فصل: فصل شَرَائِط ركْنِ التيمم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع ***


فصل شَرَائِط ركْنِ التيمم

وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَأَنْوَاعٌ منها أَنْ لَا يَكُونَ وَاجِدًا لِلْمَاءِ قَدْرَ ما يَكْفِي الْوُضُوءَ أو الْغُسْلَ في الصَّلَاةِ التي تَفُوتُ إلَى خَلْفٍ وما هو من أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فلم تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا‏}‏ شَرَطَ عَدَمَ وِجْدَانِ الْمَاءِ لِجَوَازِ التَّيَمُّمِ وَقَوْلُ النبي صلى الله عليه وسلم التَّيَمُّمُ وُضُوءُ الْمُسْلِمِ وَلَوْ إلَى عَشْرِ حِجَجٍ ما لم يَجِدْ الْمَاءَ أو يُحْدِثْ جَعَلَهُ وُضُوءَ الْمُسْلِمِ إلَى غَايَةِ وُجُودِ الْمَاءِ أو الْحَدَثِ وَالْمَمْدُودُ إلَى غَايَةٍ يَنْتَهِي عِنْدَ وُجُودِ الْغَايَةِ وَلَا وُجُودَ لِلشَّيْءِ مع وُجُودِ ما يَنْتَهِي وُجُودُهُ عِنْدَ وُجُودِهِ وقال صلى اللَّهُ عليه وسلم‏:‏ «التُّرَابُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ ما لم يَجِدْ الْمَاءَ أو يُحْدِثْ» وَلِأَنَّهُ بَدَلٌ وَوُجُودُ الْأَصْلِ يَمْنَعُ الْمَصِيرَ إلَى الْبَدَلِ ثُمَّ عَدَمُ الْمَاءِ نَوْعَانِ عَدَمٌ من حَيْثُ الصُّورَةِ وَالْمَعْنَى وَعَدَمٌ من حَيْثُ الْمَعْنَى لَا من حَيْثُ الصُّورَةِ أَمَّا الْعَدَمُ من حَيْثُ الصُّورَةُ وَالْمَعْنَى فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ بَعِيدًا عنه ولم يُذْكَرْ حَدُّ الْبُعْدِ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَدَّرَهُ بِالْمِيلِ وهو أَنْ يَكُونَ مِيلًا فَصَاعِدًا فَإِنْ كان أَقَلَّ من مِيلٍ لم يَجُزْ التَّيَمُّمُ وَالْمِيلُ ثُلُثُ فَرْسَخٍ وقال الْحَسَنُ بن زِيَادٍ من تِلْقَاءِ نَفْسِهِ إنْ كان الْمَاءُ أَمَامَهُ يَعْتَبِرُ مِيلَيْنِ وَإِنْ كان يَمْنَةً أو يَسْرَةً يُعْتَبَرُ مِيلًا وَاحِدًا وَبَعْضُهُمْ فصل بين الْمُقِيمِ وَالْمُسَافِر فَقَالُوا إنْ كان مُقِيمًا يَعْتَبِرُ قَدْرَ مِيلٍ كَيْفَمَا كان وَإِنْ كان مُسَافِرًا وَالْمَاءُ على يَمِينِهِ أو يَسَارِهِ فَكَذَلِكَ وَإِنْ كان أَمَامَهُ يَعْتَبِرُ مِيلَيْنِ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ كان الْمَاءُ بِحَيْثُ لو ذَهَبَ إلَيْهِ لَا تَنْقَطِعُ عنه جَلَبَةُ الْعِيرِ وَيُحِسُّ أَصْوَاتَهُمْ أو أَصْوَاتَ الدَّوَابِّ فَهُوَ قَرِيبٌ وَإِنْ كان يَغِيبُ عنه ذلك فَهُوَ بَعِيدٌ وقال بَعْضُهُمْ إنْ كان بِحَيْثُ يَسْمَعُ أَصْوَاتَ أَهْلِ الْمَاءِ فَهُوَ قَرِيبٌ وَإِنْ كان لَا يَسْمَعُ فَهُوَ بَعِيدٌ وَكَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ وقال بَعْضُهُمْ قَدْرَ فَرْسَخٍ وقال بَعْضُهُمْ مِقْدَارَ ما لَا يَسْمَعُ الْأَذَانَ وقال بَعْضُهُمْ إذَا خَرَجَ من الْمِصْرِ مِقْدَارَ ما لَا يَسْمَعُ لو نُودِيَ من أَقْصَى الْمِصْرِ فَهُوَ بَعِيدٌ وَأَقْرَبُ الْأَقَاوِيلِ اعْتِبَارُ الْمِيلِ لِأَنَّ الْجَوَازَ لِدَفْعِ الْحَرَجِ وَإِلَيْهِ وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ في آيَةِ التَّيَمُّمِ وهو قَوْله تَعَالَى على أَثَرِ الْآيَةِ‏:‏ ‏{‏ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ من حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ‏}‏‏.‏

وَلَا حَرَجَ فِيمَا دُونَ الْمِيلِ فَأَمَّا الْمِيلُ فَصَاعِدًا فَلَا يَخْلُو عن حَرَجٍ وَسَوَاءٌ خَرَجَ من الْمِصْرِ لِلسَّفَرِ أو لِأَمْرٍ آخَرَ وقال بعضهم ‏[‏بعض‏]‏ لَا يَتَيَمَّمُ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَصَدَ سَفَرًا وإنه ليس بِسَدِيدٍ لِأَنَّ ما له ثَبَتَ الْجَوَازُ وهو دَفْعُ الْحَرَجِ لَا يُفصل بين الْمُسَافِرِ وَغَيْرِهِ هذا إذَا كان عَلِمَ بِبُعْدِ الْمَاءِ بِيَقِينٍ أو بِغَلَبَةِ الرَّأْي أو أَكْبَرِ الظَّنِّ أو أخبره بِذَلِكَ رَجُلٌ عَدْلٌ وَأَمَّا إذَا عَلِمَ أَنَّ الْمَاءَ قَرِيبٌ منه أما قَطْعًا أو ظَاهِرًا أو أخبره عَدْلٌ بِذَلِكَ لَا يَجُوزُ له التَّيَمُّمُ لِأَنَّ شَرْطَ جَوَازِ التَّيَمُّمِ لم يُوجَدْ وهو عَدَمُ الْمَاءِ وَلَكِنْ يَجِبُ عليه الطَّلَبُ هَكَذَا رُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قال إذَا كان الْمَاءُ على مِيلٍ فَصَاعِدًا لم يَلْزَمْهُ طَلَبُهُ وَإِنْ كان أَقَلَّ من مِيلٍ أَتَيْتَ الْمَاءَ وَإِنْ طَلَعَتْ الشَّمْسُ هَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ وَلَا يَبْلُغُ بِالطَّلَبِ مِيلًا وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَبْلُغُ بِهِ مِيلًا فَإِنْ طَلَبَ أَقَلَّ من ذلك لم يَجُزْ التَّيَمُّمُ وَإِنْ خَافَ فَوْتَ الْوَقْتِ وهو رِوَايَةٌ عن أبي حَنِيفَةَ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَطْلُبُ قَدْرَ ما لَا يَضُرُّ بِنَفْسِهِ وَرُفْقَتِهِ بِالِانْتِظَارِ وَكَذَلِكَ إذَا كان بِقُرْبٍ من الْعُمْرَانِ يَجِبُ عليه الطَّلَبُ حتى لو تَيَمَّمَ وَصَلَّى ثُمَّ ظَهَرَ الْمَاءُ لم تَجُزْ صَلَاتُهُ لِأَنَّ الْعُمْرَانَ لَا يَخْلُو عن الْمَاءِ ظَاهِرًا وَغَالِبًا وَالظَّاهِرُ مُلْحَقٌ بِالْمُتَيَقَّنِ في الْأَحْكَامِ وَلَوْ كان بِحَضْرَتِهِ رَجُلٌ يَسْأَلُهُ عن قُرْبِ الْمَاءِ فلم يَسْأَلْهُ حتى تَيَمَّمَ وَصَلَّى ثُمَّ سَأَلَهُ فَإِنْ لم يُخْبِرْهُ بِقُرْبِ الْمَاءِ فصلاتُهُ مَاضِيَةٌ وَإِنْ أخبره بِقُرْبِ الْمَاءِ تَوَضَّأَ وَأَعَادَ الصَّلَاةَ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَاءَ بِقُرْبٍ منه وَلَوْ سَأَلَهُ لَأَخْبَرَهُ فلم يُوجَدْ الشَّرْطُ وهو عَدَمُ الْمَاءِ وَإِنْ سَأَلَهُ في الِابْتِدَاءِ فلم يُخْبِرْهُ حتى تَيَمَّمَ وَصَلَّى ثُمَّ أخبره بِقُرْبِ الْمَاءِ لَا يَجِبُ عليه إعَادَةُ الصَّلَاةِ لِأَنَّ الْمُتَعَنِّتَ لَا قَوْلَ له فَإِنْ لم يَكُنْ بِحَضْرَتِهِ أَحَدٌ يُخْبِرُهُ بِقُرْبِ الْمَاءِ وَلَا غَلَبَ على ظَنِّهِ أَيْضًا قُرْبُ الْمَاءِ لَا يَجِبُ عليه الطَّلَبُ عِنْدَنَا وقال الشَّافِعِيُّ يَجِبُ عليه أَنْ يَطْلُبَ عن يَمِينِ الطَّرِيقِ وَيَسَارِهِ قَدْرَ غَلْوَةٍ حتى لو تَيَمَّمَ وَصَلَّى قبل الطَّلَبِ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ الْمَاءَ قَرِيبٌ منه فصلاتُهُ مَاضِيَةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لم تَجُزْ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فلم تَجِدُوا مَاءً‏}‏ وَهَذَا يَقْتَضِي سَابِقِيَّةَ الطَّلَبِ فَكَانَ الطَّلَبُ شَرْطًا وَصَارَ كما لو كان في الْعُمْرَانِ وَلَنَا أَنَّ الشَّرْطَ عَدَمُ الْمَاءِ وقد تَحَقَّقَ من حَيْثُ الظَّاهِرِ إذْ الْمَفَازَةُ مَكَانُ عَدَمِ الْمَاءِ غَالِبًا بِخِلَافِ الْعُمْرَانِ وَقَوْلُهُ الْوُجُودُ يَقْتَضِي سَابِقِيَّةَ الطَّلَبِ من الْوَاجِدِ مَمْنُوعٌ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلم من وَجَدَ لُقَطَةً فَلْيُعَرِّفْهَا وَلَا طَلَبَ من الْمُلْتَقِطِ وَلِأَنَّ الطَّلَبَ لَا يُفِيدُ إذَا لم يَكُنْ على طَمَعٍ من وُجُودِ الْمَاءِ وَالْكَلَامُ فيه وَرُبَّمَا يَنْقَطِعُ عن أَصْحَابِهِ فَيَلْحَقُهُ الضَّرَرُ فَلَا يَجِبُ عليه الطَّلَبُ وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ له ذلك إذَا كان على طَمَعٍ من وُجُودِ الْمَاءِ فإن أَبَا يُوسُفَ قال في الْأَمَالِي سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ عن الْمُسَافِرِ لَا يَجِدُ الْمَاءَ أَيَطْلُبُ عن يَمِينِ الطَّرِيقِ وَيَسَارِهِ قال إنْ طَمِعَ في ذلك فَلْيَفْعَلْ وَلَا يَبْعُدُ فَيَضُرُّ بِأَصْحَابِهِ إنْ انْتَظَرُوهُ أو بِنَفْسِهِ إنْ انْقَطَعَ عَنْهُمْ ثُمَّ ما ذَكَرْنَا من اعْتِبَارِ الْبُعْدِ وَالْقُرْبِ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ فَأَمَّا على مَذْهَبِ زُفَرَ فَلَا عِبْرَةَ لِلْبُعْدِ وَالْقُرْبِ في هذا الْباب بَلْ الْعِبْرَةُ لِلْوَقْتِ بَقَاءً وَخُرُوجًا فَإِنْ كان يَصِلُ الْمَاءِ قبل خُرُوجِ الْوَقْتِ لَا يُجْزِيهِ التَّيَمُّمُ وَإِنْ كان الْمَاءُ بَعِيدًا وَإِنْ كان لَا يَصِلُ إلَيْهِ قبل خُرُوجِ الْوَقْتِ يُجْزِئُهُ التَّيَمُّمُ وَإِنْ كان الْمَاءُ قَرِيبًا‏.‏

