فصل: باب في الإخلاصَ وإحضَار النية في جميع الأعمال الظاهرة والخفية.

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بستان العارفين **


باب في الإخلاصَ وإحضَار النية في جميع الأعمال الظاهرة والخفية‏.‏

فصل ‏[‏في إحضار النية في الطاعات‏]‏

اعلم أنه ينبغي لمن أراد شيئًا من الطاعات، وإن قل أن يحضر النية وهو‏:‏ أن يقصد بعمله رضا الله عز وجل، وتكون نيته حال العمل‏.‏

ويدخل في هذا جميع العبادات من الصلاة والصوم، والوضوء، والتيمم، والاعتكاف، والحج، والزكاة، والصدقة، وقضاء الحوائج، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وابتداء السلام، ورده، وتشميت العاطس، وإنكار المنكر، والأمر بالمعروف، وإجابة الدعوة، وحضور مجالس العلم والأذكار، وزيارة الأخيار، والنفقة على الأهل، والضيف وإكرام أهل الود، وذوي الأرحام، ومذاكرة العلم، والمناظرة فيه، وتكراره، وتدريسه، وتعليمه، ومطالعته، وكتاباته، وتصنيفه، والفتاوى، وكذلك ما أشبه هذه الأعمال ، حتى ينبغي له إذا أكل، أو شرب، أو نام، أن يقصد بذلك التقوي على طاعة الله ، أو راحة البدن، للتنشط للطاعة‏.‏

-وكذلك إذا أراد جماع زوجته، يقصد إيصالها حقها، وتحصل ولد صالح، يعبد الله تعالى، وإعفاف نفسه، وصيانتها من التطلع إلى حرام، والفكر فيه‏.‏

-فمن حرم النية في هذه الأعمال، فقد حرم خيرًا عظيمًا ‏[‏كثيرًا‏]‏، ومن وفق لها، فقد أعطي فضلًا جسيمًا‏.‏ فنسأل الله الكريم التوفيق لذلك؛ وسائر وجوه الخير‏!‏

-ودلائل هذه القاعدة ما قدمناه من قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى‏)‏‏.‏‏

باب في الإخلاصَ وإحضَار النية في جميع الأعمال الظاهرة والخفية‏.‏

فصل ‏[‏في إحضار النية في الطاعات‏]‏‏.‏

‏[‏أقوال العلماء في النية‏]‏

-قال العلماء من أهل اللغة والأصول والفقه‏:‏

‏"‏إنما‏"‏ للحصر تفيد تحصيل المذكور ونفي ما سواه، وقد قدمنا هذا في أول الباب، وقد قالوا‏:‏ الأعمال البهيمية ما عملت بغير نية، وروينا عن الأمام الجليل المتفق على إمامته وجلالته وعظم محله وسيادته أبي يحيى حبيب عندهم رحمه الله قيل له‏:‏ حدثنا ‏[‏عن أشق شيء‏؟‏‏]‏

قال‏:‏ ‏"‏حتى تجيء النية‏"‏‏.‏

وعن سفيان الثوري رحمه الله تعالى قال‏:‏ ‏"‏ما عالجت شيئًا أشد علي من نيتي‏!‏‏"‏‏.‏ وعن يزيد بن هارون رحمه الله تعالى قال‏:‏ ‏"‏ما عزت النية في الحديث إلا لشرفها‏"‏‏.‏

وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ ‏"‏إنما يحفظ الرجل على قدر نيته‏"‏‏.‏

وعن غيره‏:‏ إنما يعطى الناس على قدر نياتهم‏.‏

وعن الإمام أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه بالإسناد الصحيح أنه قال‏:‏ ‏"‏وددت أن الخلق تعلموا هذا العلم على أن لا ينسب إلي حرف منه‏"‏‏.‏

وقال الشافعي رضي الله عنه أيضًا‏:‏ ‏"‏ما ناظرت أحدًا قط، على الغلبة، وودت إذا ناظرت أحدًا أن يظهر الحق على يديه‏"‏‏.‏

وقال أيضًا‏:‏ ‏"‏ما كلمت أحدًا قط إلا أحببت أن يوفق ، ويسدد ويعان، ويكون عليه رعاية من الله تعالى وحفظ‏"‏‏.‏

وقال الإمام أبو يوسف، صاحب أبي حنيفة رحمهما الله تعالى‏:‏ ‏"‏أريدوا بعلمكم الله تعالى، فإني لم أجلس مجلسًا قط، أنوي فيه أن أتواضع، إلا لم أقم حتى أعلوهم، ولم أجلس مجلسًا أنوي فيه أن أعلوهم، إلا لم أقم حتى أفتضح‏!‏‏"‏‏.‏‏

باب في الإخلاصَ وإحضَار النية في جميع الأعمال الظاهرة والخفية‏.‏

فصل ‏[‏في كتب الحسنات والسيئات‏]‏

وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن الله تعالى كتب الحسنات والسيئات، فمن همَّ بحسنة فلم يعملها، كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن همَّ بها فعملها كتبها الله عشر حسنات، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة‏)‏‏.‏

وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الجيش الذين يقصدون الكعبة‏:‏ ‏"‏يخسف بأولهم وآخرهم‏"‏‏.‏

-فقالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ يا رسول الله‏!‏ كيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أشراف، ومن ليس منهم‏؟‏ فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يخسف بأولهم وآخرهم، ثم يبعثون على نياتهم‏"‏‏.‏

وثبت في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية‏"‏‏.‏

-قلت‏:‏ اختلف أصحابنا وغيرهم من العلماء في معنى‏:‏ ‏"‏لا هجرة بعد الفتح‏"‏ فقيل‏:‏ معناه لا هجرة من مكة؛ إذا صارت دار إسلام‏.‏ وقيل‏:‏ لا هجرة بعد الفتح كاملة الفضل، كالتي قبل الفتح‏.‏

وأما الهجرة من دار الكفار اليوم فواجبة وجوبًا متأكدًا على من قدر عليها، إذا لم يقدر من إظهار دين الإسلام هناك، فإن قدر استحب ولا يجب، والله تعالى أعلم‏.‏

-ورُوِّينا عن السيد الجليل أبي ميسرة عمر بن شرحبيل التابعي الكوفي الهمْدَاني - بإسكان الميم وبالدال المهملة - رضي الله تعالى عنه أنه كان إذا أخذ عطاءه تصدق منه، فإذا جاء إلى أهله فعدوه وجدوه سواء‏!‏ فقال لابن أخيه‏:‏ ألا تفعلون مثل هذا‏؟‏‏!‏ فقالوا‏:‏ لو علمنا أنه لا ينقص لفعلنا‏!‏‏.‏

-قال أبو ميسرة‏:‏ إني لست أشرط هذا على ربي عز وجل‏.‏

وقال إمامنا أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رضي الله تعالى عنه‏:‏ خير الدنيا والآخرة في خمس خصال‏:‏‏

‏(‏1‏)‏ غنى النفس،‏

‏(‏2‏)‏ وكف الأذى،‏

‏(‏3‏)‏ كسب الحلال،‏

‏(‏4‏)‏ ولباس التقوى،‏

‏(‏5‏)‏ والثقة بالله عز وجل على كل حال‏.‏

-وروينا عن السيد الجليل حماد بن سلمة رحمه الله تعالى وكان يُعد من الأبدال، قال‏:‏ ‏"‏من طلب الحديث لغير الله تعالى مكر به‏"‏‏.‏

وقال أحمد بن أبي الحواري السيد الجليل في كتاب الزهد الذي صنفه، وسترى ما أنقل من النفائس - إن شاء الله - ولم يحصل إلي الآن إسناده؛ ولكن عندي منه نسخة جيدة متقنة، ذكر لي بعض أهل العلم والخبرة أنها بخط الدارقطني رحمه الله تعالى‏.‏

قال أحمد‏:‏ حدثنا إسحاق بن خلف قال‏:‏ حدثنا حفص بن غياث قال‏:‏ ‏"‏كان عبد الرحمن بن الأسود رضي الله عنه لا يأكل الخبز إلا بنية‏"‏‏.‏

