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ عليه جَزَاءً وَاحِدًا وَيَدْخُلُ ضَمَانُ ما أَكَلَ في الْجَزَاءِ وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ في شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ لَا رِوَايَةَ في هذه الْمَسْأَلَةِ فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ يَلْزَمُهُ جَزَاءٌ آخَرُ وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ يَتَدَاخَلَانِ وَسَوَاءٌ تَوَلَّى صَيْدَهُ بِنَفْسِهِ أو بِغَيْرِهِ من الْمُحْرِمِينَ بِأَمْرِهِ أو رَمَى صَيْدًا فَقَتَلَهُ أو أَرْسَلَ كَلْبَهُ أو بَازِيَهُ الْمُعَلَّمَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ له لِأَنَّ صَيْدَ غَيْرِهِ بِأَمْرِهِ صَيْدُهُ مَعْنًى وَكَذَا صَيْدُ الْبَازِي وَالْكَلْبِ وَالسَّهْمِ لِأَنَّ فِعْلَ الِاصْطِيَادِ منه وَإِنَّمَا ذلك آلَةُ الِاصْطِيَادِ وَالْفِعْلُ لِمُسْتَعْمِلِ الْآلَةِ لَا لِلْآلَةِ وَيَحِلُّ لِلْمُحْرِمِ أَكْلُ صَيْدٍ اصْطَادَهُ الْحَلَالُ لِنَفْسِهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وقال دَاوُد بن عَلِيٍّ الْأَصْفَهَانِيُّ لَا يَحِلُّ وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بين الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ روى عن طَلْحَةَ وَعُبَيْدِ اللَّهِ وَقَتَادَةَ وَجَابِرٍ وَعُثْمَانَ في رِوَايَةٍ أَنَّهُ يَحِلُّ وَعَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعُثْمَانَ في رِوَايَةٍ أنه لَا يَحِلُّ‏.‏

وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُمًا‏}‏ أَخْبَرَ أَنَّ صَيْدَ الْبَرِّ مُحَرَّمٌ على الْمُحْرِمِ مُطْلَقًا من غَيْرِ فصل بين أَنْ يَكُونَ صَيْدَ الْمُحْرِمِ أو الْحَلَالِ وَهَكَذَا قال ابن عَبَّاسٍ أن الْآيَةَ مُبْهَمَةٌ لَا يَحِلُّ لَك أَنْ تَصِيدَهُ وَلَا أَنْ تَأْكُلَهُ وَرُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ الصَّعْبَ بن جَثَّامَةَ أهدي إلَى رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَحْمَ حِمَارِ وَحْشٍ وهو بِالْأَبْوَاءِ أو بِوَدَّانَ فَرَدَّهُ فَرَأَى النبي صلى الله عليه وسلم في وَجْهِهِ كَرَاهَةً فقال ليس بِنَا رَدٌّ عَلَيْك وَلَكِنَّا حُرُمٌ وفي رواية‏:‏ قال لَوْلَا أَنَّا حُرُمٌ لَقَبِلْنَاهُ مِنْك وَعَنْ زَيْدِ بن أَرْقَمَ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى الْمُحْرِمَ عن لَحْمِ الصَّيْدِ مُطْلَقًا‏.‏

وَلَنَا ما رُوِيَ عن أبي قَتَادَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ كان حَلَالًا وَأَصْحَابُهُ مُحْرِمُونَ فَشَدَّ على حِمَارِ وَحْشٍ فَقَتَلَهُ فَأَكَلَ منه بَعْضُ أَصْحَابِهِ وَأَبَى الْبَعْضُ فَسَأَلُوا عن ذلك رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فقال رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم إنَّمَا هِيَ طُعْمَةٌ أَطْعَمَكُمُوهَا اللَّهُ هل مَعَكُمْ من لَحْمِهِ شَيْءٌ وَعَنْ جَابِرٍ رضي اللَّهُ عنه قال قال رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَحْمُ صَيْدِ الْبَرِّ حَلَالٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ما لم تَصِيدُوهُ أو يصاد ‏[‏يصد‏]‏ لَكُمْ وَهَذَا نَصٌّ في الْباب وَلَا حُجَّةَ لهم في الْآيَةِ لِأَنَّ فيها تَحْرِيمَ صَيْدِ الْبَرِّ لَا تَحْرِيمَ لَحْمِ الصَّيْدِ وَهَذَا لَحْمُ الصَّيْدِ وَلَيْسَ بِصَيْدٍ حَقِيقَةً لِانْعِدَامِ مَعْنَى الصَّيْدِ وهو الِامْتِنَاعُ وَالتَّوَحُّشُ على أَنَّ الصَّيْدَ في الْحَقِيقَةِ مَصْدَرٌ وَإِنَّمَا يُطْلَقُ على الْمَصِيدِ مَجَازًا وَأَمَّا حَدِيثُ الصَّعْبِ بن جَثَّامَةَ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فيه عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنه رُوِيَ في بَعْضِهَا أَنَّهُ أَهْدَى إلَيْهِ حِمَارًا وَحْشِيًّا كَذَا رَوَى مَالِكٌ وَسَعِيدُ بن جُبَيْرٍ وَغَيْرُهُمَا عن ابْنِ عَبَّاسٍ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً وَحَدِيثُ زَيْدِ بن أَرْقَمَ مَحْمُولٌ على صَيْدٍ صَادَهُ بِنَفْسِهِ أو غَيْرِهِ بِأَمْرِهِ أو بِإِعَانَتِهِ أو بِدَلَالَتِهِ أو بِإِشَارَتِهِ عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ كُلِّهَا وَسَوَاءٌ صَادَهُ الْحَلَالُ لِنَفْسِهِ أو لِلْمُحْرِمِ بَعْدَ أَنْ لَا يَكُونَ بِأَمْرِهِ عِنْدَنَا وقال الشَّافِعِيُّ إذَا صَادَهُ له لَا يَحِلُّ له أَكْلُهُ وَاحْتَجَّ بِمَا روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال صَيْدُ الْبَرِّ حَلَالٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ما لم تَصِيدُوهُ أو يُصَادَ لَكُمْ وَلَا حُجَّةَ له فيه لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ مَصِيدًا له إلَّا بِأَمْرِهِ وَبِهِ نَقُولُ وَالله أعلم‏.‏

