فصل: فصل الْحَالِفِ على الْهَدْمِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع ***


فصل الْحَالِفِ على الْهَدْمِ

وَأَمَّا الْحَالِفُ على الْهَدْمِ قال ابن سِمَاعَةَ وَسَمِعْت أَبَا يُوسُفَ يقول في رَجُلٍ قال وَاَللَّهِ لَأَهْدِمَن هذه الدَّارَ فَإِنْ هَدَمَ سُقُوفَهَا بَرَّ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ على أَنْ يُزِيلَ اسْمَ الدَّارِ بِالْهَدْمِ لِأَنَّهُ لو هَدَمَ جَمِيعَ بِنَائِهَا لَكَانَتْ بِذَلِكَ تُسَمَّى دارا ‏[‏دار‏]‏ لِمَا ذَكَرْنَا أنها اسْمٌ لِلْعَرْصَةِ فَحُمِلَتْ الْيَمِينُ على الْكَسْرِ قال مُحَمَّدٌ إذَا حَلَفَ لَيَنْقُضَن هذا الْحَائِطَ أو لَيَهْدِمَنهُ الْيَوْمَ فَنَقَضَ بَعْضَهُ أو هَدَمَ بَعْضَهُ ولم يَهْدِمْ ما بَقِيَ حتى مَضَى الْيَوْمُ يَحْنَثُ قال وَالْهَدْمُ عِنْدَنَا أَنْ يَهْدِمَ حتى يبقى منه ما لَا يُسَمَّى حَائِطًا لِأَنَّ الْحَائِطَ يُمْكِنُ هَدْمُهُ حتى يُزِيلَ الِاسْمَ عنه فَوَقَعَتْ الْيَمِينُ على ذلك بِخِلَافِ الدَّارِ فَإِنْ نَوَى هَدْمَ بَعْضِهِ صُدِّقَ دِيَانَةً لِأَنَّ ذلك يُسَمَّى هَدْمًا بِمَعْنَى الْكَسْرِ وَلَوْ حَلَفَ لَيَكْسِرَن هذا الْحَائِطَ فَكَسَرَ بَعْضَهُ بَرَّ لِأَنَّهُ يُقَالُ له حَائِطٌ مَكْسُورٌ فَلَا يُعْتَبَرُ ما يُزِيلُ بِهِ اسْمَ الْحَائِطِ فَالْحَاصِلُ أَنَّ هَهُنَا ألفاظ ‏[‏ألفاظا‏]‏ ثَلَاثَةً الْهَدْمُ وَالنَّقْضُ وَالْكَسْرُ وَالْمَسَائِلُ مَبْنِيَّةٌ على مَعْرِفَةِ مَعْنَى كل لَفْظٍ فَالْهَدْمُ اسْمٌ لِإِزَالَةِ الْبِنَاءِ لِأَنَّهُ ضِدُّ الْبِنَاءِ فَإِنْ فَعَلَ في الْحَائِطِ فِعْلًا يُنْظَرُ إنْ بَقِيَ بَعْدَهُ ما يُسَمَّى مَبْنِيًّا حَنِثَ لِأَنَّهُ لَا وُجُودَ لِلشَّيْءِ مع وُجُودِ ما يُضَادُّهُ وَإِنْ لم يَبْقَ ما يُسَمَّى مَبْنِيًّا بَرَّ لتحققه ‏[‏لتحقيقه‏]‏ في نَفْسِهِ قال اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ‏}‏ وَالْمُرَادُ منه اسْتِئْصَالُهَا لَا إحْدَاث صَدْعٍ أو وَهَنٍ في أَبْنِيَتِهَا وَكَذَلِكَ النَّقْضُ يُقَالُ فُلَانٌ نَقَضَ بينه ‏[‏بيته‏]‏ كَذَا أَيْ أَزَالَهَا وَلَوْ نَقَضَ بَعْضَ الْحَائِطِ أو هَدَمَ بَعْضَهُ وقال عَنَيْت بِهِ بَعْضَهُ يُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى عز وجل لِأَنَّهُ نَوَى تَخْصِيصَ الْعُمُومِ وأنه مُحْتَمَلٌ فَلَا يُصَدِّقُهُ الْقَاضِي لِأَنَّهُ عُدُولٌ عن الظَّاهِرِ وَالْكَسْرُ عِبَارَةٌ عن إحْدَاثِ صَدْعٍ أو شَقٍّ فِيمَا صَلُبَ من الْأَجْسَامِ بِمَنْزِلَةِ الْخَرْقِ فِيمَا اسْتَرْخَى منها فإذا ثَبَتَ فيه هذا فَقَدْ بَرَّ في يَمِينِهِ وَإِنْ بَقِيَ التَّرْكِيبُ وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ‏.‏

فصل الْحَلِفِ على الضَّرْبِ وَالْقَتْلِ

وَأَمَّا الْحَلِفُ على الضَّرْبِ وَالْقَتْلِ قال الْمُعَلَّى سَأَلْت مُحَمَّدًا عن رَجُلٍ حَلَفَ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ لَيَضْرِبَنهَا حتى يَقْتُلَهَا أو حتى تُرْفَعَ مَيِّتَةً وَلَا نِيَّةَ له قال إنْ ضَرَبَهَا ضَرْبًا شَدِيدًا كَأَشَدِّ الضَّرْبِ بَرَّ في يَمِينِهِ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِمِثْلِ هذا الْقَوْلِ في الْعَادَةِ شِدَّةُ الضَّرْبِ دُونَ الْمَوْتِ قال فَإِنْ حَلَفَ لَيَضْرِبَنهَا حتى يُغْشَى عليها أو حتى تَبُولَ فما لم يُوجَدْ ذلك لم يَبَرَّ في يَمِينِهِ لِأَنَّ هذا يَحْدُثُ عِنْدَ شِدَّةِ الضَّرْبِ غَالِبًا فَيُرَاعَى وُجُودُهُ لِلْبِرِّ وَلَوْ حَلَفَ لَيَضْرِبَن غُلَامَهُ في كل حَقٍّ وَبَاطِلٍ فَمَعْنَى ذلك أَنْ يَضْرِبَهُ في كل ما شكى بِحَقٍّ أو بِبَاطِلٍ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ على الْحَقِيقَةِ وهو الضَّرْبُ عِنْدَ كل حَقٍّ وَبَاطِلٍ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَخْلُو من ذلك فإذا يَكُونُ عِنْدَ الشِّكَايَةِ فَإِذًا يَكُونُ الْمَوْلَى في ضَرْبِهِ أَبَدًا فَحُمِلَ الضَّرْبُ على الشِّكَايَةِ لِلْعُرْفِ وَلَا يَكُونُ الضَّرْبُ في هذا عِنْدَ الشِّكَايَةِ أَيْ لَا يُحْمَلُ الضَّرْبُ على فَوْرِ الشِّكَايَةِ لِأَنَّ الْيَمِينَ الْوَاقِعَةَ على فِعْلٍ مُطْلَقٍ عن زَمَانٍ لَا تَتَوَقَّتُ بِزَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ بَلْ تَقَعُ على الْعُمْرِ إلَّا أَنْ يَعْنِيَ بِهِ الْحَالَ فَيَكُونَ قد شَدَّدَ على نَفْسِهِ فَإِنْ شكى إلَيْهِ فَضَرَبَهُ ثُمَّ شكى إلَيْهِ في ذلك الشَّيْءِ مَرَّةً أُخْرَى وَالْمَوْلَى يَعْلَمُ أَنَّهُ في ذلك الشَّيْءِ أو لَا يَعْلَمُ فَذَلِكَ سَوَاءٌ وَلَيْسَ عليه أَنْ يَضْرِبَهُ لِلشِّكَايَةِ الثَّانِيَةِ لِأَنَّهُ قد ضَرَبَهُ فيها مَرَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَتَعَلَّقُ بِالْفِعْلِ الْوَاحِدِ الذي وَقَعَتْ الشِّكَايَةُ عليه أَكْثَرُ من ضَرْبٍ وَاحِدٍ في الْعُرْفِ كما لو قال إنْ أَخْبَرْتنِي بِكَذَا فَلَكَ دِرْهَمٌ فَأَخْبَرَهُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ أَنَّهُ لَا يَجِبُ إلَّا دِرْهَمٌ وَاحِدٌ وَإِنْ كان الثَّانِي إخْبَارًا كَالْأَوَّلِ كَذَا هذا‏.‏

وقال الْمُعَلَّى سَأَلْت مُحَمَّدًا عن رَجُلٍ حَلَفَ لَيَقْتُلَن فُلَانًا أَلْفَ مَرَّةٍ فَقَتَلَهُ ثُمَّ قال إنَّمَا نَوَيْت أَنْ آلِي على نَفْسِي بِالْقَتْلِ قال أَدِينُهُ في الْقَضَاءِ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بهذا تَشْدِيدَ الْقَتْلِ دُونَ تَكَرُّرِهِ لِعَدَمِ تَصَوُّرِهِ وقال ابن سِمَاعَةَ عن أبي يُوسُفَ فِيمَنْ قال لِامْرَأَتِهِ إنْ لم اضربك حتى أَتْرُكَك لَا حَيَّةً وَلَا مَيِّتَةً فَهَذَا على أَنْ يَضْرِبَهَا ضَرْبًا شَدِيدًا يَوْجَعُهَا فإذا فَعَلَ ذلك فَقَدْ بَرَّ لِأَنَّ الْمُرَادَ منه أَنْ لَا يَتْرُكَهَا حَيَّةً سَلِيمَةً وَلَا مَيِّتَةً وَذَلِكَ بِالضَّرْبِ الشَّدِيدِ فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِ وقال مُحَمَّدٌ فِيمَنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ لقد سمع فُلَانًا يُطَلِّق امْرَأَتَهُ أَلْفَ مَرَّةٍ وقد سَمِعَهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فإنه يُدَيَّنُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ حُكْمَ الثَّلَاثِ حُكْمُ الْأَلْفِ في الْإِيقَاعِ وَلِأَنَّهُ يُرَادُ بمثله أَكْثَرُ عَدَدِ الطَّلَاقِ في الْعَادَةِ وهو الثَّلَاثُ

وَلَوْ قال امْرَأَتُهُ طَالِقٌ إنْ لم يَكُنْ لَقِيَ فُلَانًا أَلْفَ مَرَّةٍ وقد لَقِيَهُ مِرَارًا كَثِيرَةً لِأَنَّ ذلك لَا يَكُونُ أَلْفَ مَرَّةٍ وَإِنَّمَا أَرَادَ كَثْرَةَ اللِّقَاءِ ولم يُرِدْ الْعَدَدَ أني أَدِينُهُ لِأَنَّ مِثْلَ هذا يُذْكَرُ في الْعَادَةِ وَالْعُرْفِ لِلتَّكْثِيرِ دُونَ الْعَدَدِ الْمَحْصُورِ وقد قال اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏اسْتَغْفِرْ لهم أو لَا تَسْتَغْفِرْ لهم إنْ تَسْتَغْفِرْ لهم سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لهم‏}‏وَلَيْسَ ذلك على عَدَدِ السَّبْعِينَ بَلْ ذَكَرَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِلتَّكْثِيرِ كَذَا هذا‏.‏

وَلَوْ قال وَاَللَّهِ لَا أَقْتُلُ فُلَانًا بِالْكُوفَةِ أو قال وَاَللَّهِ لَا أَتَزَوَّجُ فُلَانَةَ بِالْكُوفَةِ فَضَرَبَهُ الْحَالِفُ بِبَغْدَادَ فَمَاتَ بِالْكُوفَةِ أو زَوَّجَهُ الْوَلِيُّ امْرَأَةً كَبِيرَةً بِبَغْدَادَ فَبَلَغَهَا الْخَبَرُ بِالْكُوفَةِ فَأَجَازَتْ حَنِثَ في الْيَمِينَيْنِ جميعا وَكَذَلِكَ لو حَلَفَ على الزَّمَانِ فقال لَا أَفْعَلُ ذلك يوم الْجُمُعَةِ فَمَاتَ يوم الْجُمُعَةِ أو أَجَازَتْ النِّكَاحَ يوم الْجُمُعَةِ حَنِثَ الْحَالِفُ وَلَوْ كان حَلَفَ لَيَفْعَلَن ذلك بِالْكُوفَةِ أو يوم الْجُمُعَةِ فَكَانَ ما ذَكَرْنَا بَرَّ في يَمِينِهِ وَإِنَّمَا كان ذلك لِأَنَّ الْفِعْلَ الذي هو قَتْلٌ إنْ وُجِدَ بِبَغْدَادَ وَيَوْمَ السَّبْتِ لَكِنَّهُ مَوْصُوفٌ بِصِفَةِ الْإِضَافَةِ إلَى الْمُخَاطَبِ وَإِنَّمَا يَصِيرُ مَوْصُوفًا بِالْإِضَافَةِ وَقْتَ ثُبُوتِ أَثَرِهِ وهو زُهُوقُ الرُّوحِ وَذَلِكَ وُجِدَ بِالْكُوفَةِ يوم الْجُمُعَةِ فَيَحْنَثُ في يَمِينِهِ وَنَظِيرُهُ لو قال إنْ خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى لِفُلَانٍ ابْنًا في هذه السَّنَةِ فَعَبْدِي حُرٌّ فَحَصَلَ له وَلَدٌ في هذه السَّنَةِ يَحْنَثْ وَإِنْ كان خَلْقُ اللَّهِ أَزَلِيًّا لَكِنَّ الْإِضَافَةَ إلَى الْمَخْلُوقِ إنَّمَا تَثْبُتُ عِنْدَ وُجُودِ أَثَرِهِ وهو وُجُودُ الْوَلَدِ كَذَا هَهُنَا

وَالنِّكَاحُ في الشَّرْعِ اسْمٌ لِمَا بَعْدَ الْحِلِّ وَذَلِكَ إنَّمَا يُوجَدُ عِنْدَ الْإِجَازَةِ وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ إذَا اشْتَرَى عَبْدًا بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ ثُمَّ بَلَغَ الْمَوْلَى فَأَجَازَ فإنه مُشْتَرَى يوم أَجَازَهُ الْمَوْلَى لِأَنَّهُ يَوْمُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ‏.‏

وقال مُحَمَّدٌ في الْبَيْعِ الْمَوْقُوفِ وَالْفَاسِدِ أنه بَائِعٌ يوم بَاعَ وَمُشْتَرٍ يوم اشْتَرَى وقال في الْقَتْلِ كما قال أبو يُوسُفَ لِمُحَمَّدٍ إنَّ الْمِلْكَ عِنْدَ الْإِجَازَةِ يَتَعَلَّقُ بِالْعَقْدِ كما يَتَعَلَّقُ بِهِ عِنْدَ إسْقَاطِ الْخِيَارِ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْأَحْكَامَ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ وَإِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِالْإِجَازَةِ وَلَوْ كانت الضَّرْبَةُ قبل الْيَمِينِ وَمَاتَ بِالْكُوفَةِ أو يوم الْجُمُعَةِ لَا يَحْنَثُ في يَمِينِهِ وَإِنْ وُجِدَ الْقَتْلُ الْمُضَافُ إلَى الْمُخَاطَبِ يوم الْجُمُعَةِ لِأَنَّ هذا الْقَتْلَ وُجِدَ منه قبل الْيَمِينِ فَلَا يُتَصَوَّرُ امْتِنَاعُهُ عن اتِّصَافِهِ بِصِفَةِ الْإِضَافَةِ وَالْإِنْسَانُ لَا يَمْنَعُ نَفْسَهُ عَمَّا ليس في وُسْعِهِ الِامْتِنَاعُ عنه إذْ مَقْصُودُ الْحَالِفِ الْبِرُّ لَا الْحِنْثُ وَلِهَذَا لو حَلَفَ لَا يَسْكُنُ هذه الدَّارَ وهو سَاكِنُهَا فَأَخَذَ في النُّقْلَةِ من سَاعَتِهِ لَا يَحْنَثُ فَإِنْ وَجَدَ السُّكْنَى وَعَرَفَ بِدَلَالَةِ الْحَالِ أَنَّهُ أَرَادَ مَنْعَ نَفْسِهِ عن قَتْلٍ مُضَافٍ إلَى مُخَاطَبٍ بَاشَرَهُ بَعْدَ الْيَمِينِ وَنَظِيرُهُ ما ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ أَنَّهُ لو قال لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا ثُمَّ قال لها إنْ طَلَّقْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ فَجَاءَ غَدٌ فَطَلُقَتْ لم يَعْتِقْ عَبْدُهُ وَلَوْ قال لها إنْ طَلَّقْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ ثُمَّ قال لها إذَا جاء غَدٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَجَاءَ غَدٌ وَطَلُقَتْ عَتَقَ عَبْدَهُ لِهَذَا الْمَعْنَى كَذَا هذا‏.‏

فصل الْحَلِفِ على الْمُفَارَقَةِ وَالْوَزْنِ وما أَشْبَهَ ذلك

وَأَمَّا الْحَلِفُ على الْمُفَارَقَةِ وَالْوَزْنِ وما أَشْبَهَ ذلك إذَا حَلَفَ لَا يُفَارِقُ غَرِيمَهُ حتى يَسْتَوْفِيَ ما عليه وَاشْتَرَى منه شيئا على أَنَّ الْبَائِعَ بِالْخِيَارِ ثُمَّ فَارَقَهُ حَنِثَ لِأَنَّ الثَّمَنَ ما يُسْتَحَقُّ على الْمُشْتَرِي فلم يَصِرْ مُسْتَوْفِيًا فَإِنْ أَخَذَ بِهِ رَهْنًا أو كَفِيلًا من غَيْرِ بَرَاءَةِ الْمَكْفُولِ عنه ثُمَّ فَارَقَهُ يَحْنَثْ لِأَنَّ الْحَقَّ في ذِمَّةِ الْغَرِيمِ بِحَالِهِ لم يُسْتَوْفَ فَإِنْ هَلَكَ الرَّهْنُ قبل الِافْتِرَاقِ بَرَّ في يَمِينِهِ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَوْفِيًا وَإِنْ هَلَكَ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ لَا يَبَرَّ لِأَنَّهُ فَارَقَهُ قبل الِاسْتِيفَاءِ فَحَنِثَ وقال أبو يُوسُفَ في رَجُلٍ له على امْرَأَةٍ دَيْنٌ فحلف ‏[‏حلف‏]‏ أَنْ لَا يُفَارِقَهَا حتى يَسْتَوْفِيَ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا عليه وَفَارَقَهَا وَكَانَتْ عُقْدَةُ النِّكَاحِ جَائِزَةً فَقَدْ بَرَّ في يَمِينِهِ لِأَنَّهُ قد وَجَبَ في ذِمَّتِهِ بِالنِّكَاحِ مِثْلُ دَيْنِهِ وَصَارَ قِصَاصًا فَجُعِلَ مُسْتَوْفِيًا وَإِنْ كان النِّكَاحُ فَاسِدًا ولم يَدْخُلْ بها حَنِثَ لِأَنَّ الْمَهْرَ لَا يَجِبُ بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ فلم يَصِرْ مُسْتَوْفِيًا فَإِنْ دخل بها قبل أَنْ يُفَارِقَهَا وَمَهْرُ مِثْلِهَا مِثْلُ الدَّيْنِ أو أَكْثَرُ لم يَحْنَثْ لِأَنَّ الْمَهْرَ وَجَبَ عليه بِالدُّخُولِ فَصَارَ مُسْتَوْفِيًا فَإِنْ كان الْعَقْدُ صَحِيحًا فَوَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِسَبَبٍ من جِهَتِهَا وَسَقَطَ مَهْرُهَا وَفَارَقَهَا لم يَحْنَثْ لِأَنَّ الْمَهْرَ الْوَاجِبَ بِالْعَقْدِ قد سَقَطَ وَإِنَّمَا عَادَ له دَيْنٌ بِالْفُرْقَةِ بَعْدَ انْحِلَال الْيَمِينِ فَلَا يَحْنَثُ وَلَوْ حَلَفَ لِيَزِنَن ما عليه فَأَعْطَاهُ عَدَدًا فَكَانَتْ وَازِنَةً حَنِثَ لِأَنَّهُ حَلَفَ على الْوَزْنِ وَالْوَزْنُ فِعْلُهُ ولم يَفْعَلْهُ‏.‏

وقال ابن سِمَاعَةَ عن أبي يُوسُفَ إذَا قال وَاَللَّهِ لَا أَقْبِضَن مالي عَلَيْك إلَّا جميعا وَلَهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَعَلَى الطَّالِبِ لِرَجُلٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ فَأَمَرَ الذي له الْخَمْسَةُ هذا الْحَالِفَ أَنْ يَحْتَسِبَ لِلْمَطْلُوبِ بِالْخَمْسَةِ التي عليه وَجَعَلَهَا قِصَاصًا وَدَفَعَ فُلَانٌ الْمَطْلُوبَ إلَى الْحَالِفِ خَمْسَةً فَكَأَنَّهُ قال إذَا كان مُتَوَافِرًا فَهُوَ جَائِزٌ فَلَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ دَفْعَةً وَاحِدَةً يَقَعُ على الْقَبْضِ في حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَأَنْ يُعْرَفَ الْوَزْنُ أَلَا تَرَى أَنَّ الدَّيْنَ إذَا كان مَالًا كَثِيرًا لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ في وَزْنَةٍ وَاحِدَةٍ وقد قَبَضَ الْخَمْسَةَ حَقِيقَةً وَالْخَمْسَةَ بِالْمُقَاصَّةِ

وقد رَوَى ابن رُسْتُمَ عن مُحَمَّدٍ فِيمَنْ قال وَاَللَّهِ لَا آخُذُ مالي عَلَيْك إلَّا ضَرْبَةً وَاحِدَةً فَوَزَنَ خَمْسَمِائَةٍ وَأَخَذَهَا ثُمَّ وَزَنَ خَمْسَمِائَةٍ قال فَقَدْ أَخَذَهَا ضَرْبَةً وَاحِدَةً لِأَنَّ هذا لَا يُعَدُّ مُتَفَرِّقًا قال وَكَذَلِكَ لو جَعَلَ يَزِنُهَا دِرْهَمًا دِرْهَمًا‏.‏