-قلت لإسحاق‏:‏ وأي شيء النية في أكل الخبز‏؟‏ قال‏:‏ كان يأكل فإذا ثقل عن الصلاة خفف ليخف بها؛ فإذا خف ضعف فأكل ليقوى فكان أكله لها، وتركه لها‏.‏

قلت‏:‏ معنى يخف‏:‏ أي ينشط وتسهل عليه ويتلذذ بها‏.‏

وأحمد بن أبي الحواري يقال‏:‏ بفتح الراء ويكسرها، والكسر أشهر، والفتح سمعته مرات من شيخنا الحافظ أبي البقاء يحكيه عن أهل الإتقان أو عن بعضهم والله تعالى أعلم‏.‏

وقال أحمد بن أبي الحواري‏:‏ سمعت أبا سليمان -يعني- الداراني رحمه الله تعالى يقول‏:‏ ‏"‏عاملوا الله بقلوبكم‏"‏‏.‏ قلت‏:‏ معناه طهروا قلوبكم وصفوها، وهذبوها، ولا تخلوا بشيء من الأعمال الظاهرة‏.‏

‏"‏والداراني‏"‏ يقال‏:‏ بالنون بعد الألف الثانية، ويقال‏:‏ بهمزة بدل النون؛ وهو بالنون أشهر والوجهان فيه ذكرهما أبو سعيد السمعاني في الأنساب، لكن النون أشهر وأكثر استعمالًا؛ والهمز أقرب إلى الأصل‏.‏

وهو منسوب إلى داريا؛ القرية الكبيرة النفيسة بجانب دمشق‏.‏

وكان أبو سليمان من كبار العارفين، وأصحاب الكرامات الظاهرة، والأحوال الباهرة، والحكم المتظاهرة،

واسمه‏:‏ عبد الرحمن بن أحمد بن عطية‏.‏

وسيمر بك -إن شاء الله تعالى- جمل ما أنقله عنه من النفائس، وهو أحد متأخري بلادنا دمشق وما حولها رضي الله تعالى عنه‏.‏ ونسبه ما قاله‏:‏ أبو سليمان، ما رويناه عن السيد الجليل أبي علي الفضيل بن عياض رضي الله عنه‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏ما أدرك ما عندنا من أدرك‏!‏ بكثرة صلاة، ولا صوم؛ ولكن بسخاء النفس، وسلامة الصدر، والنصح للأمة‏"‏‏.‏

وقال إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه‏:‏ ‏"‏من أراد أن يقضيَ الله تعالى له بالخير فليحسن الظن بالناس‏"‏‏.‏

أخبرنا شيخنا الإمام أبو البقاء بقراءتي عليه، قال‏:‏ أخبرنا الحافظ عبد الغني إجازة، أخبرنا أبو طاهر السِّلَفي، أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن أحمد الدوني، قال‏:‏ سمعت أبا الحسن علي بن محمد الأسد أبادي، أخبرنا‏:‏ علي بن الحسين بن علي، أخبرنا‏:‏ أبو منصور يحيى بن أحمد المروزي، قال‏:‏ سمعت أبا العباس أحمد بن منصور، قال‏:‏ سمعت أبا طاهر محمد بن الحسين بن ميمون يقول‏:‏ سمعت أبا موسى هارون بن موسى يقول‏:‏ قال أبو حاتم محمد بن إدريس‏:‏ سمعت ‏[‏أبا‏]‏ قبيصة يقول‏:‏ رأيت سفيان الثوري في المنام فقلت‏:‏ ما فعل الله تعالى بك‏؟‏ فقال‏:‏

نظرتُ إلى ربي كِفاحًا فقال لي *** هنيئًا رضائي عنك يا ابنَ سعيد

لقد كُنْتَ قوَّامًا إِذا أظلمَ الدُجا *** بعَبْرة مُشتاقٍ وقلبِ عميد

فدونَك فاخترْ أيَّ قَصْرٍ أردتَه *** وزُرْني فإِني منكَ غيرُ بَعيد

‏[‏ضبط اسم الدوني والسلفي‏]‏

قلت‏:‏ ‏"‏السِّلَفي‏"‏ بكسر السين المهملة وفتح اللام، منسوب إلى جد له يقال له‏:‏ سلفة‏.‏ كان هذا الجد مشقوق الشفة، فقلب بالفارسية سِه لَفة بكسر السين وفتح اللام، أي‏:‏ ذو ثلاث شفاه، ثم عُرِّبت فقيل‏:‏ سلفة‏.‏ وكان أبو طاهر السِّلَفي أحد حفَّاظ عصره‏.‏

وأما ‏"‏الدُّوْني‏"‏ بضم الدال وإسكان الواو، فمنسوب إلى الدون‏:‏ قرية بخراسان من أعمال الدينور‏.‏

وأما ‏"‏الأسد أبادي‏"‏‏:‏ فمنسوب لأسد أباد بُلَيدة على مرحلة من همذان إذا توجهت إلى العراق‏.‏

وأما ‏"‏الثوري‏"‏‏:‏ فمنسوب إلى بثي ثور بن عبد مناف بن أدّ بن طابخة بن إلياس، بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان‏.‏

‏[‏شرح الكلمات‏]‏

-وأما قوله ‏"‏نظرت إلى ربي كفاحًا‏"‏‏:‏ فهو بكسر الكاف، ومعناه‏:‏ معاينة بغير حجاب ولا رسول‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏إذا أظلم الدجا‏"‏ هو الظلام‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏عميد‏"‏ أي محب صادق الحب لله‏.‏

قال أهل اللغة‏:‏ العميد القلب الذي هزه العشق‏.‏

أخبرنا شيخنا‏:‏ الإمام الحافظ أبو البقاء رحمه الله تعالى‏:‏

أخبرنا ‏[‏أبو‏]‏ محمد بن عبد العزيز بن معالي، أخبرنا القاضي أبو بكر الخطيب، أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي الأنصاري، حدثنا الإمام الحافظ أبو بكر الخطيب‏:‏ أخبرنا أبو الفتح محمد بن أحمد بن أبي الفوارس، أخبرنا محمد بن أحمد الوراق، قال‏:‏ سمعت عبد الله ابن سهل الرازي يقول‏:‏ سمعت يحيى بن معاذ الرازي رضي الله تعالى عنه يقول‏:‏ كم من مستغفر ممقوت‏.‏ وساكت مرحوم‏!‏ ‏[‏يقول‏]‏ هذا‏:‏ أستغفر الله، وقلبه فاجر‏!‏ وهذا ساكت، وقلبه ذاكر‏.‏

-وبالإسناد إلى الخطيب قال‏:‏ حدثنا أبو الحسن الواعظ، قال‏:‏ سمعت أبا عبد الله بن عطا الروذباري رحمه الله يقول‏:‏ ‏"‏من خرج إلى العلم يريد العمل به نفعه قليل العلم‏"‏‏.‏

وبهذا الإسناد قال أبو عبد الله بن عطاء‏:‏ العلم موقوف على العمل به، والعمل موقوف على الإخلاص، والإخلاص لله تعالى يورث الفهم عن الله تعالى‏.‏

قلت‏:‏ يعني العلم النافع المطلوب، كما قال إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه‏:‏ ‏"‏ليس العلم ما حفظ، العلم ما نفع‏"‏‏.‏

-وأخبرنا شيخنا أبو البقاء، أخبرنا أبو محمد، أخبرنا أبو بكر، أخبرنا الخطيب، أخبرنا علي بن محمود الصوفي، أخبرنا عبد الوهاب بن الحسن الكلابي، حدثنا سعيد بن عبد العزيز الحلبي قال‏:‏ سمعت قاسما الجوعي رضي الله تعالى عنه يقول‏:‏ ‏"‏أصل الدين الورع، وأفضل العبادة مكابدة الليل، وأفضل طريق الجنة سلامة الصدر‏"‏‏.‏

