فصل: فصل حُكْمِ الْإِيلَاءِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع ***


فصل حُكْمِ الْإِيلَاءِ

وَأَمَّا حُكْمُ الْإِيلَاءِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ أنه يَتَعَلَّقُ بِالْإِيلَاءِ حُكْمَانِ حُكْمُ الْحِنْثِ وَحُكْمُ الْبِرِّ أَمَّا حُكْمُ الْحِنْثِ فَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَحْلُوفِ بِهِ فَإِنْ كان الْحَلِفُ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ وُجُوبُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ كَسَائِرِ الْأَيْمَانِ بِاَللَّهِ وَإِنْ كان الْحَلِفُ بِالشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ فَلُزُومُ الْمَحْلُوفِ بِهِ كَسَائِرِ الْأَيْمَانِ بِالشُّرُوطِ والاجزية أو لُزُومُ حُكْمِهِ على تَقْدِيرِ وُجُودِهِ على ما بَيَّنَّا وَأَمَّا حُكْمُ الْبِرِّ فَالْكَلَامُ فيه في مَوَاضِعَ في بَيَانِ أَصْلِ الْحُكْمِ وفي بَيَانِ وَصْفِهِ وفي بَيَانِ وَقْتِهِ وفي بَيَانِ قَدْرِهِ أَمَّا أَصْلُ الْحُكْمِ فَهُوَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ من غَيْرِ فَيْءٍ لِأَنَّهُ بِالْإِيلَاءِ عَزَمَ على مَنْعِ نَفْسِهِ من إيفَاءِ حَقِّهَا في الْجِمَاعِ في الْمُدَّةِ وَأَكَّدَ الْعَزْمَ بِالْيَمِينِ فإذا مَضَتْ الْمُدَّةُ ولم يفيء ‏[‏يفئ‏]‏ إلَيْهَا مع الْقُدْرَةِ على الْفَيْءِ فَقَدْ حَقَّقَ الْعَزْمَ الْمُؤَكَّدَ بِالْيَمِينِ بِالْفِعْلِ فَتَأَكَّدَ الظُّلْمُ في حَقِّهَا فَتَبِينُ منه عُقُوبَةً عليه جَزَاءً على ظلمة وَمَرْحَمَةً عليها وَنَظَرًا لها بِتَخْلِيصِهَا عن حِبَالِهِ لِتَتَوَصَّلَ إلَى إيفَاءِ حَقِّهَا من زَوْجٍ آخَرَ وَهَذَا عِنْدَنَا‏.‏

وقال الشَّافِعِيُّ حُكْمُ الْإِيلَاءِ في حَقِّ الْبِرِّ هو الْوَقْفُ وهو أَنْ يُوقَفَ الزَّوْجُ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ فَيُخَيَّرَ بين الْفَيْءِ إلَيْهَا بِالْجِمَاعِ وَبَيْنَ تَطْلِيقِهَا فَإِنْ أَبَى أَجْبَرَهُ الْحَاكِمُ على أَحَدِهِمَا فَإِنْ لم يَفْعَلْ طَلَّقَ عليه الْقَاضِي فَاشْتَمَلَتْ مَعْرِفَةُ هذا الْحُكْمِ على مَعْرِفَةِ مسئلتين ‏[‏مسألتين‏]‏ مُخْتَلِفَتَيْنِ إحْدَاهُمَا أَنَّهُ لَا يُوقَفُ المولى بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ عِنْدَنَا بَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ عَقِبَ انْقِضَائِهَا بِلَا فصل وَعِنْدَهُ يُوقَفُ وَيُخَيَّرُ بين الْفَيْءِ وَالتَّطْلِيقِ على ما بَيَّنَّا وَالثَّانِيَةُ أَنَّ الْفَيْءَ يحب ‏[‏يجب‏]‏ أَنْ يَكُونَ في الْمُدَّةِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ والمسئلتان ‏[‏والمسألتان‏]‏ مُخْتَلِفَتَانِ بين الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ‏.‏

احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ من نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤوا ‏[‏فاءوا‏]‏ فإن اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ‏}‏ خَيَّرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى المولى بين الْفَيْءِ وَبَيْنَ الْعَزْمِ على الطَّلَاقِ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أسهر ‏[‏أشهر‏]‏ فَدَلَّ أَنَّ حُكْمَ الْإِيلَاءِ في حَقِّ الْبِرِّ هو تَخْيِيرُ الزَّوْجِ بين الْفَيْءِ وَالطَّلَاقِ بَعْدَ الْمُدَّةِ لَا وُقُوعُ الطَّلَاقِ عِنْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ وَإِنْ وَقَّتَ الْفَيْءَ بَعْدَ الْمُدَّةِ لَا في الْمُدَّةِ وَلِأَنَّهُ قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فإن اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ‏}‏ أَيْ سَمِيعٌ لِلطَّلَاقِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ مَسْمُوعًا وَذَلِكَ بِوُجُودِ صَوْتِ الطَّلَاقِ إذْ غَيْرُ الصَّوْتِ لَا يَحْتَمِلُ السَّمَاعَ وَلَوْ وَقَعَ الطَّلَاقُ بِنَفْسِ مُضِيِّ الْمُدَّةِ من غَيْرِ قَوْلٍ وُجِدَ من الزَّوْجِ أو من الْقَاضِي لم يَتَحَقَّقْ صَوْتُ الطَّلَاقِ فَلَا يَنْعَقِدُ سَمَاعُهُ وَلِأَنَّ الْإِيلَاءَ يَمِينٌ يَمْنَعُ من الْجِمَاعِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَدُلُّ عليه فَقَطْ لَا على الطَّلَاقِ فَالْقَوْلُ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ قَوْلٌ بِالْوُقُوعِ من غَيْرِ إيقَاعٍ وَهَذَا لَا يَجُوزُ‏.‏

وَلَنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ مُدَّةَ التَّرَبُّصِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَالْوَقْفُ يُوجِبُ الزِّيَادَةَ على الْمُدَّةِ الْمَنْصُوصِ عليها وَهِيَ مُدَّةُ اخْتِيَارِ الْفَيْءِ أو الطَّلَاقِ من يَوْمٍ أو سَاعَةٍ فَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ إلَّا بِدَلِيلٍ وَلِهَذَا لَمَّا جَعَلَ الشَّرْعُ لِسَائِرِ الْمُدَّةِ التي بين الزَّوْجَيْنِ مِقْدَارًا مَعْلُومًا من الْمُدَّةِ وَمُدَّةُ الْعِنِّينِ لم تَحْتَمِلْ الزِّيَادَةَ على ذلك الْقَدْرِ فَكَذَا مُدَّةُ الطَّلَاقِ وَلِأَنَّ الْفَيْءَ نَقَضَ الْيَمِينَ وَنَقْضُهَا حَرَامٌ في الْأَصْلِ قال اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وقد جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا‏}‏ إلَّا أَنَّهُ ثَبَتَ الْإِطْلَاقُ في الْمُدَّةِ بِقِرَاءَةِ عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ وَأُبَيُّ بن كَعْبٍ رضي اللَّهُ عنهما فَإِنْ فاؤا ‏[‏فاءوا‏]‏ فِيهِنَّ فَبَقِيَ النَّقْضُ حَرَامًا فِيمَا وَرَاءَهَا فَلَا يَحِلُّ الْفَيْءُ فِيمَا وَرَاءَهَا فَلَزِمَ الْقَوْلُ بِالْفَيْءِ في الْمُدَّةِ وَبِوُقُوعِ الطَّلَاقِ بَعْدَ مُضِيِّهَا وَلِأَنَّ الْإِيلَاءَ كان طَلَاقًا مُعَجَّلًا في الْجَاهِلِيَّةِ فَجَعَلَهُ الشَّرْعُ طَلَاقًا مُؤَجَّلًا وَالطَّلَاقُ الْمُؤَجَّلُ يَقَعُ بنفس ‏[‏نفس‏]‏ انْقِضَاءِ الْأَجَلِ من غَيْرِ إيقَاعِ أَحَدٍ بَعْدَهُ كما إذَا قال لها أَنْتِ طَالِقٌ رَأْسَ الشَّهْرِ وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْفَيْءَ بَعْدَ الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَنَعَمْ لَكِنْ هذا لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْفَيْءُ بَعْدَ مُضِيِّهَا أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فإذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ‏}‏ ذَكَرَ تَعَالَى الْإِمْسَاكَ بِمَعْرُوفٍ بَعْدَ بُلُوغِ الْأَجَلِ وَأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْإِمْسَاكَ بَعْدَ مُضِيِّ الْأَجَلِ وهو الْعِدَّةُ بَلْ يُوجِبُ الْإِمْسَاكَ وهو الرَّجْعَةُ في الْعِدَّةِ وَالْبَيْنُونَةُ بَعْدَ انْقِضَائِهَا كَذَا هَهُنَا‏.‏

وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فإن اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ‏}‏ فَقَدْ قال قَوْمٌ من أَهْلِ التَّأْوِيلِ أن الْمُرَادَ من قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏سَمِيعٌ‏}‏ في هذا الْمَوْضِعِ أَيْ سَمِيعٌ بِإِيلَائِهِ وَالْإِيلَاءُ مِمَّا يُنْطَقُ بِهِ وَيُقَالُ فَيَكُونُ مَسْمُوعًا وقَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ يَنْصَرِفُ إلَى الْعَزْمِ أَيْ عَلِيمٌ بِعَزْمِهِ الطَّلَاقَ وهو تَرْكُ الْفَيْءِ وَدَلِيلُ صِحَّةِ هذا التَّأْوِيلِ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏سَمِيعٌ عَلِيمٌ‏}‏ عَقِيبَ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا يَحْتَمِلُ السماع وهو الْإِيلَاءُ وَالْآخَرُ لَا يَحْتَمِلُ وهو عَزْمُ الطَّلَاقِ فَيَنْصَرِفُ كُلُّ لَفْظٍ إلَى ما يَلِيقُ بِهِ لِيُفِيدَ فَائِدَتَهُ وَهِيَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لِتَسْكُنُوا فيه وَلِتَبْتَغُوا من فَضْلِهِ‏}‏ عَقِيبَ ذِكْرِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏الله الذي جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فيه وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون‏}‏ إنه صَرَفَ إلَى كل ما يَلِيقُ بِهِ لِيُفِيدَ فَائِدَتَهُ وهو السُّكُونُ إلَى اللَّيْلِ وَابْتِغَاءُ الْفَضْلِ إلَى النَّهَارِ كَذَا هَهُنَا وَلِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وَكُلُّ مَسْمُوعٍ مَعْلُومٌ وَلَيْسَ كُلُّ مَعْلُومٍ مَسْمُوعًا لِأَنَّ السَّمَاعَ لَا يَكُونُ إلى لِلصَّوْتِ فَلَوْ كان الطَّلَاقُ في الْإِيلَاءِ بِالْقَوْلِ لَكَانَ مَسْمُوعًا وَالْإِيلَاءُ مَسْمُوعٌ أَيْضًا فَوَقَعَتْ الْكِفَايَةُ بِذِكْرِ السَّمِيعِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِذِكْرِ الْعَلِيمِ فَائِدَةٌ مُبْتَدَأَةٌ وَلَوْ كان الْأَمْرُ على ما قُلْنَا إنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ عِنْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ من غَيْرِ قَوْلٍ يُسْمَعُ لَانْصَرَفَ ذِكْرُ الْعَلِيمِ إلَيْهِ لِأَنَّ ذلك ليس بِمَسْمُوعٍ حتى يُغْنِيَ ذِكْرُ السَّمِيعِ عن ذِكْرِ الْعَلِيمِ فَيَتَعَلَّقَ بِذِكْرِ الْعَلِيمِ فَائِدَةٌ جَدِيدَةٌ فَكَانَ ما قُلْنَاهُ أَوْلَى مع ما أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ سَمَاعَ الطَّلَاقِ يَقِفُ على ذِكْرِ الطَّلَاقِ بِحُرُوفِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ طَلَاقٌ وَهِيَ مَسْمُوعَةٌ وَإِنْ لم يَكُنْ الطَّلَاقُ مَسْمُوعًا مَذْكُورًا بِحُرُوفِهِ وَكَذَا طَلَاقُ الْأَخْرَسِ فلم يَكُنْ من ضَرُورَةِ كَوْنِ الْإِيلَاءِ طَلَاقًا التَّلَفُّظُ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ فَلَا يَقِفُ سَمَاعُ صَوْتِ الطَّلَاقِ عليه‏.‏

وَقَوْلُهُ لَفْظُ الْإِيلَاءِ لَا يَدُلُّ على الطَّلَاقِ مَمْنُوعٌ بَلْ يَدُلُّ عليه شَرْعًا فإن الشَّرْعَ جَعَلَ الْإِيلَاءَ طَلَاقًا مُعَلَّقًا بِشَرْطِ الْبِرِّ فَيَصِيرُ الزَّوْجُ بِالْإِصْرَارِ على مُوجِبِ هذه الْيَمِينِ مُعَلِّقًا طَلَاقًا بَائِنًا بِتَرْكِ الْقُرْبَانِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ كَأَنَّهُ قال إذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ ولم أَقْرَبْكِ فيها فَأَنْتِ طَالِقٌ بَائِنٌ عَرَفْنَا ذلك بِإِشَارَةِ النَّصِّ وهو قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فإن اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ‏}‏ سَمَّى تَرْكَ الْفَيْءِ في الْمُدَّةِ عَزْمَ الطَّلَاقِ وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ سَمِيعٌ لِلْإِيلَاءِ فَدَلَّ أَنَّ الْإِيلَاءَ السَّابِقَ يَصِيرُ طَلَاقًا عِنْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ من غَيْرِ فَيْءٍ وَبِمَا ذَكَرْنَا من الْمَعْنَى الْمَعْقُولِ‏.‏

وَأَمَّا صِفَتُهُ فَقَدْ قال أَصْحَابُنَا إنَّ الْوَاقِعَ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ من غَيْرِ فَيْءٍ طَلَاقٌ بَائِنٌ وقال الشَّافِعِيُّ إذَا خُيِّرَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَاخْتَارَ الطَّلَاقَ فَهِيَ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ بِنَاءً على أَصْلِهِ أَنَّ الطَّلَاقَ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ يَقَعُ بِإِيقَاعٍ مبتدأ وهو صَرِيحُ الطَّلَاقِ فَيَكُونُ رَجْعِيًّا وَلَنَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ فإنه رُوِيَ عن عُثْمَانَ وَعَبْدِ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بن عَبَّاسٍ وَزَيْدِ بن ثَابِتٍ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قالوا إذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَهِيَ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ إنَّمَا يَقَعُ عِنْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ دَفْعًا لِلظُّلْمِ فَلَا يَنْدَفِعُ الظُّلْمُ عنها إلَّا بِالْبَائِنِ لِتَتَخَلَّصَ عنه فَتَتَمَكَّنَ من اسْتِيفَاءِ حَقِّهَا من زَوْجٍ آخَرَ وَلَا يَتَخَلَّصُ إلَّا بِالْبَائِنِ وَلِأَنَّ الْقَوْلَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ يُؤَدِّي إلَى الْعَبَثِ لِأَنَّ الزَّوْجَ إذَا أَبَى الْفَيْءَ وَالتَّطْلِيقَ يُقَدَّمُ إلَى الْحَاكِمِ لِيُطَلِّقَ عليه الْحَاكِمُ عِنْدَهُ ثُمَّ إذَا طَلَّقَ عليه الْحَاكِمُ يُرَاجِعُهَا الزَّوْجُ فَيَخْرُجُ فِعْلُ الْحَاكِمِ مَخْرَجَ الْعَبَثِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ‏.‏

وَأَمَّا قَدْرُهُ وهو قَدْرُ الْوَاقِعِ من الطَّلَاقِ في الْإِيلَاءِ فَالْأَصْلُ أَنَّ الطَّلَاقَ في الْإِيلَاءِ يَتْبَعُ الْمُدَّةَ لَا الْيَمِينَ فَيَتَّحِدُ بِاتِّحَادِ الْمُدَّةِ وَيَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِهَا في قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ يَتْبَعُ الْيَمِينَ فَيَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْيَمِينِ وَيَتَّحِدُ بِاتِّحَادِهَا وَلَا خِلَافَ في أَنَّ الْمُعْتَبَرَ في حَقِّ حُكْمِ الْحِنْثِ هو الْيَمِينُ فَيُنْظَرُ إلَى الْيَمِينِ في الِاتِّحَادِ وَالتَّعَدُّدِ لَا إلَى الْمُدَّةِ وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ وَلُزُومَ الْكَفَّارَةِ حُكْمُ الْإِيلَاءِ وَالْإِيلَاءُ يَمِينٌ فَيَدُورُ الْحُكْمُ مع الْيَمِينِ فَيَتَّحِدُ بِاتِّحَادِهَا وَيَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِهَا لِأَنَّ الْحُكْمَ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ السَّبَبِ وَيَتَّحِدُ بِاتِّحَادِهِ

وَلَنَا أَنَّ الْإِيلَاءَ إنَّمَا اُعْتُبِرَ طَلَاقًا من الزَّوْجِ لِمَنْعِهِ حَقَّهَا في الْجِمَاعِ في الْمُدَّةِ مَنْعًا مُؤَكَّدًا بِالْيَمِينِ إذْ بِهِ يَصِيرُ ظَالِمًا وَالْمَنْعُ يَتَّحِدُ بِاتِّحَادِ الْمُدَّةِ فَيَتَّحِدُ الظُّلْمُ فَيَتَّحِدُ الطَّلَاقُ وَيَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِهَا فَيَتَعَدَّدُ الظُّلْمُ فَيَتَعَدَّدُ الطَّلَاقُ فَأَمَّا الْكَفَّارَةُ فَإِنَّهَا تَجِبُ لِهَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ عز وجل وَالْهَتْكُ يَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الِاسْمِ وَيَتَّحِدُ بِاتِّحَادِهِ وَعَلَى هذا الْأَصْلِ مَسَائِلُ إذَا قال لِامْرَأَتِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ فلم يَقْرَبْهَا حتى مَضَتْ الْمُدَّةُ بَانَتْ بِتَطْلِيقَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنْ قَرِبَهَا لَزِمَهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ لِاتِّحَادِ الْمُدَّةِ وَالْيَمِينِ جميعا‏.‏

وَلَوْ قال لها في مَجْلِسٍ وَاحِدٍ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ فَإِنْ عَنَى بِهِ التَّكْرَارَ فَهُوَ إيلَاءٌ وَاحِدٌ في حَقِّ حُكْمِ الْحِنْثِ وَالْبِرِّ جميعا حتى لو مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ ولم يَقْرَبْهَا بَانَتْ بِتَطْلِيقَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَوْ قَرِبَهَا في الْمُدَّةِ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ مِثْلَ هذا يُذْكَرُ لِلتَّكْرَارِ في الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ فإذا نَوَى بِهِ تَكْرَارَ الْأَوَّلِ فَقَدْ نَوَى ما يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ فَيُصَدَّقُ فيه وَإِنْ لم تَكُنْ له نِيَّةٌ فَهُوَ إيلَاءٌ وَاحِدٌ في حَقِّ حُكْمِ الْبِرِّ في قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَثَلَاثٌ في حَقِّ حُكْمِ الْحِنْثِ بِالْإِجْمَاعِ حتى لو مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ ولم يَقْرَبْهَا بَانَتْ بِتَطْلِيقَةٍ وَاحِدَةٍ في قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَلَوْ قَرِبَهَا في الْمُدَّةِ فَعَلَيْهِ ثَلَاثُ كَفَّارَاتٍ بِالْإِجْمَاعِ وَعِنْدَ زُفَرَ هو ثَلَاثُ إيلاآت ‏[‏إيلاءات‏]‏ في حَقِّ حُكْمِ الْحِنْثِ وَالْبِرِّ جميعا وَيَنْعَقِدُ كُلُّ إيلَاءٍ من حِينِ وُجُودِهِ فإذا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ ولم يفيء ‏[‏يفئ‏]‏ إليها بانت بِتَطْلِيقَةٍ ثُمَّ إذَا مَضَتْ سَاعَةٌ بَانَتْ بِتَطْلِيقَةٍ أُخْرَى ثُمَّ إذَا مَضَتْ سَاعَةٌ أُخْرَى بَانَتْ بِتَطْلِيقَةٍ وَاحِدَةٍ أُخْرَى وَإِنْ قَرِبَهَا في الْمُدَّةِ فَعَلَيْهِ ثَلَاثُ كَفَّارَاتٍ‏.‏