وَالْمَسْأَلَةُ نَذْكُرُهَا بَعْدُ إن شاء الله تعالى‏.‏وَأَمَّا الْعَدَمُ من حَيْثُ الْمَعْنَى لَا من حَيْثُ الصُّورَةِ فَهُوَ أَنْ يَعْجِزَ عن اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ لِمَانِعٍ مع قُرْبِ الْمَاءِ منه نحو ما إذَا كان على رَأْسِ الْبِئْرِ ولم يَجِدْ آلَةَ الِاسْتِقَاءِ فَيُبَاحُ له التَّيَمُّمُ لِأَنَّهُ إذَا عَجَزَ عن اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ لم يَكُنْ وَاجِدًا له من حَيْثُ الْمَعْنَى فَيَدْخُلُ تَحْتَ النَّصِّ وَكَذَا إذَا كان بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَاءِ عَدُوٌّ أو لُصُوصٌ أو سَبْعٌ أو حَيَّةٌ يَخَافُ على نَفْسِهِ الْهَلَاكَ إذَا أَتَاهُ لِأَنَّ إلْقَاءَ النَّفْسِ في التَّهْلُكَةِ حَرَامٌ فَيَتَحَقَّقُ الْعَجْزُ عن اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وَكَذَا إذَا كان معه مَاءٌ وهو يَخَافُ على نَفْسِهِ الْعَطَشَ لِأَنَّهُ مُسْتَحَقُّ الصَّرْفِ إلَى الْعَطَشِ وَالْمُسْتَحَقُّ كَالْمَصْرُوفِ فَكَانَ عَادِمًا لِلْمَاءِ مَعْنًى وَسُئِلَ نَصْرُ بن يحيى عن مَاءٍ مَوْضُوعٍ في الْفَلَاةِ في الحب ‏[‏الجب‏]‏ أو نَحْوِ ذلك أَيَكُونُ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يَتَيَمَّمَ أو يَتَوَضَّأَ بِهِ قال يَتَيَمَّمُ وَلَا يَتَوَضَّأُ بِهِ لِأَنَّهُ لم يُوضَعْ لِلْوُضُوءِ وَإِنَّمَا وُضِعَ لِلشُّرْبِ إلَّا أَنْ يَكُونَ كَثِيرًا فَيُسْتَدَلُّ بِكَثْرَتِهِ على أَنَّهُ وُضِعَ لِلشُّرْبِ وَالْوُضُوءِ جميعا فَيَتَوَضَّأُ بِهِ وَلَا يَتَيَمَّمُ وَكَذَا إذَا كان بِهِ جِرَاحَةٌ أو جُدَرِيٌّ أو مَرَضٌ يَضُرُّهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ فَيَخَافُ زِيَادَةَ الْمَرَضِ بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ يَتَيَمَّمُ عِنْدَنَا وقال الشَّافِعِيُّ لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ حتى يَخَافَ التَّلَفَ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْعَجْزَ عن اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ شَرْطُ جَوَازِ التَّيَمُّمِ وَلَا يَتَحَقَّقُ الْعَجْزُ إلَّا عِنْدَ خَوْفِ الْهَلَاكِ وَلَنَا قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أو على سَفَرٍ‏}‏ إلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا‏}‏ أَبَاحَ التَّيَمُّمَ لِلْمَرِيضِ مُطْلَقًا من غَيْرِ فصل بين مَرَضٍ وَمَرَضٍ إلَّا أَنَّ الْمَرَضَ الذي لَا يَضُرُّ معه اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ ليس بِمُرَادٍ فَبَقِيَ الْمَرَضُ الذي يَضُرُّ معه اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ مُرَادًا بِالنَّصِّ وَرُوِيَ أَنَّ وَاحِدًا من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْنَبَ وَبِهِ جُدَرِيٌّ فَاسْتَفْتَى أَصْحَابَهُ فَأَفْتَوْهُ بِالِاغْتِسَالِ فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ فَبَلَغَ ذلك رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقال قَتَلُوهُ قَتَلَهُمْ اللَّهُ هَلَّا سَأَلُوا إذْ لم يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ كان يَكْفِيهِ التَّيَمُّمُ وَهَذَا نَصٌّ وَلِأَنَّ زِيَادَةَ الْمَرَضِ سَبَبُ الْمَوْتِ وَخَوْفُ الْمَوْتِ مُبِيحٌ فَكَذَا خَوْفُ سَبَبِ الْمَوْتِ لِأَنَّهُ خَوْفُ الْمَوْتِ بِوَاسِطَةٍ وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّهُ أَثَّرَ في إبَاحَةِ الْإِفْطَارِ وَتَرْكِ الْقِيَامِ بِلَا خِلَافٍ فَهَهُنَا أَوْلَى لِأَنَّ الْقِيَامَ رُكْنٌ في باب الصَّلَاةِ وَالْوُضُوءُ شَرْطٌ فَخَوْفُ زِيَادَةِ الْمَرَضِ لَمَّا أَثَّرَ في إسْقَاطِ الرُّكْنِ فَلَأَنْ يُؤَثِّرَ في إسْقَاطِ الشَّرْطِ أَوْلَى وَلَوْ كان مَرِيضًا لَا يَضُرُّهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ لَكِنَّهُ عَاجِزٌ عن الِاسْتِعْمَالِ بِنَفْسِهِ وَلَيْسَ له خَادِمٌ وَلَا مَالٌ يَسْتَأْجِرُ بِهِ أَجِيرًا فَيُعِينُهُ على الْوُضُوءِ أَجْزَأْهُ التَّيَمُّمُ سَوَاءٌ كان في الْمَفَازَةِ أو في الْمِصْرِ وهو ‏(‏مذهب أصحابنا ‏[‏المذهب‏]‏‏)‏ لِأَنَّ الْعَجْزَ مُتَحَقِّقٌ وَالْقُدْرَةُ مَوْهُومَةٌ فَوُجِدَ شَرْطُ الْجَوَازِ وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إنْ كان في الْمِصْرِ لَا يُجْزِيهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَقْطُوعَ الْيَدِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يَجِدُ أَحَدًا من قَرِيبٍ أو بَعِيدٍ يُعِينُهُ وَكَذَا الْعَجْزُ لِعَارِضٍ على شَرَفِ الزَّوَالِ بِخِلَافِ مَقْطُوعِ الْيَدَيْنِ وَلَوْ أَجْنَبَ في لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ يَخَافُ على نَفْسِهِ الْهَلَاكَ لو اغْتَسَلَ ولم يَقْدِرْ على تَسْخِينِ الْمَاءِ وَلَا على أُجْرَةِ الْحَمَّامِ في الْمِصْرِ أَجْزَأَهُ التَّيَمُّمُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إنْ كان في الْمِصْرِ لَا يُجْزِئُهُ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الظَّاهِرَ في الْمِصْرِ وُجُودُ الْمَاءِ الْمُسَخَّنِ وَالدِّفْءِ فَكَانَ الْعَجْزُ نَادِرًا فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ‏.‏

وَلِأَبِي حَنِيفَةَ ما رُوِيَ عن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ بَعَثَ سَرِيَّةً وَأَمَّرَ عليهم عَمْرَو بن الْعَاصِ رضي اللَّهُ عنه وكان ذلك في غَزْوَةِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ فلما رَجَعُوا شَكَوْا منه أَشْيَاءَ من جُمْلَتِهَا أَنَّهُمْ قالوا صلى بِنَا وهو جُنُبٌ فذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك له فقال يا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْنَبْتُ في لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ وخفت ‏[‏فخفت‏]‏ على نَفْسِي الْهَلَاكَ لو اغْتَسَلْتُ فَذَكَرْتُ ما قال اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إنَّ اللَّهَ كان بِكُمْ رَحِيمًا‏}‏ فَتَيَمَّمْتُ وَصَلَّيْتُ بِهِمْ فقال لهم رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَلَا تَرَوْنَ صَاحِبَكُمْ كَيْفَ نَظَرَ لِنَفْسِهِ وَلَكُمْ ولم يَأْمُرْهُ بِالْإِعَادَةِ ولم يَسْتَفْسِرْهُ إنَّهُ كان في مَفَازَةٍ أو مِصْرٍ وَلِأَنَّهُ عَلَّلَ فِعْلَهُ بِعِلَّةٍ عَامَّةٍ وَهِيَ خَوْفُ الْهَلَاكِ وَرَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَصْوَبَ ذلك منه وَالْحُكْمُ يَتَعَمَّمُ بِعُمُومِ الْعِلَّةِ وَقَوْلُهُمَا إنَّ الْعَجْزَ في الْمِصْرِ نَادِرٌ فَالْجَوَابُ عنه إنه في حَقِّ الْفُقَرَاءِ الْغُرَبَاءِ ليس بِنَادِرٍ على أَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا إذَا تَحَقَّقَ الْعَجْزُ من كل وَجْهٍ حتى لو قَدَرَ على الِاغْتِسَالِ بِوَجْهٍ من الْوُجُوهِ لَا يُبَاحُ له التَّيَمُّمُ وَلَوْ كان مع رَفِيقِهِ مَاءٌ فَإِنْ لم يَعْلَمْ بِهِ لَا يَجِبُ عليه الطَّلَبُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَجِبُ على ما ذَكَرْنَا وَإِنْ عَلِمَ بِهِ وَلَكِنْ لَا ثَمَنَ له فَكَذَلِكَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وقال أبو يُوسُفَ عليه السُّؤَالُ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمَاءَ مَبْذُولٌ في الْعَادَةِ لِقِلَّةِ خَطَرِهِ فلم يَعْجِزْ عن الِاسْتِعْمَالِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعَجْزَ مُتَحَقِّقٌ وَالْقُدْرَةُ مَوْهُومَةٌ لِأَنَّ الْمَاءَ من أَعَزِّ الْأَشْيَاءِ في السَّفَرِ فَالظَّاهِرُ عَدَمُ الْبَذْلِ فَإِنْ سَأَلَهُ فلم يُعْطِهِ أَصْلًا أَجْزَأَهُ التَّيَمُّمُ لِأَنَّ الْعَجْزَ قد تَقَرَّرَ وَكَذَا إنْ كان يُعْطِيهِ بِالثَّمَنِ وَلَا ثَمَنَ له لِمَا قُلْنَا وَإِنْ كان له ثَمَنٌ وَلَكِنْ لَا يَبِيعُهُ إلَّا بِغَبْنٍ فَاحِشٍ يَتَيَمَّمُ وَلَا يَلْزَمُهُ الشِّرَاءُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وقال الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يَلْزَمُهُ الشِّرَاءُ وَلَوْ بِجَمِيعِ مَالِهِ لِأَنَّ هذه تِجَارَةٌ رَابِحَةٌ وَلَنَا أَنَّهُ عَجَزَ عن اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ إلَّا باتلاف شَيْءٍ من مَالِهِ لِأَنَّ ما زَادَ على ثَمَنِ الْمِثْلِ لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ وَحُرْمَةُ مَالِ الْمُسْلِمِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ‏.‏

قال النبي صلى الله عليه وسلم حُرْمَةُ مَالِ الْمُسْلِمِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ وَلِهَذَا أُبِيحَ له الْقِتَالُ دُونَ مَالِهِ كما أُبِيحَ له دُونَ نَفْسِهِ ثُمَّ خَوْفُ فَوَاتِ بَعْضِ النَّفْسِ مُبِيحٌ لِلتَّيَمُّمِ فَكَذَا فَوَاتُ بَعْضِ الْمَالِ بِخِلَافِ الْغَبْنِ الْيَسِيرِ فإن تِلْكَ الزِّيَادَةَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ لِمَا يُذْكَرُ ثُمَّ قَدْرُ الْغَبْنِ الْفَاحِشِ في هذا الْباب بِتَضْعِيفِ الثَّمَنِ وَذَكَرَ في النَّوَادِرِ فقال إنْ كان الْمَاءُ يُشْتَرَى في ذلك الْمَوْضِعِ بِدِرْهَمٍ وهو لَا يَبِيعُهُ إلَّا بِدِرْهَمٍ وَنِصْفٍ يَلْزَمُهُ الشِّرَاءُ وَإِنْ كان لَا يَبِيعُ إلَّا بِدِرْهَمَيْنِ لَا يَلْزَمُهُ وَإِنْ كان يَبِيعُهُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ في ذلك الْمَوْضِعِ يَلْزَمُهُ الشِّرَاءُ لِأَنَّهُ قَدَرَ على اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ بِالْقُدْرَةِ على بَدَلِهِ من غَيْرِ إتْلَافٍ فَلَا يَجُوزُ له التَّيَمُّمُ كَمَنْ قَدَرَ على ثَمَنِ الرَّقَبَةِ لَا يَجُوزُ له التَّكْفِيرُ بِالصَّوْمِ وَإِنْ كان لَا يَبِيعُ إلَّا بِغَبْنٍ يَسِيرٍ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وقال الشَّافِعِيُّ لَا يَلْزَمُهُ الشِّرَاءُ اعْتِبَارًا بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ وَهَذَا الِاعْتِبَارُ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ ما لَا يَتَغَابَنُ الناس فيه فَهُوَ زِيَادَةٌ مُتَيَقَّنٌ بها لِأَنَّهَا لَا تَدْخُلُ تَحْتَ اخْتِلَافِ الْمُقَوِّمِينَ فَكَانَتْ مُعْتَبَرَةً وما يَتَغَابَنُ الناس فيه يَدْخُلُ تَحْتَ اخْتِلَافِهِمْ فَعِنْدَ بَعْضِهِمْ هو زِيَادَةٌ وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ ليس بِزِيَادَةٍ فلم تَكُنْ زِيَادَةً مُتَحَقِّقَةً فَلَا تُعْتَبَرُ‏.‏

وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ في جَامِعِهِ إن الْمُصَلِّيَ إذَا رَأَى مع رَفِيقِهِ ماءا ‏[‏ماء‏]‏ كَثِيرًا وَلَا يَدْرِي أَيُعْطِيهِ أَمْ لَا إنه يَمْضِي على صَلَاتِهِ لِأَنَّ الشُّرُوعَ قد صَحَّ فَلَا يَنْقَطِعُ بِالشَّكِّ فإذا فَرَغَ من صَلَاتِهِ سَأَلَهُ فَإِنْ أَعْطَاهُ تَوَضَّأَ وَاسْتَقْبَلَ الصَّلَاةَ لِأَنَّ الْبَذْلَ بَعْدَ الْفَرَاغِ دَلِيلُ الْبَذْلِ قَبْلَهُ وَإِنْ أَبَى فصلاتُهُ مَاضِيَةٌ لِأَنَّ الْعَجْزَ قد تَقَرَّرَ فَإِنْ أَعْطَاهُ بَعْدَ ذلك لم يُنْتَقَضْ ما مَضَى لِأَنَّ عَدَمَ الْمَاءِ اسْتَحْكَمَ بِالْإِبَاءِ وَيَلْزَمُهُ الْوُضُوءُ لِصَلَاةٍ أُخْرَى لِأَنَّ حُكْمَ الْإِبَاءِ ارْتَفَضَ بِالْبَذْلِ‏.‏

وقال مُحَمَّدٌ في رَجُلَيْنِ مع أَحَدِهِمَا إنَاءٌ يَغْتَرِفُ بِهِ من الْبِئْرِ وَوَعَدَ صَاحِبَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ الْإِنَاءَ قال يَنْتَظِرُ وان خَرَجَ الْوَقْتُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ هو الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ ‏(‏فَكَانَ قَادِرًا على اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ بِالْوَعْدِ‏)‏ وكان قَادِرًا على اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ ظَاهِرًا فَيُمْنَعُ الْمَصِيرُ إلَى التَّيَمُّمِ وَكَذَا إذَا وَعَدَ الْكَاسِي الْعَارِيَ أَنْ يُعْطِيَهُ الثَّوْبَ إذَا فَرَغَ من صَلَاتِهِ لم تُجْزِهِ الصَّلَاةُ عُرْيَانًا لِمَا قُلْنَا وَعَلَى هذا الْأَصْلِ يُخَرَّجُ المسافر ‏[‏مسافر‏]‏ يتيمم ‏[‏تيمم‏]‏ وفي رَحْلِهِ مَاءٌ لم يَعْلَمْ بِهِ حتى صلى ثُمَّ عَلِمَ بِهِ أَجْزَأَهُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَلَا يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ وقال أبو يُوسُفَ لم يجزئه ‏[‏يجزه‏]‏ وَيَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ وهو قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله تعالى‏.‏

وَأَجْمَعُوا على أَنَّهُ لو صلى في ثَوْبٍ نَجِسٍ نَاسِيًا أو تَوَضَّأَ بِمَاءٍ نَجِسٍ نَاسِيًا ثُمَّ تذكر ‏[‏تذكره‏]‏ لَا يُجْزِئُهُ وَتَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ لِأَبِي يُوسُفَ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ نَسِيَ ما لَا يُنْسَى عَادَةً لِأَنَّ الْمَاءَ من أَعَزِّ الْأَشْيَاءِ في السَّفَرِ لِكَوْنِهِ سَبَبًا لِصِيَانَةِ نَفْسِهِ عن الْهَلَاكِ فَكَانَ الْقَلْبُ مُتَعَلِّقًا بِهِ فَالْتَحَقَ النِّسْيَانُ فيه بِالْعَدَمِ وَالثَّانِي أَنَّ الرَّحْلَ مَوْضِعُ الْمَاءِ عَادَةً غَالِبًا لِحَاجَةِ الْمُسَافِرِ إلَيْهِ فَكَانَ الطَّلَبُ وَاجِبًا فإذا تَيَمَّمَ قبل الطَّلَبِ لَا يُجْزِئُهُ كما في الْعُمْرَانِ‏.‏ وَلَهُمَا أَنَّ الْعَجْزَ عن اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ قد تَحَقَّقَ بِسَبَبِ الْجَهَالَةِ وَالنِّسْيَانِ فَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ كما لو حَصَلَ الْعَجْزُ بِسَبَبِ الْبُعْدِ أو الْمَرَضِ أو عَدَمِ الدَّلْوِ وَالرَّشَا وَقَوْلُهُ نَسِيَ ما لَا يُنْسَى عَادَةً ليس كَذَلِكَ لِأَنَّ النِّسْيَانَ جِبِلَّةٌ في الْبَشَرِ خُصُوصًا إذَا مَرَّ بِهِ أَمْرٌ يَشْغَلُهُ عَمَّا وَرَاءَهُ وَالسَّفَرُ مَحَلُّ الْمَشَقَّاتِ وَمَكَانُ الْمَخَاوِفِ فَنِسْيَانُ الْأَشْيَاءِ فيه غَيْرُ نَادِرٍ وَأَمَّا قَوْلُهُ الرَّحْلُ مَعْدِنُ الْمَاءِ وَمَكَانُهُ فَلَيْسَ كَذَلِكَ فإن الْغَالِبَ في الْمَاءِ الْمَوْضُوعِ في الرَّحْلِ هو النفاد ‏[‏النفاذ‏]‏ لِقِلَّتِهِ فَلَا يَكُونُ بَقَاؤُهُ غَالِبًا فَيَتَحَقَّقُ الْعَجْزُ ظَاهِرًا بِخِلَافِ الْعُمْرَانِ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عن الْمَاءِ غَالِبًا‏.‏

وَلَوْ صلى عُرْيَانًا أو مع ثَوْبٍ نَجِسٍ وفي رَحْلِهِ ثَوْبٌ طَاهِرٌ لم يَعْلَمْ بِهِ ثُمَّ عَلِمَ قال بَعْضُ مَشَايِخِنَا يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ بِالْإِجْمَاعِ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ على الِاخْتِلَافِ وهو الْأَصَحُّ وَلَوْ كان عليه كَفَّارَةُ الْيَمِينِ وَلَهُ رَقَبَةٌ قد نَسِيَهَا وَصَامَ قِيلَ أنه على الِاخْتِلَافِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ ثَمَّةَ مِلْكُ الرَّقَبَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو عَرَضَ عليه رَقَبَةً كان له أَنْ لَا يَقْبَلَ وَيُكَفِّرَ بِالصَّوْمِ وَبِالنِّسْيَانِ لَا يَنْعَدِمُ الْمِلْكُ وَهَهُنَا الْمُعْتَبَرُ هو الْقُدْرَةُ على الِاسْتِعْمَالِ وَبِالنِّسْيَانِ زَالَتْ الْقُدْرَةُ أَلَا تَرَى لو عُرِضَ عليه الْمَاءُ لَا يُجْزِئُهُ التَّيَمُّمُ وَلِأَنَّ النِّسْيَانَ في هذا الْباب في غَايَةِ النُّدْرَةِ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ وَلَوْ وَضَعَ غَيْرُهُ في رَحْلِهِ مَاءً وهو لَا يَعْلَمُ بِهِ فَتَيَمَّمَ وَصَلَّى ثُمَّ عَلِمَ لَا رِوَايَةَ لِهَذَا أَيْضًا‏.‏

وقال بَعْضُ مَشَايِخِنَا إنَّ لَفْظَ الرِّوَايَةِ في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ يَدُلُّ على أَنَّهُ يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ فإنه قال في الرَّجُلِ يَكُونُ في رَحْلِهِ مَاءٌ فَيَنْسَى وَالنِّسْيَانُ يَسْتَدْعِي تَقَدُّمَ الْعِلْمِ ثُمَّ مع ذلك جُعِلَ عُذْرًا عِنْدَهُمَا فَبَقِيَ مَوْضِعٌ لَا عِلْمَ فيه أَصْلًا يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ عُذْرًا عِنْدَ الْكُلِّ وَلَفْظُ الرِّوَايَةِ في كِتَابِ الصَّلَاةِ يَدُلُّ على أَنَّهُ على الِاخْتِلَافِ فإنه قال مُسَافِرٌ تَيَمَّمَ وَمَعَهُ مَاءٌ في رَحْلِهِ وهو لَا يَعْلَمُ بِهِ وَهَذَا يَتَنَاوَلُ حَالَةَ النِّسْيَانِ وَغَيْرَهَا وَلَوْ ظَنَّ أَنَّ مَاءَهُ قد فَنِيَ فَتَيَمَّمَ وَصَلَّى ثُمَّ تَبَيَّنَ له أَنَّهُ قد بَقِيَ لَا يُجْزِئُهُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الْعِلْمَ لَا يَبْطُلُ بِالظَّنِّ فَكَانَ الطَّلَبُ وَاجِبًا بِخِلَافِ النِّسْيَانِ لِأَنَّهُ من أَضْدَادِ الْعِلْمِ وَلَوْ كان على رَأْسِهِ أو ظَهْرِهِ مَاءٌ أو كان مُعَلَّقًا في عُنُقِهِ فَنَسِيَهُ فَتَيَمَّمَ ثُمَّ تَذَكَّرَ لَا يُجْزِئُهُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ النِّسْيَانَ في مِثْلِ هذه الْحَالَةِ نَادِرٌ وَلَوْ كان الْمَاءُ مُعَلَّقًا على الْإِكَافِ فَلَا يَخْلُو إمَّا إنْ كان رَاكِبًا أو سَائِقًا فَإِنْ كان رَاكِبًا فَإِنْ كان الْمَاءُ في مُؤَخَّرِ الرَّحْلِ فَهُوَ على الِاخْتِلَافِ وَإِنْ كان في مُقَدَّمِ الرَّحْلِ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ نِسْيَانَهُ نَادِرٌ وَإِنْ كان سَائِقًا فَالْجَوَابُ على الْعَكْسِ وهو أَنَّهُ إنْ كان في مُؤَخَّرِ الرَّحْلِ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ يَرَاهُ وَيُبْصِرُهُ فَكَانَ النِّسْيَانُ نَادِرًا وَإِنْ كان في مُقَدَّمِ الرَّحْلِ فَهُوَ على الِاخْتِلَافِ والله أعلم‏.‏

الْمَحْبُوسُ في الْمِصْرِ في مَكَان طَاهِرٍ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي ثُمَّ يُعِيدُ إذَا خَرَجَ وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي وهو قَوْلُ زُفَرَ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُعِيدُ الصَّلَاةَ وَجْهُ رِوَايَةِ أبي يُوسُفَ أَنَّهُ عَجَزَ عن اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ حَقِيقَةً بِسَبَبِ الْحَبْسِ فَأَشْبَهُ الْعَجْزَ بِسَبَبِ الْمَرَضِ وَنَحْوِهِ فَصَارَ الْمَاءُ عَدَمًا مَعْنًى في حَقِّهِ فَصَارَ مُخَاطَبًا بِالصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ فَالْقُدْرَةُ بَعْدَ ذلك لَا تُبْطِلُ الصَّلَاةَ الْمُؤَدَّاةَ كما في سَائِرِ الْمَوَاضِعِ ‏(‏وَكَمَا في الْمَحْبُوسِ في السَّفَرِ‏)‏‏.‏

وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّهُ ليس بِعَادِمٍ لِلْمَاءِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا أَمَّا الْحَقِيقَةُ فَظَاهِرَةٌ وَأَمَّا الْحُكْمُ فَلِأَنَّ الْحَبْسَ إنْ كان بِحَقٍّ فَهُوَ قَادِرٌ على إزَالَتِهِ بِإِيصَالِ الْحَقِّ إلَى الْمُسْتَحِقِّ وَإِنْ كان بِغَيْرِ حَقٍّ فَالظُّلْمُ لَا يَدُومُ في دَارِ الْإِسْلَامِ بَلْ يُرْفَعُ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْعَجْزُ فَلَا يَكُونُ التُّرَابُ طَهُورًا في حَقِّهِ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْعَجْزَ لِلْحَالِ قد تَحَقَّقَ إلَّا أَنَّهُ يَحْتَمِلُ الِارْتِفَاعَ فإنه قَادِرٌ على رَفْعِهِ إذَا كان بِحَقٍّ وَإِنْ كان بِغَيْرِ حَقٍّ فَكَذَلِكَ لِأَنَّ الظُّلْمَ يُدْفَعُ وَلَهُ وِلَايَةُ الدَّفْعِ بِالرَّفْعِ إلَى من له الْوِلَايَةُ فَأُمِرَ بِالصَّلَاةِ احْتِيَاطًا لِتَوَجُّهِ الْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ ‏(‏لِأَنَّ احْتِمَالَ الْجَوَازِ ثَابِتٌ لِاحْتِمَالِ إن هذا الْقَدْرَ من الْعَجْزِ يَكْفِي لِتَوْجِيهِ الْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ‏)‏ وَأُمِرَ بِالْقَضَاءِ في الثَّانِي لِأَنَّ احْتِمَالَ عَدَمِ الْجَوَازِ ثابت لاحتمال ‏(‏أن هذا القدر من العجز يكفي لتوجيه الأمر بالصلاة وأمر بالقضاء في الثاني لأن احتمال عدم لجواز ثَابِتٌ لِاحْتِمَالِ‏)‏ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ حَقِيقَةً الْقُدْرَةُ دُونَ الْعَجْزِ الْحَالِي فَيُؤْمَرُ بِالْقَضَاءِ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ وَأَخْذًا بِالثِّقَةِ وَالِاحْتِيَاطِ وَصَارَ كَالْمُقَيَّدِ أَنَّهُ يُصَلِّي قَاعِدًا ثُمَّ يُعِيدُ إذَا أُطْلِقَ كَذَا هذا بِخِلَافِ الْمَحْبُوسِ في السَّفَرِ لِأَنَّ ثَمَّةَ تَحَقَّقَ الْعَجْزُ من كل وَجْهٍ لِأَنَّهُ انْضَافَ إلَى الْمَنْعِ الْحَقِيقِيِّ السَّفَرُ وَالْغَالِبُ في السَّفَرِ عَدَمُ الْمَاء وَأَمَّا الْمَحْبُوسُ في مَكَان نَجِسٍ لَا يَجِدُ مَاءً وَلَا تُرَابًا نَظِيفًا فإنه لَا يُصَلِّي عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وقال أبو يُوسُفَ يُصَلِّي بِالْإِيمَاءِ ثُمَّ يُعِيدُ إذَا خَرَجَ وهو قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ مُضْطَرِبٌ وَذُكِرَ في عَامَّةِ الرِّوَايَاتِ مع أبي حَنِيفَةَ وفي نَوَادِرِ أبي سُلَيْمَانَ مع أبي يُوسُفَ وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ عَجَزَ عن حَقِيقَةِ الْأَدَاءِ فلم يَعْجَزْ عن التَّشَبُّهِ فَيُؤْمَرُ بِالتَّشَبُّهِ كما في باب الصَّوْمِ‏.‏