وَأَمَّا حُكْمُ الصَّيْدِ إذَا جَرَحَهُ الْمُحْرِمُ فَإِنْ جَرَحَهُ جُرْحًا يُخْرِجُهُ عن حَدِّ الصَّيْدِ وهو الْمُمْتَنِعُ الْمُتَوَحِّشُ بِأَنْ قَطَعَ رجل رِجْلَ ظَبْيٍ أو جَنَاحَ طَائِرٍ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ لِأَنَّهُ أَتْلَفَهُ حَيْثُ أَخْرَجَهُ عن حَدِّ الصَّيْدِ فَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ وَإِنْ جَرَحَهُ جُرْحًا لم يُخْرِجْهُ عن حَدِّ الصَّيْدِ يَضْمَنُ ما نَقَصَتْهُ الْجِرَاحَةُ لِوُجُودِ إتْلَافِ ذلك الْقَدْرِ من الصَّيْدِ فَإِنْ انْدَمَلَتْ الْجِرَاحَةُ وبريء الصَّيْدُ لَا يَسْقُطُ الْجَزَاءُ لِأَنَّ الْجَزَاءَ يَجِبُ بِإِتْلَافِ جُزْءٍ من الصَّيْدِ وَبِالِانْدِمَالِ لَا يُتَبَيَّنُ أَنَّ الْإِتْلَافَ لم يَكُنْ بِخِلَافِ ما إذَا جَرَحَ آدَمِيًّا فَانْدَمَلَتْ جِرَاحَتُهُ ولم يَبْقَ لها أَثَرٌ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عليه لِأَنَّ الضَّمَانَ هُنَاكَ إنَّمَا يَجِبُ لِأَجْلِ الشَّيْنِ وقد ارْتَفَعَ فَإِنْ رَمَى صَيْدًا فَجَرَحَهُ فَكَفَّرَ عنه ثُمَّ رَآهُ بَعْدَ ذلك فَقَتَلَهُ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى لِأَنَّهُ لَمَّا كَفَّرَ الْجِرَاحَةَ ارْتَفَعَ حُكْمُهَا وَجُعِلَتْ كَأَنْ لم تَكُنْ وَقَتْلُهُ الْآنَ ابْتِدَاءً فَيَجِبُ عليه الضَّمَانُ لَكِنْ ضَمَانُ صَيْدٍ مَجْرُوحٍ لِأَنَّ تِلْكَ الْجِرَاحَةَ قد أَخْرَجَ ضَمَانَهَا مَرَّةً فَلَا تَجِبُ مَرَّةً أُخْرَى فَإِنْ جَرَحَهُ ولم يُكَفِّرْ ثُمَّ رَآهُ بَعْدَ ذلك فَقَتَلَهُ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَلَيْسَ عليه في الْجِرَاحَةِ شَيْءٌ لِأَنَّهُ لَمَّا قَتَلَهُ قبل أَنْ يُكَفِّرَ عن الْجِرَاحَةِ صَارَ كَأَنَّهُ قَتَلَهُ دَفْعَةً وَاحِدَةً‏.‏

وَذَكَرَ الْحَاكِمُ في مُخْتَصَرِهِ إلَّا ما نَقَصَتْهُ الْجِرَاحَةُ الْأُولَى أَيْ يَلْزَمُهُ ضَمَانُ صَيْدٍ مَجْرُوحٍ لِأَنَّ ذلك النُّقْصَانَ قد وَجَبَ عليه ضَمَانُهُ مَرَّةً فَلَا يَجِبُ مَرَّةً أُخْرَى وَلَوْ جَرَحَ صَيْدًا فَكَفَّرَ عنه قبل أَنْ يَمُوتَ ثُمَّ مَاتَ أَجْزَأَتْهُ الْكَفَّارَةُ التي أَدَّاهَا لِأَنَّهُ إنْ أَدَّى الْكَفَّارَةَ قبل وُجُوبِهَا لَكِنْ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَأَنَّهُ جَائِزٌ كما لو جَرَحَ إنْسَانًا خَطَأً فَكَفَّرَ عنه ثُمَّ مَاتَ الْمَجْرُوحُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا وَإِنْ نَتَفَ رِيشَ صَيْدٍ أو قَلَعَ سِنَّ ظَبْيٍ فَنَبَتَ وَعَادَ إلَى ما كان أو ضَرَبَ على عَيْنِ ظَبْيٍ فَابْيَضَّتْ ثُمَّ ارْتَفَعَ بَيَاضُهَا قال أبو حَنِيفَةَ في سِنِّ الظَّبْيِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عليه إذَا نَبَتَ ولم يُحْكَ عنه في غَيْرِهِ شَيْءٌ وقال أبو يُوسُفَ عليه صَدَقَةٌ وَجْهُ قَوْلِهِ إن وُجُوبَ الْجَزَاءِ بِالْجِنَايَةِ على الْإِحْرَامِ وَبِالنَّبَاتِ وَالْعَوْدِ إلَى ما كان لَا يُتَبَيَّنُ إن الْجِنَايَةَ لم تَكُنْ فَلَا يَسْقُطُ الْجَزَاءُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ وُجُوبَ الْجَزَاءِ لِمَكَانِ النُّقْصَانِ وقد زَالَ فَيَزُولُ الضَّمَانُ كما لو قَلَعَ سِنَّ طبي ‏[‏ظبي‏]‏ لم يُثْغِرْ‏.‏

وَأَمَّا حُكْمُ أَخْذِ الصَّيْدِ فَالْمُحْرِمُ إذَا أَخَذَ الصَّيْدَ يَجِبُ عليه إرْسَالُهُ سَوَاءٌ كان في يَدِهِ أو في قَفَصٍ معه أو في بَيْتِهِ لِأَنَّ الصَّيْدَ اسْتَحَقَّ الْأَمْنَ بِإِحْرَامِهِ وقد فَوَّتَ عليه الْأَمْنَ بِالْأَخْذِ فَيَجِبُ عليه إعَادَتُهُ إلَى حَالَةِ الْأَمْنِ وَذَلِكَ بِالْإِرْسَالِ فَإِنْ أَرْسَلَهُ مُحْرِمٌ من يَدِهِ فَلَا شَيْءَ على الْمُرْسِلِ لِأَنَّ الصَّائِدَ ما مَلَكَ الصَّيْدَ فلم يَصِرْ بِالْإِرْسَالِ مُتْلِفًا مِلْكَهُ وَإِنَّمَا وَجَبَ عليه الْإِرْسَالُ لِيَعُودَ إلَى حَالَةِ الْأَمْنِ فإذا أَرْسَلَ فَقَدْ فَعَلَ ما وَجَبَ عليه وَإِنْ قَتَلَهُ فَعَلَى كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَزَاءٌ أَمَّا الْقَاتِلُ فَلِأَنَّهُ مُحْرِمٌ قَتَلَ صَيْدًا وَأَمَّا الْآخِذُ فَلِأَنَّهُ فَوَّتَ الْأَمْنَ على الصَّيْدِ بِالْأَخْذِ وَأَنَّهُ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ إلَّا أَنَّهُ يَسْقُطُ بِالْإِرْسَالِ فإذا تَعَذَّرَ الْإِرْسَالُ لم يَسْقُطْ وَلِلْآخِذِ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا ضَمِنَ على الْقَاتِلِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ

وقال زُفَرُ لَا يَرْجِعُ وَجْهُ قَوْلِهِ أن الْمُحْرِمَ لم يَمْلِكْ الصَّيْدَ بِالْأَخْذِ فَكَيْفَ يَمْلِكُ بَدَلَهُ عِنْدَ الْإِتْلَافِ وَلَنَا أَنَّ الْمِلْكَ له وَإِنْ لم يَثْبُتْ فَقَدْ وُجِدَ سَبَبُ الثُّبُوتِ في حَقِّهِ وهو الْأَخْذُ قال النبي صلى الله عليه وسلم الصَّيْدُ لِمَنْ أَخَذَهُ إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ جَعْلُهُ سَبَبًا لِمِلْكِ غَيْرِ الصَّيْدِ فَيُجْعَلُ سَبَبًا لِمِلْكِ بَدَلِهِ فَيَمْلِكُ بَدَلَهُ عِنْدَ الْإِتْلَافِ وَيُجْعَلُ كَأَنَّ الْأَصْلَ كان مِلْكَهُ كَمَنْ غَصَبَ مُدَبَّرًا فَجَاءَ إنْسَانٌ وَقَتَلَهُ في يَدِ الْغَاصِبِ أو غَصَبَهُ من يَدِهِ فَضَمَّنِ الْمَالِكُ الْغَاصِبَ فإن لِلْغَاصِبِ أَنْ يَرْجِعَ بِالضَّمَانِ على الْغَاصِبِ وَالْقَاتِلِ وَكَذَا هذا في غَصْبِ أُمِّ الْوَلَدِ وَإِنْ لم يَمْلِكْ الْمُدَبَّرَ وَأُمَّ الْوَلَدِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا وَلَوْ أَصَابَ الْحَلَالُ صَيْدًا ثُمَّ أَحْرَمَ فَإِنْ كان مُمْسِكًا إيَّاهُ بيده فَعَلَيْهِ إرْسَالُهُ لِيَعُودَ بِهِ إلَى الْأَمْنِ الذي اسْتَحَقَّهُ بِالْإِحْرَامِ فَإِنْ لم يُرْسِلْهُ حتى هَلَكَ في يَدِهِ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ وَإِنْ أَرْسَلَهُ إنْسَانٌ من يَدِهِ ضَمِنَ له قِيمَتَهُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَضْمَنُ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أن الْإِرْسَالَ كان وَاجِبًا على الْمُحْرِمِ حَقًّا لِلَّهِ فإذا أَرْسَلَهُ الْأَجْنَبِيُّ فَقَدْ احْتَسَبَ بِالْإِرْسَالِ فَلَا يَضْمَنُ كما لو أَخَذَهُ وهو مُحْرِمٌ فَأَرْسَلَهُ إنْسَانٌ من يَدِهِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ أَتْلَفَ صَيْدًا مَمْلُوكًا له فَيَضْمَنُ كما لو أَتْلَفَ قبل الْإِحْرَامِ وَالدَّلِيلُ على أَنَّ الصَّيْدَ مِلْكُهُ أَنَّهُ أَخَذَهُ وهو حَلَالٌ وَأَخْذُ الصَّيْدِ من الْحَلَالِ سَبَبٌ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ لِقَوْلِهِ الصَّيْدُ لِمَنْ أَخَذَهُ وَاللَّامُ لِلْمِلْكِ وَالْعَارِضُ وهو الْإِحْرَامُ أَثَرُهُ في حُرْمَةِ التَّعَرُّضِ لَا في زَوَالِ الْمِلْكِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُمَا إنَّ الْمُرْسِلَ احْتَسَبَ بِالْإِرْسَالِ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ فَنَقُولُ الْوَاجِبُ هو الْإِرْسَالُ على وَجْهٍ يُفَوِّتُ يَدَهُ عن الصَّيْدِ أَصْلًا وَرَأْسًا أو على وَجْهٍ يزول ‏[‏يزيل‏]‏ يَدَهُ الحقيقة ‏[‏الحقيقية‏]‏ عنه أن قَالَا على وَجْهٍ يُفَوِّتُ يَدَهُ أَصْلًا وَرَأْسًا مَمْنُوعٌ وَإِنْ قَالَا على وَجْهٍ يزول ‏[‏يزيل‏]‏ يَدَهُ الْحَقِيقِيَّةَ عنه فَمُسَلَّمٌ لَكِنْ ذلك يَحْصُلُ بِالْإِرْسَالِ في بَيْتِهِ وَإِنْ أَرْسَلَهُ في بَيْتِهِ فَلَا شَيْءَ عليه بِخِلَافِ ما إذَا اصْطَادَهُ وهو مُحْرِمٌ فَأَرْسَلَهُ غَيْرُهُ من يَدِهِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ على الصَّائِدِ هُنَاكَ إرْسَالُ الصَّيْدِ على وَجْهٍ يَعُودُ إلَيْهِ بِهِ الْأَمْنُ الذي اسْتَحَقَّهُ بِإِحْرَامِهِ وفي الْإِمْسَاكِ في الْقَفَصِ أو في الْبَيْتِ لَا يَعُودُ الْأَمْنُ بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لِأَنَّ الصَّيْدَ هُنَاكَ ما اسْتَحَقَّ الْأَمْنَ وقد أَخَذَهُ وَصَارَ مِلْكًا له وَإِنَّمَا يَحْرُمُ عليه التَّعَرُّضُ في حَالِ الْإِحْرَامِ فَيَجِبُ إزَالَةُ التَّعَرُّضِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِزَوَالِ يَدِهِ الْحَقِيقِيَّةِ فَلَا يَحْرُمُ عليه الْإِرْسَالُ في الْبَيْتِ أو في الْقَفَصِ وَالدَّلِيلُ على التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا في الْفصل الْأَوَّلِ لو أَرْسَلَهُ ثُمَّ وَجَدَهُ بَعْدَ ما حَلَّ من إحْرَامِهِ في يَدِ آخَرَ له أَنْ يَسْتَرِدَّهُ منه وفي الْفصل الثَّانِي ليس له أَنْ يَسْتَرِدَّهُ وَإِنْ كان الصَّيْدُ في قَفَصٍ معه أو في بَيْتِهِ لَا يَجِبُ إرْسَالُهُ عِنْدَنَا‏.‏

وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَجِبُ حتى أَنَّهُ لو لم يُرْسِلْهُ فَمَاتَ لَا يَضْمَنُ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يَضْمَنُ وَالْكَلَامُ فيه مَبْنِيٌّ على أَنَّ من أَحْرَمَ وفي مِلْكِهِ صَيْدٌ لَا يَزُولُ مِلْكُهُ عنه عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يَزُولُ