وقال مُحَمَّدٌ في الْجَامِعِ إذَا كان له عليه أَلْفُ دِرْهَمٍ فقال عَبْدُهُ حُرٌّ إنْ أَخَذَهَا الْيَوْمَ مِنْك دِرْهَمًا دُونَ دِرْهَمٍ فَأَخَذَ منها خَمْسَةً ولم يَأْخُذْ ما بَقِيَ لم يَحْنَثْ لِأَنَّ يَمِينَهُ وَقَعَتْ على أَخْذِ الْأَلْفِ مُتَفَرِّقَةً في الْيَوْمِ ولم يَأْخُذْ الْأَلْفَ بَلْ بَعْضَ الْأَلْفِ وَلَوْ قال عَبْدُهُ حُرٌّ إنْ أَخَذَ منها الْيَوْمَ دِرْهَمًا دُونَ دِرْهَمٍ فَأَخَذَ منها خَمْسَةَ دَرَاهِمَ ولم يَأْخُذْ ما بَقِيَ حتى غَرَبَتْ الشَّمْسُ يَحْنَثُ حين أَخْذِ الْخَمْسَةِ لِأَنَّ يَمِينَهُ ما وَقَعَتْ على أَخْذِ الْكُلِّ مُتَفَرِّقًا بَلْ على أَخْذِ الْبَعْضِ لِأَنَّ كَلِمَةَ من لِلتَّبْعِيضِ وَلَوْ قال عَبْدُهُ حُرٌّ إنْ أَخَذَهَا الْيَوْمَ دِرْهَمًا دُونَ دِرْهَمٍ فَأَخَذَ في أَوَّلِ النَّهَارِ بَعْضَهَا وفي آخِرِ النَّهَارِ الْبَاقِيَ حَنِثَ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْأَخْذَ إلَى الْكُلِّ وقد أَخَذَ الْكُلَّ في يَوْمٍ مُتَفَرِّقًا وقال أَصْحَابُنَا إذَا حَلَفَ لَا يُفَارِقُهُ حتى يَسْتَوْفِيَ ماله عليه فَهَرَبَ أو كَابَرَهُ على نَفْسِهِ أو مَنَعَهُ منه إنْسَانٌ كُرْهًا حتى ذَهَبَ لم يَحْنَثْ الْحَالِفُ لِأَنَّهُ حَلَفَ على فِعْلِ نَفْسِهِ وهو مُفَارَقَتُهُ إيَّاهُ ولم يُوجَدْ منه فِعْلُ الْمُفَارَقَةِ وَلَوْ كان قال لَا تُفَارِقْنِي حتى آخُذَ مالي عَلَيْك حَنِثَ لِأَنَّهُ حَلَفَ على فِعْلِ الْغَرِيمِ وقد وُجِدَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ‏.‏

فصل الْحَلِفِ على ما يُضَافُ إلَى غَيْرِ الْحَالِفِ بِمِلْكٍ أو غَيْرِهِ

وَأَمَّا الْحَلِفُ على ما يُضَافُ إلَى غَيْرِ الْحَالِفِ بِمِلْكٍ أو غَيْرِهِ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الْحَالِفَ لَا يَخْلُو أما إن اقْتَصَرَ على الْإِضَافَةِ وأما إن جَمَعَ بين الْإِضَافَةِ وَالْإِشَارَةِ َالْإِضَافَةُ لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ إضَافَةَ مِلْكٍ أو أضافة نِسْبَةٍ من غَيْرِ مِلْكٍ فَإِنْ اقْتَصَرَ في يَمِينِهِ على الْإِضَافَةِ وَالْإِضَافَةُ إضَافَةُ مِلْكٍ فَيَمِينُهُ على ما في مِلْكِ فُلَانٍ يوم فِعْلِ ما حَلَفَ عليه حتى يَحْنَثَ سَوَاءٌ كان الذي أَضَافَهُ إلَى مِلْكِ فُلَانٍ في مِلْكِهِ يوم حَلَفَ أو لم يَكُنْ بِأَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ طَعَامَ فُلَانٍ أو لَا يَشْرَبُ شَرَابَ فُلَانٍ أو لَا يَدْخُلُ دَارَ فُلَانٍ أو لَا يَرْكَبُ دَابَّةَ فُلَانٍ أو لَا يَلْبَسُ ثَوْبَ فُلَانٍ أو لَا يُكَلِّمُ عَبْدَ فُلَانٍ ولم يَكُنْ شَيْءٌ منها في مِلْكِهِ ثُمَّ اُسْتُحْدِثَ الْمِلْكُ فيها هذا جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ في الْأَصْلِ وَالزِّيَادَاتِ وهو إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عن أبي يُوسُفَ وروى عنه رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّ الْإِضَافَةَ إذَا كانت فِيمَا يُسْتَحْدَثُ الْمِلْكُ فيه حَالًا فَحَالًا في الْعَادَةِ فإن الْيَمِينَ تَقَعُ على ما في مَلَكَهُ يوم فَعَلَ كَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالدُّهْنِ وَإِنْ كانت الْإِضَافَةُ فِيمَا يُسْتَدَامُ فيه الْمِلْكُ وَلَا يُسْتَحْدَثُ سَاعَةً فَسَاعَةً عَادَةً فَالْيَمِينُ على ما كان في مِلْكِهِ يوم حَلَفَ كَالدَّارِ وَالْعَبْدِ وَالثَّوْبِ‏.‏

وَذَكَرَ ابن سِمَاعَةَ في نَوَادِرِهِ عن مُحَمَّدٍ أَنَّ ذلك كُلَّهُ ما في مِلْكِهِ يوم حَلَفَ وَلَا خِلَافَ في أَنَّهُ إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ زَوْجَ فُلَانَةَ أو امْرَأَةَ فُلَانٍ أو صَدِيقَ فُلَانٍ أو ابْنَ فُلَانٍ أو أَخ فُلَانٍ وَلَا نِيَّةَ له أَنَّ ذلك على ما كان يوم حَلَفَ وَلَا تَقَعُ على ما يَحْدُثُ من الزَّوْجِيَّةِ وَالصَّدَاقَةِ وَالْوَلَدِ فَفَرَّقَ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بين الْإِضَافَتَيْنِ وَسَوَّى بَيْنَهُمَا في النَّوَادِرِ

ووجه ‏[‏وجه‏]‏ رِوَايَةِ النَّوَادِرِ أَنَّ الْإِضَافَةَ تَقْتَضِي الْوُجُودَ حَقِيقَةً إذْ الْمَوْجُودُ يُضَافُ لَا الْمَعْدُومُ فَلَا تَقَعُ يَمِينُهُ إلَّا على الْمَوْجُودِ يوم الْحَلِفِ وَلِهَذَا وَقَعَتْ على الْمَوْجُودِ في إحْدَى الْإِضَافَتَيْنِ وَهِيَ إضَافَةُ النِّسْبَةِ كَذَا في الْأُخْرَى وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وهو الْفَرْقُ بين الْإِضَافَتَيْنِ أَنَّ في إضَافَةِ الْمِلْكِ عَقَدَ يَمِينَهُ على مَذْكُورٍ مُضَافٍ إلَى فُلَانٍ بِالْمِلْكِ مُطْلَقًا عن الْجِهَةِ وَهِيَ أَنْ يَكُونَ مُضَافًا إلَيْهِ بِمِلْكٍ كان وَقْتَ الْحَلِفِ أو بِمِلْكٍ اُسْتُحْدِثَ فَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ إلَّا بِدَلِيلٍ وقد وُجِدَتْ الْإِضَافَةُ عِنْدَ الْفِعْلِ فَيَحْنَثُ وفي إضَافَةِ النِّسْبَةِ قام دَلِيلُ التَّقْيِيدِ وَهِيَ أَنَّ أَعْيَانَهُمْ مَقْصُودَةٌ بِالْيَمِينِ لِأَجْلِهِمْ عُرْفًا وَعَادَةً لِمَا تَبَيَّنَ فَانْعَقَدَتْ على الموجود ‏[‏الوجود‏]‏ وَصَارَ كما لو ذَكَرَهُمْ بِأَسَامِيهِمْ أو أَشَارَ إلَيْهِمْ فَأَمَّا الْمِلْكُ فَلَا يُقْصَدُ بِالْيَمِينِ لِذَاتِهِ بَلْ للمالك ‏[‏لمالك‏]‏ فَيَزُولُ بِزَوَالِ مِلْكِهِ‏.‏

وأبو يُوسُفَ على ما رُوِيَ عنه ادَّعَى تَقْيِيدَ الْمُطْلَقِ بِالْعُرْفِ وقال اسْتِحْدَاثُ الْمِلْكِ في الدَّارِ وَنَحْوِهَا غَيْرُ مُتَعَارَفٍ بَلْ هو في حُكْمِ النُّدْرَةِ حتى يُقَالَ الدَّارُ هِيَ أَوَّلُ ما يُشْتَرَى وَآخِرُ ما يُبَاعُ وَتَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ بِالْعُرْفِ جَائِزٌ فَتَقْيِيدُ الْيَمِينِ فيها بِالْمَوْجُودِ وَقْتَ الْحَلِفِ لِلْعُرْفِ بِخِلَافِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَنَحْوِهِمَا لِأَنَّ اسْتِحْدَاثَ الْمِلْكِ فيها مُعْتَادٌ فلم يُوجَدْ دَلِيلُ التَّقْيِيدِ وَالْجَوَابُ أَنَّ دَعْوَى الْعُرْفِ على الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ مَمْنُوعَةٌ بَلْ الْعُرْفُ مُشْتَرَكٌ فَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ بِعَادَةٍ مُشْتَرَكَةٍ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ فُلَانٍ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ على هذا الِاخْتِلَافِ لِأَنَّ كُلَّ إضَافَةٍ تُقَدَّرُ فيها اللَّامُ فَكَانَ الْفصلانِ من الطَّعَامِ وَالْعَبْدِ وَنَحْوِهِمَا على الِاخْتِلَافِ ثُمَّ في إضَافَةِ الْمِلْكِ إذَا كان الْمَحْلُوفُ عليه في مِلْكِ الْحَالِفِ وَقْتَ الْحَلِفِ فَخَرَجَ عن مِلْكِهِ ثُمَّ فَعَلَ لَا يَحْنَثُ بِالْإِجْمَاعِ وَأَمَّا في إضَافَةِ النِّسْبَةِ من الزَّوْجَةِ وَالصَّدِيقِ وَنَحْوِهِمَا إذَا طَلَّقَ زَوْجَتَهُ فَبَانَتْ منه أو عَادَى صَدِيقَهُ ثُمَّ كَلَّمَهُ فَقَدْ ذَكَرَ في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ وَذَكَرَ في الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ يَحْنَثُ وَقِيلَ ما ذُكِرَ في الْجَامِعِ قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وما ذُكِرَ في الزِّيَادَاتِ قَوْلُ مُحَمَّدٍ الْمَذْكُورُ في النَّوَادِرِ‏.‏

وَجْهُ الْمَذْكُورِ في الزِّيَادَاتِ أَنَّ يَمِينَهُ وَقَعَتْ على الْمَوْجُودِ وَقْتَ الْحَلِفِ فَحَصَلَ تَعْرِيفُ الْمَوْجُودِ بِالْإِضَافَةِ فَيَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِالْعُرْفِ لَا بِالْإِضَافَةِ وَجْهُ ما ذُكِرَ في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ الْإِنْسَانَ قد يَمْنَعُ نَفْسَهُ عن تَكْلِيمِ امْرَأَةٍ لِمَعْنًى فيها وقد يَمْنَعُ من تَكْلِيمِهَا لِمَعْنًى في زَوْجِهَا فَلَا يَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْإِضَافَةِ مع الاحتمال ‏[‏لاحتمال‏]‏ وَإِنْ جَمَعَ بين الْمِلْكِ وَالْإِشَارَةِ بِأَنْ قال لَا أُكَلِّمُ عَبْدَ فُلَانٍ هذا أو لَا أَدْخُلُ دَارَ فُلَانٍ هذه أو لَا أَرْكَبُ دَابَّةَ فُلَانٍ هذه أو لَا أَلْبَسُ ثَوْبَ فُلَانٍ هذا فَبَاعَ فُلَانٌ عَبْدَهُ أو دَارِهِ أو دَابَّتَهُ أو ثَوْبَهُ فَكَلَّمَ أو دخل أو رَكِبَ أو لَبِسَ لم يَحْنَثْ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ إلَّا أَنْ يَعْنِيَ غير ذلك الشَّيْءِ خَاصَّةً وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَحْنَثُ إلَّا أَنْ يَعْنِيَ ما دَامَتْ مِلْكًا لِفُلَانٍ فَهُمَا يَعْتَبِرَانِ الْإِشَارَةَ وَالْإِضَافَةَ جميعا وَقْتَ الْفِعْلِ لِلْحِنْثِ فما لم يُوجَدَا لَا يَحْنَثُ وَمُحَمَّدٌ يَعْتَبِرُ الْإِشَارَةَ دُونَ الْإِضَافَةِ وَأَمَّا في إضَافَةِ النِّسْبَةِ فَلَا يُشْتَرَطُ قِيَامُ الْإِضَافَةِ وَقْتَ الْفِعْلِ لِلْحِنْثِ بِالْإِجْمَاعِ حتى لو حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ زَوْجَةَ فُلَانٍ هذا أو صَدِيقَ فُلَانٍ هذا فَبَانَتْ زَوْجَتُهُ منه أو عَادَى صَدِيقَهُ فَكَلَّمَ يَحْنَثُ وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ في مَسْأَلَةِ الْخِلَافِ أَنَّ الْإِضَافَةَ وَالْإِشَارَةَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلتَّعْرِيفِ وَالْإِشَارَةُ أَبْلَغُ في التَّعْرِيفِ لِأَنَّهَا تُخَصِّصُ الْعَيْنَ وَتَقْطَعُ الشَّرِكَةَ فَتَلْغُو الْإِضَافَةُ كما في إضَافَةِ النِّسْبَةِ وَكَمَا لو حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ هذا الشَّابَّ فَكَلَّمَهُ بَعْدَمَا شَاخَ أَنَّهُ يَحْنَثُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا‏.‏

وَلَهُمَا أَنَّ الْحَالِفَ لَمَّا جَمَعَ بين الْإِضَافَةِ وَالْإِشَارَةِ لَزِمَ اعْتِبَارُهُمَا ما أَمْكَنَ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْعَاقِلِ وَاجِبُ الِاعْتِبَارِ ما أَمْكَنَ وَأَمْكَنَ اعْتِبَارُ الْإِضَافَةِ هَهُنَا مع وُجُودِ الْإِشَارَةِ لِأَنَّهُ بِالْيَمِينِ مَنَعَ نَفْسَهُ عن مُبَاشَرَتِهِ الْمَحْلُوفَ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَمْنَعُ نَفْسَهُ عن شَيْءٍ مَنْعًا مُؤَكَّدًا بِالْيَمِينِ إلَّا لِدَاعٍ يَدْعُوهُ إلَيْهِ وَهَذِهِ الْأَعْيَانُ لَا تُقْصَدُ بِالْمَنْعِ لِذَاتِهَا بَلْ لِمَعْنًى في الْمَالِكِ أَمَّا الدَّارُ وَنَحْوُهَا فَلَا شَكَّ فيه وَكَذَا الْعَبْدُ لِأَنَّهُ لَا يُقْصَدُ بِالْمَنْعِ لِخَسَّتِهِ وَإِنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ مَوْلَاهُ وقد زَالَ بِزَوَالِ الْمِلْكِ عن الْمَالِكِ وَصَارَ كَأَنَّهُ قال مَهْمَا دَامَتْ لِفُلَانٍ مِلْكًا بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ وَالصَّدِيقِ لِأَنَّهُمَا يُقْصَدَانِ بِالْمَنْعِ لِأَنْفُسِهِمَا فَتَتَعَلَّقُ الْيَمِينُ بِذَاتَيْهِمَا وَالذَّاتُ لَا تَتَبَدَّلُ بِالْبَيْنُونَةِ وَالْمُعَادَاةِ فَيَحْنَثُ كما إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ هذا الشَّابَّ فَكَلَّمَهُ بَعْدَمَا صَارَ شَيْخًا وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ صَاحِبَ هذا الطَّيْلَسَانِ فَبَاعَ الطَّيْلَسَانَ فَكَلَّمَهُ حَنِثَ لِأَنَّ الطَّيْلَسَانَ مِمَّا لَا يُقْصَدُ بِالْمَنْعِ وَإِنَّمَا يُقْصَدُ ذَاتُ صَاحِبِهِ وَأَنَّهَا بَاقِيَةٌ‏.‏

وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الزِّيَادَاتِ إذَا حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَوَابَّ فُلَانٍ أو لَا يَلْبَسُ ثِيَابَهُ أو لَا يُكَلِّمُ غِلْمَانَهُ إن ذلك على ثَلَاثَةٍ لِأَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ الصَّحِيحِ ثَلَاثَةٌ وَكَذَلِكَ لو قال لَا آكُلُ أَطْعِمَةَ فُلَانٍ أو لَا أَشْرَبُ أَشْرِبَةَ فُلَانٍ أَنَّ ذلك على ثَلَاثَةِ أَطْعِمَةٍ وَثَلَاثَةِ أَشْرِبَةٍ لِمَا قُلْنَا وَيُعْتَبَرُ قِيَامُ الْمِلْكِ فيها وَقْتَ الْفِعْلِ لَا وَقْتَ الْحَلِفِ في ظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ على ما بَيَّنَّا

فَإِنْ قال أَرَدْت جَمِيعَ ما في مِلْكِهِ من الْأَطْعِمَةِ لم يُدَيَّنْ في الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ خِلَافُ ظَاهِرِ كَلَامِهِ كَذَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ وَذُكِرَ في الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ يَدِينُ في الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ ما تَلَفَّظَ بِهِ فَيُصَدَّقُ في الْقَضَاءِ كما إذَا حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ أو لَا يَشْرَبُ الْمَاءَ أو لَا يُكَلِّمُ الناس وَنَحْوَ ذلك وَنَوَى الْجَمِيعَ وَلَوْ كانت الْيَمِينُ على إخْوَةِ فُلَانٍ أو بَنِي فُلَانٍ أو نِسَاءِ فُلَانٍ لَا يَحْنَثُ ما لم يُكَلِّمْ الْكُلَّ منهم عَمَلًا بِحَقِيقَةِ اللَّفْظِ وَيَتَنَاوَلُ الْمَوْجُودِينَ وَقْتَ الْحَلِفِ لِأَنَّ هذه إضَافَةُ نِسْبَةٍ‏.‏

وقال أبو يُوسُفَ إنْ كان ذلك مِمَّا يُحْصَى فَالْيَمِينُ على جَمِيعِ ما في مِلْكِهِ لِأَنَّهُ صَارَ مُعَرَّفًا بِالْإِضَافَةِ وَيُمْكِنُ اسْتِيعَابُهُ فَكَانَ كَالْمُعَرَّفِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ وَإِنْ كان لَا يُحْصَى إلَّا بِكتاب حَنِثَ بِالْوَاحِدِ منه لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ اسْتِغْرَاقُ الْجِنْسِ فَيُصْرَفُ إلَى أَدْنَى الْجِنْسِ كَقَوْلِهِ لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَمِمَّا يُجَانِسُ مَسَائِلَ الْفصل الْأَوَّلِ ما قال خَلَفُ بن أَيُّوبَ سَأَلْت أَسَدًا عن رَجُلٍ حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ بِنْتَ فُلَانٍ أو بِنْتًا لِفُلَانٍ فَوُلِدَتْ له بِنْتٌ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا أو قال وَاَللَّهِ لَا أَتَزَوَّجُ من بَنَاتِ فُلَانٍ ولابنات له ثُمَّ وُلِدَ له أو قال وَاَللَّهِ لَا أَشْرَبُ من لَبَنِ بَقَرَةِ فُلَانٍ وَلَا بَقَرَةَ له ثُمَّ اشْتَرَى بَقَرَةً فَشَرِبَ من لَبَنِهَا أو قال لِصَبِيٍّ صَغِيرٍ وَاَللَّهِ لَا أَتَزَوَّجُ من بَنَاتِك فَبَلَغَ فَوُلِدَ له فَتَزَوَّجَ مِنْهُنَّ أَيَحْنَثُ أَمْ لَا أو قال لَا آكُلُ من ثَمَرَةِ شَجَرَةِ فُلَانٍ وَلَا شَجَرَةَ لِفُلَانٍ ثُمَّ اشْتَرَى شَجَرَةً فَأَكَلَ من ثَمَرِهَا قال أَمَّا إذَا حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ بِنْتَ فُلَانٍ وَلَا يَشْرَبُ من لَبَنِ بَقَرَةِ فُلَانٍ وَلَا يَأْكُلُ من ثَمَرَةِ شَجَرَةِ فُلَانٍ فَلَا يَحْنَثُ في شَيْءٍ من هذا‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ لَا أَتَزَوَّجُ بِنْتًا من بَنَاتِ فُلَانٍ أو بِنْتًا لِفُلَانٍ فإنه يَحْنَثُ وَتَلْزَمُهُ الْيَمِينُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَمَّا أنا فَأَقُولُ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ حَلَفَ يوم حَلَفَ على ما لم يُخْلَقْ حَالَ حَلَفَ وَسَأَلْت الْحَسَنَ فقال مِثْلَ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ لِأَبِي حَنِيفَةَ إن قَوْلَهُ لَا أَتَزَوَّجُ بِنْتَ فُلَانٍ يَقْتَضِي بِنْتًا مَوْجُودَةً في الْحَالِ فلم تُعْقَدْ الْيَمِينُ على الْإِضَافَةِ وإذا قال بِنْتًا لِفُلَانٍ فَقَدْ عَقَدَ الْيَمِينَ على الْإِضَافَةِ فَيُعْتَبَرُ وُجُودُهَا يوم الْحَلِفِ كَقَوْلِهِ عَبْدًا لِفُلَانٍ وَأَمَّا أَسَدٌ فَاعْتَبَرَ وُجُودِ الْمَحْلُوفِ عليه وَقْتَ الْيَمِينِ فما كان مَعْدُومًا لَا تَصِحُّ الْإِضَافَةُ فيه فَلَا يَحْنَثُ

وقال خَلَفٌ سَأَلْت أَسَدًا عن رَجُلٍ حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ امْرَأَةً من أَهْلِ هذه الدَّارِ وَلَيْسَ لِلدَّارِ أَهْلٌ ثُمَّ سَكَنَهَا قَوْمٌ فَتَزَوَّجَ منهم قال يَحْنَثُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَلَا يَحْنَثُ في قَوْلِي وهو على ما بَيَّنَّا من اعْتِبَارِ الْإِضَافَةِ‏.‏