وَأَصْلُ هذه الْمَسْأَلَةِ أَنَّ من قال لِامْرَأَتِهِ إذَا جاء غَدٌ فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك قَالَهُ ثَلَاثًا فَجَاءَ غَدٌ يَصِيرُ مُولِيًا في حَقِّ حُكْمِ الْبِرِّ إيلَاءً وَاحِدًا عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يَصِيرُ مُولِيًا ثَلَاثَ إيلاآت ‏[‏إيلاءات‏]‏ في حَقِّ حُكْمِ الْحِنْثِ وَإِنْ أَرَادَ بِهِ التَّغْلِيظَ وَالتَّشْدِيدَ فكذلك ‏[‏فكذا‏]‏ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إيلَاءٌ وَاحِدٌ في حَقِّ حُكْمِ الْبِرِّ اسْتِحْسَانًا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ هو ثَلَاثٌ في حَقِّ الْبِرِّ وَالْحِنْثِ جميعا وهو الْقِيَاسُ أَمَّا زُفَرُ فَقَدْ مَرَّ على أَصْلِهِ أَنَّ الْحُكْمَ لِلْيَمِينِ لَا لِلْمُدَّةِ لِأَنَّ الْيَمِينَ هِيَ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلْحُكْمِ وقد تَعَدَّدَتْ فَيَتَعَدَّدُ السَّبَبُ بِتَعَدُّدِ الْحُكْمِ‏.‏

وَأَمَّا وَجْهُ الْقِيَاسِ لِمُحَمَّدٍ أَنَّ الْمُدَّةَ قد اخْتَلَفَتْ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ من هذه الْأَيْمَانِ وُجِدَتْ في زَمَانٍ فَكَانَتْ مُدَّةُ كل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا غير مُدَّةِ الْأُخْرَى فَصَارَ كما لو آلَى منها ثَلَاثَ مَرَّاتٍ في ثَلَاثِ مَجَالِسَ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمُدَدَ وَإِنْ تَعَدَّدَتْ حَقِيقَةً فَهِيَ مُتَعَدِّدَةٌ حُكْمًا لِتَعَذُّرِ ضَبْطِ الْوَقْتِ الذي بين الْيَمِينَيْنِ عِنْدَ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَصَارَتْ مُدَّةُ الْأَيْمَانِ كُلُّهَا مُدَّةً وَاحِدَةً حُكْمًا وَالثَّابِتُ حُكْمًا مُلْحَقٌ بِالثَّابِتِ حَقِيقَةً وَلَوْ قال إذَا جاء غَدٌ فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ وإذا جاء بَعْدُ غَدٍ فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ يَصِيرُ مُولِيًا إيلَاءَيْنِ في حَقِّ الْحِنْثِ وَالْبِرِّ جميعا إذَا جاء غَدٌ يَصِيرُ مُولِيًا وإذا جاء بَعْدُ غَدٍ يَصِيرُ مُولِيًا إيلَاءً آخَرَ وَكَذَلِكَ إذَا آلَى منها في مَجْلِسٍ ثُمَّ آلَى منها في مَجْلِسٍ آخَرَ بِأَنْ قال وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ فَمَكَثَ يَوْمًا ثُمَّ قال وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ يَصِيرُ مُولِيًا إيلَاءَيْنِ أَحَدُهُمَا في الْحَالِ وَالْآخَرُ في الْغَدِ في حَقِّ الْحِنْثِ وَالْبِرِّ جميعا لِأَنَّ الْمُدَدَ قد تَعَدَّدَتْ حَقِيقَةً وَحُكْمًا لِاخْتِلَافِ ابْتِدَاءِ كل مُدَّةٍ وَانْتِهَائِهَا وَإِمْكَانِ ضَبْطِ الْوَقْتِ الذي بين الْيَمِينَيْنِ وَلَوْ قال كُلَّمَا دَخَلْت هذه الدَّارَ فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ أو قال وَاَللَّهِ إنْ دَخَلْت هذه الدَّارَ فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ أو قال وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ كُلَّمَا دَخَلْتُ هذه الدَّارَ يَصِيرُ مُولِيًا إيلَاءَيْنِ في حَقِّ الْبِرِّ وَإِيلَاءً وَاحِدًا في حَقِّ الْحِنْثِ فإذا دخل الدَّارَ دَخْلَتَيْنِ يَنْعَقِدُ الْإِيلَاءُ الْأَوَّلُ عِنْدَ الدَّخْلَةِ الْأُولَى وَالثَّانِي عِنْدَ الدَّخْلَةِ الثَّانِيَةِ حتى لو مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ من وَقْتِ الدَّخْلَةِ الْأُولَى بَانَتْ بِتَطْلِيقَةٍ وإذا تَمَّتْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ من وَقْتِ الدَّخْلَةِ الثَّانِيَةِ بَانَتْ بِتَطْلِيقَةٍ أُخْرَى وَلَوْ قَرِبَهَا بَعْدَ الدَّخْلَتَيْنِ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ لِتَعَدُّدِ الْمُدَّةِ وَاتِّحَادِ الْيَمِينِ في حُكْمِ الْحِنْثِ‏.‏

وَالْأَصْلُ فيه أَنَّ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ تَعَالَى مَتَى عُلِّقَتْ بِشَرْطٍ مُتَكَرِّرٍ لَا يَتَكَرَّرُ انْعِقَادُهَا بِتَكَرُّرِ الشَّرْطِ وَالْيَمِينُ بِمَا هو شَرْطٌ وَجَزَاءٌ إذَا عُلِّقَتْ بِشَرْطٍ مُتَكَرِّرٍ تَتَكَرَّرُ بِتَكْرَارِ الشَّرْطِ وَقَوْلُهُ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ يَمِينٌ بِاَللَّهِ تَعَالَى في حَقِّ الْحِنْثِ وَيَمِينٌ بِالطَّلَاقِ في حَقِّ الْبِرِّ وَدَلِيلُ هذا الْأَصْلِ وَبَيَانُ فُرُوعِهِ يُعْرَفُ في الْجَامِعِ الْكَبِيرِ وَكَذَلِكَ إذَا قال كُلَّمَا دَخَلْتُ وَاحِدَةً من هَاتَيْنِ الدَّارَيْنِ فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ أو قال كُلَّمَا كَلَّمْتُ وَاحِدًا من هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ فَدَخَلَ إحْدَاهُمَا أو كَلَّمَ أَحَدَهُمَا صَارَ مُولِيًا وإذا دخل مَرَّةً أُخْرَى أو كَلَّمَهُ أُخْرَى صَارَ مُولِيًا إيلَاءً آخَرَ في حَقِّ حُكْمِ الْبِرِّ وهو إيلَاءٌ وَاحِدٌ في حَقِّ حُكْمِ الْحِنْثِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ‏.‏

فصل بَيَانِ ما يَبْطُلُ بِهِ الْإِيلَاءُ

وَأَمَّا بَيَانُ ما يَبْطُلُ بِهِ الْإِيلَاءُ فما يَبْطُلُ بِهِ الْإِيلَاءُ نَوْعَانِ نَوْعٌ يطل ‏[‏يبطل‏]‏ بِهِ أَصْلًا في حَقِّ الْحُكْمَيْنِ جميعا وهو الْبِرُّ وَالْحِنْثُ وَنَوْعٌ يَبْطُلُ بِهِ في حَقِّ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ وهو حُكْمُ الْبِرِّ وَيَبْقَى في حَقِّ الْحُكْمِ الْآخَرِ وهو حُكْمُ الْحِنْثِ أَمَّا الذي يَبْطُلُ بِهِ الْإِيلَاءُ في حَقِّ الْحُكْمَيْنِ جميعا فَشَيْءٌ وَاحِدٌ وهو الْفَيْءُ بِالْجِمَاعِ في الْفَرْجِ في الْمُدَّةِ لِأَنَّهُ يَحْنَثُ بِهِ وَالْيَمِينُ لَا يَبْقَى بَعْدَ الْحِنْثِ لِأَنَّ حِنْثَ الْيَمِينِ نَقَضَهَا وَالشَّيْءُ لَا يَبْقَى مع وُجُودِ ما يَنْقُضُهُ وَأَمَّا ما يَبْطُلُ بِهِ في حَقِّ حُكْمِ الْبِرِّ دُونَ الْحِنْثِ فَشَيْئَانِ أَحَدُهُمَا الْفَيْءُ بِالْقَوْلِ عِنْدَ اسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِهِ التي وَصَفْنَاهَا فَيَبْطُلُ بِهِ الْإِيلَاءُ في حَقِّ حُكْمِ الْبِرِّ حتى لَا تَبِينَ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ تَرْكَ الْفَيْءِ في الْمُدَّةِ شَرْطُ وُقُوعِ الطَّلَاقِ بَعْدَ مُضِيِّهَا إذْ هو عَزِيمَةُ الطَّلَاقِ وَأَنَّهَا شَرْطٌ بِالنَّصِّ لَكِنَّهُ يَبْقَى في حَقِّ حُكْمِ الْحِنْثِ حتى لو فَاءَ إلَيْهَا بِالْقَوْلِ في الْمُدَّةِ ثُمَّ قَدَرَ على الْجِمَاعِ بَعْدَ الْمُدَّةِ فَجَامَعَهَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ مُعَلَّقٌ بِالْحِنْثِ وَالْحِنْثُ هو فِعْلُ الْمَحْلُوفِ عليه وَالْمَحْلُوفُ عليه هو الْجِمَاعُ في الْفَرْجِ فَلَا يَحْصُلُ الْحِنْثُ بِدُونِهِ وَالثَّانِي الطَّلْقَاتُ الثَّلَاثُ حتى لو وَقَعَ عليها ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ بِالْإِيلَاءِ أو طَلَّقَهَا ثَلَاثًا عَقِيبَ الْإِيلَاءِ فَتَزَوَّجَتْ ثُمَّ عَادَتْ إلَيْهِ فَمَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ لم يَطَأْهَا فيها لَا يَقَعُ عليها شَيْءٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَبْطُلُ بها الْإِيلَاءُ وَيَقَعُ عليها الطَّلَاقُ بِالْإِيلَاءِ أَبَدًا بِنَاءً على أَنَّ اسْتِيفَاءَ طَلَاقِ الْمِلْكِ الْقَائِمِ لِلْحَالِ يُبْطِلُ الْيَمِينَ وَعِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَا يُبْطِلُهَا وقد ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ وَلَوْ آلَى منها ولم يفيء ‏[‏يفئ‏]‏ إلَيْهَا حتى مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَبَانَتْ منه بِتَطْلِيقَةٍ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَتَزَوَّجَتْ زوج ‏[‏بزوج‏]‏ آخَرَ ثُمَّ عَادَتْ إلَى الْأَوَّلِ عَادَ حُكْمُ الْإِيلَاءِ بِالْإِجْمَاعِ لَكِنْ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ بِثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ‏.‏

وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ بِمَا بَقِيَ بِنَاءً على أَنَّ الزَّوْجَ الثَّانِي يَهْدِمُ الطَّلْقَةَ وَالطَّلْقَتَيْنِ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ لَا يَهْدِمُ وَالْمَسْأَلَةُ قد مَرَّتْ وَلَا يَبْطُلُ بِالْإِبَانَةِ حتى لو آلَى منها ثُمَّ أَبَانَهَا قبل مُضِيِّ الْمُدَّةِ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَمَضَتْ الْمُدَّةُ من غَيْرِ فَيْءٍ تَبِينُ بِتَطْلِيقَةٍ أُخْرَى بِالْإِيلَاءِ السَّابِقِ وَلَوْ أَبَانَهَا ولم يَتَزَوَّجْهَا حتى مَضَتْ الْمُدَّةُ وَهِيَ في الْعِدَّةِ يَقَعُ عليها تَطْلِيقَةٌ أُخْرَى عِنْدَنَا وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَقَعُ وقد مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ وَهَلْ يَبْطُلُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ من غَيْرِ فَيْءٍ فَإِنْ كان الْإِيلَاءُ مُطْلَقًا أو مُؤَبَّدًا بِأَنْ قال وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ أَبَدًا أو قال وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ ولم يُذْكَرْ الْوَقْتَ فَمَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ من غَيْرِ فَيْءٍ حتى بَانَتْ بِتَطْلِيقَةٍ لَا يَبْطُلُ الْإِيلَاءُ حتى لو تَزَوَّجَهَا فَمَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ أُخْرَى مُنْذُ تَزَوَّجَ يَقَعُ عليها تَطْلِيقَةٌ أُخْرَى لِأَنَّ الْيَمِينَ عُقِدَتْ مُطْلَقَةً أو مُؤَبَّدَةً وَالْعَارِضُ ليس إلَّا الْبَيْنُونَةُ وَأَثَرُهَا في زَوَالِ الْمِلْكِ وَزَوَالُ الْمِلْكِ لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ لِمَا عُرِفَ أَنَّ الْيَمِينَ إذَا انْعَقَدَتْ تَبْقَى لِاحْتِمَالِ الْفَائِدَةِ وَاحْتِمَالُ الْفَائِدَةِ ثَابِتٌ لِاحْتِمَالِ التَّزَوُّجِ فَيَبْقَى الْيَمِينُ إلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ من الْمِلْكِ لِانْعِقَادِ الْمُدَّةِ الثَّانِيَةِ فإذا تَزَوَّجَهَا عَادَ الْمِلْكُ فَعَادَ حَقُّهَا في الْجِمَاعِ فإذا مَضَتْ الْمُدَّةُ الثَّانِيَةُ من غَيْرِ فَيْءٍ إلَيْهَا فَقَدْ مَنَعَهَا حَقَّهَا فَقَدْ ظَلَمَهَا فَيَقَعُ تَطْلِيقَةٌ أُخْرَى جَزَاءً على ظُلْمِهِ وَكَذَا إذَا تَزَوَّجَهَا بعد ما بَانَتْ بِتَطْلِيقَةٍ ثَانِيَةٍ وَمَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ أُخْرَى مُنْذُ تَزَوَّجَهَا تَبِينُ بِثَالِثَةٍ لِمَا قُلْنَا فَإِنْ تَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا الْأَوَّلُ فَمَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ لم يَقْرَبْهَا فيها لَا يَقَعُ عليها شَيْءٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ وَلَوْ آلَى منها مُطْلَقًا أو أَبَدًا فَمَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ ولم يفيء ‏[‏يفئ‏]‏ إلَيْهَا حتى بَانَتْ ثُمَّ لم يَتَزَوَّجْهَا حتى مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ أُخْرَى وَهِيَ في الْعِدَّةِ لَا يَقَعُ عليها تَطْلِيقَةٌ أُخْرَى لِأَنَّ الْيَمِينَ قد بَطَلَتْ بَلْ هِيَ بَاقِيَةٌ لِمَا بَيَّنَّا إلَّا أنها مُبَانَةٌ لَا تَسْتَحِقُّ الْوَطْءَ على الزَّوْجِ فَلَا يَصِيرُ الزَّوْجُ بِالِامْتِنَاعِ عن قُرْبَانِهَا في الْمُدَّةِ ظَالِمًا وَوُقُوعُ الطَّلَاقِ كان لِهَذَا الْمَعْنَى ولم يُوجَدْ فَلَا يَقَعُ لَكِنْ تَبْقَى الْيَمِينُ حتى لو تَزَوَّجَهَا وَمَضَتْ الْمُدَّةُ من غَيْرِ فَيْءٍ يَقَعُ‏.‏

وَالْأَصْلُ أَنَّ الْمُدَّةَ الْمُنْعَقِدَةَ لَا تَبْطُلُ بِالْبَيْنُونَةِ وَإِنْ كانت لَا تَنْعَقِدُ على الْمُبَانَةِ على طَرِيقِ الِاسْتِئْنَافِ وَلَوْ قَرِبَهَا قبل أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّ الْيَمِينَ بَاقِيَةٌ وقد وُجِدَ شَرْطُ الْحِنْثِ فَيَحْنَثُ وَلَوْ كان الْإِيلَاءُ مُؤَقَّتًا إلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ أو أَكْثَرَ فَمَضَتْ الْمُدَّةُ من غَيْرِ فَيْءٍ حتى وَقَعَ الطَّلَاقُ لَا يَبْقَى الْإِيلَاءُ وَيَنْتَهِي حتى لو قَرِبَهَا لَا كَفَّارَةَ عليه وَلَوْ لم يَقْرَبْهَا حتى مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ لَا يَقَعُ عليها شَيْءٌ لِأَنَّ الْمُؤَقَّتَ إلَى وَقْتٍ يَنْتَهِي عِنْدَ وُجُودِ الْوَقْتِ وَلَوْ حَلَفَ على قُرْبَانِ امْرَأَتِهِ بِعِتْقِ عَبْدٍ له ثُمَّ بَاعَهُ سَقَطَ الْإِيلَاءُ لِأَنَّهُ صَارَ بِحَالٍ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بِقُرْبَانِهَا ثُمَّ إذَا دخل في مِلْكِهِ بِوَجْهٍ من الْوُجُوهِ قبل الْقُرْبَانِ عَادَ حُكْمُ الْإِيلَاءِ حتى لو تَرَكَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ لم يَقْرَبْهَا فيها تَبِينُ لِأَنَّ الْجَزَاءَ لَا تتقيد ‏[‏يتقيد‏]‏ بِالْمِلْكِ الْقَائِمِ لِلْحَالِ كَمَنْ قال لِعَبْدِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَبَاعَهُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ فَدَخَلَ الدَّارَ أَنَّهُ يُعْتَقُ‏.‏