والصحيح ‏[‏الصحيح‏]‏ قَوْلُنَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ كان مِلْكًا له وَالْعَارِضُ وهو حُرْمَةُ التَّعَرُّضِ لَا يُوجِبُ زَوَالَ الْمِلْكِ وَيَسْتَوِي فِيمَا يُوجِبُ الْجَزَاءَ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ وَالْمُفْرِدُ وَالْقَارِنُ غير أَنَّ الْقَارِنَ يَلْزَمُهُ جزاآن ‏[‏جزاءان‏]‏ عِنْدَنَا لِكَوْنِهِ مُحْرِمًا بِإِحْرَامَيْنِ فَيَصِيرُ جَانِيًا عَلَيْهِمَا فَيَلْزَمُهُ كَفَّارَتَانِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا جَزَاءٌ وَاحِدٌ لِكَوْنِهِ مُحْرِمًا بِإِحْرَامٍ وَاحِدٍ

وَأَمَّا الذي يُوجِبُ فَسَادَ الْحَجِّ فَالْجِمَاعُ لِقَوْلِهِ عز وجل‏:‏ ‏{‏فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ‏}‏ عن ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ الْجِمَاعُ وَأَنَّهُ مُفْسِدٌ لِلْحَجِّ لِمَا نَذْكُرُ في بَيَانِ ما يُفْسِدُ الْحَجَّ وَبَيَانِ حُكْمِهِ إذَا فَسَدَ إن شاء الله تعالى‏.‏ هذا الذي ذَكَرْنَا بَيَانُ ما يَخُصُّ الْمُحْرِمَ من الْمَحْظُورَاتِ وَهِيَ مَحْظُورَاتُ الْإِحْرَامِ وَالله أعلم‏.‏

فصل مَحْظُورَات الْحَرَمِ

وَيَتَّصِلُ بهذا بَيَانُ ما يَعُمُّ الْمُحْرِمَ وَالْحَلَالَ جميعا وهو مَحْظُورَاتُ الْحَرَمِ فَنَذْكُرُهَا فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ مَحْظُورَاتُ الْحَرَمِ نَوْعَانِ نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الصَّيْدِ وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى النَّبَاتِ أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الصَّيْدِ فَهُوَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ قَتْلُ صَيْدِ الْحَرَمِ لِلْمُحْرِمِ وَالْحَلَالِ جميعا إلَّا الْمُؤْذِيَاتِ الْمُبْتَدِئَةَ بِالْأَذَى غَالِبًا وقد بَيَّنَّا ذلك في صَيْدِ الْإِحْرَامِ وَالْأَصْلُ فيه قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أو لم يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا‏}‏ وقَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ‏}‏ وقَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُمًا‏}‏ وَهَذَا يَتَنَاوَلُ صَيْدَ الْإِحْرَامِ وَالْحَرَمِ جميعا لِأَنَّهُ يُقَالُ أَحْرَمَ إذَا دخل في الْإِحْرَامِ وَأَحْرَمَ إذَا دخل في الْحَرَمِ كما يُقَالُ أَنْجَدَ إذَا دخل نَجْدَ وَاتَّهَمَ إذَا دخل تِهَامَةَ وَأَعْرَقَ إذَا دخل الْعِرَاقَ وَأَحْرَمَ إذَا دخل في الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ في عُثْمَانَ رضي اللَّهُ عنه‏:‏

قُتِلَ ابن عَفَّانَ الْخَلِيفَةُ مُحْرِمًا *** وَدَعَا فلم أَرَ مثله مَخْذُولًا

الْخَلِيفَةُ مُحْرِمًا أَيْ في الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَاللَّفْظُ وَإِنْ كان مُشْتَرَكًا لَكِنَّ الْمُشْتَرَكَ في مَحَلِّ النَّفْيِ يَعُمُّ لِعَدَمِ التَّنَافِي إلَّا أَنَّ الدُّخُولَ في الشَّهْرِ الْحَرَامِ ليس بِمُرَادٍ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ أَخْذَ الصَّيْدِ في الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ لم يَكُنْ مَحْظُورًا ثُمَّ قد نُسِخَتْ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَبَقِيَ الدُّخُولُ في الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ مُرَادًا بِالْآيَتَيْنِ إلَّا ما خُصَّ بِدَلِيلٍ وَقَوْلُ النبي صلى الله عليه وسلم أَلَا إنَّ مَكَّةَ حَرَامٌ حَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى يوم خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لم تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لي سَاعَةً من نَهَارٍ ثُمَّ عَادَتْ حَرَامًا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا يختلي خَلَاهَا وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ من وُجُوهٍ أَحَدُهَا قَوْلُهُ مَكَّةَ حَرَامٌ وَالثَّانِي قَوْلُهُ حَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى وَالثَّالِثُ قَوْلُهُ وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي

وَالرَّابِعُ قَوْلُهُ ثُمَّ عَادَتْ حَرَامًا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَالْخَامِسُ قَوْلُهُ لَا يختلي خَلَاهَا وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا فَإِنْ قَتَلَ صَيْدَ الْحَرَمِ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ مُحْرِمًا كان الْقَاتِلُ أو حَلَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ‏}‏ وَجَزَاؤُهُ ما هو جَزَاءُ قَاتِلِ صَيْدِ الْإِحْرَامِ وهو أَنْ تَجِبَ عليه قِيمَتُهُ فَإِنْ بَلَغَتْ هَدْيًا له أَنْ يَشْتَرِيَ بها هَدْيًا أو طَعَامًا إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الصَّوْمُ هَكَذَا ذُكِرَ في الْأَصْلِ وَهَكَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ إن حُكْمَهُ حُكْمَ صَيْدِ الْإِحْرَام إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فيه الصَّوْمُ‏.‏ وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ في شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ إن الْإِطْعَامَ يجزيء في صَيْدِ الْحَرَمِ وَلَا يجزيء الصَّوْمُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ يجزىء وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وفي الهدى رِوَايَتَانِ‏.‏

وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ الِاعْتِبَارُ بِصَيْدِ الْإِحْرَامِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ من الضَّمَانَيْنِ يَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى ثُمَّ يجزىء الصَّوْمُ في أَحَدِهِمَا كَذَا في الْآخَرِ وَلَنَا الْفَرْقُ بين الصَّيْدَيْنِ وَالضَّمَانَيْنِ وهو أَنَّ ضَمَانَ صَيْدِ الْإِحْرَامِ وَجَبَ لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى الْفَاعِلِ لِأَنَّهُ وَجَبَ جَزَاءً على جِنَايَتِهِ على الْإِحْرَامِ فَأَمَّا ضَمَانُ صَيْدِ الْحَرَمِ فَإِنَّمَا وَجَبَ لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى الْمَحِلِّ وهو تَفْوِيتُ أَمْنِ الْحَرَمِ رعاية ‏[‏ورعاية‏]‏ لِحُرْمَةِ الْحَرَمِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ ضَمَانِ سَائِرِ الْأَمْوَالِ وَضَمَانُ سَائِرِ الْأَمْوَالِ لَا يَدْخُلُ فيه الصَّوْمُ كَذَا هذا وَأَمَّا الْهَدْيُ فَوَجْهُ رِوَايَةِ عَدَمِ الْجَوَازِ ما ذَكَرْنَا إن هذا الضَّمَانَ يُشْبِهُ ضَمَانَ سَائِرِ الْأَمْوَالِ لِأَنَّ وُجُوبَهُ لِمَعْنًى في الْمَحِلِّ فَلَا يَجُوزُ فيه الْهَدْيُ كما لَا يَجُوزُ في سَائِرِ الْأَمْوَالِ إلَّا أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهُ مَذْبُوحًا مِثْلَ قِيمَةِ الصَّيْدِ فيجزىء ‏[‏فيجزئ‏]‏ عن الطَّعَامِ وَجْهُ رِوَايَةِ الْجَوَازِ أَنَّ ضَمَانَ صَيْدِ الْحَرَمِ له شَبَهٌ بِأَصْلَيْنِ ضَمَانِ الْأَمْوَالِ وَضَمَانِ الْأَفْعَالِ أَمَّا شَبَهُهُ بِضَمَانِ الْأَمْوَالِ فَلِمَا ذَكَرْنَا وَأَمَّا شَبَهُهُ بِضَمَانِ الْأَفْعَالِ وهو ضَمَانُ الْإِحْرَامِ فَلِأَنَّهُ يَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى فَيُعْمَلُ بِالشَّبَهَيْنِ فَنَقُولُ أنه لَا يَدْخُلُ فيه الصَّوْمُ اعْتِبَارًا لِشَبَهِ الْأَمْوَالِ وَيَدْخُلُ فيه الْهَدْيُ اعْتِبَارًا لِشَبَهِ الْأَفْعَالِ وهو الْإِحْرَامُ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ إذْ لَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِالْعَكْسِ وَلِأَنَّ الْهَدْيَ مَالٌ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْإِطْعَامِ وَالصَّوْمُ ليس بِمَالٍ وَلَا فيه مَعْنَى الْمَالِ فَافْتَرَقَا وَلَوْ قَتَلَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا في الْحَرَمِ فَعَلَيْهِ ما على الْمُحْرِمِ إذَا قَتَلَ صَيْدًا في الْحِلِّ وَلَيْسَ عليه لِأَجْلِ الْحَرَمِ شَيْءٌ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَالْقِيَاسُ أَنْ يَلْزَمَهُ كَفَّارَتَانِ لِوُجُودِ الْجِنَايَةِ على شَيْئَيْنِ وَهُمَا الْإِحْرَامُ وَالْحَرَمُ فَأَشْبَهَ الْقَارِنَ إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا وَأَوْجَبُوا كَفَّارَةَ الْإِحْرَامِ لَا غير لِأَنَّ حُرْمَةَ الْإِحْرَامِ أَقْوَى من حُرْمَةِ الْحَرَمِ فَاسْتَتْبَعَ الْأَقْوَى الْأَضْعَفُ وَبَيَانُ أَنَّ حُرْمَةَ الْإِحْرَامِ أَقْوَى من وُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّ حُرْمَةَ الْإِحْرَامِ ظَهَرَ أَثَرُهَا في الْحَرَمِ وَالْحِلِّ جميعا حتى حَرُمَ على الْمُحْرِمِ الصَّيْدُ في الْحَرَمِ وَالْحِلِّ جميعا وَحُرْمَةُ الْإِحْرَامِ لَا يَظْهَرُ أَثَرُهَا إلَّا في الْحَرَمِ حتى يُبَاحَ لِلْحَلَالِ الِاصْطِيَادُ لِصَيْدِ الْحَرَمِ إذَا خَرَجَ إلَى الْحِلِّ‏.‏

وَالثَّانِي أَنَّ الْإِحْرَامَ يُحَرِّمُ الصَّيْدَ وَغَيْرَهُ مِمَّا ذَكَرْنَا من مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ وَالْحَرَمُ لَا يُحَرِّمُ إلَّا الصَّيْدَ وما يَحْتَاجُ إلَيْهِ الصَّيْدُ من الخلي وَالشَّجَرِ وَالثَّالِثُ أَنَّ حُرْمَةَ الْإِحْرَامِ تُلَازِمُ حُرْمَةَ الْحَرَمِ وُجُودًا لِأَنَّ الْمُحْرِمَ يَدْخُلُ الْحَرَمَ لَا مَحَالَةَ وَحُرْمَةُ الْحَرَمِ لَا تُلَازِمُ حُرْمَةَ الْإِحْرَامِ وُجُودًا فَثَبَتَ أَنَّ حُرْمَةَ الْإِحْرَامِ أَقْوَى فَاسْتَتْبَعَتْ الْأَدْنَى بِخِلَافِ الْقَارِنِ لِأَنَّ ثَمَّةَ كُلُّ وَاحِدَةٍ من الْحُرْمَتَيْنِ أعني حُرْمَةَ إحْرَامِ الْحَجِّ وَحُرْمَةَ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ أَصْلٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُحَرِّمُ إحْرَامُ الْعُمْرَةِ ما يُحَرِّمُهُ إحْرَامُ الْحَجِّ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَصْلًا بِنَفْسِهَا فَلَا تَسْتَتْبِعُ إحْدَاهُمَا صَاحِبَتَهَا وَلَوْ اشْتَرَكَ حَلَالَانِ في قَتْلِ صَيْدٍ في الْحَرَمِ فَعَلَى كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ قِيمَتِهِ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ من ذلك يُقْسَمُ الضَّمَانُ بين عَدَدِهِمْ لِأَنَّ ضَمَانَ صَيْدِ الْحَرَمِ يَجِبُ لِمَعْنًى في الْمَحِلِّ وهو حُرْمَةُ الْحَرَمِ فَلَا يَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْفَاعِلِ كَضَمَانِ سَائِرِ الْأَمْوَالِ بِخِلَافِ ضَمَانِ صَيْدِ الْإِحْرَامِ فَإِنْ اشْتَرَكَ مُحْرِمٌ وَحَلَالٌ فَعَلَى الْمُحْرِمِ جَمِيعُ الْقِيمَةِ وَعَلَى الْحَلَالِ النِّصْفُ لِأَنَّ الْوَاجِبَ على الْمُحْرِمِ ضَمَانُ الْإِحْرَامِ لِمَا بَيَّنَّا وَذَلِكَ لَا يَتَجَزَّأُ وَالْوَاجِبُ على الْحَلَالِ ضَمَانُ الْمَحِلِّ وَأَنَّهُ متجزىء وَسَوَاءٌ كان شَرِيكُ الْحَلَالِ مِمَّنْ يَجِبُ عليه الْجَزَاءُ أو لَا يَجِبُ كَالْكَافِرِ وَالصَّبِيِّ أَنَّهُ يَجِبُ على الْحَلَالِ بِقَدْرِ ما يَخُصُّهُ من الْقِيمَةِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِفِعْلِهِ ضَمَانُ الْمَحِلِّ فَيَسْتَوِي في حَقِّهِ الشَّرِيكُ الذي يَكُونُ من أَهْلِ وُجُوبِ الْجَزَاءِ وَمَنْ لَا يَكُونُ من أَهْلِهِ‏.‏