فصل الْحَلِفِ على ما يَخْرُجُ من الْحَالِفِ أو لَا يَخْرُجُ

وَأَمَّا الْحَلِفُ على ما يَخْرُجُ من الْحَالِفِ أو لَا يَخْرُجُ إذَا قال إنْ دخل دَارِي هذه أَحَدٌ أو رَكِبَ دَابَّتِي أو ضَرَبَ عَبْدِي فَفَعَلَ ذلك الْحَالِفُ لم يَحْنَثْ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَحَدٌ نَكِرَةٌ وَالْحَالِفُ صَارَ مَعْرِفَةً بِيَاءِ الْإِضَافَةِ وَالْمَعْرِفَةُ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ النَّكِرَةِ لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ مايكون مُتَمَيِّزَ الذَّاتِ من بَنِي جِنْسِهِ وَالنَّكِرَةُ ما لَا يَكُونُ مُتَمَيِّزَ الذَّاتِ عن بَنِي جِنْسِهِ بَلْ يَكُونُ مُسَمَّاهُ شَائِعًا في جِنْسِهِ أو نَوْعِهِ وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ مُتَمَيِّزَ الذَّاتِ غير ‏[‏وغير‏]‏ مُتَمَيِّزِ الذَّاتِ وَكَذَلِكَ لو قال لِرَجُلٍ إنْ دخل دَارَك هذه أَحَدٌ أو لَبِسَ ثَوْبَك أو ضَرَبَ غُلَامَك فَفَعَلَهُ الْمَحْلُوفُ عليه لم يَحْنَثْ لِأَنَّ الْمَحْلُوفَ صَارَ مَعْرِفَةً بِكَافِ الْخِطَابِ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ النَّكِرَةِ وَإِنْ فَعَلَهُ الْحَالِفُ حَنِثَ لِأَنَّهُ ليس بِمَعْرِفَةٍ لِانْعِدَامِ ما يُوجِبُ كَوْنَهُ مَعْرِفَةً فَجَازَ أَنْ يَدْخُلَ تَحْتَ النَّكِرَةِ وَلَوْ قال إنْ البست هذا الْقَمِيصَ أَحَدًا فَلَبِسَهُ الْمَحْلُوفُ عليه لم يَحْنَثْ لِأَنَّهُ صَارَ مَعْرِفَةً بِتَاءِ الْخِطَابِ وَإِنْ أَلْبَسَهُ الْمَحْلُوفُ عليه الْحَالِفَ حَنِثَ لِأَنَّ الْحَالِفَ نَكِرَةٌ فَيَدْخُلُ تَحْتَ النكرة ‏[‏نكرة‏]‏‏.‏

وَإِنْ قال إنْ مَسَّ هذا الرَّأْسَ أَحَدٌ وَأَشَارَ إلَى رَأْسِهِ لم يَدْخُلْ الْحَالِفُ فيه وَإِنْ لم يُضِفْهُ إلَى نَفْسِهِ بِيَاءِ الْإِضَافَةِ لِأَنَّ رَأْسَهُ مُتَّصِلٌ بِهِ خِلْقَةً فَكَانَ أَقْوَى من إضَافَتِهِ إلَى نَفْسِهِ بِيَاءِ الْإِضَافَةِ وَلَوْ قال إنْ كَلَّمَ غُلَامُ عبد اللَّهِ بن مُحَمَّدٍ أَحَدًا فَعَبْدِي حُرٌّ فَكَلَّمَ الْحَالِفُ وهو غُلَامُ الْحَالِفِ وَاسْمُهُ عبد اللَّهِ بن مُحَمَّدٍ حَنِثَ وَطَعَنَ الْقَاضِي أبو حَازِمٍ عبد الْحَمِيدِ الْعِرَاقِيُّ في هذا في الْجَامِعِ وقال يَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْنَثَ لِأَنَّ الْحَلِفَ تَحْتِ اسْمِ الْعَلَمِ وَالْأَعْلَامُ مَعَارِفُ وَهِيَ عِنْدَ أَهْلِ النَّحْوِ أَبْلَغُ في التَّعْرِيفِ من الْإِشَارَةِ وَالْمَعْرِفَةُ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ النَّكِرَةِ وَكَذَا عَرَّفَهُ بِالْإِضَافَةِ إلَى أبيه بِقَوْلِهِ ابْنِ مُحَمَّدٍ فَامْتَنَعَ دُخُولُهُ تَحْتَ النَّكِرَةِ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ الْعَلَمِ في مَوْضِعِ النَّكِرَةِ لِأَنَّ اسْمَ الْأَعْلَامِ وَإِنْ كانت مَعَارِفَ لَكِنْ لَا بُدَّ من سَبْقِ الْمَعْرِفَةِ من الْمُتَكَلِّمِ وَالسَّامِعِ حتى يُجْعَلَ هذا اللَّفْظُ عَلَمًا عِنْدَهُ وَعِنْدَ سَبْقِ الْمَعْرِفَةِ مِنْهُمَا بِذَلِكَ أما بِتَعَيُّنِ الْمُسَمَّى بِالْعَلَمِ بِاسْمِهِ إذَا لم يَكُنْ يُزَاحِمُهُ غَيْرُهُ وَالْعَلَمُ وَاحْتِمَالُ الْمُزَاحَمَةِ ثَابِتٌ وإذا جَازَ اسْتِعْمَالُ الْعَلَمِ في مَوْضِعِ النَّكِرَةِ وقد وُجِدَ هَهُنَا دَلِيلُ انْصِرَافِ التَّسْمِيَةِ إلَى غَيْرِ الْحَالِفِ وهو أَنَّ الْإِنْسَانَ في الْعُرْفِ الظَّاهِرِ من أَهْلِ اللِّسَانِ أَنَّهُ لَا يَذْكُرُ نَفْسَهُ بِاسْمِ الْعَلَمِ بَلْ يُضِيفُ غُلَامَهُ إلَيْهِ بِيَاءِ الْإِضَافَةِ فيقول غُلَامِي فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لم يُرِدْ نَفْسَهُ وَأَنَّهُ ما دخل تَحْتَ الْعَلَمِ الذي هو مَعْرِفَةٌ فلم يَخْرُجْ الْحَالِفُ عن عُمُومِ هذه النَّكِرَةِ‏.‏

فصل الْحَلِفِ على أُمُورٍ شَرْعِيَّةٍ

وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي وهو الْحَلِفُ على أُمُورٍ شَرْعِيَّةٍ وما يَقَعُ منها على الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ أو على الصَّحِيحِ دُونَ الْفَاسِدِ مِثْلِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْهِبَةِ والمعاوضة ‏[‏والمعارضة‏]‏ وَالْعَارِيَّةِ وَالنِّحْلَة وَالْعَطِيَّةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْقَرْضِ وَالتَّزْوِيجِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَنَحْوِ ذلك إذَا حَلَفَ لَا يَشْتَرِي ذَهَبًا وَلَا فِضَّةً فَاشْتَرَى دَرَاهِمَ أو دَنَانِيرَ أو آنِيَةً أو تِبْرًا أو مَصُوغَ حِلْيَةٍ أو غير ذلك مِمَّا هو ذَهَبٌ أو فِضَّةٌ فإنه يَحْنَثُ في قَوْلِ أبي يُوسُفَ وقال مُحَمَّدٌ لَا يَحْنَثُ في الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْأَصْلُ في جِنْسِ هذه الْمَسَائِلِ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ يَعْتَبِرُ الْحَقِيقَةَ وَمُحَمَّدٌ يَعْتَبِرُ الْعُرْفَ لِمُحَمَّدٍ أَنَّ اسْمَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إذَا أُطْلِقَ لَا يُرَادُ بِهِ الدِّرْهَمُ وَالدَّنَانِيرُ في الْعُرْفِ أَلَا تَرَى أنها اخْتَصَّتْ بِاسْمٍ على حِدَةٍ فَلَا يَتَنَاوَلُهَا مُطْلَقُ اسْمِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ اسْمَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ يَقَعُ على الْكُلِّ لِأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ وَكَوْنُهُ مَضْرُوبًا وَمَصُوغًا وَتِبْرًا أَسْمَاءُ أَنْوَاعٍ له وَاسْمُ الْجِنْسِ يَتَنَاوَلُ الْأَنْوَاعَ كَاسْمِ الْآدَمِيِّ‏.‏

وَالدَّلِيلُ عليه قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا في سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏فَدَخَلَ تَحْتَ هذا الْوَعِيدِ كاثر الْمَضْرُوبِ وَغَيْرِهِ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي حَدِيدًا فَهُوَ على مَضْرُوبِ ذلك وَتِبْرِهِ سِلَاحًا كان أو غير سِلَاحٍ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ حَدِيدًا في قَوْلِ أبي يُوسُفَ وقال مُحَمَّدٌ إنْ اشْتَرَى شيئا من الْحَدِيدِ يُسَمَّى بَائِعُهُ حَدَّادًا يَحْنَثْ وَإِنْ كان بَائِعُهُ لَا يُسَمَّى حَدَّادًا لَا يَحْنَثُ وَبَائِعُ التِّبْرِ لَا يُسَمَّى حَدَّادًا فَلَا يَتَنَاوَلُهَا مُطْلَقُ اسْمِ الْحَدِيدِ وَلَهَا اسْمٌ يَخُصُّهَا فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْيَمِينِ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْحَدِيدَ اسْمُ جِنْسٍ فَيَتَنَاوَلُ الْمَعْمُولَ وَغَيْرَ الْمَعْمُولِ‏.‏

وقال أبو يُوسُفَ في باب الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ أنه إنْ كان له نِيَّةٌ دُيِّنَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَالنِّيَّةُ في هذا وَاسِعَةٌ لِأَنَّهَا تَخْصِيصُ الْمَذْكُورِ وقال في باب الْحَدِيدِ لو قال عَنَيْت التِّبْرَ فَاشْتَرَى إنَاءً لم يَحْنَثْ وَلَوْ قال عَنَيْت قُمْقُمًا فَاشْتَرَى سَيْفًا أو إبَرًا أو سَكَاكِينَ أو شيئا من السِّلَاحِ لم يَحْنَثْ وَيُدَيَّنُ في الْقَضَاءِ وَهَذَا مُشْكِلٌ على مَذْهَبِهِ لِأَنَّ الِاسْمَ عِنْدَهُ عَامٌّ فإذا نَوَى شيئا منه بِعَيْنِهِ فَقَدْ عَدَلَ عن ظَاهِرِ الْعُمُومِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُصَدَّقَ في الْقَضَاءِ وَإِنْ صُدِّقَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وقال مُحَمَّدٌ في الزِّيَادَاتِ لو حَلَفَ لَا يَشْتَرِي حَدِيدًا وَلَا نِيَّةَ له فَاشْتَرَى دِرْعَ حَدِيدٍ أو سَيْفًا أو سِكِّينًا أو سَاعِدَيْنِ أو بَيْضَةً أو إبَرًا أو مَسَالَّ لَا يَحْنَثُ وَإِنْ اشْتَرَى شيئا غير مَضْرُوبٍ أو إنَاءً من آنِيَةِ الْحَدِيدِ أو مَسَامِيرَ أو ‏[‏وأقفالا‏]‏ أقفالا أو كَانُونَ حَدِيدٍ يَحْنَثُ قال لِأَنَّ الذي يَبِيعُ السِّلَاحَ وَالْإِبَرَ وَالْمَسَالَّ لَا يُسَمَّى حَدَّادًا وَاَلَّذِي يَبِيعُ ما وَصَفْت لَك يُسَمَّى حَدَّادًا وقال أبو يُوسُفَ إنْ اشْتَرَى باب حَدِيدٍ أو كَانُونَ حَدِيدٍ أو إنَاءَ حَدِيدٍ مَكْسُورٍ أو نَصْلَ سَيْفٍ مَكْسُورٍ حَنِثَ فَأَبُو يُوسُفَ اعْتَبَرَ الْحَقِيقَةَ وهو أَنَّ ذلك كُلَّهُ حَدِيدٌ فَتَنَاوَلَهُ الْيَمِينُ وَمُحَمَّدٌ اعْتَبَرَ الْعُرْفَ وهو أَنَّهُ لَا يُسَمَّى حَدِيدًا في الْعُرْفِ حتى لَا يُسَمَّى بَائِعُهُ حَدَّادًا قال أبو يُوسُفَ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي صفر ‏[‏صفرا‏]‏ فَاشْتَرَى طَشْتَ صُفْرٍ أو كُوزًا أو تَوْرًا حَنِثَ وَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ أَمَّا عِنْدَ أبي يُوسُفَ فَلِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَلِأَنَّ بَائِعَ ذلك يُسَمَّى صَفَّارًا وقال مُحَمَّدٌ لو اشْتَرَى فُلُوسًا لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهَا لَا تُسَمَّى صُفْرًا في كَلَامِ الناس وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي صُوفًا فَاشْتَرَى شَاةً على ظَهْرِهَا صُوفٌ لم يَحْنَثْ‏.‏

وَالْأَصْلُ فيه أَنَّ من حَلَفَ لَا يَشْتَرِي شيئا فَاشْتَرَى غَيْرَهُ وَدَخَلَ الْمَحْلُوفُ عليه في الْبَيْعِ تَبَعًا لم يَحْنَثْ وَإِنْ دخل مَقْصُودًا يَحْنَثْ وَالصُّوفُ هَهُنَا لم يَدْخُلْ في الْعَقْدِ مَقْصُودًا لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ لم تَتَنَاوَلْ الصُّوفَ وَإِنَّمَا دخل في الْعَقْدِ تَبَعًا لِلشَّاةِ وَكَذَلِكَ لو حَلَفَ لَا يَشْتَرِي آجُرًّا أو خَشَبًا أو قَصَبًا فَاشْتَرَى دَارًا لم يَحْنَثْ لِأَنَّ الْبِنَاءَ يَدْخُلُ في الْعَقْدِ تَبَعًا لِدُخُولِهِ في الْعَقْدِ بِغَيْرِ تَسْمِيَةٍ فلم يَكُنْ مَقْصُودًا بِالْعَقْدِ وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فيه تَبَعًا وَإِنْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي ثَمَرَ نَخْلٍ فَاشْتَرَى أَرْضًا فيها نَخْلٌ مُثْمِرَةٌ وَشَرَطَ الْمُشْتَرِي الثَّمَرَةَ يَحْنَثْ لِأَنَّ الثَّمَرَةَ دَخَلْت في الْعَقْدِ مَقْصُودَةً لَا على وَجْهِ التَّبَعِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو لم يُسَمِّهَا لَا تَدْخُلُ في الْبَيْعِ وَكَذَلِكَ لو حَلَفَ لَا يَشْتَرِي بَقْلًا فَاشْتَرَى أَرْضًا فيها بَقْلٌ وَاشْتَرَطَ الْمُشْتَرِي الْبَقْلَ فإنه يَحْنَثُ لِدُخُولِ الْبَقْلِ في الْبَيْعِ مَقْصُودًا لَا تَبَعًا‏.‏

وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي لَحْمًا فَاشْتَرَى شَاةً حَيَّةً لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الْعَقْدَ لم يَتَنَاوَلُ لَحْمَهَا لِأَنَّ لَحْمَ الشَّاةِ الْحَيَّةِ مُحَرَّمٌ لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ عليه وَكَذَلِكَ إنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَشْتَرِيَ زَيْتًا فَاشْتَرَى زَيْتُونًا لِأَنَّ الْعَقْدَ لم يَقَعْ على الزَّيْتِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ ليس في مِلْكِ الْبَائِعِ وَعَلَى هذا قالوا فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي قَصَبًا وَلَا خُوصًا فَاشْتَرَى بُورِيًّا أو زِنْبِيلًا من خُوصٍ لم يَحْنَثْ لِأَنَّ الِاسْمَ لم يَتَنَاوَلْ ذلك وَكَذَلِكَ لو حَلَفَ لَا يَشْتَرِي جَدْيًا فَاشْتَرَى شَاةً حَامِلًا بِجَدْيٍ وَكَذَلِكَ لو حَلَفَ لَا يَشْتَرِي لَبَنًا فَاشْتَرَى شَاةً في ضَرْعِهَا لَبَنٌ وَكَذَلِكَ لو حَلَفَ لَا يَشْتَرِي مَمْلُوكًا صَغِيرًا فَاشْتَرَى أَمَةً حَامِلًا وَكَذَلِكَ لو حَلَفَ لَا يَشْتَرِي دَقِيقًا فَاشْتَرَى حِنْطَةً وَقَالُوا لو حَلَفَ لَا يَشْتَرِي شَعِيرًا فَاشْتَرَى حِنْطَةً فيها شَعِيرٌ لم يَحْنَثْ لِأَنَّ الشَّعِيرَ ليس بِمَعْقُودٍ عليه مَقْصُودًا وَإِنَّمَا يَدْخُلُ في الْعَقْدِ تَبَعًا بِخِلَافِ ما إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ شَعِيرًا فَأَكَلَ حِنْطَةً فيها شَعِيرٌ لِأَنَّ الْأَكْلَ فِعْلٌ فإذا وَقَعَ في عَيْنَيْنِ لم تَتْبَعْ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى فَأَمَّا الشِّرَاءُ فَهُوَ عَقْدٌ وَبَعْضُ الْعَيْنِ مَقْصُودَةٌ بِالْعَقْدِ وَبَعْضُهَا غَيْرُ مَقْصُودَةٍ وقد كان قَوْلُ أبي يُوسُفَ الْأَوَّلُ أَنَّهُ إذَا حَلَفَ لَا يَشْتَرِي صُوفًا فَاشْتَرَى شَاةً على ظَهْرِهَا صُوفٌ يَحْنَثُ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي لَبَنًا فَاشْتَرَى شَاةً في ضَرْعِهَا لَبَنٌ لم يَحْنَثْ وقال لِأَنَّ الصُّوفَ ظَاهِرٌ فَتَنَاوَلَهُ الْعَقْدُ وَأَمَّا اللَّبَنُ فَبَاطِنٌ فلم يَتَنَاوَلْهُ ثُمَّ رَجَعَ فَسَوَّى بَيْنَهُمَا لِمَا بَيَّنَّا

وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي دُهْنًا فَهُوَ على دُهْنٍ جَرَتْ عَادَةُ الناس أَنْ يَدَّهِنُوا بِهِ فَإِنْ كان مِمَّا ليس في الْعَادَةِ أَنْ يَدَّهِنُوا بِهِ مِثْلَ الزَّيْتِ وَالْبَزْرِ وَدُهْنِ الْأَكَارِعِ لم يَحْنَثْ لِأَنَّ الدُّهْنَ عِبَارَةٌ عَمَّا يُدْهَنُ بِهِ والأيمان مَحْمُولَةٌ على الْعَادَةِ فَحُمِلَتْ الْيَمِينُ على الْأَدْهَانِ الطَّيِّبَةِ‏.‏

وَإِنْ حَلَفَ لَا يَدَّهِنُ بِدُهْنٍ وَلَا نِيَّةَ له فأدهن بِزَيْتٍ حَنِثَ وَإِنْ ادَّهَنَ بِسَمْنٍ لم يَحْنَثْ لِأَنَّ الزَّيْتَ لو طُبِخَ بِالطِّيبِ صَارَ دُهْنًا فَأَجْرَاهُ مَجْرَى الْأَدْهَانِ من وَجْهٍ ولم يُجْرِهِ مَجْرَاهَا من وَجْهٍ حَنِثَ قال في الشِّرَاءِ لَا يَحْنَثُ وفي الْأَدْهَانِ يَحْنَثُ فَأَمَّا السَّمْنُ فإنه لَا يُدَّهَنُ بِهِ بِحَالٍ في الْوَجْهَيْنِ فلم يَحْنَثْ وَكَذَلِكَ دُهْنُ الْخِرْوَعِ وَالْبُزُورِ وَلَوْ اشْتَرَى زَيْتًا مَطْبُوخًا وَلَا نِيَّةَ له حين حَلَفَ يَحْنَثُ لِأَنَّ الزَّيْتَ المطبوخ ‏[‏مطبوخ‏]‏ بِالنَّارِ وَالزِّئْبَقُ دُهْنٌ يُدَّهَنُ بِهِ كَسَائِرِ الْأَدْهَانِ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي بَنَفْسَجًا أو حِنَّاءً أو حَلَفَ لَا يَشُمُّهُمَا فَهُوَ على الدُّهْنِ وَالْوَرَقِ في الْبابيْنِ جميعا وقد ذَكَرَ في الْأَصْلِ إذَا حَلَفَ لَا يَشْتَرِي بَنَفْسَجًا أَنَّهُ على الدُّهْنِ دُونَ الْوَرَقِ وَهَذَا على عَادَةِ أَهْلِ الْكُوفَةِ لِأَنَّهُمْ إذَا أَطْلَقُوا النبفسج ‏[‏البنفسج‏]‏ أَرَادُوا بِهِ الدُّهْنَ فَأَمَّا في غَيْرِ عُرْفِ الْكُوفَةِ فَالِاسْمُ على الْوَرَقِ فَتُحْمَلُ الْيَمِينُ عليه وَالْكَرْخِيُّ حَمَلَهُ عَلَيْهِمَا وهو رِوَايَةٌ عن أبي يُوسُفَ‏.‏

وَأَمَّا الْحِنَّاءُ وَالْوَرْدُ فَهُوَ على الْوَرَقِ دُونَ الدُّهْنِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الدُّهْنَ فَيَدِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وفي الْقَضَاءِ لِأَنَّ اسْمَ الْوَرْدِ وَالْحِنَّاءِ إذَا أُطْلِقَ يُرَادُ بِهِ الْوَرَقُ لَا الدُّهْنُ