وَلَوْ دخل في مِلْكِهِ بَعْدَ الْقُرْبَانِ لَا يَعُودُ الْإِيلَاءُ لِبُطْلَانِهِ بِالْقُرْبَانِ وَكَذَا إذَا مَاتَ الْعَبْدُ بَطَلَ الْإِيلَاءُ لِأَنَّ الْجَزَاءَ صَارَ بِحَالٍ لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُهُ فَبَطَلَتْ الْيَمِينُ وَلَوْ قال إنْ قَرِبْتُك فَعَبْدَيَّ هَذَانِ حُرَّانِ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا أو بَاعَ أَحَدَهُمَا لَا يَبْطُلُ الْإِيلَاءُ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ بِالْقُرْبَانِ عِتْقٌ وَلَوْ مَاتَا جميعا بَطَلَ الْإِيلَاءُ وَكَذَا لو بَاعَهُمَا جميعا مَعًا أو على التَّعَاقُبِ وَلَوْ بَاعَهُمَا ثُمَّ دخل أَحَدُهُمَا في مِلْكِهِ بِوَجْهٍ من الْوُجُوهِ قبل الْقُرْبَانِ عَادَ الْإِيلَاءُ فيه ثُمَّ إذَا دخل الْآخَرُ في مِلْكِهِ عَادَ الْإِيلَاءُ فيه من وَقْتِ دُخُولِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْعَائِدَ عَيْنُ الْأَوَّلِ وَلَوْ قال لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ قبل أَنْ أَقْرَبَكِ بِشَهْرٍ فَقَرِبَهَا قبل تَمَامِ الشَّهْرِ من وَقْتِ الْيَمِينِ بَطَلَتْ الْيَمِينُ وَلَوْ لم يَقْرَبْهَا حتى مَضَى شَهْرٌ يَصِيرُ مُولِيًا لِأَنَّ مَعْنَى هذا الْكَلَامِ إذَا مَضَى شَهْرٌ لم أَقْرَبْكِ فيه فَأَنْتِ طَالِقٌ إنْ قَرِبْتُكِ وَلَوْ قال ذلك وَمَضَى شَهْرٌ لم يَقْرَبْهَا فيه لَصَارَ مُولِيًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ قَرِبْتُكِ إيلَاءٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ قُرْبَانُهَا من غَيْرِ شَيْءٍ يَلْزَمُهُ وهو الطَّلَاقُ وَهَذَا حَدُّ المولى فإذا صَارَ مُولِيًا فَإِنْ قَرِبَهَا بَعْدَ ذلك وَقَعَ الطَّلَاقُ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِالْقُرْبَانِ وَإِنْ لم يَقْرَبْهَا حتى مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ بَانَتْ بِتَطْلِيقَةٍ لِأَنَّ هذا حُكْمُ الْإِيلَاءِ في حَقِّ الْبِرِّ‏.‏

وَلَوْ قال أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا قبل أَنْ أَقْرَبَكِ ولم يَقُلْ بِشَهْرٍ لَا يَصِيرُ مُولِيًا وَيَقَعُ الطَّلَاقُ من سَاعَتِهِ لِأَنَّهُ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ في وَقْتٍ هو قبل الْقُرْبَانِ وَكَمَا فَرَغَ من كَلَامِهِ فَقَدْ وُجِدَ هذا الْوَقْتُ فَيَقَعُ وَلَوْ قال قبل أَنْ أَقْرَبَكِ يَصِيرُ مُولِيًا لِأَنَّ قبل الشَّيْءِ اسْمٌ لِزَمَانٍ مُتَقَدِّمٍ عليه مُطْلَقًا وَكَمَا فَرَغَ من هذه الْمَقَالَةِ فَقَدْ وُجِدَ زَمَانٌ مُتَقَدِّمٌ عليه مُتَّصِلٌ بِهِ فما لم يُوجَدْ الْقُرْبَانُ لَا يُعْرَفُ هذا الزَّمَانُ فَكَانَ هذا تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِالْقُرْبَانِ كَأَنَّهُ قال إنْ قَرِبْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَإِنْ قَرِبَهَا وَقَعَ الطَّلَاقُ بَعْدَ الْقُرْبَانِ بِلَا فصل فَإِنْ تَرَكَهَا حتى مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ بَانَتْ بِالْإِيلَاءِ كما لو نَصَّ على التَّعْلِيقِ بِالْقُرْبَانِ وَالله الموفق‏.‏

فصل بَيَانِ حُكْمِ الطَّلَاقِ

وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الطَّلَاقِ فَحُكْمُ الطَّلَاقِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الطَّلَاقِ من الرَّجْعِيِّ وَالْبَائِنِ وَيَتَعَلَّقُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَحْكَامٌ بَعْضُهَا أَصْلِيٌّ وَبَعْضُهَا من التَّوَابِعِ أَمَّا الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ فَالْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ له هو نُقْصَانُ الْعَدَدِ فَأَمَّا زَوَالُ الْمِلْكِ وَحِلُّ الْوَطْءِ فَلَيْسَ بِحُكْمٍ أَصْلِيٍّ له لَازِمٍ حتى لَا يَثْبُتَ لِلْحَالِ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ في الثَّانِي بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَإِنْ طَلَّقَهَا ولم يُرَاجِعْهَا بَلْ تَرَكَهَا حتى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بَانَتْ وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ زَوَالُ حِلِّ الْوَطْءِ من أَحْكَامِهِ الْأَصْلِيَّةِ حتى لَا يَحِلَّ له وَطْؤُهَا قبل الرَّجْعَةِ وَإِلَيْهِ مَالَ أبو عبد اللَّهِ الْبَصْرِيُّ وَأَمَّا زَوَالُ الْمِلْكِ فَقَدْ اخْتَلَفَ فيه أَصْحَابُنَا قال بَعْضُهُمْ الْمِلْكُ يَزُولُ في حَقِّ حِلِّ الْوَطْءِ لَا غَيْرُ وقال بَعْضُهُمْ لَا يَزُولُ أَصْلًا وَإِنَّمَا يَحْرُمُ وَطْؤُهَا مع قِيَامِ الْمِلْكِ من كل وَجْهٍ كَالْوَطْءِ في حَالَةِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَجْهُ قَوْلِهِ إن الطَّلَاقَ وَاقِعٌ لِلْحَالِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ له أَثَرٌ نَاجِزٌ وهو زَوَالُ حِلِّ الْوَطْءِ وَزَوَالُ الْمِلْكِ في حَقِّ الْحِلِّ وقد ظَهَرَ أَثَرُ الزَّوَالِ في الْأَحْكَامِ حتى لَا يَحِلَّ له الْمُسَافَرَةُ بها وَالْخَلْوَةُ وَيَزُولَ قَسَمُهَا وَالْأَقْرَاءُ قبل الرَّجْعَةِ مَحْسُوبَةٌ من الْعِدَّةِ وَلِهَذَا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الرَّجْعَةَ رَدًّا في كتابهِ الْكَرِيمِ بِقَوْلِهِ عز وجل‏:‏ ‏{‏وَبُعُولَتُهُنَّ‏}‏ أَيْ أَزْوَاجُهُنَّ‏:‏ ‏{‏أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ في ذلك‏}‏ وَالرَّدُّ في اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عن إعَادَةِ الْغَائِبِ فَيَدُلُّ على زَوَالِ الْمِلْكِ من وَجْهٍ‏.‏

وَلَنَا قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ في ذلك‏}‏ وقَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَبُعُولَتُهُنَّ‏}‏ أَيْ أَزْوَاجُهُنَّ وقَوْله تَعَالَى هُنَّ كِنَايَةٌ عن الْمُطَلَّقَاتِ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى زَوْجَهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ وَلَا يَكُونُ زَوْجًا إلَّا بَعْدَ قِيَامِ الزَّوْجِيَّةِ فَدَلَّ أَنَّ الزَّوْجِيَّةَ قَائِمَةٌ بَعْدَ الطَّلَاقِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَحَلَّ لِلرَّجُلِ وَطْءَ زَوْجَتِهِ بِقَوْلِهِ عز وجل‏:‏ ‏{‏وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إلَّا على أَزْوَاجِهِمْ أو ما مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ‏}‏ وقَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ‏}‏ وَقَوْلِهِ عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ من أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إلَيْهَا‏}‏ وَنَحْوِ ذلك من النُّصُوصِ وَالدَّلِيلُ على قِيَامِ الْمِلْكِ من كل وَجْهٍ أَنَّهُ يَصِحُّ طَلَاقُهُ وَظِهَارُهُ وَإِيلَاؤُهُ وَيَجْرِي اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا وَيَتَوَارَثَانِ وَهَذِهِ أَحْكَامُ الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ وَكَذَا يَمْلِكُ مُرَاجَعَتَهَا بِغَيْرِ رِضَاهَا وَلَوْ كان مِلْكُ النِّكَاحِ زَائِلًا من وَجْهٍ لَكَانَتْ الرَّجْعَةُ إنشاء النِّكَاحِ على الْحُرَّةِ من غَيْرِ رِضَاهَا من وَجْهٍ وَهَذَا لَا يَجُوزُ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ الطَّلَاقُ وَاقِعٌ في الْحَالِ فَمُسَلَّمٌ لَكِنْ التَّصَرُّفُ الشَّرْعِيُّ قد يَظْهَرُ أَثَرُهُ لِلْحَالِ وقد يَتَرَاخَى عنه كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ وَكَالتَّصَرُّفِ الْحِسِّيِّ وهو الرَّمْيُ وَغَيْرُ ذلك فَجَازَ أَنْ يَظْهَرَ أَثَرُ هذا الطَّلَاقِ بَعْدَ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ وهو زَوَالُ الْمِلْكِ وَحُرْمَةُ الْوَطْءِ على أَنَّ له أَثَرًا نَاجِزًا وهو نُقْصَانُ عَدَدِ الطَّلَاقِ وَنُقْصَانُ حِلِّ الْمَحَلِّيَّةِ وَغَيْرُ ذلك على ما عُرِفَ في الْخِلَافِيَّاتِ أما الْمُسَافَرَةُ بها فَقَدْ قال زُفَرُ من أَصْحَابِنَا أنه يَحِلُّ له الْمُسَافَرَةُ بها قبل الرَّجْعَةِ وَأَمَّا على قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ فَإِنَّمَا لَا تَحِلُّ لَا لِزَوَالِ الْمِلْكِ بَلْ لِكَوْنِهَا مُعْتَدَّةً وقد قال اللَّهُ تَعَالَى في الْمُعْتَدَّاتِ‏:‏ ‏{‏لَا تُخْرِجُوهُنَّ من بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ‏}‏ نهى الرِّجَالَ عن الْإِخْرَاجِ وَالنِّسَاءَ عن الْخُرُوجِ فَيُسْقِطُ الزَّوْجُ الْعِدَّةَ بِالرَّجْعَةِ لِتَزُولَ الْحُرْمَةُ ثُمَّ يُسَافِرُ‏.‏