وقال بَعْضُ مَشَايِخِنَا إنَّمَا يُصَلِّي بِالْإِيمَاءِ على مَذْهَبِهِ إذَا كان الْمَكَانُ رَطْبًا أَمَّا إذَا كان يَابِسًا فإنه يُصَلِّي بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُ أَنَّهُ يومىء كَيْفَمَا كان لِأَنَّهُ لو سَجَدَ لَصَارَ مُسْتَعْمِلًا لِلنَّجَاسَةِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الطَّهَارَةَ شَرْطُ أَهْلِيَّةِ أَدَاءِ الصَّلَاةِ فإن اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ أَهْلَ مُنَاجَاتِهِ الطَّاهِرَ لَا الْمُحْدِثَ وَالتَّشَبُّهُ إنَّمَا يَصِحُّ من الْأَهْلِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَائِضَ لَا يَلْزَمُهَا التَّشَبُّهُ في باب الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ لِأَنَّ هُنَاكَ حَصَلَتْ الطَّهَارَةُ من وَجْهٍ فَكَانَ أَهْلًا من وَجْهٍ فَيُؤَدِّي الصَّلَاةَ ثُمَّ يَقْضِيهَا احْتِيَاطًا مُسَافِرٌ مَرَّ بِمَسْجِدٍ فيه عَيْنُ مَاءٍ وهو جُنُبٌ وَلَا يَجِدُ غَيْرَهُ جَازَ له التَّيَمُّمُ لِدُخُولِ الْمَسْجِدِ لِأَنَّ الْجَنَابَةَ مَانِعَةٌ من دُخُولِ الْمَسْجِدِ عِنْدَنَا على كل حَالٍ سَوَاءٌ كان الدُّخُولُ على قَصْدِ الْمُكْثِ أو الِاجْتِيَازِ على ما ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ فَكَانَ عَاجِزًا عن اسْتِعْمَالِ هذا الْمَاءِ فَكَانَ هذا الْمَاءُ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ في حَقِّ جَوَازِ التَّيَمُّمِ فَلَا يَمْنَعُ جَوَازَ التَّيَمُّمِ ثُمَّ وُجُودُ الْمَاءِ إنَّمَا يَمْنَعُ من جَوَازِ التَّيَمُّمِ إذَا كان الْقَدْرُ الْمَوْجُودُ يَكْفِي لَلْوُضُوءِ إنْ كان مُحْدِثًا وَلِلِاغْتِسَالِ إنْ كان جُنُبًا فَإِنْ كان لَا يَكْفِي لِذَلِكَ فَوُجُودُهُ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ التَّيَمُّمِ عِنْدَنَا‏.‏

وقال الشَّافِعِيُّ يُمْنَعُ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ حتى إنَّ الْمُحْدِثَ إذَا وَجَدَ من الْمَاءِ قَدْرَ ما يَغْسِلُ بَعْضَ أَعْضَاءِ وُضُوئِهِ جَازَ له أَنْ يَتَيَمَّمَ عِنْدَنَا مع قِيَامِ ذلك الْمَاءِ وَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ مع قِيَامِهِ وَكَذَلِكَ الْجُنُبُ إذَا وَجَدَ من الْمَاءِ قَدْرَ ما يَتَوَضَّأُ بِهِ لَا غَيْرُ أَجْزَأَهُ التَّيَمُّمُ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَا يُجْزِئُهُ إلَّا بَعْدَ تَقْدِيمِ الْوُضُوءِ حتى يَصِيرَ عَادِمًا لِلْمَاءِ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى في آيَةِ التَّيَمُّمِ‏:‏ ‏{‏فلم تَجِدُوا مَاءً‏}‏ ذَكَرَ الْمَاءَ نَكِرَةً في مَحَلِّ النَّفْيِ فَيَقْتَضِي الْجَوَازَ عِنْدَ عَدَمِ كل جُزْءٍ من أَجْزَاءِ الْمَاءِ وَلِأَنَّ النَّجَاسَةَ الْحُكْمِيَّةَ وَهِيَ الْحَدَثُ تُعْتَبَرُ بِالنَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ ثُمَّ لو كان معه من الْمَاءِ ما يُزِيلُ بِهِ بَعْضَ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ يُؤْمَرُ بِالْإِزَالَةِ كَذَا ههنا ‏[‏هنا‏]‏ وَلَنَا أن الْمَأْمُورَ بِهِ الْغُسْلُ الْمُبِيحُ لِلصَّلَاةِ وَالْغُسْلُ الذي لَا يُبِيحُ الصَّلَاةَ وُجُودُهُ وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ كما لو كان الْمَاءُ نَجِسًا وَلِأَنَّ الْغُسْلَ إذَا لم يُفِدْ الْجَوَازَ كان الِاشْتِغَالُ بِهِ سَفَهًا مع أَنَّ فيه تَضْيِيعَ الْمَاءِ وإنه حَرَامٌ فَصَارَ كَمَنْ وَجَدَ ما يُطْعِمُ بِهِ خَمْسَةَ مَسَاكِينَ فكفر ‏[‏فنكفر‏]‏ بِالصَّوْمِ أَنَّهُ يَجُوزُ وَلَا يُؤْمَرُ بِإِطْعَامِ الْخَمْسَةِ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فَكَذَا هذا بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ هُنَاكَ لَا يُؤَدِّي إلَى تَضْيِيعِ الْمَالِ لِحُصُولِ الثَّوَابِ بِالتَّصَدُّقِ وَمَعَ ذلك لم يُؤْمَرْ بِهِ لِمَا قُلْنَا فَهَهُنَا أَوْلَى وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ من الْمَاءِ الْمُطْلَقِ في الْآيَةِ هو الْمُقَيَّدُ وهو الْمَاءُ الْمُفِيدُ لِإِبَاحَةِ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْغُسْلِ بِهِ كما يُقَيَّدُ بِالْمَاءِ الطَّاهِرِ وَلِأَنَّ مُطْلَقَ الكلام ‏[‏الماء‏]‏ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ وَالْمُتَعَارَفُ من الْمَاءِ في باب الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ هو الْمَاءُ الذي يَكْفِي لِلْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ فَيَنْصَرِفُ الْمُطْلَقُ إلَيْهِ وَاعْتِبَارُهُ بِالنَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ في الْأَحْكَامِ فإن قَلِيلَ الْحَدَثِ كَكَثِيرِهِ في الْمَنْعِ من الْجَوَازِ بِخِلَافِ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ فَيَبْطُلُ الِاعْتِبَارُ‏.‏

وَلَوْ تَيَمَّمَ الْجُنُبُ ثُمَّ أَحْدَثَ بَعْدَ ذلك وَمَعَهُ من الْمَاءِ قَدْرُ ما يَتَوَضَّأُ بِهِ فإنه يَتَوَضَّأُ بِهِ وَلَا يَتَيَمَّمُ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ الْأَوَّلَ أَخْرَجَهُ من الْجَنَابَةِ إلَى أَنْ يَجِدَ من الْمَاءِ ما يَكْفِيهِ لِلِاغْتِسَالِ فَهَذَا مُحْدِثٌ وَلَيْسَ بِجُنُبٍ وَمَعَهُ من الْمَاءِ قَدْرُ ما يَكْفِيهِ لِلْوُضُوءِ فَيَتَوَضَّأُ بِهِ فَإِنْ تَوَضَّأَ وَلَبِسَ خُفَّيْهِ ثُمَّ مَرَّ على الْمَاءِ فلم يَغْتَسِلْ ثُمَّ حَضَرَتْهُ الصَّلَاةُ وَمَعَهُ من الْمَاءِ قَدْرُ ما يَتَوَضَّأُ بِهِ فإنه لا يَتَوَضَّأُ بِهِ وَلَكِنَّهُ يَتَيَمَّمُ لِأَنَّهُ بِمُرُورِهِ على الْمَاءِ عَادَ جُنُبًا كما كان فَعَادَتْ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى وَلَا يَنْزِعُ الْخُفَّيْنِ لِأَنَّ الْقَدَمَ لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ التيمم ‏[‏للتيمم‏]‏ فَإِنْ تَيَمَّمَ ثُمَّ أَحْدَثَ وقد حَضَرَتْهُ صَلَاةٌ أُخْرَى وَعِنْدَهُ من الْمَاءِ قَدْرُ ما يَتَوَضَّأُ بِهِ تَوَضَّأَ بِهِ وَلَا يَتَيَمَّمُ لِمَا مَرَّ وَنَزَعَ خُفَّيْهِ وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ لِأَنَّهُ بِمُرُورِهِ بِالْمَاءِ عَادَ جُنُبًا فَسَرَى الْحَدَثُ السَّابِقُ إلَى الْقَدَمَيْنِ فَلَا يَجُوزُ له أَنْ يَمْسَحَ بَعْدَ ذلك وَلَوْ كان بِبَعْضِ أَعْضَاءِ الْجُنُبِ جِرَاحَةٌ أو جُدَرِيٌّ فَإِنْ كان الْغَالِبُ هو الصَّحِيحُ غَسَلَ الصَّحِيحَ وَرَبَطَ على السَّقِيمِ الْجَبَائِرَ وَمَسَحَ عليها وَإِنْ كان الْغَالِبُ هو السَّقِيمَ تَيَمَّمَ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْغَالِبِ وَلَا يَغْسِلُ الصَّحِيحَ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ لِمَا مَرَّ وَلِأَنَّ الْجَمْعَ بين الْغُسْلِ وَالتَّيَمُّمِ مُمْتَنِعٌ إلَّا في حَالِ وُقُوعِ الشَّكِّ في طَهُورِيَّةِ الْمَاءِ ولم يُوجَدْ وَعَلَى هذا لو كان مُحْدِثًا أو ‏[‏وببعض‏]‏ ببعض أَعْضَاءِ وُضُوئِهِ جِرَاحَةٌ أو جُدَرِيٌّ لِمَا قُلْنَا وَإِنْ اسْتَوَى الصَّحِيحُ وَالسَّقِيمُ لم يُذْكَرْ فيظاهر الرِّوَايَةِ وَذُكِرَ في النَّوَادِرِ أَنَّهُ يَغْسِلُ الصَّحِيحَ وَيَرْبِطُ الْجَبَائِرَ على السَّقِيمِ وَيَمْسَحُ عليها وَلَيْسَ في هذا جَمْعٌ بين الْغَسْلِ وَالْمَسْحِ لِأَنَّ الْمَسْحَ على الْجَبَائِرِ كَالْغَسْلِ لِمَا تَحْتَهَا وَهَذَا الشَّرْطُ الذي ذَكَرْنَا لِجَوَازِ التَّيَمُّمِ وهو عَدَمُ الْمَاءِ فِيمَا وَرَاءَ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ فَأَمَّا في هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ بَلْ الشَّرْطُ فِيهِمَا خَوْفُ الْفَوْتِ لو اشْتَغَلَ بِالْوُضُوءِ حتى لو حَضَرَتْهُ الْجِنَازَةُ وَخَافَ فَوْتَ الصَّلَاةِ لو اشْتَغَلَ بِالْوُضُوءِ تَيَمَّمَ وَصَلَّى وَهَذَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا وقال الشَّافِعِيُّ لَا يَتَيَمَّمُ اسْتِدْلَالًا بِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ وَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ وَلَنَا ما رُوِيَ عن ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ قال إذَا فَجَأَتْكَ جِنَازَةٌ تَخْشَى فَوْتَهَا وَأَنْت على غَيْرِ وُضُوءٍ فَتَيَمَّمَ لها‏.‏

وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما مِثْلُهُ وَلِأَنَّ شَرْعَ التَّيَمُّمِ في الْأَصْلِ لِخَوْفِ فَوَاتِ الْأَدَاءِ وقد وُجِدَ هَهُنَا بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ هُنَاكَ تَفُوتُ فَضِيلَةُ الْأَدَاءِ فَقَطْ فَأَمَّا الِاسْتِدْرَاكُ بِالْقَضَاءِ فَمُمْكِنٌ وَهَهُنَا تَفُوتُ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ أَصْلًا فَكَانَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ حتى لو كان وَلِيُّ الْمَيِّتِ لَا يُبَاحُ له التَّيَمُّمُ كَذَا رَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّ له وِلَايَةَ الْإِعَادَةِ فَلَا يَخَافُ الْفَوْتَ وَحَاصِلُ الْكَلَامِ فيه رَاجِعٌ إلَى أَنَّ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ لَا تُقْضَى عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ تُقْضَى على ما نَذْكُرُ في مَوْضِعِهِ إن شاء الله تعالى‏.‏بِخِلَافِ الْجُمُعَةِ لِأَنَّ فَرْضَ الْوَقْتِ قَائِمٌ وهو الظُّهْرُ وَبِخِلَافِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ لِأَنَّهَا تَفُوتُ إلَى خَلَفٍ وهو الْقَضَاءُ وَالْفَائِتُ إلَى خَلَفٍ قَائِمٌ مَعْنًى وَسَجْدَةُ التِّلَاوَةِ لَا يُخَافُ فَوْتُهَا رَأْسًا لِأَنَّهُ ليس لِأَدَائِهَا وَقْتٌ مُعَيَّنٌ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ مُطْلَقَةً عن الْوَقْتِ‏.‏