قلت‏:‏ ‏"‏الجُوْعي‏"‏ بضم الجيم وإسكان الواو‏.‏

قال الإمام الحافظ أبو سعيد السمعاني في كتاب الأنساب‏:‏ قاسم الجوعي هذا، له كرامات؛ منسوب إلى الجوع‏.‏ قال‏:‏ ولعله كان يبقى جائعًا كثيرًا‏.‏

-وأخبرنا شيخنا أبو البقاء، أخبرنا أبو محمد، أخبرنا أبو بكر‏.‏ أخبرنا الخطيب، أخبرنا أحمد بن الحسين بن السماك قال‏:‏ سمعت أبا بكر الدقي قال‏:‏ سمعت أبا بكر الزقاق رضي الله عنه يقول‏:‏ بني أمرنا هذا على أربع‏:‏‏

‏(‏1‏)‏ لا نأكل إلا عن فاقة‏.‏‏

‏(‏2‏)‏ ولا ننام إلا عن غلبة‏.‏‏

‏(‏3‏)‏ ولا نسكت إلى عن خيفة‏.‏‏

‏(‏4‏)‏ ولا نتكلم إلا عن وجد‏.‏

‏[‏ضبط اسم الدقي والزقاق‏]‏

قلت‏:‏ ‏"‏الدُّقِّي‏"‏ بضم الدال وكسر القاف المشددة، وهو من كبار الصوفية وأهل المعارف والكرامات، توفي بدمشق في جمادى الأولى سنة ستين وثلاثمائة‏.‏

وأما ‏"‏الزَّقَّاق‏"‏ فبفتح الزاي، وتشديد القاف‏.‏ قال السمعاني‏:‏ هو نسبة إلى الزق وعمله وبيعه‏.‏

-كان أبو بكر الزقاق هذا من كبار الصوفية أصحاب الكرامات الظاهرات، والمعارف المتظاهرات‏.‏

وبهذا الإسناد إلى الزقاق قال‏:‏ كل أحد ينسب إلى نسب إلا الفقراء، فإنهم ينسبون إلى الله عز وجل‏.‏

وكل حسب ونسب ينقطع، إلا حسبهم ونسبهم، فإن نسبهم الصدق، وحسبهم الفقر‏.‏

وبلغنا عن الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه فيما رواه البيهقي - رحمه الله - بإسناده عن يونس بن عبد الله، وقيل‏:‏ ابن عبد الأعلى قال‏:‏ قال الشافعي رضي الله تعالى عنه‏:‏ ‏"‏يا أبا موسى‏!‏ لو اجتهدت كلَّ الجهد، على أن ترضي الناس كلهم فلا سبيل إليه، فإن كان كذلك، فأخلص عملك ونيتك لله عز وجل‏"‏‏.‏

وأخبرنا شيخنا أبو البقاء أخبرنا أبو محمد أخبرنا أبو بكر أخبرنا الخطيب أخبرنا أحمد بن الحسين الواعظ قال‏:‏ سمعت أبا بكر الطرسوسي يقول‏:‏ سمعت ‏[‏أبا بكر‏]‏ إبراهيم بن شيبان يقول‏:‏ سمعت أبا عبد الله المغربي يقول‏:‏ صوفي بلا صدق، الرُوْزجار أحسن منه‏"‏‏.‏

قلت‏:‏ هو ‏"‏براء مضمومة، ثم واو ساكنة، ثم زاي، ثم جيم ثم ألف، ثم راء‏"‏‏.‏ وهو الذي يعمل في الطين بالمجرفة ونجوها‏.‏‏

باب في الإخلاصَ وإحضَار النية في جميع الأعمال الظاهرة والخفية‏.‏

فصل ‏[‏في كتب الحسنات والسيئات‏]‏‏.‏

‏[‏كتاب محمد بن سليمان إلى حماد بن سلمة‏]‏

وروينا بأسانيد متعددة، عن مقاتل بن صالح الخراساني قال‏:‏ دخلت على حماد بن سلمة رضي الله تعالى عنه، فإذا ليس في البيت إلى حصير‏"‏ وهو جالس عليه، ومصحف يقرأ فيه، وجراب فيه علمه، ومطهرة يتوضأ فيها‏!‏ فبينا أنا عنده جالس إذ دق داق الباب، فقال‏:‏ يا صبية اخرجي فانظري‏!‏ من هذا قال‏:‏ هذا رسول محمد بن سليمان‏!‏

-قال‏:‏ قولي له‏:‏ يدخل وحده؛ فدخل فسلم وناوله كتابًا،

فقال‏:‏ اقرأه، فإذا فيه‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم‏:‏ من محمد بن سليمان إلى حماد بن سلمة، أما بعد فصبحك الله بما صبح به أولياءه وأهل طاعته، وقعت مسألة فإنا نسألك عنها‏؟‏

-فقال‏:‏ يا صبية هلمي بالدواة‏!‏ ثم قال‏:‏ اكتب في ظهر الكتاب‏!‏

-أما بعد؛ وأنت صبحك الله بما صبح به أولياءه، وأهل طاعته‏.‏ أدركنا العلماء وهم لا يأتون أحدًا، فإن وقعت مسألة فائتنا‏!‏ فتسألنا عما بدا لك، وإن أتيتني فلا تأتني إلا وحدك، ولا تأتني بخيلك ورجلك فلا أنصحك، ولا أنصح نفسي والسلام‏!‏

-فبينا أنا عنده جالس‏!‏ إذ دق داق الباب، فقال‏:‏ يا صبية أخرجي فانظري من هذا‏؟‏

فقالت‏:‏ محمد بن سليمان‏!‏

قال‏:‏ قولي له يدخل وحده قال‏:‏ فدخل فسلم ثم جلس بين يديه فقال‏:‏ مالي إذا نظرت إليك امتلأت رعبًا‏؟‏‏!‏ فقال حماد‏:‏ سمعت ثابتًا - يعني البناني - يقول‏:‏ سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه يقول‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏العالم إذا أراد بعمله وجه الله تعالى هابه كل شيء، وإذا أراد أن يكثر به الكنوز، هاب من كل شيء‏!‏‏"‏‏.‏

فقال‏:‏ ما تقول -يرحمك الله- في رجل له ابنان، وهو عن أحدهما أرضى، فأراد أن يجعل له في حياته ثلثي ماله‏؟‏ فقال‏:‏ لا‏!‏ ويرحمك الله، فإني سمعت ثابتًا البناني يقول‏:‏ سمعت أنس بن مالك يقول‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏إن الله عز وجل إذا أراد أن يعذب عبدًا بماله وفقه عند موته لوصية جائرة‏"‏‏.‏

قال‏:‏ فحاجة‏؟‏ قال‏:‏ هات‏!‏ ما لم تكن رزية في دين‏!‏ قال‏:‏ أربعين ألف درهم فتأخذها فتستعين بها على ما أنت عليه‏.‏

قال‏:‏ ارددها على من ظلمته بها‏!‏

قال‏:‏ والله ما أعطيتك إلا ما ورثته‏!‏

قال‏:‏ لا حاجة لي فيها، ازوها عني‏!‏ زوى الله عنك أوزارك‏!‏

قال‏:‏ فغير هذا‏؟‏ قال‏:‏ هات ما لم يكن رزية في دين الله‏"‏‏.‏

قال‏:‏ تأخذها فتقسمها‏!‏

قال‏:‏ فلعلي إن عدلت في قسمتها أن يقول بعض من لم يرزق منها، إنه لم يعدل في قسمتها فيأثم‏!‏ أزورها عني زوى الله عنك أوزارك‏!‏‏.‏

قلت‏:‏ ما أحسن هذه الحكاية‏!‏ وما أحسن فوائدها‏!‏ وما جمعت من النفائس والتنبيه على قواعد مهمة، وهي بارزة لا تحتاج إلى التنصيص عليها، ولكن فيها أحرف من اللغة نضبطها، وإن كانت معروفة صيانة لها،