فَإِنْ قَتَلَ حَلَالٌ وَقَارَنَ صَيْدًا في الْحَرَمِ فَعَلَى الْحَلَالِ نِصْفُ الْجَزَاءِ وَعَلَى الْقَارِنِ جزاآن ‏[‏جزاءان‏]‏ لِأَنَّ الْوَاجِبَ على الْحَلَالِ ضَمَانُ الْمَحِلِّ وَالْوَاجِبُ على الْمُحْرِمِ جَزَاءُ الْجِنَايَةِ وَالْقَارِنُ جَنَى على إحْرَامَيْنِ فَيَلْزَمُهُ جزاآن ‏[‏جزاءان‏]‏ وَلَوْ اشْتَرَكَ حَلَالٌ وَمُفْرِدٌ وَقَارِنٌ في قَتْلِ صَيْدٍ فَعَلَى الْحَلَالِ ثُلُثُ الْجَزَاءِ وَعَلَى الْمُفْرِدِ جَزَاءٌ كَامِلٌ وَعَلَى الْقَارِنِ جزاآن ‏[‏جزاءان‏]‏ لِمَا قُلْنَا وَإِنْ صَادَ حَلَالٌ صَيْدًا في الْحَرَمِ فَقَتَلَهُ في يَدِهِ حَلَالٌ آخَرُ فَعَلَى الذي كان في يَدِهِ جَزَاءٌ كَامِلٌ وَعَلَى الْقَاتِلِ جَزَاءٌ كَامِلٌ أَمَّا الْقَاتِلُ فَلَا شَكَّ فيه لِأَنَّهُ أَتْلَفَ صَيْدًا في الْحَرَمِ حَقِيقَةً وَأَمَّا الصَّائِدُ فَلِأَنَّ الضَّمَانَ قد وَجَبَ عليه بِاصْطِيَادِهِ وهو أَخْذُهُ لِتَفْوِيتِهِ الْأَمْنَ عليه بِالْأَخْذِ وَأَنَّهُ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ إلَّا أَنَّهُ يَسْقُطُ بِالْإِرْسَالِ وقد تَعَذَّرَ الْإِرْسَالُ بِالْقَتْلِ فَتَقَرَّرَ تَفْوِيتُ الْأَمْنِ فَصَارَ كَأَنَّهُ مَاتَ في يَدِهِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَغْصُوبِ إذَا أَتْلَفَهُ إنْسَانٌ في يَدِ الْغَاصِبِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ إلَّا ضَمَانٌ وَاحِدٌ يُطَالِبُ الْمَالِكُ أَيَّهُمَا شَاءَ لِأَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ ضَمَانُ الْمَحِلِّ وَلَيْسَ فيه مَعْنَى الْجَزَاءِ لِأَنَّهُ يَجِبُ حَقًّا لِلْمَالِكِ وَالْمَحِلُّ الْوَاحِدُ لَا يُقَابِلُهُ إلَّا ضَمَانٌ وَاحِدٌ وَضَمَانُ صَيْدِ الْحَرَمِ وَإِنْ كان ضَمَانَ الْمَحِلِّ لَكِنْ فيه مَعْنَى الْجَزَاءِ لِأَنَّهُ يَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى فَجَازَ أَنْ يَجِبَ على الْقَاتِلِ وَالْآخِذِ وَلِلْآخِذِ أَنْ يَرْجِعَ على الْقَاتِلِ بِالضَّمَانِ أَمَّا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ فَلَا يُشْكِلُ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ عليه في صَيْدِ الْإِحْرَامِ عِنْدَهُ فَكَذَا في صَيْدِ الْحَرَمِ وَالْجَامِعُ أَنَّ الْقَاتِلَ فَوَّتَ على الْآخِذِ ضَمَانًا كان يَقْدِرُ على إسْقَاطِهِ بِالْإِرْسَالِ وَأَمَّا على أَصْلِهِمَا فَيَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بين صَيْدِ الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ لِأَنَّهُمَا قَالَا في صَيْدِ الْإِحْرَامِ أنه لَا يَرْجِعُ وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْوَاجِبَ في صَيْدِ الْحَرَمِ ضَمَانٌ يَجِبُ لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى الْمَحِلِّ وَضَمَانُ الْمَحِلِّ يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ كما في الْغَصْبِ وَالْوَاجِبُ في صَيْدِ الْإِحْرَامِ جَزَاءُ فِعْلِهِ لَا بَدَلُ الْمَحِلِّ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الصَّيْدَ بِالضَّمَانِ وإذا كان جَزَاءُ فِعْلِهِ لَا يَرْجِعُ بِهِ على غَيْرِهِ وَلَوْ دَلَّ حَلَالٌ حَلَالًا على صَيْدِ الْحَرَمِ أو دَلَّ مُحْرِمًا فَلَا شَيْءَ على الدَّالِّ في قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وقد أَسَاءَ وَأَثِمَ وقال زُفَرُ على الدَّالِّ الْجَزَاءُ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ مِثْلُ قَوْلِ زُفَرَ وَعَلَى هذا الِاخْتِلَافِ الْآمِرُ وَالْمُشِيرُ وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ اعْتِبَارُ الْحَرَمِ بِالْإِحْرَامِ وهو اعْتِبَارٌ صَحِيحٌ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبٌ لِحُرْمَةِ الِاصْطِيَادِ ثُمَّ الدَّلَالَةُ في الْإِحْرَامِ تُوجِبُ الْجَزَاءَ كَذَا في الْحَرَمِ وَلَنَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وهو أَنَّ ضَمَانَ صَيْدِ الْحَرَمِ يَجْرِي مَجْرَى ضَمَانِ الْأَمْوَالِ لِأَنَّهُ يَجِبُ لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى الْمَحِلِّ وهو حُرْمَةُ الْحَرَمِ لَا لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى الْقَاتِلِ وَالْأَمْوَالُ لَا تُضْمَنُ بِالدَّلَالَةِ من غَيْرِ عَقْدٍ وَإِنَّمَا صَارَ مُسِيئًا آثِمًا لِكَوْنِ الدَّلَالَةِ وَالْإِشَارَةِ وَالْأَمْرِ حَرَامًا لِأَنَّهُ من باب الْمُعَاوَنَةِ على الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وقد قال اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا تَعَاوَنُوا على الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ‏}‏ وَلَوْ أَدْخَلَ صَيْدًا من الْحِلِّ إلَى الْحَرَمِ وَجَبَ إرْسَالُهُ وَإِنْ ذَبَحَهُ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وقال الشَّافِعِيُّ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الصَّيْدَ كان مِلْكَهُ في الْحِلِّ وَإِدْخَالُهُ في الْحَرَمِ لَا يُوجِبُ زَوَالَ مِلْكِهِ فَكَانَ مِلْكُهُ قَائِمًا فَكَانَ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ‏.‏