وَذَكَرَ في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ الْبَنَفْسَجَ على الدُّهْنِ وَالْوَرْدَ على وَرَقِ الْوَرْدِ وَجَعَلَ في الْأَصْلِ الْخَيْرِيَّ مِثْلَ الْوَرْدِ وَالْحِنَّاءِ فَحَمَلَهُ على الْوَرَقِ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي بَزْرًا فَاشْتَرَى دُهْنَ بَزْرٌ حَنِثَ وَإِنْ اشْتَرَى حَبًّا لم يَحْنَثْ لِأَنَّ إطْلَاقَ اسْمِ الْبَزْرِ يَقَعُ على الدُّهْنِ لَا على الْحَبِّ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَبِيعُ أو لَا يَشْتَرِي فَأَمَرَ غَيْرَهُ فَفَعَلَ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيمَنْ حَلَفَ على فِعْلٍ فَأَمَرَ غَيْرَهُ فَفَعَلَ إنَّ فِعْلَ الْمَحْلُوفِ عليه لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ له حُقُوقٌ أو لَا حُقُوقَ له فَإِنْ كان له حُقُوقٌ فَإِمَّا أَنْ تَرْجِعَ إلَى الْفَاعِلِ أو إلَى الْآمِرِ أو لَا فَإِنْ كان له حُقُوقٌ تَرْجِعُ إلَى الْفَاعِلِ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْإِجَارَةِ وَالْقِسْمَةِ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ حُقُوقَ هذه الْعُقُودِ إذَا كانت رَاجِعَةً إلَى فَاعِلِهَا لَا إلَى الْآمِرِ بها كانت الْعُقُودُ مُضَافَةً إلَى الْفَاعِلِ لَا إلَى الْآمِرِ على أَنَّ الْفَاعِلَ هو الْعَاقِدُ في الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِعْلُهُ وَإِنَّمَا لِلْآمِرِ حُكْمُ الْعَقْدِ شَرْعًا لَا لِفِعْلِهِ وَعِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا يَقَعُ الْحُكْمُ له ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى الْآمِرِ فلم يُوجَدْ منه فِعْلُ الْمَحْلُوفِ عليه فَلَا يَحْنَثُ إلَّا إذَا كان الْحَالِفُ مِمَّنْ لَا يَتَوَلَّى الْعُقُودَ بِنَفْسِهِ فَيَحْنَثُ بِالْأَمْرِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَمْتَنِعُ عَمَّا يُوجَدُ منه عَادَةً وهو الأمر بِذَلِكَ لَا الْفِعْلُ بِنَفْسِهِ وَلَوْ كان الْوَكِيلُ هو الْحَالِفَ قالوا يَحْنَثُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْحُقُوقَ رَاجِعَةٌ إلَيْهِ وَأَنَّهُ هو الْعَاقِدُ حَقِيقَةً لَا الْآمِرُ وَإِنْ كانت حُقُوقُهُ رَاجِعَةً إلَى الْآمِرِ أو كان مِمَّا لَا حُقُوقَ له كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْكتابةِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْكِسْوَةِ وَالِاقْتِضَاءِ وَالْقَضَاءِ وَالْحُقُوقِ وَالْخُصُومَةِ وَالشَّرِكَةِ بِأَنْ حَلَفَ لَا يُشَارِكُ رَجُلًا فَأَمَرَ غَيْرَهُ فَعَقَدَ عَقْدَ الشَّرِكَةِ وَالذَّبْحِ وَالضَّرْبِ وَالْقَتْلِ وَالْبِنَاءِ وَالْخِيَاطَةِ وَالنَّفَقَةِ وَنَحْوِهَا فإذا حَلَفَ لَا يَفْعَلُ شيئا من هذه الْأَشْيَاءِ فَفَعَلَهُ بِنَفْسِهِ أو أَمَرَ غَيْرَهُ حَنِثَ لِأَنَّ ما لَا حُقُوقَ له أو تَرْجِعُ حُقُوقُهُ إلَى الأمر لَا إلَى الْفَاعِلِ يُضَافُ إلَى الأمر لَا إلَى الْفَاعِلِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَكِيلَ بِالنِّكَاحِ لَا يقول تَزَوَّجْت وَإِنَّمَا يقول زَوَّجْت فُلَانًا وَالْوَكِيلُ بِالطَّلَاقِ يقول طَلَّقْت امْرَأَةَ فُلَانٍ فَكَانَ فِعْلُ الْمَأْمُورِ مُضَافًا إلَى الْآمِرِ وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عن أبي يُوسُفَ في الصُّلْحِ رَوَى بِشْرُ بن الْوَلِيدِ عنه أَنَّ من حَلَفَ لَا يُصَالِحُ فَوَكَّلَ بِالصُّلْحِ لم يَحْنَثْ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ كَالْبَيْعِ وَرَوَى ابن سِمَاعَةَ عنه أَنَّهُ يَحْنَثُ لِأَنَّ الصُّلْحَ إسْقَاطُ حَقٍّ كَالْإِبْرَاءِ فَإِنْ قال الْحَالِفُ فِيمَا لَا تَرْجِعُ حُقُوقُهُ إلَى الْفَاعِلِ بَلْ إلَى الْآمِرِ كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ نَوَيْت أَنْ إلى ذلك بِنَفْسِي يُدَيَّنْ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يُدَيَّنُ في الْقَضَاءِ لِأَنَّ هذه الْأَفْعَالَ جُعِلَتْ مُضَافَةً إلَى الْآمِرِ لِرُجُوعِ حُقُوقِهَا إلَيْهِ لَا إلَى الْفَاعِلِ وقد نَوَى خِلَافَ ذلك الظَّاهِرِ فَلَا يُصَدَّقُ في الْقَضَاءِ وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ نَوَى الْمُحْتَمَلَ وَإِنْ كان خِلَافَ الظَّاهِرِ‏.‏

وَلَوْ قال فِيمَا لَا حُقُوقَ له من الضَّرْبِ وَالذَّبْحِ عَنَيْت أَنْ ألى ذلك بِنَفْسِي يُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وفي الْقَضَاءِ أَيْضًا لِأَنَّ الضَّرْبَ وَالذَّبْحَ من الْأَفْعَالِ الْحَقِيقِيَّةِ وَأَنَّهُ بِحَقِيقَتِهِ وُجِدَ من الْمُبَاشِرِ وَلَيْسَ بِتَصَرُّفٍ حكمي ‏[‏حكي‏]‏ فيه لِتَغْيِيرِ وُقُوعِهِ حُكْمًا لِغَيْرِ الْمُبَاشِرِ فَكَانَتْ الْعِبْرَةُ فيه لِلْمُبَاشَرَةِ فإذا نَوَى بِهِ أَنْ يَلِيَ بِنَفْسِهِ فَقَدْ نَوَى الْحَقِيقَةَ فَيُصَدَّقُ قَضَاءً وَدِيَانَةً وَلَوْ حَلَفَ لَا يَبِيعُ من فُلَانٍ شيئا فَأَوْجَبَ الْبَيْعَ لَا يَحْنَثُ ما لم يَقْبَلْ الْمُشْتَرِي وَلَوْ حَلَفَ لَا يَهَبُ لِفُلَانٍ شيئا أو لَا يَتَصَدَّقُ عليه أو لَا يُعِيرُهُ أو لَا يُنْحِلُ له أو لَا يُعْطِيهِ ثُمَّ وَهَبَ له أو تَصَدَّقَ عليه أو أَعَارَهُ أو نَحَلَهُ أو أَعْطَاهُ فلم يَقْبَلْ الْمَحْلُوفُ عليه يَحْنَثُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَحْنَثُ وَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ وَالْفَرْقَ بين الْهِبَةِ وَأَخَوَاتِهَا وَبَيْنَ الْبَيْعِ في كتاب الْهِبَةِ إن شاء الله تعالى‏.‏

وَأَمَّا الْقَرْضُ فَقَدْ روى عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ ما لم يَقْبَلْ وَعَنْ أبي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ في رِوَايَةٍ مِثْلُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ وفي رِوَايَةٍ يَحْنَثُ من غَيْرِ قَبُولٍ وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ الْقَرْضَ لَا تَقِفُ صِحَّتُهُ على تَسْمِيَةِ عِوَضٍ فَأَشْبَهَ الْهِبَةَ وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ الْقَرْضَ يُشْبِهُ الْبَيْعَ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ بَعُوضٍ وقد قال أبو يُوسُفَ على هذه الرِّوَايَةِ لو حَلَفَ لَا يَسْتَقْرِضُ من فُلَانٍ شيئا فَاسْتَقْرَضَهُ فلم يُقْرِضْهُ أَنَّهُ حَانِثٌ فَرْقٌ بين الْقَرْضِ وَبَيْنَ الِاسْتِقْرَاضِ لِأَنَّ الِاسْتِقْرَاضَ ليس بِقَرْضٍ بَلْ هو طَلَبُ الْقَرْضِ كَالسَّوْمِ في باب الْبَيْعِ

وَلَوْ حَلَفَ لَا يَبِيعُ فَبَاعَ بَيْعًا فَاسِدًا وَقَبِلَ الْمُشْتَرِي وَقَبَضَ يَحْنَثُ لِأَنَّ اسْمَ الْبَيْعِ يَتَنَاوَلُ الصَّحِيحَ وَالْفَاسِدَ وهو مُبَادَلَةُ شَيْءٍ مَرْغُوبٍ بِشَيْءٍ مَرْغُوبٍ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ من الْبَيْعِ هو الْوُصُولُ إلَى الْعِوَضِ وَهَذَا يَحْصُلُ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْقَبْضُ لِأَنَّهُ يُفِيدُ الْمِلْكَ بَعْدَ الْقَبْضِ وَلَوْ بَاعَ بِالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ ليس بِبَيْعٍ لِانْعِدَامِ مَعْنَاهُ وهو ما ذَكَرْنَا وَلِانْعِدَامِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ منه وهو الْمِلْكُ لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الْمِلْكَ وَلَوْ بَاعَ بَيْعًا فيه خِيَارٌ لِلْبَائِعِ أو لِلْمُشْتَرِي لم يَحْنَثْ في قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَحَنِثَ في قَوْلِ مُحَمَّدٍ

وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ اسْمَ الْبَيْعِ كما يَقَعُ على الْبَيْعِ الثَّابِتِ يَقَعُ على الْبَيْعِ الذي فيه خِيَارٌ فإن كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُسَمَّى بَيْعًا في الْعُرْفِ إلَّا أَنَّ الْمِلْكَ فيه يَقِفُ على أَمْرٍ زَائِدٍ وهو الْإِجَازَةُ أو على سُقُوطِ الْخِيَارِ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ‏.‏

وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْبَيْعِ في حَقِّ الْحُكْمِ فَأَشْبَهَ الْإِيجَابَ بِدُونِ الْقَبُولِ قال مُحَمَّدٌ سَمِعْت أَبَا يُوسُفَ قال فِيمَنْ قال إنْ اشْتَرَيْت هذا الْعَبْدَ فَهُوَ حُرٌّ فَاشْتَرَاهُ على أَنَّ الْبَائِعَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَمَضَتْ الْمُدَّةُ الثَّلَاثُ وَوَجَبَ الْبَيْعُ يَعْتِقُ وأنه على أَصْلِهِ صَحِيحٌ لِأَنَّ اسْمَ الْبَيْعِ عِنْدَهُ لَا يَتَنَاوَلُ الْبَيْعَ الْمَشْرُوطَ فيه الْخِيَارُ فَلَا يَصِيرُ مُشْتَرِيًا بِنَفْسِ الْقَبُولِ بَلْ عِنْدَ سُقُوطِ الْخِيَارِ وَالْعَبْدُ في مِلْكِهِ عِنْدَ ذلك يَعْتِقُ وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ في الْبَيْعِ بِشَرْطِ خِيَارِ الْبَائِعِ أو الْمُشْتَرِي أَنَّهُ يَحْنَثُ ولم يذكر الْخِلَافَ وَأَصَّلَ فيه أَصْلًا وهو أَنَّ كُلَّ بَيْعٍ يُوجِبُ الْمِلْكَ أو تَلْحَقُهُ الْإِجَازَةُ يَحْنَثُ بِهِ وما لَا فَلَا هذا إذَا حَلَفَ على الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ أو عَتَاقِ عَبْدِهِ بِأَنْ قال لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ أو عَبْدُهُ حُرٌّ فَأَمَّا إذَا حَلَفَ على ذلك بِعِتْقِ الْعَبْدِ المشتري أو الْمَبِيعِ فَإِنْ كان الْحَلِفُ على الشِّرَاءِ بِأَنْ قال إنْ اشْتَرَيْت هذا الْعَبْدَ فَهُوَ حُرٌّ فَاشْتَرَاهُ يُنْظَرُ إنْ اشْتَرَاهُ شِرَاءً جَائِزًا بانا ‏[‏باتا‏]‏ عَتَقَ بِلَا شَكٍّ وَكَذَلِكَ لو كان الْمُشْتَرِي فيه بِالْخِيَارِ أَمَّا على قَوْلِهِمَا فَلَا يُشْكِلُ لِأَنَّ خِيَارَ الْمُشْتَرِي لَا يَمْنَعُ وُقُوعَ الْمِلْكِ له

وَأَمَّا على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ فلان الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ يَصِيرُ كَالْمُتَكَلَّمِ بِهِ عِنْدَ الشَّرْطِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ أَعْتَقَهُ بعدما اشْتَرَاهُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ وَلَوْ أَعْتَقَهُ يَعْتِقُ لِأَنَّ أقدامه على الْإِعْتَاقِ يَكُونُ فَسْخًا لِلْخِيَارِ وَلَوْ اشْتَرَاهُ على أَنَّ الْبَائِعَ فيه بِالْخِيَارِ لَا يَعْتِقُ لِأَنَّهُ لم يَمْلِكْهُ لِأَنَّ خِيَارَ الْبَائِعِ يَمْنَعُ زَوَالَ الْمَبِيعِ عن مِلْكِهِ بِلَا خِلَافٍ وَسَوَاءٌ أَجَازَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ أو لم يُجِزْ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالْإِجَازَةِ لَا بِالْعَقْدِ‏.‏

وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ إذَا أَجَازَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ يَعْتِقُ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ عِنْدَ الْإِجَازَةِ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ الْعَقْدِ بِدَلِيلِ أَنَّ الزِّيَادَةَ الْحَادِثَةَ بَعْدَ الْعِتْقِ قبل الْإِجَازَةِ تَدْخُلُ في الْعَقْدِ هذا كُلُّهُ إنْ اشْتَرَاهُ شِرَاءً صَحِيحًا فَإِنْ اشْتَرَاهُ شِرَاءً فَاسِدًا فَإِنْ كان في يَدِ الْبَائِعِ لَا يَعْتِقْ لِأَنَّهُ على مِلْكِ الْبَائِعِ بَعْدُ وَإِنْ كان في يَدِ الْمُشْتَرِي وكان حَاضِرًا عِنْدَهُ وَقْتَ الْعَقْدِ لِأَنَّهُ صَارَ قَابِضًا له عَقِيبَ الْعَقْدِ فَمَلَكَهُ وَإِنْ كان غَائِبًا في بَيْتِهِ أو نَحْوِهِ فَإِنْ كان مَضْمُونًا بِنَفْسِهِ كَالْمَغْصُوبِ يَعْتِقْ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِنَفْسِ الشِّرَاءِ وَإِنْ كان أَمَانَةً أو كان مَضْمُونًا بِغَيْرِهِ كَالرَّهْنِ لَا يَعْتِقْ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ قَابِضًا عَقِيبَ الْعَقْدِ هذا إذَا كان الْحَلِفُ على الشِّرَاءِ فَإِنْ كان على الْبَيْعِ فقال إنْ بِعْتُك فَأَنْتَ حُرٌّ فَبَاعَهُ بَيْعًا جَائِزًا أو كان الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ لَا يَعْتِقُ لِأَنَّهُ زَالَ مِلْكُهُ عنه بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَالْعَقْدُ لَا يَصِحُّ بِدُونِ الْمِلْكِ وَإِنْ كان الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ يَعْتِقْ لِأَنَّهُ كان في مِلْكِهِ وقد وُجِدَ شَرْطُهُ فَيَعْتِقُ وَلَوْ بَاعَهُ بَيْعًا فَاسِدًا فَإِنْ كان في يَدِ الْبَائِعِ أو في يَدِ الْمُشْتَرِي غَائِبًا عنه بِأَمَانَةٍ أو بِرَهْنٍ يَعْتِقْ لِأَنَّهُ لم يَزُلْ مِلْكُهُ عنه وَإِنْ كان في يَدِ الْمُشْتَرِي حَاضِرًا أو غَائِبًا مَضْمُونًا بِنَفْسِهِ لَا يَعْتِقْ لِأَنَّهُ بِالْعَقْدِ زَالَ مِلْكُهُ عنه‏.‏

وَلَوْ حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ هذه الْمَرْأَةَ فَهُوَ على الصَّحِيحِ دُونَ الْفَاسِدِ حتى لو تَزَوَّجَهَا نِكَاحًا فَاسِدًا لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ من النِّكَاحِ الْحِلُّ وَلَا يَثْبُتُ بِالْفَاسِدِ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِسَبَبِهِ وهو الْمِلْكُ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فإن الْمَقْصُودَ منه الْمِلْكُ وأنه يَحْصُلُ بِالْفَاسِدِ وَكَذَلِكَ لو حَلَفَ لَا يُصَلِّي وَلَا يَصُومُ فَهُوَ على الصَّحِيحِ حتى لو صلى بِغَيْرِ طَهَارَةٍ أو صَامَ بِغَيْرِ نِيَّةٍ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ منه التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَلَا يَحْصُلُ ذلك بِالْفَاسِدِ وَلَوْ كان ذلك كُلُّهُ في الْمَاضِي بِأَنْ قال إنْ كُنْت صَلَّيْت أو صُمْت أو تَزَوَّجْت فَهُوَ على الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ لِأَنَّ الْمَاضِيَ لَا يُقْصَدُ بِهِ الْحِلُّ وَالتَّقَرُّبُ وَإِنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ الْإِخْبَارُ عن الْمُسَمَّى بِذَلِكَ وَالِاسْمُ يُطْلَقُ على الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ فَإِنْ عني بِهِ الصَّحِيحَ دِينَ في الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ النِّكَاحُ الْمَعْنَوِيُّ وَلَوْ حَلَفَ لَا يُصَلِّي فَكَبَّرَ وَدَخَلَ في الصَّلَاةِ لم يَحْنَثْ حتى يَرْكَعَ وَيَسْجُدَ سَجْدَةً اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ يَحْنَثَ بِنَفْسِ الشُّرُوعِ لِأَنَّهُ كما شَرَعَ فيه يَقَعُ عليه اسْمُ الْمُصَلِّي فَيَحْنَثُ كما لو حَلَفَ لَا يَصُومُ فَنَوَى الصَّوْمَ وَشَرَعَ فيه وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ وهو الْفَرْقُ بين الصَّلَاةِ وَبَيْنَ الصَّوْمِ أَنَّ الْحَالِفَ جَعَلَ شَرْطَ حنثه ‏[‏جنسه‏]‏ فِعْلَ الصَّلَاةِ وَالصَّلَاةُ في عُرْفِ الشَّرْعِ اسْمٌ لِعِبَادَةٍ مُتَرَكِّبَة من أَفْعَالٍ مُخْتَلِفَةٍ من الْقِيَامِ وَالْقِرَاءَةِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْمُتَرَكِّبُ من أَجْزَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ لَا يَقَعُ اسْمُ كُلِّهِ على بَعْضِهِ كَالسَّكَنْجَبِينِ وَنَحْوِ ذلك فما لم تُوجَدْ هذه الْأَفْعَالُ لَا يُوجَدُ فِعْلُ الصَّلَاةِ بِخِلَافِ الصَّوْمِ لِأَنَّ بِصَوْمِ سَاعَةٍ يَحْصُلُ فِعْلُ صَوْمٍ كَامِلٍ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِعِبَادَةٍ مُرَكَّبَةٍ من أَجْزَاءٍ مُتَّفِقَةٍ وَهِيَ الْإِمْسَاكَاتُ وما هذا حَالُهُ فَاسْمُ كُلِّهِ يَنْطَلِقُ على بَعْضِهِ حَقِيقَةً كَاسْمِ الْمَاءِ أَنَّهُ كما يَنْطَلِقُ على مَاءِ الْبَحْرِ يَنْطَلِقُ على قَطْرَةٍ منه وَقَطْرَةٌ من خَلٍّ من جُمْلَةِ دَنٍّ من خَلٍّ أَنَّهُ يُسَمَّى خَلًّا حَقِيقَةً فإذا صَامَ سَاعَةً فَقَدْ وُجِدَ منه فِعْلُ الصَّوْمِ الذي مَنَعَ نَفْسَهُ منه فَيَحْنَثُ وَبِخِلَافِ ما لو حَلَفَ لَا يصلي صَلَاةً أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ حتى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الصَّلَاةَ فَقَدْ جَعَلَ شَرْطَ الْحِنْثِ ما هو صَلَاةٌ شَرْعًا وَأَقَلُّ ما اعْتَبَرَهُ الشَّرْعُ من الصَّلَاةِ رَكْعَتَانِ بِخِلَافِ الْفصل الْأَوَّلِ لِأَنَّ ثَمَّةَ شَرْطُ الْحِنْثِ هُنَاكَ فِعْلُ الصَّلَاةِ وَفِعْلُ الصَّلَاةِ يُوجَدُ بِوُجُودِ هذه الْأَفْعَالِ‏.‏

وما يُوجَدُ بَعْدَ ذلك إلَى تَمَامِ ما يَصِيرُ عِبَادَةً مَعْهُودَةً مُعْتَبَرَةً شَرْعًا تَكْرَارٌ لِهَذِهِ الْأَفْعَالِ فَلَا تَقِفُ تَسْمِيَةُ فِعْلِ الصَّلَاةِ على وُجُودِهِ وقد وُجِدَ ذلك كُلُّهُ في آيَةٍ وَاحِدَةٍ من كتاب اللَّهِ عز وجل وهو قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وإذا كُنْت فِيهِمْ فَأَقَمْت لهم الصَّلَاةَ‏}‏وَأَرَادَ بِهِ الرَّكْعَتَيْنِ جميعا لِأَنَّهُ وَرَدَ في صَلَاةِ السَّفَرِ ثُمَّ قال‏:‏ ‏{‏وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لم يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَك‏}‏وَأَرَادَ بِهِ رَكْعَةً وَاحِدَةً لِأَنَّ الطَّائِفَةَ الثَّانِيَةَ لَا يُصَلُّونَ إلَّا رَكْعَةً وَاحِدَةً وَلَوْ حَلَفَ لَا يَصُومُ يَوْمًا لَا يَحْنَثُ حتى يَصُومَ يَوْمًا تَامًّا لِأَنَّهُ جَعَلَ شَرْطَ الْحِنْثِ صَوْمًا مُقَدَّرًا بِالْيَوْمِ لِأَنَّهُ جَعَلَ كُلَّ الْيَوْمِ ظَرْفًا له وَلَا يَكُونُ كُلُّ الْيَوْمِ ظَرْفًا له إلَّا بِاسْتِيعَابِ الصَّوْمِ جَمِيعَ الْيَوْمِ وَكَذَا لو حَلَفَ لَا يَصُومُ صَوْمًا لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْمَصْدَرَ وهو الصَّوْمُ وَالصَّوْمُ اسْمٌ لِعِبَادَةٍ مُقَدَّرَةٍ بِالْيَوْمِ شَرْعًا فَيُصْرَفُ إلَى الْمَعْهُودِ الْمُعْتَبَرِ في الشَّرْعِ بِخِلَافِ ما إذَا حَلَفَ لَا يَصُومُ لِأَنَّهُ جَعَلَ فِعْلَ الصَّوْمِ شَرْطًا وَبِصَوْمِ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ وُجِدَ فِعْلُ الصَّوْمِ