فقوله‏:‏ ‏"‏ومُصْحف يقرأ‏"‏ يقال‏:‏ مصحف بضم الميم، وكسرها‏.‏ وفتحها ثلاث لغات، الضم أفصح، وقد أوضحتها وبينت أصولها واشتقاقها في كتاب ‏"‏تهذيب الأسماء واللغات‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏جِرَاب‏"‏ بكسر الجيم وفتحها لغتان، والمِطهرة‏:‏ هي بكسر الميم وفتحها لغتان، وهي كالإبريق والركوة وغيرهما مما يتطهر به‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏هلمي‏"‏ بمعنى أعطيني، وهذه إحدى اللغتين، والأخرى ‏"‏هلم‏"‏ للرجل والمرأة، والمثنى والمجموع، وهي أفصح، وبها جاء القرآن، قال الله عز وجل‏:‏ ‏"‏هلم شهداءكم‏"‏ و ‏"‏هلم إلينا‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏هاتِ‏"‏ هو‏:‏ بكسر التاء بلا خلاف‏.‏ ‏

باب في الإخلاصَ وإحضَار النية في جميع الأعمال الظاهرة والخفية‏.‏

فصل ‏[‏في كتب الحسنات والسيئات‏]‏‏.‏

‏[‏حماد بن سلمة‏]‏

أخبرنا شيخنا الحافظ أبو البقاء بقراءتي عليه، أخبرنا الحافظ عبد الغني إجازة، أخبرنا محمد بن عبد الباقي، أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد، أخبرنا الحسين بن صفوان، حدثنا عبد الله بن محمد أبو عبد الله التميمي، عن أبيه قال‏:‏ رأيت حماد بن سلمة في النوم فقلت‏:‏ ما فعل بك ربك‏؟‏ قال‏:‏ خيرًا‏!‏ قلت‏:‏ ماذا قال‏؟‏ قال لي‏:‏ طالما كددت نفسك‏!‏ فاليوم أطيل راحتك وراحة المتعوبين من أجلي، بخ بخ ماذا أعددت لهم‏؟‏‏!‏‏.‏ ‏

باب في نفائس مأثورة

وروينا في صحيح البخاري رحمه الله قال‏:‏ قال عمار رضي الله تعالى عنه في هذه الكلمات‏:‏

ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان‏:‏‏

الإنصاف من نفسك‏.‏‏

وبذل السلام للعالم‏.‏‏

والإنفاق في الإقتار‏.‏

قلت‏:‏ قد جمع - رضي الله تعالى عنه - في هذه الكلمات خيرات الآخرة والدنيا‏.‏

وعلى هذه الثلاث مدار الإسلام، لأن من أنصف من نفسه فيما لله تعالى، وللخلق عليه، ولنفسه - من نصيحتها، أو صيانتها - فقد بلغ الغاية في الطاعة‏.‏

وقوله‏:‏ بذل السلام للعالم هو‏:‏ ‏"‏بفتح اللام‏"‏ ‏[‏يعني الناس، وعدم التكبر عليهم، أي الارتفاع فوقهم‏]‏ يعني الناس كلهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف‏"‏‏.‏

وهذه من أعظم مكارم الأخلاق، وهو متضمن للسلامة من العدوات والأحقاد، واحتقار الناس والتكبر عليهم، والارتفاع فوقهم، وأما ‏"‏الإنفاق في الإقتار‏"‏‏:‏ فهو الغاية في الكرم‏!‏ وقد مدح الله سبحانه وتعالى على ذلك،

فقال تعالى‏:‏ ‏(‏ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة‏)‏‏.‏ وهذا عام في نفقة الرجل على عياله وضيفه، والسائل منه، وكل نفقة في طاعة الله عز وجل؛ وهو‏:‏‏

‏(‏1‏)‏ متضمن للتوكل على الله تعالى، والاعتماد على سعة فضله، والثقة بضمان الرزق‏.‏‏

‏(‏2‏)‏ ويتضمن - أيضًا - الزهد في الدنيا، وعدم ادخار متاعها، وترك الاهتمام بشأنها، والتفاخر والتكاثر بها‏.‏‏

‏(‏3‏)‏ ويتضمن غير ما ذكرته من الخيرات، لكني أوثر في هذا الكتاب الاختصار البليغ خوفًا من الملل‏.‏

وقد روينا هذه الكلمات في ‏"‏شرح السنة‏"‏ للبغوي، عن عمار رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، والله أعلم‏.‏

وروينا في ‏"‏صحيح مسلم‏"‏ رحمه الله تعالى قال‏:‏ حدثنا يحيى بن يحيى، قال‏:‏ أخبرنا عبد الله بن أبي يحيى بن أبي كثير، قال‏:‏ سمعت أبي يقول‏:‏ ‏"‏لا يستطاع العلم براحة الجسم‏"‏‏.‏

وروينا في ‏"‏صحيح البخاري‏"‏ رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ قال ربيعة - يعني شيخ مالك بن أنس الإمام رضي الله تعالى عنه قال -‏:‏ ‏"‏لا ينبغي لمن عنده شيء من العلم، أن يضع نفسه‏"‏‏.‏

قلت‏:‏ في معنى كلام ربيعة قولان أوضحتهما في ‏"‏شرح البخاري‏"‏ واختصرتهما هنا‏:‏‏

أحدهما‏:‏ معناه من كانت فيه نجابة في العلم، وحصل طرفًا منه، وظهرت فيه أمارات التبريز فيه، فينبغي له أن يجتهد في تنمته، ولا يضيع طلبه فيضع نفسه‏.‏‏

والثاني‏:‏ معناه من حصل له العلم، ينبغي له أن يسعى في نشره، مبتغيًا به رضا الله تعالى، ويشيعه في الناس لينتقل عنه، وينتفع به الناس، وينتفع هو، وينبغي أن يرفق في نشره بمن يأخذه منه، ويسهل طرق أخذه، ليكون أبلغ في نصيحة العلم فإن الدين النصيحة‏.‏

وقد اختلف أصحاب الشافعي رضي الله عنه وإياهم، فيمن كان بالصفة المذكورة في الأول هل يتعين عليه تنميم الطالب‏؟‏ ويحرم الترك‏؟‏ أم يبقى في حقه فرض كفاية، كما كان فلا يحرم عليه الترك إذا قام به غيره‏؟‏‏.‏

وهذا الثاني هو قول أكثرهم وهو الصحيح المختار والله أعلم‏.‏

وروينا عن عمر بن الخطاب وابنه عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ ‏"‏من رق وجهه رق علمه‏!‏‏"‏‏.‏

ومعناه‏:‏ من استحيا في طلب العلم، كان علمه رقيقًا؛ أي‏:‏ قليلًا‏.‏

وروينا في صحيح البخاري رضي الله تعالى عنه، قال مجاهد رحمه الله‏:‏ ‏"‏لا يتعلم العلم مستح ولا متكبر‏"‏‏.‏

وروينا في صحيح مسلم وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ ‏"‏نعم النساء نساء الأنصار‏!‏ لم يكن يمنعهن الحياة أن يتفقهن في الدين‏"‏‏.‏‏

باب في نفائس مأثورة‏.‏

‏[‏الحث على طلب العلم‏]‏

وروينا في صحيح البخاري قال‏:‏ قال عمر رضي الله تعالى عنه‏:‏ ‏"‏تفقهوا قبل أن تسودوا‏"‏‏.‏

ومعناه‏:‏ احرصوا على إتقان العلم، والتمكن من تحصيله، وأنتم شبان لا أشغال لكم ولا رئاسة ولا سن؛ فإنكم إذا كبرتم وصرتم سادة متبوعين، امتنعتم من التفقه والتحصيل، لأسباب منها‏:‏ كثرة الأشغال، ومنها الأنفة لكبر السن والرئاسة، ومنها‏:‏ التكاسل وغير ‏[‏ذلك‏]‏

وهذا نحو ما قال الإمام الشافعي رضي الله عنه‏:‏ ‏"‏تفقه قبل أن ترأس، فإذا رأست فلا سبيل إلى التفقه‏"‏‏.‏

أخبرنا شيخنا أبو البقاء، أخبرنا أبو محمد، أخبرنا أبو بكر، أخبرنا الخطيب، وأخبرنا أبو محمد الصفهاني، وأخبرنا جعفر الخلدي، قال‏:‏ سمعت الجنيد رحمه الله تعالى يقول‏:‏ سمعت سريًا يقول‏:‏