وَأَمَّا الْخَلْوَةُ فَإِنْ كان من قَصْدِهِ الرَّجْعَةُ لَا يُكْرَهُ وَإِنْ لم يَكُنْ من قَصْدِهِ الْمُرَاجَعَةُ يُكْرَهُ لَكِنْ لَا لِزَوَالِ النِّكَاحِ وَارْتِفَاعِ الْحِلِّ بَلْ لِلْإِضْرَارِ بها لِأَنَّهُ إذَا لم يَكُنْ من قَصْدِهِ اسْتِيفَاءُ النِّكَاحِ بِالرَّجْعَةِ فَمَتَى خَلَا بها يَقَعُ بَيْنَهُمَا الْمِسَاسُ عن شَهْوَةٍ فَيَصِيرُ مُرَاجِعًا لها ثُمَّ يُطَلِّقُهَا ثَانِيًا فَيُؤَدِّي إلَى تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ عليها فَتَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ وهو مَعْنَى قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا‏}‏ وَكَذَلِكَ الْقَسَمُ لِأَنَّهُ لو ثَبَتَ الْقَسَمُ لَخَلَا بها فَيُؤَدِّي إلَى ما ذَكَرْنَا إذَا لم يَكُنْ من قَصْدِهِ أَنْ يُرَاجِعَهَا حتى لو كان من قَصْدِهِ أَنْ يُرَاجِعَهَا لَكَانَ لها الْقَسَمُ وَلَهُ الْخَلْوَةُ بها وَإِنَّمَا احْتَسَبْنَا الْأَقْرَاءَ من الْعِدَّةِ لِانْعِقَادِ الطَّلَاقِ سَبَبًا لِزَوَالِ الْمِلْكِ وَالْحِلِّ لِلْحَالِ على وَجْهٍ يَتِمُّ عليه عِنْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وهو الْجَوَابُ عن قَوْلِهِ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى الرَّجْعَةَ رَدًّا لِأَنَّهُ يَجُوزُ إطْلَاقُ اسْمِ الرَّدِّ عِنْدَ انْعِقَادِ سَبَبِ زَوَالِ الْمِلْك بِدُونِ الزَّوَالِ كما في الْبَيْعِ بِشَرْطِ خِيَارِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَنَّهُ يُطْلَقُ اسْمُ الرَّدِّ عِنْدَ اخْتِيَارِ الْفَسْخِ وَإِنْ لم يَزُلْ الْمِلْكُ عن الْبَائِعِ ولم يَثْبُتْ لِلْمُشْتَرِي لِانْعِقَادِ سَبَبِ الزَّوَالِ بِدُونِ الزَّوَالِ وَيَكُونُ الرَّدُّ فَسْخًا لِلسَّبَبِ وَمَنْعًا له عن الْعَمَلِ في إثْبَاتِ الزَّوَالِ كَذَا هَهُنَا وَيُسْتَحَبُّ لها أَنْ تَتَشَوَّفَ وَتَتَزَيَّنَ لِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ قَائِمَةٌ من كل وَجْهٍ‏.‏ وَيُسْتَحَبُّ لها ذلك لَعَلَّ زَوْجَهَا يُرَاجِعُهَا وَعَلَى هذا يبني حَقُّ الرَّجْعَةِ أَنَّهُ ثَابِتٌ لِلزَّوْجِ بِالْإِجْمَاعِ سَوَاءٌ كان الطَّلَاقُ وَاحِدًا أو اثْنَيْنِ أَمَّا عِنْدَنَا فَلِقِيَامِ الْمِلْكِ من كل وَجْهٍ وَأَمَّا عِنْدَهُ فَلِقِيَامِهِ فِيمَا وَرَاءَ حِلِّ الْوَطْءِ ثُمَّ الْكَلَامُ في الرَّجْعَةِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ شَرْعِيَّةِ الرَّجْعَةِ وفي بَيَانِ مَاهِيَّتِهَا وفي بَيَانِ رُكْنِهَا وفي بَيَانِ شَرَائِطِ جَوَازِ الرُّكْنِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَالرَّجْعَةُ مَشْرُوعَةٌ عُرِفَتْ شَرْعِيَّتُهَا بِالْكتاب وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ أَمَّا الْكتاب الْعَزِيزُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ‏}‏ أَيْ رَجْعَتِهِنَّ وقَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وإذا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أو سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ‏}‏ وقَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أو تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ‏}‏ وَالْإِمْسَاكُ بِالْمَعْرُوفِ هو الرَّجْعَةُ وَأَمَّا السُّنَّةُ فما رَوَيْنَا عن عبد اللَّهِ بن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما لَمَّا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ في حَالَةِ الْحَيْضِ قال رسول اللَّهِ لِعُمَرَ رضي اللَّهُ عنه‏:‏ «مُرْ ابْنَك يُرَاجِعْهَا» الحديث‏.‏

وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ لَمَّا طَلَّقَ حَفْصَةَ رضي اللَّهُ عنها جَاءَهُ جِبْرِيلُ فقال له رَاجِعْ حَفْصَةَ فَإِنَّهَا صَوَّامَةٌ قَوَّامَةٌ فَرَاجَعَهَا وَكَذَا رُوِيَ أَنَّهُ طَلَّقَ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ رضي اللَّهُ عنها ثُمَّ رَاجَعَهَا وَعَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَلِأَنَّ الْحَاجَةَ تَمَسُّ إلَى الرَّجْعَةِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قد يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ ثُمَّ يَنْدَمُ على ذلك على ما أَشَارَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَلَّ جَلَالُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلك أَمْرًا‏}‏ فَيَحْتَاجُ إلَى التَّدَارُكِ فَلَوْ لم تَثْبُتْ الرَّجْعَةُ لَا يُمْكِنُهُ التَّدَارُكُ لِمَا عَسَى لَا تُوَافِقُهُ الْمَرْأَةُ في تَجْدِيدِ النِّكَاحِ وَلَا يُمْكِنُهُ الصَّبْرُ عنها فَيَقَعُ في الزِّنَا وَأَمَّا بَيَانُ مَاهِيَّةِ الرَّجْعَةِ فَالرَّجْعَةُ عِنْدَنَا اسْتِدَامَةُ الْمِلْكِ الْقَائِمِ وَمَنْعُهُ من الزَّوَالِ وَفَسْخُ السَّبَبِ الْمُنْعَقِدِ لِزَوَالِ الْمِلْكِ‏.‏

وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هِيَ اسْتِدَامَةٌ من وَجْهٍ وَإِنْشَاءٌ من وَجْهٍ بِنَاءً على أَنَّ الْمِلْكَ عِنْدَهُ قَائِمٌ من وَجْهٍ زَائِلٌ من وَجْهٍ وهو عِنْدَنَا قَائِمٌ من كل وَجْهٍ وَعَلَى هذا يَنْبَنِي أَنَّ الشَّهَادَةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الرَّجْعَةِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ شَرْطٌ وَجْهُ الْبِنَاءِ أَنَّ الشَّهَادَةَ شَرْطُ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ وَإِنْشَائِهِ لَا شَرْطُ الْبَقَاءِ وَالرَّجْعَةُ اسْتِيفَاءُ الْعَقْدِ عِنْدَنَا فَلَا يُشْتَرَطُ له الشَّهَادَةُ وَعِنْدَهُ هِيَ اسْتِيفَاءٌ من وَجْهٍ وَإِنْشَاءٌ من وَجْهٍ فَيُشْتَرَطُ لها الشَّهَادَةُ من حَيْثُ هِيَ إنشاء لَا من حَيْثُ هِيَ اسْتِيفَاءٌ فَصَحَّ الْبِنَاءُ ثُمَّ الْكَلَامُ فيه على وَجْهِ الِابْتِدَاءِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وأشهدوا ‏[‏فإذا‏]‏ ذوي ‏[‏بلغن‏]‏ عدل ‏[‏أجلهن‏]‏ منكم ‏[‏فأمسكوهن‏]‏‏}‏ فَظَاهِرُ الْأَمْرِ وُجُوبُ الْعَمَلِ فَيَقْتَضِي وُجُوبَ الشَّهَادَةِ‏.‏

وَلَنَا نُصُوصُ الرَّجْعَةِ من الْكتاب وَالسُّنَّةِ مُطْلَقَةً عن شَرْطِ الْإِشْهَادِ إلَّا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْإِشْهَادُ عليها إذْ لو لم يَشْهَدْ لَا يَأْمَنُ من أَنْ تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ فَلَا تُصَدِّقُهُ الْمَرْأَةُ في الرَّجْعَةِ وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَنُدِبَ إلَى الْإِشْهَادِ لِهَذَا وَعَلَى هذا تُحْمَلُ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ وفي الْآيَةِ ما يَدُلُّ عليه لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قال‏:‏ ‏{‏فإذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أو فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ‏}‏ جَمَعَ بين الْفُرْقَةِ وَالرَّجْعَةِ أَمَرَ سُبْحَانَهُ بِالْإِشْهَادِ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ‏}‏‏.‏