وَكَذَا إذَا خَافَ فَوْتَ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ يَتَيَمَّمُ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهَا بِالْقَضَاءِ لِاخْتِصَاصِهَا بِشَرَائِطَ يَتَعَذَّرُ تَحْصِيلُهَا لِكُلِّ فَرْدٍ هذا إذَا خَافَ فَوْتَ الْكُلِّ فَإِنْ كان يَرْجُو أَنْ يُدْرِكَ الْبَعْضَ لَا يَتَيَمَّمُ لِأَنَّهُ لَا يَخَافُ الْفَوْتَ لِأَنَّهُ إذَا أَدْرَكَ الْبَعْضَ يُمْكِنُهُ أَدَاءُ الْبَاقِي وَحْدَهُ وَلَوْ شَرَعَ في صَلَاةِ الْعِيدِ مُتَيَمِّمًا ثُمَّ سَبَقَهُ الْحَدَثُ جَازَ له أَنْ يَبْنِيَ عليها بِالتَّيَمُّمِ بِإِجْمَاعٍ من أَصْحَابِنَا لِأَنَّهُ لو ذَهَبَ وَتَوَضَّأَ لَبَطَلَتْ صَلَاتُهُ من الْأَصْلِ لَبُطْلَانِ التَّيَمُّمِ فَلَا يُمْكِنُهُ الْبِنَاءُ وَأَمَّا إذَا شَرَعَ فيها مُتَوَضِّئًا ثُمَّ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَإِنْ كان يَخَافُ أَنَّهُ لو اشْتَغَلَ بِالْوُضُوءِ زَالَتْ الشَّمْسُ تَيَمَّمَ وَبَنَى وَإِنْ كان لَا يَخَافُ زَوَالَ الشَّمْسِ فَإِنْ كان يَرْجُو أَنَّهُ لو تَوَضَّأَ يُدْرِكُ شيئا من الصَّلَاةِ مع الْإِمَامِ تَوَضَّأَ وَلَا يَتَيَمَّمُ لِأَنَّهَا لَا تَفُوتُ لِأَنَّهُ إذَا أَدْرَكَ الْبَعْضَ يُتِمُّ الْبَاقِي وَحْدَهُ وَإِنْ كان لَا يَرْجُوَ إدْرَاكَ الْإِمَامِ يُبَاحُ له التَّيَمُّمُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يُبَاحُ‏.‏

وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لو ذَهَبَ وَتَوَضَّأَ لَا تَفُوتُهُ الصَّلَاةُ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ إتْمَامُ الْبَقِيَّةِ وَحْدَهُ لِأَنَّهُ لا حق وَلَا عِبْرَةَ بِالتَّيَمُّمِ عِنْدَ عَدَمِ خَوْفِ الْفَوْتِ أَصْلًا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إنْ كان لَا يَخَافُ الْفَوْتَ من هذا الْوَجْهِ يَخَافُ الْفَوْتَ بِسَبَبِ الْفَسَادِ لِازْدِحَامِ الناس فَقَلَّمَا يَسْلَمُ عن عَارِضٍ يُفْسِدُ عليه صَلَاتَهُ فَكَانَ في الِانْصِرَافِ لِلْوُضُوءِ تَعْرِيضُ صَلَاتِهِ لِلْفَسَادِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ فَيَتَيَمَّمُ والله أعلم‏.‏

وَمِنْهَا النِّيَّةُ وَالْكَلَامُ في النِّيَّةِ في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في بَيَانِ أنها شَرْطُ جَوَازِ التَّيَمُّمِ وَالثَّانِي في بَيَانِ كَيْفِيَّتِهَا أَمَّا الْأَوَّلُ فَالنِّيَّةُ شَرْطُ جَوَازِ التَّيَمُّمِ في قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ

وقال زُفَرُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ وَجْهُ قَوْلِهِ إن التَّيَمُّمَ خَلْفٌ وَالْخَلْفُ لَا يُخَالِفُ الْأَصْلَ في الشُّرُوطِ ثُمَّ الْوُضُوءُ يَصِحُّ بِدُونِ النِّيَّةِ كَذَا التَّيَمُّمُ وَلَنَا أَنَّ التَّيَمُّمَ ليس بِطَهَارَةٍ حَقِيقِيَّةٍ وَإِنَّمَا جُعِلَ طَهَارَةً عِنْدَ الْحَاجَةِ وَالْحَاجَةُ إنَّمَا تُعْرَفُ بِالنِّيَّةِ بِخِلَافِ الْوُضُوءِ لِأَنَّهُ طَهَارَةٌ حَقِيقِيَّةٌ فَلَا يُشْتَرَطُ له الْحَاجَةُ لَيَصِيرَ طَهَارَةً فَلَا يُشْتَرَطُ له النِّيَّةُ وَلِأَنَّ مَأْخَذَ الِاسْمِ دَلِيلُ كَوْنِهَا شَرْطًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ ينبىء عن الْقَصْدِ وَالنِّيَّةُ هِيَ الْقَصْدُ فَلَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِهَا فَأَمَّا الْوُضُوءُ فإنه مَأْخُوذٌ من الْوَضَاءَةِ وَأَنَّهَا تَحْصُلُ بِدُونِ النِّيَّةِ وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ النِّيَّةِ في التَّيَمُّمِ فَقَدْ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّ الصَّحِيحَ من الْمَذْهَبِ أَنَّهُ إذَا نَوَى الطَّهَارَةَ أو نَوَى اسْتِبَاحَةَ الصَّلَاةِ أَجْزَأَهُ وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ في التَّيَمُّمِ نِيَّةُ التَّطْهِيرِ وَإِنَّمَا يَجِبُ نِيَّةُ التَّمْيِيزِ وهو أَنْ يَنْوِيَ الْحَدَثَ أو الْجَنَابَةَ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ لَهُمَا يَقَعُ على صِفَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا بُدَّ من التَّمْيِيزِ بِالنِّيَّةِ كما في صَلَاةِ الْفَرْضِ أَنَّهُ لَا بُدَّ فيها من نِيَّةِ الْفَرْضِ لِأَنَّ الْفَرْضَ وَالنَّفَلَ يَتَأَدَّيَانِ على هَيْئَةٍ وَاحِدَةٍ وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذلك ليس بِشَرْطٍ فإن ابْنَ سِمَاعَةَ رَوَى عن مُحَمَّدٍ أَنَّ الْجُنُبَ إذَا تَيَمَّمَ يُرِيدُ بِهِ الْوُضُوءَ أَجْزَأَهُ عن الْجَنَابَةِ وَهَذَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ افْتِقَارَ التَّيَمُّمِ إلَى النِّيَّةِ لِيَصِيرَ طَهَارَةً إذْ هو ليس بِتَطْهِيرٍ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا جُعِلَ تَطْهِيرًا شَرْعًا لِلْحَاجَةِ وَالْحَاجَةُ تُعْرَفُ بِالنِّيَّةِ وَنِيَّةُ الطَّهَارَةِ تَكْفِي دَلَالَةً على الْحَاجَةِ وَكَذَا نِيَّةُ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ لَا جَوَازَ لِلصَّلَاةِ بِدُونِ الطَّهَارَةِ فَكَانَتْ دَلِيلًا على الْحَاجَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى نِيَّةِ التَّمْيِيزِ أَنَّهُ لِلْحَدَثِ أو لِلْجَنَابَةِ‏.‏

وَلَوْ تَيَمَّمَ وَنَوَى مُطْلَقَ الطَّهَارَةِ أو نَوَى اسْتِبَاحَةَ الصَّلَاةِ فَلَهُ أَنْ يَفْعَلَ كُلَّ ما لَا يَجُوزُ بِدُونِ الطَّهَارَةِ كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ وَنَحْوِهَا لِأَنَّهُ لَمَّا أُبِيحَ له أَدَاءُ الصَّلَاةِ فَلَأَنْ يُبَاحَ له ما دُونَهَا أو ما هو جُزْءٌ من أَجْزَائِهَا أَوْلَى وَكَذَا لو تَيَمَّمَ لِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ أو لِسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ أو لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِأَنْ كان جُنُبًا جَازَ له أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ سَائِرَ الصَّلَوَاتِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ من ذلك عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ بِنَفْسِهَا وهو من جِنْسِ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ فَكَانَ نِيَّتُهَا عِنْدَ التَّيَمُّمِ كَنِيَّةِ الصَّلَاةِ فَأَمَّا إذَا تَيَمَّمَ لِدُخُولِ الْمَسْجِدِ أو لَمْسِ الْمُصْحَفِ لَا يَجُوزُ له أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ لِأَنَّ دُخُولَ الْمَسْجِدِ وَمَسَّ الْمُصْحَفِ ليس بِعِبَادَةٍ مَقْصُودَةٍ بِنَفْسِهِ وَلَا هو من جِنْسِ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ فَيَقَعُ طَهُورًا لِمَا أَوْقَعَهُ له لَا غَيْرُ

وَمِنْهَا الْإِسْلَامُ فإنه شَرَطَ وُقُوعَهُ صَحِيحًا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ حتى لَا يَصِحَّ تَيَمُّمُ الْكَافِرِ وَإِنْ أَرَادَ بِهِ الْإِسْلَامَ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ إذَا تَيَمَّمَ يَنْوِي الْإِسْلَامَ جَازَ حتى لو أَسْلَمَ لَا يَجُوزُ له أَنْ يُصَلِّيَ بِذَلِكَ التَّيَمُّمِ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَعَلَى رِوَايَةِ أبي يُوسُفَ يَجُوزُ وَجْهُ رِوَايَتِهِ أَنَّ الْكَافِرَ من أَهْلِ نِيَّةِ الْإِسْلَامِ وَالْإِسْلَامُ رَأْسُ الْعِبَادَةِ فَيَصِحُّ تَيَمُّمُهُ له بِخِلَافِ ما إذَا تَيَمَّمَ لصلاة ‏[‏للصلاة‏]‏ لِأَنَّهُ ليس من أَهْلِ الصَّلَاةِ فَكَانَ تَيَمُّمُهُ لِلصَّلَاةِ سَفَهًا فَلَا يُعْتَبَرُ‏.‏

وَلَنَا أَنَّ التَّيَمُّمَ ليس بِطَهُورٍ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا جُعِلَ طَهُورًا لِلْحَاجَةِ إلَى فِعْلٍ لَا صِحَّةَ له بِدُونِ الطَّهَارَةِ وَالْإِسْلَامُ يَصِحُّ بِدُونِ الطَّهَارَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى أَنْ يُجْعَلَ طَهُورًا في حَقِّهِ بِخِلَافِ الْوُضُوءِ أنه يَصِحُّ من الْكَافِرِ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ طَهُورٌ حَقِيقَةً فَلَا نشترط ‏[‏تشترط‏]‏ له الْحَاجَةُ لِيَصِيرَ طَهُورًا وَلِهَذَا لو تَيَمَّمَ مُسْلِمٌ بِنِيَّةِ الصَّوْمِ لم يَصِحَّ وَإِنْ كان الصَّوْمُ عِبَادَةً فَكَذَا هَهُنَا بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ هُنَاكَ بِاشْتِغَالِهِ بِالتَّيَمُّمِ لم يَرْتَكِبْ نَهْيًا وَهَهُنَا ارْتَكَبَ أَعْظَمَ نَهْيٍ لِأَنَّهُ بِقَدْرِ ما اشْتَغَلَ صَارَ بَاقِيًا على الْكُفْرِ لتأخير ‏[‏مؤخرا‏]‏ الإسلام ‏[‏للإسلام‏]‏ وَتَأْخِيرُ الْإِسْلَامِ من أَعْظَمِ الْعِصْيَانِ ثُمَّ لَمَّا لم يَصِحَّ ذَاكَ فَلَأَنْ لَا يَصِحَّ هذا أَوْلَى‏.‏