‏"‏وما أحب أن أموت حيث أعرف، أخاف أن لا تقبلني الأرض وأفتضح‏!‏‏"‏‏.‏

وبهذا الإسناد قال الجنيد‏:‏ سمعت سريًا يقول‏:‏

‏"‏إني لأنظر إلى أنفي كل يوم مرتين، مخافة أن يكون قد اسود وجهي‏!‏‏"‏‏.‏ ‏

باب في نفائس مأثورة‏.‏

‏[‏فوائد مفيدة‏]‏

وبهذا الإسناد إلى الخطيب قال‏:‏ حدثنا علي بن القاسم، قال‏:‏ سمعت الحسين بن أرجك يقول‏:‏

‏"‏من خير المواهب العقل، ومن شر المصائب الجهل‏"‏‏.‏

وبالإسناد إلى الخطيب قال‏:‏ أخبرنا عبد العزيز، حدثنا محمد، قال‏:‏ سمعت أبا عبد الله محمد بن عبد الله - تلميذ بشر بن الحارث - قال‏:‏ سمعت ابن الحارث رضي الله عنه يقول‏:‏

‏"‏كانوا لا يأكلون تلذذًا، ولا يلبسون تنعمًا‏!‏‏"‏‏.‏

قال‏:‏ ‏"‏وهذا طريق الآخرة والأنبياء والصالحين، ومن بعدهم فمن زعم أن الأمر في غير هذا فهو مفتون‏!‏‏"‏‏.‏

وبالإسناد إلى الخطيب قال‏:‏ أخبرنا عبد الرحمن بن محمد النيسابوري، حدثنا محمد بن عبد الله بن بهلول الفقيه، حدثنا أحمد بن علي بن أبي حمير قال‏:‏ سمعت سهل بن عبد الله رحمه الله يقول‏:‏

‏"‏حرام على قلب أن يشم رائحة اليقين، وفيه سكون إلى غير الله تعالى، وحرام على قلب أن يدخله النور، وفيه شيء مما يكرهه الله تعالى‏"‏‏.‏

وبالإسناد إلى الخطيب قال‏:‏ أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد الأهوازي، حدثنا أبو عبد الله بن محمد بن مخلد العطار، حدثنا موسى بن هارون، حدثنا محمد يعني إبراهيم بن هيصم قال‏:‏ سمعت بشرًا - هو - ابن الحارث رحمه الله يقول‏:‏ ‏"‏أوحى الله تعالى إلى داود‏:‏ ‏"‏يا داود‏!‏ لا تجعل بيني وبينك عالمًا مفتونًا؛ فيصدك بسكره عن طريق محبتي، أولئك قطاع طريق عبادي‏"‏‏.‏ نسأل الله العافية‏.‏

أخبرنا شيوخنا الثلاثة الأئمة‏:‏‏

‏(‏1‏)‏ القاضي الإمام بقية المشايخ أبو الفضل عبد الكريم بن القاضي أبي القاسم عبد الصمد بن محمد الأنصاري‏.‏‏

‏(‏2‏)‏ والإمام الحافظ أبو البقاء خالد بن يوسف‏.‏‏

‏(‏3‏)‏ والشيخ الإمام ذو الفنون شيخ الشيوخ أبو محمد عبد العزيز بن العاصي الإمام أبي عبد الله محمد بن عبد المحسن بن محمد بن منصور الأنصاري، الدمشقيون، قالوا‏:‏ أخبرنا الشيخ الإمام أبو اليمن زيد بن الحسن الكندي، أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي الأنصاري، أخبرنا أبو إسحاق بن عمر بن أحمد البرمكي، أخبرنا أبو محمد عبد الله بن إبراهيم ناشي، أخبرنا أبو مسلم إبراهيم بن عبد الله الكجي، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، حدثنا سليمان التيمي، عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ ‏"‏لو يعلم الناس عون الله عز وجل للضعيف ما غالوا بالظهر‏"‏‏.‏‏

باب في نفائس مأثورة‏.‏

‏[‏من مواعظ الإمام‏]‏

وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه‏:‏

‏"‏عليك بالزهد‏!‏ فالزهد على الزاهد أحسن من الحلي على الناهد‏"‏‏.‏

وقال الربيع رحمه لله تعالى‏:‏ قال لي الشافعي رضي الله تعالى عنه‏:‏ ‏"‏يا ربيع‏!‏ لا تتكلم فيما لا يعنيك؛ فإنك إذا تكلمت بالكلمة ملكتك ولم تملكها‏"‏‏.‏

وقال المزني رحمه الله تعالى‏:‏ سمعت الشافعي رضي الله تعالى عنه يقول‏:‏ ‏"‏ليس لأحد إلا له محب ومبغض، فإذا لا بد من ذلك فليكن المرء مع أهل طاعة الله عز وجل‏"‏‏.‏‏

باب في نفائس مأثورة‏.‏

‏[‏سفيان بن عيينة‏]‏

وروينا عن الحسن بن عمران بن عيينة، أن سفيان بن عيينة رضي الله تعالى عنه، قال له بالمزدلفة في آخر حجة حجها‏:‏ قد وافيت هذا الموضع سبعين مرة أقول في كل مرة‏:‏

‏"‏اللهم لا تجعله آخر العهد من هذا المكان‏!‏ وقد استحييت من الله عز وجل من كثرة ما أسأله‏"‏‏.‏ فرجع فتوفي في السنة الداخلة‏.‏‏

باب في نفائس مأثورة‏.‏

‏[‏صورة رائعة من الورع‏]‏

-أخبرنا الشيخ الأمين السيد أبو الفضل محمد بن محمد بن محمد ابن التيمي البكري، بقراءتي عليه بكلاسة جامع دمشق، قال‏:‏ أخبرنا الشيخ أبو حفص عمر بن محمد بن معمر بن طبرزد، قال‏:‏ أخبرنا الحافظ أبو القاسم إسماعيل بن أحمد بن عمر السمرقندي، قال‏:‏ سمعت عبد الدائم بن الحسن الهلالي يقول‏:‏ سمعت عبد الوهاي بن الحسن كلالبي يقول‏:‏ سمعت محمد بن خريم العقيلي يقول‏:‏ سمعت أحمد بن أبي الحواري يقول‏:‏

-تمنيت أن أرى أبا سليمان الداراني - رحمه الله - في المنام، فرأيته بعد سنة فقلت له‏:‏ يا معلم‏!‏ ما فعل الله بك‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏يا أحمد‏!‏ جئت من باب الصغير فلقيت وسق شيخ فأخذت منه عودًا ما أدري تخللت به أو رميت به، فأنا في حسابه منذ سنة إلى هذه الليلة‏"‏‏.‏

قلت‏:‏ ما أبلغ هذه الحكاية في الحث على الورع والتحذير من التساهل في محقرات المظالم‏؟‏‏!‏‏.‏

والوسق‏:‏ ‏"‏بفتح الواو وبمسرها‏"‏ لغتان‏:‏ وهو الحِملُ‏.‏

-‏"‏ومعمر‏"‏ المذكور بضم الميم الأولى وفتح الثانية وتشديدها‏.‏

-‏"‏وخريم‏"‏ بضم الخاء وبالراء‏.‏ ‏"‏والعقيلي‏"‏ بضم العين‏.‏

-أخبرنا شيخنا الإمام الصالح الحافظ المتقن، أبو إسحاق إبراهيم ابن عيسى بن يوسف المرادي بقراءتي عليه، أخبرنا الشيخ الإمام أبو الحسن بن هبة الله الحميري، أخبرنا الحافظ أبو طاهر السلفي، أخبرنا الإمام أبو بكر أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد زنجويه الزنجوي، أخبرنا أبو طالب يحيى بن علي الدسكري قال‏:‏ سمعت أبا أحمد الغطريفي يقول‏:‏ سمعت أبا العباس محمد بن إسحاق السراج يقول‏:‏ سمعت عبد الله بن محمد الوراق يقول‏:‏ مروا بمعروف أيام الفتنة يتقاتلون وهو يقول لهم‏:‏ مروا أصحبكم الله‏!‏ مروا بارك الله فيكم‏!‏ فقيل له‏:‏ إنهم يخرجون للقتال‏!‏ فقال‏:‏ ‏"‏إن أصحبهم الله لم يقاتلوا‏"‏‏.‏‏