وَلَنَا أَنَّهُ لَمَّا حَصَلَ الصَّيْدُ في الْحَرَمِ وَجَبَ تَرْكُ التَّعَرُّضِ له رِعَايَةً لِحُرْمَةِ الْحَرَمِ كما لو أَحْرَمَ وَالصَّيْدُ في يَدِهِ وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الْأَصْلِ وقال لَا خَيْرَ فِيمَا يَتَرَخَّصُ بِهِ أَهْلُ مَكَّةَ من الْحَجَلِ وَالْيَعَاقِيبِ وَلَا يَدْخُلُ شَيْءٌ منه في الْحَرَمِ حَيًّا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّيْدَ إذَا حَصَلَ في الْحَرَمِ وَجَبَ إظْهَارُ حُرْمَةِ الْحَرَمِ بِتَرْكِ التَّعَرُّضِ له بِالْإِرْسَالِ فَإِنْ قِيلَ إنَّ أَهْلَ مَكَّةَ يَبِيعُونَ الْحَجَلَ وَالْيَعَاقِيبَ وَهِيَ كُلُّ ذَكَرٍ وَأُنْثَى من الْقَبَجِ من غَيْرِ نَكِيرٍ وَلَوْ كان حَرَامًا لَظَهَرَ النَّكِيرُ عليهم فَالْجَوَابُ أن تَرْكَ النَّكِيرِ عليهم ليس لِكَوْنِهِ حَلَالًا بَلْ لِكَوْنِهِ مَحِلَّ الِاجْتِهَادِ فإن الْمَسْأَلَةَ مُخْتَلِفَةٌ بين عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنهما وَالْإِنْكَارُ لَا يَلْزَمُ في مَحِلِّ الِاجْتِهَادِ إذَا كان الِاخْتِلَافُ في الْفُرُوعِ‏.‏

وَأَمَّا وُجُوبُ الْجَزَاءِ بِذَبْحِهِ فَلِأَنَّهُ ذَبَحَ صَيْدًا مُسْتَحِقَّ الْإِرْسَالِ وَأَمَّا فَسَادُ الْبَيْعِ فَلِأَنَّ إرْسَالَهُ وَاجِبٌ وَالْبَيْعُ تَرْكُ الْإِرْسَالِ وَلَوْ بَاعَهُ يَجِبُ عليه فَسْخُ الْبَيْعِ وَاسْتِرْدَادُ الْمَبِيعَ لِأَنَّهُ بَيْعٌ فَاسِدٌ وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ مُسْتَحِقُّ الْفَسْخِ حَقًّا لِلشَّرْعِ فَإِنْ كان لَا يَقْدِرُ على فَسْخِ الْبَيْعِ وَاسْتِرْدَادِ الْمَبِيعِ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ لِأَنَّهُ وَجَبَ عليه إرْسَالُهُ فإذا بَاعَهُ وَتَعَذَّرَ عليه فَسْخُ الْبَيْعِ وَاسْتِرْدَادُ الْمَبِيعِ فَكَأَنَّهُ أَتْلَفَهُ فَيَجِبُ عليه الضَّمَانُ وَكَذَلِكَ إنْ أَدْخَلَ صَقْرًا أو بَازِيًا فَعَلَيْهِ إرْسَالُهُ لِمَا ذَكَرْنَا في سَائِرِ الصُّيُودِ فَإِنْ أَرْسَلَهُ فَجَعَلَ يَقْتُلُ حَمَامَ الْحَرَمِ لم يَكُنْ عليه في ذلك شَيْءٌ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عليه الْإِرْسَالُ وقد أَرْسَلَ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بَعْدَ ذلك كما لو أَرْسَلَهُ في الْحِلِّ ثُمَّ دخل الْحَرَمَ فَجَعَلَ يَقْتُلُ صَيْدَ الْحَرَمِ وَلَوْ أَرْسَلَ كَلْبًا في الْحِلِّ على صَيْدٍ في الْحِلِّ فأتبعه الْكَلْبُ فَأَخَذَهُ في الْحَرَمِ فَقَتَلَهُ فَلَا شَيْءَ على الْمُرْسِلِ وَلَا يُؤْكَلُ الصَّيْدُ أَمَّا عَدَمُ وُجُوبِ الْجَزَاءِ فَلِأَنَّ الْعِبْرَةَ في وُجُوبِ الضَّمَانِ بِحَالَةِ الْإِرْسَالِ إذا الْإِرْسَالُ هو السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلضَّمَانِ وَالْإِرْسَالِ وَقَعَ مُبَاحًا لِوُجُودِهِ في الْحِلِّ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الضَّمَانُ وَأَمَّا حُرْمَةُ أَكْلِ الصَّيْدِ فَلِأَنَّ فِعْلَ الْكَلْبِ ذَبْحٌ لِلصَّيْدِ وَأَنَّهُ حَصَلَ في الْحَرَمِ فَلَا يَحِلُّ أَكْلُهُ كما لو ذَبَحَهُ آدَمِيٌّ إذْ فِعْلُ الْكَلْبِ لَا يَكُونُ أَعْلَى من فِعْل الْآدَمِيِّ وَلَوْ رَمَى صَيْدًا في الْحِلِّ فَنَفَرَ الصَّيْدُ فَوَقَعَ السَّهْمُ بِهِ في الْحَرَمِ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ قال مُحَمَّدٌ في الْأَصْلِ وهو قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَا أَعْلَمُ وكان الْقِيَاسُ فيه أَنْ لَا يَجِبَ عليه الْجَزَاءُ كما لَا يَجِبُ عليه في إرْسَالِ الْكَلْبِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَأْذُونٌ فيه لِحُصُولِهِ في الْحِلِّ وَالْأَخْذُ وَالْإِصَابَةُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُضَافُ إلَى الْمُرْسِلِ وَالرَّامِي وَخَاصَّةً على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فإنه يُعْتَبَرُ حَالَ الرَّمْيِ في الْمَسَائِلِ حتى قال فِيمَنْ رَمَى إلَى مُسْلِمٍ فَارْتَدَّ الْمَرْمِيُّ إلَيْهِ ثُمَّ أَصَابَهُ السَّهْمُ مَثَلًا أَنَّهُ تَجِبُ عليه الدِّيَةُ اعْتِبَارًا بِحَالَةِ الرَّمْيِ إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا فَأَوْجَبُوا الْجَزَاءَ في الرَّمْيِ ولم يُوجِبُوا في الْإِرْسَالِ لِأَنَّ الرَّمْيَ هو الْمُؤَثِّرُ في الْإِصَابَةِ بِمَجْرَى الْعَادَةِ إذَا لم يَتَخَلَّلْ بين الرَّمْيِ وَالْإِصَابَةِ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ يَقْطَعُ نِسْبَةَ الْأَثَرِ إلَيْهِ شَرْعًا فَبَقِيَتْ الْإِصَابَةُ مُضَافَةً إلَيْهِ شَرْعًا في الْأَحْكَامِ فَصَارَ كَأَنَّهُ ابْتَدَأَ الرَّمْيَ بعدما حَصَلَ الصَّيْدُ في الْحَرَمِ‏.‏