وَلَوْ حَلَفَ لَا يُصَلِّي الظُّهْرَ لَا يَحْنَثُ حتى يَتَشَهَّدَ بَعْدَ الْأَرْبَعِ لِأَنَّ الظُّهْرَ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ فما لم تُوجَدْ الْأَرْبَعُ لَا تُوجَدُ الظُّهْرُ فَلَا يَحْنَثُ‏.‏ وَلَوْ قال عَبْدُهُ حُرٌّ إنْ أَدْرَكَ الظُّهْرَ مع الْإِمَامِ فَأَدْرَكَهُ في التَّشَهُّدِ وَدَخَلَ معه حَنِثَ لِأَنَّ إدْرَاك الشَّيْءِ لُحُوقُ آخِرِهِ يُقَالُ أَدْرَكَ فُلَانٌ زَمَنَ النبي صلى الله عليه وسلم وَيُرَادُ بِهِ لُحُوقَ آخِرِهِ‏.‏

وروى عن مُعَاذِ بن جَبَلٍ رضي اللَّهُ عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال من أَدْرَكَ الْإِمَامَ يوم الْجُمُعَةِ في التَّشَهُّدِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْجُمُعَةَ وروى عن عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ انْتَهَى يَوْمًا إلَى الْإِمَامِ فَأَدْرَكَهُ في التَّشَهُّدِ فقال اللَّهُ أَكْبَرُ أَدْرَكْنَا معه الصَّلَاةَ وَلَوْ حَلَفَ لَا يُصَلِّي الْجُمُعَةَ مع الْإِمَامِ فَأَدْرَكَ معه رَكْعَةً فصلاهَا معه ثُمَّ سَلَّمَ الْإِمَامُ وَأَتَمَّ هو الثَّانِيَةَ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ لم يُصَلِّ الْجُمُعَةَ مع الْإِمَامِ إذْ هِيَ اسْمٌ لِلْكُلِّ وهو ما صلى الْكُلَّ مع الْإِمَامِ وَلَوْ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ مع الْإِمَامِ ثُمَّ نَامَ أو أَحْدَثَ فَذَهَبَ وَتَوَضَّأَ فَجَاءَ وقد سَلَّمَ الْإِمَامُ فَاتَّبَعَهُ في الصَّلَاةِ حَنِثَ وَإِنْ لم يُوجَدْ أَدَاءُ الصَّلَاةِ مُقَارِنًا لِلْإِمَامِ لِأَنَّ كَلِمَةَ مع هَهُنَا لَا يُرَادُ بها حَقِيقَةُ القران بَلْ كَوْنُهُ تَابِعًا له مُقْتَدِيًا بِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ أَفْعَالَهُ وَانْتِقَالَهُ من رُكْنٍ إلَى رُكْنٍ لو حَصَلَ على التَّعَاقُبِ دُونَ الْمُقَارَنَةِ عُرِفَ مُصَلِّيًا معه كَذَا هَهُنَا وقد وُجِدَ لِبَقَائِهِ مُقْتَدِيًا بِهِ تَابِعًا له وَلَوْ نَوَى حَقِيقَةَ الْمُقَارَنَةِ صَدَقَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وفي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَحُجُّ حَجَّةً أو قال لَا أَحُجُّ ولم يَقُلْ حَجَّةً لم يَحْنَثْ حتى يَطُوفَ أَكْثَرَ طَوَافِ الزيارة ‏[‏الزيادة‏]‏ لِأَنَّ الحجة ‏[‏حجة‏]‏ اسْمٌ لِعِبَادَةٍ رُكِّبَتْ من أَجْنَاسِ أَفْعَالٍ كَالصَّلَاةِ من الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَطَوَافِ الزِّيَارَةِ فما لم يُوجَدْ كُلُّ الطَّوَافِ أو أَكْثَرُهُ لَا يُوجَدُ الْحَجُّ فَإِنْ جَامَعَ فيها لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ فَيَقَعُ الْيَمِينُ على الصَّحِيحِ منه كَالصَّلَاةِ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَعْتَمِرُ فَأَحْرَمَ وَطَافَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ حَنِثَ لِأَنَّ رُكْنَ الْعُمْرَةِ هو الطَّوَافُ وقد وُجِدَ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ‏.‏

قال ابن سِمَاعَةَ سَمِعْت أَبَا يُوسُفَ قال في رَجُلٍ قال إنْ تَزَوَّجْت امْرَأَةً بَعْدَ امْرَأَةٍ فَهِيَ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَ وَاحِدَةً ثُمَّ ثِنْتَيْنِ في عُقْدَةٍ فإنه يَقَعُ الطَّلَاقُ على إحْدَى الْأَخِيرَتَيْنِ لِأَنَّهُ قد تَزَوَّجَ امْرَأَةً بَعْدَ امْرَأَةٍ وَإِنْ كان مَعَهَا غَيْرُهَا فَوَقَعَ الطَّلَاقُ على إحْدَاهُمَا فَكَانَ له التَّعْيِينُ وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَتَيْنِ في عُقْدَةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بَعْدَهُمَا طَلُقَتْ الْأَخِيرَةُ لِأَنَّهُ قد تَزَوَّجَ بها بَعْدَ امْرَأَةٍ وَالْأُولَيَانِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لَا تُوصَفُ بِأَنَّهَا بَعْدَ الْأُخْرَى فَكَانَتْ الْأُخْرَى هِيَ الْمُسْتَحَقَّةُ لِلشَّرْطِ وَلَوْ قال إنْ تَزَوَّجْت امْرَأَةً فَهِيَ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَ صَبِيَّةً طَلُقَتْ لِأَنَّ غَرَضَهُ بِهَذِهِ الْيَمِينِ هو الِامْتِنَاعُ من النِّكَاحِ فَيَتَنَاوَلُ الْبَالِغَةَ وَالصَّبِيَّةَ فَصَارَ قَوْلُهُ امْرَأَةً كَقَوْلِهِ أُنْثَى قال ابن سِمَاعَةَ عنه إنْ قال إنْ تَزَوَّجْت امْرَأَتَيْنِ في عُقْدَةٍ فَهُمَا طَالِقَتَانِ فَتَزَوَّجَ ثَلَاثًا في عُقْدَةٍ فإنه تَطْلُقُ امْرَأَتَانِ من نِسَائِهِ فَوَقَعَ على ثِنْتَيْنِ من الثَّلَاثِ لِأَنَّهُ قد تَزَوَّجَ بِاثْنَتَيْنِ وَإِنْ كان مَعَهُمَا ثَالِثَةٌ وَلَيْسَ إحداهن بِالطَّلَاقِ بِأَوْلَى من الْأُخْرَى فَيَرْجِعُ إلَى تَعْيِينِهِ قال ابن سِمَاعَةَ عن أبي يُوسُفَ في نَوَادِرِهِ في رَجُلٍ قال وَاَللَّهِ لَا أُزَوِّجُ ابْنَتِي الصَّغِيرَةَ فَتَزَوَّجَهَا رَجُلٌ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَأَجَازَ قال هو حَانِثٌ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ فَتَتَعَلَّقُ بِالْمُجِيزِ وَلَوْ حَلَفَ لَا يُزَوِّجُ ابْنًا له كَبِيرًا فَأَمَرَ رَجُلًا فَزَوَّجَهُ ثُمَّ بَلَغَ الِابْنُ فَأَجَازَ أو زَوَّجَهُ رَجُلٌ وَأَجَازَ الْأَبُ وَرَضِيَ الِابْنُ لم يَحْنَثْ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ لَمَّا لم تَتَعَلَّقْ بِالْعَاقِدِ تَعَلَّقَتْ بِالْمُجِيزِ فَنُسِبَ الْعَقْدُ إلَيْهِ‏.‏

وقال هِشَامٌ عن مُحَمَّدٍ في نَوَادِرِهِ في رَجُلٍ حَلَفَ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ ثَلَاثًا لَا يُزَوِّجُ بِنْتًا له صَغِيرَةً فَزَوَّجَهَا رَجُلٌ من أَهْلِهِ أو غَرِيبٌ وَالْأَبُ حَاضِرٌ ذلك الْمَجْلِسَ حين زُوِّجَتْ إلَّا أَنَّهُ سَاكِتٌ حتى قال الذي زَوَّجَ لِلَّذِي خَطَبَ قد زَوَّجْتُكهَا وقال الْآخَرُ قد قَبِلْت وَالْأَبُ سَاكِتٌ ثُمَّ قال بَعْدَمَا وَقَعَتْ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وهو في ذلك الْمَجْلِسِ قد أَجَزْت النِّكَاحَ فَزَعَمَ مُحَمَّدٌ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الذي زَوَّجَ غَيْرُهُ وَإِنَّمَا أَجَازَهُ هو وَكَذَلِكَ إذَا حَلَفَ على أَمَتِهِ لِأَنَّهُ حَلَفَ على التَّزْوِيجِ وَالْإِجَازَةُ تُسَمَّى نِكَاحًا وَتَزْوِيجًا فَقَدْ فَعَلَ ما لم يَتَنَاوَلْهُ الِاسْمُ فَلَا يَحْنَثُ وقال ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ في نَوَادِرِهِ في رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِغَيْرِ أَمْرِهَا زَوَّجَهُ وَلِيُّهَا ثُمَّ حَلَفَ الْمُتَزَوِّجُ أَنْ لَا يَتَزَوَّجَهَا أَبَدًا ثُمَّ بَلَغَهَا فَرَضِيَتْ بِالنِّكَاحِ أو كان رَجُلٌ زَوَّجَهَا منه وهو لَا يَعْلَمُ ثُمَّ حَلَفَ بَعْدَ ذلك أَنَّهُ لَا يَتَزَوَّجُهَا ثُمَّ بَلَغَهُ النِّكَاحُ فَأَجَازَ لم يَحْنَثْ في وَاحِدٍ من الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّهُ لم يَتَزَوَّجْ بَعْدَ يَمِينِهِ إنما أَجَازَ نِكَاحًا قبل يَمِينِهِ أو أَجَازَتْهُ الْمَرْأَةُ قال ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ لو قال لَا أَتَزَوَّجُ فُلَانَةَ بِالْكُوفَةِ فَزَوَّجَهَا أَبُوهَا إيَّاهُ بِالْكُوفَةِ ثُمَّ أَجَازَتْ بِبَغْدَادَ كان حَانِثًا وَإِنَّمَا أَجَازَ السَّاعَةَ بِإِجَازَتِهَا النِّكَاحَ الذي كان بِالْكُوفَةِ وَكَذَلِكَ قال في الْجَامِعِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِجَازَةَ لَيْسَتْ بِنِكَاحٍ لِأَنَّ النِّكَاحَ هو الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فَعِنْدَ انْضِمَامِ الْإِجَازَةِ إلَيْهِمَا كان النِّكَاحُ حَاصِلًا بِالْكُوفَةِ فَوُجِدَ شَرْطُ الْحِنْثِ فَيَحْنَثُ‏.‏

وقال ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ في رَجُلٍ قال إنْ تَزَوَّجْت فُلَانَةَ فَهِيَ طَالِقٌ فَصَارَ مَعْتُوهًا فَزَوَّجَهُ إيَّاهَا أَبُوهُ قال هو حَانِثٌ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ في النِّكَاحِ تَرْجِعُ إلَى الْمَعْقُودِ له فَكَانَ هو الْمُتَزَوِّجَ فَحَنِثَ قال الْمُعَلَّى سَأَلْت مُحَمَّدًا عن امْرَأَةٍ حَلَفَتْ لَا تُزَوِّجُ نَفْسَهَا من فُلَانٍ فَزَوَّجَهَا منه رَجُلٌ بِأَمْرِهَا فَهِيَ حَانِثَةٌ وَكَذَلِكَ لو زَوَّجَهَا رَجُلٌ فَرَضِيَتْ وَكَذَلِكَ لو كانت بِكْرًا فَزَوَّجَهَا أَبُوهَا فَسَكَتَتْ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمَّا جَازَ بِرِضَاهَا وَحُقُوقُهُ تَتَعَلَّقُ بها فَصَارَ كَأَنَّهَا عَقَدَتْ بِنَفْسِهَا وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تُخَالِفُ ما ذَكَرْنَا من رِوَايَةِ هِشَامٍ وَكَذَلِكَ لو حَلَفَ لَا يَأْذَنُ لِعَبْدِهِ في التِّجَارَةِ فَرَآهُ يَشْتَرِي وَيَبِيعُ أَنَّهُ إنْ سَكَتَ كان حَانِثًا في يَمِينِهِ لِأَنَّ السُّكُوت إذْنٌ منه فَكَأَنَّهُ أذن منه له بِالنُّطْقِ وَرَوَى بِشْرُ بن الْوَلِيدِ وَعَلِيُّ بن الْجَعْدِ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ السُّكُوتَ ليس بِإِذْنٍ وَإِنَّمَا هو إسْقَاطُ حَقِّهِ عن الْمَنْعِ من تَصَرُّفِ الْعَبْدِ ثُمَّ الْعَبْدُ يَتَصَرَّفُ بِمَالِكِيَّةِ نَفْسِهِ بَعْدَ زَوَالِ الْحَجْرِ فَإِنْ حَلَفَ لَا يُسَلِّمُ لِفُلَانٍ شُفْعَةً فَبَلَغَهُ أَنَّهُ اشْتَرَى دَارًا هو شَفِيعُهَا فَسَكَتَ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ السَّاكِتَ ليس بِمُسَلِّمٍ وَإِنَّمَا هو مُسْقِطٌ حَقَّهُ بِالْإِعْرَاضِ عن الطَّلَبِ قال عَمْرٌو عن مُحَمَّدٍ في رَجُلٍ حَلَفَ لَا يُزَوِّجُ عَبْدَهُ فَتَزَوَّجَ الْعَبْدُ بِنَفْسِهِ ثُمَّ أَجَازَ الْمَوْلَى يَحْنَثُ‏.‏

وَلَوْ حَلَفَ الْأَبُ لَا يُزَوِّجُ ابْنَتَهُ فَزَوَّجَهَا عَمُّهَا وَأَجَازَ الْأَبُ لم يَحْنَثْ لِأَنَّ غَرَضَ الْمَوْلَى بِالْيَمِينِ أَنْ لَا تَتَعَلَّقَ بِرَقَبَةِ عَبْدِهِ حُقُوقُ النِّكَاحِ وقد عَلَّقَ بِالْإِجَازَةِ وَغَرَضَ الْأَبِ أَنْ لَا يَفْعَلَ ما يُسَمَّى نِكَاحًا وَالْإِجَازَةُ لَيْسَتْ بِنِكَاحٍ وقال عَلِيٌّ وَبِشْرٌ عن أبي يُوسُفَ لو حَلَفَ لَا يُؤَخِّرُ عن فُلَانٍ حَقَّهُ شَهْرًا وَسَكَتَ عن تَقَاضِيهِ حتى مَضَى الشَّهْرُ لم يَحْنَثْ وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ هو التَّأْجِيلُ وَتَرْكُ التَّقَاضِي ليس بِتَأْجِيلٍ قال وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً حَلَفَتْ لَا تَأْذَنُ في تَزْوِيجِهَا وَهِيَ بِكْرٌ فَزَوَّجَهَا أَبُوهَا فَسَكَتَتْ فَإِنَّهَا لَا تَحْنَثُ وَالنِّكَاحُ لها لَازِمٌ لِأَنَّ السُّكُوتَ ليس بِإِذْنٍ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا أُقِيمَ مَقَامَ الأذن بِالسُّنَّةِ‏.‏

وَرَوَى بِشْرٌ عن أبي يُوسُفَ إذَا حَلَفَ لَا يَبِيعُ ثَوْبَهُ إلَّا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَبَاعَهُ بِخَمْسَةٍ وَدِينَارٍ حَنِثَ لِأَنَّهُ مَنَعَ نَفْسَهُ عن كل بَيْعٍ وَاسْتَثْنَى بَيْعَهُ بِصِفَةٍ وهو أَنْ يَكُونَ بِعَشَرَةٍ ولم يُوجَدْ فَبَقِيَ تَحْتَ الْمُسْتَثْنَى منه فَإِنْ بَاعَهُ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ لم يَحْنَثْ لِأَنَّهُ بَاعَهُ بِعَشَرَةٍ وَبِغَيْرِهَا وَالْعَشَرَةُ مُسْتَثْنَى وَرَوَى هِشَامٌ عن أبي يُوسُفَ في رَجُلٍ قال وَاَللَّهِ لَا أَبِيعُك هذا الثَّوْبَ بِعَشَرَةٍ حتى تَزِيدَنِي فَبَاعَهُ بِتِسْعَةٍ لَا يَحْنَثُ في الْقِيَاسِ وفي الِاسْتِحْسَانِ يَحْنَثُ وَبِالْقِيَاسِ آخُذُ وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ شَرْطَ حِنْثِهِ الْبَيْعُ بِعَشَرَةٍ وما بَاعَ بِعَشَرَةٍ بَلْ بِتِسْعَةٍ

وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمُرَادَ من مِثْلِ هذا الْكَلَامِ في الْعُرْفِ أَنْ لَا يَبِيعُهُ إلَّا بِالْأَكْثَرِ من عَشَرَةٍ وقد بَاعَهُ لَا بِأَكْثَرَ من عشر فَيَحْنَثُ وقال الْمُعَلَّى عن مُحَمَّدٍ إذَا حَلَفَ لَا يَبِيعُ هذا الثَّوْبَ بِعَشَرَةٍ إلَّا بِزِيَادَةٍ قال إنْ بَاعَهُ بِأَقَلَّ من عَشَرَةٍ أو بِعَشَرَةٍ فإنه حَانِثٌ وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ لَا أَبِيعُهُ إلَّا بِزِيَادَةٍ على عَشَرَةٍ لِأَنَّهُ مَنَعَ نَفْسَهُ من كل بَيْعٍ وَاسْتَثْنَى بَيْعًا وَاحِدًا وهو الذي يَزِيدُ ثَمَنُهُ على عَشَرَةٍ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ لَا أَبِيعُ هذا الثَّوْبَ بِعَشَرَةٍ إلَّا بِزِيَادَةٍ أَيْ لَا أَبِيعُهُ إلَّا بِزِيَادَةٍ على الْعَشَرَةِ لِيَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ وما بَاعَهُ بِزِيَادَةٍ على عَشَرَةٍ فَيَحْنَثَ

وَلَوْ قال حتى ازْدَادَ فَبَاعَهُ بِعَشَرَةٍ حَنِثَ وَإِنْ بَاعَهُ بِأَقَلَّ أو أَكْثَرَ لم يَحْنَثْ لِأَنَّهُ حَلَفَ على بَيْعٍ بِصِفَةٍ وهو أَنْ يَكُونَ بِعَشَرَةٍ فإذا بَاعَ بِتِسْعَةٍ لم يُوجَدْ الْبَيْعُ الْمَحْلُوفُ عليه وَلَوْ قال عَبْدُهُ حُرٌّ إنْ اشْتَرَاهُ بِاثْنَيْ عَشَرَ فَاشْتَرَاهُ بِثَلَاثَةَ عَشَرَ دِينَارًا حَنِثَ لِأَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِمَا حَلَفَ عليه وَإِنْ كان معه زِيَادَةٌ‏.‏

وَلَوْ قال أَوَّلُ عَبْدٍ أَشْتَرِيهِ فَهُوَ حُرٌّ أو آخِرُ عَبْدٍ أو أَوْسَطُ عَبْدٍ فَالْأَوَّلُ اسْمٌ لِفَرْدٍ سَابِقٍ وَالْآخِرُ من الْمُحْدَثَاتِ اسْمٌ لِفَرْدٍ لَاحِقٍ وَالْأَوْسَطُ اسْمٌ لِفَرْدٍ اكْتَنَفَتْهُ حَاشِيَتَانِ مُتَسَاوِيَتَانِ إذَا عُرِفَ هذا فَنَقُولُ إذَا قال أَوَّلُ عَبْدٍ أَشْتَرِيهِ فَهُوَ حُرٌّ فَاشْتَرَى عَبْدًا وَاحِدًا بَعْدَ يَمِينِهِ عَتَقَ لِأَنَّهُ أَوَّلُ عَبْدٍ اشْتَرَاهُ لِكَوْنِهِ فَرْدًا لم يَتَقَدَّمْهُ غَيْرُهُ في الشِّرَاءِ فَإِنْ اشْتَرَى عَبْدًا وَنِصْفَ عَبْدٍ عَتَقَ الْعَبْدُ الْكَامِلُ لَا غَيْرُ لِأَنَّ نِصْفَ الْعَبْدِ لَا يُسَمَّى عَبْدًا فَصَارَ كما لو اشْتَرَى عَبْدًا وَثَوْبًا بِخِلَافِ ما إذَا قال أَوَّلُ كُرٍّ اشتريه صَدَقَةٌ فَاشْتَرَى كُرًّا وَنِصْفًا لم يَتَصَدَّقْ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْكُرَّ ليس بِأَوَّلٍ بِدَلِيلِ أَنَّا لو عَزَلْنَا كُرًّا فَالنِّصْفُ الْبَاقِي مع نِصْفِ الْمَعْزُولِ يُسَمَّى كُرًّا فلم يَكُنْ هذا أَوَّلَ كُرٍّ اشْتَرَاهُ فَإِنْ كان أَوَّلَ ما اشْتَرَى عَبْدَيْنِ لم يَعْتِقْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا وَلَا يَعْتِقُ ما اشْتَرَى بَعْدَهُمَا أَيْضًا لِانْعِدَامِ مَعْنَى الِانْفِرَادِ فِيهِمَا وَلِانْعِدَامِ مَعْنَى السَّبْقِ فِيمَا بَعْدَهُمَا وَلَوْ قال آخِرُ عَبْدٍ اشتريه فَهُوَ حُرٌّ فَهَذَا على أَنْ يَشْتَرِيَ عَبْدًا وَاحِدًا بَعْدَ غَيْرِهِ أو بموت ‏[‏يموت‏]‏ الْمَوْلَى لِأَنَّ عِنْدَهُ يُعْلَمُ أَنَّهُ آخِرٌ لِجَوَازِ أَنْ يَشْتَرِيَ غَيْرَهُ ما دَامَ حَيًّا وَاخْتُلِفَ في وَقْتِ عِتْقِهِ فَعَلَى قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ يَعْتِقُ يوم اشْتَرَاهُ حتى يَعْتِقَ من جَمِيعِ الْمَالِ وَعَلَى قَوْلِهِمَا يَعْتِقُ في آخِرِ جُزْءٍ من أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ وَيَعْتِقُ من الثُّلُثِ وَسَنَذْكُرُ هذه الْمَسَائِلَ في كتاب الْعَتَاقِ‏.‏