باب في نفائس مأثورة‏.‏

‏[‏شذرات حسنة من كلام العارفين‏]‏

-أخبرنا شيخنا أبو إسحاق بهذا الإسناد إلى السراج ‏[‏قال‏]‏‏:‏ سمعت ‏[‏ابن أبي الدنيا يقول‏:‏ جلس إلى معروف، فاغتاب رجل منهم رجلًا فقال‏:‏ يا هذا‏!‏ اذكر يوم يوضع القطن على عينيك‏]‏ ‏.‏

وبهذا الإسناد قال السراج‏:‏ سمعت يحيى بن أبي طالب يقول‏:‏ سمعت يعقوب بن أخ معروف يقول‏:‏ سمعت عمي يقول‏:‏ ‏"‏كلام فيما لا يعنيه خذلان من الله تعالى‏"‏‏.‏

وبهذا الإسناد قال السراج‏:‏ سمعت علي بن الموفق يقول‏:‏ كان من دعاء معروف‏:‏ ‏"‏يا مالك يا قدير يا من ليس له نظير‏"‏‏!‏‏.‏

-وبهذا الإسناد إلى الغطريفي قال‏:‏ أخبرنا أبو الحسن التاجر قال‏:‏ حدثنا سلمة بن شبيب، حدَّثنا خلف بن تميم قال‏:‏ رأيت ابن أدهم بالشام فقلت‏:‏ ما أقدمك ها هنا‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏أما أنا لم أقدمها لجهاد ولا لرباط، ولكن قدمتها لأشبع من خبز حلال‏"‏‏.‏ ‏

باب في نفائس مأثورة‏.‏

‏[‏الصدق سبب النجاة‏]‏

-وروينا عن الحافظ أحمد بن عب الله العجلي قال‏:‏ ‏"‏ربعي بن خراش‏"‏ تابعي ثقة، لم يكذب قط، كان لن ابنان عاصيان زمن الحجاج، فقيل للحجاج‏:‏ إن أباهما لم يكذب قط، لو أرسلت إليه فسألته عنهما؛ فأرسل إليه فقال‏:‏ أين ابناك‏؟‏ فقال‏:‏ هما في البيت‏!‏ فقال‏:‏ ‏"‏قد عفونا عنهما بصدقك‏!‏‏"‏‏.‏

وقال الحارث الغزي آلى ربيع بن خراش أن لا يصير ضاحكًا حتى يعلم أين مصيره‏؟‏ فما ضحك إلا بعد موته‏!‏‏.‏

-وآلى أخوه ربعي بعده أن لا يضحك حتى يعلم في الجنة هو أو في النار‏؟‏‏!‏ قال الحارث‏:‏ ولقد أخبرني غاسله أنه لم يزل مبتسمًا على سريره ونحن نغسله حتى فزعنا ‏[‏من غسله‏]‏‏!‏‏.‏

-وروينا عن أحمد بن عبد الله قال‏:‏ اجتمع قراء أهل الكوفة في منزل الحكم بن عتيبة، فأجمعوا على أن أقرأ أهل الكوفة ‏"‏طلحة بن مصرف‏"‏، فبلغه ذلك فقعد إلى ‏"‏الأعمش‏"‏ يقرأ عليه ليذهب ذلك الاسم عنه‏!‏‏.‏

قلت‏:‏ ‏"‏عتيبة‏"‏ بتاء مثناة من فوق، ثم ياء مثناة من تحت، ثم ياء موحدة‏.‏

-‏"‏ومصرف‏"‏ بضم الميم، وفتح الصاد المهملة، وكسر الراء المشددة على المشهور‏.‏ وقيل‏:‏ بفتح الراء‏.‏

-وعن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى قال‏:‏ قيل لأبيِّ بن كعب رضي الله تعالى عنه‏:‏ يا أبا المنذر‏!‏ عظني، قال‏:‏ ‏"‏وآخي الإخوان على قدر تقواهم، ولا تجعل لسانك بدأة لمن لا يرغب فيه، ولا تغبط الحي إلا بما تغبط به الميت‏"‏‏!‏‏.‏

-وعن الشافعي رحمه الله تعالى قال‏:‏ قال فضيل بن عياض رضي الله تعالى عنه‏:‏

‏"‏كم ممن يطوف هذا البيت وآخر بعيد منه وأعظم أجرًا منه‏"‏‏.‏

وعن الشافعي عن فضيل قال‏:‏ قال داود النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إلهي كن لابني سليمان من بعدي كما كنت لي‏"‏‏!‏‏.‏

-فأوحى الله تعالى إليه‏:‏ يا داود قل لابنك سليمان يكن لي مثلما كنت لي، أكون له كما كنت لك‏.‏

وعن الشافعي رضي الله عنه قال‏:‏ قال هشام بن عبد الملك‏:‏ ارفع حاجتك إليَّ‏!‏ فقال‏:‏ ‏"‏قد رفعتها إلى الجواد الكريم‏"‏‏.‏

-وروينا في رسالة الأستاذ أبي القاسم القشيري رحمه الله تعالى في باب كرامات الأولياء قال‏:‏ كان لجعفر الخلدي فصح فوقع يومًا في دجلة، وكان عنده دعاء مجرب للضالة ترد فدعا به فوجد الفص، في وسط أوراق كان يتصفحها‏!‏‏.‏‏

باب في نفائس مأثورة‏.‏

‏[‏الدعاء لرد الضالة‏]‏

قال القشيري‏:‏ سمعت أبا حاتم السجستاني يقول‏:‏ سمعت أبا نصر السراج يقول‏:‏ إن ذلك الدعاء‏:‏ ‏"‏يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه، اجمع علي ضالتي‏"‏‏!‏‏.‏

-قلت‏:‏ وقد جريت هذا الدعاء، فوجدته نافعًا، سببًا لوجود الضالة على قرب غالبًا وأنه لم ينخرم‏.‏

وسمعت شيخنا أبا البقاء يقول‏:‏ نحو ذلك؛ وهو علمنيه أولًا‏.‏ وقوله‏:‏ ‏"‏فص‏"‏ هو بفتح الفاء وكسرها، لغتان الفتح أجود‏.‏

-وأما ‏"‏جعفر الخلدي‏"‏ هو بضم الخاء المعجمة وإسكان اللام‏.‏

قال الحافظ الإمام أبو سعيد السمعاني في الأنساب‏:‏

-الخلد‏:‏ محلةٌ ببغداد ينسب إليها صبيح بن سعيد، الراوي عن عثمان بن عفان وعائشة رضي الله عنهما‏.‏

-قال‏:‏ وأما جعفر بن محمد بن نصر الخلدي الخواص، أبو محمد أحد مشايخ الصوفية له كرامات ظاهرة‏.‏ وإنما قيل له‏:‏ ‏"‏الخلدي‏"‏ لأنه كان يومًا عند الجنيد، فسل الجنيد عن مسألة، فقال الجنيد‏:‏ أجبهم ‏!‏ فأجابهم‏.‏ فقال له‏:‏ ‏[‏الجنيد‏]‏‏:‏ يا خلدي من أي لك هذه الأجوبة‏؟‏ ‏[‏فقال‏:‏ من خلدي‏]‏ فبقي عليه هذا الاسم‏.‏ توفي سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة‏.‏

روى عنه الدارقطني، وأبو حفص بن شاهين، وغيرهما وكان ثقة‏.‏

روى عن الحارث بن أبي أسامة وغيره وقال أحمد بن أبي الحواري في كتاب الزهد‏:‏ سمعت بعض أصحابنا، أظنه أبا سليمان - يعني - الداراني رضي الله عنه قال‏:‏ لإبليس شيطان يقال له‏:‏ متقاض يتقاضى ابن آدم عشرين سنة ليخبر بعمله سرًا؛ فيظهر له ليزيح عنه ما بين أجر السر والعلانية‏.‏