وَهَهُنَا قد تَخَلَّلَ بين الْإِرْسَالِ وَالْأَخْذِ فِعْلُ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ وهو الْكَلْبُ فَمَنَعَ إضَافَةَ الْأَخْذِ إلَى الْمُرْسِلِ وَصَارَ كما لو أَرْسَلَ بَازِيًا في الْحَرَمِ فَأَخَذَ حَمَامَ الْحَرَمِ وَقَتَلَهُ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا وَلَوْ أَرْسَلَ كَلْبًا على ذِئْبٍ في الْحَرَمِ أو نَصَبَ له شَرَكًا فَأَصَابَ الْكَلْبُ صَيْدًا أو وَقَعَ في الشَّرَكِ صَيْدٌ فَلَا جَزَاءَ عليه لِأَنَّ الْإِرْسَالَ على الذِّئْبِ وَنَصْبُ الشَّبَكَةِ له مُبَاحٌ لِأَنَّ قَتْلَ الذِّئْبِ مُبَاحٌ في الْحِلِّ وَالْحَرَمِ لِلْمُحْرِمِ وَالْحَلَالِ جميعا لِكَوْنِهِ من الْمُؤْذِيَاتِ الْمُبْتَدِئَةِ بِالْأَذَى عَادَةً فلم يَكُنْ مُتَعَدِّيًا في التَّسَبُّبِ فَيَضْمَنُ وَلَوْ نَصَبَ شَبَكَةً أو حَفَرَ حَفِيرَةً في الْحَرَمِ لِلصَّيْدِ فَأَصَابَ صَيْدًا فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ في نَصْبِ الشَّبَكَةِ وَالْحَفْرِ لِصَيْدِ الْحَرَمِ فَكَانَ مُتَعَدِّيًا في التَّسَبُّبِ فَيَضْمَنُ وَلَوْ نَصَبَ خَيْمَةً فَتَعَقَّلَ بِهِ صَيْدٌ أو حَفَرَ لِلْمَاءِ فَوَقَعَ فيه صَيْدُ الْحَرَمِ لَا ضَمَانَ عليه لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ في التَّسَبُّبِ وَقَالُوا فِيمَنْ أَخْرَجَ ظَبْيَةً من الْحَرَمِ فَأَدَّى جَزَاءَهَا ثُمَّ وَلَدَتْ ثُمَّ مَاتَتْ وَمَاتَ أَوْلَادُهَا لَا شَيْءَ عليه لِأَنَّهُ مَتَى أَدَّى جَزَاءَهَا مَلَكَهَا فَحَدَثَتْ الْأَوْلَادُ على مِلْكِهِ وَرَوَى ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ في رَجُلٍ أَخْرَجَ صَيْدًا من الْحَرَمِ إلَى الْحِلِّ أن ذَبْحَهُ وَالِانْتِفَاعَ بِلَحْمِهِ ليس بِحَرَامٍ سَوَاءٌ كان أَدَّى جَزَاءَهُ أو لم يُؤَدِّ غير إني أَكْرَهُ هذا الصَّنِيعَ وَأَحَبُّ إلى أَنْ يَتَنَزَّهَ عن أَكْلِهِ أَمَّا حِلُّ الذَّبْحِ فَلِأَنَّهُ صَيْدٌ حَلَّ في الْحَالِّ فَلَا يَكُونُ ذَبْحُهُ حَرَامًا وَأَمَّا كَرَاهَةُ هذا الصَّنِيعِ فَلِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهِ يُؤَدِّي إلَى اسْتِئْصَالِ صَيْدِ الْحَرَمِ لِأَنَّ كُلَّ من احْتَاجَ إلَى شَيْءٍ من ذلك أَخَذَهُ وَأَخْرَجَهُ من الْحَرَمِ وَذَبَحَهُ وَانْتَفَعَ بِلَحْمِهِ وَأَدَّى قِيمَتَهُ فَإِنْ انْتَفَعَ بِهِ فَلَا شَيْءَ عليه لِأَنَّ الضَّمَانَ سَبَبٌ لِمِلْكِ الْمَضْمُونِ على أَصْلِنَا فإذا ضَمِنَ قِيمَتَهُ فَقَدْ مَلَكَهُ فَلَا يَضْمَنُ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ وَإِنْ بَاعَهُ وَاسْتَعَانَ بِثَمَنِهِ في جَزَائِهِ كان له ذلك لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ في حَقِّ الْأَكْلِ خَاصَّةً وَكَذَا إذَا قَطَعَ شَجَرَ الْحَرَمِ حتى ضَمِنَ قِيمَتَهُ يُكْرَهُ له الِانْتِفَاعُ بِهِ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهِ يُؤَدِّي إلَى اسْتِئْصَالِ شَجَرِ الْحَرَمِ على ما بَيَّنَّا في الصَّيْدِ وَلَوْ اشْتَرَاهُ إنْسَانٌ من الْقَاطِعِ لَا يُكْرَهُ له الِانْتِفَاعُ بِهِ لِأَنَّهُ تَنَاوَلَهُ بَعْدَ انْقِطَاعِ النَّمَاءِ عنه وَالله الموفق‏.‏