وَلَوْ قال أَوْسَطُ عَبْدٍ اشتريه فَهُوَ حُرٌّ فَكُلُّ فَرْدٍ له حَاشِيَتَانِ مُتَسَاوِيَتَانِ فِيمَا قِبَلَهُ وَفِيمَا بَعْدَهُ فَهُوَ أَوْسَطُ وَلَا يَكُونُ الْأَوَّلُ وَلَا الْآخِرُ وَسَطًا أَبَدًا وَلَا يَكُونُ الْوَسَطُ إلَّا في وِتْرٍ وَلَا يَكُونُ في شَفْعٍ فإذا اشْتَرَى عَبْدًا ثُمَّ عَبْدًا ثُمَّ عَبْدًا فَالثَّانِي هو الْأَوْسَطُ فَإِنْ اشْتَرَى رَابِعًا خَرَجَ الثَّانِي من أَنْ يَكُونَ أَوْسَطَ فَإِنْ اشْتَرَى خَامِسًا صَارَ الثَّالِثُ هو الْأَوْسَطَ فَإِنْ اشْتَرَى سَادِسًا خَرَجَ من أَنْ يَكُونَ أَوْسَطَ وَعَلَى هذا كُلَّمَا صَارَ الْعَدَدُ شَفْعًا فَلَا وَسَطَ له وَكُلُّ من حَصَلَ في النِّصْفِ الْأَوَّلِ خَرَجَ من أَنْ يَكُونَ وَسَطًا‏.‏

فصل الْحَلِفِ على أُمُورٍ مُتَفَرِّقَةٍ

وَأَمَّا الْحَلِفُ على أُمُورٍ مُتَفَرِّقَةٍ إذَا قال إنْ كانت هذه الْجُمْلَةُ حِنْطَةً فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ ثَلَاثًا فإذا هِيَ حِنْطَةٌ وَتَمْرٌ لم يَحْنَثْ لِأَنَّهُ جَعَلَ شَرْطَ حِنْثِهِ كَوْنَ الْجُمْلَةِ حِنْطَةً وَالْجُمْلَةُ لَيْسَتْ بِحِنْطَةٍ فلم يُوجَدْ الشَّرْطُ وَلَوْ قال إنْ كانت هذه الْجُمْلَةُ إلَّا حِنْطَةً فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَكَانَتْ تَمْرًا وَحِنْطَةً يَحْنَثُ في قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَلَا يَحْنَثُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَإِنْ كانت الْجُمْلَةُ كُلُّهَا حِنْطَةً لَا يَحْنَثُ بِلَا خِلَافٍ وأبو يُوسُفَ يقول إنَّ مَعْنَى هذا الْكَلَامِ إنْ كان في هذه الْجُمْلَةِ غَيْرُ حِنْطَةٍ فَامْرَأَتُهُ كَذَا وقد تَبَيَّنَ أَنَّ في تِلْكَ الْجُمْلَةِ غير حِنْطَةٍ فَوُجِدَ شَرْطُ الْحِنْثِ فَيَحْنَثُ وَمُحَمَّدٌ يقول إنَّ الْمُسْتَثْنَى لَا يُعْتَبَرُ وُجُودُهُ لِأَنَّهُ ليس بِدَاخِلٍ تَحْتَ الْيَمِينِ إنَّمَا الدَّاخِلُ تَحْتَهَا الْمُسْتَثْنَى منه فَيُعْتَبَرُ وُجُودُهُ لَا وُجُودُ الْمُسْتَثْنَى وإذا لم يُعْتَبَرْ وُجُودُهُ لَا يُعْلَمُ الْمُسْتَثْنَى منه أَنَّهُ وُجِدَ أَمْ لَا فَلَا يَحْنَثُ وَنَظِيرُ هذا ما قال في الْجَامِعِ إنْ كان لي إلَّا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ فَكَانَ له أَقَلُّ من عَشَرَةِ دَرَاهِمَ لم يَحْنَثْ لِأَنَّ الْعَشَرَةَ مُسْتَثْنَاةٌ فَلَا يُعْتَبَرُ وُجُودُهَا وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ إنْ كان الْحَلِفُ بِطَلَاقٍ أو عَتَاقٍ أو حَجٍّ أو عُمْرَةٍ أو قال لِلَّهِ عَلَيَّ كَذَا يَحْنَثُ وَإِنْ كان بِاَللَّهِ تَعَالَى لم يَلْزَمْهُ الْكَذِبُ فيها وَلَا كَفَّارَةَ عليه لِأَنَّ هذا حَلِفٌ على أَمْرٍ مَوْجُودٍ فَإِنْ كان بِطَلَاقٍ أو عَتَاقٍ أو نَذْرٍ لَزِمَهُ وَإِنْ كان بِاَللَّهِ لم تَنْعَقِدْ يَمِينُهُ وَكَذَلِكَ لو قال إنْ كانت الْجُمْلَةُ سِوَى الْحِنْطَةِ أو غير الْحِنْطَةِ فَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ إلَّا حِنْطَةً لِأَنَّ غير وَسِوَى من أَلْفَاظِ الِاسْتِثْنَاءِ وَرَوَى بِشْرٌ عن أبي يُوسُفَ فِيمَنْ قال وَاَللَّهِ ما دَخَلْت هذه الدَّارَ ثُمَّ قال عَبْدُهُ حُرٌّ إنْ لم يَكُنْ دَخَلَهَا فإن عَبْدَهُ لَا يَعْتِقُ وَلَا كَفَّارَةَ عليه في الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وهو قَوْلَ مُحَمَّدٍ ثُمَّ رَجَعَ أبو يُوسُفَ‏.‏

أَمَّا عَدَمُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ في الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَلِأَنَّهُ إنْ كان صَادِقًا في قَوْلِهِ وَاَللَّهِ ما دَخَلْت هذه الدَّارَ فَلَا كَفَّارَةَ عليه وَإِنْ كان كَاذِبًا وهو عَالِمٌ فَلَا كَفَّارَةَ عليه أَيْضًا لِأَنَّهَا يَمِينُ غَمُوسٍ وَإِنْ كان جَاهِلًا فَهِيَ يَمِينُ اللَّغْوِ فَلَا كَفَّارَةَ فيها وَأَمَّا عَدَمُ عِتْقِ عَبْدِهِ فَلِأَنَّ الْحِنْثَ في الْيَمِينِ الْأُولَى ليس مِمَّا يَحْكُمُ بِهِ الْحَاكِمُ حتى يَصِيرَ الْحُكْمُ بِهِ إكْذَابًا لِلثَّانِيَةِ لِأَنَّهَا يَمِينٌ بِاَللَّهِ تَعَالَى وأنها لَا تَدْخُلُ تَحْتَ حُكْمِ الْحَاكِمِ فلم يَصِرْ مُكَذَّبًا في الْيَمِينِ الثَّانِيَةِ بِالْيَمِينِ الْأُولَى في الْحُكْمِ فَلَا يَعْتِقُ الْعَبْدُ فَإِنْ كانت الْيَمِينُ الْأُولَى بِعِتْقٍ أو طَلَاقٍ حَنِثَ في الْيَمِينَيْنِ جميعا في قَوْلِ مُحَمَّدٍ وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ الْأَوَّلُ ثُمَّ رَجَعَ فقال إذَا قال بَعْدَمَا حَلَفَ بِالْأُولَى أوهمت أو نسيت ‏[‏همت‏]‏ أو حَلَفَ بِطَلَاقٍ آخَرَ أو عَتَاقٍ أَنَّهُ دَخَلَهَا لَزِمَهُ الْأَوَّلُ ولم يَلْزَمْهُ الْآخَرُ وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ أَكَذَبَ نَفْسَهُ في كل وَاحِدَةٍ كمن الْيَمِينَيْنِ بِالْأُخْرَى واعترف بِوُقُوعِ ما حَلَفَ عليه فَيَحْنَثُ وَجْهُ قول الْآخَرِ أَنَّهُ أَكَذَبَ نَفْسَهُ في الْيَمِينِ الْأُولَى بِالْآخِرَةِ ولم يُكْذِبْ نَفْسَهُ في الْيَمِينِ الثَّانِيَةِ بَعْدَمَا عَقَدَهَا والإكذاب ‏[‏والأكذب‏]‏ قبل عَقْدِهَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ فلم يَحْنَثْ فيها فَإِنْ رَجَعَ فَحَلَفَ ثَالِثًا لم يَعْتِقْ الثَّالِثُ وَعَتَقَ الثَّانِي لِأَنَّهُ أَكَذَبَ نَفْسَهُ في الْيَمِينِ بَعْدَمَا حَلَفَ عليه وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ‏.‏

وإذا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ أَمَةً فقال لها إذَا مَاتَ مَوْلَاك فَأَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ فَمَاتَ الْمَوْلَى وهو وَارِثُهُ لَا وارث ‏[‏وراث‏]‏ له غَيْرُهُ طلقت ‏[‏طلق‏]‏ اثْنَتَيْنِ وَحَرُمَتْ عليه عِنْدَ أبي يُوسُفَ وقال مُحَمَّدٌ لَا تَطْلُقُ وَلَا تَحْرُمُ عليه وَلَوْ قال الزَّوْجُ إذَا مَاتَ مَوْلَاك فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَمَاتَ وهو وَارِثُهُ لم تعتق ‏[‏يعتق‏]‏ في قَوْلِهِمَا وَتَعْتِقُ عِنْدَ زُفَرَ وَالْكَلَامُ في هذه الْمَسَائِلِ يَرْجِعُ إلَى مَعْرِفَةِ أو إن ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْوَارِثِ فَزُفَرُ يقول وَقْتُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْوَارِثِ عَقِيبَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ بِلَا فصل فَكَمَا مَاتَ ثَبَتَ الْمِلْكُ لِلْوَارِثِ فَقَدْ أَضَافَ الْعِتْقَ إلَى حَالِ الْمِلْكِ فَتَصِحُّ إضَافَتُهُ إلَيْهِ ولم تَصِحَّ إضَافَةُ الطَّلَاقِ لِأَنَّ حَالَ الْمِلْكِ حَالُ زَوَالِ النِّكَاحِ فلم تَصِحَّ كما إذَا قال لها إذَا مَلَكْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ وأبو يُوسُفَ يقول إنَّ الْمِلْكَ لِلْوَارِثِ يَثْبُتُ له عَقِيبَ زَوَالِ مِلْكِ الْمُوَرِّثِ فَيَزُولُ مِلْكُ الْمَيِّتِ عَقِيبَ الْمَوْتِ أَوَّلًا ثُمَّ يَثْبُتُ لِلْوَارِثِ وَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ مُضَافَانِ إلَى ما بَعْدَ الْمَوْتِ بِلَا فصل فإذا لم يَكُنْ ذلك زَمَانُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْوَارِثِ لم تَصِحَّ إضَافَةُ الْعِتْقِ إلَيْهِ إذْ الْعِتْقُ لَا يَصِحُّ إلَّا في الْمِلْكِ أو مُضَافًا إلَى الْمِلْكِ وَصِحَّةُ إضَافَةِ الطَّلَاقِ لِانْعِدَامِ الْإِضَافَةِ إلَى حَالَةِ زَوَالِ النِّكَاحِ فَصَحَّتْ الْإِضَافَةُ وَوَقَعَ الطَّلَاقُ وَحَرُمَتْ عليه وَمُحَمَّدٌ يقول الْقِيَاسُ ما قال زُفَرُ أن الْمِلْكَ لِلْوَارِثِ له يَثْبُتُ عَقِيبَ الْمَوْتِ بِلَا فصل فَقَدْ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى زَمَانِ بُطْلَانِ النِّكَاحِ فلم يَصِحَّ وكان يَنْبَغِي أَنْ تَصِحَّ إضَافَةُ الْعِتْقِ إلَيْهِ إلَّا أني اسْتَحْسَنْتُ أَنْ لَا تَصِحَّ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ إزَالَةُ الْمِلْكِ وَالْإِزَالَةُ تَسْتَدْعِي تَقَدُّمَ الثُّبُوتِ وَالْعِتْقُ مع الْمِلْكِ لَا يَجْتَمِعَانِ في مَحَلٍّ وَاحِدٍ في زَمَانٍ وَاحِدٍ‏.‏

وَلَوْ قال إذَا مَاتَ مَوْلَاك فَمَلَكْتُك فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَمَاتَ الْمَوْلَى وَالزَّوْجُ وَارِثُهُ عَتَقَتْ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْعِتْقَ إلَى الْمِلْكِ وَلَوْ قال إذَا مَاتَ مَوْلَاك فَمَلَكْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ لم يَقَعْ الطَّلَاقُ في قَوْلِهِمْ لِأَنَّهُ إذَا مَلَكَهَا فَقَدْ زَالَ النِّكَاحُ فَلَا يُتَصَوَّرُ الطَّلَاقُ وَلَوْ قال رَجُلٌ لِأَمَتِهِ إذَا مَاتَ فُلَانٌ فَأَنْتِ حُرَّةٌ ثُمَّ بَاعَهَا من فُلَانٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا ثُمَّ قال لها إذَا مَاتَ مَوْلَاك فَأَنْتِ طَالِقٌ اثنتين ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى وهو وَارِثُهُ قال أبو يُوسُفَ يَقَعُ الطَّلَاقُ وَلَا يَقَعُ الْعَتَاقُ وقال مُحَمَّدٌ لَا يَقَعَانِ جميعا وقال زُفَرُ يَقَعُ الْعَتَاقُ وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ أَمَّا وُقُوعُ الطَّلَاقِ على قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَعَدَمُ الْوُقُوعِ على مَذْهَبِ مُحَمَّدٍ وَعَدَمُ ثُبُوتِ الْعِتْقِ على قَوْلِهِمَا فَلِمَا ذَكَرْنَا وَزُفَرُ يقول وُجِدَ عَقْدُ الْيَمِينِ في مِلْكِهِ وَالشَّرْطُ في مِلْكِهِ فما بين ذلك لَا يُعْتَبَرُ كَمَنْ قال لِأَمَتِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ حُرَّةٌ ثُمَّ بَاعَهَا وَاشْتَرَاهَا فَدَخَلَتْ الدَّارَ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ‏.‏

كتاب الطَّلَاقِ

قال الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْكَلَامُ في هذا الْكتاب في الْأَصْلِ يَقَعُ في خَمْسَةِ مَوَاضِعَ في بَيَانِ صِفَةِ الطَّلَاقِ وفي بَيَانِ قَدْرِهِ وفي بَيَانِ رُكْنِهِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وفي بَيَانِ حُكْمِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَالطَّلَاقُ بِحَقِّ الصِّفَةِ نَوْعَانِ طَلَاقُ سُنَّةٍ وَطَلَاقُ بِدْعَةٍ وَإِنْ شِئْت قُلْتَ طَلَاقٌ مَسْنُونٌ وَطَلَاقٌ مَكْرُوهٌ أَمَّا طَلَاقُ السُّنَّةِ فَالْكَلَامُ فيه في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في تَفْسِيرِ طَلَاقِ السُّنَّةِ أَنَّهُ ما هو وَالثَّانِي في بَيَانِ الْأَلْفَاظِ التي يَقَعُ بها طَلَاقُ السُّنَّةِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَطَلَاقُ السُّنَّةِ نَوْعَانِ نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْوَقْتِ وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْعَدَدِ وكد ‏[‏وكل‏]‏ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَوْعَانِ حَسَنٌ وَأَحْسَنُ وَلَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ أَصْنَافِ النِّسَاءِ وَهُنَّ في الْأَصْلِ على صِنْفَيْنِ حَرَائِرُ وَإِمَاءٌ وَكُلُّ صِنْفٍ على صِنْفَيْنِ حَائِلَاتٌ وَحَامِلَاتٌ وَالْحَائِلَاتُ على صِنْفَيْنِ ذَوَاتُ الأقراء وَذَوَاتُ الْأَشْهُرِ إذَا عُرِفَ هذا فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ أَحْسَنُ الطَّلَاقِ في ذَوَاتِ الْقُرْءِ أَنْ يُطَلِّقَهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً في طُهْرٍ لَا جِمَاعَ فيه وَلَا طَلَاقَ وَلَا في حَيْضَةِ طَلَاقٍ وَلَا جِمَاعٍ وَيَتْرُكُهَا حتى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا ثَلَاثُ حَيْضَاتٍ إنْ كانت حُرَّةً وَإِنْ كانت أَمَةً حَيْضَتَانِ وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ عن إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قال كان أَصْحَابُ رسول اللَّهِ يَسْتَحْسِنُونَ أَنْ لَا يُطَلِّقُوا لِلسُّنَّةِ إلَّا وَاحِدَةً ثُمَّ لَا يُطَلِّقُوا غير ذلك حتى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ وفي رِوَايَةٍ أُخْرَى قال في الْحِكَايَةِ عَنْهُمْ وكان ذلك عِنْدَهُمْ أَحْسَنُ من أَنْ يُطَلِّقَ الرَّجُلُ ثَلَاثَةً في ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ‏.‏

وَهَذَا نَصٌّ في الْباب وَمِثْلُهُ لَا يَكْذِبُ وَلِأَنَّ الْكَرَاهَةَ لِمَكَانِ احْتِمَالِ النَّدَمِ وَالطَّلَاقُ في طُهْرٍ لَا جِمَاعَ فيه دَلِيلٌ على عَدَمِ النَّدَمِ لِأَنَّ الطُّهْرَ الذي لَا جِمَاعَ فيه زَمَانُ كَمَالِ الرَّغْبَةِ وَالْفَحْلُ لَا يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ في زَمَانِ كَمَالِ الرَّغْبَةِ إلَّا لِشِدَّةِ حَاجَتِهِ إلَى الطَّلَاقِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ النَّدَمُ فَكَانَ طلاقه ‏[‏طلاق‏]‏ لِحَاجَةٍ فَكَانَ مَسْنُونًا وَلَوْ لَحِقَهُ النَّدَمُ فَهُوَ أَقْرَبُ إلَى التَّدَارُكِ من الثَّلَاثِ في ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ فَكَانَ أَحْسَنَ وَإِنَّمَا شرطنا ‏[‏شرطا‏]‏ أَنْ يَكُونَ في طُهْرٍ لَا طَلَاقَ فيه لِأَنَّ الْجَمْعَ بين الطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ أو الطَّلْقَتَيْنِ في طُهْرٍ وَاحِدٍ مَكْرُوهٌ عِنْدَنَا وَإِنَّمَا شَرَطْنَا أَنْ لَا يَكُونَ في حَيْضَةِ جِمَاعٍ وَلَا طَلَاقَ لِأَنَّهُ إذَا جَامَعَهَا في حَيْضِ هذا الطُّهْرِ اُحْتُمِلَ أَنَّهُ وَقَعَ الْجِمَاعُ مُعَلَّقًا فَيَظْهَرُ الْحَبَلُ فَيَنْدَمُ على صَنِيعِهِ فَيَظْهَرُ أَنَّهُ طَلَّقَ لَا لِحَاجَةٍ وإذا طَلَّقَهَا فيه فَالطَّلَاقُ فيه بِمَنْزِلَةِ الطَّلَاقِ في الطُّهْرِ الذي بَعْدَهُ لِأَنَّ تِلْكَ الْحَيْضَةَ لَا يُعْتَدُّ بها وَلَوْ طَلَّقَهَا في الطُّهْرِ يُكْرَه له أَنْ يُطَلِّقَهَا أُخْرَى فيه فَكَذَا إذَا طَلَّقَهَا في الْحَيْضِ ثُمَّ طَهُرَتْ وَأَمَّا في الْحَامِلِ إذَا اسْتَبَانَ حَمْلُهَا فَالْأَحْسَنُ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً وَإِنْ كان قد جَامَعَهَا وَطَلَّقَهَا عَقِيبَ الْجِمَاعِ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ في ذَوَاتِ الْقُرْءِ لِاحْتِمَالِ النَّدَامَةِ لَا لِاحْتِمَالِ الْحَبَلِ فَمَتَى طَلَّقَهَا مع عِلْمِهِ بِالْحَبَلِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَنْدَمُ وَكَذَلِكَ في ذَوَاتِ الشَّهْرِ من الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ الْأَحْسَنُ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً وَإِنْ كان عَقِيبَ طُهْرٍ جَامَعَهَا فيه وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وقال زُفَرُ يُفصل بين طَلَاقِ الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ وَبَيْنَ جِمَاعِهِمَا بِشَهْرٍ‏.‏

وَجْهُ قَوْلِهِ أن الشَّهْرَ في حَقِّ الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ أُقِيمَ مَقَامَ الْحَيْضَةِ فِيمَنْ تَحِيضُ ثُمَّ يُفصل في طَلَاقِ السُّنَّةِ بين الْوَطْءِ وَبَيْنَ الطَّلَاقِ بِحَيْضَةٍ فَكَذَا يُفصل بَيْنَهُمَا فِيمَنْ لَا تَحِيضُ بِشَهْرٍ كما يُفصل بين التَّطْلِيقَتَيْنِ وَلَنَا أَنَّ كَرَاهَةَ الطَّلَاقِ في الطُّهْرِ الذي وُجِدَ الْجِمَاعُ فيه في ذَوَاتِ الأقراء لِاحْتِمَالِ أَنْ تَحْبَلَ بِالْجِمَاعِ فَيَنْدَمَ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ في الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ وَإِنْ وُجِدَ الْجِمَاعُ وَلِأَنَّ الْإِيَاسَ وَالصِّغَرَ في الدَّلَالَةِ على بَرَاءَةِ الرَّحِمِ فَوْقَ الْحَيْضَةِ في ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ فلما جَازَ الْإِيقَاعُ ثَمَّةَ عَقِيبَ الْحَيْضَةِ فَلَأَنْ يَجُوزَ هُنَا عَقِيبَ الْجِمَاعِ أَوْلَى وَأَمَّا الْحُسْنُ في الْحُرَّةِ التي هِيَ ذَاتُ الْقُرْءِ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا في ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ لَا جِمَاعَ فيها بِأَنْ يُطَلِّقَهَا وَاحِدَةً في طُهْرٍ لَا جِمَاعَ فيه ثُمَّ إذَا حَاضَتْ حَيْضَةً أُخْرَى وَطَهُرَتْ طَلَّقَهَا أُخْرَى ثُمَّ إذَا حَاضَتْ وَطَهُرَتْ طَلَّقَهَا أُخْرَى وَإِنْ كانت أَمَةً طَلَّقَهَا وَاحِدَةً ثُمَّ إذَا حَاضَتْ وَطَهُرَتْ طَلَّقَهَا أُخْرَى وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وقال مَالِكٌ لَا أَعْرِفُ طَلَاقَ السُّنَّةِ إلَّا أَنْ يُطَلِّقَهَا وَاحِدَةً وَيَتْرُكَهَا حتى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا وَجْهُ قَوْلِهِ أن الطَّلَاقَ الْمَسْنُونَ هو الطَّلَاقُ لِحَاجَةٍ وَالْحَاجَةُ تَنْدَفِعُ بِالطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ فَكَانَتْ الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ في الطُّهْرِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ تَطْلِيقًا من غَيْرِ حَاجَةٍ فَيُكْرَهُ لِهَذَا أَكْرَهُ الْجَمْعَ كَذَا التَّفْرِيقُ إذْ كُلُّ ذلك طَلَاقٌ من غَيْرِ حَاجَةٍ‏.‏