وروينا عن إبراهيم بن سعيد قال‏:‏ قلت لأبي سعد بن إبراهيم‏:‏ بم فاقكم الزهري‏؟‏ قال‏:‏ كان يأتي المجالس من صدورها، ولا يأتيها من خلفها، ولا يبقى في المجلس شاب إلا ساءله، ولا كهل إلا ساءله، ولا فتى إلا ساءله، ولا عجوز إلا ساءلها، ‏[‏ثم يأتي الدار من دور الأنصار؛ فلا يبقى فيها شاب إلا ساءله، ولا كهل إلا ساءله، ولا عجوز إلا ساءلها ‏]‏ ولا كهلة إلا ساءلها، حتى يحاول ربات الحجول‏.‏‏

باب في نفائس مأثورة‏.‏

‏[‏كتاب عمر رضي الله تعالى عنه‏]‏

-ومن أحسن ما يتأدب به في ترك الاعتناء بحس اللباس والمأكل والمشرب ونحوها، وما روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، بإسنادنا إلى أبي عوانة الإسفرايني قال‏:‏ حدثنا أبو حبيب المصيصي حدثنا حجاج قال‏:‏ سمعت شعبة يحدث عن قتادة قال‏:‏ سمعت أبا عثمان النهدي رحمه الله تعالى عنه ونحن بأذربيجان مع عتبة بن فرقد‏:‏

أما بعد؛ فاتزروا، وارتدوا، وانتعلوا، وارموا بالخفاف، وألقوا السراويلات، وعليكم بلباس أبيكم إسماعيل عليه الصلاة والسلام، وإياكم والتنعم وزي العجم، وعليكم بالشمس فإنها حمام العرب؛ وتمعددوا، واخشوشنوا، واخلولقوا، واقطعوا الركب، وارموا لأغراض، وانزوا نزوًا‏.‏

-قوله‏:‏ ‏"‏اخلولقوا‏"‏ لم أقف على ضبطه، ولعلها بالخاء المعجمة من قول العرب‏:‏ اخلولق السحاب إذا استوى، واخلولق الرسم إذا استوى بالأرض‏.‏

-أما ضبط ألفاظه‏:‏ ‏"‏فالمصيصي‏"‏ بكسر الميم، والصاد المشددة ويقال بفتح الميم، وتخفيف الصاد؛ الأول‏:‏ أشهر وأرجح؛ نسبة إلى المصيصة البلدة المعروفة بناحية طرطوس بلاد الأرمن‏.‏

-و‏"‏أبو عثمان النهدي‏"‏ بفتح النون، وإسكان الهاء، منسوب إلى جد له من أجداده‏.‏ والأول اسمه‏:‏ ‏"‏نهد بن زيد بن ليث‏"‏، واسم أبي عثمان‏:‏ عبد الرحمن بن ملَّ‏"‏ بفتح الميم وضمها وكسرها، واللام مشددة فيها‏.‏

ويقال‏:‏ ملء بكسر الميم، وإسكان اللام، وبعدها همزة، وهو من كبار التابعين المخضرمين، واحدهم‏:‏ مخضرم بفتح الراء،

وهو من أدرك الجاهلية والإسلام وحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يره صلى الله عليه وسلم‏.‏

-وقد بينت هذا القدر من حاله في الإرشاد في علوم الحديث، الذي اختصرته من كتاب الشيخ أبي عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى‏.‏

-وكان أبو عثمان رحمه الله، عظيم القدر، كبير الشأن، قال‏:‏ بلغت نحوًا من ثلاثين ومائة سنة، وما من شيء إلا وقد أنكرته إلا أملي، فإني أجده كما هو‏.‏

-ولما قتل الحسين رضي الله عنه، تحول من الكوفة إلى البصرة وقال‏:‏ لا أسكن في بلد قتل فيه ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم‏!‏‏.‏

-مات سنة خمس وتسعين من الهجرة‏.‏ وقيل‏:‏ سنة مائة‏.‏ رحمه الله تعالى‏.‏

-وقوله‏:‏ بأذربيجان، هو إقليم معروف‏.‏ وفي ضبطه وجهان مشهوران‏:‏

‏(‏1‏)‏ أحدهما‏:‏ بإسكان الذال المعجمة من غير مد، وفتح الراء، وبعدها باء موحدة مكسورة، ثم ياء مثناة من تحت ساكنة، ثم جيم‏.‏‏

‏(‏2‏)‏ الثاني‏:‏ بمده في أوله وفتح الذال وإسكان الراء‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏وزي العجم‏"‏ هو بكسر الزاي‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏وتمعددوا‏"‏ أي تخلقوا بعادة أبيكم معد بن عدنان في خشونة العيش‏.‏

واختلف النحويون في ميم معد‏:‏ هل هي أصلية، أم زائدة‏؟‏ فقال سيبويه‏:‏ أصلية‏.‏ وغيره يقول‏:‏ زائدة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ارموا الأغراض‏"‏ أي ارموا بالقسي‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏وانزوا‏"‏ معناه‏:‏ إذا ركبتم الخيل فبتوا من الأرض ولا ترتفعوا على حدر ونحوه‏.‏ ولا تركبوا بالركب المعتادة للعجم في سروجهم‏.‏‏

باب في نفائس مأثورة‏.‏

‏[‏قصة جابر وشهاب رضي الله عنهما‏]‏

أخبرنا الشيخ الفقيه المسند، أبو محمد عبد الرحمن بن سالم بن يحيى الأنباري، قال‏:‏ أخبرنا الحافظ عبد القادر الرهاوي، قال‏:‏ حدثنا القاضي أبو سليمان داود بن محمد بن الحسين الخالدي، قال‏:‏ أخبرنا عمر بن محمد بن أحمد الدمشقي، ‏[‏قال‏]‏ أخبرنا الحسن بن عبد الملك، أخبرنا الحسين بن محمد بن نعيم، أخبرنا عبد الله بن أحمد بن يعقوب، أخبرنا الحسن بن سفيان، حدثنا محمد بن مرزوق‏.‏ حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا عيسى بن حميد الراسي أبو همام، حدثنا ‏[‏أبو‏]‏ حفص بن النضر بن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما، أتى رجلًا يسأله عن ستر المؤمن فقال‏:‏ لست أنا ذاك؛ ولكن ذاك رجل يقال له‏:‏ شهاب‏.‏

فسار جابر فأتى - عاملها يعني عامل البلدة الوالي - رجلًا يقال له‏:‏ مسلمة فأتى الباب فقال للبواب‏:‏ قل للأمير ينزل إليَّ‏!‏‏.‏

فدخل البواب وهو مبتسم؛ فقال له الأمير‏:‏ ما شأنك‏؟‏ قال‏:‏ رجل بالباب على بعير قال‏:‏ قل للأمير ينزل إليَّ‏!‏‏.‏

فقال‏:‏ ألا سألته من هو‏؟‏‏!‏ فرجع إليه فسأله فقال‏:‏ أنا جابر بن عبد الله الأنصاري، فرجع إلى الأمير وأخبره، فوثب عن مجلسه فأشرف عليه وقال‏:‏ اصعد‏!‏ فقال جابر‏:‏ ما أريد أن أصعد؛ ولكن حدثني أين منزل ‏"‏شهاب‏"‏‏؟‏ فقال‏:‏ اصعد فأرسل إليه فيقضي حاجتك‏.‏

فقال‏:‏ لا أريد أن يأتيه رسولك، فإن رسول الأمير إذا أتى رجلًا راعه ذاك، وأنا أكره أن يروع رجل من المسلمين بسبب‏!‏ فنزل الأمير يمشي معه حتى أتى شهابًا؛ فأشرف عليهم شهاب فقال‏:‏