مُسْلِمٌ تَيَمَّمَ ثُمَّ ارْتَدَّ عن الْإِسْلَامِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ لم يَبْطُلْ تَيَمُّمُهُ حتى لو رَجَعَ إلَى الْإِسْلَامِ له أَنْ يُصَلِّيَ بِذَلِكَ التَّيَمُّمِ وَعِنْدَ زُفَرَ بَطَلَ تَيَمُّمُهُ حتى لَا يَجُوزَ له أَنْ يُصَلِّيَ بِذَلِكَ التَّيَمُّمِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَالْإِسْلَامُ عِنْدَنَا شَرْطُ وُقُوعِ التَّيَمُّمِ صَحِيحًا لَا شَرْطُ بَقَائِهِ على الصِّحَّةِ وَعِنْدَ زُفَرَ هو شَرْطُ بَقَائِهِ على الصِّحَّةِ أَيْضًا فَزُفَرُ يَجْمَعُ بين حَالَةِ الِابْتِدَاءِ وَالْبَقَاءِ بِعِلَّةٍ جَامِعَةٍ بَيْنَهُمَا وَهِيَ ما ذَكَرْنَا أَنَّهُ جُعِلَ طَهُورًا مع أَنَّهُ ليس بِطَهُورٍ حَقِيقَةً لِمَكَانِ الْحَاجَةِ إلَى ما لَا صِحَّةَ له بِدُونِ الطَّهَارَةِ من الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا وَذَا لَا يُتَصَوَّرُ من الْكَافِرِ فَلَا يَبْقَى طَهَارَةً في حَقِّهِ وَلِهَذَا لم تَنْعَقِدْ طَهَارَةٌ مع الْكُفْرِ فَلَا تَبْقَى طَهَارَةٌ معه وَلَنَا أَنَّ التَّيَمُّمَ وَقَعَ طَهَارَةً صَحِيحَةً فَلَا يَبْطُلُ بِالرِّدَّةِ لِأَنَّ أَثَرَ الرِّدَّةِ في إبْطَالِ الْعِبَادَاتِ وَالتَّيَمُّمُ ليس بِعِبَادَةٍ عِنْدَنَا لَكِنَّهُ طَهُورٌ وَالرِّدَّةُ لَا تُبْطِلُ صِفَةَ الطَّهُورِيَّةِ كما لَا تُبْطِلُ صِفَةَ الْوُضُوءِ وَاحْتِمَالُ الْحَاجَةِ بَاقٍ لِأَنَّهُ مَجْبُورٌ على الْإِسْلَامِ وَالثَّابِتُ بِيَقِينٍ يَبْقَى لِوَهْمِ الْفَائِدَةِ في أُصُولِ الشَّرْعِ إلَّا أَنَّهُ لم يَنْعَقِدْ طَهَارَةً مع الْكُفْرِ لِأَنَّ جَعْلَهُ طَهَارَةً لِلْحَاجَةِ وَالْحَاجَةُ زَائِلَةٌ لِلْحَالِ بِيَقِينٍ وَغَيْرُ الثَّابِتِ بِيَقِينٍ لَا يَثْبُتُ لِوَهْمِ الْفَائِدَةِ مع ما أَنَّ رَجَاءَ الْإِسْلَامِ منه على مُوجِبِ دِيَانَتِهِ وَاعْتِقَادِهِ مُنْقَطِعٌ وَالْجَبْرُ على الْإِسْلَامِ مُنْعَدِمٌ وهو الْفَرْقُ بين الِابْتِدَاءِ وَالْبَقَاءِ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ التُّرَابُ طَاهِرًا فَلَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِالتُّرَابِ النَّجِسِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا‏}‏ وَلَا طِيبَ مع النَّجَاسَةِ وَلَوْ تَيَمَّمَ بِأَرْضِ قد أَصَابَتْهَا نَجَاسَةٌ فَجَفَّتْ وَذَهَبَ أَثَرُهَا لم يَجُزْ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرَوَى ابن الْكَاسِّ النَّخَعِيّ عن أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَجُوزُ وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ النَّجَاسَةَ قد اسْتَحَالَتْ أَرْضًا بِذَهَابِ أَثَرِهَا وَلِهَذَا جَازَتْ الصَّلَاةُ عليها فَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ بها أَيْضًا وَلَنَا أَنَّ إحْرَاقَ الشَّمْسِ ونسف الرياح وَنَسْفَ الْأَرْضِ أَثَرُهَا في تَقْلِيلِ النَّجَاسَةِ دُونَ اسْتِئْصَالِهَا وَالنَّجَاسَةُ وَإِنْ قَلَّتْ تُنَافِي وَصْفَ الطَّهَارَةِ فلم يَكُنْ إتْيَانًا بِالْمَأْمُورِ بِهِ فلم يَجُزْ فَأَمَّا النَّجَاسَةُ الْقَلِيلَةُ فَلَا تَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُعْتَبَرَ الْقَلِيلُ من النَّجَاسَةِ في بَعْضِ الْأَشْيَاءِ دُونَ الْبَعْضِ أَلَا تَرَى أَنَّ النَّجَاسَةَ الْقَلِيلَةَ لو وَقَعَتْ في الْإِنَاءِ تَمْنَعُ جَوَازَ الْوُضُوءِ بِهِ وَلَوْ أَصَابَتْ الثَّوْبَ لَا تَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ وَلَوْ تَيَمَّمَ جُنُبٌ أو مُحْدِثٌ من مَكَان ثُمَّ تَيَمَّمَ غَيْرُهُ من ذلك الْمَكَانِ أَجْزَأَهُ لِأَنَّ التُّرَابَ الْمُسْتَعْمَلَ ما الْتَزَقَ بِيَدِ الْمُتَيَمِّمِ الْأَوَّلِ لَا ما بَقِيَ على الْأَرْضِ فَنُزِّلَ ذلك مَنْزِلَةَ مَاءٍ فَضَلَ في الْإِنَاءِ بَعْدَ وُضُوءِ الْأَوَّلِ أو اغْتِسَالِهِ بِهِ وَذَلِكَ طَهُورٌ في حَقِّ الثَّانِي كَذَا هذا‏.‏

فصل بَيَان ما يُتَيَمَّمُ بِهِ

وَأَمَّا بَيَانُ ما يُتَيَمَّمُ بِهِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فيه قال أبو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِكُلِّ ما هو من جِنْسِ الْأَرْضِ وَعَنْ أبي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ في رِوَايَةٍ بِالتُّرَابِ وَالرَّمْلِ وفي رواية‏:‏ لَا يَجُوزُ إلَّا بِالتُّرَابِ خَاصَّةً وهو قَوْلُهُ الْآخَرُ ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وَالْكَلَامُ فيه يَرْجِعُ إلَى أَنَّ الصَّعِيدَ الْمَذْكُورَ في الْآيَةِ ما هو فقال أبو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ هو وَجْهُ الْأَرْضِ وقال أبو يُوسُفَ هو التُّرَابُ الْمُنْبِتُ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ فَسَّرَ الصَّعِيدَ بِالتُّرَابِ الْخَالِصِ وهو مُقَلِّدٌ في هذا الْباب وَلِأَنَّهُ ذَكَرَ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ وَالصَّعِيدُ الطَّيِّبُ هو الذي يَصْلُحُ لِلنَّبَاتِ وَذَلِكَ هو التُّرَابُ دُونَ السَّبِخَةِ وَنَحْوِهَا وَلَهُمَا أَنَّ الصَّعِيدَ مُشْتَقٌّ من الصُّعُودِ وهو الْعُلُوُّ قال الْأَصْمَعِيُّ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ وهو الصَّاعِدُ وَكَذَا قال ابن الْأَعْرَابِيِّ أنه اسْمٌ لِمَا تَصَاعَدَ حتى قِيلَ لِلْقَبْرِ صَعِيدٌ لِعُلُوِّهِ وَارْتِفَاعِهِ وَهَذَا لَا يُوجِبُ الِاخْتِصَاصَ بِالتُّرَابِ بَلْ يَعُمُّ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْأَرْضِ فَكَانَ التَّخْصِيصُ بِبَعْضِ الْأَنْوَاعِ تَقْيِيدًا لِمُطْلَقِ الْكِتَابِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَكَيْفَ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ وَالدَّلِيلُ على أَنَّ الصَّعِيدَ لَا يَخْتَصُّ بِبَعْضِ الْأَنْوَاعِ ما رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال عَلَيْكُمْ بِالْأَرْضِ من غَيْرِ فصل وقال جُعِلَتْ لي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا وَاسْمُ الْأَرْضِ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ أَنْوَاعِهَا ثُمَّ قال أَيْنَمَا أَدْرَكَتْنِي الصَّلَاةُ تَيَمَّمْتُ وَصَلَّيْتُ وَرُبَّمَا تُدْرِكُهُ الصَّلَاةُ في الرَّمْلِ وما لَا يَصْلُحُ لِلْإِنْبَاتِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِسَبِيلٍ من التَّيَمُّمِ بِهِ وَالصَّلَاةِ معه بِظَاهِرِ الحديث وَأَمَّا قَوْلُهُ سَمَّاهُ طَيِّبًا فَنَعَمْ لَكِنَّ الطَّيِّبَ يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الطَّاهِرِ وهو الْأَلْيَقُ هَهُنَا لِأَنَّهُ شُرِعَ مُطَهِّرًا وَالتَّطْهِيرُ لَا يَقَعُ إلَّا بِالطَّاهِرِ مع أَنَّ مَعْنَى الطَّهَارَةِ صَارَ مُرَادًا بِالْإِجْمَاعِ حتى لَا يَجُوزَ التَّيَمُّمُ بِالصَّعِيدِ النَّجِسِ فَخَرَجَ غَيْرُهُ من أَنْ يَكُونَ مُرَادًا إذ الْمُشْتَرَكُ لَا عُمُومَ له ثُمَّ لَا بُدَّ من مَعْرِفَةِ جِنْسِ الْأَرْضِ فَكُلُّ ما يَحْتَرِقُ بِالنَّارِ فَيَصِيرُ رَمَادًا كَالْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ وَنَحْوِهِمَا أو ما يَنْطَبِعُ وبلين ‏[‏ويلين‏]‏ كَالْحَدِيدِ وَالصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ وَالزُّجَاجِ وَعَيْنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَنَحْوِهَا فَلَيْسَ من جِنْسِ الْأَرْضِ وما كان بِخِلَافِ ذلك فَهُوَ من جِنْسِهَا ثُمَّ اخْتَلَفَ أبو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ فِيمَا بَيْنَهُمَا فقال أبو حَنِيفَةَ يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِكُلِّ ما هو من جِنْسِ الْأَرْضِ الْتَزَقَ بيده شَيْءٌ أو لَا وقال مُحَمَّدٌ لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا الْتَزَقَ بيده شَيْءٌ من أَجْزَائِهِ فَالْأَصْلُ عِنْدَهُ أَنَّهُ لَا بُدَّ من اسْتِعْمَالِ جُزْءٍ من الصَّعِيدِ وَلَا يَكُونُ ذلك إلَّا بِأَنْ يَلْتَزِقَ بيده شَيْءٌ‏.‏

وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ هذا ليس بِشَرْطٍ وَإِنَّمَا الشَّرْطُ مَسُّ وَجْهِ الْأَرْضِ بِالْيَدَيْنِ وَإِمْرَارُهُمَا على الْعُضْوَيْنِ وإذا عُرِفَ هذا فَعَلَى قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِالْجِصِّ وَالنُّورَةِ

وَالزِّرْنِيخِ وَالطِّينِ الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ وَالْأَبْيَضِ وَالْكُحْلِ وَالْحَجَرِ الْأَمْلَسِ وَالْحَائِطِ الْمُطَيَّنِ وَالْمُجَصَّصِ وَالْمِلْحِ الْجَبَلِيِّ دُونَ الْمَائِيِّ وَالْمَرْدَاسِنْجِ الْمَعْدِنِيِّ وَالْآجُرِّ وَالْخَزَفِ الْمُتَّخَذِ من طِينٍ خَالِصٍ وَالْيَاقُوتِ وَالْفَيْرُوزَجِ وَالزُّمُرُّدِ وَالْأَرْضِ النَّدِيَّةِ وَالطِّينِ الرَّطْبِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ إنْ الْتَزَقَ بيده شَيْءٌ منها بِأَنْ كان عليها غُبَارٌ أو كان مَدْقُوقًا يَجُوزُ وَإِلَّا فَلَا

وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ اسْتِعْمَالُ الصَّعِيدِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَلْتَزِقَ بيده شَيْءٌ منه فَأَمَّا ضَرْبُ الْيَدِ على ما له صَلَابَةٌ وَمَلَاسَةٌ من غَيْرِ اسْتِعْمَالِ جُزْءٍ منه فَضَرْبٌ من السَّفَهِ

وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هو التَّيَمُّمُ بِالصَّعِيدِ مُطْلَقًا من غَيْرِ شَرْطِ الِالْتِزَاقِ وَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ إلَّا بِدَلِيلٍ وَقَوْلُهُ الِاسْتِعْمَالُ شَرْطٌ مَمْنُوعٌ لِأَنَّ ذلك يُؤَدِّي إلَى التَّغْيِيرِ الذي هو شَبِيهُ الْمُثْلَةِ وَعَلَامَةِ أَهْلِ النَّارِ وَلِهَذَا أَمَرَ بِنَفْضِ الْيَدَيْنِ بَلْ الشَّرْطُ إمْسَاسُ الْيَدِ الْمَضْرُوبَةِ على وَجْهِ الْأَرْضِ على الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ تَعَبُّدًا غير مَعْقُولِ الْمَعْنَى لِحِكْمَةٍ اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِهَا‏.‏

وَلَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِالرَّمَادِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ من أَجْزَاءِ الْخَشَبِ وَكَذَا باللآلىء ‏[‏باللآلئ‏]‏ سَوَاءٌ كانت مَدْقُوقَةً أو لَا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ من أَجْزَاءِ الْأَرْضِ بَلْ هِيَ مُتَوَلِّدَةٌ من الْحَيَوَانِ وَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِالْغُبَارِ بِأَنْ ضَرَبَ يَدَهُ على ثَوْبٍ أو لِبَدٍ أو صُفَّةِ سَرْجٍ فَارْتَفَعَ غُبَارًا وكان على الذَّهَبِ أو الْفِضَّةِ أو على الْحِنْطَةِ أو الشَّعِيرِ أو نَحْوِهَا غُبَارٌ فَتَيَمَّمَ بِهِ أَجْزَأَهُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ لَا يُجْزِيهِ وَبَعْضُ الْمَشَايِخِ قالوا إذَا لم يَقْدِرْ على الصَّعِيدِ يَجُوزُ عِنْدَهُ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ في الْحَالَيْنِ وَرُوِيَ عنه أَنَّهُ قال وَلَيْسَ عِنْدِي من الصَّعِيدِ وَهَذَا وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ التَّيَمُّمُ بِالصَّعِيدِ وهو اسْمُ لِلتُّرَابِ الْخَالِصِ وَالْغُبَارُ ليس بِتُرَابٍ خَالِصٍ بَلْ هو تُرَابٌ من وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَلَا يَجُوزُ بِهِ التَّيَمُّمُ‏.‏

وَلَهُمَا أَنَّهُ جُزْءٌ من أَجْزَاءِ الْأَرْضِ إلَّا أَنَّهُ لَطِيفٌ فَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِ كما يَجُوزُ بِالْكَثِيفِ بَلْ أَوْلَى وقد رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه كان بِالْجَابِيَةِ فَمُطِرُوا فلم يَجِدُوا مَاءً يتوضؤون ‏[‏يتوضئون‏]‏ بِهِ وَلَا صَعِيدًا يَتَيَمَّمُونَ بِهِ فقال ابن عُمَرَ لِيَنْفُضْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ ثَوْبَهُ أو صُفَّةَ سَرْجِهِ وَلْيَتَيَمَّمْ وَلْيُصَلِّ ولم يُنْكِرْ عليه أَحَدٌ فَيَكُونُ إجْمَاعًا

وَلَوْ كان الْمُسَافِرُ في طِينٍ وَرَدْغَةٍ لَا يَجِدُ مَاءً وَلَا صَعِيدًا وَلَيْسَ في ثَوْبِهِ وَسَرْجِهِ غُبَارٌ لَطَّخَ ثَوْبَهُ أو بَعْضَ جَسَدِهِ بِالطِّينِ فإذا جَفَّ تَيَمَّمَ بِهِ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَيَمَّمَ بِالطِّينِ ما لم يَخَفْ ذَهَابَ الْوَقْتِ لِأَنَّ فيه تَلْطِيخَ الْوَجْهِ من غَيْرِ ضَرُورَةٍ فَيَصِيرُ بِمَعْنَى الْمُثْلَةِ وَإِنْ كان لو تَيَمَّمَ بِهِ أَجْزَأَهُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لِأَنَّ الطِّينَ من أَجْزَاءِ الْأَرْضِ وما فيه من الْمَاءِ مُسْتَهْلَكٌ وهو يَلْتَزِقُ بِالْيَدِ فَإِنْ خَافَ ذَهَابَ الْوَقْتِ تَيَمَّمَ وَصَلَّى عِنْدَهُمَا وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أبي يُوسُفَ يُصَلِّي بِغَيْرِ تَيَمُّمٍ بِالْإِيمَاءِ ثُمَّ يُعِيدُ إذَا قَدَرَ على الْمَاءِ أو التُّرَابِ كالمحبوس ‏[‏كما‏]‏ في الْمَخْرَجِ إذَا لم يَجِدْ مَاءً وَلَا تُرَابًا نَظِيفًا على ما ذَكَرْنَا‏.‏

فصل بَيَان ما يُتَيَمَّمُ منه

وَأَمَّا بَيَانُ ما يُتَيَمَّمُ منه فَهُوَ الْحَدَثُ وَالْجَنَابَةُ وَالْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ وقد ذَكَرْنَا دَلَائِلَ جَوَازِ التَّيَمُّمِ من الْحَدَثِ في صَدْرِ فصل التَّيَمُّمِ وَذَكَرْنَا اخْتِلَافَ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ في جَوَازِ التَّيَمُّمِ من الْجَنَابَةِ وَتَرْجِيحَ قَوْلِ الْمُجَوِّزِينَ لِمُعَاضَدَةِ الْأَحَادِيثِ إيَّاهُ وَالْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ مُلْحَقَانِ بِالْجَنَابَةِ لِأَنَّهُمَا في مَعْنَاهَا مع ما أَنَّهُ ثَبَتَ جَوَازُ التَّيَمُّمِ مِنْهُمَا لِعُمُومِ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ التي رَوَيْنَاهَا وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ‏.‏

فصل بَيَان وَقْتِ التَّيَمُّمِ

وَأَمَّا بَيَانُ وَقْتِ التَّيَمُّمِ فَالْكَلَامُ فيه في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في بَيَانِ أَصْلِ الْوَقْتِ وَالثَّانِي في بَيَانِ الْوَقْتِ الْمُسْتَحَبِّ أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْأَوْقَاتُ كُلُّهَا وَقْتٌ لِلتَّيَمُّمِ حتى يَجُوزَ التَّيَمُّمُ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ وَقَبْلَ دُخُولِهِ وَهَذَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا وقال الشَّافِعِيُّ لَا يَجُوزُ إلَّا بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ وَالْكَلَامُ فيه رَاجِعٌ إلَى أَصْلٍ وهو أَنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ مُطْلَقٌ أَمْ بَدَلٌ ضَرُورِيٌّ فَعِنْدَنَا بَدَلٌ مُطْلَقٌ وَعِنْدَهُ بَدَلٌ ضَرُورِيٌّ وَسَنَذْكُرُ تَفْسِيرَ الْبَدَلِ الْمُطْلَقِ وَالضَّرُورِيِّ وَدَلِيلَهُ في بَيَانِ صِفَةِ التَّيَمُّمِ إن شاء الله تعالى‏.‏وَأَمَّا الثَّانِي وهو بَيَانُ الْوَقْتِ الْمُسْتَحَبِّ لِلتَّيَمُّمِ فَقَدْ قال أَصْحَابُنَا أن الْمُسَافِرَ إن كان على طَمَعٍ من وُجُودِ الْمَاءِ في آخِرِ الْوَقْتِ يُؤَخِّرُ التَّيَمُّمَ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ وَإِنْ لم يَكُنْ على طَمَعٍ من وُجُودِ الْمَاءِ في آخِرِ الْوَقْتِ لَا يُؤَخَّرُ وَهَكَذَا رَوَى الْمُعَلَّى عن أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ كان على طَمَعٍ من وُجُودِ الْمَاءِ في آخِرِ الْوَقْتِ أَخَّرَ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ مِقْدَارَ ما لو لم يَجِدُ الْمَاءَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيُصَلِّيَ في الْوَقْتِ وَإِنْ لم يَكُنْ على طَمَعٍ لَا يُؤَخِّرُ وَيَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي في الْوَقْتِ الْمُسْتَحَبِّ وَذَكَرَ في الْأَصْلِ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُؤَخِّرَ التَّيَمُّمَ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ ولم يَفصل بين ما إذَا كان يَرْجُو وُجُودَ الْمَاءِ في آخِرِهِ أو لَا يَرْجُو وَهَذَا لَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ الرِّوَايَةِ بَلْ يَجْعَلُ رِوَايَةَ الْمُعَلَّى تَفْسِيرًا لِمَا أَطْلَقَهُ في الْأَصْلِ وهو قَوْلُ جَمَاعَةٍ من التَّابِعِينَ مِثْلُ الزُّهْرِيِّ وَالْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ فَإِنَّهُمْ قالوا يُؤَخِّرُ التَّيَمُّمَ إلَى آخِرَ الْوَقْتِ إذَا كان يَرْجُو وُجُودَ الْمَاءِ وقال جَمَاعَةٌ لَا يُؤَخِّرُ ما لم يَسْتَيْقِنْ بِوُجُودِ الْمَاءِ في آخِرَ الْوَقْتِ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وقال مَالِكٌ الْمُسْتَحَبُّ له أَنْ يَتَيَمَّمَ في وَسَطِ الْوَقْتِ‏.‏

وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا رُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال في مُسَافِرٍ أَجْنَبَ يَتَلَوَّمُ إلَى آخِرَ الْوَقْتِ ولم يُرْوَ عن غَيْرِهِ من الصَّحَابَةِ خِلَافُهُ فَيَكُونُ إجْمَاعًا وَالْمَعْنَى فيه أَنَّ أَدَاءَ الصَّلَاةِ بِطَهَارَةِ الْمَاءِ أَفْضَلُ لِأَنَّهَا أَصْلٌ وَالتَّيَمُّمُ بَدَلٌ وَلِأَنَّهَا طَهَارَةٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا وَالتَّيَمُّمُ طَهَارَةٌ حُكْمًا لَا حَقِيقَةً فإذا كان يَرْجُو وُجُودَ الْمَاءِ في آخِرَ الْوَقْتِ كان في التَّأْخِيرِ أَدَاءُ الصَّلَاةِ بِأَكْمَلِ الطَّهَارَتَيْنِ فَكَانَ التَّأْخِيرُ مُسْتَحَبًّا فَأَمَّا إذَا لم يُرْجَ لَا يُسْتَحَبُّ إذْ لَا فَائِدَةَ في التَّأْخِيرِ وَلَوْ تَيَمَّمَ في أَوَّلِ الْوَقْتِ وَصَلَّى فَإِنْ كان عَالِمًا أَنَّ الْمَاءَ قَرِيبٌ بِأَنْ كان بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَاءِ أَقَلُّ من مِيلٍ لم تَجُزْ صَلَاتُهُ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّهُ وَاجِدٌ لِلْمَاءِ وَإِنْ كان مِيلًا فَصَاعِدًا جَازَتْ صَلَاتُهُ وَإِنْ كان يُمْكِنُهُ أَنْ يَذْهَبَ وَيَتَوَضَّأَ وَيُصَلِّيَ في الْوَقْتِ وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَجُوزُ لِمَا يُذْكَرُ وَإِنْ لم يَكُنْ عَالِمًا بِقُرْبِ الْمَاءِ أو بُعْدِهِ تَجُوزُ صَلَاتُهُ سَوَاءٌ كان يَرْجُو وُجُودَ الْمَاءِ في آخِرَ الْوَقْتِ أو لَا سَوَاءٌ كان بَعْدَ الطَّلَبِ أو قَبْلَهُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ لِمَا مَرَّ أَنَّ الْعَدَمَ ثَابِتٌ ظَاهِرًا وَاحْتِمَالُ الْوُجُودِ احْتِمَالٌ لَا دَلِيلَ عليه فَلَا يُعَارِضُ الظَّاهِرَ وَلَوْ أَخْبَرَ في آخِرِ الْوَقْتِ أَنَّ الْمَاءَ بِقُرْبٍ منه بِأَنْ كان بَيْنَهُ والماء ‏[‏وبين‏]‏ أَقَلُّ من مِيلٍ لَكِنَّهُ يَخَافُ لو ذَهَبَ إلَيْهِ وَتَوَضَّأَ تَفُوتُهُ الصَّلَاةُ عن وَقْتِهَا لَا يَجُوزُ له التَّيَمُّمُ‏.‏

بَلْ يَجِبُ عليه أَنْ يَذْهَبَ وَيَتَوَضَّأَ وَيُصَلِّيَ خَارِجَ الْوَقْتِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ يُجْزِئُهُ التَّيَمُّمُ وَالْأَصْلُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ الْقُرْبُ وَالْبَعْدُ لَا الْوَقْتُ وَعِنْدَ زُفَرَ الْمُعْتَبَرُ هو الْوَقْتُ لَا قُرْبُ الْمَاءِ وَبُعْدُهُ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ التَّيَمُّمَ شُرِعَ لِلْحَاجَةِ إلَى أَدَاءِ الصَّلَاةِ في الْوَقْتِ فَكَانَ الْمَنْظُورُ إلَيْهِ هو الْوَقْتُ فَيَتَيَمَّمُ كيلا تَفُوتَهُ الصَّلَاةُ عن الْوَقْتِ كما في صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَلَنَا أَنَّ هذه الصَّلَاةَ لَا تَفُوتُهُ أَصْلًا بَلْ إلَى خَلْفٍ وهو الْقَضَاءُ وَالْفَائِتُ إلَى خَلْفٍ قَائِمٌ مَعْنًى بِخِلَافِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَالْعِيدَيْنِ لِأَنَّهَا تَفُوتُ أَصْلًا لِمَا يُذْكَرُ في مَوْضِعِهِ فَجَازَ التَّيَمُّمُ فيها لِخَوْفِ الْفَوَاتِ والله أعلم‏.‏