وَلَنَا قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ‏}‏أَيْ ثَلَاثًا في ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ كَذَا فَسَّرَهُ رسول اللَّهِ فإنه روى أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما طَلَّقَ امْرَأَتَهُ حَالَةَ الْحَيْضِ فَسَأَلَ عن ذلك رَسُولَ اللَّهِ فقال النبي صلى الله عليه وسلم أَخْطَأْتَ السُّنَّةَ ما هَكَذَا أَمَرَكَ رَبُّكَ إنَّ من السُّنَّةِ أَنْ تَسْتَقْبِلَ الطُّهْرَ اسْتِقْبَالًا فَتُطَلِّقَهَا لِكُلِّ طُهْرٍ تَطْلِيقَةً فَتِلْكَ الْعِدَّةُ التي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُطَلَّقَ لها النِّسَاءُ فَسَّرَ رسول اللَّهِ الطَّلَاقَ لِلْعِدَّةِ بِالثَّلَاثِ في ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ وَاَللَّهُ عز وجل أَمَرَ بِهِ وَأَدْنَى دَرَجَاتِ الْأَمْرِ للندب ‏[‏الندب‏]‏ وَالْمَنْدُوبُ إلَيْهِ يَكُونُ حَسَنًا وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ نَصَّ على كَوْنِهِ سُنَّةً حَيْثُ قال إنَّ من السُّنَّةِ أَنْ تَسْتَقْبِلَ الطُّهْرَ اسْتِقْبَالًا فَتُطَلِّقَهَا لِكُلِّ طُهْرٍ تَطْلِيقَةً وَالدَّلِيلُ عليه ما رُوِيَ عن إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ في حِكَايَتِهِ عن الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ وكان ذلك عِنْدَهُمْ أَحْسَنَ من أَنْ يُطَلِّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا في ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ وإذا كان ذلك أَحْسَنُ من هذا كان هذا حَسَنًا في نَفْسِهِ ضَرُورَةً‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ تَطْلِيقٌ من غَيْرِ حَاجَةٍ فَمَمْنُوعٌ فإن الْإِنْسَانَ قد يَحْتَاجُ إلَى حَسْمِ باب نِكَاحِ امْرَأَتِهِ على نَفْسِهِ لِمَا ظَهَرَ له أَنَّ نِكَاحَهَا ليس بِسَبَبِ الْمَصْلَحَةِ له دُنْيَا وَدِينًا لَكِنْ يَمِيلُ قَلْبُهُ إلَيْهَا لِحُسْنِ ظَاهِرِهَا فَيَحْتَاجُ إلَى الْحَسْمِ على وَجْهٍ يَنْسَدُّ باب الْوُصُولِ إلَيْهَا وَلَا يَلْحَقُهُ النَّدَمُ ولا ‏[‏غلا‏]‏ يُمْكِنُهُ دَفْعُ هذه الْحَاجَةِ بِالثَّلَاثِ جُمْلَةً وَاحِدَةً لِأَنَّهَا تُعَقِّبُ النَّدَمَ عَسَى وَلَا يُمْكِنُهُ التَّدَارُكُ فَيَقَعَ في الزِّنَا فَيَحْتَاجَ إلَى إيقَاعِ الثَّلَاثِ في ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ فَيُطَلِّقَهَا تَطْلِيقَةً رَجْعِيَّةً في طُهْرٍ لَا جِمَاعَ فيه وَيُجَرِّبُ نَفْسَهُ أن هل يُمْكِنُهُ الصَّبْرُ عنها فَإِنْ لم يُمْكِنْهُ رَاجَعَهَا وَإِنْ أَمْكَنَهُ طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً أُخْرَى في الطُّهْرِ الثَّانِي وَيُجَرِّبُ نَفْسَهُ ثُمَّ يُطَلِّقُهَا ثَالِثَةً في الطُّهْرِ الثَّالِثِ فَيَنْحَسِمُ باب النِّكَاحِ عليه من غَيْرِ نَدَمٍ يَلْحَقُهُ ظَاهِرًا أو غَالِبًا فَكَانَ إيقَاعُ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ في الطُّهْرِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ طَلَاقًا لِحَاجَةٍ فَكَانَ مَسْنُونًا على أَنَّ الْحُكْمَ تَعَلَّقَ بِدَلِيلِ الْحَاجَةِ لَا بِحَقِيقَتِهَا لِكَوْنِهَا أَمْرًا بَاطِنًا لَا يُوقَفُ عليه إلَّا بِدَلِيلٍ فَيُقَامُ الطُّهْرُ الْخَالِي عن الْجِمَاعِ مَقَامَ الْحَاجَةِ إلَى الطَّلَاقِ فَكَانَ تَكْرَارُ الطُّهْرِ دَلِيلَ تَجَدُّدِ الْحَاجَةِ فَيُبْنَى الْحُكْمُ عليه ثُمَّ إذَا وَقَعَ عليها ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ في ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ فَقَدْ مَضَى من عِدَّتِهَا حَيْضَتَانِ إنْ كانت حُرَّةً لِأَنَّ الْعِدَّةَ بِالْحَيْضِ عِنْدَنَا وَبَقِيَتْ حَيْضَةٌ وَاحِدَةٌ فإذا حَاضَتْ حَيْضَةً أُخْرَى فَقَدْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَإِنْ كانت أَمَةً فَإِنْ وَقَعَ عليها تَطْلِيقَتَانِ في طُهْرَيْنِ فَقَدْ مَضَتْ من عِدَّتِهَا حَيْضَةٌ وَبَقِيَتْ حَيْضَةٌ وَاحِدَةٌ فإذا حَاضَتْ حَيْضَةً أُخْرَى فَقَدْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَإِنْ كانت من ذَوَاتِ الْأَشْهُرِ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً وإذا مَضَى شَهْرٌ طَلَّقَهَا أُخْرَى ثُمَّ إذَا مَضَى شَهْرٌ طَلَّقَهَا أُخْرَى ثُمَّ إذَا كانت حُرَّةً فَوَقَعَ عليها ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ وَمَضَى من عِدَّتِهَا شَهْرَانِ وَبَقِيَ شَهْرٌ وَاحِدٌ من عِدَّتِهَا فإذا مَضَى شَهْرٌ آخَرُ فَقَدْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا‏.‏

وَإِنْ كانت أَمَةً وَوَقَعَ عليها تَطْلِيقَتَانِ في شَهْرٍ وَبَقِيَ من عِدَّتِهَا نِصْفُ شَهْرٍ فإذا مَضَى نِصْفُ شَهْرٍ فَقَدْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَإِنْ كانت حَامِلًا فَكَذَلِكَ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يُطَلِّقُهَا ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ وَيَفصل بين كل طَلَاقَيْهَا بِشَهْرٍ وقال مُحَمَّدٌ لَا يُطَلِّقُ الْحَامِلَ لِلسُّنَّةِ إلَّا طَلْقَةً وَاحِدَةً وهو قَوْلُ زُفَرَ وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ في الْأَصْلِ بَلَغَنَا ذلك عن عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ وَجَابِرِ بن عبد اللَّهِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وَلَا خِلَافَ في أَنَّ الْمُمْتَدَّ طُهْرُهَا لَا تَطْلُقُ لِلسُّنَّةِ إلَّا وَاحِدَةً وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ أَنَّ إبَاحَةَ التَّفْرِيقِ في الشَّرْعِ مُتَعَلِّقَةٌ بِتَجَدُّدِ فُصُولِ الْعِدَّةِ لِأَنَّ كُلَّ قُرْءٍ في ذَوَاتِ الأقراء فصل من فُصُولِ الْعِدَّةِ وَكُلَّ شَهْرٍ في الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ فصل من فُصُولِ الْعِدَّةِ وَمُدَّةُ الْحَمْلِ كُلُّهَا فصل وَاحِدٌ من الْعِدَّةِ لِتَعَذُّرِ الِاسْتِبْرَاءِ بِهِ في حَقِّ الْحَامِلِ فلم يَكُنْ في مَعْنَى مَوْرِدِ الشَّرْعِ فَلَا يُفصل بِالشَّهْرِ وَلِهَذَا لم يُفصل في الْمُمْتَدِّ طُهْرُهَا بِالشَّهْرِ كَذَا هَهُنَا

وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أو تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ‏}‏شَرَعَ الثَّلَاثَ مُتَفَرِّقَاتٍ من غَيْرِ فصل بين الْحَامِلِ وَالْحَائِلِ أَمَّا شَرْعِيَّةُ طَلْقَةٍ وَطَلْقَةٍ فَبِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ‏}‏لِأَنَّ مَعْنَاهُ دَفْعَتَانِ على ما نَذْكُرُ إن شاء الله تعالى‏.‏ وَشَرْعِيَّةُ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ بِقَوْلِهِ عز وجل‏:‏ ‏{‏أو تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ‏}‏أو بِقَوْلِهِ عز وجل‏:‏ ‏{‏فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ له من بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ‏}‏من غَيْرِ فصل وَلِأَنَّ الْحَامِلَ لَيْسَتْ من ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ فَيُفصل بين طَلَاقَيْهَا بِشَهْرٍ كَالْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ وَالْجَامِعُ أَنَّ الْفصل هُنَاكَ بِشَهْرٍ لِكَوْنِ الشَّهْرِ زَمَانَ تَجَدُّدِ الرَّغْبَةِ في الْعَادَةِ فَيَكُونُ زَمَانَ تَجَدُّدِ الْحَاجَةِ وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ في الْحَامِلِ فَيَفصل فَأَمَّا كَوْنُ الشَّهْرِ فصلا من فُصُولِ الْعِدَّةِ فَلَا أَثَرَ له فَكَانَ من أَوْصَافِ الْوُجُودِ لَا من أَوْصَافِ التَّأْثِيرِ إنَّمَا الْمُؤَثِّرُ ما ذَكَرْنَا فَيَنْبَنِي الْحُكْمُ عليه وما ذَكَرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ في الْأَصْلِ لَا حُجَّةَ له فيه لِأَنَّ لَفْظَ الحديث أَفْضَلُ طَلَاقِ الْحَامِلِ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَاحِدَةً ثُمَّ يَدَعَهَا حتى تَضَعَ حَمْلَهَا وَبِهِ نَقُولُ إنَّ ذلك أَفْضَلُ وَلَا كَلَامَ فيه‏.‏ وَأَمَّا الْمُمْتَدُّ طُهْرُهَا فَإِنَّمَا لَا تَطْلُقُ لِلسَّنَةِ إلَّا وَاحِدَةً لِأَنَّهَا من ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ لِأَنَّهَا قد رَأَتْ الدَّمَ وَهِيَ شَابَّةٌ لم تَدْخُلْ في حَدِّ الْإِيَاسِ إلَّا أَنَّهُ امْتَدَّ طُهْرُهَا لِدَاءٍ فيها يَحْتَمِلُ الزَّوَالَ سَاعَةً فَسَاعَةً فَبَقِيَ أَحْكَامُ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ فيها وَلَا تَطْلُقُ ذَوَاتُ الْأَقْرَاءِ في طُهْرٍ لَا جِمَاعَ فيه لِلسُّنَّةِ إلَّا وَاحِدَةً وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ‏.‏

وَلَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً في طُهْرٍ لَا جِمَاعَ فيه ثُمَّ رَاجَعَهَا بِالْقَوْلِ في ذلك الطُّهْرِ فَلَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا في ذلك الطُّهْرِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ وقال أبو يُوسُفَ لَا يُطَلَّقُ في ذلك الطُّهْرِ لِلسُّنَّةِ وهو قَوْلُ الْحَسَنِ بن زِيَادٍ وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ مُضْطَرِبٌ ذَكَرَهُ أبو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ مع قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَذَكَرَهُ الْفَقِيهُ أبو اللَّيْثِ مع قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَلَوْ أَبَانَهَا في طُهْرٍ لم يُجَامِعْهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَلَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا في ذلك الطُّهْرِ بِالْإِجْمَاعِ وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أن الطُّهْرَ طُهْرٌ وَاحِدٌ وَالْجَمْعُ بين طَلَاقَيْنِ في طُهْرٍ وَاحِدٍ لَا يَكُونُ سُنَّةً كما قبل الرَّجْعَةِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَمَّا رَاجَعَهَا فَقَدْ أَبْطَلَ حُكْمَ الطَّلَاقِ وَجَعَلَ الطَّلَاقَ كَأَنَّهُ لم يَكُنْ في حَقِّ الْحُكْمِ وَلِأَنَّهَا عَادَتْ إلَى الْحَالَةِ الْأَوْلَى بِسَبَبٍ من جِهَتِهِ فَكَانَ له أَنْ يُطَلِّقَهَا أُخْرَى كما إذَا أَبَانَهَا في طُهْرٍ لم يُجَامِعْهَا فيه ثُمَّ تَزَوَّجَهَا وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا رَاجَعَهَا بِالْقُبْلَةِ أو بِاللَّمْسِ عن شَهْوَةٍ أو بِالنَّظَرِ إلَى فَرْجِهَا عن شَهْوَةٍ وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا أَمْسَكَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ بِشَهْوَةٍ فقال لها في حَالِ الْمُلَامَسَةِ بِشَهْوَةٍ بِأَنْ كان أَخَذَ بِيَدِهَا لِشَهْوَةٍ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ وَذَلِكَ في طُهْرٍ لم يُجَامِعْهَا فيه أَنَّهُ يَقَعُ عليها ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ على التَّعَاقُبِ لِلسُّنَّةِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَتَقَعُ التَّطْلِيقَةُ الْأَوْلَى وَيَصِيرُ مُرَاجِعًا لها بِالْإِمْسَاكِ عن شَهْوَةٍ ثُمَّ تَقَعُ الْأُخْرَى وَيَصِيرُ مُرَاجِعًا بِالْإِمْسَاكِ ثُمَّ تَقَعُ الثَّالِثَةُ‏.‏

وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ لَا يَقَعُ عليها لِلسُّنَّةِ إلَّا وَاحِدَةٌ وَالطَّلَاقَانِ الْبَاقِيَانِ إنَّمَا يَقَعَانِ في الطُّهْرَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ وَهَذَا إذَا رَاجَعَهَا بِالْقَوْلِ أو بِفِعْلِ الْمَسِّ عن شَهْوَةٍ فَأَمَّا إذَا رَاجَعَهَا بِالْجِمَاعِ بِأَنْ طَلَّقَهَا في طُهْرٍ لَا جِمَاعَ فيه ثُمَّ جَامَعَهَا حتى صَارَ مُرَاجِعًا لها ثُمَّ إذاأراد أَنْ يُطَلِّقَهَا في ذلك الطُّهْرِ ليس له ذلك بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ حُكْمَ الطَّلَاقِ قد بَطَلَ بِالْمُرَاجَعَةِ فَبَقِيَ ذلك الطُّهْرُ طُهْرًا مُبْتَدَأً جَامَعَهَا فيه فَلَا يَجُوزُ له أَنْ يُطَلِّقَهَا فيه هذا إذَا رَاجَعَهَا بِالْجِمَاعِ فلم تَحْمِلْ منه فَإِنْ حَمَلَتْ منه فَلَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا أُخْرَى في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ ليس له أَنْ يُطَلِّقَهَا حتى يَمْضِيَ شَهْرٌ من التَّطْلِيقَةِ الْأُولَى أبو يُوسُفَ يقول هذا طُهْرٌ وَاحِدٌ فَلَا يَجْمَعُ فيه بين طَلَاقَيْنِ كما في الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَهُمْ يَقُولُونَ إنَّ الرَّجْعَةَ أَبْطَلَتْ حُكْمَ الطَّلَاقِ وَأَلْحَقَتْهُ بِالْعَدَمِ وَكَرَاهَةُ الطَّلَاقِ في الطُّهْرِ الذي جَامَعَهَا فيه لِمَكَانِ النَّدَمِ لِاحْتِمَالِ الْحَمْلِ فإذا طَلَّقَهَا مع الْعِلْمِ بِالْحَمْلِ لَا يَنْدَمُ كما لو لم يَكُنْ طَلَّقَهَا في هذا الطُّهْرِ وَلَكِنَّهُ جَامَعَهَا فيه فَحَمَلَتْ كان له أَنْ يُطَلِّقَهَا لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا وَلَوْ طَلَّقَ الصغير ‏[‏الصغيرة‏]‏ تَطْلِيقَةً ثُمَّ حَاضَتْ وَطَهُرَتْ قبل مُضِيِّ شَهْرٍ فَلَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا أُخْرَى في قَوْلِهِمْ جميعا لِأَنَّهَا لَمَّا حَاضَتْ فَقَدْ بَطَلَ حُكْمُ الشَّهْرِ لِأَنَّ الشَّهْرَ في حَقِّهَا بَدَلٌ من الْحَيْضِ وَلَا حُكْمَ لِلْبَدَلِ مع وُجُودِ الْمُبْدَلِ وَأَمَّا إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ من ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ ثُمَّ أَيِسَتْ فَلَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا أُخْرَى حتى تَيْأَسَ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وقال أبو يُوسُفَ لَا يُطَلِّقُهَا حتى يَمْضِيَ شَهْرٌ‏.‏

وَجْهُ قَوْلِهِ أن هذا طُهْرٌ وَاحِدٌ فَلَا يَحْتَمِلُ طَلَاقَيْنِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ حُكْمَ الْحَيْضِ قد بَطَلَ بِالْيَأْسِ وَانْتَقَلَ حَالُهَا من الْعِدَّةِ بِالْحَيْضِ إلَى الْعِدَّةِ بِالْأَشْهُرِ وَذَلِكَ يَفصل بين التَّطْلِيقَتَيْنِ كَالِانْتِقَالِ من الشُّهُورِ إلَى الْحَيْضِ في حَقِّ الصَّغِيرَةِ وَهَذَا التَّفْرِيعُ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ على الرِّوَايَةِ التي قَدَّرَتْ لِلْإِيَاسِ حَدًّا مَعْلُومًا خَمْسِينَ سَنَةً أو سِتِّينَ سَنَةً فإذا تَمَّتْ هذه الْمُدَّةُ بَعْدَ التَّطْلِيقَةِ جَازَ له أَنْ يُطَلِّقَهَا أُخْرَى عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لِمَا ذَكَرْنَا فَأَمَّا على الرِّوَايَةِ التي لم تُقَدِّرْ للاياس مُدَّةً مَعْلُومَةً وَإِنَّمَا عَلَّقَتْهُ بِالْعَادَةِ فَلَا يُتَصَوَّرُ هذا التَّفْرِيعُ وَلَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ في حَالِ الْحَيْضِ ثُمَّ رَاجَعَهَا ثُمَّ أَرَادَ طَلَاقَهَا ذَكَرَ في الأصلأنها إذَا طَهُرَتْ ثُمَّ حَاضَتْ ثُمَّ طَهُرَتْ طَلَّقَهَا إنْ شَاءَ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ يُطَلِّقُهَا في الطُّهْرِ الذي يَلِي الْحَيْضَةَ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ ما ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ قَوْلَ أبي حَنِيفَةَ وما ذَكَرَهُ في الْأَصْلِ قَوْلُ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ‏.‏

وَجْهُ ما ذُكِرَ في الْأَصْلِ ما رُوِيَ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لِعُمَرَ رضي اللَّهُ عنه لَمَّا طَلَّقَ ابْنُهُ عبد اللَّهِ امْرَأَتَهُ في حَالَةِ الْحَيْضِ مُرْ ابْنَك فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ يَدَعْهَا إلَى أَنْ تَحِيضَ فَتَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ فَتَطْهُرَ ثُمَّ لِيُطَلِّقْهَا إنْ شَاءَ طَاهِرًا من غَيْرِ جِمَاعٍ أَمَرَهُ بِتَرْكِ الطَّلَاقِ إلَى غَايَةِ الطُّهْرِ الثَّانِي فَدَلَّ إن وَقْتَ طَلَاقِ السُّنَّةِ هو الطُّهْرُ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ وَلِأَنَّ الْحَيْضَةَ التي طَلَّقَهَا فيها غَيْرُ مَحْسُوبَةٍ من الْعِدَّةِ فَكَانَ إيقَاعُ الطَّلَاقِ فيها كَإِيقَاعِ الطَّلَاقِ في الطُّهْرِ الذي يَلِيهَا وَلَوْ طَلَّقَ في الطُّهْرِ الذي يَلِيهَا لم يَكُنْ له أَنْ يُطَلِّقَ فيه أخر ‏[‏أخرى‏]‏ كَذَا هذا وَجْهُ ما ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ هذا طُهْرٌ لَا جِمَاعَ فيه وَلَا طَلَاقَ حَقِيقَةً فَكَانَ له أَنْ يُطَلِّقَهَا فيه كَالطُّهْرِ الثَّانِي‏.‏

وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ رَوَيْنَا أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لِعَبْدِ اللَّهِ بن عُمَرَ أَخْطَأْتَ السُّنَّةَ ما هَكَذَا أَمَرَكَ اللَّهُ تَعَالَى إنَّ من السُّنَّةِ أَنْ تَسْتَقْبِلَ الطُّهْرَ اسْتِقْبَالًا فَتُطَلِّقَهَا لِكُلِّ طُهْرٍ تَطْلِيقَةً جَعَلَ الطَّلَاقَ في كل طُهْرٍ طَلَاقًا على وَجْهِ السُّنَّةِ وَالطُّهْرُ الذي يَلِي الْحَيْضَةَ طُهْرٌ فَكَانَ الْإِيقَاعُ فيه إيقَاعًا على وَجْهِ السُّنَّةِ فَيُجْمَعُ بين الرِّوَايَتَيْنِ فَتُحْمَلُ تِلْكَ الرِّوَايَةُ على الْأَحْسَنِ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِالتَّطْلِيقَةِ الْوَاحِدَةِ في طُهْرٍ وَاحِدٍ لإجماع فيه وَهَذَا أَحْسَنُ الطَّلَاقِ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ على الْحُسْنِ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالثَّلَاثِ في ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ جَمْعًا بين الرِّوَايَتَيْنِ عَمَلًا بِهِمَا جَمْعًا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ‏.‏