إما أن تصعدوا وإما أن أنزل إليكم‏؟‏ قال جابر‏:‏ ما أريد أن تنزل إلينا، وما نريد أن نصعد إليك‏!‏ ولكن حدثنا بحديث سمعته من رسول الله‏(‏عن ستر المؤمن‏؟‏ قال‏:‏ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏من ستر على أخيه المؤمن فكأنما أحياه‏"‏‏.‏

-ومما أنشدوا في إكرام من له نسبة إلى المحبوب قول بعضهم‏:‏

ألا حيِّي الديارَ بُسعْدَ إِني *** أُحِبُّ لحب فاطمةَ الديارا

‏(‏سعد‏)‏ بضم السين المهملة، وإسكان العين‏:‏ اسم موضع بنخل‏.‏

قال أبو بكر الهمداني في كتاب الاشتقاق‏:‏ أصله سعد بضم العين مخفف باسكانها، وهو جمع سعيد، كرغيف ورغف‏.‏

-وإنما لم يرصفه الشاعر وإن كان مذكورًا؛ لأنه جعله اسمًا لأرض بعينها، ويشبه هذا قول الآخر‏:‏

أُحِبُّ الأيامَى إذ بثينةٌ أيِّمُ- وأحببتُ لمَّا أنْ غنيتِ الغوانيَ

الأيامى‏:‏ النسوة التي لا أزواج لهن‏.‏

والغواني‏:‏ المزوجات وقوله‏:‏ عني هو بكسر التاء أي تزوجت‏.‏

وهذا الضرب من بديع الكلام أن يرجع من الغيبة إلى المخاطبة، فقال‏:‏ ‏(‏بثينة‏)‏ ثم قال‏:‏ ‏(‏غنيت‏)‏ وله نظائر كثيرة في القرآن العزيز منها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ‏}

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ إلى قوله ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ‏}‏‏.‏

وقد جاء عكسه، وهو الرجوع من الخطاب إلى الغيبة‏.‏

فمن ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم‏}‏‏.‏ ‏

باب في نفائس مأثورة‏.‏

‏[‏الاستهزاء بكلام النبوة‏]‏

أخبرنا الأنباري أخبرنا عبد الحافظ أخبرنا عبد القادر الرهاوي أخبرنا عبد الرحيم بن علي الشاهد أخبرنا محمد بن طاهر المقدسي الحافظ أخبرنا أبو الفتح المقيد أخبرنا أبو الحسن ‏[‏بن‏]‏ علي بن محمد بن طلحة حدثنا سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني، قال‏:‏ سمعت أبا يحيى زكريا بن يحيى الساجي - رحمه لله تعالى - قال‏:‏

-كنا نمشي في أزقة البصرة إلى باب بعض المحدثين، فأسرعت المشي، وكان مع رجل ماجن منهم في دينه فقال‏:‏ ارفعوا أرجلكم عن أجنحة الملائكة لا تكسروها، كالمستهزئ‏!‏ فما زال في موضعه حتى جفت رجلاه وسقط‏!‏

-وقال الحافظ عبد القادر‏:‏ إسناد هذه الحكاية كالأخذ باليدين، أو كرأي العين؛ لأن رواتها أعلام، ورواتها أئمة‏.‏

-وبالإسناد إلى المقدسي قال‏:‏ أخبرنا أبو الحسن يحيى بن الحسين العلوي أخبرنا أبو الحسين الضبعي، قال‏:‏ سمعت عبد الله بن محمد بن محمد العكبري يقول‏:‏ سمعت أبا عبد الله محمد بن يعقوب المتوثي يقول‏:‏ سمعت أبا داود السجستاني يقول‏:‏ كان في أصحاب الحديث رجل خليع إلى أن سمع بحديث النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضًا بما يصنع‏)‏‏.‏

-فجعل في عقبيه مسامير حديد وقال‏:‏ أريد أن أطأ أجنحة الملائكة‏!‏ فأصابه أكلة ‏[‏في رجليه‏]‏

-قلت‏:‏ ‏"‏المتوثي‏"‏ بميم مفتوحة ثم تاء مثناة من فوق، مشددة مضمومة وواو ساكنة ثن تاء مثلثة ثم ياء النسب‏.‏ ‏

باب في نفائس مأثورة‏.‏

‏[‏حكاية عن بعض من استخف بالسنة‏!‏‏]‏

-وذكر الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن محمد بن الفضل التيمي - رحمه الله - في كتابه شرح ‏"‏صحيح مسلم‏"‏‏:‏

-هذه الحكاية فيها وشلت رجلاه ويداه وسائر أعضائه‏.‏ قال‏:‏ ورأيت في بعض الروايات أنه تفسخت بنيته‏!‏ قال‏:‏ وقرأت في بعض الحكايات؛ أن بعض المبتدعة حين سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها، فإنه لا يدري أين باتت يده‏)‏‏.‏

-قال ذلك المبتدع على سبيل التهكم‏:‏ أنا أدري أين باتت يدي، في الفراش‏!‏ فأصبح وقد أدخل يده في دبره إلى ذراعه‏!‏‏.‏

-قال التيمي‏:‏ ‏"‏فليتق المرء الاستخفاف بالسنن ومواضع التوقيف‏.‏ فانظر كيف وصل إليهما شؤم فعلهما‏"‏‏.‏

‏[‏ما قاله الإمام الشافعي في هذا‏]‏

-قلت‏:‏ ومعنى هذا الحديث‏:‏ ما قاله الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه، وغيره من العلماء رضي الله تعالى عنهم‏:‏

-أن النائم تطوف يده في نومه على بدنه، ولا يأمن أنها مرت على نجاسة؛ من دم بثرة، أو قملة، أو برغوث، أو على محل الاستنجاء، وما أشبه ذلك، والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏شلت يداه‏"‏‏:‏ أي يبست وبطلت حركتها، وهو بفتح الشين على اللغة الفصيحة، وفيها لغة أخرى بضمها، والله أعلم‏.‏ ‏

باب في نفائس مأثورة‏.‏

‏[‏قصة مثيرة‏]‏

-قلت‏:‏ ومن هذا المعنى ما وجد في زماننا هذا وتوارثت به الأخبار وثبتت عند القضاة‏:‏ أن رجلًا بقرية ببلاد بصرى، في أوائل سنة خمس وستين وستمائة، كان ‏[‏شابًا‏]‏ سيء الاعتقاد في أهل الخير، وله ابن يعتقد فيهم، فجاء ابنه يومًا من عند شيخ صالح ومعه مسواك‏.‏

-فقال‏:‏ ما أعطاك شيخك‏؟‏ - مستهزئًا - قال‏:‏ هذا المسواك‏.‏ فأخذه منه وأدخله في دبره احتقارًا له‏!‏ فبقي مدة ثم ولد ذلك الرجل الذي أدخل المسواك في دبره جروًا قريب الشبه بالسمكة فقتله‏!‏ ثم مات الرجل في الحال، أو بعد يومين‏.‏

-عافانا الله الكريم من بلائه، ووفقنا الله لتنزيه السنن وتعظيم شعائره‏!‏‏!‏‏.‏‏

باب في نفائس مأثورة‏.‏

‏[‏ما ذكره معروف الكرخي‏]‏

-أخبرنا الشيخ الفقيه المسدد، أبو محمد عبد الرحمن بن سالم الأنباري رحمه الله أخبرنا القاضي الإمام أبو القاسم، عبد الصمد بن محمد بن أبي الفضل الأنصاري أخبرنا الإمام أبو الفتح نصر الله بن محمد بن عبد القوي المصيصي أخبرنا الشيخ الفقيه الإمام أبو الفتح نصر بن إبراهيم بن نصر المقدسي الزاهد رضي الله تعالى عنه أخبرنا القاضي أبو الحسن محمد بن علي فيما كتب إلي قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن يعقوب الهروي ‏[‏قال‏]‏ حدثنا أبو عبد الله الروزباري‏:‏ حدثنا عمر بن مخلد الصوفي قال‏:‏ قال ابن أبي الورد‏:‏ قال معروف الكرخي رضي الله تعالى عنه‏:‏ ‏"‏علامة مقت الله عز وجل للعبد أن يراه مشتغلًا بما لا يعنيه‏"‏‏.‏‏