فصل صِفَة التَّيَمُّمِ

وَأَمَّا صِفَةُ التَّيَمُّمِ فَهِيَ إنه بَدَلٌ بِلَا شَكٍّ لِأَنَّ جَوَازَهُ مُعَلَّقٌ بِحَالِ عَدَمِ الْمَاءِ لَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا في كَيْفِيَّةِ الْبَدَلِيَّةِ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا الْخِلَافُ فيه مع غَيْرِ أَصْحَابِنَا وَالثَّانِي مع أَصْحَابِنَا أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ قال أَصْحَابُنَا إنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ مُطْلَقٌ وَلَيْسَ بِبَدَلٍ ضَرُورِيٍّ وَعَنَوْا بِهِ أَنَّ الْحَدَثَ يَرْتَفِعُ بِالتَّيَمُّمِ إلَى وَقْتِ وُجُودِ الْمَاءِ في حَقِّ الصَّلَاةِ الْمُؤَدَّاةِ إلَّا أَنَّهُ يُبَاحُ له الصَّلَاةُ مع قِيَامِ الْحَدَثِ وقال الشَّافِعِيُّ التَّيَمُّمُ بَدَلٌ ضَرُورِيٌّ وعني بِهِ أَنَّهُ يُبَاحُ له الصَّلَاةُ مع قِيَامِ الْحَدَثِ حَقِيقَةً لِلضَّرُورَةِ كَطَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ وَجْهُ قَوْلِهِ لِتَصْحِيحِ هذا الْأَصْلِ أَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يُزِيلُ هذا الْحَدَثَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لو رَأَى الْمَاءَ تَعُودُ الْجَنَابَةُ وَالْحَدَثُ مع أَنَّ رُؤْيَةَ الْمَاءِ لَيْسَتْ بِحَدَثٍ فَعُلِمَ أَنَّ الْحَدَثَ لم يَرْتَفِعْ لَكِنْ أُبِيحَ له أَدَاءُ الصَّلَاةِ مع قِيَامِ الْحَدَثِ لِلضَّرُورَةِ كما في الْمُسْتَحَاضَةِ وَلَنَا ما رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال التَّيَمُّمُ وُضُوءُ الْمُسْلِمِ وَلَوْ إلَى عَشْرِ حِجَجٍ ما لم يَجِدْ الْمَاءَ أو يُحْدِثْ فَقَدْ سمي التَّيَمُّمَ وُضُوءًا وَالْوُضُوءُ مُزِيلٌ لِلْحَدَثِ وقال صلى اللَّهُ عليه وسلم‏:‏ «جُعِلَتْ لي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا» وَالطَّهُورُ اسْمٌ لِلْمُطَهِّرِ فَدَلَّ على أَنَّ الْحَدَثَ يَزُولُ بِالتَّيَمُّمِ إلَّا أَنَّ زَوَالَهُ مُؤَقَّتٌ إلَى غَايَةِ وُجُودِ الْمَاءِ فإذا وُجِدَ الْمَاءُ يَعُودُ الْحَدَثُ السَّابِقُ لَكِنْ في الْمُسْتَقْبَلِ لَا في الْمَاضِي فلم يَظْهَرْ في حَقِّ الصَّلَاةِ الْمُؤَدَّاةِ وَعَلَى هذا الْأَصْلِ يُبْنَى التَّيَمُّمُ قبل دُخُولِ الْوَقْتِ أَنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ بَدَلٌ مُطْلَقٌ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ فَيَجُوزُ قبل دُخُولِ الْوَقْتِ وَبَعْدَهُ وَعِنْدَهُ بَدَلٌ ضَرُورِيٌّ فَتَتَقَدَّرُ بَدَلِيَّتُهُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ قبل دُخُولِ الْوَقْتِ‏.‏

وَعَلَى هذا يبني أَيْضًا أَنَّهُ إذَا تَيَمَّمَ في الْوَقْتِ يَجُوزُ له أَنْ يُؤَدِّيَ ما شَاءَ من الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ ما لم يَجِدْ الْمَاءَ أو يُحْدِثْ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ له أَنْ يُؤَدِّيَ بِهِ فَرْضًا آخَرَ غير ما تَيَمَّمَ لِأَجْلِهِ وَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ النَّوَافِلَ لِكَوْنِهَا تَابِعَةً لِلْفَرَائِضِ وَثُبُوتُ الْحُكْمِ في التَّبَعِ لَا يَقِفُ على وُجُودِ عِلَّةٍ على حِدَةٍ أو شَرْطٍ على حِدَةٍ فيه بَلْ وُجُودُ ذلك في الْأَصْلِ يَكْفِي لِثُبُوتِهِ في التَّبَعِ كما هو مَذْهَبُهُ في طَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ وَعَلَى هذا يبنى أَنَّهُ إذَا تَيَمَّمَ لِلنَّفْلِ يَجُوزُ له أَنْ يُؤَدِّيَ بِهِ النَّفَلَ وَالْفَرْضَ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ له أَدَاءُ الْفَرْضِ لِأَنَّ التَّبَعَ لَا يَسْتَتْبِعُ الْأَصْلَ وَعَلَى هذا قال الزُّهْرِيُّ أنه لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ لِصَلَاةِ النَّافِلَةِ رَأْسًا لِأَنَّهُ طَهَارَةٌ ضَرُورِيَّةٌ وَالضَّرُورَةُ في الْفَرَائِضِ لَا في النَّوَافِلِ وَعِنْدَنَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ طَهَارَةٌ مُطْلَقَةٌ حَالَ عَدَمِ الْمَاءِ وَلِأَنَّهُ إن كان لَا يَحْتَاجُ إلَى إسْقَاطِ الْفَرْضِ عن نَفْسِهِ بِهِ يَحْتَاجُ إلَى إحْرَازِ الثَّوَابِ لِنَفْسِهِ وَالْحَاجَةُ إلَى إحْرَازِ الثَّوَابِ حَاجَةٌ مُعْتَبَرَةٌ فَيَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ الطَّهَارَةُ لِأَجْلِهِ وَلِهَذَا اُعْتُبِرَتْ طَهَارَةُ الْمُسْتَحَاضَةِ في حَقِّ النَّوَافِلِ بِلَا خِلَافٍ كَذَا هَهُنَا وَأَمَّا الْخِلَافُ الذي مع أَصْحَابِنَا في كَيْفِيَّةِ الْبَدَلِيَّةِ فَهُوَ أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا في أَنَّ التُّرَابَ بَدَلٌ عن الْمَاءِ عِنْدَ عَدَمِهِ وَالْبَدَلِيَّةُ بين التُّرَابِ وَبَيْنَ الْمَاءِ أو التَّيَمُّمُ بَدَلٌ عن الْوُضُوءِ عِنْدَ عَدَمِهِ وَالْبَدَلِيَّةُ بين التَّيَمُّمِ وَبَيْنَ الْوُضُوءِ فقال أبو حَنِيفَةَ وأبو يُوسُفَ إنَّ التُّرَابَ بَدَلٌ عن الْمَاءِ عِنْدَ عَدَمِهِ وَالْبَدَلِيَّةُ بين التُّرَابِ وَالْمَاءِ وقال مُحَمَّدٌ التَّيَمُّمُ بَدَلٌ عن الْوُضُوءِ عِنْدَ عَدَمِهِ وَالْبَدَلِيَّةُ بين التَّيَمُّمِ وَبَيْنَ الْوُضُوءِ وَاحْتَجَّ مُحَمَّدٌ لِتَصْحِيحِ أَصْلِهِ بِالْحَدِيثِ وهو قَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم التَّيَمُّمُ وُضُوءُ الْمُسْلِمِ الْحَدِيثُ سمي التَّيَمُّمَ وُضُوءًا دُونَ التُّرَابِ وَهُمَا احْتَجَّا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فلم تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا‏}‏ أَقَامَ الصَّعِيدَ مَقَامَ الْمَاءِ عِنْدَ عَدَمِهِ وَأَمَّا السُّنَّةُ فما رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال التُّرَابُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ وقال جُعِلَتْ لي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا‏.‏

وَيَتَفَرَّعُ عن هذا الِاخْتِلَافِ أَنَّ الْمُتَيَمِّمَ إذَا أَمَّ الْمُتَوَضِّئِينَ جَازَتْ إمَامَتُهُ إيَّاهُمْ وَصَلَاتُهُمْ جَائِزَةٌ إذَا لم يَكُنْ مع الْمُتَوَضِّئِينَ مَاءٌ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَإِنْ كان مَعَهُمْ مَاءٌ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُمْ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ اقْتِدَاؤُهُمْ بِهِ سَوَاءٌ كان مَعَهُمْ مَاءٌ أو لم يَكُنْ وَعِنْدَ زُفَرَ يَجُوزُ كان مَعَهُمْ مَاءٌ أو لم يَكُنْ وَجْهُ الْبِنَاءِ على هذا الْأَصْلِ أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لَمَّا كانت الْبَدَلِيَّةُ بين التَّيَمُّمِ وَبَيْنَ الْوُضُوءِ فَالْمُقْتَدِي إذَا كان على وُضُوءٍ لم يَكُنْ تَيَمُّمُ الْإِمَامِ طَهَارَةً في حَقِّهِ لِوُجُودِ الْأَصْلِ في حَقِّهِ فَكَانَ مُقْتَدِيًا بِمَنْ لَا طَهَارَةَ له في حَقِّهِ فَلَا يَجُوزُ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ كَالصَّحِيحِ إذَا اقْتَدَى بِصَاحِبِ الْجُرْحِ السَّائِلِ إنه لَا يَجُوزُ له لِأَنَّ طَهَارَةَ الْإِمَامِ لَيْسَتْ بِطَهَارَةٍ في حَقِّ الْمُقْتَدِي فلم تُعْتَبَرْ طَهَارَتُهُ في حَقِّهِ فَكَانَ مُقْتَدِيًا بِمَنْ لَا طَهَارَةَ له في حَقِّهِ فلم يَجُزْ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ كَذَا هذا وَلَمَّا كانت الْبَدَلِيَّةُ بين التُّرَابِ وَبَيْنَ الْمَاءِ عِنْدَهُمَا فإذا لم يَكُنْ مع الْمُقْتَدِينَ مَاءٌ كان التُّرَابُ طَهَارَةً مُطْلَقَةً في حَالِ عَدَمِ الْمَاءِ فَيَجُوزُ اقْتِدَاؤُهُمْ بِهِ فَصَارَ كَاقْتِدَاءِ الْغَاسِلِ بِالْمَاسِحِ بِخِلَافِ صَاحِبِ الْجُرْحِ السَّائِلِ لِأَنَّ طَهَارَتَهُ ضَرُورِيَّةٌ لِأَنَّ الْحَدَثَ يُقَارِنُهَا أو يَطْرَأُ عليها فَلَا تُعْتَبَرُ في حَقِّ الصَّحِيحِ‏.‏

وإذا كان مَعَهُمْ مَاءٌ فَقَدْ فَاتَ الشَّرْطُ في حَقِّ الْمُقْتَدِينَ فَلَا يَبْقَى التُّرَابُ طَهُورًا في حَقِّهِمْ فلم تَبْقَ طَهَارَةُ الْإِمَامِ طَهَارَةً في حَقِّهِمْ فَلَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُمْ بِهِ وَعَلَى هذا الْأَصْلِ الْمُتَيَمِّمُ إذَا أَمَّ الْمُتَوَضِّئِينَ ولم يَكُنْ مَعَهُمْ مَاءٌ ثُمَّ رَأَى وَاحِدٌ منهم الْمَاءَ ولم يَعْلَمْ بِهِ الْإِمَامُ وَالْآخَرُونَ حتى فَرَغُوا فصلاتُهُ فَاسِدَةٌ وقال زُفَرُ لَا تَفْسُدُ وهو رِوَايَةٌ عن أبي يُوسُفَ لِأَنَّهُ متوضىء ‏[‏متوضئ‏]‏ في نَفْسِهِ فَرُؤْيَةُ الْمَاءِ لَا تَكُونُ مُفْسِدَةً في حَقِّهِ وَإِنَّمَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ بِفَسَادِ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَهِيَ صَحِيحَةٌ وَلَنَا أَنَّ طَهَارَةَ الْإِمَامِ جُعِلَتْ عَدَمًا في حَقِّهِ لِقُدْرَتِهِ على الْمَاءِ الذي هو أَصْلٌ إذْ لَا يَبْقَى الْخَلْفُ مع وُجُودِ الْأَصْلِ فَصَارَ مُعْتَقِدًا فَسَادَ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَالْمُقْتَدِي إذَا اعْتَقَدَ فَسَادَ صَلَاةِ الْإِمَامِ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ كما لو اشْتَبَهَتْ عليهم الْقِبْلَةُ فَتَحَرَّى الْإِمَامُ إلَى جِهَةٍ وَالْمُقْتَدِي إلَى جِهَةٍ أُخْرَى وهو يَعْلَمُ أَنَّ إمَامَهُ يُصَلِّي إلَى جِهَةٍ أُخْرَى لَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ كَذَا هذا ثُمَّ نَتَكَلَّمُ في الْمَسْأَلَةِ ابْتِدَاءً فَحُجَّةُ مُحَمَّدٍ ما رُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال لَا يَؤُمُّ الْمُتَيَمِّمُ الْمُتَوَضِّئِينَ وَلَا الْمُقَيَّدُ الْمُطْلَقِينَ وَهَذَا نَصٌّ الْباب وَحُجَّتُهُمَا ما رَوَيْنَا من حديث عَمْرِو بن الْعَاصِ رضي اللَّهُ عنه حين أَمَّرَهُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم على سَرِيَّةٍ وما رُوِيَ عن عَلِيٍّ فَهُوَ مَذْهَبُهُ وقد خَالَفَهُ ابن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنه وَالْمَسْأَلَةُ إذَا كانت مُخْتَلِفَةً بين الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ لَا يَكُونُ قَوْلُ الْبَعْضِ حُجَّةً على الْبَعْضِ على أَنَّ فيه أَنَّهُ لَا يَؤُمُّ وَلَيْسَ فيه أَنَّهُ لو أَمَّ لَا يَجُوزُ وَهَذَا كما رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال لَا يَؤُمُّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ في سُلْطَانِهِ ثُمَّ لو أَمَّ جَازَ كَذَا هذا‏.‏