فصل بَيَانِ الْأَلْفَاظِ التي يَقَعُ بها طَلَاقُ السُّنَّةِ

وَأَمَّا بَيَانُ الْأَلْفَاظِ التي يَقَعُ بها طَلَاقُ السُّنَّةِ فَالْأَلْفَاظُ التي يَقَعُ بها طَلَاقُ السُّنَّةِ نَوْعَانِ نَصٌّ وَدَلَالَةٌ أَمَّا النَّصُّ فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا قال لِامْرَأَتِهِ وَهِيَ مَدْخُولٌ بها أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ وَلَا نِيَّةَ له فَإِنْ كانت من ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ وَقَعَتْ تَطْلِيقَةٌ لِلْحَالِ إنْ كانت طَاهِرًا من غَيْرِ جِمَاعٍ وَإِنْ كانت حَائِضًا أو في طُهْرٍ جَامَعَهَا فيه لم تَقَعْ السَّاعَةَ فإذا حَاضَتْ وَطَهُرَتْ وَقَعَتْ بها تَطْلِيقَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ إيقَاعُ تَطْلِيقَةٍ بِالسُّنَّةِ الْمُعَرَّفَةِ بِاللَّامِ لِأَنَّ اللَّامَ الْأُولَى لِلِاخْتِصَاصِ فَيَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ التَّطْلِيقَةُ مُخْتَصَّةً بِالسُّنَّةِ فإذا أَدْخَلَ لَامَ التَّعْرِيفِ في السُّنَّةِ فَيَقْتَضِي اسْتِغْرَاقَ السُّنَّةِ وَهَذَا يُوجِبُ تَمَحُّضُهَا سُنَّةً بِحَيْثُ لَا يَشُوبُهَا مَعْنَى الْبِدْعَةِ أو تَنْصَرِفُ إلَى السُّنَّةِ الْمُتَعَارَفَةِ فِيمَا بين الناس‏.‏

وَالسُّنَّةُ الْمُتَعَارَفَةُ الْمَعْهُودَةُ في باب الطَّلَاقِ ما لَا يَشُوبُهَا مَعْنَى الْبِدْعَةِ وَلَيْسَ ذلك إلَّا الْوَاقِعَ في طُهْرٍ لاجماع فيه وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا فَثَلَاثٌ لِأَنَّ التَّطْلِيقَةَ الْمُخْتَصَّةَ بِالسُّنَّةِ الْمُعَرَّفَةِ بلام التَّعْرِيفِ نَوْعَانِ حَسَنٌ وَأَحْسَنُ فَالْأَحْسَنُ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَاحِدَةً في طُهْرٍ لَا جِمَاعَ فيه وَالْحَسَنُ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا في ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ فإذا نَوَى الثَّلَاثَةَ فَقَدْ نَوَى أَحَدَ نَوْعَيْ التَّطْلِيقَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِالسُّنَّةِ فَتَصِحُّ نِيَّتُهُ كما لو قال أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ وَإِنْ أَرَادَ وَاحِدَةً بَائِنَةً لم تَكُنْ بَائِنَةً لِأَنَّ لَفْظَةَ الطَّلَاقِ لَا تَدُلُّ على الْبَيْنُونَةِ وَكَذَا لَفْظُ السُّنَّةِ بَلْ تَمْنَعُ ثُبُوتَ الْبَيْنُونَةِ لِأَنَّ الْإِبَانَةَ لَيْسَتْ بِمَسْنُونَةٍ على ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ‏.‏

وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَثْبُتَ بِاللَّفْظِ ما يَمْنَعُ ثُبُوتَهُ وَإِنْ نَوَى الثِّنْتَيْنِ لم يَكُنْ ثِنْتَيْنِ لِأَنَّهُ عَدَدٌ مَحْضٌ بِخِلَافِ الثَّلَاثِ لِأَنَّهُ فَرْدٌ من حَيْثُ أنه كُلُّ جِنْسِ الطَّلَاقِ وَلَوْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَبِقَوْلِهِ لِلسُّنَّةِ أُخْرَى لم يَقَعْ لِأَنَّ قَوْلَهُ لِلسُّنَّةِ ليس من أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لو قال لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ لِلسُّنَّةِ وَنَوَى الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ وَلَوْ قال أَنْتِ طَالِقٌ اثنتين لِلسُّنَّةِ أو ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ وَقَعَ عِنْدَ كل طُهْرٍ لم يُجَامِعْهَا تَطْلِيقَةٌ لِأَنَّهَا هِيَ التَّطْلِيقَةُ الْمُخْتَصَّةُ بِالسُّنَّةِ الْمُعَرَّفَةِ بلام التَّعْرِيفِ وَلَوْ قال أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ وَنَوَى الْوُقُوعَ لِلْحَالِ صَحَّتْ نِيَّتُهُ وَيَقَعُ الثَّلَاثُ من سَاعَةِ تَكَلَّمَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وقال زُفَرُ لَا تَصِحُّ نِيَّتُهُ وَتَتَفَرَّقُ على الْأَطْهَارِ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ نَوَى ما لَا يَحْتَمِلُهُ لفظة فَتَبْطُلُ نِيَّتُهُ‏.‏

وَبَيَانُ ذلك أَنَّ قَوْلَهُ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ إيقَاعُ التَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ في ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ لِأَنَّهَا هِيَ التَّطْلِيقَاتُ الْمُخْتَصَّةُ بِالسُّنَّةِ الْمُعَرَّفَةِ بلام التَّعْرِيفِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قال أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا في ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ وَلَوْ نَصَّ على ذلك وَنَوَى الْوُقُوعَ لِلْحَالِ لم تَصِحَّ نِيَّتُهُ كَذَا هذا وَلَنَا أَنَّ الطَّلَاقَ تَصَرُّفٌ مَشْرُوعٌ في ذَاتِهِ وَإِنَّمَا الْحَظْرُ وَالْحُرْمَةُ في غَيْرِهِ لِمَا تَبَيَّنَ فَكَانَ كُلُّ طَلَاقٍ في أَيِّ وَقْتٍ كان سُنَّةً فَكَانَ إيقَاعُ الثَّلَاثِ في الْحَالِ إيقَاعًا على وَجْهِ السُّنَّةِ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّ السُّنَّةَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ تَنْصَرِفُ إلَى ما لَا يَشُوبُهُ مَعْنَى الْبِدْعَةِ بِمُلَازَمَةِ الْحَرَامِ إيَّاهُ لِلْعُرْفِ وَالْعَادَةِ فإذا نَوَى الْوُقُوعَ لِلْحَالِ فَقَدْ نَوَى ما يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ وَفِيهِ تَشْدِيدٌ على نَفْسِهِ فَتَصِحُّ نِيَّتُهُ وَلِأَنَّ السُّنَّةَ نَوْعَانِ سُنَّةُ إيقَاعٍ وَسُنَّةُ وُقُوعٍ لِأَنَّ وُقُوعَ الثَّلَاثِ جُمْلَةً عُرِفَ بِالسُّنَّةِ لِمَا تَبَيَّنَ فإذا نَوَى الْوُقُوعَ لِلْحَالِ فَقَدْ نَوَى أَحَدَ نَوْعَيْ السُّنَّةِ فَكَانَتْ نِيَّتُهُ مُحْتَمِلَةً لِمَا نَوَى فَصَحَّتْ وَإِنْ كانت آيِسَةً أو صَغِيرَةً فقال لها أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ وَلَا نِيَّةَ له طَلُقَتْ لِلْحَالِ وَاحِدَةً وَإِنْ كان قد جَامَعَهَا وَكَذَا إذَا كانت حَامِلًا قد اسْتَبَانَ حَمْلُهَا وَإِنْ نَوَى الثَّلَاثَ بِقَوْلِهِ لِلْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ يَقَعُ لِلْحَالِ وَاحِدَةً وَبَعْدَ شَهْرٍ أُخْرَى وَبَعْدَ شَهْرٍ أُخْرَى وَكَذَا في الْحَامِلِ على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَأَمَّا على قَوْلِ مُحَمَّدٍ لَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةً بِنَاءً على أَنَّ الْحَامِلَ تَطْلُقُ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ لَا تَطْلُقُ لِلسُّنَّةِ إلَّا وَاحِدَةً وَلَوْ قال أَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً لِلسُّنَّةِ فَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ وَكَذَلِكَ إذَا قال أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقَ السُّنَّةِ‏.‏

وَأَمَّا الدَّلَالَةُ فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقَ الْعِدَّةِ أو طَلَاقَ الْعَدْلِ أو طَلَاقَ الدِّينِ أو طَلَاقَ الْإِسْلَامِ أو طَلَاقَ الْحَقِّ أو طَلَاقَ الْقُرْآنِ أو طَلَاقَ الْكتاب أَمَّا طَلَاقُ الْعِدَّةِ فَلِأَنَّهُ الطَّلَاقُ في طُهْرٍ لإجماع فيه لِقَوْلِهِ عز وجل‏:‏ ‏{‏فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ‏}‏وَطَلَاقُ الْعَدْلِ هو الْمَائِلُ عن الْبَاطِلِ إلَى الْحَقِّ لِأَنَّ الْعَدْلَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ وَإِنْ كان الِاسْمُ في اللُّغَةِ وُضِعَ دَلَالَةً على مُطْلَقِ الْمَيْلِ كَاسْمِ الْجَوْرِ وَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إلَى الْمَيْلِ من الْحَقِّ إلَى الْبَاطِلِ وَإِنْ وُضِعَ في اللُّغَةِ دَلَالَةً على مُطْلَقِ الْمَيْلِ وَالطَّلَاقُ الْمَائِلُ من الْبَاطِلِ إلَى الْحَقِّ هو طَلَاقُ السُّنَّةِ وَطَلَاقُ الدِّينِ وَالْإِسْلَامِ وَالْقُرْآنِ وَالْكتاب هو ما يَقْتَضِيهِ الدِّينُ وَالْإِسْلَامُ وَالْقُرْآنُ وَالْكتاب وهو طَلَاقُ السُّنَّةِ وَكَذَلِكَ طَلَاقُ الْحَقِّ هو ما يَقْتَضِيهِ الدِّينُ إلَى الْحَقِّ وَذَلِكَ طَلَاقُ السُّنَّةِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ أَحْسَنَ الطَّلَاقِ أو أَجْمَلَ الطَّلَاقِ أو أَعْدَلَ الطَّلَاقِ لِأَنَّهُ أَدْخَلَ أَلِفَ التَّفْضِيلِ وَأَضَافَ إلَى الطَّلَاقِ الْمُعَرَّفَ بِاللَّامِ الْوَاقِعَ على الْحُسْنِ فيقضي ‏[‏فيقتضي‏]‏ وُقُوعَ طَلَاقٍ له مَزِيَّةٌ على جَمِيعِ أَنْوَاعِ الطَّلَاقِ بِالْحُسْنِ وَالْجَمَالِ وَالْعَدَالَةِ كما إذَا قِيلَ فُلَانٌ أَعْلَمُ‏.‏ النَّاس يُوجِبُ هذا مَزِيَّةً له على جَمِيعِ طَبَقَاتِ الناس في الْعِلْمِ وَهَذَا تَفْسِيرُ طَلَاقِ السُّنَّةِ وَلَوْ قال أَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً حَسَنَةً أو جَمِيلَةً يَقَعُ لِلْحَالِ وَلَوْ قال أَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً عَدْلَةٌ أو عَدْلِيَّةً أو عَادِلَةً أو سُنِّيَّةً يَقَعُ لِلسُّنَّةِ في قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَسَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ تطلبقة ‏[‏تطليقة‏]‏ حَسَنَةً أو جَمِيلَةً ذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الْجَامِعِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ يَقَعُ لِلْحَالِ تَطْلِيقَةٌ رَجْعِيَّةٌ سَوَاءٌ كانت حَائِضًا أو غير حَائِضٍ جَامَعَهَا في طُهْرِهَا أو لم يُجَامِعْهَا وَسَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً حَسَنَةً أو جَمِيلَةً وَفَرَّقَ بين هذا وَبَيْنَ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ‏.‏

وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ قَوْلَهُ أَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً سُنِّيَّةً وَصَفَ التَّطْلِيقَةَ بِكَوْنِهَا سُنِّيَّةً وَالطَّلَاقُ في أَيِّ وَقْتٍ كان فَهُوَ سُنِّيٌّ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ مَشْرُوعٌ وَبِاقْتِرَانِ الْفَسْخِ بِهِ لَا يَخْرُجُ من أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا في ذَاتِهِ وَهَذَا الْقَدْرُ يَكْفِي لِصِحَّةِ الِاتِّصَافِ بِكَوْنِهَا سُنِّيَّةً وَلَا يُشْتَرَطُ الْكَمَالُ أَلَا يُرَى أَنَّهُ لو قال لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ بَائِنٌ يَقَعُ تَطْلِيقَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَا يَنْصَرِفُ إلَى الْكَمَالِ وهو الْبَيْنُونَةُ الْحَاصِلَةُ بِالثَّلَاثِ كَذَا هَهُنَا وَلِهَذَا وَقَعَ الطَّلَاقُ لِلْحَالِ في قَوْلِهِ حَسَنَةً أو جَمِيلَةً بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ لِأَنَّ ذلك إيقَاعُ تَطْلِيقَةٍ مُخْتَصَّةٍ بِالسُّنَّةِ لِأَنَّ اللَّامَ الْأُولَى لِلِاخْتِصَاصِ كما يُقَالُ هذا اللِّجَامُ لِلْفَرَسِ وَهَذَا الْإِكَافُ لِهَذِهِ الْبَغْلَةِ وَهَذَا الْقُفْلُ لِهَذَا الْباب وَاللَّامُ الثَّانِيَةُ لِلتَّعْرِيفِ فَإِنْ كانت لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ وهو جِنْسُ السُّنَّةِ اقْتَضَى صِفَةَ التَّمَحُّضِ لِلسُّنَّةِ وهو أَنْ لَا يَشُوبَهَا بِدْعَةٌ وَإِنْ كانت لِتَعْرِيفِ الْمَعْهُودِ فَالسُّنَّةُ الْمَعْهُودَةُ في باب الطَّلَاقِ ما لَا يشوبه ‏[‏يشوبها‏]‏ مَعْنَى الْبِدْعَةِ وهو الطَّلَاقُ في طُهْرٍ لَا جِمَاعَ فيه وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ هذا إيقَاعُ طَلَاقٍ مَوْصُوفٍ بِكَوْنِهِ سُنِّيًّا مُطْلَقًا فَلَا يَقَعُ إلَّا على صِفَةِ السُّنَّةِ الْمُطْلَقَةِ وَالطَّلَاقُ السُّنِّيُّ على الْإِطْلَاقِ لَا يَقَعُ في غَيْرِ وَقْتِ السُّنَّةِ وَلِهَذَا يَقَعُ في وَقْتِ السُّنَّةِ في قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ كَذَا هذا‏.‏

وَفَرَّقَ أبو يُوسُفَ بين السُّنِّيَّةِ وَبَيْنَ الْحَسَنَةِ وَالْجَمِيلَةِ وما كان الْغَالِبُ فيه أَنْ يُجْعَلَ صِفَةً لِلطَّلَاقِ يُجْعَلُ صِفَةً له كَقَوْلِهِ سُنِّيَّةً وَعَدْلِيَّةً وما كان الْغَالِبُ فيه أَنْ يُجْعَلَ صِفَةً لِلْمَرْأَةِ يُجْعَلُ صِفَةً لها كَقَوْلِهِ حَسَنَةً وَجَمِيلَةً لِأَنَّ الْمَرْأَةَ مَذْكُورَةٌ في اللَّفْظِ بِقَوْلِهِ أَنْتِ وَالتَّطْلِيقَةُ مَذْكُورَةٌ أَيْضًا فَيُحْمَلُ على ما يَغْلِبُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فيه وَلَوْ قال لِامْرَأَتِهِ وَهِيَ مِمَّنْ تَحِيضُ أَنْتِ طَالِقٌ لِلْحَيْضِ وَقَعَ عِنْدَ كل طُهْرٍ من كل حَيْضَةٍ تَطْلِيقَةٌ لِأَنَّ الْحَيْضَةَ التي يُضَافُ إلَيْهَا الطَّلَاقُ هِيَ أَطْهَارُ الْعِدَّةِ وَإِنْ كانت مِمَّنْ لَا تَحِيضُ فقال لها أَنْتِ طَالِقٌ لِلْحَيْضِ لَا يَقَعُ عليها شَيْءٌ لِأَنَّهُ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى ما ليس بِمَوْجُودٍ فَصَارَ كَأَنَّهُ عَلَّقَهُ لِشَرْطٍ لم يُوجَدْ وَلَوْ قال لها وَهِيَ مِمَّنْ لَا تَحِيضُ أَنْتِ طَالِقٌ لِلشُّهُورِ يَقَعُ لِلْحَالِ وَاحِدَةٌ وَبَعْدَ شَهْرٍ أُخْرَى وَبَعْدَ شَهْرٍ أُخْرَى لِأَنَّ الشُّهُورَ التي يُضَافُ إلَيْهَا الطَّلَاقُ هِيَ شُهُورُ الْعِدَّةِ وَكَذَا الْحَامِلُ على قِيَاسِ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ‏.‏

وَلَوْ نَوَى بِشَيْءٍ من الْأَلْفَاظِ التي يَقَعُ بها طَلَاقُ السُّنَّةِ وهو الطَّلَاقُ في الطُّهْرِ الذي لَا جِمَاعَ فيه الْوُقُوعَ لِلْحَالِ تَصِحُّ نِيَّتُهُ وَيَكُونُ على ما عَنَى لِأَنَّهُ نَوَى ما يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ أَمَّا في لَفْظِ الْأَحْسَنِ وَالْأَجْمَلِ وَالْأَعْدَلِ فَلِأَنَّ أَلِفَ التَّفْضِيلِ قد تُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ مُطْلَقُ الصِّفَةِ قال اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى‏:‏ ‏{‏وهو أَهْوَنُ عليه‏}‏أَيْ هَيِّنٌ عليه إذْ لَا تَفَاوُتَ لِلْأَشْيَاءِ في قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى بَلْ هِيَ بِالنِّسْبَةِ إلَى قُدْرَتِهِ سَوَاءٌ وقد نَوَى ما يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ وَلَا تُهْمَةَ في الْعُدُولِ عن هذا الظَّاهِرِ لِمَا فيه من التَّشْدِيدِ على نَفْسِهِ فَكَانَ مُصَدَّقًا وَكَذَا في سَائِرِ الْأَلْفَاظِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الطَّلَاقَ تَصَرُّفٌ مَشْرُوعٌ في نَفْسِهِ فَكَانَ إيقَاعُهُ سُنَّةً في كل وَقْتٍ أو لِأَنَّ وُقُوعَهُ عُرِفَ بِالسُّنَّةِ على ما نَذْكُرُ وَذَكَرَ بِشْرٌ عن أبي يُوسُفَ أَنَّ هذا النَّوْعَ من الْأَلْفَاظِ أَقْسَامٌ ثَلَاثَةٌ قِسْمٌ منها يَكُونُ طَلَاقَ السُّنَّةِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وفي الْقَضَاءِ نَوَى أو لم يَنْوِ وَقِسْمٌ منها يَكُونُ طَلَاقَ السُّنَّةِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وفي الْقَضَاءِ إنْ نَوَى وَإِنْ لم يَنْوِ لَا يَكُونُ لِلسُّنَّةِ وَيَقَعُ الطَّلَاقُ لِلْحَالِ وَقِسْمٌ منها ما يُصَدَّقُ فيه إذَا قال نَوَيْتُ بِهِ طَلَاقَ السُّنَّةِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَيَقَعُ في أَوْقَاتِهَا وَلَا يُصَدَّقُ في الْقَضَاءِ بَلْ يَقَعُ لِلْحَالِ‏.‏

أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ أَنْتِ طَالِقٌ لِلْعِدَّةِ أو أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقَ الْعَدْلِ أو طَلَاقَ الدِّينِ أو طَلَاقَ الْإِسْلَامِ أو قال أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا عَدْلًا أو طَلَاقَ عِدَّةٍ أو طَلَاقَ سُنَّةٍ أو أَحْسَنَ الطَّلَاقِ أو أَجْمَلَ الطَّلَاقِ أو طَلَاقَ الْحَقِّ أو طَلَاقَ الْقُرْآنِ أو طَلَاقَ الْكتاب أو قال أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ أو في السُّنَّةِ أو بِالسُّنَّةِ أو مع السُّنَّةِ أو عِنْدَ السُّنَّةِ أو على السُّنَّةِ

وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي فَهُوَ أَنْ يَقُولَ أَنْتِ طَالِقٌ في كتاب اللَّهِ عز وجل أو بِكتاب اللَّهِ عز وجل أو مع كتاب اللَّهِ عز وجل لِأَنَّ في كتاب اللَّهِ عز وجل دَلِيلُ وُقُوعِ الطَّلَاقِ لِلسُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ لِأَنَّ فيه شَرْعُ الطَّلَاقِ مُطْلَقًا فَكَانَ الطَّلَاقُ تَصَرُّفًا مشروعافي نَفْسِهِ فَكَانَ كَلَامُهُ يحتمل ‏[‏محتمل‏]‏ الْأَمْرَيْنِ فَوُقِّفَ على نِيَّتِهِ‏.‏

وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ أَنْتِ طَالِقٌ على الْكتاب أو الكتاب ‏[‏بالكتاب‏]‏ أو على قَوْلِ الْقُضَاةِ أو على قَوْلِ الْفُقَهَاءِ أو قال أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقَ الْقُضَاةِ أو طَلَاقَ الْفُقَهَاءِ لِأَنَّ الْقُضَاةَ وَالْفُقَهَاءَ يَقُولُونَ من كتاب اللَّهِ عز وجل قال اللَّهُ عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إلَّا في كتاب مُبِينٍ‏}‏وفي كتاب اللَّهِ عز وجل دَلِيلُ الْأَمْرَيْنِ جميعا لِمَا بَيَّنَّا فَكَانَ لفظة مُحْتَمِلًا لِلْأَمْرَيْنِ فَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عز وجل وَيَقَعُ في وَقْتِ السُّنَّةِ وَلَا يُصَدَّقُ في الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ‏.‏

وَلَوْ كان الزَّوْجُ غَائِبًا فَأَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا لِلسُّنَّةِ وَاحِدَةً فإنه يَكْتُبُ إلَيْهَا إذَا جَاءَكِ كتابي هذا ثُمَّ حِضْتِ وَطَهُرْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا يَكْتُبْ إلَيْهَا إذَا جَاءَكِ كتابي هذا ثُمَّ حِضْتِ وَطَهُرْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ إذَا حِضْتِ وَطَهُرْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ إذَا حِضْتِ وَطَهُرْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الرُّقَيَّاتِ أَنَّهُ يَكْتُبُ إلَيْهَا إذَا جَاءَكِ كتابي هذا فَعَلِمْت ما فيه ثُمَّ حِضْتِ وَطَهُرْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَتِلْكَ الرِّوَايَةُ أَحْوَطُ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ‏.‏