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِشْهَادَ على الْفُرْقَةِ ليس بِوَاجِبٍ بَلْ هو مُسْتَحَبٌّ كَذَا على الرَّجْعَةِ أو تُحْمَلُ على هذا تَوْفِيقًا بين النُّصُوصِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَكَذَا لَا مَهْرَ في الرَّجْعَةِ وَلَا يُشْتَرَطُ فيها رِضَا الْمَرْأَةِ لِأَنَّهَا من شَرَائِطِ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ لَا من شَرْطِ الْبَقَاءِ وَكَذَا إعْلَامُهَا بِالرَّجْعَةِ ليس بِشَرْطٍ حتى لو لم يُعْلِمْهَا بِالرَّجْعَةِ جَازَتْ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ حَقُّهُ على الْخُلُوصِ لِكَوْنِهِ تَصَرُّفًا في مِلْكِهِ بِالِاسْتِيفَاءِ وَالِاسْتِدَامَةِ فَلَا يُشْتَرَطُ فيه إعْلَامُ الْغَيْرِ كَالْإِجَازَةِ في الْخِيَارِ لَكِنَّهُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ وَمُسْتَحَبٌّ لِأَنَّهُ إذَا رَاجَعَهَا ولم يُعْلِمْهَا بِالرَّجْعَةِ فَمِنْ الْجَائِزِ أنها تَتَزَوَّجُ عِنْدَ مُضِيِّ ثَلَاثِ حِيَضٍ ظَنًّا منها إن عِدَّتَهَا قد انْقَضَتْ فَكَانَ تَرْكُ الْإِعْلَامِ فيه تَسَبُّبًا إلَى عَقْدٍ حَرَامٍ عَسَى فَاسْتُحِبَّ له أَنْ يُعْلِمَهَا وَلَوْ رَاجَعَهَا ولم يُعْلِمْهَا حتى انْقَضَتْ مُدَّةُ عِدَّتِهَا وَتَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ ثُمَّ جاء زَوْجُهَا الْأَوَّلُ فَهِيَ امْرَأَتُهُ سَوَاءٌ كان دخل بها الثَّانِي أو لم يَدْخُلْ وَيُفَرَّقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الثَّانِي لِأَنَّ الرَّجْعَةَ قد صَحَّتْ بِدُونِ عِلْمِهَا فَتَزَوَّجَهَا الثَّانِي وَهِيَ امْرَأَةُ الْأَوَّلِ فلم يَصِحَّ وَعَلَى هذا تُبْنَى الرَّجْعَةُ بِالْفِعْلِ بِأَنْ جَامَعَهَا أنها جَائِزَةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ الرَّجْعَةُ إلَّا بِالْقَوْلِ وَجْهُ الْبِنَاءِ على هذا الْأَصْلِ أَنَّ الرَّجْعَةَ عِنْدَهُ إنْشَاءُ النِّكَاحِ من وَجْهٍ وَإِنْشَاءُ النِّكَاحِ من كل وَجْهٍ لَا يَجُوزُ إلَّا بِالْقَوْلِ فَكَذَا إنْشَاؤُهُ من وَجْهٍ وَعِنْدَنَا هِيَ اسْتِدَامَةُ النِّكَاحِ من كل وَجْهٍ فَلَا تَخْتَصُّ بِالْقَوْلِ ويبني أَيْضًا على حِلِّ الْوَطْءِ وَحُرْمَتِهِ‏.‏

وَجْهُ الْبِنَاءِ أَنَّ الْوَطْءَ لَمَّا كان حَلَالًا عِنْدَنَا فإذا وَطِئَهَا فَلَوْ لم يُجْعَلْ الْوَطْءُ دَلَالَةَ الرَّجْعَةِ وَرُبَّمَا لَا يُرَاجِعُهَا بِالْقَوْلِ بَلْ يَتْرُكُهَا حتى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا فَيَزُولَ الْمِلْكُ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِالطَّلَاقِ السَّابِقِ لِأَنَّهُ لَا فِعْلَ منه إلَّا ذلك فَيَزُولُ الْمِلْكُ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ وُجُودِ الطَّلَاقِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمِلْكُ كان زَائِلًا من وَقْتِ الطَّلَاقِ من وَجْهٍ فَيَظْهَرُ أَنَّ الْوَطْءَ كان حَرَامًا فَجُعِلَ الْإِقْدَامُ على الْوَطْءِ دَلَالَةَ الرَّجْعَةِ صِيَانَةً له عن الْحَرَامِ وَعِنْدَهُ لَمَّا كان الْوَطْءُ حَرَامًا لَا يُقْدَمُ عليه فَلَا ضَرُورَةَ إلَى جَعْلِهِ دَلَالَةَ الرَّجْعَةِ ثُمَّ ابْتِدَاءُ الدَّلِيلِ في الْمَسْأَلَةِ قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ‏}‏ سَمَّى الرَّجْعَةَ رَدًّا وَالرَّدُّ لَا يَخْتَصُّ بِالْقَوْلِ كَرَدِّ الْمَغْصُوبِ وَرَدِّ الْوَدِيعَةِ‏.‏

قال النبي صلى الله عليه وسلم على الْيَدِ ما أَخَذَتْ حتى تَرُدَّهُ وقَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ‏}‏ وَقَوْلُهُ عز وجل‏:‏ ‏{‏فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ‏}‏ سَمَّى الرَّجْعَةَ إمْسَاكًا وَالْإِمْسَاكُ حَقِيقَةً يَكُونُ بِالْفِعْلِ وَكَذَا إنْ جَامَعَتْهُ وهو نَائِمٌ أو مَجْنُونٌ لِأَنَّ ذلك حَلَالٌ لها عِنْدَنَا فَلَوْ لم يُجْعَلْ رَجْعَةً لَصَارَتْ مُرْتَكِبَةً لِلْحَرَامِ على تَقْدِيرِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ من غَيْرِ رَجْعَةٍ من الزَّوْجِ فَجُعِلَ ذلك منها رَجْعَةً شَرْعًا ضَرُورَةَ التَّحَرُّزِ عن الْحَرَامِ وَلِأَنَّ جِمَاعَهَا كَجِمَاعِهِ لها في باب التَّحْرِيمِ فَكَذَا في باب الرَّجْعَةِ وَكَذَلِكَ إذَا لَمَسَهَا لِشَهْوَةٍ أو نَظَرَ إلَى فَرْجِهَا عن شَهْوَةٍ فَهُوَ مُرَاجِعٌ لِمَا قُلْنَا وَإِنْ لَمَسَ أو نَظَرَ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ لم يكن ‏[‏يك‏]‏ رَجْعَةً لِأَنَّ ذلك حَلَالٌ في الْجُمْلَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَابِلَةَ وَالطَّبِيبَ يَنْظُرَانِ إلَى الْفَرْجِ وَيَمَسُّ الطَّبِيبُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى جَعْلِهِ رَجْعَةً‏.‏

وَكَذَلِكَ إذَا نَظَرَ إلَى غَيْرِ الْفَرْجِ لِشَهْوَةٍ لِأَنَّ ذلك أَيْضًا مُبَاحٌ في الْجُمْلَةِ وَيُكْرَهُ التَّقْبِيلُ وَاللَّمْسُ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ إذَا لم يُرِدْ بِهِ الْمُرَاجَعَةَ وَكَذَا يُكْرَهُ أَنْ يَرَاهَا مُتَجَرِّدَةً لِغَيْرِ شَهْوَةٍ كَذَا قال أبو يُوسُفَ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ من أَنْ يَشْتَهِيَ فَيَصِيرَ مُرَاجِعًا من غَيْرِ إشْهَادٍ وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ وَكَذَا لَا يَأْمَنُ من الْإِضْرَارِ بها لِجَوَازِ أَنْ يَشْتَهِيَ فَيَصِيرَ بِهِ مُرَاجِعًا وهو لَا يُرِيدُ إمْسَاكَهَا فَيُطَلِّقُهَا فَتَطُولُ الْعِدَّةُ عليها فَتَتَضَرَّرُ بِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى نهى عن ذلك بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا‏}‏ وَكَذَا قال أبو يُوسُفَ إن الْأَحْسَنَ إذَا دخل عليها أَنْ يَتَنَحْنَحَ وَيُسْمِعَهَا خَفْقَ نَعْلَيْهِ ليس من أَجْلِ أنها حَرَامٌ وَلَكِنْ لَا يَأْمَنُ من أَنْ يَرَى الْفَرْجَ بِشَهْوَةٍ فَيَكُونَ رَجْعَةً بِغَيْرِ إشْهَادٍ وَهَذِهِ عِبَارَةُ أبي يُوسُفَ‏.‏

وَلَوْ نَظَرَ إلَى دُبُرِهَا مَوْضِعِ خُرُوجِ الْغَائِطِ بِشَهْوَةٍ لم يَكُنْ ذلك رَجْعَةً كَذَا ذَكَرَ في الزِّيَادَاتِ وهو قَوْلُ مُحَمَّدٍ الْأَخِيرُ وكان يقول أَوَّلًا أنه يَكُونُ رَجْعَةً ثُمَّ رَجَعَ حَكَى إبْرَاهِيمُ بن رُسْتُمَ رُجُوعَهُ وهو قِيَاسُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّ ذلك السَّبِيلَ لَا يَجْرِي مَجْرَى الْفَرْجِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَطْءَ فيه لَا يُوجِبُ الْحَدَّ عِنْدَهُ فَكَانَ النَّظَرُ إلَيْهِ كَالنَّظَرِ إلَى سَائِرِ الْبَدَنِ وَلِأَنَّ النَّظَرَ إلَى الْفَرْجِ بِشَهْوَةٍ إنَّمَا كان رَجْعَةً لِكَوْنِ الْوَطْءِ حَلَالًا تَقْرِيرًا لِلْحِلِّ صِيَانَةً عن الْحَرَامِ وَالنَّظَرُ إلَى هذا الْمَحَلِّ عن شَهْوَةٍ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الْحِلَّ بِحَالٍ كما أَنَّ الْفِعْلَ فيه لَا يَحْتَمِلُ الْحِلَّ بِحَالٍ فَلَا يَصْلُحُ دَلِيلًا على الرَّجْعَةِ‏.‏

وَلَوْ نَظَرَتْ إلَى فَرْجِهِ بِشَهْوَةٍ قال أبو يُوسُفَ قِيَاسُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ أَنْ يَكُونَ رَجْعَةً وَهَذَا قَبِيحٌ وَلَا يَكُونُ رَجْعَةً وَكَذَا قال أبو يُوسُفَ وَالصَّحِيحُ قِيَاسُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا إذَا جَامَعَتْهُ وهو نَائِمٌ أو مَجْنُونٌ وَلِأَنَّ النَّظَرَ حَلَالٌ لها كَالْوَطْءِ فَيُجْعَلُ رَجْعَةً تَقْرِيرًا لِلْحِلِّ وَصِيَانَةً عن الْحُرْمَةِ وَلِأَنَّ النَّظَرَيْنِ يَسْتَوِيَانِ في التَّحْرِيمِ أَلَا تَرَى أَنَّ نَظَرَهَا إلَى فَرْجِهِ كَنَظَرِهِ إلَى فَرْجِهَا في التَّحْرِيمِ فَكَذَا في الرَّجْعَةِ وَلَوْ لَمَسَتْهُ لِشَهْوَةٍ مُخْتَلِسَةً أو كان نَائِمًا أو اعْتَرَفَ الزَّوْجُ أَنَّهُ كان بِشَهْوَةٍ فَهُوَ رَجْعَةٌ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وقال أبو يُوسُفَ ليس بِرَجْعَةٍ فَأَبُو حَنِيفَةَ سَوَّى بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَاةِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي إذَا لَمَسَتْ الْمُشْتَرِيَ أَنَّهُ يَبْطُلُ خِيَارُهُ وَمُحَمَّدٌ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فقال هَهُنَا يَكُونُ رَجْعَةً وَهُنَاكَ لَا يَكُونُ إجَازَةً لِلْبَيْعِ وَعَنْ أبي يُوسُفَ في الْجَارِيَةِ رِوَايَتَانِ في رِوَايَةٍ فَرَّقَ فقال ثَمَّةَ يَكُونُ إجَازَةً لِلْبَيْعِ وَهَهُنَا لَا يَكُونُ رَجْعَةً وفي رِوَايَةٍ سَوَّى بَيْنَهُمَا فقال فِعْلُهَا لَا يَكُونُ رَجْعَةً هَهُنَا وَلَا فِعْلُ الْأَمَةِ يَكُونُ إجَازَةً ثَمَّةَ فَعَلَى هذه الرِّوَايَةِ لَا يُحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بين الْمَسْأَلَتَيْنِ‏.‏

وَوَجْهُ الْفَرْقِ له على الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ بُطْلَانَ الْخِيَارِ لَا يَقِفُ على فِعْلِ الْمُشْتَرِي بَلْ قد يَبْطُلُ بِغَيْرِ فِعْلِهِ كما إذَا تعينت ‏[‏تعيبت‏]‏ في يَدِهِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ فَأَمَّا الرَّجْعَةُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَثْبُتَ إلَّا بِاخْتِيَارِ الزَّوْجِ حتى قال أبو يُوسُفَ إنَّهَا إذَا لَمَسَتْهُ فَتَرَكَهَا وهو يَقْدِرُ على مَنْعِهَا كان ذلك رَجْعَةً لِأَنَّهُ لَمَّا مَكَّنَهَا من اللَّمْسِ فَقَدْ حَصَلَ ذلك بِاخْتِيَارِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ لَمَسَهَا وَكَذَلِكَ قال أبو يُوسُفَ إذَا ابْتَدَأَتْ اللَّمْسَ وهو مُطَاوِعٌ لها أَنَّهُ يَكُونُ رَجْعَةً لِمَا قُلْنَا وَوَجْهُ الْفَرْقِ لِمُحَمَّدٍ أَنَّ إسْقَاطَ الْخِيَارِ إدْخَالُ الشَّيْءِ في مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَالْأَمَةُ لَا تَمْلِكُ ذلك وَلَيْسَتْ الرَّجْعَةُ إدْخَالَ الْمَرْأَةِ على مِلْكِ الزَّوْجِ لِأَنَّهَا على مِلْكِهِ فَلَوْ جَعَلْنَاهُ مراجعا بِفِعْلِهَا لم تَمْلِكْهُ ما لم يَكُنْ مِلْكًا له فَصَحَّتْ الرَّجْعَةُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا وهو أَنَّ اللَّمْسَ حَلَالٌ من الْجَانِبَيْنِ عِنْدَنَا فَلَزِمَ تَعَذُّرُ الْحِلِّ فيه وَصِيَانَتُهُ عن الْحُرْمَةِ وَذَلِكَ يَجْعَلُهُ رَجْعَةً على ما سَبَقَ بَيَانُهُ كما قال في الْجَارِيَةِ أن اللَّمْسَ منها لو لم يُجْعَلْ إجَازَةً لِلْبَيْعِ وَرُبَّمَا يُفْسَخُ البيع فَيَتَبَيَّنُ أَنَّ اللَّمْسَ حَصَلَ في مِلْكِ الْغَيْرِ من وَجْهٍ وما ذَكَرَهُ أبو يُوسُفَ أَنَّ الرَّجْعَةَ لَا تُعْتَبَرُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِ الزَّوْجِ يُشْكِلُ بِمَا إذَا جَامَعَتْهُ وهو نَائِمٌ أَنَّهُ تَثْبُتُ الرَّجْعَةُ من غَيْرِ اخْتِيَارِ الزَّوْجِ وما ذَكَرَ مُحَمَّدٌ أَنَّ إسْقَاطَ الْخِيَارِ إدْخَالُ الْمَبِيعِ في مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَلَيْسَ بِمَمْنُوعٍ بَلْ الْمَبِيعُ يَدْخُلُ في مِلْكِهِ بِالسَّبَبِ السَّابِقِ عِنْدَ سُقُوطِ الْخِيَارِ على أَنَّ هذا فَرْقًا بين الْمَسْأَلَتَيْنِ فِيمَا وَرَاءَ الْمَعْنَى الْمُؤَثِّرِ‏.‏

وَالْفَرْقُ بين الْمَسْأَلَتَيْنِ فِيمَا وَرَاءَ الْمَعْنَى الْمُؤَثِّرِ لَا يَقْدَحُ في الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا في الْمَعْنَى الْمُؤَثِّرِ قال مُحَمَّدٌ وَلَوْ صَدَّقَهَا الْوَرَثَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ أنها لَمَسَتْهُ بِشَهْوَةٍ لَكَانَ ذلك رَجْعَةً لِأَنَّ الْوَرَثَةَ قَامُوا مَقَامَهُ فَكَأَنَّهُ صَدَّقَهَا قبل مَوْتِهِ قال وَلَوْ شَهِدَ الشُّهُودُ أنها قَبَّلَتْهُ لِشَهْوَةٍ لم تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ لِأَنَّ الشَّهْوَةَ مَعْنًى في الْقَلْبِ لَا يَقِفُ عليه الشُّهُودُ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ فيه وَإِنْ شَهِدُوا على الْجِمَاعِ قُبِلَتْ لِأَنَّ الْجِمَاعَ مَعْنًى يُوقَفُ عليه وَيُشَاهَدُ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى شَرْطِ الشَّهْوَةِ فَتُقْبَلُ فيه الشَّهَادَةُ وَأَمَّا رُكْنُ الرَّجْعَةِ فَهُوَ قَوْلٌ أو فِعْلٌ يَدُلُّ على الرَّجْعَةِ‏.‏

أَمَّا الْقَوْلُ فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ لها رَاجَعْتُك أو رَدَدْتُك أو رَجَعْتُك أو أَعَدْتُك أو رَاجَعْت امْرَأَتِي أو رَاجَعْتهَا أو رَدَّدْتهَا أو أَعَدْتهَا وَنَحْوُ ذلك لِأَنَّ الرَّجْعَةَ رَدٌّ وَإِعَادَةٌ إلَى الْحَالَةِ الْأُولَى وَلَوْ قال لها نَكَحْتُك أو تَزَوَّجْتُك كان رَجْعَةً في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ رَجْعَةً وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ النِّكَاحَ بَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ قَائِمٌ من كل وَجْهٍ فَكَانَ قَوْلُهُ نَكَحْتُك إثْبَاتَ الثَّابِتِ وَأَنَّهُ مُحَالٌ فلم يَكُنْ مَشْرُوعًا فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ شَرْعًا فلم يَكُنْ رَجْعَةً بِخِلَافِ قَوْلِهِ رَاجَعْتُك لِأَنَّ ذلك ليس بِإِثْبَاتِ النِّكَاحِ بَلْ هو اسْتِيفَاءُ النِّكَاحِ الثَّابِتِ وَأَنَّهُ مَحَلٌّ لِلِاسْتِيفَاءِ لِأَنَّهُ انْعَقَدَ سَبَبُ زَوَالِهِ وَالرَّجْعَةُ فَسْخُ السَّبَبِ وَمَنْعٌ له عن الْعَمَلِ فَيَصِحُّ‏.‏

وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ النِّكَاحَ وَإِنْ كان ثَابِتًا حَقِيقَةً لَكِنْ الْمَحَلُّ لَا يَحْتَمِلُ الْإِثْبَاتَ فَيُجْعَلُ مَجَازًا عن اسْتِيفَاءِ الثَّابِتِ لِمَا بَيْنَهُمَا من الْمُشَابَهَةِ تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وقد قِيلَ في أَحَدِ تَأْوِيلَيْ قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ في ذلك‏}‏ أَيْ أَزْوَاجُهُنَّ أَحَقُّ بِنِكَاحِهِنَّ في الْعِدَّةِ من غَيْرِهِمْ من الرِّجَالِ وَالنِّكَاحُ الْمُضَافُ إلَى الْمُطَلَّقَةِ طَلَاقًا رَجْعِيًّا فَدَلَّ على ثُبُوتِ الرجعة ‏[‏الرجعية‏]‏ بِالنِّكَاحِ وَأَمَّا الْفِعْلُ الدَّالُّ على الرَّجْعَةِ فَهُوَ أَنْ يُجَامِعَهَا أو يَمَسَّ شيئا من أَعْضَائِهَا لِشَهْوَةٍ أو يَنْظُرَ إلَى فَرْجِهَا عن شَهْوَةٍ أو يُوجَدَ شَيْءٌ من ذلك هَهُنَا على ما بَيَّنَّا وَوَجْهُ دَلَالَةِ هذه الْأَفْعَالِ على الرَّجْعَةِ ما ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَهَذَا عِنْدَنَا فَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَلَا تَثْبُتُ الرَّجْعَةُ إلَّا بِالْقَوْلِ بِنَاءً على أَصْلِ ما ذَكَرْنَاهُ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ‏.‏